معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > محطّات من السيرة النبوية ـ محرّم الحرام عام 1411 هـ > المحاضرة الأولى: مرحلة الطفولة

_______________________________________________________________

هو العليم

محطات من السيرة النبويّة

المحاضرة الأولى:
مرحلة الطفولة

 

ألقى هذه المحاضرة باللغة الفارسية

سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الطهراني حفظه الله
بعنوانه خطيباً حسينياً في مجلس عزاء الإمام الحسين عليه السلام
المُقام في شهر محرّم الحرام لعام 1411 هجرية قمرية

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف                                          

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نفوسنا أبي القاسم المصطفى محمّد
وعلى آله الطبيّبين الطاهرين المعصومين المكرّمين
واللعن على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين

    

مقدّمة

قال الله تعالى في كتابه: {وَ الضُّحى‏ * وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى‏ * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى‏ * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى‏ * وَ لَسَوْفَ يُعْطيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى‏ * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتيماً فَآوى‏ * وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى‏ * وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى‏ * فَأَمَّا الْيَتيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}[1]
لتعجيل فرج إمام الزمان عليه السلام، ولرفع المحن والمصاعب عن المؤمنين وعن شيعة أمير المؤمنين صلّوا على محمّد وآل محمّد .
[الحضور: اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد] .

    

زيارات النبيّ صلى الله عليه وآله لمكّة أثناء إقامته في بني سعد

لقد وصل بنا البحث[2] إلى أنّ حليمة السعديّة أخذت النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله إلى قبيلتها لتقوم بإرضاعه، ولبث فيهم ما يقرب من السنتين، ويذكر البعض أنّ مدّة إقامته عند حليمة السعديّة كانت خمس سنوات، وخلال هذه المدّة أحضرت حليمة النبيّ الأكرم إلى مكّة مرّتين؛ كانت المرّة الأولى في شهره التاسع تقريباً أو في شهره العاشر، حيث قرّت عين أمّه برؤيته ولقائه، ولكن ولتفشّي مرضٍ من الأمراض في مكّة ـ وربّما كان مرض الطاعون ـ أعادت آمنة النبيّ إلى تلك القبيلة على الفور.
أمّا المرّة الثانية؛ فكانت عندما قدمت مجموعة من علماء الحبشة النصارى إلى مكّة، ووقعت أعينهم على النبيّ الأكرم في قبيلة بني سعد، فأرادوا اختطافه صلوات الله عليه وآله بعد أن رأوا فيه آثار النبوّة، ووجدوا فيه علامات تنطبق مع تلك المسطورة عندهم في كتبهم، فأرادوا أن يختطفوه ويأخذوه إلى الحبشة ليكون هذا الفخر من نصيبهم (والحبشة: هي نفس أثيوبيا البلد الموجود في الزمن الحاضر).[3]
ولم يرد في التاريخ ـ أو على الأقل لم أجد فيه ـ أنّ علماء النصارى أو النصارى عموماً قد أقدموا على إيذاء النبيّ، وكلّ ما ينقل من ذلك يعود إلى اليهود وعلمائهم، فقد كان جلّ سعي هؤلاء منصبّاً على قتل النبيّ بأيّة وسيلة ممكنة، لذا نجد أن كلاً من حضرة عبد المطّلب و أبي طالب ـ اللذين تكفّلا بتربيّة النبيّ صلّى الله عليه وآله ـ لم يتركاه ليبتعد عن أنظارهما طرفة عين.

    

كرامات النبيّ في حضانة عبد المطّلب

لقد أحضرت حليمة السعديّة النبيّ الأكرم ـ بحسب الرواية الأشهر ـ إلى مكّة بعد خمس سنوات وسلّمته إلى جدّه عبد المطّلب، وكان همّ عبد المطلب وشغله الشاغل القيام بتربية النبيّ الأكرم وتعاهده، وينقل لنا التاريخ أنّه كان يحبّه بما يفوق حبّه لأبنائه، وأنّ عنايته به جاوزت عنايته بهم. ولم تكن مكارم النبيّ ومعجزاته التي وقعت طوال تلك المدّة لتخفى على أحد، وقد ذكر صاحب السيرة الحلبيّة قصّة رمد عين النبيّ ـ كما يبدو أنّ سبط بن الجوزي قد نقلها كذلك ـ حيث أخذت تؤلمه مدّة وظهر فيها مرض آذاه، وكان ابن خمس سنوات أو ستّ لا يجاوزهنّ، ولم يكن لينفعها علاج، بعد أن التمس جدّه عبد المطّلب الكثير منه دون جدوى. وذات يوم قيل لعبد المطّلب: إنّ بين مكّة والمدينة راهباً لم يقصده أحد في رمد عيونه إلاّ شفاه، فما أحراك أن تأخذ ابنك إليه ليعالجه، فذهب به عبد المطلب إلى حيث الراهب، ولمّا وصل إلى الصومعة ورآه الراهب دخل إلى صومعته فاغتسل ولبس من نظيف الثياب ورجع يتفحّص النبي، فسأل عبدَ المطّلب من هذا الصبيّ؟ ( لقد ورد لدينا في القرآن الكريم مدح وتمجيد للرهبان النصارى، بل بشكل عام للنصارى خلافاً لليهود : {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذينَ آمَنُوا الْيَهُودَ}[4] فما يتعلّق بالنصارى كان على العكس من ذلك، حيث بيّن الله لهم صفاتٍ حسنةً في القرآن، ولعلّ ما ورد في اليهود يعود إلى ابتعادهم عن مرامهم، أو بسبب بعض الخصوصيّات النفسيّة والذاتيّة الأخرى والتي تختلف اختلافاً جذرياً عما عليه النصارى) يسأل ذلك الراهب عبد المطلب: من هذا الطفل؟ فيجيبه عبد المطّلب: هو ابني، فيقول له الراهب: لا ليس هو بابنك؛ لأنّه ورد في كتبنا أنّ نبيّ آخر الزمان يموت أباه بعد ولادته، وأنت تدّعي أبوّته وهذا غير صحيح، ثمّ قال له الراهب: أشهد أنّ هذا نبيّ آخر الزمان، وإنّه هو الذي أقسم بالله عليه فأبرئ المرضى، ودواء وجع عينه هو فيه، دواؤه ريقه! فهذه من خصائص نبيّ آخر الزمان: كلّما وضع من ريقه على عين أحد شفاها. عندها أخذ عبد المطّلب من ريق النبيّ ومسح على عينه فشفيت.[5]
ويعلم الإخوة ما حدث في غزوة خيبر عندما حاصر جيش المسلمين القلعة، وعقد نبيّ الإسلام اللواء لأبي بكر في اليوم الأوّل، وقال له: احمل عليهم وافتح القلعة، (وكانت النتيجة معروفة وواضحة!!) فقد ذهب أبو بكر وعاد خالي الوفاض، وقال يا رسول الله: ماذا أفعل؟ إنّ القلعة مغلقة.. والحرّاس يحرسونها بقوّة وكلّ منهم متيقّظ في مكانه! ثمّ في اليوم الثاني عقد اللواء لعمر ـ ولم تكن هذه الأعمال عبثاً ها!! بل كانت كلّها طبقاً لخطّة ولبرنامج مقرّر، وطبقاً للأسرار الخفيّة؛ فالنبيّ كان يريد أن يقول للناس: هؤلاء الذين سيدّعون خلافتي هم من صنف "ناعم الخدّ"[6] لا يصلحون إلاّ للجلوس في منازلهم وتقديم الناس أمامهم في الحروب يحتمون بهم ويتّخذونهم دروعاً، ثمّ بعد ذلك يأتون ويدّعون الخلافة!! ففي واقعة أحد تجدون هذين الرجلين مع عثمان قد فرّوا ثلاثة أيّام واختبأوا في الجبال، وبعد ثلاثة أيّام عادوا إلى المدينة ـ ففي اليوم الثاني بعد أن عقد النبيّ اللواء لعمر، عاد كرفيقه وصاحبه خاسراً خائباً، وفي اليوم الثالث بحث النبيّ عن عليّ، فقيل له: إنّه أرمد يا رسول الله، وهو جالس في خيمته، فأمر النبيّ بأن يحضروه، وعندما أتى أمير المؤمنين عليه السلام وضع النبيّ من ريقه على عينه فشفيت شفاءً تامّاً.[7] وهذا من خصوصيّات النبيّ الأكرم، حيث لم يرد لدينا ذلك عن باقي الأئمّة سلام الله عليهم.
في يوم من الأيام، كان عبد المطّلب جالساً في مكّة قرب البيت الحرام، وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله يمشي في تلك البقعة وإذا بمجموعة من النصارى والرهبان قد وصلوا إلى مكّة، وكأنّهم عرفوا بشأن ولادة النبيّ الأكرم، فجاؤوا ليتفحصّوا حقيقة المسألة، وعندما رأوا النبي جالساً بجانب عبد المطّلب، سرّوا به كثيراً وقالوا لعبد المطّلب: عليك بالحذر من اليهود على هذا الطفل وصُنه واحفظه منهم واحرص على أن لا تصل أيديهم إليه.

    

وفاة السيّدة آمنة

حين فقد النبيّ والدته آمنة كان يبلغ من العمر ستّ سنوات بناءً لأصحّ الروايات[8]، فقد اشتاقت السيّدة آمنة لزيارة قبر زوجها عبد الله كما أحبّت أن يتعرّف النبيّ إلى أخواله وأبنائهم (من جهة والدة عبد المطّلب) في المدينة، وأن تكون بينهم صلة وارتباط، وقد صحبتها في رحلتها هذه أم أيمن، وهي أمة حبشيّة كانت لعبد الله، واستمرّت إقامتهم في المدينة شهراً كاملاً، وفي طريق العودة إلى مكّة مرضت السيّدة آمنة في منطقة تسمّى الأبواء (وسبب تسميتها بذلك أنّها حين تمطر السماء تشكّل بركة من الماء الذي يتجمّع فيها من كل الأطراف)، ثمّ توفّيت فيها، ودفنت هناك على الأصحّ[9]، ويقال أنّهم أخذوا جنازتها إلى مكّة ودفنت فيها، ومنذ ذلك الحين صارت عهدة تربيّة النبيّ وحضانته على عاتق أمّ أيمن، وكان النبيّ يذكرها طوال حياته على أنّها أمّه الثانية بعد أمّه آمنة، فقد كانت شفقتها به ورحمتها له عظيمة جدّاً، وكان كثيراً ما يذكرها في حياته.
وقد ورد في كلّ من السيرة الحلبيّة وسيرة ابن هشام أنّ النبيّ الأكرم حين وصل إلى الأبواء في سفره الذي قصد فيه مكّة وعقد صلح الحديبيّة، أمِر بزيارة قبر والدته، فذهب إلى قبرها وسأل الله لها الرحمة والمغفرة، وكان قد خرب قبرها فأصلحه ثمّ تابع سيره.[10] وفي هذا المجال، وبما أنّ أهل السنّة يعتقدون بعدم إسلام كلّ من جدّ النبيّ عبد المطّلب وعمّه أبي طالب وأبيه عبد الله وأمّه آمنة ويرون أنّ الشيعة هم من اخترع أخبار إسلامهم، لذا يروي أهل السنّة هؤلاء أنّ النبيّ بكى عند زيارة قبر أمّه وبكى المسلمون لبكائه ولمّا سئل عن علّة ذلك، قال لم يؤذن لي بالاستغفار لها لأنّها ماتت مشركة.[11]

    

استسقاء عبد المطّلب وأبي طالب بالنبيّ صلى الله عليه وآله

وقد كان ذلك العام، أي الذي كان النبيّ صلّى الله عليه وآله قد بلغ فيه ستّ سنوات أو سبع سنوات، عام قحط هلك فيه الكثير من الناس والمواشي، وكان شاقّاً على الناس، فالمطر لم يهطل، ولم يعد في أيديهم شيء من الزاد والطعام والغلال، فعاش الناس معيشة ضنكاً، إلى أن حصل في يوم من الأيام أن رأت امرأة عبد المطّلب في المنام قائلاً يقول لها : لم تجلسون؟ اذهبوا واطلبوا المطر من الله، اطلبوا الرحمة منه، فسألت الهاتف: كيف نذهب وإلى أين نذهب؟ فأجابها الهاتف: قدّموا من بينكم أشرفكم نسباً وأعظمكم إيماناً، وأكثركم قدرة ـ فكانت الخصوصيّات التي ذكرها الهاتف لها تنطبق أكثر ما تنطبق على عبد المطّلب ـ فلتبحثوا عنه وليذهب عبد المطّلب وأبناؤه وليذهب من كلّ قبيلة رجل بعد أن يتطهّر ويستغفر، فيصعد الجميع إلى جبل أبي قبيس، وليدعوا الله هناك، وسينزل عليكم المطر بإذن الله.
وعندما قصّت الرؤيا، قال الجميع: إنّ هذه الأوصاف لتنطبق على عبد المطّلب، لذا فقد توجّه عبد المطّلب مع أبنائه في جماعة كبيرة من الناس نحو الجبل، وكان قد أمسك بيد النبيّ وأخذه برفقته، وهناك على الجبل دعا الله: يا الله يا من خلق السحاب والرعد والمطر، ويا من خلق النفوس، انظر إلى أحوالنا، واغفر لنا تقصيرنا، وارحمنا... ، يقولون: إنّ دعاء عبد المطلب لم يكن قد انتهى إلاّ والسماء هطلت بمطر شديد فسالت الأودية المحيطة بمكّة، وعادت الحياة من جديد إلى مكّة وأهلها.[12]
وبالقرب من مكّة كانت هناك قبيلة مضر، لكنّ المطر لم ينزل عليها، لذا في اليوم التالي جاؤوا إلى عبد المطّلب وقالوا له إنّ المطر لم ينزل علينا كما نزل على أهل مكّة، فطلبوا منه أن يدعوا لهم أيضاً، فطالما أنّ دعاءك مستجاب فليشملنا الخير إذاً، فوعدهم عبد المطلب أن يذهبوا في اليوم التالي نحو عرفات ويدعوا الله هناك، ففعل كما فعل في اليوم السابق، فخرج بأبنائه ويده ممسكة بيد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله حتّى وصلوا إلى عرفات، فوقفوا على مكان مرتفع، وطلب أن يصنعوا له منبراً، فصعد عليه وأجلس النبيّ صلى الله عليه وآله في حضنه، وبدأ يدعوا الله بالنبيّ صلى الله عليه وآله، وينقلون أنّ دعاء عبد المطّلب لم يكن قد انتهى وإذا بسحابة قد أظلّتهم، ثمّ تحرّكت تلك السحابة نحو قبيلة مضر وأمطرت عليهم، فأمرهم أن يعودوا ويرتووا منها.[13]
وكان جليّاً تمام الجلاء بين أقارب عبد المطّلب أنّ هذه الأمطار إنّما كانت ببركة وجود النبيّ صلى الله عليه وآله.
ووقع نظير هذه الحادثة في زمان تكفّل أبي طالب للنبيّ صلى الله عليه وآله، حيث عمّ مكّة قحط مرّة أخرى، حتّى كاد الناس يستأصلون، عندها أخذ أبو طالب النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وصعد به جبل أبي قبيس، ودعا الله أن يُهطل المطر عليهم، وإذا بالمطر قد انهمر عليهم، وكما ينقلون أنّه أنشد حينها ثمانين بيتاً من الشعر في مدح مناقب النبيّ صلى الله عليه وآله، وهي من الأشعار المعروفة حيث يقول:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
                             ثمال اليتامى عصمة للأرامل
[14]

فهذا البيت من الثمانين بيتاً التي أنشدها بحقّ رسول الله صلى الله عليه وآله.
وعندما كان النبيّ في سنّ الثامنة أو التاسعة توفّي جدّه عبد المطّلب، فأوصى أبا طالب بحضانة النبيّ والقيام على رعايته وتربيته، وشدّد عليه في ذلك، لأنّ أبا طالب كان شقيق والد النبيّ عبد الله من نفس الأمّ دوناً عن بقيّة إخوتهما.
وبناءً على ما ينقل، فإمّا أن يكون أبو طالب قد أخذ على عاتقه مستقلاً تربية النبيّ ، وإمّا أنّه قام بذلك بمشاركة الزبير ـ أخيه غير الشقيق ـ لمدّة من الزمن.

    

رحلة النبيّ صلّى الله عليه وآله إلى الشام ولقاؤه بالراهب

وبعد ذلك بدأت مرحلة طفولة النبيّ تنتهي رويداً رويداً، ووصل النبيّ إلى سنّ الثانية عشرة، وكان أبو طالب طوال تلك المدّة يسعى في أن يصطحب النبيّ صلى الله عليه وآله على الدوام، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله متعلّقاً بأبي طالب إلى درجة أنّه لم ينفصل عنه في آن من الآنات، وقد عزم أبو طالب يوماً على السفر ضمن قافلة كبيرة من القوافل التي تتحرّك نحو الشام، حيث كان من عادة تجّار مكّة أن يسافروا للاتجار، فاستخلف على النبيّ بعض من يقوم برعايته وحمايته. ترك ذلك في النبيّ بالغ الأثر، فأمسك بزمام ناقة أبي طالب، وقال: لا بدّ أن تصطحبني في هذه الرحلة، حيث تملّكت النبيّ حالة من الرقّة الشديدة، وكان آنذاك ذا اثنتي عشرة سنة، وعندما رأى أبو طالب النبيّ صلى الله عليه وآله على هذه الحالة، أقسم بالله أن لا يفارقه بعدها أبداً، وحمل النبيّ معه، وسار به نحو الشام، وكانت أوّل رحلة للنبيّ يخرج فيها بعيداً عن وطنه، ومرّوا في طريقهم على مدين، وكانت رحلة مميّزة للنبيّ صلى الله عليه وآله.
وينقل أنّهم في أوّل دير وصلوا إليه في الطريق، خرج الراهب من الدير، وكان بصحبته كتاب، وسأل الموجودين: ابن من هذا الغلام؟ فقالوا له: ابن ذلك الرجل (أي: أبا طالب) ـ وذلك الزمان كان إطلاق الوالد على العم متداولاً، فلأنّ العادة كانت قائمة على أنّ العمّ يصبح هو المسؤول عن عيال أخيه إذا ما توفّي، كان الطبيعي أن يطلقوا عليه اسم الأب ـ فقالوا: ابن ذلك الرجل. فقال لهم الراهب: لا ينبغي أن يكون ابن هذا الرجل، ففي كتبنا أنّه يولد بعد أن يكون والده قد توفّي، وآثار النبوّة منحصرة في هذا الطفل، فقال له أبو طالب: بلى، إنّ أبا هذا الطفل قد توفّي، وما أنا إلاّ المسؤول عنه. عندها أوصاه الراهب بأن يحذر عليه من اليهود.
ثمّ ارتحلوا من هناك حتّى وصلوا إلى بُصرى، وفي بصرى راهب من الرهبان المعروفين، حيث كان رئيساً وأسقفاً لرهبان ذلك الزمان، وكان ديره مختصّاً برتبة الراهب الذي يرأس الرهبان، وكان أعلم الرهبان، وما وصله من علوم إنّما كان عبر أوصياء النبيّ عيسى على نبينا وآله وعليه السلام. وينقلون أنّه عندما تحرّكت القافلة نحو الشام وصارت قريبةً منها، كانت تظلّل النبيّ غمامة فوق رأسه عندما تكون حرارة الشمس مرتفعة، وكانت القافلة قد توقّفت هناك بالقرب من دير ذلك الراهب، وكان من عادة هذا الراهب أن لا يعتني بالقوافل التي تمرّ بالقرب منه، بل كان ينصرف إلى شأنه الخاص، ولكنّه قبل وصولهم بعدّة أيام، كان قد أعدّ طعاماً، وكان قد سمع بخبر مجيء هذه القافلة وبأنّها تمتاز عن سائر القوافل، ولذا عندما وصلت القافلة، وعندما كانوا يوضّبون أغراضهم جاء الراهب و طلب من أصحاب القافلة أن يدخلوا إلى ديره وأن يأكلوا من الطعام الذي صنعه، فقالوا له: لطالما مررنا من أمام ديرك ذهاباً وإياباً خلال السنين الخالية فلم تحدّثنا يوماً بحديث. فقال لهم: إنّ اليوم يختلف عن الأيام الماضية، فتعالوا وادخلوا الدير وكلوا من الطعام حتّى تتضّح الأمور، فجعل يدخلهم إلى الدير، وقال لهم: إنّ كل من هو بصحبتكم هو ضيفي اليوم، وله أن يأكل من طعامي، فدخل الجميع إلى الدير، وبدؤوا بأكل الطعام، إلاّ أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله بقي عند ظلّ الشجرة التي كان تحتها، فنظر الراهب وإذا بالغيمة التي كانت تظلّلهم ما زالت في مكانها و لم تصبح فوق الدير، وينقل في التاريخ أنّ تلك الشجرة أرخت أغصانها حتّى صنعت ظلاً يظلّل رأس النبيّ صلى الله عليه وآله.
والعجيب أنّ من يطالع بعض التواريخ يجد أنّ المؤرّخين يستبعدون حدوث هذه الوقائع، ولكن ماذا نفعل عندما نجد أنّهم رووا أنّ الإمام عليه السلام يخبر أنّ النبي كان إذا مرّ من مكان سجد له الحجر والشجر والمدر ؟![15] أو عندما نجد أنّ لحضرة عبد الله نوراً وأنّ الأحجار كانت تسجد له لوجود نور النبوّة فيه[16]، فإنّها من الحوادث التي نقلت ووصلت إلينا، ولا يمكن لنا أن ننكرها، نعم عندما يكون نظر المؤرّخ في تحليلاته منصبّاً على جانب العلل والأسباب والمعدّات المادّية، ولا يستطيع أن يلتفت إلى الجوانب الأخرى، عندها سيكون من الطبيعي أن تكون هذه المسائل عجيبة بنظره، ولكن المسألة لا تعدو ذلك.
طلب منهم الراهب أن يحضروا ذلك الطفل أيضاً معهم، فقالوا له: إنّه يتيم لا أب له، وقد تركناه عند متاعنا ليحرسه، ونحن أصل المسألة وأساسها والعمدة علينا، فلا تعتن به، فأقسم الزبير (أو عبيدة) عمّ النبيّ باللات والعزّى بأن يذهب ويحضر ذلك الطفل، معاتباً إيّاهم على ما استخفوا به ولم يعطوه حقّه ولم يحترموه، فجاء به إلى دير ذلك الراهب.
وينقل أنّ الراهب صار يراقبه ويتأمّل في خصوصيّاته، فكان يتأمّل في خصوصيّاته الجسمانيّة ويفكّر في خصوصيّاته الروحيّة، وسأل الموجودين عنه من يكون؟ فقالوا: ابن أبو طالب، وأنّه حقيقة يتيم توفّي والده فتكفّله أبو طالب.
وقد سأل الراهب النبيّ مجموعة من الأسئلة، ومن أسئلته: بم تمضي أوقاتك؟ وبم تفكّر أغلب الأحيان؟ كيف ترغب أن تكون عندما يحين وقت النوم ليلاً؟ فكانت أسئلته من هذا القبيل؛ ليعرف الأفق الفكريّ للنبيّ الأكرم، وما هو حدّ المقامات التي بلغها؟ فأجابه النبيّ: أحبّ أن أذكر الله دائماً، فقال له: بم تفكّر في الليل وعلى أيّ فكر تنام؟ فأجابه النبيّ: أفكّر في السماء وأحبّ أن أنام متأمّلاً في النجوم والسماوات. وقد بقيت هذه الحالة ملازمة للنبيّ صلى الله عليه وآله إلى آخر عمره[17]، ففي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام ينقلها معاوية بن وهب فيقول: سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : وذكر صلاة النبي (صلّى الله عليه وآله ) قال : كان يؤتى بطهور فيخمّر[18] عند رأسه، ويوضع سواكه تحت فراشه، ثمّ ينام ما شاء الله ، فإذا استيقظ جلس ، ثمّ قلّب بصره في السماء ، ثمّ تلا الآيات من ( آل عمران ) :
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ*رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ }[19]. [وتستحبّ قراءة هذه الآيات عند القعود من النوم والنظر في السماء، وهي آيات عجيبة تحتوي على الدعاء وتدلّ على عظمة الله ونور الإيمان في قلب المؤمن، ويبدو فيها بوضوح طلب رضوان الله، وهي تبيّن لنا حالة العبوديّة والركون بين يدي الله] ثمّ يستنّ[20] ويتطهّر، ثمّ يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات، على قدر قراءته ركوعُه [أي أنّ وقت ركوعه كان مساوياً لوقت قراءته]، وسجودُه على قدر ركوعِه ، يركع حتّى يقال : متى يرفع رأسه ؟ ! ويسجد حتى يقال : متى يرفع رأسه ؟ ! ثمّ يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله ، ثمّ يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من (آل عمران) ويقلّب بصره في السماء ثمّ يستنّ ويتطهّر ويقوم إلى المسجد ويصلّي الأربع ركعات كما ركع قبل ذلك ، ثمّ يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله ثمّ يستيقظ ويجلس ويتلو الآيات من (آل عمران) ويقلّب بصره في السماء ، ثمّ يستنّ ويتطهّر ، ويقوم إلى المسجد فيوتر ويصلّي الركعتين ، ثمّ يخرج إلى الصلاة.[21]
هذه هي صلاة الليل التي كان يصلّيها النبيّ صلّى الله عليه وآله، ولم تكن كذلك في ليلة واحدة، بل في كلّ ليلة، لذا لدينا في الروايات أنّ من المستحبّ أن تصلّى صلاة الليل على دفعات، لا أن تصلّى إحدى عشر ركعة دفعة واحدة. بل يفصل بينها، ويصلّيها شيئاً فشيئاً بطمأنينة وتأمّل، وبالطبع نحن لسنا كالنبيّ وواقعاً ماذا نقول؟ [تبسّم من قبل السيّد...]

كار پاکان را قياس از خود مگير
                             گرچه باشد در نوشتن شير شير
[22]

يقول: لا تقس أعمال المطهّرين على عملك، فالفرق كبير وإن كان الظاهر واحداً، فكتابة لفظة "شير" بمعنى "الأسد" هي في ظاهرها نفس كتابة لفظة "شير" بمعنى اللبن وشتان ما بين الأسد واللبن.
فالنبي كان يذهب إلى المسجد ثمّ يعود إلى البيت ويستريح ثمّ يعود إلى المسجد، أما نحن فإذا نقص نومنا في الليل عن ثمانية ساعات فلا نستيقظ عند الصباح!
وعن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا قام من الليل يسوّك ثمّ ينظر إلى السماء ثمّ يقول: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } إلى قوله { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }. وقد اشتهرت الرواية عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه لمّا نزلت هذه الآيات قال: ويل لمن لاكها بين فكّيه ولم يتأمّل ما فيها .
وورد عن الأئمّة من آل محمّد الأمر بقراءة هذه الآيات الخمس وقت القيام بالليل للصلاة وفى الضجعة بعد ركعتي الفجر .[23] والمراد بها آيات سورة آل عمران.
نعم، يسأل ذلك الراهب النبيّ عن حاله وهيئته عند نومه؟ فيجيبه النبيّ صلّى الله عليه وآله: أحبّ أن أفكّر في السماء وفي النجوم، عندها ينظر الراهب إلى أبي طالب ويقول له: أبشر بنبيّ آخر الزمان الذي سيبعث قريباً بالرسالة، ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود ، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفتُ ليبغنّه شراً، فإنّه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فأسرعَ به إلى بلاده.[24]
وتنقل بعض التواريخ أنّ أبا طالب أرسله إلى مكّة من ذلك المكان، ولكنّ القول الأقوى هو أنّه أخذه معه إلى الشام وبعد انتهاء الرحلة والتجارة أعاده بنفسه إلى مكّة مع القافلة نفسها، وقد كان عمر النبيّ صلّى الله عليه وآله آنذاك ثلاثة عشر عاماً أو أربعة عشر عاماً.

    

مشاركة النبيّ في حرب الفجار

ومن الوقائع التي عاشها النبي صلّى الله عليه وآله أثناء طفولته تلك الحرب التي وقعت بين قبيلة قريش وهوازن، وقد كانت تقع بين القبائل العربيّة منازعات لأسباب واهية سخيفة، وكان يقتَل فيها عدد من الطرفين المتنازعَين، وهي معروفة وكلّنا نعلم بأحداثها وخصائصها، وقد نقل المؤرّخون أنّ النعمان بن المنذر أرسل رجلاً إلى مكّة بأمتعة له ليبيعها ويشتري له بدلاً منها من أمتعة مكّة، وفي طريقه يعترضه من يقتله ويأخذ المتاع لنفسه ويأتي به إلى مكّة، عندها تطّلع قبيلة هذا المقتول ـ هوازن ـ على الحدث، إلا أنّ القاتل يسلّم نفسه إلى قريش، فتعرف قريش أنّ حرباً ستقع، فتعدّ لها العدّة، وتسعى قبل وصول هوازن أن تتحرّك صوب الحرم احتماءً به ولِقَداسته عندهم، فقد كان من المتعارف بينهم أنّ من لجأ إلى الحرم لا يُقتَل، غير أنّ هوازن تطلّع على الأمر قبل ذلك، والخلاصة أنّ حرباً ضروساً تقع بين القبيلتين، وقد شارك فيها حضرة أبو طالب أيضاً، وكان يدافع عن قريش، وكان عمر النبيّ خمسة عشر عاماً حين شارك فيها. وقد كان المقاتلون يأوون إلى الحرم ليلاً، ويخرجون للقتال نهاراً، وقد دامت الحرب أياماً، إلى أن انتهوا إلى الصلح، وتراضى الطرفان، وحيث كان عدد القتلى من هوازن أكثر فقد دفعت قريش إليها ديتهم.
لقد شارك النبيّ في هذه المعركة، وكما صرّح هو نفسه، فقد كان أقصى همّه أن يدافع عن عمّه أبي طالب[25]، فكان يردّ الحراب إذا اتجهت نحوه، وكلمة أمير المؤمنين عليه السلام في النبيّ صلّى الله عليه وآله معروفة حيث قال:
«كنا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول الله صلّى الله عليه وآله فلم يكن منّا أقرب إلى العدوّ منه»[26]. نعم كانت طريقة النبيّ أن لا يقتل المشركين، بل كان يدفع الضرر الناجم عن قتالهم، ولم يرد في التاريخ أنّ النبيّ قتل أحداً، سوى رجلٍ واحدٍ.
لقد كانت هذه الحرب أوّل حرب شارك فيها النبيّ في طفولته، ولم يكن له بدّ من المشاركة، ولا ينبغي الاعتراض على مشاركته ومشاركة أبي طالب في هذه الحروب التي كانت تنشب على أساس الاعتبارات والأوهام الجاهليّة؛ لأنّ مشاركتهم لم تكن بهدف القضاء على المقاتلين، بل كانت من باب دفع المحذور، ولم يكن زمام الأمر في أيديهم، وكانت هذه الأحداث ستتّفق شاركوا أم لم يشاركوا، وربّما كانت مشاركتهم سبباً في حصول الكثير من المصالح والخيرات، وقد شارك النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله فقط بغرض حماية عمّه أبي طالب، ولم يَرِدنا أنّه قَتل أو آذى أحداً في هذه الحرب.
وهنا شيئاً فشيئاً تنتهي مرحلة طفولة النبيّ الأكرم، ويتّجه إلى مرحلة البلوغ والشباب وما يرتبط بها من زواجه بخديجة، وشروع المشكلات، والدخول في مرحلة جديدة من الحياة، وهنا يتّخذ الأمر منحى آخر في حياته، فيتزوّج من خديجة ويهاجر في رحلات عدّة، وتشرع مرحلة العُزلة عن الناس والعبادة والاعتكاف في غار حِراء وعبور المقامات وطيّ مراحل السلوك، وهذا ما نتركه إلى الجلسات اللاحقة.

    

قافلة السبايا في الكوفة

وقد ذكرنا في جلسة أمس أنّ قافلة [أسرى] سيّد الشهداء عليه السلام انطلقت من كربلاء ووصلت إلى الكوفة، وهناك يشيع خبر ورود أهل البيت عليهم السلام، فيجتمع الناس حولها، ويأمر ابن زياد بإحضار الرؤوس أمام المحامل، ويلقي الإمام السجّاد في الكوفة خطبة يبيّن فيها بعض الحقائق، وهنا كذلك تقول حضرة أمّ كلثوم للمتصدّقين عليهم: إنّ الصدقة محرّمة علينا، فضجّ الناس بالبكاء.
وقد رأيت في التواريخ أنّ رجلاً من العامّة يقول: عندما دنت القافلة من قصر الإمارة تبدّلت أحوال السيدة زينب سلام الله عليها، ويقول: وقعت عينها على ذلك المنزل الذي كانوا قد سكنوا فيه مدّة مع أمير المؤمنين أيام حكومته، وعلى المكان الذي كان يقضي فيه أمير المؤمنين عليه السلام، وها هي الآن تنظر فتجد قاتل أخيها قد جلس في مجلسه عليه السلام.
ويدخلون بالسبايا إلى دار الإمارة وهنّ على تلك الحال، فتخاطب سلام الله عليها نساء الكوفة الباكيات المعولات:
يا أهل الكوفة.... ! ! ألا فلا رقأت العبرة [27] ولا هدأت الزفرة ، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً[28] تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم.... أتبكون أخي ؟ ! أجل والله فابكوا فإنّكم أحرى بالبكاء فابكوا كثيراً، واضحكوا قليلاً.... أتدرون ويلكم أيّ كبد لمحمّد صلّى الله عليه وآله فرثتم ؟ ! وأيّ عهد نكثتم ؟ ! وأيّ كريمة له أبرزتم ؟ ! وأيّ حرمة له هتكتم ؟ ! وأيّ دم له سفكتم ؟![29]
لقد قتلتم ابن نبيّكم، وأسرتم ذريّته.. إنّ أزواجكن قتلوا آباءنا وإخواننا وأطفالنا..
بعد ذلك تتحرّك القافلة مع الرؤوس نحو قصر الإمارة، ذلك المكان الذي كان قد أعدّ فيه ابن زياد ما يستخفّ به بأهل البيت عليهم السلام...
وهنا تصف الكاتبة المصريّة بنت الشاطئ دخول زينب وأهل البيت إلى دار الإمارة فتقول:
«إنّها تدخلها اليوم أسيرة يتميةً ثلكى، قد فقدت أباها، وولدها وشقيقيها، وبقيّة آلها، ودّت إذ ذاك لو نفّست عن أشجانها بدمعة، أو أنّة، لكنّها كرهت أن تلقى الطاغية ذليلة باكية.
لم تكن قط كما هي اليوم بحاجة إلى أن تلوذ بكلّ كبريائها وقوّتها، وعزّة بيتها، وشرف آلها، وعراقة محتدها، لكي تقف الموْقِف الجدير بحفيدة الرسول، وعقيلة بني هاشم.
وهي أشدّ حاجة إلى ذاك، لتودّي دورها الذي ينتظرها، بعد أن اجتاح الإعصار كلّ من كان لها من الرجال...
وتقدّمت «زينب» في مهابة وجلال، وقد لبست أرذل ثيابها وحفّت بها إماؤها، فأخذت مجلسها دون أن تلقي بالاً إلى الأمير الطاغية.
وأخذتها عيناه وهي تجلس بادية الترفّع، قبل أن يؤذن لها في الجلوس، فسألها:
(من تكون)؟ فلم تجب...
وأعاد السؤال مرّتين وثلاثاً، وهي لا تجيب، احتقاراً له واستصغاراً لشأنه! وأجابت إحدى إمائها:
هذه زينب ابنة فاطمة».
قال لها «ابن زياد»: الحمد لله الذي قتلكم... .
فردّت عليه زينب عليه السلام: «ما الله قتلنا ولكن أنتم قتلتمونا، الله يتوفّى الأنفس حين موتها».
ثمّ تقع عين ابن زياد على الإمام السجّاد مكبّلاً بالسلاسل واقفاً في زاوية من الزوايا، فيسأل من هذا الشاب؟ فيقال له: هذا عليّ بن الحسين. فيقول: أولم يقتل الله عليّاً بن الحسين؟ عندها قال السجّاد: كان لي أخ أكبر منّي يسمّى علياً...
ولكي يضاعف ابن زياد من آلام آل الرسول أمر بأن تحضر الرؤوس فتوضع بين يديه، وقد اشتدّ غضبه أثناء حديثه مع السيّدة زينب التي فضحته في مجلسه، ولكي يرّد لنفسه شيئاً من الاعتبار، تناول من تحت فراشه قضيباً وأخذ يضرب به شفتي الإمام الحسين عليه السلام وأسنانه.
وعندما يرى ذلك زيد بن أرقم ـ وهو أحد صحابة الرسول الأكرم وكان شيخاً هرماً آنذاك ـ يصرخ ويقول:
ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين ، فو الله الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عليهما ـ ما لا أحصيه كثرةً ـ تقبّلهما.[30]

فلك فغان به جفاى تو آه از دل ما
                             كه دست ظلم تو بر باد داده حاصل ما


فغان كه شمع هدائيم ونيست در شبها
                             بغير شعله آهى چراغ محفل ما


جفا وجور فزون بوده در جهان ليكن
                             جفا نديده به عالم كسى مقابل ما



چه سروها كه ز بستان ما به خاك افتاد
                             جه داغها كه بود همچو لاله بر دل ما


يقول:
[أمست الأفلاك في مأتم الحزن باكية من ظلمك وجفائك؛ فلك الويل من قلوبنا بعد أن أبادت يد ظلمك كلّ ما في أيدينا!
ويا ويلتاه! نحن شموع الهداية، ولم يعد في محفلنا إبّان ظلمة الليل سوى شعلة الآهات!
الظلم كثير في الدنيا، ولكنّ أحداً لم يرَ من الظلم شيئاً أمام ما رأينا..
فكم من أشجار سرو بستاننا أهوت على التراب!! وكم لوعةٍ حمراء كشقائق النعمان انصبّت على قلوبنا!!]


وسيعلم الذين ظلموا آل محمّد أيّ منقلب ينقلبون، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
نسألك اللهمّ وندعوك ونقسم عليك ونرجوك بمحمّد وأهل بيته الأطهار يا الله يا الله يا الله....
اللهمّ اعف عنّا وارحمنا.. إلهي آمين [دعاء من قبل الحضور]
اللهمّ لا تخرجنا من الدنيا حتّى ترضى عنّا.. إلهي آمين
اللهمّ لا تجعل أيدينا قاصرة عن ولاية أهل البيت في الدنيا والآخرة.. إلهي آمين
اللهمّ لا تحرمنا من شفاعتهم في الدنيا والآخرة.. إلهي آمين
اللهمّ انصر الإسلام والمسلمين.. إلهي آمين
اللهمّ اخذل الكفّار والمنافقين.. إلهي آمين
اللهمّ ردّ شرّ الأشرار إلى نحورهم.. إلهي آمين
اللهمّ احفظ شيعة أمير المؤمنين ودولة التشيّع من المخاطر.. إلهي آمين
اللهمّ أيّد وسدّد قائد الثورة بتأييدك وتسديدك.. إلهي آمين
اللهمّ عجّل في فرج إمام الزمان.. إلهي آمين
اللهمّ اجعلنا من المنتظرين الحقيقيين له.. إلهي آمين
اللهمّ شاف مرضى المسلمين.. إلهي آمين
اللهمّ وارحم أمواتهم واعف عنهم.. إلهي آمين
بالنبيّ وآله وعجّل اللهمّ في فرج مولانا...


[1] ـ سورة الضحى.

[2] ـ على ما يبدو كان هناك محاضرات تسبق هذه المحاضرة، ولكن للأسف الشديد تسجيلاتها غير متوفّرة لدينا. (م)

[3] ـ السيرة النبوية، ابن هشام الحميري، ج 1، ص 108.

[4] ـ سورة المائدة، الآية 82.

[5] ـ راجع السيرة الحلبيّة، ج 1 ، ص 164. (م).

[6] ـ إشارة إلى الشعر الذي أنشده ابن أبي الحديد المعتزلي يصف فيه فرار أبي بكر وعمر يوم خيبر حيث قال: وما أنس لا أنس اللذين تقدما و فرّهما و الفرّ قد علما حُوب و للراية العظمى و قد ذهبا به ملابس ذل فوقها و جلابيب إلى أن قال: أحَضْرُهما أم حَضْر أخرج خاضب و ذان هما أم ناعم الخد مخضوب عذرتكما إنّ الحمام لمبغَض و إنّ بقاء النفس للنفس مطلوب ليُكره طعم الموت و الموت طالب فكيف يلذّ الموت و الموت مطلوب (المترجم).

[7] ـ أورد هذه القصّة كل من كتب في تاريخ النبي منهم ابن هشام في السيرة النبوية (ج 3 ص 797 – 798) . (م)

[8] ـ راجع البداية والنهاية لابن كثير، ج2، ص 279؛ وتاريخ الإسلام للذهبي، ج1، ص 50؛ وتاريخ اليعقوبي ج2، ص 10؛ والروض الأنف للسهيلي، ج2، ص181 ؛ وسيرة ابن هشام، ج1، ص 168؛ وغيرها ... .

[9] ـ راجع سبل الهدى والرشاد للدمشقي ج2 ، ص 120؛ وتاريخ الإسلام للذهبي ج1، ص50؛ وتاريخ اليعقوبي ج2، ص 10.

[10] ـ السيرة الحلبية، الحلبي ، ج 1 ، ص 172.

[11] ـ السيرة الحلبية، الحلبي، ج 2، ص 677 – 678.

[12] ـ السيرة الحلبية، الحلبي، ج 1، ص 181.

[13] ـ المصدر المتقدّم ص 183.

[14] ـ السيرة الحلبيّة، ج 1، ص 169.

[15] ـ دلائل النبوة للبيهقي، ج6، ص69.

[16] ـ جاء في بحار الأنوار، ج 15، ص 165 نقلاً عن المناقب ج1 ، ص 19 مجموعة من مناقب والد النبيّ إلى أن يصل إلى قوله: ... «ويُقَالُ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ فِي جَبِينِهِ نُورٌ يَتَلأْلأُ فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ حَمْلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله لَمْ يُطِقْ أَحَدٌ رُؤْيَتَهُ وَمَا مَرَّ بِحَجَرٍ وَ لَا شَجَرٍ إِلا سَجَدَ لَهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ».

[17] ـ راجع السيرة النبوية لابن هشام، ج 1 ، ص 182.

[18] ـ التخمير : التغطية ، ومنه ركو مخمر ، أي : مغطّى ( مجمع البحرين ( خمر ) 3 : 292 ) .

[19] ـ سورة آل عمران، الآيات 190 ـ 194.

[20] ـ يستنّ: يستاك.

[21] ـ نور ملكوت قرآن، ج‏3، ص: 320، نقلاً عن «مجمع البيان» ج 1، ص 554 و 555؛ و تفسير «نور الثّقلين» ج 1، ص 35 0، عن «تهذيب الأحكام» للشيخ الطوسى،‏ و في سائل الشيعة ج 4، ص 269 – 270 (من طبعة آل البيت) وسندها : محمد بن الحسن بإسناده ، عن محمد بن علي بن محبوب ، عن العباس بن معروف عن عبد الله بن المغيرة عن معاوية بن وهب...

[22] ـ مثنوي معنوي، الدفتر الأول، ص 7

[23] ـ تفسير «مجمع البيان» طبع صيدا، ج 1، ص 554؛ و تفسير «نور الثّقلين» ج 1، ص 35، عن «المجمع» عن الثعلبى، ففي مجمع البيان روى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي بن أبي طالب... الحديث.

[24] ـ السيرة النبوية، ابن كثير، ج 1، ص 245، و السيرة النبوية ابن هشام الحميري ج 1 ص 116 – 118 .

[25] ـ ابن هشام، ج1 ص 119

[26] ـ نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع)، ج 4، ص 61

[27] ـ رقأت: جفت

[28] ـ أي حلّته وأفسدته بعد إبرام.

[29] ـ الاحتجاج، الشيخ الطبرسي، ج 2، ص 30.

[30] ـ الإرشاد الشيخ المفيد ج 2 ص 114 115

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی