معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات العلامة الطهراني > محاضرات متعددة > عيد الأضحى: فلسفة العيد في الإسلام، و وجوب الاهتمام بشؤون المسلمين
خطبتا عيد الأضحى

_______________________________________________________________

هو العليم

فلسفة العيد في الإسلام
و
وجوب الاهتمام بشؤون المسلمين

خطبتي عيد الأضحى

لسماحة

العلاّمة آية الله الحاج السيّد محمد الحسين الحسيني الطهراني
رضوان الله عليه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف                                          

    

[الخطبة الأولى]

أعوذُ بالله منَ الشيطانِ الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم



الْحَمْدُ لِلَّهِ الْوَاصِلِ الْحَمْدَ بِالنِّعَمِ، والنِّعَمَ بِالشُّكْرِ، نَحْمَدُهُ عَلَى آلَائِهِ كَمَا نَحْمَدُهُ عَلَى بَلَائِهِ، ونَسْتَعِينُهُ عَلَى هَذِهِ النُّفُوسِ الْبِطَاءِ عَمَّا أُمِرَتْ بِهِ، السِّرَاعِ إِلَى مَا نُهِيتْ عَنْهُ، ونَسْتَغْفِرُهُ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ، وأَحْصَاهُ كِتَابُهُ، عِلْمٌ غَيرُ غَادِرٍ، وكِتَابٌ غَيرُ مُغَادِرٍ، ونُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ عَاينَ الْغُيوبَ، ووَقَفَ عَلَى الْمَوْعُودِ، إِيمَاناً نَفَى إِخْلاصُهُ الشِّرْكَ ويقِينُهُ الشَّكَّ، ونَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إلَهً واحِداً أَحَداً صَمَداً فَرْداً حَيّاً قَيّوماً دائِماً أَبَداً، وأنَّ مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُولُهُ، أَرسَلَهُ بِالْهُدَى ودِينَ الْحَقِّ لِيظْهِرَهُ عَلَى الَّدينِ كُلِّهِ ولَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون.
عِبادَ الله أُوصِيكُمْ بِتَقوی الله اَلَّتی هِی الزَادُ وبِهَا المَعَادُ، زادٌ مُبَلِّغٌ ومَعَادٌ مُنْجِحٌ، دَعا إلَيهَا أَحسَنُ دَاعٍ، ووَعَاهَا خَيرُ وَاع
. [1]
قالَ اللَهُ الْحَكيمُ فى كِتابِهِ الْكَريم: {لَنْ ينالَ اللَهَ لُحُومُها ولا دِماؤُها ولكِنْ ينالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُم}[2]

    

فلسفة الأضحيّة هي كسب التقوى

إنّ لحوم ودماء الأغنام والجمال والأبقار التي تضحّون بها قرابين سواء في منى أم في مكّة أم في أيّ مكان آخر, لن تصل إلى الله سبحانه وتعالى, إنّما الذي يصل إليه سبحانه هو التقوى الكامنة وراء ذبحها ونحرها، وهذا هو نصيبكم المكتسب من وراء هذا العمل. وعلى هذا الأساس, فما الذي يعنيه وصول التقوى إلى الله من وراء الذبح والنحر؟!

    

القرآن كتاب إحكام وإتقان

هناك آية قرآنيّة تقول {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ* وَمَا هُوَ بِالْهَزْل}[3] وهي تبيّن لنا أنّ القرآن كتاب متقن ومحكم وكلامه قاطع وحاسم لا هازل ولاه وممازح, كما أنّ خطاب القرآن للنّاس لم يبتن على المسامحة. فمن خلال هذه الآية نصل إلى أنّ سرّ تقديم القرابين والتضحية بها في هذه الدنيا يعود إلى مسألة تحصيل الإنسان الطهارة والإخلاص من خلال أدائه لهذا العمل, مع العلم مسبقا بأنّ نفس التضحية هذه تحتوي في طيّاتها على فوائد جمّة من إطعام الفقراء ومعونة الضعفاء وإقامة الولائم وسدّ حاجات المؤمنين. فالإنسان بعد القيام بذبح الأضحية يكتسب الطهارة وهي التي تصبّ في نفعه. إنّ الإطعام والذبح والتصدّق باللحم والجلد في سبيل الله عزّ وجلّ كلّ ذلك يتعلّق بهذا العالم فحسب ولا يصل شيء منه إلى ذلك العالم, ولكنّ روح ونتيجة هذا العمل ـ والتي هي التقوى المكتسبة منه ـ هي تتجه نحو الله, وتسير وتصل إليه سبحانه وتعالى حقاً.

    

لكلّ عمل ظاهر وروح، يبقى ظاهره في هذه الدنيا، بينما تدوم روحه وتستمر مع الإنسان

فما معنى أن يصل إلى الله سبحانه وتعالى؟ {إِلَيهِ يصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يرْفَعَه}[4], نرى من هذه الآية أنّ العمل الصالح الذي يفعله الإنسان كائناً ما كان هذا العمل, سيوجد روحيّة وحالة نفسيّة معيّنة باقياً في عالم البقاء والتجرّد وأثراً معنوياً في النفس، وهذا هو الذي يتّجه نحو الله سبحانه وتعالى: {إِلَيهِ يصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيبُ}، فما هو هذا الشيء الذي يصعد إليه تعالى؟ هو الكلم الطيّب، والشيء الذي يوجب صعوده وحركته نحو الله تعالى هو العمل الصالح.
ويتلّخص لدينا أنّ ذبح الأضحية هو عمل صالح موجب لحصول التقوى والتي تتجه نحو الله, ولذا على الإنسان أن يسعى لتحصيلها. وهذه المسألة ليست مختصّة بالأضحية, إذ بالنظر لآية {إِلَيهِ يصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيبُ} وبتنقيح المناط الكلّي لآية {لَنْ ينالَ اللَهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها}[5] يمكننا القول بأنّ كلّ عمل يقوم به الإنسان في هذه الدنيا له صورة ظاهرية وجسد بالإضافة إلى جوهره وروحه, فظاهره يبقى في هذه الدنيا, وأما روحه فتبقى مع الإنسان.

    

قيمة العمل في باطنه وروحه الذي يوجده لا في ظاهره

ولذا علينا أن ننظر كم أوجد هذا العمل من روحانيّة للإنسان, ومنه نعرف قيمته المعنويّة. وهنا نجد آراء عدة، فمنهم من يقول: كلّما كان حجم العمل كبيرا ومثيرا للإعجاب أكثر ويحتوي على ظاهر وأبّهة وعظمة زائدة, فسيكون أفضل، بغضّ النظر عن باطنه وروحه مما لا نحيط به علماً! و بعضهم يقول بأنّ ظاهر هذا العمل يجب أن يتأسس عند الإنسان تبعا لإيجاد ذلك الملكوت والحالة الروحيّة للإنسان, فمتى كان أثر الباطن قويّا صار للعمل قيمة ووزن وبدونها لا يمتلك أيّة قيمة! هذا ما بيّنه القرآن.
ينظر الناس غالباً إلى الظاهر, فمن كانت أعماله جذابة في ظاهرها مقترنة بالصخب والضجّيج فإنّهم يتّبعونه. ففي الأعمّ الأغلب إنّ المستوى الفكّري لدى العوام متدنّ وأفقهم محدود, ولهذا يبقى التأمّل والتفكّر عندهم قابعا في مستويات محدودة وقليلة جدّا, وعليه يمكن القول بأنّ الإحساسات غالبة على عقولهم كما أنّ المشاهدات تغلب على تفكيرهم وتأمّلهم. بناءا على ذلك إذا كان هناك من يقوم بأفعال لافتة ومثيرة للإعجاب كبناء المسجد على سبيل المثال, أو إنشاء مشفى, أو القيام بطباعة كتب دينيّة, فإنّ هذه الأعمال ستكون مقبولة ومرضية عند الناس، ولكنهم لا يلتفتون إلى الأساس الذي استندت إليه هذه الأفعال! فهل قامت على أساس الآيات القرآنيّة التي قرأتها عليكم فضلا عن غيرها من الآيات؟!
إنّ المنظومة الإسلامية لا ترتكز إلى هذا النوع من المقاييس؛ فهي ترى أنّ العمل ذا القيمة الرفيعة هو الذي يُوجد تلك الروح, وكلّما كان العمل مؤثّراً أكثر في إيجاد هذه الحالة الروحيّة كان أفضل. وعلى ما تقدم نصل إلى أنّه إذا قام الإنسان بعمل في هذه الدنيا, وكان هذا العمل مثيراً للإعجاب وملفتاً للنظر, ولكنّه لم يكن مبنيّاً على أساس التقوى, ولم يكن موافقا لمشيئة الله, ولم يكن في مرضيا عند الله, وكانت شوائب الغرور والعجب والصيت والشهرة وحسّ التقدّم والتفاخر قد أخذت مأخذها منه, فكلّ ذلك لن يصل إلى الله سبحانه وتعالى, وهو دنيويّ محض {أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَ زينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَينَكُمْ}[6]. غير أنّ كلّ ذلك لا يجدي نفعاً عند الله ولا يتّجه صعوداً في سبيل الله سبحانه وتعالى {ما عِنْدَكُمْ ينْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ}[7], فما عندكم هو الفاني والزائل, وما عند الله هو الباقي والمستمر. والمقصود مما عندكم ما يرجع إلى شؤونكم, وما يرتبط بالمظاهر الدنيويّة, تلك الكثرة الدنيويّة والاعتبار والثروة والفكر المادي والشخصي أضف إلى ذلك السعي في تعزيز الموقع, وعموماًُ كلّ ما يقوم به الإنسان بالاتّكاء إليه في حياته الدنيويّة من حيث هو دنيويّ, كلّ ذلك هو لكم في هذه الدنيا! ولا يصحبكم إلى الآخرة، وأما ما كان عند الله سبحانه وتعالى فهو الباقي.
فما هو هذا الذي عند الله؟! ليس المقصود هو بقاء ما خلقه الله معه في عالم الأزل! نعم فذاك مسلّم بقاؤه! وتلك الأسماء والصفات الإلهيّة هي باقية سواء أخبر عنها القرآن أم لم يخبر فهي مرتبطة بالله. ولكن {ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ} تشير إلى النتيجة التي تحصلون عليها من أعمالكم التي تبتغون بها الله فهي التي تبقى عند الله سبحانه وتعالى، تبقى من الأعمال تلك الأفكار والحالات الروحيّة والجهة الملكوتيّة، والأحوال الحسنة والرؤية الحقّة، والعقيدة الصافية، والصفات والملكات الحميدة. كلّ ذلك يبقى مع الإنسان بعد رحيله عن الدنيا لأنّه ليس مجرّد ظاهر فحسب.
صحيح أنّ الصلاة التي أدّيتموها كانت عملاً ظاهرياً، وكذلك الوضوء واستقبال القبلة كلّها كانت أعمالاً ظاهريّة, غير أنّ لها باطناً, وهو ما دفعنا إلى القيام بها قربة إلى الله تعالى.. لم يكن لنا غرض آخر وراء هذا العمل.. لم نكن نُريد الغرور والعُجب, كان الباطن عبارة عن التوجّه إلى الله سبحانه وتعالى حال أدائنا للصلاة وكنّا نعيش حالة التكلّم معه سبحانه,ٍ فالباطن هو تلك الحالة اللطيفة التي كنتم قد نلتموها عند الصلاة والتوجّه إلى الله بالدعاء، وهّذه هي التي تبقى لخلوصها من شوائب الماديّة.
فهذا العمل المادّي من الوضوء والصلاة هو بمثابة المقدمة لظهور وبروز ذاك العمل المعنوي, وكلّما كان أثره في ظهوره أشدّ كلّما كان أكثر قوّة, ولذا فالعمل الأفضل للإنسان هو العمل المقرّب له أكثر, والمقرّب هو ما كان لله سبحانه, ومعنى كونه لله تعالى أنّ أثره وفاعليته في إيجاد تلك الحالة المعنوية والروحيّة هي أشدّ وأقوى, وهذا هو المناط الكلّي الذي قدّمه إلينا القرآن المجيد.

    

عيد النوروز ليس عيداً إسلاميّاً بل بدعة وانحراف

اليوم يوم عيد الأضحى! فماذا يعنى عيد الأضحى؟ يعني أن الناس يجب أن يعيّدوا اليوم, فما معنى العيد؟ حقاً ماذا يعني؟! هل يعني أنّه اليوم الذي يأكل الإنسان فيه الحلوى والسكاكر والمكسّرات والبوظة ويلهو ويلعب فيه ويصفّق؟ أو أنّه كما كان الناس يصنعون في الزمان السابق في عيد النوروز حيث يسير الحاج الذي يحمل اسم "نوروز" في الشوارع والأزقّة؟ أهذا هو العيد؟! أن يقوم الإنسان بالضرب على الطبل أو يقوم بتعليق المصابيح والزينة وما شابه؟ لا!! فإن كنّا نفهم من العيد هذا المعنى فنحن مشتبهون في فهمنا, وإن كانت هذه المعاني هي التي تتبادر إلى أذهاننا من لفظ العيد[8] فإنّما هو بسبب التربية الخاطئة التي سيطرت علينا في الآونة الآخيرة وساقتنا في هذا الاتجاه بغير اختيار منّا، ولكن ليس هذا هو معنى العيد, إنّه يعني ذلك اليوم الذي يصل فيه الإنسان بما هو إنسان لا بما هو حيوان, لا بما هو «جنس أعمّ», لا بما هو «نام», بل بما هو «إنسان», وبما هو «ناطق», يصل بذلك إلى فائدة تفرحه وتسره, وتصقله وتطهّره وتهذّبه وتقرّبه من الله سبحانه وتعالى. فهذا ما يسمّى عيداً له.[9]

    

صلاة العيد هي شكر لله تعالى على منّه وترحّمه علينا في هذا اليوم

إنّ عيد الفطر هو يوم عيد ويوم سرور للمؤمنين ولكن لماذا؟ لأنّّ الناس صاموا شهراً كاملاً, وبقوا جائعين وعطاشى أياماً عديدة, وأحيوا لياليهم بالعبادة لله عزّ وجلّ, فقرأوا القرآن وأقاموا الصلاة, وعندما حلّ يوم عيد الفطر عليهم أراد الله أن يكافئهم نتيجة لما قاموا به, وما هي المكافأة؟ إنّها وضْع أوزارهم والتخفيف عنهم, إنّها التقدّم بهم وترقيتهم, إنّها نتيجة كلّ دقيقة ولحظة مضت من شهر رمضان والتي بدورها أوجدت هذا الأنس الروحي لديهم, وقامت بسوقهم وجرّهم إلى المقام المعنويّ من الطهارة. فالآن وفي يوم عيد الفطر يشعرون بالخفّة والطهارة، والملائكة تقوم بإحضار الجوائز والمكافآت لهم قائلين: لقد أحسنتم صنعا في ما فعلتم, واليوم هو يوم استيفاء النتائج.
حينها يتوجّه الإنسان بالصلاة لربّه شكراً، بدلاً من أن يأكل الحلوى، فليس يومه هذا يوماً لأكل الحلوى و للهو واللعب. (هل التفتّم؟!) بل هو يوم للصلاة وعلى الناس ـ طبق ما ورد في الأدلة التي بعث بها الله إليهم ـ أن يخرجوا إلى الصحراء, ويصطفّوا مجتمعين معاً لإقامة الصلاة, وخطبة العيد والتكبير فيقولون: «لا إله إلاّ الله والحمد لله, الحمد لله علی ما هدانا وله الشكر علی ما أولانا» . فإنّنا نشكرك يا ربّنا على ما وفّقتنا إليه في هذه السنة بأن بقينا أحياء إلى شهر رمضان الفائت هذا, ونحمدك على اكتساب هذه الحالة والأنس الروحي, وعلينا من أجل ذلك أن نخرج للصحراء بأقدام حافية, وأن نضع جباهنا على التراب, ونلقي عباءاتنا على ظهورنا, ونرفع أيدينا كما فعل الإمام الرضا سلام الله عليه عند صلاته تأسيّاً بسنّة رسول الله, فعلى الإنسان أن يذهب بهذه الحالة من الانكسار والضعف, شاكراً هذه المنّة والموهبة الإلهيّة التي منّ الله بها عليه في شهر رمضان المبارك لهذه السنة, والله يعطي الإنسان هذه النتيجة في يوم عيد الفطر.
فمن هنا نرى بأنّه واقعاً عيد للإنسان. وهو أشبه ما يكون بطالب المدرسة الذي يدرس طوال السنة, فإنّ عيده هو اليوم الذى يعطى فيه شهادة نجاحه. أما لو لم ينجح في دراسته هذه, ولكن قام أبوه على سبيل المثال بشراء ثياب وهدايا قيّمة له فماذا سينفعه أو سيعني له كلّ ذلك؟ لو قاموا بإحضار جميع ما في الدنيا من ذهب وزينة! فعيده لن يكون سوى نجاحه في دراسته ولو كان يرتدي الثياب البالية! إنّ عيده هو نجاحه وفوزه بالرتبة الأولى بين التلاميذ في المدرسة. وأما لو رسب فإنّّه لو أكل الحلوى وأظهر السرور فأيّ عيد هذا سيكون له؟!

    

على الجميع في الحجّ أن يتركوا كافة تعلّقاتهم

ويتحصّل لدينا أنّ أعياد الإسلام هي من هذا القبيل.. عيد الفطر.. عيد الأضحى... فالنّاس كلّهم جاؤوا من نقاط وبقاع مختلفة, جاؤوا هذا اليوم للتضحية بالقرابين إلى الله سبحانه وتعالى, فتركوا جميع تعلّقاتهم بالنساء والأولاد والعمل والتجارة، وتحرّروا من جميع القيود والروابط التي تشدّهم إلى مُدنهم وأوطانهم, وجاؤوا بأقدام حافية ورؤوس حاسرة يلبّون نداء التكبير لله عزّ وجلّ: «لبّيك اللهم لبّيك...» والمرأة التي يعدّ وجهها أفضل مواضع جسدها عليها هنا أن تكشف عن وجهها وتكشف عن قدميها، فمكان الشأن والرفعة ليس هاهنا, بل هنا عليك أن تعطي مقامك وكرامتك! الأمر عينه للرجال حيث يعدّ الرأس لديهم من أشرف وأفضل أعضائهم, إذ العمامة والتّاج والقبّعة توضع عليه, فعلى الرجال أن يحسروا كلّ هذه الأشياء عن رؤوسهم ويمشوا بأقدام حافية, ولا فرق في ذلك بين الملك والوزير بين الرئيس والمرؤوس, فوضع الرجل شيئا على رأسه يجعله آثما, كما أن المرأة إذا غطّت وجهها تصبح آثمة كذلك, فعليهم جميعا أن يذهبوا هناك ويطوفوا حول بيت الله الحرام, وينظروا ويتأملّوا هناك إلى ما يجري لهم! {وَ لْيطَّوَّفُوا بِالْبَيتِ الْعَتيق‏ * و لِيشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ}.

    

الحجّ يُوجد حالة من التجرّد عند الإنسان بغير اختيار منه

الدنيا لا تقف عند حدود المادّة فقط! أو الأكل وإطفاء الشهوات فقط! كما أنّها لا تقف عند إنهاء الأعمال والأشغال! بل كل ذلك يعود إلى إيجاد شيء ثابت {ما عِنْدَكُمْ ينْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ}. فمن هنا وشئتم أم أبيتم فإنّّ السفر إلى مكّة يوجب التجرّد للإنسان, ورغم أنّ السفر إلى مكّة في يومنا هذا يُعدّ من أسهل الأسفار, إلا أنّه مع ذلك من أعقد الأسفار وأكثرها صعوبة. فكلّ من ذهب إلى مكّة عاين المشكلات هناك رغم أنّ السفر في عصرنا الحاضر صار أسهل نسبيّا مما كان عليه في العصور السابقة، ولكن يبقى محفوفاً بالمتاعب, فالمشاكل والصعوبات يجب أن تبقى على أيّ حال, والله سبحانه جعل السفر بهذا الشكل من الصعوبة والتعقيد حتّى يمرّ الناس بهذا الوضع وهذه الحالة ويعرفوا قدر وقيمة السفر هذا.

    

بيان الإمام عليّ عليه السلام لسبب جعل الله سبحانه البيت الحرام في أرض غير ذي زرع

يقول أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة القاصعة الواردة في نهج البلاغة: «ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وأنهار، وسهل وقرار..»[10] لجعل الناس ذلك المكان متنزّهاً لهم. ولكن الله جعل بيته الحرام بين جبال خشنة، ورمال دمثة في موضع حارّ تسودّ لحرّه الأحجار. وعلى الناس الكبير منهم والصغير الرئيس منهم والمرؤوس أن يأتوا مطأطئي الرؤوس حاسري الأقدام لكي يطوفوا حول هذا البيت المقدّس! ولكن ما سبب كلّ ذلك؟
فكلّ ذلك هو لكي يتحقّق صعود الكلم الطيّب؛ {إِلَيهِ يصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيبُ}, فهنا يظهر معنى الكلم الطيّب، فهناك يتوجّب على الإنسان أن يُلقي بأثقاله وأمتعته جانبا, وأن يخرج من أوزاره وآثامه! فهناك يُشاهد المنافع والخيرات, لا المال والتجارة! تلك المنافع التي حقّقها وحصّلها لنفسه مؤسس الإسلام النبي إبراهيم. فماذا كانت تلك المنافع؟

    

في عرفات لا يشكّ أحد في غفران الذنوب إلا الشقي

إنّ تلك المنافع هي التي حقّقها كلّ من إسحاق ويعقوب وإسماعيل سلام الله عليهم أجمعين, إنّها تلك الحالات العجيبة التي فازوا بها في الحج، إنّها الوقوف الذي وقفوه في عرفات؛ ولذلك نجد في الروايات أنّ من يحضر عرفات في يوم عرفة, بعد أن يطوف حول تلك الأحجار الصلاب، وبعد أن يسعي بين ذينك الجبلين, فيقف في عرفات ويدعو قبل الغروب, إن ظنّ هذا الرجل أنّه لن يغفر له «فلا يلُومَنَّ إلا نَفْسَه». فكم هو شقيّ ذلك الرجل الذي جاء من منزله إلى عرفات وقام بكلّ هذه الأعمال..! لقد جاء وبقي من الظهر إلى الغروب على أرض عرفات واقفاً لله عزّ وجلّ, ولكنّه في الأخير بقي متردّداً بنيل الغفران والصفح عن ذنوبه من الله سبحانه وتعالى! نعم فهذا يعود إلى شقاوته هو! فلماذا يُسيء الإنسان الظنّ بالله سبحانه إلى هذا الحدّ؟ ولماذا يكون الإنسان متشدّداً لهذا الحدّ مع الله سبحانه وتعالى؟ فالله يفتح له الطريق ويقول له: تفضّل! كلاّ! كلاّ! فيا رب أنا لست أهلاً لأنّ تفتح لي الطريق! عزيزي افتح عينيك هل أنت أعمى لا تبصر؟! انظر فالباب مفتوح وتفضّل! يقول: هم لم يفتحوا الباب لي ولم يسمحوا لأمثالي بالدخول! نقول له: اقتنع واسلّم أن الباب مفتوح الباب ثمّ تفضّل! فيقول مجدّدا أنا لست صالحاً ومؤهلاً للدخول! فإذا لم تكن أهلا للدخول فانصرف!! فمعنى «فلا يلُومَنَّ إلا نَفْسَه» أنّه وبسبب وصوله لهذا الحدّ من الشكّ والترديد في قلبه بالإضافة ليأسه بحيث أنّ الله سبحانه يقول له تفضل إلى الدّاخل, فباب الجنّة مفتوح فمع هذا كلّه لا تجده يُحرّك ساكنا.
كان أحد الرفقاء يقول: رأيت رسول الله ذات مرّة في المنام وكان في يوم القيامة, فرأيته يصيح ويصرخ عالياً بغية إنقاذ العالقين في نار جهنّم ويُحاول جاهداً في سبيل ذلك حتّى يُخرجهم ممّا هم فيه, ولكنّهم لم يقدروا على الاستجابة له, فكم هو عجيب هذا الموقف! الرسول الأكرم يصرخ ويصيح ويقول أعطني يدك حتّى أخرجك من العذاب الذي أنت فيه! ولكنّهم لا يسمعونه ولا يستجيبون له.

    

معنى التضحية في الحجّ

إلى أيّ شيء تهدف المشاركة في الحروب والمعارك الإسلاميّة والدّعوة إلى الإسلام, والتبليغ له؟ إنّها فقط للعبور من هاوية جهنم إلى الجنّة؛ فالأئمّة عليهم السلام يقولون: تعالوا إلينا فنحن من نُنجيكم ونأخذ بأيديكم إلى النجاة! ولكن جوابنا هو أنّنا لا نريد النجاة!
إنّ عيد الأضحى هو عبارة عن يوم يعيشه الحجاج بعد أن تحرّكوا إلى عرفات وتوقّفوا فيها, ثم ذهبوا في اللّيل إلى المشعر وتنعّموا بالجمال والجلال الإلهيّين, وها هم اليوم يأتون لرمي الجمرات والتضحية بالقرابين, فالتضحية تعني أنّه يا رب كما أنّ مؤسس الإسلام خليلك إبراهيم عليه السلام أراد تقديم ابنه وروحه قربانا لك, وقمت أنت بفدائه بكبش من عندك مكانه, فالفدية ماذا تعني! تعني أنّ يقدّم شيء ضحيّة ليبقى آخر! تعني أن تقول للآخر: جعلت فداء لك، فماذا يعني هذا؟ يعني أنكم إن كنتم ستفارقون الحياة, فأنا أفديكم لكي تظّلوا وتبقوا سالمين! فالفدية تعني ما نعبّر عنه بقولنا "جعلت فداك"! أي إن كنتم أنتم ستفنون فأنا فداء لكم! أنا أجعل نفسي في مكانكم ومحلّكم, فهذا الكبش فدية يعني أنّه صار عوضاً. فمسألة التضحية التي نقوم بها والفدية التي نذبحها هي من هذا القبيل, فنقول يا رب نحن حاضرون لتقديم أرواحنا في سبيلك فداء لك, ولكنّك لم تأمرنا بقتل أنفسنا, وهذا الكبش الذي نقدّمه ما هو إلا عنوان ونموذج وحاك عن تقديم الأرواح والأنفس فداء لك وفي سبيلك.

    

شرائط كبش التضحية

لذا فمن المستحب للكبش الذي يقدّمه الإنسان للتضحية في منى أن يكون في حالة جيّدة جدّاً.. أن يكون ذا قيمته عالية, أن لا يقلّ عمره عن سنة, أن يكون قرنه جيّداً, أن يكون ذكراً, سميناً, سالماً, أن تكون عيناه سالمتين أيضاً, أن لا يكون أحول, أو أعمى, أن لا يكون ناقص البدن. وعلى الإنسان أن يُضحّي بنفسه بهذا الكبش الذي اشتراه, لأنّ الإنسان هو نفس القربان, فعلى الإنسان أن يُضحّي بنفسه واقعاً, فهذا القربان يكون حاكيا عن نفس الإنسان المضحّي. وبالإضافة إلى ذلك هناك دعاء يقرأه أثناء التضحية, ومن المحبّذ أيضاً أن يضع السكر في فم الكبش بحيث يصبح مذاق فمه حلوا وسبب ذلك هو لذّة وروعة فعل التضحية هذا! فهو ليس عملاً مرّا!
حينها وبعد أن يقوم بهذه الأفعال سيفهم الإنسان معنى {لَنْ ينالَ اللَهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها} وعندها سيصير هذا اليوم عيداً لي.
نشكر الله تعالى أن عُمّرنا عمراً... لقد كان فكرنا منصبّاً على العمل والتجارة والمكانة الشخصيّة, وكان همّنا في التفكير في فلان لماذا لم يسلّم علينا؟ ولماذا لم يثق بي في شؤونه؟ لماذا لم يعرني أهميّة في المجلس الفلاني! لماذا لم تقم السيّدة الفلانيّة بدعوتي لحضور حفل زواج ابنتها؟ فنحن تحملّنا الكثير من المتاعب من أجلها وفي النهاية لم تدعنا إليه؟ ولماذا لم يدعنا السيّد الفلاني أيضاً لعقد ابنه؟ أو لم يدعونا على عقيقة ابنه؟ لماذا لم يقرضني فلان عشرين توماناً مع أنّني أشتري دائماً من متجره؟ فكلّ أفكارنا تدور في هذه الحدود ولا تتعدّاها، فما هي أفكار من هم أكبر منّا؟! هي عين هذه ولكن في مستوى أرفع وأكبر، فبعضهم يسرق إبريق ماء مثلاً وآخر يسرق صندوقاً من الذهب والمجوهرات, وما دام المعيار هو السرقة فكلاهما في كفّة واحدة ولا فرق بينهما, فتفكيرنا لا يعدو مستوى هذه الكثرات.
وها نحن ذهبنا وحججنا, وحقّاً ماذا كانت تلك المسائل التي كنّا نعيشها؟ ماذا كانت هذه الكثرات! فكم كانت تتعبنا وتأخذ منّا! كم كانت تسبّب لنا المتاعب! كم جعلتنا نشعر بالضجر؟! كم جعلتنا مضطربين منزعجين! كم جعلتنا ضعفاء! وفي المقابل كم هو جيّد هذا المكان! كم هي ملائمة هذه الأجواء! كم هي جميلة عرفات! وكم هو لطيف المشعر! وكم هي رائقة منى! وكم هو عمل جيّد الطواف! وما أروع أن يجلس الإنسان في بيت الله ويتأمّل وينظر إلى الكعبة!
فما هي هذه الأعمال والمناسك؟ وهلّ لها حقيقة أم لا؟ وهل لها أثر وشأن وقيمة في عالم الإنسانيّة أم لا؟! نعم عندما يحجّ الإنسان يدرك أنّها أمور حقيقيّة! والخاسر هو من يهمل هذه المسائل ولا يعيرها أيّ اهتمام! كان هناك شخص يقول: لقد قضيت عمري في أوروبا وأمريكا وجامعات روسيا, وفي إحدى السنوات قال لي صديق من أصدقائي: لقد جرّبت كلّ شيء يا فلان، فلتتب إلى الله! ولتحجّ بيت الله سبحانه! وفي يوم من الأيام قال لي عندما زارني برفقة أحد أقاربنا قبل ذهابه إلى الحج فأنا لم أكن أعلم بأمره وهو بنفسه كان يخبرنا ويقول: كانت نيّتي في أول سفر ذهبت فيه إلى مكّة أن أقوم بالسياحة والتنزّه هناك! ولكنّ ـ والله هو الشاهد على قولي ـ اللذّة التي شعرت بها وحصلّتها من تلك الرحلة لا يمكن أن تدانيها لذّة في هذه الدنيا, وحتّى لا يمكن قياسها بباقي اللذّات الدنيويّة, ومن ذلك الوقت وقد حججت إلى هذا الحين أحد عشر حجّة ولا زلت مواظباً على الحجّ في كلّ عام!

    

يوم العيد يعني يوم المكافأة والقبول، والعيد الحقيقي هو عيد الغدير

جيّد فهكذا يقوم الإنسان بتحصيل حقيقته، إنّها التقوى، وعلى هذا الأساس علينا نحن المسلمين أن نتوجّه إلى هذه المسألة فنجعل حياتنا قائمة على أساس التقوى, ونفهم بأنّ العيد هو يوم المكافأة والنجاح. فعيد الأضحى هو عيد لمن يعلم بأنّ أعماله قد قبلت, كما أنّه يكون أفضل لمن يكون قد أخذ الجائزة والمكافأة الأفضل, ولمن حاز على الدرجة والعلامة الأحسن, لمن حصّل الحالة الأفضل, بالإضافة للذي صار تجرّده أقوى وأشد, فلهذا يكون العيد فيصلّي صلاة العيد ويشكر الله عزّ وجلّ على إنعامه وتفضّله عليه بهذا العيد, فالعيد ليس للأكل والشرب ولمثل هذه الأمور أصلاً, والعيد المبتني عليها ليس عيداً حقيقيّاً.
والعيد الحقيقي هو عيد الغدير؛ إذ من خلاله تعرّفنا إلى مقام الولاية, وتعرّفنا على أمير المؤمنين! فلو لم نكتسب المعرفة فماذا سيكون تكليفنا؟ فلو لم نتعرّف على أمير المؤمنين, ولم نتّبع هذا السيف, ولم نكن سائرين على نهج التشيّع والولاية, ولنفرض أنّ تمام بدننا صار مكسوّا بالألماس والحُلي, فبأيّ فائدة سيرجع علينا كلّ ذلك؟ فأمير المؤمنين وضع يده على عقولنا, وشرع يصلح عقولنا، ممّا يعني أنّه أوصلنا من سطح البهيميّة إلى ذروة الإنسانيّة, لقد أعطانا الشرف! أما المناهج الأخرى فليس لها أيّ تعاط مع عقل الإنسان, بل هي تتناول مادة الإنسان! فانظروا إلى أيّ منهج تريدون وقارنوا! لهذا فإنّ عيد الغدير هو العيد الحقيقيّ.

    

ما ينبغي على المؤمن فعله في عيد الغدير

وردفي الروايات أنّ ثواب صيام عيد الغدير يُعادل ثواب من صام ثمانين ألف سنة, بالإضافة إلى التصدّق, ورؤية الإخوان والأخلاّء المؤمنين وتهنئتهم بعيد الولاية أن هنيئا لكم؛ لقد فزتم اليوم بالولاية. وفي عيد الغير فلتشتروا ثياب العيد الجديدة لأولادكم, حتّى أنتم أنفسكم البسوا الثياب الجديدة, وارتدوا العباءات الجديدة, وضعوا حجابا جديدا على رؤوس نسائكم, وإن لم تقدروا فاشتروا شالاً من الحرير وضعوه على أكتافكم على الأقل بحيث يكون شيئاً جديداً حصّلتموه في هذا اليوم, فهذه هي السنّة!!!
انظروا الآن كم قد تخلّفنا حتى فارقنا أعياد الأضحى! والفطر! والغدير! وحلّت مكانها من أعياد النوروز الجديدة, فما هو عيد النوروز؟ ليس له أيّ أساس إسلاميّ أصلاً!!! فما هو إلا بدعة!! نلبس فيه الثياب الجديدة والجميلة, وننظف البيوت والمنازل, ونذهب للقاء والتزاور, وكلّ الفجائع التي يمكن أن تتصوّر فهي تحصل في عيد النوروز، ونحن كمسلمين كذلك نقول: نحن نذهب لزيارة الآخرين, ولكن ذهابنا ليس تأسيّا ونزولا عند سنّة زرادشت, إنّما من أجل الزيارة والإطمنان على أحوال الآخرين! جيد أيّها السيّد العزيز, فلماذا لا تذهب في اليوم التالي لعيد النوروز؟! أو لماذا لا تكون هذه السنّة موجودة في عيد الغدير! فالإسلام هو في أيّ شيء يكون إسلاماً؟ فنحن المسلمون الذين ندّعي أنّنا أصحاب مشروع وندّعي أنّنا نرعى الضوابط أفليس من المفترض أن نجعل أعمالنا على أساس متين وراسخ؟ فهذه مسألة مهمّة!
وعلى هذا الأساس, إذا جعلنا عيد الغدير عيدا لنا, وذهبنا لرؤية ولقاء الأحبّة أيضا, ولبسنا الثياب الجديدة, وقمنا بالتهنئة والتبريك لإخواننا في المجالس والمحافل, وأحيينا ذكر أمير المؤمنين وأهل البيت وفضائلهم فيما بيننا كما أحيوه سلام الله عليهم, فعند ذلك سيصبح هذا عيدا لنا! وعلى العكس من هذا, إذا ذهبنا بأنفسنا سفالاً وبقينا على هذه الإحساسات والمقولات! من أنّه إذا لم نغيّر أثاث المنزل في عيد النوروز, ولم نستأجر التلفزيون من فلان, فسيأتون إلى منزلنا ويقولون إنّ فلاناً لفقير. فيقوم بصرف مبالغ زائدة على زينة المنزل حتّى لا يذهب ماء وجهه أمام ضيوفه, فهذا المسكين لا يملك ما يحتاجه لنفسه, فمثلا هو يجلس عادة على الأرض ولا يملك شيئاً ثمّ يبذل كلّ ذلك لهذه الغاية!فهذا كلّه شقاء وانحراف عن جادّة الصواب, فالمؤمن هو من يحوز على التفكّر والتعقّل. وإن شاء الله نصل بعون الله ومنّه من مستوى الإحساسات إلى مستوى التعقّل, ونخرج من عالم رؤية وسماع واتّباع الآراء الباطلة والأفكار الساذجة إلى واقع التأمّل والتفكّر والدراية ونصل إلى حقيقة تلك الولاية.
فحقيقة الولاية تعني النقطة التي تدعو الإنسان إلى الواقع والحقيقة, بالإضافة إلى تحريره من كلّ العوارض والزوائد البالية. ونسأل الله أن يأخذ بأيدينا جميعاً ويعرّفنا ويهدينا إلى هذا المقام.

    

[الخطبة الثانية]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ‏
{إِنَّا أَعْطَيناكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ * إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}[11]

    

محور الدين ومعناه الأساسي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ


هناك فلسفةٌ خاصّة في القرآن المجيد, وكلّ دين ومذهب وفرقة لديها فلسفتها الخاصّة. والفلسفة تعني ذلك المحور الفكريّ الذي تدور حوله جميع تعاليم هذا الدّين. ومحور القرآن هو التوحيد, ودعوته قائمةٌ على أساس التوحيد, وهو على هذا الأساس يدعو إلى حفظ المجتمع ووحدته، ويحث على ارتياد كلّ الطرق التي توصل إلى الله سبحانه وتعالى وتوحيده, فهو يبيّن كلّ هذه الطرق, ويزيل جميع الموانع من طريق الإنسان, والتي تقف حائلا دون تكامله.
إنّ الانضواء تحت راية حكومة الكفر لا يتوافق بأيّ شكل ووجه مع منطق الإسلام.
لدينا في القرآن الكريم أكثر من عشرين آية تقول: أيّها المؤمنون, لا تتحابّوا مع اليهود والنصارى وأعداء الله! لا تتخذوهم رفاقا! ولا تعاشروهم! ولا تتخذوهم أولياء لكم! {لا تَتَّخِذُوا الْكافِرينَ أَوْلِياء}, {يا أَيهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُم‏ لا يأْلُونَكُمْ خَبالاً}, فطريقهم ومقصدهم يغاير طريقكم ومقصدكم، فهم يدارونكم في الظاهر ولكنهم لا يكترثون لكم عند أيّ فساد أو سوء. وذلك لأنّ هدفهم ليس سعادتكم, فهدفهم مادّي ودنيوي محض. وعليه فلن يتورّعوا عن أيّ إساءة أو إفساد في سبيل الوصول إلى مبتغاهم.

    

وجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام

هذا هو منطق القرآن, كما ورد فيه أنّ الله لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً. ممّا يعني أنّه لم يفسح المجال للكفّار ولو في الجملة ببسط نفوذهم وتسلّطهم على المسلمين! فلا يمكن أن يرى المؤمن أنّ الكافر مسلّط عليه يوماً ما. فالانضواء تحت راية الكفر لا يتوافق أبداً مع منطق الإسلام! هل تعلمون كم ضرب أمير المؤمنين بالسيف من أجل الخروج من تحت ولاية الكفر وحكومته؟ لأنّهم كانوا يقولون بأنّ على المسلمين أن يكونوا تحت ظلّ حكومتنا, ونحن لا نأذن لهم بأن يكونوا أحرارا في دينهم, وأن يكون لديهم نبيّ خاص بهم, وأن يبقوا في المدينة, ويفعلوا ما يحلوا لهم, كلاّ!! بل يجب أن يكونوا تحت ولايتنا.
وهذا الأمر يتعارض في أصله مع روح الإسلام, فجعل إنسان مسلم تحت ولاية الكفر هو مساو لإسقاط الإسلام, وعليه فكلّ ما نحصلّه في ظلّ حكومة الكفر من درجات ومراتب الإسلام هو مجاز في الواقع ولا يمّت إلى الحقيقة بصلة!كما لو هاجرتم إلى الخارج واتخذتموه وطناً لكم واخترتم العيش تحت حكوماتهم, واتخذتم لنفسكم صلاة تصلّونها. إنّ أرواحكم وأنفسكم ستكون حينها تحت ظلّ حكومة الكفر, ومن هنا فإّنّ الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام أمر واجب. فالسكن هناك غلط وإشتباه من أساسه. والذي يذهب ويستّفر في الخارج فهو يرتكب حراماً, ومهما كان غرضه فهو حرام, وإذا هاجر ليكون من مواطنيهم فالحرمة أشدّ وآكد! وعلى كلّ من كان تحت ولاية الكفر وتحت حكم قانون الكفر فعليه أن يسعى جهده حتّى يخرج من ربقة هذا القانون, ويأتي إلى دار الإسلام؛ فالهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام أمر واجب.

    

لا يمكن الجمع بين الإسلام والإيمان الواقعي والحياة في ظلّ حكومة الكفر

هناك آية صريحة في القرآن الكريم بأنّ المقيمين في دار الكفر إذا اكتفوا بإمضاء وموافقة حكومة الإسلام, فإنهم لن يستطيعوا بذلك أن يشكّلوا الحكومة الإسلاميّة, فعليهم أن يرجعوا إلى دار الإسلام لتحقيق ذلك. فإذا كنّا مقيمين في ظلّ حكومة الكفر, وكنّا نصلّي, ونصوم, ونتصدّق, ونحجّ, وكنّا متزوّجين, ونتكسّب بالتجارة أو بغيرها من الأعمال, ونقوم بكلّ هذه الأعمال ونحيي ليالي القدر ونجعل المصاحف فوق رؤوسنا، ولكن كانت راية الكفر ترفرف فوق رؤوسنا, فكلّ هذه الأعمال ستكون بلا فائدة ومعنى, وستكون مجازية بالنسبة لنا!

    

الفسق في دار الإسلام أفضل من الإيمان الظاهري في دار الكفر

فإذا كنّا تحت ظلال الحكومة الإسلاميّة, فإنّ دين الإسلام يدعونا إلى العمل المستقيم, والصلاة والصيام والحجّ الصحيح, فكلّهم يوصلونا للحقائق المطلوبة, ولكن لو فرضنا أنا لم نصلّ ولم نصم وارتكبنا ألف معصية تحت ظلّ الحكومة الإسلاميّة, فإنّ هذا سيكون أفضل من كوننا تحت حكومة الكفر مع إنجازنا كلّ هذه الأعمال هناك, فهذا البحث طويل وإنشاء الله لو كان هناك طاقة للإخوة لتحدّثنا حول هذا الموضوع حتى المغرب فنصلّي صلاة المغرب والعشاء ثمّ نستمرّ في الحديث حتّى الفجر ثمّ نتكلّم إلى ما شاء الله ولكن من المعلوم أنّا لا نقدر على ذلك، فمن الأفضل أن نقتصر على هذا المقدار.

    

إنّ العمل لإنشاء الحكومة الإسلاميّة يعادل أجر الشهادة

ونستفيد من روح وباطن الآيات القرآنيّة ومن الأخبار أنّ الإنسان عندما ينضوي تحت راية الحكومة الإسلاميّة, ويجاهد في سبيل الحكومة الإسلاميّة ويعمل لها فله أجر الشهادة, وإذا حصل أن عصى أو أخطأ فسيعفو الله عمّا بدر منه! أما إذا لم يكن كذلك! فكان محايداً وغير مبال ولم تكن هذه المسألة موضع إهتمام له ويصلّي مع ذلك, ويحمل كتاب فاتيح الجنان تحت إبطه حتّى يتمزّق فسيكون كعبد الله بن عمر الذي كان من متزمّتي المدينة بعد رسول الله ولكن لم يرجع عليه ذلك بأيّة فائدة. فالمسألة تكون من هذا القبيل! فكيف يمكن للمسلم أن يكون محايداً؟! إنّ الحياة الإسلاميّة مرتبطة بالحكومة الإسلاميّة, فكيف يمكن للإنسان أن يكون محايداً, فمسألة الحياد ماذا تعني؟

    

الحياد بين الحق والباطل مخالف لروح الدّين الإسلاميّ

فنحن في يوم عيد الفطر ومن خلال الخطب التي ألقيناها قمنا ببحث هذا الموضوع مفصّلا, ولن نعود اليوم إلى طرح هذا الموضوع, ولكنّ كلامنا سينصب على موضوع الحياد هذا, وكنت أحب أن أبيّن أنّ الحياد هو عمل خاطىء! وما السبب في ذلك؟ لماذا هو عمل خاطىء؟ وماذا يعني الحياد؟ يعني أنّه هناك من هو على حق والآخر على الباطل! فهكذا يجلس الإنسان ويقول لا إلى هذا ولا إلى ذاك, اتركوا الأمر ولنجد خياراً آخر, دعوهم حتّى يوقفهم التعب, اللهم اشغل الظالمين بالظالمين و اجعلنا بينهم سالمين غانمين, فهذه الكلمات والأوصاف خطأ وغلط, وسالمين غانمين ماذا تعني؟ فهذا ناشىء من عدم الرؤية وعمى البصر فما يعني هذا؟ هذا ناشىء من عدم التربّي بالتربية الإسلاميّة.

    

مساعدة المؤمن المظلوم في أيّ مكان في الدنيا واجبة على بقيّة المؤمنين

إنّ التربية الإسلاميّة تقول أنّ الإنسان إذا كان في مكان معيّن من هذه الدنيا, وفي مكان آخر كان هناك مسلم مُحاط بالقهر والمظلوميّة, وكان يستنجد ويقول أيّها المسلمون أنقذوني, فهذا الإنسان المتمّكن من أن يذهب من مكانه إلى مكان هذا المسلم ولم يقم بذلك, فجزاؤه من الله تعالى لن يكون سوى نار جهنّم!! فكم لدينا من هذه الروايات؟ أنتم قولوا كم ليس لدينا! فكتبنا لا تساوي شيئا بلا هذه الروايات فانظروا إلى أي كتاب من الكتب التي تُطالعونها من الكافي ومن لا يحضره الفقيه ومحاسن البرقي وكتب الشيخ الصدوق كم هي مليئة وطافحة بهذه الروايات, فمباني ديننا قائمة على هذه المسألة! كما أنّه لا احتياط لمباني ديننا في مثل هذه الروايات!

    

الجنّة تحت ظلال السيوف

فلسان حال الإنسان يقول أنا لا أذهب إلى القتال حتّى لا تُصاب يدي بأي أذى, كذلك عند إقامة الصلاة فكيف أحضر الماء للتوضوء أم كيف أتيمّم, ففي مورد عدم لزوم الجبيرة أقوم بوضع الجبيرة و.... ومن الأساس الأفضل لنا أن لا ندخل في هذه المسائل حتّى لا نصير عرضة للابتلاء, حسنا جيّد جدّا مبارك لكم تفضلّوا! فالنبي كان يصيح تعال! فيجيبه أنا لا أقدر على المجيء! حسنا جيّد إجلس في مكانك عزيزي! ولكن لكلّ شيء حسابه الخاص, والله وهب العقل للإنسان وعلى الإنسان أن يستفيد منه لا أن يجعله تحت قدمه ولا يفكّر بأيّ شيء؟ والنتيجة ستكون لصالح الإنسان، فالله سبحانه وتعالى جعل السعادة جزاء للضرب بالسيف.
إن الجنة تحت ظلال السيوف, فالجنة هي في ذلك الموضع الذي تلقي الشمس باشعتها وتجعل السيف ظلالاً لها في صفوف الأعداء, وهي في الموضع الذي تجد فيه السيوف طريقها إلى رقاب المشركين والكفّار, فالجنّة محلّها هناك. فما دمنا قوماً نعتقد بأنّ الجنّة تحت ظلال السيوف, فعندما نرى أنّ السيوف قد جرّدت في أيدينا نُدرك حينها أنّنا من أهل الجنّة, ولكن عندما لا تكون سيوفنا مجرّدة في أيدينا نُدرك أنّنا لسنا من أهل الجنّة! أما أن نكون من المتزمّتين الذين لا يسألون سوى عن تعلّم المسائل الشرعيّة ودائماً يسألون عن الشكّ بين الركعة الثالثة والرابعة وشروط الصلاة ومقدّماتها وأمثال ذلك, فهذا له أهميته وله مكانته, ولكن لا أن يُأخذ بطرف ويُترك الآخر, فهذه المسألة من المسائل المهمّة!

    

الخوف من القتال كان السبب في تغيير عاقبة حسّان بن ثابت الانصاري

كان حسانّ بن ثابت من الشعراء المعروفين في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله, وكان يُنشد أشعاراً جميلة, وكان النبيّ يدعو له دائماً بالتأييد لا زلت مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك! فالقيد كان ما نصرتنا بلسانك، ولكن رأينا لاحقا أنّه تراجع عمّا كان عليه. وشاهدنا الآن أنّه كان رجلا جباناً، كان عمره 94 سنة، وكان عيبه أنّه إنسان جبان, ففي معركة الخندق حينما خرج النبي والمسلمون, إلى الصحراء وبدأوا بحفر الخندق لم يخرج حسان أصلا, جيّد, كان يخاف، فإلى الآن لم تبدأ المعركة والقتال وما زالوا مشغولين بحفر الخندق, حتّى إلى هذا لم يأت.
فكان رسول الله مع جميع المسلمين حتّى كبار السنّ منهم منهمكين في العمل, بينما كان هو في المدينة, ثمّ هرب منها إلى قلعة وبقي هناك وحيداً بين النساء والأطفال لأنّ كتيبة من المشركين وصلت إلى المدينة, ومن المحتمل أن يُغيروا عليها, وهنا من يكون الشاهد على ذلك؟ تقول صفيّة التي كانت أخت عبد المطلّب وعمّة النبيّ: لقد رأيت رجلا يهوديّاً جاء وحيداً ودار حول الحصن الذي نحن فيه, فكان يتجوّل حول القلعة ولم يكن هناك غير النساء والأطفال, فجئت إلى حسّان وقلت له: يا حسّان إنّ علاقة النبيّ ببني قريظة مضطربة جدّا, وبني قريظة أعداؤنا والآن ذهب النبي مع المسلمين للدفاع عن الإسلام, وأنا لست مطمئنّة من أمر هذا اليهودي الذي أتى إلى هنا وتفحّص المكان, فالآن من الممكن أن يذهب إلى اليهود ويخبرهم بأمرنا فيأتوا ويغيروا علينا ويقتلوننا جميع. فانهض واقتله! فقال لها بعدما أمعن النظر قليلا: يغفرالله لكِ يا بنت عبد المطلب ما لي بالشجاعة؟
تقول صفيّة: قمت وتقنعّت وأخذت عموداً بيدي, وذهبت خارج القلعة وقتلت اليهودي, بعد ذلك ذهبتُ إلى الأعلى وقلت لحسّان بأنّي قد قتلت الرجل فاذهب واسلبه ثيابه وممتلكاته, لأنّه كان عندهم أنّ المقتول يجب أن يُسلب على يدي قاتله, وبما أنّ المقتول رجل قامت صفيّة عندها ولجأت لحسّان, فقالت له أنا لا أريد أن أتعرض للرجل بعد ذلك, فاذهب واسلبه, فأجابها حسّان: يغفر الله لكِ يا بنت عبد المطلب ما لي بالسلب حاجة! فماذا كانت النتيجة أيها السادّة؟ فنتيجة هذا النوع من التفكير أنّه لم يقتل ذاك الرجل اليهودي, ولم يقم لسلبه, وبقي جالسا مستريحا, فكانت العاقبة أنّ المشركين جاؤوا وتغلّبوا عليهم وسيطروا على القلعة, وقاموا بقطع رؤوس كلّ أفراد عائلة حسّان من النساء والأطفال أمام ناظريه, وفي النهاية احتزّوا رأسه.

امر طبيعت است كه بايد شود ضعيف
                             هر ملتی که راحت و عيش خو کند


(يقول: إنه لقانون من قوانين الطبيعة أن يكون ضعيفاً كلّ شعب يأنس بالراحة والعيش)

    

الغرور والأنانيّة كانا المانع لسعد بن أبي وقّاص من بيعة أمير المؤمنين

كان سعد بن أبي وقّاص واحدا من شجعان عصره, وكان قائد الرماة في جيش رسول الله صلّى الله عليه وآله, والمعارك التي كان يقودها كانت ناجحة ورابحة للغاية, جيّد جدّاً ويعدّه السنّة من العشرة المبشّرين بالجنّة, ولكنّه لم يبايع أمير المؤمنين بعد وفاة رسول الله, حتّى بعدما قتلوا عثمان, وقام كلّ المهاجرين والأنصار ببيعة أمير المؤمنين, فسعد عندها أيضا لم يبايع وكان من المتخلفين عن البيعة, فهل تعرفون لماذا لم يبايع؟ لأنّه كان سعداً! فسعد لم يتمكّن من بيعة أمير المؤمنين, فكان يرى أن موقعه وشخصيته من نفس رتبة ودرجة عليّ عليه السلام, وكان يقول لا أستطيع أن أنضوي تحت سلطة عليّ عليه السلام. فمثله كمثل طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف, مثله كمثل عمر وأبي بكر الذين لم يبايعوا.
فهؤلاء لم يكونوا حائزين على مكارم الأخلاق وتلك الدرجات الرفيعة ولم يكن عندهم الولاية! فلم يكونوا من العرفاء! يقولون نحن من كبار القوم وزعمائهم. علي رجل ونحن رجال! فلماذا ننضوي تحت سقفه وسلطته؟ فمحلّ الكلام هنا! فسعد يقول أنا أحد القادة ويتوجب عليّ أن أُحافظ على منصبي هذا، فلماذا أصبح من الرعيّة! فيحاسب نفسه على أساس هذا المعيار, فحتّى لو كان هذا الرجل من المهتمّين بظواهر العبادات أو مصليّا, ولكن لم يقبل بالانضواء تحت أقدام عليّ عليه السلام فكلّ هذا لن يُفضي إلى شيء! لماذا لا تبايع؟ يجيب: لا يوجد عندي سبب لعدم البيعة! فيظن أنّه إذا لم يبايع عليا و لم يقف جنب معاوية وسحب نفسه جانباً وأمضى عمره الباقي وحيداً سيكون ذلك مدعاة للراحة له، كلا!!! فهذا لن يكون له! بل سيبتلى في الدنيا بما هو أسوأ من جميع هذه المحاكمات!

    

تحلّي أمير المؤمنين بثلاث خصال ، منع سعد بن أبي وقّاص عن سبّه

بعد استشهاد أمير المؤمنين، جاء نفس سعد بن أبي وقّاص هذا إلى معاوية، ومعاوية كان رجلاً شيطانيّة، وكان داهية، وكان من المفكّرين الذي يتمتّعون بقوّة واهمة جيّدة، وواقعاً كان يداً من أيادي الشيطان، حضر سعدٌ عنده ، فقال له معاوية: يا سعد، لِمَ لا تسبُبُّ عليّاً؟! ألم تعلم أنّي أمرت الناس جميعاً بسبّ عليّ، فلمَ لا تفعل؟! (ذلك الرجل الذي أنِف عن بيعة أمير المؤمنين في الماضي، صار اليوم مجبوراً أن يأتي ويجلس بمحضر معاوية، فهو في نهاية المطاف الحاكم، والأموال والحقوق كلّها بيد معاوية؛ لذا ينبغي عليه أن يأتي وأن يقبّل الأعتاب مع كامل الأدب كي تتيسّر معيشته. فحتّى لو كان هو «سعد»، مع ذلك ينبغي عليه أن يأتي، وسيقوم هذا الجبّار بمحاكمته). لماذا لا تسبُّ عليّاً؟! قال: يا معاوية إنّي أعرف لعليٍّ ثلاث فضائل، أقسم بالله لو كانت لي واحدةٌ منها لكان ذلك أحبّ عندي ممّا طلعت عليه الشمس. قال : و ما هي تلك الفضائل؟ قال :
الفضيلة الأولى: تزويجه بفاطمة؛ لأنّ فاطمة هي نور عيني النبيّ وهي خير النساء، والرسول زوّج سرّه ومكنونه من عليّ بن أبي طالب، ومنها حباه الله بأولادٍ لا مثيل لهم، فالحسن والحسين أبناء رسول الله، وهذه الفضيلة مختصّة بعليٍّ بن أبي طالب فقط، كما أنّ عليّاً صار بسبب هذا الزواج واحداً من أهل بيت رسول الله [صلى الله عليه وآله] ولذا فعليٌّ مشمول بالآيات التي نزلت في أهل البيت لأنّه واحدٌ منهم.
الفضيلة الثانية: أنّه في واقعة خيبر، عندما أعطى رسول الله الراية لأبي بكر لكي يفتحها مع المسلمين، ذهب وعاد منهزماً. ثمّ في اليوم التالي أعطى الراية لعمر، فذهب مع المسلمين وعاد منهزماً ولمّا رجعوا ليلاً قيل لرسول الله بأنّ عمر قد هُزم وقد عاد، حينها قال رسول الله : «لأعطينّ غداً الراية رجلاً يحبُّ الله ورسولَهُ ويحبُّه الله ورسولُه، كرّار ليس بفرّار، يفتح الله على يديه». وكنّا جميعاً نرتقب: لمن سيعطي العلم غداً؟ فنحن لم نحتمل أن يكون عليّاً؛ لأنّه كان أرمداً يرقد في الفراش ولم يكن قادراً على فتح عينيه حتّى لذا قال الصحابة: من سيختار رسول الله غداً لأجل هذه الحرب؟ عند الصباح قال رسول الله: >علي!<، قالوا : يا رسول الله! إنّه طريح الفراش، ولشدّة الألم في عينه لا يستطيع أن يفتحها حتّى! فقال لهم: أحضوره إليّ إذاً! فأتوا بعليٍّ إلى الرسول، فتفل النبيّ ومسح عينيه بريقه، وقال له: هيا انهض واذهب إليهم! فذهب عليٌّ وفتح خيبر. وهذه الفضيلة لعليٍّ وحده وليست لأحد غيره.
يذكر العلامة الحلّي في «منهاج اليقين» عشر فضائل لعليّ بن أبي طالب عليه السلام وهذه واحدة من هذه الفضائل.. يذكر عشر فضائل مختصّة بعلي بن أبي طالب لا يشاركه فيها أحد من الأصحاب ولا حتّى بخطوة واحدة.
الفضيلة الثالثة: هي أنّ الرسول قال فيه : «يا عليّ أنتَ منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي» إنّ علياً كان حاضراً في كلّ الغزوات مع النبيّ إلاّ في غزوةٍ واحدة هي غزوة تبوك حيث لم يأخذه النبيّ معه وقال له: عليك البقاء في «المدينة»! أنت الولّي والمسؤول عن الأمور في «المدينة» طوال المدّة التي أغيب فيها حتّى أرجع، ثمّ بعد أن خرج الرسول خارج المدينة، وعندما صار في «الجوف» التي تبعد مسافة فرسخ عنها, بدأ المنافقون من هنا وهناك يُشيعون بأنّ النبيّ غاضبٌ علي عليٍّ، وبأنّ النبي أخذ الشجعان من المسلمين معه فقط ولذا تركه في المدينة. فقال المنافقون له: إنّما أخذ الشجعان معه وتركك هنا على النساء والأطفال، وجعلك حارساً لمنازل أهل المدينة. عندها ذهب أمير المؤمنين عليه السلام إلى «الجوف» وقال لرسول الله: يا رسول الله! هل رأيت منّي سوءاً لكيّ تتركني هاهنا ولا تصحبني معك في هذه الغزوة؟ فقال النبي: لا والله «يا عليّ أنتَ منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي» فمنزلتك هي منزلة موسى لكن من دون النبوّة، والفرق الوحيد بينكما أنّ هارون كان نبيّاً بعد موسى، أمّا أنت فليس لك مقام النبوّة، لكنّك مثلي من كلّ النواحي، والمدينة الآن ـ في هذه الظروف ـ لا تصلح إلاّ بك أو بي ـ وقد روى هذه الرواية كبار أهل السنّة ـ .. إرجع إلى المدينة!
وكان وضع المنافقين في المدينة بحيث إمّا يبقى فيها النبيّ أو عليّ وإلاّ أثاروا فيها الفوضى؛ وذلك بالاستعانة بالأجانب الذين لهم بهم علاقة كقيصر الروم، بل إنّ نفس هذه الغزوة إنّما كانت موجّهة ضد الرومان؛ ولذا ترك رسول الله صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين فيها لأنّه بمنزلة نفسه وكذلك لأنّ رسول الله كان يعلم بأنّه لن يسقط في هذه المعركة قطرة دمٍ واحدة. (ففي غزوة تبوك لم تسقط الدماء) ولهذا لم يكن هناك من حاجة إلى شجاعة أمير المؤمنين؛ ولذا لم يأخذه معه بل أبقاه في المدينة لأنّه يمثّل نفسه. «يا عليّ أنتَ منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي» .. هذه هي الفضائل الثلاث التي منعتني من سبّ عليّ .
فقال معاوية : أنتَ سمعت هذه الكلمات من النبي؟!! قال: بلى! و بعد أن تحدّث سعد بهذا الحديث، تضايق معاوية أشدّ الضيق، فأراد سعد أن يخرج من مجلس معاوية.
إن سعد كان صاحب شخصيّة؛ فمعاوية يقول له: لماذا لا تسبّ علياً من أجلي؟! فأجابه بذكر هذه القضيّة له واستأذن بالخروج، وقد ورد في تاريخ ابن الأثير ـ الذي يعدّ من كبار أهل السنّة ـ بأنّه: ضرط له معاوية وقال: اقعد حتّى تسمع جوابك، فجلس سعد، فقال معاوية: «والله ما كنت عندي قط ألعنَ منك مثل الآن» فأنت سمعت هذا الكلام من الرسول، لماذا لم تساعد عليّاً إذاً؟!! ( هل التفتّم ؟!! ) لماذا لم تساعده؟ والله لو سمعته من رسول الله لكنت خادماً لعلي (هو يكذب الآن بكلامه ها لكنّه يريد أن يحتجّ بذلك على سعد!!) يقول: أنا أُنكر أن الرسول قال ذلك، وأنا لم أسمعه من الرسول، لكن أنت تدّعي أنّك لا تسبّ عليّاً لأنّك سمعت هذا الكلام من الرسول، ولأنّ عليّ هو الوليّ، وأنا أقول لك: بنفس هذا الدليل الذي ذكرته لماذا لم تقف مع عليّ: هلاّ نصرته؟!
فقال سعد: «إنّي رأيت ريحاً سوداء مظلمة فقلت: إخ .. إخ.. ، فأنخت راحلتي حتّى انجلت عني ثم عرفت الطريق فسرت» وذلك كناية عن حصول حرب الجمل وصِفّين والنهروان، وأنّ الفوضى كانت تعمّها، فلم أُرد أن أشارك في هذه الحروب، فهي كانت فتنة، وكانت امتحاناً فلم أرد الاشتراك فيها، ولذا أنخت راحلتي، وعندما انتهت هذه الحروب أكملت طريقي.
فقال له معاوية: «ليس في كتاب الله « إخ إخ » ! و لكن قال الله تعالى: {وَ إِنْ طائِفَتانِ من الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‏ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمْرِ الله } فقل لي: مع أيّ الطائفتين أنت ؟ أكنت مع العادلة على الباغية؟! أم كنت مع الباغية على العادلة؟!» فلم يستطع سعد أن يجيب معاوية، ثمّ قال سعد لمعاوية: أنا أحقّ منك بالمكان الذي تجلس عليه ! فأجابه معاوية بمَثَلٍ مضمونه: إنّك لا تصلح لهذا الأمر! بل إنّ قومك وعشيرتك لا تقبل برئاستك! لذا لا تفكّر في الأمر ولا تمنّي نفسك به.
والآن تفضّل يا جناب «سعد» : أنت الذي جلست جانباً في هذه الحروب التي نزلت على كاهل أمير المؤمنين عليه السلام، وانحزت جانباً في هذه القضايا التي وقعت على أمير المؤمنين، لو أنّك أتيت ووقفت مع أمير المؤمنين، ألم يكن في ذلك قوّة لجيشه؟! لقد استشهد بين يدي أمير المؤمنين في هذه الحروب الثلاث أكابر المهاجرين والأنصار، أكابر المسلمين استشهدوا أمثال: أويس القرني، وأمثال: عمّار بن ياسر، فكم هو عجيب أمرك!! لو أنّك أتيت أيضاً ألم يكن ليزيد ذلك من قوّة جيشه عليه السلام؟! ألن تضيف شيئاً إلى قوّة الجيش؟! ألست أنت الذي فتحت إيران! وأنت الذي كنت قائداً على الرماة ؟!! لو أنّك أتيت لكنت الآن قائداً على الرماة في جيش أمير المؤمنين، ألم يكن باستطاعتك أن تحمل بعض الأحمال عنه؟! وهل كان الحال ليبقى على ما هو عليه الآن لو أنّك كنت موجوداً؟! لا أبداً ! فلربّما لو أنّك كنت موجوداً، لما حصل ذلك، ولربّما لما هُزم عليّ؟! ولربّما لم يكن ليوجد الحَكَمان ! ولما كانت ألاعيب معاوية لتنطوي على الناس!

    

ظهور الحكومات الظالمة كحكومة بني أميّة وبني العباس كان نتيجة للاحتياط في الموضع الخاطئ وعدم المبالات بشؤون المسلمين

إذاً في بعض الأحيان لا ينبغي على الإنسان أن يقول: أنا سأجلس جانباً ولا شأن لي بالأمر، لأنّ الجلوس جانباً في بعض الأحيان له تبعاتٌ سيّئةٌ، ويؤدّي إلى الهزيمة والانكسار! يعني: في بعض الأحيان «الاحتياط يكون خلاف الاحتياط» بحيث تصبح دماء المسلمين والشيعة مباحةً لهم. فنفس هؤلاء الشيعة الذين كانوا في الكوفة، حيث كان أمير المؤمنين يصيح فيهم: هيا هبّوا وقاتلوا، دافعوا عن أنفسكم.. هم أنفسهم صاروا بعد ذلك أذلاّء بحيث قُتل جميع رؤساء عشائرهم وأكابرهم! وكانوا يَتبعونهم إلى منازلهم باباً فباب، وصاروا يرصفونهم كالحجارة مع كونهم أحياء ويبنون القصور من أجسادهم، بل إنّ الأمر وصل إلى الحدّ الذي صار الرجل الذي يُتّهم بأنّه من شيعة عليّ يصبح دمه حلال.. لا الذي يتيقّنون بتشيّعه بل تكفي التهمة !! يعني: لم يكن باستطاعة أحدٍ أن يقول: أنا شيعيّ؛ لأنّه بمجرّد أن يقول ذلك، صار دمه حلالاً ما هو السبب في حصول ذلك؟ سببه الاحتياط في المقام الذي لا ينبغي الاحتياط فيه !! فالحذر والاحتياط في موطن الحذر جيّد، أمّا في غير موطنه غلط وخطأ.
[مثلاً:] نحن نريد أن نأتي بماء طاهر لكي نتوضّأ به، فنبحث عن ذلك الماء الطاهر ونبحث إلى أن تصبح صلاتنا قضاءً !! أيّها العزيز: لا ينبغي أن تبحث عن الماء الطاهر إلى ذلك الحدّ، بل يكفي أن تتوضّأ بذلك الماء الذي قيل عنه ظاهراً بأنّه طاهر.. توضأ ولا تجعل صلاتك قضاءً.
يقولون: هذه الحكومة لا تصلح، وينبغي أن تكون كحكومة صاحب العصر والزمان، فحكومة إمام الزمان تتصف بكذا وكذا، وعدلها على هذا النحو أو ذاك، و ... !
بلى، هذا صحيح، فتلك هي حقيقة الحكومة، ولكن هل يأمر إمام الزمان الإنسان أن يتّبع كلّ نوع من أنواع الجنايات وأن يسير تحت ظلّ الكفر، وأنا لا يدافع الإنسان عن حقّه؟ هذا الأمر مخالف لحكومة إمام الزمان !هذا العمل ليس من الحذر والاحتياط في شيء، بل هو ضدّ الاحتياط نعم ، عندما تكون الحكومة في يد المسلمين فليعملوا تحت ظلّها كلّ عمل أرادوا، ولكن عندما تكون الحكومة على مقربة من الهزيمة والانكسار تجدهم يريدون أن يحتاطوا فهذا العمل كله خطأ، وليس هذا هو مورد الاحتياط هذه المسألة مسألةٌ مهمة للغاية؛ لأنّ الأمر حينها سيوصلنا إلى حكومة بني أميّة وبني العبّاس وإلى المنصور وإلى هارون والمأمون والمتوكّل، وهؤلاء سيقومون بأعمال لا يمكن لنا حتّى وصفها! فكم مرّة قام المتوكّل بإجراء الماء على قبر سيّد الشهداء لكي تندرس معالمه!! فقد خرّب القبر بأكمله! ثمّ قام الشيعة ببنائه، فعاد وخرّبه أخرى! ثمّ خرّبه مرّة أخرى ! ثمّ خرّبه مرّة أخرى، خرّبه العديد من المرّات! ثمّ أمر بأن يجرى الماء على القبر وأن يزرع ومنع أحداً من الزيارة !
أنشد أحد الشعراء ـ واسمه أبو شمط ـ للمتوكّل عدّة أبيات من الشعر، وشعره كان شعراً بسيطاً، وقد أنشده في رفض الرافضيّة ورفض أهل البيت، ومفاد تلك الأشعار كان كالتالي: أنتم يا بني العبّاس الوارثون لحكومة النبيّ، والحمد لله أنّ حكومة النبيّ بيدكم، والحكومة إنّما وصلت إلى أصحابها الحقيقيّين فأنتم ورثة النبيّ، ومن هم هؤلاء الذين يقولون: نحن ورثة النبيّ، فهو لم يكن له إلاّ ابنة واحدة والإمامة لا تصل إلى البنت، والإرث لا يصل إلى الصهر، والنبي لم يكن له من ولد؛ ولذا فأنتم أولياء النبيّ وهذه الحكومة لكم، فافعلوا ما شئتم، وليس لغيركم من المدّعين حتّى «القُلامة» (عندما يبرى القلم يطلق على تلك القشور المبريّة «قُلامة») ، وليس لهم سوى الندم، فاتركوهم يحترقوا وقِفوا متفرّجين عليهم.
قال هذه القصيدة ضد أهل البيت، وقد وردنا في كتاب «الكامل في التاريخ» لابن الأثير: أنّ المتوكّل أعطى هذا الشخص ولاية اليمامة واليمن في نفس ذلك المجلس، وخلع عليه أربع خلع، كما أنّ ابنه المنتصر خلع عليه كذلك خلعةً، وأمطروا على رأسه ثلاث آلاف دينار في نفس ذلك المجلس!!
ولكن مِن أين أتت تلك الثلاثة آلاف دينار؟ جُمعت بسبب ذلك السكوت والاحتياط، فلقد صبّوا ثلاثة آلاف دينار على رأس شاعرٍ هجا الرافضة، ثمّ أمر المتوكّل بعد ذلك بأن لا يَجمع تلك الثلاثة آلاف دينار أحدٌ، فقام المنتصر و«سعد» وهو أحد المقرّبين من المتوكّل فجمعوها وأعطوها لذلك الشاعر جميعاً، نعم إنّ أفضل الأشخاص هو ابن السلطان، وهو الذي قام بجمع تلك الدنانير، وهو الذي أعطاها له: ثلاثة آلاف دينار!! عندها شرب حضرة المتوكّل الخمر وثمل، ويذكر حاجبه أنّه في ليلة من الليالي كان له فيها حاجة عنده، فجاء إلى سعد، فقال له أن يأتي ويتكلّم مع المتوكّل، [فلمّا أتى رآى أنّه] كان هناك بعض الجواري يغنّين له ويقرأن عليه الشعر من الهجاء و كذا وكذا ... وفي يوم من الأيام ، ذكر المنتصر نفسه وهو ابن المتوكّل: أتيت إلى البلاط فرأيتهن يغنّين، وكان عبادة المخنّث (وهو رجل قبيح العمل) جالساً في بلاط المتوكّل، وكان يضع وسادة كبيرة تحت لباسه، وكان لباسه فوق الوسادة، وكان يربط وشاحاً على خصره، وكان قد حلق شعره كالأصلع (وذلك لأنّ بطن أمير المؤمنين عليه السلام كانت كبيرة، وكان رأسه أصلعاً، فلم يكن له شَعر، فأراد أن يجعل شكله شبيهاً بأمير المؤمنين) وكان يقرأ أشعاراً فيها هجاء لأمير المؤمنين، وكان الجميع يردّد معه ويهجو معه. (في مجلس خليفة رسول الله، فالمتوكّل كان له عنوان خليفة المسلمين، كانوا يهجون أمير المؤمنين). يقول المنتصر: تضايقت حينها جداً، فصرخت بوجهه: أن اسكت ! فسكت ذلك المهرّج (عبادة). فقال المتوكّل: لم سكتّ أكمل ما كنت تصنع! فالتفتُّ إلى أبي وقلت: يا أمير المؤمنين، في نهاية المطاف هم من مشائخك، وهم من أبناء عمومتك، ومهما أردت أن تأكل من لحومهم فكل، لكن لا تجعل لحومهم في فم الكلاب تلوكها أيضاً! يعني: يمكن لك أنت أن تقول ما تشاء بحقّ عليّ لكن لا تجعل الآخرين يقولوا ذلك، إنّ اسم علي يقع بين أكابر بني هاشم، وأنت الآن من أكابر بني العبّاس، وبالنتيجة هو من قومك ومن عشيرتك! فما هي هذه الحالة التي أنت عليها الآن؟! لماذا جعلت لحومهم في فم الكلاب تلوكها؟!
يقول المنتصر: سمع المتوكّل كلّ شيء، ثمّ التفت إلى المغنيّات وأمرهنّ أن يقلن جميعاً:

غار الفتى على ابن عمّه
                             رأس الفتى في حرّ أمه


فغنّى الجميع تلك الأشعار وصفّقوا للمنتصر. كلّ ذلك لأنّ ابن السلطان أراد أن يدافع عن أمير المؤمنين في هذا المجلس ! وكان هذا أحد الأسباب التي دعت المنتصر لأن يقتل المتوكّل، ولكن بالطبع كان هناك العديد من المسائل الأخرى، وفي النهاية أمر بعض الغلمان الترك، فذهبوا في منتصف الليل وقطّعوا المتوكّل إلى أشلاء قطعةً قطعة.
حسناً، الآن لو أنّ إنساناً قال لجناب المتوكّل: لقد صببت على رأس «أبي شمط» ثلاثة آلاف دينار، لكن لمن هذه الثلاثة آلاف كانت؟ مال أيّ المسلمين كانت؟! هل كان أمير المؤمنين ليفعل عملاً كهذا العمل؟! لا لم يكن أمير المؤمنين يفعل ذلك! .. ثمّ مِن أين أتيت بهذه الحكومة التي بيدك؟! أليس هذا المال هو مال القرآن؟! الآن وضعت الله والنبيّ والمعاد جانباً، وصارت لك هذه الرئاسة الظاهريّة، ألم تصبح السلطان؟ أليس كذلك؟ لكن ألم تقم هذه الحكومة بسيف أمير المؤمنين لوحده؟! فلو أنّ أمير المؤمنين لم يُقاتل في معركة بدر و حنين و الأحزاب، هل كانت لتصل إليك هذه الحكومة؟! حسناً استوليت عليها، لا بأس، ولكن لماذا تستهزئ؟ ولماذا تتغنّى في المجلس بهجاء أمير المؤمنين؟ هذه المسائل لا تبقى خفيّة، {وَ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرصَادِ} إنّ المسلم هو الذي يحافظ على خطواته؛ لا يزيد في شيء! فلا يسرع ! ولا يبطئ! فالمشي البطيء يجعل الإنسان يتخلّف عن الركب، وكذلك المشي السريع يُتعب الإنسان، ويجعله يخرج عن الطريق السوي، و «خير شيعتنا النمط الأوسط»، ولذا السرعة خطأ و البطء خطأ، أمّا أصحاب أمير المؤمنين فهم النمط الأوسط.
كان مالك الأشتر، وأصبغ بن نباتة يقولون: لقد كانت حالنا مع أمير المؤمنين هكذا، بحيث كنّا نجلس مع بعضنا البعض، ونتكلّم ونمزح، وكان عليّ يجلس بيننا، ولم يكن ليُعرف؛ فهو كان واحداً منّا! لكن عند طاعة أوامره كنّا نطيعه كمن يقف فوق رأسه الجلاد حاملاً سيفه واضعاً إياه فوق أعناقنا ويريد أن يهوي به علينا. كنّا مطيعين إلى هذا الحدّ، ولم نتخطّى أوامره قيد أنملة، وهذا هو معنى الولاية وهو معنى التشيّع. لم تكن شخصيّة أمير المؤمنين على النحو الذي يضع على رأسه تاجاً، أو يجلس على العرش، بل كان كعامة الشعب، لكن الأمر هو أمر الله، وينبغي أن يطبّق، (التفتوا جيّداً!!) نسأل الله في هذا اليوم الذي هو يوم عيد الأضحى أن يجعل فائدتنا فائدة كافية، وأن يجعلنا من هؤلاء الشيعة الوسط، فلا نسير بسرعة ولا ببطء، وأن لا نقوم بالاحتياط في الموطن الخاطئ، وأن يحفظ لنا عقولنا وأجسامنا وأنفسنا.


[1] ـ نهج البلاغة.

[2] ـ سورةالحج الآية 37.

[3] ـ سورة الطارق الآية 13 و 14.

[4] ـ سورة فاطر الآية 10.

[5] ـ سورة الحديد الآية 20.

[6] ـ سورة الحديد، الآية: 20 .

[7] ـ سورة النحل الآية 96.

[8] ـ يتحدّث المرحوم العلامة رضوان الله عليه عن المجتمع الإيراني الذي تستخدم كلمة العيد فيه عندما تطلق ولا تقيّد بقيد كالفطر أو الغدير أو الأضحى على عيد النوروز تبعاً للتقاليد الموروثة فيه. (م)

[9] ـ ذكروا في علم المنطق في تعريف الإنسان أنّه حيوانٌ ناطق، فـ «حيوان» جنسه، و «ناطق» فصله، ولذا فالذي يميّز الإنسان عن سائر الحيوانات أنّه ناطق، وكلمة ناطق تعني «عاقل»، فالذي يميّزه إذن هو العقل. (م)

[10] ـ بين جبال خشنة ، ورمال دمثة، وعيون وشلة، وقرى منقطعة. لا يزكو بها خف، ولا حافر ولا ظلف. ثم أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، وغاية لملقى رحالهم. تهوي إليه ثمار الافئدة من مفاوز قفار سحيقة ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتى يهزوا مناكبهم ذللا يهلون لله حوله. ويرملون على أقدامهم شعثا غبرا له. قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم، وشوهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم، إبتلاء عظيما وامتحانا شديدا واختبارا مبينا . وتمحيصا بليغا جعله الله سببا لرحمته ، ووصلة إلى جنته . ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وأنهار ، وسهل وقرار، جم الاشجار، داني الثمار، ملتف البنا، متصل القرى، بين برة سمراء، وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة، ورياض ناضرة، وطرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء. ولو كان الاساس المحمول عليها، والاحجار المرفوع بها بين زمردة خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء لخفف ذلك مسارعة الشك في الصدور ، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب ، ولنفى معتلج الريب من الناس، ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره إخراجا للتكبر من قلوبهم، وإسكانا للتذلل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله، وأسبابا ذللا لعفوه...

[11] ـ سورة الكوثر.

      
  
الفهرس
  خطبتا العيد
  الخطبة الأولى
  فلسفة الأضحيّة هي كسب التقوى
  القرآن كتاب إحكام وإتقان
  لكلّ عمل ظاهر وروح، يبقى ظاهره في هذه الدنيا، بينما تدوم روحه وتستمر مع الإنسان
  قيمة العمل في باطنه وروحه الذي يوجده لا في ظاهره
  عيد النوروز ليس عيداً إسلاميّاً بل بدعة وانحراف
  صلاة العيد هي شكر لله تعالى على منّه وترحّمه علينا في هذا اليوم
  على الجميع في الحجّ أن يتركوا كافة تعلّقاتهم
  الحجّ يُوجد حالة من التجرّد عند الإنسان بغير اختيار منه
  بيان الإمام عليّ عليه السلام لسبب جعل الله سبحانه البيت الحرام في أرض غير ذي زرع
  في عرفات لا يشكّ أحد في غفران الذنوب إلا الشقي
  معنى التضحية في الحجّ
  شرائط كبش التضحية
  يوم العيد يعني يوم المكافأة والقبول, والعيد الحقيقي هو عيد الغدير
  ما ينبغي على المؤمن فعله في عيد الغدير
  الخطبة الثانية
  محور الدين ومعناه الأساسي
  وجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام
  لا يمكن الجمع بين الإسلام والإيمان الواقعي والحياة في ظلّ حكومة الكفر
  الفسق في دار الإسلام أفضل من الإيمان الظاهري في دار الكفر
  إنّ العمل لإنشاء الحكومة الإسلاميّة يعادل أجر الشهادة
  الحياد بين الحق والباطل مخالف لروح الدّين الإسلاميّ
  مساعدة المؤمن المظلوم في أيّ مكان في الدنيا واجبة على بقيّة المؤمنين
  الجنّة تحت ظلال السيوف
  الخوف من القتال كان السبب في تغيير عاقبة حسّان بن ثابت الانصاري
  الغرور والأنانيّة كانا المانع لسعد بن أبي وقّاص من بيعة أمير المؤمنين
  تحلّي أمير المؤمنين بثلاث خصال ، منع سعد بن أبي وقّاص عن سبّه
  ظهور الحكومات الظالمة كان نتيجة للاحتياط في الموضع الخاطئ وعدم المبالاة بشؤون المسلمين

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی