معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1432 هـ > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1432 هـ - الجلسة الخامسة: المعيار الصحيح في تحديد حسن الفعل وقبحه

_______________________________________________________________

هو العليم

سلسلة شرح دعاء أبي حمزة الثمالي للعام 1432 هـ

المحاضرة الخامسة:
المعيار الصحيح في تحديد حسن الفعل وقبحه

ألقيت هذه المحاضرة في الليلة الثامنة من ليالي شهر رمضان المبارك

ألقاها:

سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا و نبينا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين

«وَقَدْ رَجَوْتُ أَنْ لاَ تُخَيّبَ بَيْنَ ذَيْنِ وَذَيْنِ مُنْيَتِي، فَحَقِّقْ رَجَائِي وَاسْمَعْ دُعَائِي‏، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ‏».

    

ما هو معنى: "أدعوك يا مولاي بلسان قد أخرسه ذنبه"

ذكرنا في الليلة الماضية للإخوة والرفقاء أنّ الأمر المتعلّق بنا في مقابل الله تعالى عبارةٌ عن الطلب والسؤال المترافقِ مع عصيانه تعالى والتمرّد على أوامره ودستوراته.. إنّ سؤالنا و طلبنا مترافقان مع هذا المطلب، و بالتالي فإنّ ما قاله الإمام السجّاد عليه السلام سابقاً ينطبق علينا تماماً، و ذلك حيث يقول: «أدعوك يا مولاي بلسانٍ قد أخرسه ذنبه» .. يا ربّ إنّني أنا الذي أدعوك وأرجوك وأطلب منك.. أدعوك بلسان قد جعلته الذنوب أخرساً وألْكناً، فهذا هو حال لساني وأنت أدرى بما تفعله معي والأمر إليك يا ربّ، ولكن هذا هو حالنا و وضعنا، فلساننا لسان إنسان مذنب عاصٍ.
ذات يوم أحضر أحدهم رجلاً إلى السيّد العلاّمة، وكان رجلاً عجوزاً من أهل طهران، و كان يقيم مجالس العزاء واللطم في بيته، و كانت تطول مجالس اللطم ساعتين أو ثلاث ساعات وحتّى الواحدة بعد منتصف الليل، وبعد ذلك كان يقدّم مرق اللحم للحاضرين ليأكل الناس و يغادروا، وكانوا يسمّون ذلك «توسّلاً» ، ويطلقون على مجالسهم اسم «مجالس التوسّل»، وكان يقيم تلك المجالس في ليالي الجمعة... (و قد رأيت ذلك الشخص ذات مرّة فأحببت أن أرى ما هو مقدار معرفته بالإمام عليه السلام، فوجدته بعيداً جدّاً، ورأيت أنّ معرفته ضحلة جدّاً وأنّه «لا يميّز الهرّ من البرّ» ، ومع ذلك فهو يعتبر نفسه من السبّاقين في طريق الولاية!! ).
أجل.. أحضروا هذا الرجل إلى السيّد العلاّمة بعنوانه فرداً [ذا مراتب عالية!]، والذي أحضره هو نفس ذلك الشخص الذي كان قد طلب تغيير دعاء السمات في جلسات عصر الجمعة إلى زيارة عاشوراء.. فهو نفسه الذي طلب منّي أن أذهب إلى السيّد العلاّمة وأطلب منه أن نقرأ زيارة عاشوراء بدلاً من دعاء السمات في عصر الجمعة!! ما شاء الله.. ما شاء الله.. يا له من فهم وإدراك!! ولا أدري من أين عثر على صاحبه ذاك! فجاء و قال لي: إنّ فلاناً قد جاء إلى هنا و نريد أن نقابل السيّد العلاّمة، فقلت له: بماذا أدعو عليك الله؟ يا عزيزي خذ صاحبك هذا إلى منزلك إن أردت، فما هو ذنب والدي حتّى ابتلي بأمثالكم؟! من هذا الذي أحضرته ليقابل السيّد العلاّمة؟!
فأجابني: لا.. أنت أخبر السيّد العلامة، و [لا علاقة لك بالأمر].
حسناً.. إذا لم نخبر السيّد العلاّمة، فإنّ هذا الرجل سيأتي غداً و يقول لسماحته: يا سيّد، لقد جئنا إلى السيّد محمد محسن وطلبنا منه أن يوصل لك الكلام ولكنّه لم يفعل!! وقد وقع ذلك فعلاً، فبعضهم كان يأتي ويقول لي بعض الأمور، ولم أكن أرى أنّ من الصلاح أن أنقل الكلام للسيّد العلاّمة، حيث أنّ ذلك لم يكن صحيحاً أصلاً، ولذا أنا لم أكن أنقل ذلك الكلام لسماحته، ثمّ بعد ذلك كنّا نتفاجأ بالشرّ الذي وقع، حيث أنّهم كانوا يذهبون ويشتكون للسيّد العلاّمة، وقد حصل ذلك عدّة مرّات لا مرّةً أو مرّتين. حسناً.. ماذا كان يقدر السيّد العلاّمة أن يفعل؟ لقد كان يستدعيني، و يؤنّبني أمامهم قائلاً: عندما يقولون لك كلاماً حتّى توصله إليّ فلا ينبغي أن تُعمل رأيك الشخصي، فوظيفتك أن توصل الكلام ... و نحن بدورنا كنّا نقول له: حاضر، و لكنّنا كنّا نفعل ما علينا فعله [تبسّم من سماحة السيّد].
حسناً.. هذا الرجل قال لي: قل لسماحة السيّد العلاّمة أنّنا بانتظاره، [فلمّا جاء سماحته و جلسنا] وجدت أنّ هذا الشخص ما كاد يجلس حتّى ضغط على زرّ التشغيل وبدأ بقراءة الأشعار، و يا لها من أشعار!! و من ضمن ما قاله: بحمد الله.. (و كان يستخدم طقم أسنان صناعي، فكان الطقم يتحرّك في فمه أثناء الكلام بطريقة طريفة [ضحك من سماحة السيد])... قال: بحمد الله نحن قد وصلنا إلى مقام عالٍ بحيث أنّه لا يمكن أن يصدر منّا أي ّذنب بعد الآن.
و كان السيّد العلاّمة حتّى ذلك الوقت جالساً يستمع للترّهات التي يلقيها بصمت، ولكن عندما وصل إلى هذا الحدّ نفد صبره وقال له: إنّ نفس إحساسك هذا بأنّك يستحيل أن ترتكب ذنباً .. هو أكبر الذنوب التي لا تغتفر!!! فتفاجأ ذلك الرجل، وقال لسماحته: ماذا قلت سيّدنا؟! لقد بُهت وتفاجأ، فحتّى الآن لم يكن قد سمع هذا الكلام من أحد، بل كان الجميع يمدحونه ويتملّقون له، ويقابلونه بالترحيب والاحترام الشديد... (نسأل الله الأمان من هؤلاء الناس الذين يُغرّرون بالإنسان، ومن أمثال هؤلاء الأفراد الذين يضيّعون الوقت)، فكررّ السيّد العلاّمة له ذلك قائلاً: أجل! إنّ نفس إحساسك بأنك لا يمكن أن ترتكب ذنباً هو أعظم الذنوب، لأنّ العبد في مقام العبوديّة لا يجد نفسه صالحاً أمام مولاه.
فسكت ذلك الرجل و لم ينبس ببنت شفة، وأمّا ذلك الشخص الذي أحضره، وكان واسطة الفيض [ضحك من سماحة السيّد] فقد فهم بدوره أنّه قد وصل إلى أساس المسألة واصطدم بحقيقة الأمر، فالمسائل لا تسير وفق هوى الإنسان دائماً. وفي النهاية أخذ صاحبه وخرج، فلمّا صرنا في الزقاق التفتّ له وقلت: لمَ لم تسمع النصيحة، ألم أقل لك: لا تضيّع وقت والدي؟!
[إنّ هذا الرجل العجوز كان يقول:] أنا لا أحسّ بأنّني مذنب أبداً... ماذا تقول؟ كيف لا تحسّ بأنّك لا يمكن أن ترتكب أيّ ذنب؟! فالذنوب لا تقتصر على شرب الخمر، و السطو على البيوت، بل الذنب عبارة عن الكدورة و الحجاب الذي يغلب على النفس، ممّا يؤدي إلى ادّعاء الإنسان بأنّ له قيمةً ووزناً واستقلالاً وحيثيّةً وُجوديّةً أمام الله سبحانه وتعالى.. هذا هو معنى الذنب، و كلّ من يرتكب ذنباً فإنّ ذلك ينطبق عليه، وغاية ما في الأمر أنّه في بعض الموارد تكون هذه الحيثيّة قليلة بينما في موارد أخرى تكون كثيرة، ففي بعض الموارد لا يكون لحيثيّة الاستقلال هذه تجلّ واضح لذلك الفرد، كما لو كان الشخص شابّاً ولا يفهم الأمور بشكل عميق حتّى الآن، بل قد تجد أنّ كثيراً من المسائل لم تطرق سمعه بعد ... واضح؟ إنّ مثل هذا الشابّ لا يفهم الأمور بشكل واضح، ولا يقدر أن يشخّص المسائل بشكل دقيق، فلذا تجده يقول: يا للعجب! هل من الممكن أن يكون هذا الأمر خطأً أو أن يكون فعله معصيةً؟!!
أنا في بعض الأوقات أتحدّث مع بعض الأفراد، وأنبّههم إلى بعض المسائل، وكثيراً ما أتعجّب كيف أنّ ذلك الشخص لم يكن يدري حتّى الآن أنّ هذا الأمر ذنب ومعصية! فذلك لم يخطر على باله أصلاً، ولم يتصوّر أنّ ذلك الفعل يعدّ تمرّداً ومعصيةً! وعندما نوضّح له ذلك، فإنّ حاله يتغيّر وينقلب بشكل عجيب، ومن هنا نعرف أنّ حيثيّة الاستقلال الموجودة لدى الشخص المسنّ أمام الله تعالى وتعلّقه بالدنيا ليست موجودة أبداً عند الشباب والفتيان، وبناء على هذا يجب أن تعالج المسائل الحقوقيّة والجزائية والعقوبات والديّات وينبغي أن تُقاس بناء على هذه المسألة... وإن شاء الله سوف نتحدّث عن هذا الموضوع في كتاب «الارتداد في الإسلام» الذي وعدنا كثيراً بكتابته ولكنّنا لم نوفّق لذلك حتّى الآن بعد...
هناك سنقول: إنّ العديد من المسائل و القضايا التي تعدّ من مصاديق الارتداد في نظر الكثيرين ليست من الارتداد في شيء حقيقةً، بل هي في الواقع ليست إلاّ اشتباهاً أو خطأً أو قلّة فهم أو جهل أو عدم اطّلاع أو انحراف أو عدم سعة وجوديّة لدى ذلك الشخص... إنّ شاء الله سنبيّن ذلك هناك.
ولهذا إذا ارتكب فردٌ ذنباً أو خطأً فليس من الصحيح أن يأتي حاكم الشرع فوراً ليعاقبه فيضربه أو يأمر بجلده! كلاّ .. بل يجب أن ينظر ويدقّق في خصوصيّاته الروحيّة، وفي مسائله وجوانبه المختلفة، وفي الجوّ الذي كان يعيش فيه، والتخيّلات والأوهام التي عنده، فها هنا ينبغي مراعاة ألف نكتة، وعلى حسب ذلك يجب أن يتمّ اتّخاذ القرار وإصدار الحكم بأنّه في هذا المورد ماذا ينبغي أن نفعل؛ فمن الممكن أن يستحقّ هذا الشخص عقوبة معيّنة في سنّ معيّن، ولكنّ نفس ذلك الشخص لو كان في سنّ آخر وفي موقعيّة أخرى فإنّه قد يستحقّ حتّى عقوبةً أشدّ وأكبر من تلك العقوبة والحدّ الذي فرضه الشارع بحسب الظاهر وذلك بحسب المصالح الحاكمة في ذلك الموقع، فليس صحيحاً أنّه يجب أن يحاكم جميع الأفراد أو يخاطبوا بنفس الطريقة وبنفس الشكل، كلاّ.. ليس الأمر كذلك، فالأمور تختلف والحالات تتفاوت، كما أنّ حيثيّة الاستقلال والأنانيّة ومقدار الكدورة والظلمة الفاعلية (لا الفعليّة ) لها تأثير بالغ في تعيين موارد الجزاء وآثار ذلك الفعل، ويجب على الفقيه أو القاضي والحاكم ـ بناء على ذلك الأساس ـ أن ينظر في المصاديق المختلفة ويحدّد الآثار التي يجب أن تترتّب على ذلك الفعل سواء في جانب الإثبات أم في جانب النفي. حسناً.. هذه المسألة ترجع إلى الحيثيّة الباطنيّة للإنسان، وهي أنّه إلى أيّ حدّ يقف هذا الإنسان في وجه الله؟ وكم يرى هذا الشخص قيمةً لنفسه ووزناً أمام الله تعالى؟ إنّ ذلك جميعاً يرجع إلى هذه القضيّة.

    

معيار الحسن و القبح بين الجنبة الإثباتيّة الظاهرية و الجنبة الباطنية الواقعية

 

    

النموذج الأوّل: مقارنة أفعالنا و عباداتنا بأفعال أولياء الله و عباداتهم

في الليلة البارحة ذكرت للإخوة والرفقاء أنّ العبد له حيثيّتان أمام الله تعالى؛ الأولى هي ذلك الفعل الذي يؤدّيه، وفي هذا الجانب من المسألة فإنّه قد لا يختلف عن أفعال باقي الأفراد وتصرّفاتهم، وقد لا يكون هناك فرق من الناحية الظاهريّة بين العمل الذي نؤدّيه نحن وبين العمل الذي يؤدّيه أحد الأولياء الإلهيين، فأنتم ماذا تقولون عندما تركعون؟ ما هو ذكر الركوع الذي تأتون به؟ تقولون: "سبحان ربّي العظيم وبحمده.. سبحان ربّي العظيم وبحمده.. سبحان ربّي العظيم وبحمده.. اللهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد".. هذا هو ذكر الركوع الذي كنّا نسمعه دائماً من حضرة السيّد الحدّاد، فرغم أن "سبحان ربّي العظيم و بحمده" واحدة تكفي إلاّ أنّ سماحته كان يقولها ثلاث مرّات، و كذلك كان يقرأ ذكر السجود ثلاث مرّات أيضاً، و كان دائماً يعقّب ذلك بالصلاة على النبيّ و آله في الركوع و السجود.
حسناً.. أنا أيضاً أقول ذلك عندما أركع، فأيّ فرق صار بيني و بينه؟! أنا أيضاً أركع وأقول ثلاث مرّات: «سبحان ربّي العظيم و بحمده»، فهل أصير بذلك مثل السيّد الحدّاد؟! وهل يكفي أن أقول ذكر الركوع هذا ثلاث مرّات لكي أصل إلى النتيجة المرجوّة ؟! [تبسّم من سماحة السيّد].
فما هي حقيقة ذلك إذاً؟ إنّ حقيقة ذلك ليس إلاّ التشابه في مقام الإثبات الظاهري لعملي مع مقام الإثبات الظاهري لعمل الأولياء الإلهيين، فالتشابه موجود بيننا وبينهم في هذا الجانب؛ فكلامنا قد يشبه كلامهم، وذِكرنا قد يشبه ذِكرهم، وكذلك بالنسبة للدعاء الذي يُقرأ قبل النوم ليلاً، فهم كانوا يقرؤون دعاء الاحتجاب: «اللهم يا من احتجب بشعاع نوره عن نواظر خلقه...»، وكانوا يعطونه لبعض تلاميذهم أيضاً، فهم كانوا يقرؤونه وكذلك تلاميذهم كانوا يقرؤونه... وأنا ما زلت أذكر حتّى الآن أنّ السيّد العلاّمة كان يقرؤه قبل النوم، وما زلت أسمع صوت قراءة سماحته لهذا الدعاء عند النوم بصوت خافت.. «اللهمّ يا من احتجب بشعاع نوره ...»، وهو دعاء عجيب واقعاً.. خصوصاً فقراته الأخيرة حيث بيّن كيفيّة ظهور مقام أحديّة الذات في مظاهر الأسماء الكلّية والصفات الكلّية بشكل بديع... حسناً.. كان سماحته يقرأ هذا الدعاء، و صوت سماحته ما زال في أذني.
كما أنّه كان يوصي الأفراد بقراءة ذلك الدعاء الآخر في قنوت صلاة الشفع أو الوتر... أيّ دعاء؟ دعاء سحر شهر رمضان المبارك الوارد عن الإمام الباقر عليه السلام، و مطلعه: «اللهمّ إنّي أسألك من بهائك بأبهاه، وكلّ بهائك بهيّ ...».. إنّ جلد الإنسان ليقشعرّ من هذا الدعاء العجيب! إنّه واقعاً دعاء عجيب!! حيث أنّ الإمام عليه السلام لا يتوجّه في هذا الدعاء إلا ّنحو الذات المقدّسة لله تعالى، ولا يلتفت حتّى إلى آلائه ونعمائه ومظاهره... إنّه دعاء عجيب جدّاً! لقد كان سماحته يوصّي بذلك، وكم من الجيّد أن يفعل الإخوة والرفقاء جميعاً ذلك، فذلك الدستور لم يكن دستوراً خاصّاً، فمن الجيّد أن يقرأ الإنسان هذا الدعاء في صلاة الليل في قنوت صلاة الشفع أو الوتر، وقراءته في أيّ منهما جيّد لكنّ قراءته في الشفع أفضل.. والشفع هي تلك الركعتان الأخيرتان.. فيُستحسن قراءته في قنوت الركعة العاشرة؛ في البداية خذوا كتاب المفاتيح، واقرؤوا الدعاء منه، وعندما تحفظونه فاقرؤوه من حافظتكم غيباً دون النظر في الكتاب.
إنّ لهذا الدعاء آثارٌ عجيبة جدّاً، وقد سمعت نفس السيّد الحدّاد يقول أنّ المداومة على هذا الدعاء تفتح أمام الإنسان كنوزاً من المعرفة !! وذلك عند المداومة .. المداومة على دعاء الإمام الباقر عليه السلام.
حسناً.. نحن أيضاً نقرأ الدعاء بهذا الشكل، فهل هذا يجعلنا السيّد الحدّاد؟! أو هل يجعلنا ذلك ـ و العياذ بالله ـ كالإمام الباقر عليه السلام؟! ذلك الفرد الذي أنشأ هذا الدعاء، وأمر شيعته أن يقرؤوه .. الإمام الباقر عليه السلام!! ما هي تلك الحقيقة التي كانت عند الإمام وراء هذا الدعاء؟ والله إنّ أقلّ الناس فهماً يستطيع أن يدرك أنّ هناك أمراً ما، فما بالنا نحن؟! إنّ الأحمق ليفهم أنّ هناك تفاوتاً وفرقاً بين هذا وذاك!!
«اللهمّ إنّي أسألك من بهائك بأبهاه، وكلّ بهائك (أي: وكلّ تجلّ من تجلّيات بهائك) بهيّ (بحر من البهاء والعظمة)، اللهمّ إنّي أسألك ببهائك كلّه (مع كلّ سعة هذا البهاء الوجوديّة)».. ما معنى هذا؟ وماذا يريد أن يقول الإمام الباقر هنا؟! «بهاء ... بهاء... بهاء»!!! ما معنى ذلك؟ و ما المقصود بالبهاء هنا؟ و في أيّ كتاب فقهي يمكن أن نجد معنى ذلك؟ في أيّ كتاب أصوليّ أم في أيّ كتاب لغويّ؟ هل نجد معنى ذلك في «المنجد» أم في «لسان العرب»؟! ذلك «البهاء» الذي يقصده الإمام الباقر عليه السلام!! حسناً.. تفضّل يا عزيزي، فنحن قد طرحنا سؤالاً .. فتفضّل بالإجابة .. بيّن لنا ما هو قصد الإمام الباقر عليه السلام هنا؟
إنّنا لا نرى أكثر من مترين أمامنا.. ولا نفهم أمراً أبعد من ذلك، فهل ذلك المقدار من المعرفة الذي عندنا نحن هو نفس المقدار الذي دفع الإمام الباقر عليه السلام لإنشاء هذا الدعاء؟!! هذا المقدار فقط؟!
[إنّ مقتضى كلامكم أن يكون كذلك،] ولذا فهذا هو المقدار المطلوب، لأنّ وظيفة العبد هي العبوديّة، و لا شأن للعبد بالتعرّف على مولاه!! جيّد جدّاً.. [و بناء على هذا سيكون فهمنا للدعاء بهذا الشكل:] يا ربّ.. أنت عندك الكثير من البهاء والعظمة، وقيمتك كبيرة!! يعني هل هذا المقدار المحدود الذي نفهمه كان هو العلّة في إنشاء هذا الدعاء؟!! يا للسخريّة!!
حسناً، ما هو ذلك الطرف الآخر من الأمر و الجانب الآخر من المسألة؟ (انظروا.. لقد بدأنا الكلام هذه الليلة من مكان بعيد لكي نصل إلى نكتة دقيقة قد غفل أغلبنا عنها، وهدفنا هو الوصول إلى تلك النكتة الدقيقة رغم أنّ مقدّمة ذلك مقدّمة بعيدة).
إنّ تلك الحقيقة الربطيّة القائمة بين العبد وربّه هي التي تشكّل أصل وأساس وأسّ ومخّ وحقيقة وجذر جميع تصرّفاتنا وأمورنا، ونفس تلك الحقيقة الربطيّة هي التي تمثّل مقام العبوديّة بعينه.. نفس تلك الحقيقة الاتّصالية، ونفس توجّه القلب والنفس بحسب المراتب التي تمتلكها .. وكلّما كان المقدار الذي يمتلكه الإنسان منها أكثر كان نصيب الإنسان أكبر.

    

النموذج الثاني: ذبح الأضحية

أوَلم يرد في القرآن الكريم قوله تعالى (في الحديث عن الأضحيّة): { لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُم‏}[1]، فما هو معنى هذه الآية؟ إنّ معناها أنّ لحم هذه الأضحيّة، ودمها وصوفها، وأعضاؤها لا تصل إلى الله، فأنتم من يأكل اللحم، فما ربط ذلك بالله تعالى؟! فأنتم تقطّعون اللحم و تقسّمونه بينكم، فتعطون بعضاً منه لجيرانكم، وبعضاً لأقاربكم... وبالتالي فلا علاقة لله بذلك!! فلماذا تمنّون على الله إذاً؟! (إنّ بعضهم يذبحون الأضحيّة، وبعد ذلك يقطّعها و يحفظ لحمها لنفسه في المجمّدة، و يقدّم ذنبها و أظلافها للفقراء، ثمّ يطلق عليها اسم الأضحيّة!! إنّ تلك ليست بأضحيّة، فكيف تكون أضحية بعد كلّ ذلك؟!!).
فأنتم الذين تأكلون اللحم، و تقسّمون أعضاءها و جوارحها بينكم، أمّا دمها فيسيل على الأرض، و الخلاصة: فإنّ أيّاً من ذلك لا علاقة له بالله تعالى! بل هي مرتبطة بالجانب الخلقي للمسألة، و بجانب الظهور، و جانب الظهور هذا لا علاقة له بالله، بل هو مرتبط بكم أنتم، فإن شئتم أكلتموه وإن شئتم أعطيتموه لجيرانكم، ففي النهاية سيؤكل وسينزل من الفم إلى البطن، وهذا لا علاقة له بالله.
وإذا كان تقديمكم لهذه الأضحية بقصد التقرّب إلى الله، فإنّ أحداً لن يلتفت إلى ذلك، ولو لم يكن ذلك بقصد التقرّب فإنّ أحداً لن يعلم أيضاً! أليس كذلك؟! فهل هناك عدّاد موضوع على جبين كلّ واحد منّا ليبيّن ذلك؟ مثلاً لو قام أحدهم بتقديم أضحيته بدون قصد التقرّب، فلو نظرتم إلى جبينه فهل سيظهر على جبينه «صفرٌ» يدلّ على عدم إخلاصه؟! فتقولون له: يا سيّد، انتبه لنفسك [ضحك من سماحة السيّد]، واحرص على أن تكون أضحيتك لله تعالى، فعدّادك لم يعطِ أيّ قراءة يا عزيزي!!! ولكنّ الله ـ فعلاً ـ ستّار العيّوب إلى أقصى حدّ، فلو أنّه كان قد وضع عدّاداً على جبين كلّ واحدٍ منّا لكنت أنا أوّل الفارين والهاربين ...
واعظان كاين جلوه در محراب و منبر مى كنند
                             چون به خلوت مى روند آن كار ديگر مى كنند


(يقول: إنّ هؤلاء الوعّاظ الذين يتظاهرون بالصلاح في المحراب وعلى المنبر، إذا ما ذهبوا إلى خلوتهم فعلوا تلك الأفعال الأخرى )
نقل لي أحد الأصدقاء هذه القصّة. يقول: ذات يوم ذهبتُ في الصباح الباكر لزيارة حضرة الخواجة حافظ الشيرازي، ولم يكن قد جاء أحدٌ بعد إلى هناك، ولأنّ حارس المكان كان يعرفه فقد فتح له الباب، يقول: كنت جالساً فإذا بمجموعة من الأشخاص قد جاؤوا أيضاً، ولم يكن الوقت الرسمي للزيارة قد حلّ، ولم تفتح الأبواب بعد لعموم الناس كي يدخلوا، فبعض الناس لا بدّ أن يزوروا بشكل غير رسمي وغير عاديّ!! المهمّ.. دخل هؤلاء الأفراد وكان من بينهم رجلٌ معمّم، وهو ما يزال الآن موجوداً، يقول صديقنا: أنا كنت قد نزعت نعليّ قبل الدخول ...
أيّها الإخوة الأعزاء، كلّما ذهبتم لزيارة الخواجة حافظ في شيراز، فانزعوا نعلكم في الأسفل قبل أن تصعدوا لزيارته لأنّه:
سر زده داخل مشو ميکده حمام نيست
                             .... ..... ..... .... ...... ....


(يقول: لا تدخل إلى الحانة فجأة ودون ترتيب واستعداد فإنّها ليست حماماً)
وقد رأيت بنفسي هذه السنة عندما تشرّفنا بزيارة البقيع، أنّ بعض الأفراد ـ الذين قد يصعب عليكم تصديق ذلك بحقّهم ـ قد دخلوا «بالنعال» إلى حدود المقابر المطهّرة لأئمّة البقيع.. لقد دخلوا بالنعال والحذاء! ومن ناحية أخرى فقد رأيت أفراداً آخرين من الأفراد العاديّين قد خلعوا أحذيتهم و أمسكوها بيدهم عندما دخلوا للزيارة، فما أسعد حظّهم! وهنيئاً لهم. والآن.. أخبروني.. زيارة مَن مِن هذين أقرب؟ و تقرّب أيّ منهما أكبر؟! تقرّب من أكثر؟ { وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُم }!! فبأيّ معرفة جئتَ لزيارة الإمام المجتبى والإمام السجّاد والإمام الباقر والإمام الصادق؟! أيّها الأحمق! لماذا لم تخلع نعليك؟! فهل من الضروري أن ترى الذهب والجواهر التي في مقام الإمام الرضا أمام عينيك حتّى تخلع حذاءك؟! فذاك إمام واحد، بينما هؤلاء أربعة أئمّة، ثمّ إنّ هؤلاء آباؤه أيضاً!! فهل من الضروريّ أن ترى باباً ذهبيّاً وقبّةً ذهبيّةً كالتي في مقام الإمام الرضا؟! إنّ هذه الزيارة صارت زيارة الذهب والأحجار، وليست زيارة للإمام الرضا عليه السلام!!
انزع نعليك واذهب إلى قبر حضرة الخواجة حافظ، واطلب الهمّة هناك:
بر سر تربت ما چون گذری همت خواه
                             که زيارتگه رندان جهان خواهد بود


(يقول: إذا مررت بتربتنا فاطلب الهمّة هناك، حيث أنّها ستصير مزاراً لعقلاء العالم)
هو نفسه يعلّمنا .. اطلبوا الهمّة، فالمرء يطير بهمّته، والإنسان الذي لا همّة له يدور كحجر الطاحونة في مكانه، فحجر الطاحونة مهما دار وتحرّك إلاّ أنّه لا يرتفع عن الأرض بمقدار سنتيمتر واحد بل يظلّ ملتصقاً بالأرض، وهذا الشخص كذلك مثل حجر الطاحونة! وهذا بعينه ما يريد أن يقوله لنا «حافظ» في شعره حين قال :
بر سر تربت ما چون گذری همت خواه
                             ...... ..... ....... ...... ....... ..... ....



اطلب الهمّة .. الهمّة تعني الإرادة والعزم والجدّية والقصد والاهتمام... تجد الإنسان يقول: نعم.. نعم.. هذا الكلام صحيح. [ونحن نقول له:] نعم هو صحيح ولكن ماذا فعلت أنت بناءً على ذلك؟! لا يكفي أن تقول: إنّ هذا الكلام صحيح! فبعد أن علمت أنّه صحيح؛ ما هو الأثر الذي رتّبته على ذلك؟! فإذا كان هذا الكلام صحيحاً فابدأ بالحركة وامضِ في الطريق، واتّبع ... ولكنّه مع ذلك يكتفي بقوله: صحيح .. صحيح. ها! من هنا نعلم أنّ هذا الشخص لا همّة له؛ لأنّه لو كان عنده همّة، لتحرّك وطبّق واتّبع الطريق الذي أقرّ بصحّته.
....... ....... ...... ..... ....... ...... ......
                             که زيارتگه رندان جهان خواهد بود



رحمة الله عليه.. رحم الله أولئك الذين يصدر كلّ الخير من نفوسهم إلى العالم.
نعم.. يقول صديقنا: كنّا جالسين، فإذا بهم قد دخلوا منتعلين... الظاهر أنّهم يخافون أن يصل التراب والغبار إلى جواربهم! ولكن لا يوجد هناك حتّى الغبار، ففي الليل يأتي مجموعة من الشباب المتحمّسين الذين يملؤهم النشاط والحرارة فيغسلون المكان.. وقد رأيتهم بنفسي ذات مرّة قد أتوا و عملوا على تنظيف المكان ثمّ غسلوه بماء الورد، وكنت في بعض الليالي موجوداً بنفسي هناك عندما كانوا يقومون بذلك، ورأيتهم بنفسي.
أجل.. يقول صديقنا: كنت جالساً، و كان المكان نظيفاً لا غبار فيه، ومع ذلك فقد دخلوا بأحذيتهم، ففي النهاية يمكن أن يصيب البرد تلك القدم المباركة... والخلاصة: فقد جاء هؤلاء وصعدوا ، فصاروا يتحدّثون ويضحكون، ولم يقرؤوا فاتحة ولا ذكراً، ولم يكن عندهم توجّه أو التفات، بل كان حديثهم يدور حول جمال المكان وجمال الورود الموجودة هناك، وحول جمال العطر وأمثال ذلك...
وفجأة التفت ذلك الرجل المعمّم إلى حارس المكان الذي كان يرافقهم، وكان يحمل ديوان حافظ في يده، ولسببٍ ما قال ذلك الرجل المعمّم للحارس بحالة من البهجة : أيّها العزيز، خذ لنا فألاً بديوان حافظ! و لم يقصّر الخواجة حافظ بحقّه، حيث أنّ فأله قد كان هذا البيت:
واعظان كاين جلوه در محراب و منبر مى كنند
                             چون به خلوت مى روند آن كار ديگر مى كنند


(يقول: إنّ هؤلاء الوعّاظ الذين يتظاهرون بالصلاح في المحراب وعلى المنبر، إذا ما ذهبوا إلى خلوتهم فعلوا تلك الأفعال الأخرى)
[يضحك سماحة السيّد]... و يقال إنّ لونه صار شديد الحمرة من الخجل، كأنّه «شمندر»! هل رأيتم «الشمندر»؟ فهو على أنواع، وأحد أنواعه أحمر شديد الحمرة... يقال: إنّ لون وجهه صار بهذا الشكل، وأحنى رأسه إلى الأسفل خجلاً.. أمّا ذلك الحارس فاستمرّ بالقراءة مكرّراً البيت بصوت عالٍ قائلاً: هل التفتّ يا حضرة السيّد ... [ضحك من سماحة السيّد]، وكان من الواضح أنّ ذلك الحارس لم يتعمّد اختيار ذلك البيت، فلم يكن هناك علامة خاصّة في تلك الصفحة خصوصاً أو ما شابه، بل قام بفتح الديوان بشكل تلقائي فجاء هذا البيت!
يا عزيزي .. لا تلعبنّ بذيل الأسد!! بإمكانك أن تلعب في أيّ مكان يحلو لك، و لكن لا تلعبنّ بذيل الأسد! فالأولياء أسد الله! إنّ أولياء الله أسود!! والإنسان لا يستطيع أن يلعب مع أسود الله.. ها!! خذوا هذه الألاعيب و احتفظوا بها لأنفسكم، فالمسألة هنا تختلف.
بر سر تربت ما چون گذری همت خواه
                             که زيارتگه رندان جهان خواهد بود


(يقول: إذا مررت بتربتنا فاطلب الهمّة هناك، حيث أنّها ستصير مزاراً لعقلاء العالم)
حسناً.. من هنا يتضّح أنّ هذه الجنبة الثبوتيّة..(أي الجنبة الربطيّة، وجنبة الاتصال مع الله عزّ وجلّ والتي تمثّل الحقيقة والواقعيّة التي تقبع خلف القضيّة).. هي أصل و أساس الجنبة الظاهريّة والإثباتيّة للموضوع، فالموجود واقعاً و ما له القيمة حقيقة هو الجنبة الثبوتيّة ، وأمّا الجنبة الإثباتيّة فهي إنّما تستحق من القيمة و الأهميّة والرفعة بمقدار وميزان تلك الجنبة الثبوتيّة.
إنّ الله عزّ وجلّ يقول: إنّ القربان الذي تريد ذبحه قربةً إليّ، وتلك الشاة التي تريد أن تذبحها وأن توزّعها على الفقراء، فهذا العمل الذي تريد أن تقوم به في سبيل الله وترغب مثلاً أن تهديه لرفقائك وأصدقائك.. فاعلم إنّ ما يصلني أنا منه هو ذلك الجانب الإلهي وجانب طلب القربة.. لا لحمه، فاللحم لا يصعد إلى الأعلى، بل ينزل إلى الأسفل؛ فهو يمرّ بهذه الرقبة والحلق والحلقوم المباركة حتّى يصل إلى المعدة، أليس كذلك؟ فاللحم والعظم لا تصعد إلى الأعلى، لأنّ ما يصعد إلى الأعلى ينبغي أن ينطوي على حيثيّة التجرّد حتّى يتناسب مع تجرّد عوالم الغيب ويتوافق معها، وكما هو معلوم فإنّ التوافق في السنخيّة من شروط حقيقة الاتحاد.
إنّ النيّة التي تكون في القلب وفي الذهن هي التي تصلني، وهذا معنى: {وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ} ، فما معنى «التقوى» ؟ التقوى يعنى: النيّة الخالصة والنيّة الصالحة التي تخلو من الخداع و المنافسة في المظاهر و المجاملات، وتخلو من قاعدة «مراعاة بعض المصالح» !! فلا يقول الإنسان في نفسه: لقد أحضر لنا فلان منذ فترة مقداراً من اللحم، ولذا إن لم أحضر له اللحم فذلك عيب بحقّي، وبالتالي ينبغي أن أردّ له ذلك وأحضر له اللحم أيضاً؛ لأنّ هذا من باب المجاملة والمنافسة في العلاقات الاجتماعية، وهذا يفسد المسألة، ولا فائدة فيه.
أمّا تلك النيّة التي تكون نيّةً خالصةً، والتي يتحقّق فيها جانب العبوديّة فإنّها تصل إلى الله؛لأنّ النيّة لها حيثيّة تجرّديّة، أيّ أنّها مجرّدة، فلا وجود للمادّة فيها، وحيث أنّ الله تعالى مجرّدٌ أيضاً لذا فإنّ هذا المجرّد يتقرّب من ذلك المجرّد.
إنّ حقيقة هذا المعنى الموجود في قوله تعالى: {يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ }، هو الأصل والأساس في جميع التصرّفات التي يقوم بها الإنسان في هذه الدنيا؛ سواءً منها الشخصيّة أم الاجتماعيّة أم السياسيّة أم تصرّفاته في المعاملات الماديّة والتي ترتبط بهذه الدنيا، وهذه الحقيقة هي الحقيقة التي لها الأصالة والواقعيّة وهي الأساس.

    

النموذج الثالث: صلاة سيّد الشهداء وصلاة عمر بن سعد

أمّا ظاهر الأعمال التي نقوم بها جميعاً فهي متشابهة مع بعضها البعض، وتماثل بعضها البعض، وقد لا تجد بينها فرقاً، فتجد ـ مثلاً ـ مسجدين اثنين ويصلّي الناس فيهما كلاهما: يصلّي في أحدهما سيّد الشهداء عليه السلام، أمّا الآخر فيصلّي فيه عمر بن سعد، فعمر بن سعد كان أحد أئمّة الجماعة في الكوفة وكان يصلّي بالناس، وبالتالي كان كلاهما يصلّي، وكلاهما يقول: {بسم الله الرحمن الرحيم}، وكلاهما يقول: {الحمد لله ربّ العالمين ...} ، وكلاهما كان يركع وكان يسجد، وكلاهما كان يصل إلى التشهّد والتسليم... ، حسناً إن كان الأمر كذلك فلا فرق بينهما، أي: أنّني عندما أنظر إليهما لا أفهم الفرق بين الصلاتين، وإلاّ لو كنت أفهم الفرق، فكيف ذهبتُ خلف عمر بن سعد؟! لذا من الواضح أنّني لم أفهم الفرق.
ما الذي كنت أنظر إليه؟ كنت أنظر إلى جنبة «الإثبات» ، أمّا جنبة «الثبوت» فليس عندي أدنى اطّلاع عليها.. (أرجو الانتباه !! فنحن بدأنا نصل إلى حقيقة المسألة وإلى عمقها) ، إنّ الجانب الذي أنظر إليه والذي أشاهده هو عبارة عن جانب «الإثبات» وحسب، لا ألتفت إلاّ إلى الأعمال والتصرّفات الظاهريّة، فأنا أنظر إلى قوله: «اللّه أكبر» .. انظروا كيف يجعلها تخرج بصوت واضح و لغة فصيحة، [يرفع سماحة السيّد يديه كما يفعل في التكبير للصلاة، ويقول:] انظروا كيف يحرّك يديه بانتظام من جانب الركبتين إلى أن تصل إلى جنب أذنه (وبعضهم يحرّك إذنيه، ولكن أنتم لا تفعلوا ذلك!! فالبعض يفعل ذلك، لكن أنتم لا تحرّكوا أذنيكم، لقد رأيتهم يفعلون ذلك بنفسي، فهم يحسبون أنّ الله سيسمعهم بذلك!! [ضحك من سماحة السيّد] ) ، فهذه هي الـ «الله أكبر» التي لهم، ثمّ بعدها {بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله ربّ العالمين...} ، وكلاهما يتلفّظها، سواءً الإمام الحسين أم عُمر بن سعد أيضاً، وكلاهما يقولها بنفس الطريقة.. (أرجو أن تدقّقوا النظر هنا جداً لأنّ مفاصل الإنسان ترتعد في هذه المواطن!! وهنا مكمن القضيّة!!! )
طالما أنّهما من حيث الظاهر واحد، فكيف استطعنا أن نعرف الإمام الحسين عليه السلام؟! فهما من حيث الظاهر لا اختلاف بينهما ولا فرق!! فذلك اللعين حتّى يستطيع أن يخدع الناس أكثر..فهو يُحسِّن صوته ويذكر التسبيحات بعدد أكثر من الإمام حتّى!! فهذه هي وسائلهم، في المقابل ـ على فرض المثال ـ قد يكون الإمام الحسين عليه السلام قد قرأ تسبيحة واحدة في الركوع والسجود (أنا لا أعلم إن كان يقرأ ثلاث تسبيحات أو واحدة حين الركوع، ولكن أنا أعطي مثالاً فقط) ، هو يقول: «سبحان ربيّ العظيم وبحمده، اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد» ثمّ يقوم.
فلماذا يقتصر على ذلك؟ لأنّ الإمام الحسين ليس بحاجة إلى التظاهر كالآخرين، وهو لا يحتاج إلى الاحتيال ولا إلى الخداع ولا إلى الرياء، ولم يكن يحتاج إلى تلك الابتسامات الكاذبة وأمثالها، ها !! لم يكن الإمام الحسين يحتاج إلى انتقاء العبارات والتواضع الكاذب وأمثال ذلك، بل يقول: هذا هو أنا فإن أعجبكم هلمّوا إليّ، وإن لم يعجبكم ففي أمان الله، وفي ليلة عاشوراء لم يبق معه أكثر من ثلاثين رجلاً والبقيّة أهله وعصبته الذين كانوا معه من الأوّل، فكم كان المجموع كلّه؟ كان اثنين وسبعين رجلاً لا أكثر، و هكذا انتهى الأمر، فهذا الفعل الذي قام به الإمام الحسين، وليس لأحد عليه أيّ منّة، فهو عندما جاءه أحد الأفراد وعرض عليه سيفه وحصانه بدلاً من أن يشارك بنفسه مع الإمام، وقال له: هَذَا فَرَسِي خُذْهُ إِلَيْكَ فَوَ اللَّهِ مَا رَكِبْتُهُ قَطُّ وَأَنَا أَرُومُ شَيْئاً إِلا بَلَغْتُهُ وَ لا أَرَادَنِي أَحَدٌ إِلا نَجَوْتُ عَلَيْهِ فَدُونَكَ فَخُذْهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ الْحُسَيْنُ عليه السلام بِوَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: «لا حَاجَةَ لَنَا فِيكَ وَ لا فِي فَرَسِكَ {وَ مَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً}[2] » ...قم، و امض من هنا أيّها الأحمق! فقد أتيتك وأنا أمتلك تلك الحيثيّة الربطيّة، وأنت تريد أن تتصدّق عليّ بسيف؟! اغرب عن وجهي، فأنا لا أستخدم المضلين كمساعدين لي ولا كعضد يساعدونني في مسائلي، فهل اعتقدت أنّني أتيت إليك لأنّي محتاجٌ لك؟! بل أنا أعلم أنّهم في الغدّ سيقطّعونني ألف قطعة وقطعة. يا سيء الحظّ، إنّما أردت أن آخذ بيدك، كنت أريد أن أدخلك في بحر الرحمة الإلهيّة الذي لا حدّ له ولا نهاية، وفي المقابل تريد أن تتصدّق عليّ بسيف ؟!! تريد أن تعطيني فرساً ؟!!
{وَ مَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً}، هذه هي العبارات التي ينبغي أن نكتبها وأن نضعها أمام ناظرينا، هذه الكلمات التي صدرت عن الإمام الحسين.. ونعم بالطبع هذه آية من آيات القرآن، ولكن الإمام الحسين يستشهد بها.
حسناً.. إذا نظرنا إلى مقام «الإثبات» سنجد أنّهما واحدٌ ولن نلاحظ فرقاً بينهما، ففي مقام «الإثبات» هذا يصلّي وذاك يصلّي، هذا يصوم وذاك يصوم، هذا يصعد المنبر وذاك يصعد المنبر.. فبين هؤلاء الأفراد كان يوجد من يتحدّث بفصاحة وممن كانت خطابته جميلة جداً جداً، ها !! فكانت خطبهم وأحاديثهم جميلة جداً وجذّابة جداً، فإنّ من البيان لسحراً، فالبعض عندما يتحدّث يكون حديثه جذّاباً جداً.
ينقل عن أيّام انتشار الفاشيّة في أوروبا، أنّ «هتلر» عندما كان يخطب في الناس، كان يسيطر على عقول الجميع ويأسر جميع الألباب ويسحرها، فالخطابة لها نوع من الاحتراف والفنّ، ولها قواعد احترافيّة تبيّن كيف على الإنسان أن يتحدّث، ثمّ إذا كان للإنسان نفسٌ قويّة، فإنّ الأثر يتضاعف.
أمّا المهمّ وهو جنبة الارتباط التي تربط بين الإنسان وبين الله، فما حقيقتها؟ أي: ما هو الارتباط الذي تشعر به في المسجد الذي يصلّي فيه سيّد الشهداء عليه السلام؟ وفي المقابل، ما هو الارتباط الذي تشعر به في المسجد الذي في الكوفة الذي يصلّي فيه عمر بن سعد؟ هناك عندما تذهب في الظاهر سترى أنّه يقول: بسم الله .. الحمد الله .. والركوع والسجود... ، ولكن لو فتحتَ عيني الباطن عندك قليلاً لرأيت الشيطان مجسّماً، و هو يركع ويسجد ويقول: {ولا الضالين}، وستجد أنّ هناك شيطاناً واقفاً في المحراب ويقول: {بسم الله ..} ، الشيطان هو الذي يقول: {إياك نعبد}، نعم الشيطان.. نفس هذا الشيطان الرجيم، ونفس هذا الشيطان اللعين، تراه واقفاً يقول: «سبحان ربيّ العظيم»، بل هو يقولها بصوت فصيح وممتاز جداً.
أمّا هناك إذا ذهبت فستجد سيّد الشهداء عليه السلام يصلّي أيضاً، وسترى هناك رجلاً تجلّت وتجسّمت فيه صفات الله جميعاً، وتجده في مقامه المحمود يحمد نفسه بنفسه، فأين الثرى من الثريا؟! وأين هذا من هذا؟!
أجل.. في مقام «الإثبات» كلاهما واحد، كلاهما يركع، وكلاهما يقوم من الركوع، وكلاهما يسجد ويتشهّد، وكلاهما يقوم، وهذا كلّه محفوظ في هذا المقام، أمّا خلف هذه القضيّة، فهل انتهى الأمر؟! هل يمكن أن نقول أنّهما متشابهان و متساويان؟! فلو كان الأمر قد انتهى فهذا يعني أنّما مثل بعضهما البعض، وبالتالي فلا فرق بين عمر بن سعد وبين الإمام الحسين عليه السلام، لأنّ كلاهما يركع ويسجد وانتهت المسألة.
ولكن!! ما الذي يقلقنا هنا و يشوّش خاطرنا ويجعلنا نشعر بأنّ وراء الأمر سرّاً، ويجعلنا نذهب لكي نصلّي خلف ابن رسول الله صلى الله عليه وآله، لا خلف ابن سعد بن أبي وقاص؟! مع أنّ كلاهما يقول: {ولا الضالين} ، وكلاهما يقول: {إياك نعبد وإياك نستعين}، وكلاهما يقول: «سبحان ربّي العظيم» و«سبحان ربّي الأعلى»، ولكن مع كلّ ذلك هناك شيء يقول لي: إذهب وصلّ هنا ولا تصلّ هناك؟! ما الذي جعل ذلك يحصل؟
لقد حصل ذلك بسبب الحيثيّة الربطيّة، وهذه الحيثيّة الربطيّة الموجودة خلف الستار، يعبّرون عنها في الاصطلاح بمقام «الثبوت» .. في الإصطلاح الفنّي تسمّى «مقام الثبوت»، ففي مقام الثبوت لهذا الشخص تتجلّى جميع صفات الله عزّ وجلّ في ظهور ومظهريّة العبوديّة، نفس مقام الله عزّ وجلّ يتجلّى في مقام العبد فصار يحمد نفسه ويسبّح نفسه، بالطبع هذا المقام هو مقام مختصّ بالإمام.. بالإمام المعصوم، أمّا في في سائر الأفراد فالمراتب أقل من ذلك!! فالله بتجلّيه التام في عبده.. في سيّد الشهداء عليه السلام .. في هذا التجلّي هو يحمد نفسه بنفسه، ويعظّم نفسه، ويكبّر نفسه، ويهلّل لنفسه، ويحمد نفسه، وكلّ هذه الأمور تجلّت في هذا الوجود المقدّس، يعني: نفس هذا التجلّي هو الذي أوجد التقدّس، وأوجد مقام الطهارة المطلقة. ما هو هذا المقام؟ هو «مقام الثبوت».
في الطرف المقابل إذا نظرنا سنجد شيطاناً مجسّماً !! شيطاناً مجسّماً يقف في الظلمة المحضة وفي الكدورة المحضة، وهو في هذه الحالة يقول: سبحان الله .. سبحان الله .. سبحان الله. فهو يقول في الظاهر هذه التسبيحات أيضاً، ولكنّنا نلاحظه هنا من حيث مقام الثبوت.
وبالنتيجة: إنّ حقيقة العبوديّة وحقيقة الإسلام وحقيقة التشريع هي مقام الثبوت، لا مقام الإثبات الذي هو الظاهر وحسب !! أليس كذلك؟ هل فهمتم حقيقة المسألة؟
الآن نحن إذا نظرنا، فسنجد أنّ المقامات تمّ تبديلها وتمّ وضع كل شيء مكان الآخر، يعني: إنّك تجد البعض عندما ينظرون إلى مباني الإسلام وإلى أحكام الإسلام، وعندما ينظرون إلى الإمام الحسين عليه السلام ينظرون إلى ضرب السيف وإلى مقارعته ليزيد وقيامه عليه وقتاله له و استشهاده، فينظر إلى هذه الأمور لا إلى نفس الإمام الحسين عليه السلام... إنّنا عندما ننظر و نحلّل لنحصّل المِلاك، فبدلاً من أن ننظر إلى مقام «الثبوت» نلاحظ مقام «الإثبات»، فترانا نلاحظ: كيفيّة حديثه.. ومن هو الذي يقوم بملاطفته و يهتمّ به، وعلى من يثور، وكيفيّة تصرّفه... وهكذا.
إن شاء الله في المجلّد الثالث لكتاب «أسرار الملكوت» سأوضّح المسألة أكثر، وأنا الآن أعمل على إتمام كتابته، وسأسعى لتوضيح هذه المسألة بالذات، وقد خطر على بالي أن أطرح لكم هذه المسألة الليلة، ولكن هناك ستجدون توضيح المسألة بشكل أكبر.

    

النموذج الرابع: سجن أبي حنيفة و خلافه مع المنصور

إنّ أبا حنيفة كان أحد مخالفي المنصور الدوانيقي[3]، فبالرغم من أنّ المنصور كان يؤيّده في فترة من الفترات، ويساعده من أجل محاربة الإمام الصادق عليه السلام، ولكن بسبب بعض الحسابات الشخصيّة بينه وبين المنصور، لذا فقد حبسه المنصور في السجن، ومات في السجن أيضاً، بلى.. لقد مات عدوّ الإمام الصادق عليه السلام الأوّل في السجن! ذلك العدوّ الذي كان الإمام الصادق يستخدم التقيّة أمامه إن كان حاضراً في المجلس، وكان يتحدّث بأمور مغايرة حتّى لا يذهب ويخرّب الأمور.
إنّ أبا حنيفة هذا كان يقوم بأعمالٍ وقحةٍ جداً جداً، واقعاً كانت أموره عجيبةً، فقد قرأت منذ فترة عن أحواله وتاريخه، ولا أدري لعلّ ذلك كان في السنة الماضية، قرأت هذه القصّة:
لقد كان جالساً فأتى إليه القاضي وكان حينها في الكوفة، وقال: لقد أحضروا لنا فلاناً لقطع يده لأنّه سرق، وبعد الأخذ والردّ قال أبو حنيفة: ينبغي أن تقطع يده، وعندما ذهب ذلك الرجل، قال له أحد جلسائه: إنّ الجرم الذي قام به هذا الرجل لا يستحقّ قطع يد، و بعد نقاش دار بينهما اقتنع أبو حنيفة وأجابه: بلى .. بلى..ما تقوله صحيح ، فقال ذلك الرجل: إن كان كذلك، فأرسل أحداً إلى هؤلاء ليصحّح الأمر قبل أن يقطعوا يده، فأجابه أبو حنيفة بدم بارد: لا بأس.. لا بأس، دعهم يقطعوا يده، فقد انتهت المسألة ومضت.
انظروا لقد تساهل بالمسألة ولم يغيّر ما قاله حتّى قطعوا يد ذلك الرجل المسكين، لماذا؟ فقط من أجل ألاّ يتراجع عن كلامه الذي قاله، ولا يسقط كلامه عن الإعتبار، ولكي لا يقال: اشتبه فلان !!
حسناً لقد وضعوا عدوَّ الإمام الصادق عليه السلام الأوّل هذا في السجن، والسبب هو مصالحهم الشخصيّة ليس إلاّ، فلا يمكن لنا أن نقول: بما أنّه كان في سجن المنصور إذاً هو حتماً رجلٌ صالحٌ، لا أبداً، فالخوارج أرادوا أن يقتلوا معاوية أيضاً، فهل هذا الأمر يجعل منهم أناساً صالحين؟! نفس هؤلاء الخوارج الذين أتوا ليقتلوا أمير المؤمنين عليه السلام هم نفسهم ذهبوا ليقتلوا معاوية، وهم نفسهم ذهبوا ليقتلوا عمرو بن العاص، لكنّهم لم يوفّقوا إلاّ في قتل أمير المؤمنين عليه السلام وحسب، فأصاب سيفُهم رأسه...وبالتالي هم لم يكونوا أناساً صالحين أبداً.
هل يصلح دليلاً أن نقول: كلّ رجلٍ يعارض إنساناً ظالماً ومخالفاً للدين هو رجلٌ صالحٌ؟ كلاّ.. أبداً؛ لأنّه يوجد آلاف الآلاف من الأسباب والدواعي لحصول العلاقات وقطعها، وبالتالي: يمكن لنا أن نعدّ اتّباع الإنسان للإمام عليه السلام دليلاً على الصلاح، أمّا مخالفة الإنسان لرجلٍ سيّء وظالم فلا يعدّ دليلاً على الصلاح، لأنّ الدواعي للمخالفة عديدة ومختلفة.. انظروا إلى هذه الفئات المختلفة التي ستذهب إلى جهنّم، [فستجدون أنّهم لا يتّفقون مع بعضهم البعض].
حسناً بالنسبة لهذا الرجل [أبو حنيفة]: هل مخالفته للخليفة الظالم، وهل قيامه بتهييج الناس ودعوتهم لمواجهة المنصور.. يعدّ سبباً لكي يصبح رجلاً ثوريّاً، ورجلاً مقاتلاً ورجلاً مجاهداً ومن "مفاخر الإسلام"؟!! هكذا كتب البعض!! لقد كتبوا هذا الكلام في كتبهم!!
لكن نحن نقول: أنت يا من يكتب الرسائل داعياً الناس للثورة على المنصور..(ثمّ بعد ذلك وصلت هذه الرسالة إلى يد المنصور فوضعك في السجن) لماذا لم تقم أنت بنفسك؟! يجيبنا أبو حنيفة: لا، أنا جلست هنا لأنّني أرغب في تعيين تكاليف العباد!!
لماذا جلست أنت؟! لماذا أرسلت الناس إلى الجبهة ليقاتلوا هم بينما جلست أنت في بيتك؟! فأبو حنيفة يجلس في بيته، ويقول للناس: اذهبوا إلى الجبهة لمقاتلة المنصور الدوانيقي !! و لكن لماذا لا تذهب أنت أيضاً؟!! لتدع شظيّة من الشظايا تصيب جبينك حتّى تعرف طعم الشظايا التي تصيب رؤوس الناس أيضاً.
إنّ أمير المؤمنين كان يحمل السيف بنفسه، وكان الحسن والحسين عليهما السلام معه في صِفّين، وكان هو أقرب الناس إلى جيش الأعداء، فهو لم يكن ليجلس كأبي حنيفة مشجّعاً الناس على محاربة المنصور الدوانيقي، ثمّ بعد أن وصلت تلك الرسالة إلى يد المنصور وضعه في السجن، ثمّ مات في السجن، لا لم يكن كذلك، بل هو نفسه كان في وسط المعركة، وكان يرى أنّ روح عليٍّ كأرواح البقيّة بلا فرق، وكان يرى التقدير والمشيئة الإلهيّة متساوية في حقّ الجميع، ولم يجعل لنفسه حساباً يختلف عن حساب الآخرين، ولم يبنِ أبراجاً وحصوناً بارتفاع الثريّا ليختبئ فيها، لا يا عزيزي، بل إنّه ليلة التاسع عشر من شهر رمضان عندما قالوا له: مولاي نريد أن نصاحبك إلى المسجد، قال لهم: ولماذا تصحبوني؟! ومن أجل ماذا؟!! ماذا ستفعلون؟! هل تستطيعون أن تحفظوني من التقدير الإلهي؟! فلم يأتوا معه إلى المسجد، وضربه اللعين على فرقه في تلك الليلة!!
من هو هذا الذي فعل ذلك؟ إنّه ذلك العالم بالخفيّات !! أمّا نحن فلا، ليس لدينا هذا المقام ولله الحمد، بل أصلاً هل يمكن الفرار من يد عزرائيل؟! هل يمكن الإفلات من مشيئة الله وإرادته؟! لا، لا يمكن ذلك؛ إذاً ما المسألة؟!

    

النموذج الخامس: تفضيل الإمام الحسين على الإمام الحسن عليهما السلام

نحن نأتي ولا ننظر إلاّ إلى هذه الخصوصيّة وحسب، فقط ننظر إلى هذه الموقعيّة، وعندما ننظر إلى الإنسان فإنّنا لا نلاحظه إلاّ من هذه الوجهة وحسب، فلا نرى رفعة سيّد الشهداء وأفضليّته إلاّ من الجانب الظاهريّ فقط، أمّا الإمام المجتبى عليه السلام فهو مسكين لأنّه لم يثُرْ ولم يُقتل بهذه الطريقة، ولكن في الواقع ليس لدينا من هو مظلوم أكثر من الإمام المجتبى عليه السلام، مع العلم أنّ شجاعة الإمام الحسن في صِفّين إن لم تكن أعلى من الإمام الحسين فهي على أقلّ تقدير لا تقلّ عنها شيئاً.
ولكن هل تعلمون ما هي مظلوميّة الإمام المجتبى؟ هي أنّه كان إماماً، والإمامة تعني: تلك الحيثيّة الثبوتيّة، وتلك الجنبة الربطيّة للعبوديّة الموجودة بين هذا المظهر والظهور من جهة وبين الله عزّ وجلّ من جهة أخرى، ومن أجل ذلك صار مظلوماً، أمّا لو كان الإمام المجتبى مثل أبي حنيفة، ولو كان مثل الخوارج، ولو كان كعبد الله بن الزبير، لمَا كان الإمام المجتبى مظلوماً الآن، بل لكان الإمام المجتبى حمل سيفه وقام على الخلفاء، ولقطع الرؤوس والأيدي، ولفعل أمثال هذه الأفعال، ولصار بالنسبة لنا نسخة أخرى من الإمام الحسين؛ أي: لصار عندنا إماما حسين، غاية الأمر أنّ لكل واحدٍ خصوصيّاته الخاصّة.
بينما الآن، لا تجد للإمام المجتبى ذكراً عند أحد، لماذا؟ لأنّ الإمام المجتبى كان إماماً، لأنّ الإمام ينبغي أن يكون مظلوماً ولأنّ الإمام المجتبى كان إماماً؛ لذا فإنّ تلك الحيثيّة الثبوتيّة التي فيه كانت بالمرتبة الأتمّ.
أمّا لو كان الإمام المجتبى مثل عمر بن سعد، أو مثل خالد بن الوليد ... أخبروني: ألا تجدون الآن في الكتب الإسلاميّة أنّهم يتحدّثون عن خالد بن الوليد ويعدّونه من مفاخر الإسلام؟! نعم نفس خالد بن الوليد الذي زنا بزوجة مالك بن نويرة في ليلة قتله، نعم نفس هذا الرجل !! اعتبره البعض في كتب الشيعة من مفاخر الإسلام!! وهذا الصنف من علماء الشيعة صرّح بأنّ سقيفة بني ساعدة تُعتبر حركة إصلاحية كان هدفها الوقوف في وجه تشتّت المسلمين!! أفٍّ لهؤلاء جميعاً !!!! هذا ما قالوه عن سقيفة بني ساعدة؛ وذلك لأنّهم نظروا إلى جنبة «الإثبات»، فماذا نسمّي هذه النظرة، نسمّيها: المادّية الإسلاميّة.. المذهب المادّي الإسلامي، المذهب المادّي هو الذي ينظر إلى الأمور بنظرة ماديّة وبنزعة مادّية، تلك النظرة التي تنظر إلى جنبة «الإثبات» لا إلى جنبة «الثبوت».
حين النظر إلى الإمام الحسين، نلاحظ في كتبنا وفي منابرنا أنّهم يقولون: إنّ الإمام الحسين ثار يوم عاشوراء على يزيد وعلى عبيد الله بن زياد وفعل كذا وكذا... ، لكن أنا أسألكم: لو أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يقم بكلّ ذلك فما هو رأيكم؟ عندها ستجدهم يقولون: ها، إم، ها، لماذا حصل ذلك؟ لماذ لم يفعل كذا... ؟
لماذا؟ لأنّ نظرتنا للأمور هي نظر مادّية.. نظرة المذهب المادّي، أفلا يكون المذهب ماديّاً إلاّ إذا كان المتحدّث «لنين» أو «ماركس» فقط؟!

    

النموذج السادس: مبايعة الإمام السجّاد عليه السلام ليزيد بن معاوية

عندما نقصر نظرنا على الجنبة «الإثباتيّة» والظاهريّة، عندئذٍ سنُعرِّف الإمام موسى بن جعفر، بأنّه موسى بن جعفر الذي ثار على هارون الخليفة الظالم، ولكن!! متى ثار موسى بن جعفر على هارون؟! وأين ومتى حصلت ثورته هذه؟! وبهذه النظرة فإنّنا لن نقبل إلاّ الإمام السجّاد الذي يكون من ناحية مقام الإثبات قد وقف بوجه الخلفاء حتّى آخر رمق من حياته، بينما إن قرأنا في التاريخ ـ وقد وردت هذه القضيّة في التاريخ واقعاً ـ أنّ الإمام السجّاد عليه السلام بايع والي المدينة من قبل يزيد، وذلك لأنّه إن لم يبايع لكان مهدر الدم، فنحن لا نستطيع أن نقبل بهذه الحقيقة وبهذه الواقعة التاريخية، فنقول: «إنّ هذه الواقعة مدسوسة في التاريخ وهي افتراء على الإمام السجّاد وهي غير صحيحة»، إنّهم يقولون ذلك، أليس كذلك؟ بلى يقولون، وهم يقولون: «متى صدر هذا الفعل عن الإمام، بل هو بعيد عن مقام الإمامة»، لا يا عزيزي، ليس ببعيد؛ لأنّه لو لم يبايع لقتلوه، فذلك اللعين أخرج سيفه.. سيفه ذو الثلاثة أمتار، وقال: إمّا أن تبايع أو سنعاملك كالبقيّة !!
لقد ولد عشرة آلاف طفل في المدينة المنوّرة عشرة آلاف طفلٍ غير شرعي بعد حصول تلك القضيّة !!!! فالمسألة ليست مزاحاً، وهذا هو السبب لبيعته، فماذا يفعل الإمام؟ فهو إن قال: لا أريد البيعة؟! فسيأخذونه وسيقتلونه كما قتلوا الإمام الحسين عليه السلام، ألم يقطعوا رأس الإمام الحسين من قبله؟! بلى قطعوا رأسه، ثمّ جاؤوا بالأحصنة ورضّوا صدره، ولم يقتصر الأمر عليه هو فقط، بل حتّى طفله الرضيع استخرجوه وقطّعوه قطعة قطعة، إنّهم سيفعلونها حتماً مع الإمام [السجّاد]، فماذا سيفعل الإمام في هذه الحالة؟!

    

حقيقة المذهب المادّي: النظر إلى الجنبة الإثباتيّة الظاهريّةوإغفال الجنبة الثبوتيّة الواقعية

نحن لا نعرف من الإمامة إلاّ مقابلة الظالم ومواجهته، ولا نلتفت إلى تلك الجنبة الثبوتيّة التي تمثّل الأصل والأساس، والتي ينبغي أن نركّز نظرنا عليها ولا نلتفت إلاّ إليها، لكنّنا أغفلناها ولم نلتفت إلاّ إلى الجنبة الظاهريّة الإثباتيّة، فإن كان نظرنا منحصراً في هذا الجانب الإثباتي، فهناك شَبهٌ بين الأئمّة والعديد من الأفراد غيرهم، إنّ «تشيغفارا» يشبههم، و «جاندارك» ، و «نهرو» الذي قام بالثورة على فلان، و «غاندي» كان كذلك، ألم يثر «غاندي» على سياسة الإنجليز في الهند؟! فلنقل ـ والعياذ بالله ـ أنّه إمام !!!! إذ ما هو الفرق؟! فهو كذلك قد ثار كالإمام الحسين!
نهرو وغاندي وجاندارك وأمثالهم، وأنا لا أريد أن أذكر أسماء هؤلاء الكفّار... وعلى كلّ حال...فإنّ الله هو العالم بحقيقة المسألة وإن شاء الله يعاملهم بمقتضى علمه ورحمانيّته، فكلّ إنسان خطى خطوة في سبيل الخير فله أجره، إن لم تكن للخير فلا أجر لها.
حسناً.. ما هو سبب ذلك كلّه؟ سببه أنّ روح الماديّة الإسلاميّة باتت حاكمة على أرواحنا، فصرنا نشاهد جميع القضايا والأمور من هذا المنظار؛ فنحن نعتبر الشخص مهمّاً إذا كان منطبقاً مع هذه النظرة، فنحن لا نذهب أوّلاً إلى الإمام عليه السلام...
يوجد بعض الناس، وقد رأينا بعضاً منهم بعد الثورة، من أولئك المجموعات المخالفة من القوميّين وما شابه ذلك، وكنتُ أحياناً أشاهد بعضهم في التاكسي مثلاً، فكانوا يقولون: نحن إيرانيّون أوّلاً.. ثمّ بعد ذلك نحن مسلمون! وكنت أضحك عليهم كثيراً، فهؤلاء الحمقى لا يعرفون من هو جدّهم الثالث، ثمّ يأتون ويقولون: نحن أوّلاً إيرانيّون ثمّ مسلمون! هذا وقد كان الطرف المقابل يجيبه قائلاً: كلاّ! بل نحن مسلمون أوّلاً ثمّ إيرانيّون، وكان النقاش والجدال يحتدّ بينهما.
حسناً.. نحن مثل هؤلاء، فنحن عندما ننظر إلى أحد الأئمّة، أو حينما نريد أن نبحث في تاريخ أحد الأئمّة عليهم السلام، أو نريد أن نبحث حياة أحد العرفاء والأولياء الإلهيين ونراجع حياتهم، فإنّنا نذهب إلى جانب الإثبات المختصّ به، فننظر إلى تصرّفاته وأعماله، ونعطيه من القيمة والتقدير بنفس المقدار الذي نجد تصرّفاته وأعماله موافقة لوجهة نظرنا، وبناء على ذلك نحدّد درجته واحترامه، فنحترمه و نقدّره و نعلّق أوسمة الشرف على صدره!
وأمّا لو نظرنا إلى شخصٍ آخر، فوجدناه قد جلس جانباً فلم يتدخّل في المشاكل وابتعد عنها، فإنّنا نقول: من هذا؟ وما قيمته؟ وأيّ فائدة له؟! إنّ هذا قد ابتعد وجلس جانباً، فأيّ ميزة في ذلك؟! ينبغي أن يقوم ويأتي، فليأت وليتحرّك إن كان صادقاً فيما يقول! والحقير كان شاهداً بنفسه على ما قاله البعض وما فعلوه، والجسارة التي كانوا يتحدّثون بها، ورأينا استهزاءهم بالمرحوم السيّد العلاّمة، [إذ كانوا يقولون:] إنّ بعض الناس قد جاؤوا إلى هنا.. إلى حرم الإمام الرضا عليه السلام ليبتعدوا بأنفسهم عن الأحداث، وقد أطلقوا على أنفسهم اسم «العارف»!! (وقد سمعت ذلك بنفسي عندما كنت جالساً إلى جانب السيّد العلاّمة)، ثمّ كان هذا الشخص يتابع كلامه قائلاً: هل تعلمون من هو «العارف» الحقيقي؟ إنّه ذلك الشاب الذي يفعل كذا وكذا...
فهذا الشخص إلى أيّ شيء ينظر؟ إنّ هذا هو ما يُسمّى بالماديّة الإسلاميّة! فهل هذا هو «العارف»؟! هل الشابّ الذي لم يبلغ الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمره يُسمّى عارفاً؟! ذلك الفتى الذي لا يميّز بين الرصاصة والقذيفة صار يُدعى «عارفاً»!! لقد بدّلوا المفاهيم، وحرّفوا التعابير والاصطلاحات عن مواضعها!! بلى يا عزيزي.. إنّ بإمكاننا أن نأتي بآلاف الصفات الحسنة والممدوحة للأفراد، ولكنّ كلّ شيء له موضعه، فهذا الفتى الذي لم يتجاوز عمره الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة أو السابعة عشرة، ومع كلّ الإخلاص الذي عنده.. هل تأخذه إلى غرفة العمليّات في المستشفى وتعطيه سكين الجرّاح ليقوم بإجراء عمليّة قلب مفتوح؟! هل تعطيه أم لا؟! لماذا هنا لا تقول: إنّ هذا الفتى ما زال في ريعان شبابه وهو في غاية الإخلاص، فهو إذاً أفضل جرّاحي القلب على الإطلاق، و ينبغي أن نعطيه مبضع الجرّاح... لماذا لا تقول ذلك؟ ولمَ لا تعطيه السكين والمبضع؟ لأنّ كلّ شيء له حسابه الخاصّ. ولكن عندما وصلت المسألة إلى العرفان، لم تجدوا حائطاً أخفض من حائط العرفان؟! فنراكم تقولون: «إنّ عارفنا الحقيقي هو هذا».
إنّ هذه ليست إلاّ نظرة مادّية ولكنّها مصبوغة بلون إسلاميّ.. مجرّد صبغة وألوان!! فنحن اكتفينا بأننا لم نذهب إلى سائر المذاهب، ولم نأخذ من باقي الملل والنحل، ولم نجعل زعماءهم زعماءً لنا، بل زعماؤنا هم الأئمّة الإثنا عشر والمعصومون الأربعة عشر.. لقد اكتفينا بهذا المقدار من ظاهر الإسلام والتشيّع.
ولهذا نرى أنّ كلام الأعاظم وفي محاضرات الأولياء وفي كتبهم ... لاحظوا السيّد العلاّمة مثلاً، فستجدون أنّه كان يبدأ أوّلاً ببيان الجانب الواقعي بعنوانه العمود والأساس الذي يبتني عليه البناء، وبعد ذلك يقوم ببحث باقي المسائل في هذا الإطار ويغوص فيها، ولكنّ الأفراد الآخرين ليسوا كذلك.
لقد تبيّن البحث ـ إن شاء الله ـ بهذا المقدار، وصار واضحاً إلى حدًّ ما، ولنتوقّف هنا حتّى نتمكّن من توضيح كلمات حضرة الإمام السجّاد عليه السلام، ولنرَ ماذا يقول نفس الإمام بدلاً من أن نطرح مطالبنا نحن، فنحن قد فرحنا أنّه في هذه الليالي سيتمّ شرح دعاء أبي حمزة، فإذا بنا اقتصرنا على مطالبنا نحن!! [تبسّم من سماحة السيّد].

    

كلمات الإمام السجّاد تبعث الأمل في النفوس

نسأل الله تعالى أن يرزقنا فهم هذه المطالب والمسائل. فأنا واقعاً عندما أقرأ هذه العبارات فإنّ نور الأمل يشعّ في قلبي (ولا شكّ أن الإخوة و الرفقاء مثلي في ذلك)، وأقول: إنّ الإمام السجّاد قد قال هذه الكلمات من أجلنا نحن، فأنا أرتكب الكثير من الذنوب والله تعالى يعلم ذلك، فأنا عبد آبق ومتمرّد، ولست لائقاً لاسم العبوديّة، (وأنا لا أمزح ولا أتواضع فأنا لست من أهل التواضع وأمثال ذلك)، وبسبب ذلك أشعر باليأس في بعض الأوقات.. يا ربّ ماذا أفعل؟! و فجأة أتذكّر الإمام السجّاد عليه السلام، فألتفت إلى أنّ الإمام السجّاد يصف حالنا هنا، فنحن كما قال عليه السلام: «أدعوك يا ربّ بلسان قد أخرسه ذنبه»، وحينئذٍ نرتاح ونفرح، ونقول: لا شكّ أنّنا سنقع إن شاء الله مورداً لرحمة الله وغفرانه، لأنّ الإمام عليه السلام يعرض هذه المطالب في ساحة الله على لساننا نحن بأنّه: «حجّتي يا الله في جرأتي على مسألتك، مع إتياني ما تكره، جودُك وكرمك»، فإذا كان الإمام عليه السلام يقول: (إنّ حجّتي ومعتمدي ومستندي (وقد بيّنا معنى الحجّة في الليالي السابقة) في طلبي منك وسؤالي إيّاك مع كلّ ذنوبي التي أفعلها، جودك وكرمك..)، فإنّ ذلك ينطبق عليّ أنا أيضاً، فهذه القضيّة تنطبق عليّ وعليكم وعلى جميع الأفراد. فإذا أدرك الإنسان ذلك فإنّه يشعر بالعشق والهمّة وبالشوق والنشاط.
حسناً.. لو أنّنا لم نسمع هذه المطالب من لسان الإمام السجّاد عليه السلام، فما الذي كان سيحلّ بنا؟ لقد كان اليأس سيتملّكنا، وكان الضعف والفتور سيسيطر علينا، ولأصابنا العجز .. العجز! وهذا بحدّ ذاته هو أكبر الموانع!
نسأل الله تعالى أن يزيد فهمنا لهذه المطالب في كلّ آن ولحظة، وأن يرزقنا من عنده الهمّة بالنسبة لهذه المسائل، وأن يجعلنا بنفسه في كلّ حال مورداً لعنايته ورحمته دائماً.
اللهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد


[1] ـ صدر الآية (37) من سورة الحجّ.

[2] ـ إشارة إلى ما روي في كتب السير حيث جاء أنّه: «... سَارَ الْحُسَيْنُ حَتَّى نَزَلَ الْقُطْقُطَانَةَ فَنَظَرَ إِلَى فُسْطَاطٍ مَضْرُوبٍ فَقَالَ: لِمَنْ هَذَا الْفُسْطَاطُ؟ فَقِيلَ: لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُرِّ الْحَنَفِيِّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ عليه السلام، فَقَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّكَ مُذْنِبٌ خَاطِئٌ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ آخِذُكَ بِمَا أَنْتَ صَانِعٌ إِنْ لَمْ تَتُبْ إِلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي سَاعَتِكَ هَذِهِ فَتَنْصُرَنِي ويَكُونُ جَدِّي شَفِيعَكَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَقَالَ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ وَاللَّهِ لَوْ نَصَرْتُكَ لَكُنْتُ أَوَّلَ مَقْتُولٍ بَيْنَ يَدَيْكَ وَلَكِنْ هَذَا فَرَسِي خُذْهُ إِلَيْكَ فَوَ اللَّهِ مَا رَكِبْتُهُ قَطُّ وَأَنَا أَرُومُ شَيْئاً إِلا بَلَغْتُهُ وَ لا أَرَادَنِي أَحَدٌ إِلا نَجَوْتُ عَلَيْهِ فَدُونَكَ فَخُذْهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ الْحُسَيْنُ عليه السلام بِوَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: لا حَاجَةَ لَنَا فِيكَ وَ لا فِي فَرَسِكَ {وَ مَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} ولكن فِرّ فَلا لَنَا وَلا عَلَيْنَا فَإِنَّهُ مَنْ سَمِعَ وَاعِيَتَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ يُجِبْنَا كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ بِكَرْبَلاءَ..» (راجع: بحار الأنوار 44 : 315). (المترجم)

[3] ـ وهو أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني، وكان من الجبابرة والفراعنة وهو الذي قتل الإمام جعفر الصادق عليه السلام. (م)

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی