معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > حجية أوامر أولياء الله و أفعالهم > حجية أوامر أولياء الله و أفعالهم ـ المحاضرة 2: حقيقة الشريعة بيان المصالح الواقعية

_______________________________________________________________

هو العليم

سلسلة محاضرات حجية أوامر أولياء الله و أفعالهم

المحاضرة الثانية:

حقيقة الشريعة بيان المصالح الواقعية

ألقيت هذه المحاضرة في الليلة السادسة والعشرين من ليالي شهر رمضان المبارك لعام 1432 هـ

ألقاها:

سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف                                          

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيم‏
الحمدلله ربّ العالمين
و الصلاة و السلام علی سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلی آله الطيّبين الطّاهرين،
واللعنة علی أعدائهم أجمعين، إلى يوم الدّين

وصل بنا الحديث في الليلة السابقة إلى هذه النقطة: وهي أنّ العقل يحكم بأنّه قاصرٌ وعاجزٌ عن تشخيص مصالح الإنسان ومفاسده، وقد أثبتت التجربة العمليّة في الخارج هذه الحقيقة وهذه المسألة، وأنّ هذا الأمر هو عبارة عن حجيّة العقل، يعني: إنّ العقل له من الشعور والفهم إلى الحدّ الذي يستطيع أن يشعر ويفهم بأنّه عاجز وقاصر عن الكثير من المسائل، ومحدوديّة فعله وتصرّفاته واضحة يمكن تشخيصها. كما أنّه من الواضح مدى محدوديّة حجيّته في ترتيب القضايا المنطقيّة، وفي ترتيب المسائل، ومن ثمّ الوصول إلى التصديقات والحقائق المعتقد بها، مضافاً إلى التصوّرات وما يمكن أن يفهمه الإنسان من الناحية الفلسفيّة والوجوديّة والعدميّة.

    

إقرار العقل بحاجته إلى الخبير لمعرفة حقائق الكثير من الأمور

والعقل بنفسه يحكم، ويقول: «أنا لا أستطيع أن أرى من خلف هذا الجدار» ، هو يعترف بذلك ويقرّ على نفسه، ولو أنّه قال: «أستطيع أن أرى من الذي يقف خلف الجدار»، فهذا دليل على عدم حجيّته، وحيث أنّه يقول: لا أستطيع، فذلك يعني أنّه وصل إلى هذه النتيجة.. وصل إلى هذه النتيجة وأيقن بهذه الحقيقة وأذعن بهذه النقطة، والعقل يحکم بأنّه: ينبغي أن يكون بجانبه عقلٌ منفصلٌ لكي يوصله إلى الكمال. إذن هو توصّل إلى هذه الفكرة، ولو لم يتوصّل إليها، لما حكم بها. ولذا يتَسمَّر في مكانه، ويقبع في بوتقة الإبهام والشك، ولا ينبسّ ببنت شفة أبداً، تماماً كهذا الجدار، وهذا الأمر ترجمةٌ لقوله: لقد توصّلت إلى هذه الحقيقة، أي: إنّ هذه المسألة تتمتّع بالحجيّة.
العقل يحکم بأنّه يحتاج إلى فردٍ خبير من أجل الوصول إلى المصالح والابتعاد عن المفاسد، وهذا الفرد الخبير ينبغي أن يسبح في أفقٍ أعلى وأرقى من أفق العقل وحكمه، ونحن لدينا العديد من المعارف، فما نعرفه كثير: بعضه في دائرة العقل، وبعضه في دائرة الفطرة، وبعضه في دائرة الشهود، وبعضه في دائرة الشرع.. نعم الشرع؛ ومهما حاول العقل أن يُمعن النظر والتفكير في مسائل الشرع، لن يستطيع أن يقول لنا: لماذا كانت صلاة الصبح ركعتين؟ هو قاصر عن ذلك وعاجز عن ذلك، لا يستطيع أن يدرك لماذا كانت عدد ركعات المغرب ثلاثة؟ مع أنّ الإنسان في الصبح يرى أنّه قد استيقظ للتوّ، وتنتابه حالة التثاؤب، ولذا يود أن يقوم ببعض الرياضة ليشعر بالنشاط، فما الضير لو أنّه صلّى سبعة أو ثمانية أو عشرة ركعات؟! فعلى الأقل تكون هذه الصلاة بديلاً عن الرياضة وتمديد العضلات [يبتسم].. في حين أنّه يعود عند الظهر من عمله أو من دراسته ومباحثته متعباً، ولذا فهو يتمنّى لو أنّ الصلاة بعد الانتهاء من المباحثة ـ مثلاً ـ لا تتعدّى الركعة الواحدة، لكنّك تطلب منه أربع ركعات وثمان ركعات!! والحاصل أن عقلنا لا يستطيع أن يفهم ولا أن يعرف لماذا ينبغي أن تكون صلاة الظهر أربع ركعات، فهذا الأمر ليس من شؤون العقل، وإنّما هو من شؤون الشرع، وكذلك الشرع يقول: إنّ هذا الأمر ليس من شؤونك أيّها العقل! أنا أفهم هذه المسائل أفضل منك. ونحن علينا أن نُطأطئ الرأس، وينبغي أن نسلّم طائعين، يجب علينا أن نطيع الشرع في ذلك.
يشار إلى أنّ صلاة الظهر من أفضل الصلوات اليوميّة التي نصلّيها خلال اليوم!! ولا تصل أيّاً من الصلوات اليوميّة إلى أهميّة صلاة الظهر، ومن الجيّد أن يُبقِي الأصدقاء والرفقاء هذه المسألة في أذهانهم، وهي أنّ الحالات التي حصلت للعديد من الأعاظم والعرفاء والأولياء الإلهيّين، إنّما حصلت لهم في صلاة الظهر، حصلت بين صلاة الظهر والعصر، وفضيلة صلاة الظهر فضيلةٌ عاليةٌ، وفضيلتها فضيلةٌ عجيبةٌ جداً، وهذه الأمور من المسائل التي لا نفهمها نحن، يعني: لو فكّر الإنسان الذي له عقل أعلى من عقلنا (لأنّ عقولنا نحن عقولٌ متوسّطة)، لكن حتّى لو فكّر أحدٌ من ذوي العقول التي تفوق عقولنا، لما كان وصل إلى العلّة التي جعلت صلاة الصبح ركعتين! بل لو فكّر من الآن إلى يوم القيامة لما فهم حقيقة الأمر.. لما فهم، ولا ينبغي على الإنسان أن يتعب نفسه في هذه المسائل بلا طائل، بل عليه أن يوفّر جهده لأمر آخر، فليشغل عقله بأمور أخرى. ما الفائدة من السؤال: لماذا كانت صلاة المغرب ثلاث ركعات؟ ولماذا كان الصوم بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس؟ هذه المسائل ليست من المسائل التي يتيسّر للعقل فهمها.
لكن العقل يحكم ويجزم ويقرّ بهذه المسألة: وهي أنّه علينا أن نقبل ونطيع ما أرسله الله عزّ وجلّ وأوصله إلينا بواسطة الفرد الخبير والمطلع على الشرع، وهذا من شؤون العقل ومن وظيفته.. بلى هذا من وظيفة العقل وعمله، وهو عملٌ صحيحٌ وصائبٌ، وينبغي أن ننفّذ ما حكم به، أليس كذلك؟
وهذا الحكم الذي يتنزّل من الله عزّ وجلّ من أجل تكامل الإنسان، يقال له: الشرع؛ وكلمة «الشرع» جاءت من «الشريعة»، وهي تعني الطريق، فالمشروع يعنی الخطّة، فيقال: هل ترون المشروع الفلاني؟ يعني: المشروع والخطّة للمسألة الفلانيّة، وللقضيّة الفلانيّة.
ما معنى الشارع؟ يُقال: الشارع الفلاني في اللغة العربية، وهو يعني: الطريق الفلاني. الشارع إذاً هو الطريق، والشريعة: هي التي تطلق على قسم النهر الصالح للشرب، وهو الذي يُطلق على الطريق الذي يعبر خلاله الماء فيمكن للإنسان أن يشرب منه.. ألم تسمعوا بشريعة الفرات؟! وهو المكان الذي ينفصل فيه الماء عن النهر، ويصبح الوصول فيه إلى الماء سهلاً، لذا يطلقون عليه اسم الشريعة، أمّا كلمة «الشارع» [بصيغة اسم الفاعل] فتطلق على الفرد الذي يمثّل طريقاً موصلاً إلى تلك الحقيقة وإلى متن الواقع.
لماذا يطلق على رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى الأنبياء عليهم السلام مصطلح «شارع»؟ لأنّهم عبارة عن الطريق، فهم ليسوا مُشرّعين، فهم لا يأتون ويجعلون الأحكام من تلقاء أنفسهم فيشرّعونها بذلك، وعندما يقولون لفردٍ: افعل، ويقولون لآخر: لا تفعل، يقولون لفردٍ: اقعد.. ولآخر: اذهب.. فهم بذلك لا يأمرون من تلقاء أنفسهم، هم عبارة عن «شارع».. طريق.. سبيل.

    

عدم كفاية الادعاء بدون عمل

الشارع إذاً هو الطريق، أمّا نحن فلسنا بطريق، لماذا؟ لأنّه ليس لدينا اطّلاع، لا اطلاع لدينا حتّى بمقدار رأس الإبرة عمّا وراء هذا العالم، ومع ذلك ندّعي بأنّنا سخّرنا الكواكب... وندّعي أنّنا مسلّطون على الملك والملكوت! لكننا في الحقيقة لا نستطيع أن نرى أكثر من مترين أمامان وحسب! بل لا نستطيع أن نرى مترين أمامنا ! بلى .. الطبل مليء بالهواء، فارغٌ من الداخل! ماذا يقولون عن الطبل؟ كبير، لكنّ داخله مليء بالهواء، فارغ من كلّ شيء، لذا يحدث صوتاً.. وفي المقابل أولئك الممتلئون لا تجد لهم صوتاً!! لا صوت لهم، ليس لهم ضجيج.
يقول الشاعر سعدي عليه الرحمة:

ای مرغ سحر عشق زپروانه بياموز
                             کان سوخته را جان شد و آواز نيامد


(يقول:يا طائر السحر، تعلّم العشق من الفراشة *** انظر كيف تحترق روحها، ولا تصدر أيّ صوت!)
نعم تعلّم من الفراشة، أمّا البلبل فهو يغنّي طوال الوقت، يدّعي أنّه عاشقٌ للورود، عاشقٌ للأزهار، فيأتي ويزقزق ويرسل تلك الأنغام طوال النهار حتى المساء، لكن أيّها العزيز ليس المهم أن تزقزق وتغنّي، فلو سجّلنا هذا الصوت، وأعدنا بثّه، فيمكن للمسجّل أن يغني أكثر منك، فالزقزقة ليست بالأمر المهم، إنْ كنت صادقاً فيما تقول: انظر إلى حبّك ورغبتك تلك، وانظر إلى إبرازك للمحبّة إلى أين يمكنها أن تقطع بك المسافات وتجعلك تتقدّم؟
فكلّ هذه العبارات: سيدنا نحن نحبّك! ونحن من المريدين لك! ونحن من أتباعك .... ، ! كلّ هذه العبارات لا قيمة لها أبداً !! كلّها عبارات فارغة ولا قيمة لها! كلّها هرطقة ولعب! سيدنا نحن مخصلون لكم! وأيّ شيء تتفضّل به فسمعاً وطاعةً! لا أيّها الحبيب، هذه العبارات غير حقيقيّة! بل كلّها كلمات فارغة! فقاعات سراب! {كَسَرابٍ بِقيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً } لأنّه عندما يحصل ضغط بسيط، ستذهب كلّ تلك الكلمات والعبارات أدراج الرياح، وسننسى كلّ ما قلنا، أصلاً: ماذا كان هناك...؟ من قال: ...؟ من .. ماذا..؟ ومع حصول أيّ مسألة تخالف توقّعاتنا، نتعامل وكأنّه لم يكن هناك صداقة ورفاقة من الأساس أصلاً، وكأنّه لم يكن هناك من صداقةٍ أصلاً، وَكأنّه لم يكن هناك من علاقة أصلاً.. أبداً! أبداً!

ای مرغ سحر عشق زپروانه بياموز
                             کان سوخته را جان شد و آواز نيامد


إنّ الفراشة لا تزقزق طوال الوقت كالبلبل، ولا تستمرّ بالصفير والأنغام لا! بل تبقى تخفق بجناحيها، وتستمرّ في الخفقان والدوران حول الشمعة، تستمرّ بخفقان جناحيها، وهكذا تقترب من الشعلة شيئاً فشيئاً، وهكذا تبدأ حرارتها ترتفع.. تتقدّم رويداً رويداً.. ومع أنّها ترى أنّ هناك حرارة، فالشمعة حارّة، لكنّها تستمرّ بالتقدّم والتأخر.. تختبر نفسها وقدرتها.. وهكذا تختبر نفسها لتعرف مقدار قدرتها على الاقتراب من شعلة الشمعة؟ فتقدّم وتتقدّم وتستمرّ في التقدّم، فترى أنّ ذلك العشق وتلك العلاقة يسحبانها ويجرّانها إلى بطن النار، وإلى بطن الشعلة، فتعلم أنّه لا بدّ من إدامة المسير والتقدّم، تشعر باللذع واللسع، لكنّ هذه اللسعات تمثّل بالنسبة لها لذّة.. لذّة!
أمّا نحن فماذا نعرف عن ذلك؟ ماذا نعرف؟! بل نبقى كذلك: سيّدنا نحن نطيعك في أيّ شيءٍ تتفضّل به.. سيدنا نحن نقبّل ونلثم أياديك الطاهرة.. سيدنا أنت حبيبنا!! يا عزيزي اذهب ولا تضيّع وقتي! اذهب واتركني واعتنِ بشؤونك!
أمّا هذه الفراشة، فتتقدّم إلى الأمام.. إلى الأمام.. حتّى تصل إلى مقام لا تعرف فيه رأسها من أرجلها، وعندها تعبر عن روحها لكي تصل إلى محبوبها، فتجدها تتقدّم وترمي نفسها في النار، ترمي بنفسها فيها.

    

ضرورة الخبرة عند التصدّي لأي أمر

كان المرحوم الشيخ محمّد جواد الأنصاري.. لقد طرأت هذه القضيّة الآن في ذهني فحدّثت نفسي: هل أذكرها، أم لا أذكرها؟ أقولها أم لا؟ في النهاية قلت: سأذكرها! ولماذا لا أفعل؟! سأذكرها لكم.. كان المرحوم الأنصاري طبيباً وعالماً بالطب القديم، حيث كان قد درس هذا الطبّ دراسةً، ليس كما يحدث الآن؛ حيث تجد على رأس كلّ زقاق عطّاراً من هؤلاء العطّارين القديمين، ولديهم بعض الأدوية التي صنعوها و.. مع أنّهم لم يدرسوا شيئاً، بل وضعوا قليلاً من العلف مع قليل من العشب، وأعطوها لسيء الحظّ لكي يأكلها! نعم، كم هو سيء الحظّ من يأخذ تلك الأدوية؟! ثمّ إذا وقع على رأسه البلاء، يقولون: كان هذا الأمر مقدّراً له، هذا هو تقديره! ولا شيء آخر غيره! بل هذا هو قدره وتقديره، فلا حسيب ولا رقيب، أمّا الطب القديم والأطباء القدماء، فكانوا يدرسون هذه المسائل دراسةً، فنفس الطبّ العشبيّ له دراسته الخاصّة، وليس الأمر على هذا النحو الذي يقولونه: إنّ هذه أعشاب.. والأعشاب لا ضرر فيها، فإن كان كلامهم صحيحاً، فما بال السموم؟! أليست السموم من الأعشاب؟! وإلاّ فمن أين أتت هذه السموم؟ أتت من نفس الأعشاب، إنّها لم تأتِ من السماء!! والعديد من هذه الأعلاف مسمومة، والعديد من هذه الأدوية العشبيّة عبارةٌ عن سُمّ. لذا ينبغي أن تكون مقاديرها معيّنة ومقدّرة بشكلٍ صحيح، فعشبة الحرمل هذه التي يأكلونها، نفس هذا >الحرمل< عبارة عن سمّ ! سمّ !! فإذا أكل الإنسان مقداراً زائداً عن الحدّ، سيتوقّف الكبد عن العمل، فليس من الضروري أن يكون السمّ من المواد الكيميائيّة وحسب، بل قد يكون في نفس هذه الأقراص.. نفس هذه الأقراص التي يقولون فيها: إنّها طبيعيّة مائة بالمائة، بلى قد تكون نباتيّة وعشبيّة! لكن أليس في العشب سمّ؟! ألا ضرر فيه؟! بل فيه ضرر وضرر قويّ !! فيه ضرر قويّ !! ونفس النباتات التي توضع الآن في العديد من المنازل، نفس هذه النباتات والتي تكون أوراقها كبيرة، هي نفسها تكون مسمومة! وعليكم أن تكونوا حذرين من أن يضع الأطفال أيديهم عليها، فهي مسمومةٌ، ولو أكل الطفل مقداراً بسيطاً منها فسوف يموت، فهي تجعله يُسهِل ويموت، نعم العديد منها مسموم! والآن، يأتي أيّ رجلٍ ويدّعي أنّه عطّار، ويفتح محلاً للعطارة، و... وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من عالج الناس بغير علم كان ضامناً! وينبغي أن يقام عليه القصاص! لا أنّه... بل يقام عليه القصاص! ينبغي أن يعدمونه! وذلك لأنّه جاء وطبّب من دون علم، وتسبب بهذه النتيجة.
يقول المرحوم الوالد رضوان الله عليه: كنّا في النجف، وكان هناك طبيب من أطبّاء الأعشاب، وكان من هؤلاء الذي لا يفهمون حتّى بمقدار فهم الدواب! وبالفعل كان ينبغي أن يسمّى دابّة.. بل من الحيف تسميته بالدابة! .. من الحيف تسمية هؤلاء بالدواب.
يقول: كان أوّل طفل لنا بنت، (وكان اسمها فاطمة، وقد عاشت مدّة ستّة أشهر، وينقل أنّها كانت فطنة وذكيّة جداً) ، كان أمرها عجيباً جداً، أيّ: إنّها كانت تفهم وهي ذات ستّة أشهر، بمقدار ما يفهم الطفل في عمر سنوات، نعم كان أمرها عجيباً جداً، وكلّ من جاء ورآها، كان يتعجّب من فطنتها، (ولعلّه هذا هو السبب، حيث أصيبت بالعين بسبب ذلك ..) وفي يومٍ من الأيام مرضت، وأعطيت من هذه الأعشاب، من هذه الأعشاب التي تشبه الفطر والتي يأتون بها من أيّ مكان، فقالوا له فلان جيّد، يستطيع أن يفعل كذا، وهو يذهب إلى منازل المراجع ويطبّبهم، وبدؤوا يمدحونه... قال: فذهبنا بها إليه، فأخذ تلك الأعشاب، وقال: أعطها من هذه، وقال: افعل كذا وكذا... ! وبعد ثلاثة أيّام توفّيت!! ماتت! فقط بعد ثلاثة أيّام !! ماتت الطفلة وكان عمرها ستّة أشهر!! وهناك لم يكن يوجد طبيب، لم يوجد أحد، عجيب جداً، عجيب جداً.
كذلك حصلت له قضيّة في أواخر عمره، حينما كنّا نتردّد عليه، فقد حصل للمرحوم العلامة في يومٍ من الأيّام (لابأس أن نضحك على فنون بعض الأفراد، فالبعض منهم يتفنّنون فنوناً عجيباً جداً!!!) على كلّ حال.. مرِض المرحوم العلامة بمرض الصفراء، ونتيجة لذلك صار كبده أصفر، وبدأ جسمه يصفرّ، وبدأ يذهب هنا وهناك، وبعد مدّة فهم الأطباء أنّ به الصفراء، فهموا أنّ كبده لا يصفّي الجسم من الصفراء، حسناً كذلك نحن نستطيع أن نفهم مثلهم أنّ به الصفراء! لأنّ لونه كان بادي الصفرة، ولكن المهم ما سبب حصول ذلك؟ فالأسباب مختلفة في هذه المسألة، فمرضه كان عجيباً جداً، فأوّلاً: لم يكن يحس بآلامٍ... وعلى كلّ حال، ذهبنا من قم إلى هناك، ورأينا أنّ لونه أصفر، وحتّى لون ثيابه الداخليّة صار أصفراً، وكأنّه وضع عليه بهارات «العقدة الصفراء» ! صار أصفراً إلى هذا الحدّ، نعم كان ذلك لأنّ الجسم لا يخرج الصفراء منه، حيث أنّ الصفراء ينبغي أن تدخل خلف الإثني عشر، فتأتي من خلف الإثني عشر، وعندما يأتي الطعام تفرز الصفراء إفرازاتها، ولولا وجود الصفراء لما أمكن هضم الطعام، ولما كانت المواد الدهنيّة تفكّكت وتنهضم، فهي تخرج هكذا، فيخرج الفيتامين (K) وأمثال ذلك، والصفراء تعمل كذلك على هضم الطعام، ولكن كان هذا الإفراز والدفع مغلقاً، كان الأنبوب مغلقاً، فكانت المواد تعود إلى الكبد، فتدخل إلى نظام الجسم. فصار لونه أصفر!! وخلاصة الأمر أنّ كلّ فردٍ كان يأتي ويدلي بدلوه، يأتي فلان الفلاني، ويقول: افعل كذا! يأتي آخر، ويقول: أحضر سمكة حيّة من المكان الفلاني، من إحدى العيون، أحضرها حيّة، وكلها وهي حيّة! (حسناً، ولكن ماذا ستفعل هذه السمكة الحيّة في الداخل؟ أكيد ستسبح في الداخل !! نعم كان يتحدّثون بهذه الأفكار ... [يبتسم سماحة السيّد، ويقول:]) أنا قلت له: سيدنا العزيز! لا تقم بهذا الفعل! فلا نعلم هذه السمكة إذا دخلت إلى الداخل ماذا ستفعل ! كما جاء رجل آخر، وكان من همدان وتلك المناطق... وقال: ينبغي أن تأكل السمك الحيّ لمدّة سبعة أيام أو ثمانية أيّام! قلت له: أتحسب يا عزيزي أنّنا نعيش في نهر؟! ماذا تريد أن تصنع بأبينا؟!
ولم تمرّ الأيام حتّى عمل هذا الرجل بالطبابة! وأيّ طبابةٍ هي؟! سأذكر لكم أيّ نوع من الطبابة طبابته؛ قال: اذهب وأحضر حيّةً سوداء، وضع أمامها فأراً لتأكله، (لا أعلم من أين أتى بهذه الفكرة؟! لا أعلم أيّ عطارٍ كان هذا؟ وعلى كلّ حالٍ، جاء وتفضّل علينا بهذا الدواء): أحضروا حيّة سوداء، ولا تطعموها لعدّة أيام، واجعلوها تجوع... وبعد ذلك ضعوا أمامها فأراً، واتركوها تهجم عليه لتأكله، وحينما تبدأ بالتهامه، عندها.. عندها فقط .. عندما يكون نصفه في داخل فمها ونصفه في الخارج، إقطعوا رأس الحيّة (نحو القبلة طبعاً !!) ثمّ ذلك الدم الذي يخرج من رأسها، انتظروا آخر ثلاث قطرات ... ( أنا جادٌ في كلامي!! أنا لا أبتدع هذا من عندي !! فنحن في ليالي شهر رمضان! والكذب حرام، وما أنقله لكم صدق وحقيقة!) خذوا آخر ثلاث قطرات، ومرّغوا بها هذا القسم من الكبد، وعندها سيدفع الكبد كلّ ما في داخله من الصفراء، وإن شاء الله المسائل ستحلّ بأكملها.
نعم، نظر إليّ العلامة ـ وكنّا حينها في السيّارة ـ ثم قال لذلك الرجل: لكن من أين لنا أن نجد تلك الحيّة السوداء، ومن أين لنا أن نجد ذلك الفأر؟ ثمّ بعدها نضعه أمام تلك الحيّة، وننتظر إلى أن يدخل نصفه في حلق الحيّة، ونصفه في الخارج، لا شكّ أنّنا سنحتاج إلى متر، لنقيس المسافة... [ضحك] والحاصل أنّ هذا النوع من الطبّ موجودٌ أيضاً!!
يقال: الإيرانيّون ماهرون في ثلاثة أشياء: الشيء الأوّل: كلّهم بنّاؤون! كلّهم بنّاؤون ومعمارون، فكلّ رجلٍ مهما كان ومهما كانت وظيفته، يعطيك خريطة ورسمة ويخطّط لك خطّة للبناء!! سيدي: اجعل الغرفة الداخليّة على هذا النحو، سيدي: الأفضل أن يكون المجلس والصالون على هذا النحو، سيدي: الحمام اجعله هكذا.
بلى!! يقال: إنّ المولى ناصر الدين أراد أن يبني داراً، ( ولا أعلم هل هذه القصّة صحيحة أم لا..) أراد أن يبني داراً، فجمع بعض الأفراد وكلّ واحدٍ منهم كان يقول شيئاً، أحدهم يقول: اجعل المطبخ هنا، وأحدهم يقول: نجعل الغرفة هنا، وهو يقول: حسناً.. ذاك يقول: اجعل المجلس ها هنا، فقال: حسناً.. وذاك يقول: اجعل بركة الاستحمام هنا... وفي هذه المعمعة، سمعوا صوتاً من أحدهم كان في إحدى الزوايا وكان يقول: لقد صار مكان الحمّام معلوماً ومحدّداً مسبقاً!! فقال: نعم فعلاً صار مكان الحمّام معلوماً ومحدّداً!
نعم الآن سنذهب نحو البقيّة: أحدها في الهندسة والعمارة. وأحدها في الطبابة! فالجميع أطبّاء! يا عزيزي: كلّما توجّع رأس أحدهم، يأتي أحدهم يقول: خذ قرص الدواء هذا، والآخر ويقول: كل من هذا العلف، والثالث: يقول: ...
في مرّة من المرّات، كنت في مشهد في خدمة المرحوم الوالد رضوان الله عليه، فحضر رجلان، لن أذكر الأسماء؛ لأنّهما لا يزالا على قيد الحياة، لكنّهما كانا من الأفراد الرسميّين، ولو ذكرت أسماءهما، فالعديد سيعرفونهما. كانا قد جاءا للقائه، وجرى الحديث في مسألة ضغط الدم، حيث كان رحمه الله مبتلى آنذاك بضغط الدم.. وجرى الحديث: لديه ضغط، ولديه دهن في الدم.. وهذه المسائل، فقال أحدهما: يا بنيّ لديّ أمر... (كان هذا الرجل من نفس تلك المدينة التي جاء منها ذلك الرجل الذي حدثتكم عنه قبل قليل! كان من نفس تلك المناطق! [تبسم] ولا أدري لماذا يتّصف أولئك الأفراد بهذه المسألة! ) قال: يا بني عندي دواء أعرضه بخدمتك، وهذا الدواء سيقتلع جذور ضغط الدم من والدكم من جذوره، من جذور جذوره! وحينها لن يكون معكم لا ضغط دم، ولا أيّ شيء. قال الوالد: حسناً تفضّل! وكان هذا الرجل قد رتّب نفسه أحسن ترتيب، والمهم قال: في كلّ يوم امضغ حبّةً بمقدار الحمّصة من الترياك (الترياك: نوع من أنواع الحشيشة)! فقال له: ماذا تقول؟!!
بعدها قال: ولكن إن لم يذهب ضغط الدم سأصبح مدمناً! سأصبح مدمناً على الترياك! ثم قال... قال: لا سيّدي أنا أتكلّم بجدّ! فلن يبقى عندك ضغط دمٍّ أبداً! لن يبقى له أيّ أثرٍ! فقال له الوالد: لا يا سيدي! أُفضل الموت على ذلك! أفضل أن أموت من أن أصبح مدمناً على الحشيشة! فحينها سيقولون: صار آية الله الطهراني مدمناً على الترياك؟!!
وأمثال هؤلاء كثيرون!! لا أعلم كيف يصبحون هكذا؟! لكن بالطبع لا يمكن لأيّ واحدٍ أن يصبح هكذا! فهؤلاء ممن يقال بحقّهم: خلق الله للحروب رجالاً!! [يبتسم سماحة السيّد] بلى!! إنّ الله خلق لكلّ شيء خلقاً خاصّاً.. المهم، قال له: لا يا عزيزي الموت أفضل!! أُفضل الموت على ذلك! لا نريد هذه الوصفة.. لا نريد وصفتكم هذه! (أين كنّا؟!) نعم ..
الحاصل.. كان المرحوم الشيخ الأنصاري بنفسه طبيباً، وكان عالماً بالطبّ القديم وبهذه المسائل ـ كنّا نتحدّث عن قول البعض: نحن نحبّكم ونمشي بممشاكم وما إلى هنالك من هذه العبارات، فهذه فقط عبارات، بالطبع ليس كلّها، إذ الصدق والصفا موجود في بعض الأحيان ـ المهم: كان هناك رجلٌ من أصدقائه ورفقائه، وقد مرض ابنه.. مرض طفله، فأتى به إليه، فوصف له الشيخ وصفة طبيّة، ولكن بعد عدّة أيام مات هذا الطفل، طبعاً لم يكن واضحاً أنّ وفاة هذا الطفل بسبب الوصفة، أو بسبب أمر آخر. والحال أن المرحوم الشيخ الأنصاري كان متبحّراً في هذا العلم، وكان طبيباً حاذقاً، وله خبرة كبيرة بالأدوية؛ أي: إنّه كان خبيراً بحقّ في هذه المسألة، ولكن إمّا أن يكون قد جاء أجَلُ ذلك الطفل، أو أنّ سبب الوفاة أمرٌ آخر، دون أن يكون علاقة له بهذه المسألة. وفي النتيجة ذهب والد الطفل واشتكى على الشيخ الأنصاري، وصار في المسألة قضيّة ومحكمة، وغيرها من المسائل!! عجيب جداً، إذ قال لهم: هذا الرجل أخذ طفلي وقتله! هذا الرجل أخذ طفلي وقتله!
حسناً، ولكن هل أرسل خلفك الشيخ الأنصاري لكي يعالج ابنك؟ هل قال لك: أحضره لكي أعالجه وأصف له دواءً؟! أم هل كنت مجبراً على تنفيذ هذه الوصفة؟! إن كنت لا تريد، فلمَ أتيت! أليس لك عينان! أليس لك عقل وفهم؟ حسناً كان باختيارك أن لا تأتي! لماذا إذاً ترميها برقبة الشيخ؟ لماذا تضع أوزار تصرّفاتك على رقبة الآخرين؟ اعلموا أنّ هذه المسائل سيكون فيها عقوبة شديدة!

    

الأحكام الشرعية والغاية المرجوّة منها

«الشارع» .. ومن يطلق عليه «شارع» هو الذي يوضّح الطريق، يوضّح الطريق نحو الباطن، يوضّح الطريق نحو الحقّ، يوضّح الطريق نحو الواقع، يوضّح الطريق نحو التكليف.
وما هو التكليف؟ التكليف: هو عبارة عن ذلك العمل الذي ينبغي على الفرد أن يقوم به لكي يصل به إلى مصالحه، ولكي يدفع به المفاسد والموانع عن نفسه، فهذا العمل ينبغي عليه أن يقوم به، وهذا ما يعبّر عنه بالتكليف.
وهذا هو معنى الشرع، فالشرع، يعني: القانون الذي ينبغي على الفرد أن يطبّقه من أجل الوصول إلى تلك المصلحة، والمصلحة: هي عبارة عن قطع التعلّق بالدنيا، والتقرّب إلى الحقّ، والذي هو عبارة عن تجرّد الذات وتجرّد النفس، وهو عبارة عن نورانيّة القلب وقلع الظلمة والكدورة عنه، ولذلك يحتاج إلى السير طبقاً للنظام؛ طبقاً لنظامٍ اجتماعيٍّ ونظامٍ شخصيٍّ بما يتناسب مع المصالح الاجتماعيّة والشخصيّة، وهذا ما يعبّر عنه بالشرع، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ...}[1].
هذا هو الشرع، وآيات القرآن تدلّ على هذا الأمر أيضاً، والمسائل المتعلّقة بهذا الموضوع مسائل واضحة وجليّة جداً، هي واضحة ومتميّزة، ولذا نرى في الشرائع وفي الأديان أنّ هناك حكمين، هناك نوعين من الأحكام: أحدهما حكمٌ كليٌّ؛ يعني ذلك الحكم الذي يقال له: الحكم الابتدائي، والحكم الأوّلي، وهذا الحكم فيه جنبة كليّة وجنبة واسعة، تماماً كما ترون في قوانين الأمم المختلفة، وفي قوانين المجتمعات، فالحكم فيها جميعاً على نوعين؛ فهناك نوع من الأحكام يمثّل الأحكام الكليّة وهذه الأحكام هي أحكامٌ للجميع، وهي تكون في المرحلة الأولى وفي المرحلة الابتدائيّة، وهي ما ينبغي على الجميع أن يقوم بها.
ومثال هذا النوع من الأحكام، الحكم مثلاً بأنّه: على الجميع إذا ساروا بسيّاراتهم في الطريق فعليهم أن يسيروا على الجهة اليمنى منه، وبالتالي ينبغي على السيّارة أن تسير على يمين الشارع وفي الجهة اليمنى، وعلى كلّ السيّارات أن تسير في هذه الجهة، فالذاهب يذهب من جهته اليمنى، والآتي يأتي من جهته اليمنى، وبذلك لا يصطدمان ببعضهما البعض. حسناً، إذن على كلّ واحدٍ منهما أن يمشي في الجهة المخصّصة له، وإذا سار فردٌ في الجهة المقابلة، وكان سيره بنحوٍ مخالفٍ، حينها يكون قد عمل عملاً مخالفاً للشرع، والشرطة ستحرّر له مخالفة مروريّة، وتقول له: أنت سرت عكس السير، مشيت في الطريق الخاطئ، ولذا ينبغي أن تُعطَى مخالفة مروريّة، وإذا حصل اصطدام هناك، فعليك أن تتحمّل المسؤوليّة وتدفع كلّ التكاليف المتوجّبة، وإذا حصلت وفاة وقتل، فالمخالف هو المخطئ؛ لأنّه سار خلافاً للمسار المحدّد، وعليه أن يتحمّل مسؤوليّة كلّ التبعات الآثار الناجمة عن عمله.

    

تبدّل الأحكام الشرعية بتبدّل موضوعاتها

لكن بالتوازي مع هذا الحكم الكلّي، لدينا مجموعة من الأحكام التي يطلق عليها الأحكام الاستثنائيّة، والحكم الاستثنائي ينصبّ على فردّ محدّد، لا أنه يتعلّق بالجميع.. فهل يستطيع الجميع أن يقول: أنا مستثنى من القاعدة وأريد أن آتي في الاتجاه المعاكس؟! كلا.
ولكن لو كان في السيارة مريض، ويريد الوصول إلى المستشفى، فإنّ هذا المريض يمكنه أن يمشي عكس السير الأصلي، وإذا أمسكت به الشرطة وتأكّدت أنّه مريض، فعلى الشرطيّ أن يخلي سبيله، ذلك لأنّه ينبغي أن يصل إلى المستشفى في أسرع وقت.. مثلاً: سيارة الإسعاف!! سيارة الإسعاف!! ما حكمها؟ تستطيع أن تمشي بعكس السير، كذلك الأمر بالنسبة لسيارة الإطفائيّة، فسيارة إطفاء الحريق وأمثالها تستطيع أن تمشي بعكس السير، أليس كذلك؟ لماذا؟ لأنّ المصلحة المترتّبة على الوصول إلى تلك النقطة من أجل إطفاء الحريق أعلى من المفسدة المترتبة على السير بالاتجاه المخالف؛ ذلك أنّ السير بالاتجاه المعاكس يترتّب عليه مفسدةٌ حتماً، ومفسدته هي احتمال اصطدامه.. وإلاّ فلماذا يقولون: عليك أن لا تمشي في الاتجاه المعاكس؟ لأنّ في هذا الفعل مفسدةٌ، لاحتمال الاصطدام بسيّارة أخرى، أو لاحتمال الاصطدام بفردٍ يعبر الطريق، أو لاحتمال الاصطدام بالعديد من الأشياء الموجودة هناك، حسناً هذه هي المفسدة، ومن أجل أن نتوقّى الوقوع في هذه المفسدة، تقول شرطة المرور: عليكم السير في الجهة اليمنى، ولا يمكنكم السير في الاتجاه المعاكس.
ولكن عندما توجد مصلحةٌ أخرى تغلب على هذه المفسدة، تجد أنّ نفس شرطة المرور تسمح لذلك الفرد بأن يسير عكس السير الأصلي وفي الاتجاه المعاكس، فعلى سبيل المثال: إذا كان هناك مكان يحترق، فلو أرادت سيارة الإطفائيّة أن تمشي في المسارات المعتادة والأصليّة لكي تصل إلى ذلك المكان وتخمد الحريق، فإنّها ستصل متأخّرة، وستكون النار قد التهمت المبنى بالكامل! وستكون الكارثة قد وقعت، وبالتالي فالمفسدة من ذلك أعلى من المفسدة المترتبة من السير بالاتجاه المخالف. ولذا، وبسبب هذه المفسدة، يأتي الحكم والتكليف بنحو إلزامي بالنسبة إلى سائق هذه المركبة، ويقول له: السير بالنسبة لك بالاتجاه المعاكس واجب وإلزامي، ففضلاً عن كونه غير ممنوع وغير محرّم عليك، يقول هو واجبٌ ! يجب عليك أن تمشي في الاتجاه المخالف لكي تصل إلى تلك النقطة بأسرع وقت لتخمد الحريق الموجود.
هنا المفسدة موجودة، وهناك المفسدة موجودةٌ أيضاً، ولكن هناك المفسدة أكبر، المفسدة هناك تغلب على التي هنا، كذلك الأمر عندما يكون هناك مريض.
ولكن نفس سائق الإسعاف إذا أراد ـ مثلاً ـ أن يعود من المستشفى إلى منزله، يُقال له حينها: عليك أن تسير طبقاً للقانون، ولا يسمح لك بالسير بعكس السير أبداً، لماذا؟ لأنّك تسير نحو منزلك، ونحن لا نتعامل معك الآن على أنّك سائق الإسعاف.. أنت الآن لست سائق إسعاف، بل سائقٌ لسيارةٍ خصوصيّةٍ، الكلام هو عندما يريد الذهاب إلى منزله أو منزل أحد أقاربه، ولذا يكتبون: يمنع استخدام هذه المركبة في الأمور الشخصيّة، يمنع استخدام السيارة في الأمور الشخصيّة، ألا يكتبون ذلك على سيارات الإدارات وأمثالها: «يمنع استخدمها في الأمور الشخصيّة»! لماذا؟ لأنّ هذه السيّارة تابعة لتلك المؤسسّة.. تابعة لتلك الإدارة، ولا ينبغي أن تستخدم بشكل شخصيٍّ، ولو افترضنا الآن أنّ هذا السائق لا يريد أن يستخدمها في مسائل المؤسسة أو الإدارة التي يعمل فيها، مثلاً: يريد أن يذهب إلى منزله، (طبعاً مع افتراض أنهم أجازوا له الذهاب بها)، يريد أن يذهب إلى منزله وأن يستريح قليلاً، وأن يتناول طعام الغداء، ثم يعود إلى عمله من جديد، وخلال هذه المدّة لم يكن هناك أيّ مسألةٍ ضروريّةٍ ولا شيءٌ خاصّ،ٌ فلا يحقّ له عند ذلك أن يستخدم جهاز الإنذار الذي فوق الإسعاف أو فوق المركبة، ولا يحقّ له أن يستغلّ السيارة استغلالاً سيئاً، فيضيء الأنوار ـ مثلاً ـ ويطلق جهاز الإنذار فيها، ويمشي بعكس حركة السير، ويقوم بهذه الحركات، حتّى يعتقد الناس أنّه يحمل مريضاً معه في السيارة، إنّ تصرّفه هذا حرام!
وإذا قام أحد سائقي الإسعاف في هذه الحالة، ومن دون أن يكون لديه مريض، وأطلق جهاز الإنذار، وخدع الناس بذلك، وأفسحوا له الطريق من أجل ذلك، فإنّ فعله هذا حرام!! ولكن إن كان لدى هذا السائق مريض، يصبح هذا الفعل نفسه عملاً واجباً!! لا أنّه مباح وحسب، بل يتغيّر الحكم بمقدار مئة وثمانين درجة، ولا يقتصر على كونه مباحاً ، بل يصبح واجباً!! (أرجو أن تتوخّوا الدقّة هنا!! لأنّنا سنحتاج إلى هذه المسألة في فصول البحث التالية)، التفتوا إلى ما أقول: لا يقتصر فعله على كونه ليس بحرام، بل يتعدّاه ليصبح ماذا؟ ليصبح واجباً! يعني: هناك اختلاف بمقدار مئة وثمانين درجة بينهما.
إذاً الشرع كما قلنا يعني: الطريق.. التكليف.. القانون.. حكم الدولة. وهو يقول: على سائق الإسعاف أن يمشي ويسير بسيّارته كما يسير الجميع عندما يريد الذهاب إلى منزله؛ فينبغي عليه أن يسير في الشارع الأيمن وفي الجهة اليمنى، يمنع عليه السير عكس السير، وهذا القانون يصبح شرعاً بالنسبة له، وذلك حينما يكون في المستوى العادي وحينما يكون في فضاءٍ وجوّ طبيعيٍّ وعادي.. عندما يكون في جوّ إعتيادي لا يحمل معه مريضاً، ولا يوجد هناك أيّ ضرورةٍ تقتضي ذلك، عندها عليه أن يسير كسائر الأفراد.
ولكن عندما تتغيّر هذه الظروف، فيصبح هناك مريض داخل الإسعاف، أو عندما يتّصلون بسائق الإطفائيّة: احضر بسرعة لأنّ النيران تلتهم المبنى! عندها، على هذا السائق أن يصل هناك بأسرع وقت، وهنا فجأة نرى أنّ الشرع قد تغيّر بالنسبة له، فماذا صار حكم ذلك العمل (المشي عكس السير)؟ يصبح واجباً !! لا أنّ ذلك الحرام يجلس جانباً، ولا أنّه لم يعد لذلك الحكم بالحرمة سلطة ها هنا! وليست المسألة أنّ الحكم في الواقع كان هو الحرمة، ثم حصل هنا استثناء للحكم، لا.. لا يوجد استثناء! بل يوجد هنا حكمان اثنان، ونحن لا يوجد لدينا استثناء، لا يوجد لدينا تخصيص، بل هناك حكمٌ مستقلّ لهذا الفرد حينما يكون في ظروفٍ عاديّةٍ، وحكمه كذا، كما يوجد حكم آخرٌ مستقلٌّ لهذا الفرد عندما يكون في الظروف الفلانيّة، وحكمه كذا، الحكم الذي يتعلّق بهذا «الموضوع» (كما يسمّونه بالإصطلاح الفقهي) هو الحكم الكذائي، وعندما يتغيّر «الموضوع» ، فالحكم يتغيّر بتغيّر «الموضوع»، ويصبح حكمه كذا. وبالتالي، ماذا سينتج عندنا؟ سينتج شرعان! حكمان! تكليفان! وهذه المسألة تسري في كلّ مكان، تسري في كلّ القوانين، وفي كلّ المجتمعات، وفي كلّ الحضارات، في كلّ مكان، هذه المسألة موجودة في كلّ القضايا، كلّما كان لدينا هذا النوع من القضايا ستوجد هذه المسألة.

    

عدم وجود حكم ثانوي بل جميع الأحكام أولية

ففجأة نرى الأمر الذي كان حراماً قد تبدّل إلى أمرٍ واجب، كان أمراً حراماً للأفراد الذين ينطبق عليهم الشروط الفلانية.. وهنا ينبغي الإشارة إلى أنّ الأصوليّين يسمّون ذلك بـ «الأحكام الأوّليّة» و«الأحكام الثانويّة»، ولكن بناءً للتحقيقات التي جرت في بحوثنا ومباحثاتنا، قررنا أنّه: ليس لدينا أحكام أوّليّة، وأخرى ثانويّة، بل كلّ الأحكام هي أحكامٌ أوّليّة، غاية الأمر أنّ الحكم يتوقّف ويتغيّر بحسب تغيّر واختلاف الموضوع، وعندها يصبح الحكم مختلفاً أيضاً، والحاصل أنّه ليس لدينا حكمٌ أوليٌّ، وحكمٌ ثانويٌّ.
ولأجل ذلك في مسألة الصلاة ليس لدينا حكمٌ أوليٌّ وحكمٌ ثانويٌّ ؛ فمثلاً: ليس الحكم الأوّلي هو التمام، ثم نستثني الفرد الذي يسافر، فيصبح حكمه قصر الصلاة، كلا! بل الصلاة هي الصلاة، ولكن تتوقّف الصلاة على ذلك الموضوع الذي تتعلّق به، وعندها ستتغيّر صفة صلاة الحاضرين عن صلاة المسافرين، وهناك آثار عديدة ستترتّب على هذا الرأي، فالتفتوا للأمر ودقّقوا فيه!! ويمكن للأصدقاء الفضلاء أن يستفيدوا من هذه المسائل، ويمكنهم حينها أن يستخرجوا ويستنتجوا العديد من الأمور في الاستنباط والإجتهاد، وستصبح المسائل مختلفة كلّ الاختلاف، فهناك حكمٌ للفرد الذي يكون حاضراً، وحكمه: «التمام»، وهناك حكم للفرد المسافر، وهو: «القصر»، لا أنّه يوجد استثناء، وهو: «الحكم هو التمام إلا أن يكون مسافراً» لا ليس الأمر بهذا النحو.
الصوم واجب على الإنسان السليم، أمّا بالنسبة للإنسان المريض، فأصلاً الصوم بالنسبة له حرامٌ من الأوّل، ولا يوجد هناك استثناء، ولا يوجد تخصيص، وكذا الحجّ واجبٌ على الإنسان المستطيع، أمّا بالنسبة لغير المستطيع فلا يوجد استثناء، بل غير واجب عليه، ومن الأوّل لم يكن واجباً، يعني: الأحكام تتشكّل وتتغيّر بناءً للموضوع الموجود، والحكم يبقى مرفرفاً كالطائر، ويقول: لا أعلم ماذا أفعل! فسعيد الحظّ هذا لا يعرف على أيّ رأس سيحطّ! هل يحطّ على رأس هذا، أم على رأس ذاك، أم على رأسٍ الثالث؟ أليس كذلك؟ لا يعلم، بل يراقب: وعندما يرى أنّ الشرط تحقق، فيذهب ويحطّ على رأسه. هذا هو الحكم، وهذا هو الشرع؛ ففي الشرع قد يختلف حكم كلّ فردٍ عن حكم الفرد الآخر. ويمكن أن يكون هناك اختلاف.
مثلاً: أنا الآن لا أعاني من أيّ ألم؛ لا ألم في ظهري، ولا في رأسي، ولا في رجلي، وليس بي أيّ علّة، ولذا عندما يأتي الشارع ويقول: صلِّ! يجب علي أن أصلّي واقفاً مستوي القامة، عليّ أن أصليها كصلاة السليم. ولكن عندما يكون هناك ألم في ظهري، وعندما يبدأ الألم، يأتي الشارع ويقول: حيث إنّ ظهرك يؤلمك، لذا يجب عليك أن تصلّي من جلوس، ولا ينبغي أن تصلّيها بالنحو الأوّل. فهذا هو حكمي، وهو ليس حكماً ثانويّاً، بل هو حكمي الأوّليّ، لماذا؟ لأنّني مريض.وأمّا حكم الفرد الآخر، فهو الحكم الفلاني، هذا هو الحكم.. يعني: يجب عليه أن يصلّي صلاة تامّة. ولو كان هناك فرد آخر، لا يستطيع أن يجلس أصلاً، يجب عليه أن يصلّي مستلقياً.
هل التفتّم؟ هناك عشرة أقسام من الحكم لصلاة واحدة: هذا الفرد بهذا النحو، وذلك الفرد بذلك النحو، والفرد الثالث بنحو ثالث.. وعلى كلّ فردٍ أن يصلّي طبقاً لحالته، ولا يجب عليه أن يقضي صلاته أيضاً، يعني: لو أنّك كنت في أوّل الوقت مريضاً، وتعلم أنّك ستصبح بحالةٍ جيّدةٍ بعد ساعةٍ، مثلاً: الآن يؤلمك ظهرك، في هذه الحالة لا يجب أن تصبر إلى الساعة الأخرى، لا أبداً! بل ينبغي عليك أن تصلّي الآن من جلوس، ولا يجب عليك الصبر، ثم هل ينبغي عليك بعد ساعة ـ عندما تتعافى من الألم ـ أن تعيد الصلاة من وقوف؟ لا أبداً! كما لا يجب عليك بعد ذلك أن تعيدها لا أداءً ولا قضاءً ولا إعادةً، بل تكتفي بتلك الصلاة التي صليتها في أوّل الوقت بعد الأذان، لماذا؟ لأنّ هناك خطاباً موجّهاً إليك، وهناك حكمٌ حكمَ عليك بالصلاة في أوّل الوقت، وعندما صار وقت زوال الشمس فإنّ الحكم بالصلاة يكون قد جاء وقال لك: صلِّ.
وفي المقابل لم يقل الشارع: إنّ الصلاة واجبةٌ الآن على الجميع إلاّ أنت فليست واجبةً عليك الآن، بل انتظر ساعةً أخرى، اجلس مدّة ساعةٍ أخرى، وعندما تتحسّن حالتك عندها قم وصلِّ. لم يقل: أنا لا أريد منك إلاّ صلاةً من وقوف، ليس هناك كلام بهذا النحو على الإطلاق، لا أبداً. وإنّما يقول الشارع: عندما يحين وقت الصلاة، يجب عليك الصلاة بالحالة التي تكون عليها، الصلاة واجبة عليك؛ فحتّى لو كنت مريضاً تبقى الصلاة واجبة.
نعم هناك مسألةٌ وحيدةٌ، وهي في الوضوء حيث يقولون: إن لم تجد ماءً عليك أن تبحث بمقدار المسافة الفلانية، ولكن هذا الأمر خارج عمّا نحن فيه. هذا هو المورد الوحيد، ولا يوجد غيره، وهو خارجٌ عمّا نحن فيه.
عندما يأتي الشارع ويقول: يجب عليك أن تصلّي! إذاً يجب عليك أن تصلّي الآن.. وليس من الواجب عليك أن تصبر.. فهل لدينا حكم يقول: (لا تصلّ الآن)؟! وفي المقابل جاء الأمر بالنسبة للأفراد السالمين بأنّ عليهم أن يصلّوا الآن.. فلأنّهم سالمون، يجب عليهم أن يصلّوا الآن؟! هل يجب عليهم أن يصلّوا صلاتهم بعنوان كونهم سلامين من أجل إدارك الفضيلة دوننا؟!

    

قصور الإنسان عن بلوغ حقيقة التكليف

بناءً على هذا، فالشرع هو عبارة عن ذلك التكليف الواقع على الإنسان، وهذا التكليف إمّا أن يكون مشتركاً مع تكليف سائر الأفراد، أو أن يكون هذا التكليف تكليفاً خاصّاً بفردٍ محدّد بخصوصه، ولا يشترك معه سائر الأفراد في هذا التكليف، وكلا التكليفين ماذا يكونان؟ يكونان شرعاً. كلاهما شرعٌ، حسناً! والآن نأتي إلى هذا الشرع وإلى هذا التكليف، ونسأل: من الذي ينبغي أن يقوم بتبليغ هذا الشرع وهذا التكليف؟ فهل يستطيع الإنسان أن يصل بنفسه إلى هذا التكليف؟ لا ليس باستطاعة الإنسان أن يصل إليه. نحن ليس لدينا اطّلاع على الأحكام نحن ليس لدينا اطّلاع على تلك القوانين ولو كان من المفترض أن يكون لدينا اطلاع على ذلك، لكنّا جميعاً رسلاً وأنبياء!! أليس كذلك؟ لكنّا رسلاً وأنبياء بأجمعنا!! وكلّ واحدٍ منّا!!
ألا يقولون ذلك في هذه الأيام؟ يقال في هذه الأيّام: إنّ الحجّة على الإنسان هو الدين الذي يفهمه وحسب.
لو كان الأمر كذلك، لكان الأمر بالنسبة إلى الإنسان الذي لا يفهم أيّ شيء، هو أن يكون فهمه هذا حجّة عليه! هذه راحة ما بعدها راحة! كلّ فردٍ يجب عليه ما يفهمه وحسب! يجب على كلّ فرد فقط مقدار ما فهمه من الدين! من دون أيّة ضوابط وحدود، ليس هناك ما يلجم جماحه، ومهما كانت أفكاره نابعة من الجهل فيمكن لكلّ إنسان أن يمشي طبقاً لسليقته المختلفة؛ لأنّ لكلّ إنسان دينه الخاصّ! على كلّ حال، نحن لا شأن لنا بهؤلاء الأفراد الذين يقولون هذا الكلام.
إذن ما نعتني له هو الشرع، والشرع ينبغي أن يصلنا عبر الشارع، يعني: ذلك الشخص الذي يدلّنا على السبيل.. الذي يدلّنا على الحقيقة.. على المصحلة المُلزمة أو المصلحة غير الملزمة.. على المفسدة الملزمة أو المفسدة غير الملزمة، أو يدلّنا على غير ذلك، فيعرّفنا أن الحكم هنا هو الإباحة، فالشرع ينبغي أن يتمّ بيانه من قبل الإنسان الذي له الاطلاع على هذه المسائل. ولأجل هذه المسألة أرسل الله عزّ وجلّ الأنبياء والرسل، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْميزانَ}، إذاً فهذا هو سبب بعثة الأنبياء، ولأجل هذه المسألة جاؤوا، وهي: أنّ يبيّنوا الأحكام التي تُوصل الناس إلى الصلاح، ويعرّفوهم على الأحكام التي تبعدهم عن المفاسد. بناءً على هذا، فكلّ حكم يلقيه الشارع على المكلّف، فذلك الحكم إلزاميّ في حقّ هذا المكلّف، مهما كان ذلك الحكم، فإذا جاء الشارع، وقال: أيّها السيد فلان عليك أن تقوم بهذا الفعل الفلاني، يصبح فعله إلزامياً!.. عليك أن لا تفعل الفعل الفلاني، صار ملزماً بعدم فعله! لماذا؟ لأنّه شارع.. لأنه هو الشارع.

    

إمكانية أن يأمر الشارع بأمر مخالف للحكم العام

هل يمكن للشارع أن يلزم فرداً بحكمٍ يخالف الحكم العام وذلك بأن يأمره بفعل أمرٍ معيّن، أو ينهاه عن فعلٍ معيّنٍ، أي: ينهاه عن فعل أمرٍ معيّنٍ مع أنّه أمر الآخرين بفعله؟ هل يمكن للشارع أن يقوم بهذا الفعل؟ البعض يقولون: لا! لا يمكنه أن يفعل ذلك.
هناك العديد من الأفراد غير المطّلعين، ومن الأفراد الذين ليسوا خبراء بالمباني، يقولون: لا يمكن للشارع أن يُجري حكماً خاصّاً على فردٍ من الأفراد؛ بحيث يكون هذا الحكم مخالفاً لما قاله هو، ومخالفاً للقانون العامّ الذي وضعه وبيّنه هو لجميع الأفراد.
هنا نسأل نحن: بناءً على ما تم عرضه حتّى الآن.. هل هذا الكلام صحيح أم خطأ؟ واضح أنه خطأ، لماذا هو خطأ؟ لأنّه بحسب الفرض هو الشارع، نحن افترضناه أنّه هو الشارع، وأنّه بإمكانه الوصول إلى الواقع، فأنا الحقير ليس لديّ سبيل إلى الواقع! أنا لا طريق عندي إلى الواقع! أمّا هو فلديه سبيل إلى الواقع، وعندما يكون لدى الشارع طريقاً وسبيلاً للوصول إلى الواقع، فعندها يصبح من الممكن أن يكون الصوم بالنسبة إلى فلان واجباً، ويمكن أن يكون بالنسبة إلى فردٍ آخر ـ بسبب مرضه وبسبب الضرر عليه ـ محرّماً، ولذا ينبغي عليه أن لا يصوم. وكذلك الأمر بالنسبة للصلاة التي تجب على الأفراد الذين لا عذر لديهم، بينما في نفس الوقت لا تجب على من لديهم أوجاع في الظهر أو المصابين بالـ "ديسك" ، بل يحرم عليهم الصلاة من وقوف؛ لأنّ ذلك سيزيد من مرضهم.
هناك البعض يجعلون أنفسهم أشخاصاً مقدّسين! يجعلون من أنفسهم أشخاصاً مقدّسين، مقدّسين ولكن بنحو خاطئ، فتجد أنّ لديهم جرحاً في المعدة، لديه مشاكل صحيّة في المعدة، أو لديه مرض في كليته، أو أمراض في القلب، وبالتالي فالصوم بالنسبة له فيه إشكال.. لكنكّ تجدهم يقولون: بل ينبغي أن أصوم، فهل يمكن أن يأتي شهر رمضان ولا أستفيد من فيضه؟ فتنزل آلاف المصائب على رأسه بفعله هذا. إنّ فعله هذا فعلٌ حرامٌ، صومه باطلٌ، وقد ارتكب فعلاً محرّماً، وأجهد نفسه بلا طائل، وسيحاسبه الله ويقول له: لماذا قمت بهذا الفعل؟ فأنا إنّما أوجبت الصوم على غيرك لا عليك، أوجبته على الأفراد الذين لا يضرهم. ألستَ تصوم من أجل أن تطيعني أنا؟ (التفتوا لما أقول!! هنا بيت القصيد، وهنا طريق الحلّ لتلك الإشكالات!! هنا!!) أنت إنّما تصوم، وتشعر بأنّك تقوم بتكليفك ألا تقوم بذلك طاعةً لي؟! لكن أنا أقول لك لا تصم! فلماذ ـ إذاً ـ صمت؟ لماذا تصوم؟ إذاً في الواقع هي طاعةٌ للنفس وليست طاعة لي! هذه ليست طاعة للأمر، هذا الفعل في الواقع طاعةٌ للنفس، فكما أنّ التقرّب إليّ يكون بوجوب الصوم على الصائمين، فكذلك تقرّبك أنت منّي يكون بالإفطار، ولو صمت والحال هذه، فهذا يعتبر تمرّداً!! تكون قد تمرّدت!! وسيكون صيامك باطلاً لا قيمة له، ويجب عليك أن تقضيه فيما بعد، والآن تفضّل بقضاء الصوم لاحقاً حينما تشفى، يعني: فضلاً عن كونك صمتَ، وآذيت معدتك أيّما أذيّة، فلن أعطيك ذرّة من الثواب، بل سأعاقبك، وبعد ذلك كلّه عليك أن تقضي ما صمته أيضاً؛ لماذ؟ لأنّك تمرّدت على أوامري، فالواجب عليك هو أن تصوم من أجل أمري أنا، لا من تلقاء نفسك! فلماذا ذهبت وصمت من تلقاء نفسك؟ لماذا قمت بإمراض نفسك أكثر وأكثر؟ أليس حفظ البدن من الواجبات؟ ألم أقل أنّ ذلك واجب؟ إذن لماذا أمرضت نفسك بتصرّفك هذا!؟
لقد ذكر المرحوم العلامة في كتابه «الحدّ من عدد السكان» بأنّ المرأة ينبغي أن تكون إمّا حاملاً أو مرضعاً، وأنّ الحمل للنساء مستحسنٌ جداً، وأمثال ذلك مما أورده في كتابه.. وكانت هناك إحدى النساء التي كان لديها «ديسك» في ظهرها، وكانت مريضةً جداً، والـ «الديسك» الذي كان لديها كان شديداً أيضاً، فقال لها الأطباء: أيّتها السيّدة المحترمة، إذا حملت فهناك احتمالٌ شديدٌ أن تصابي بالشلل التام !! يحتمل أن تصابي بالشلل!! لكنّها لم تصغِ لكلامهم، فحملت فيما بعد!! لكنّ الحمل لم يكتمل وأسقطت الطفل، وكانت هذه من رحمة الله عليها، وعندما وصل الخبر إلى المرحوم الوالد قدّس سره، ذهبتُ وقلت له، سيدنا لقد فعلت هذه المرأة هذا بسبب كلامك، فحبّذا لو تكتبون توضيحاً، حتّى يفهم هؤلاء في النتيجة أنّ لكلّ مقامٍ مقال! فأجابني: «هل هؤلاء لا يفهمون إلى هذا الحدّ بحيث لا يعلمون بأنّ لكلّ مقامٍ مقال؟»، يعني: إنّ الذي يتكلّم هم أولياء الله، وعلى هؤلاء أن يفهموا المقام الذي يتكلّم عنه قبل أن ينفّذوا، هل يمشي الإنسان كالخشبة، ولا يستطيع أن ينحني لكي يرى الطريق أمامه، وأين يقف؟!
وفي قصّة أخرى لإمرأةٍ أُخرى، وقد توفّيت الآن.. هي الأخرى قامت بفعل مشابه لتلك القصّة، فهذه كانت تسكن في مشهد، أمّا تلك التي ذكرتها فكانت في طهران. جاء الطبيب وقال لزوجها: يجب أن نجري الجراحة الفلانية لهذه المرأة، وكانت المرأة في غرفة العمليات، وهذا الطبيب لا يزال على قيد الحياة، وهو من الأطباء الماهرين جداً، وله شهرة عالميّة، وتخصّصه في المسائل النسائيّة؛ قال: بحسب تشخيصي ينبغي أن نستأصل الرحم الآن، وإلاّ فهناك خطر عليها فيما بعد.
لكن الأحمق أراد أن يكون مقدّساً، فقال: لا أبداً أنا لا أوافق! لا يمكن أن تفعل ذلك! لأنّه إذا استؤصل الرحم، فلن تستطيع أن تحمل بعد الآن، (يا عزيزي لقد أنجبت خمسة أو ستّة أطفال، ألا يكفيك؟!) وبالتالي لن نجري العمليّة، وتركوا المرأة.. ثم يا عزيزي ماذا حصل؟ توفّيت المرأة سيئة الحظّ! توفّيت بعد مدّة من الزمن، حصل لديها سرطان.. وتوفّيت!! ماذا حصل هنا؟ لقد تصرّف خلافاً لما أمر به؛ عندما يقول لك الشارع: لقد وضعتُ الحكم الفلاني للموضوع الكذائي، فكيف يحقّ لنا أن أن نأتي ونتصرّف من أنفسنا، بسبب عدم فهمنا وبسبب جهلنا وبسبب عدم إدراكنا للمباني العقلائيّة، فنُوقع أنفسنا بهذه البلاءات، ونجبر أنفسنا على هذه المحن والمشكلات. ما هي حقيقة هذه التصرّفات؟ التمرّد! حقيقتها التمرّد!
لكن بالطبع الآن إن شاء الله سيتجاوز الله عن تقصيراتنا وسيسامحنا عن ذلك، ولكن إن كان الفرض أنّ هناك أشخاصاً أرادوا أن يقوموا بهذه التصرّفات فقط من باب العناد، فاعلموا أنّ الله سيعاقبهم أشدّ العقاب، إنّ طاعة الطبيب المتخصّص والخبير واجبةٌ شرعاً، هي واجبةٌ شرعاً، وواجبةٌ عقلاً، وواجبةٌ عرفاً، وواجبةٌ منطقاً.. ولا مزاح في هذه المسألة، تماماً كما أنّ طاعة الإنسان للإنسان غير الخبير والرجوع إليه ـ سواء كان طبيباً عاديّاً أم طبيب أعشاب وأمثال ذلك ـ حرامٌ شرعاً.. فكذلك هذه حرامٌ شرعاً، وكلّ التبعات التي تظهر بسبب ذلك الفرد، فستكون على عهدة هؤلاء الأفراد. أليس كذلك؟
حسناً، كلامنا هنا: أنّه هل يمكن للشارع أن يأمر فرداً من الأفراد بأمرٍ مخالفٍ للحكم العام الذي وضع لجميع الناس على حدٍّ سواء؟ هل يمكن له أن يحكم بحكمٍ كهذا أم لا؟ بلى بالطبع يمكنه ذلك، ولماذا لا يمكنه؟ أليس هو الشارع؟ وحيث أنّه ـ بحسب حكم العقل ـ مطّلع على المصلحة الواقعيّة للإنسان، ومطّلع على المفسدة الواقعيّة للإنسان كذلك، لذا فهو يستطيع أن يشخّص الحكم الخاصّ لهذا الفرد بشكل أحسن وأفضل من الآخرين، بل بنحو أفضل من تشخيص الإنسان لنفسه، وبالتالي بإمكانه أن يأمره بأمرٍ مخالف للحكم العام.. بإمكانه أن يحكم بأمر مخالفٍ.
ولدنيا العديد من المسائل والنماذج في هذا الصدد، وقد طرحتها سابقاً على الأصدقاء والرفقاء، ووضّحت لكم بأنّ هذه المسألة كانت موجودة من القديم، نعم البحث الذي طرحه الحقير الليلة كان في مسألة حجيّة فعل وليّ الله! غاية الأمر أنّ هذه المسائل والمباحث يتم طرحها في مجالات مختلفة وفي ظروف مختلفة. لكي تُجمع في يوم من الأيام في مكان واحدٍ، وكلّ هذه الأبحاث تعود إلى حجيّة فعل الوليّ مطلقاً، وبالنسبة للفرد الذي يأمره الوليّ بأن ينفّذ أمراً معيّناً، أو ينهاه عن فعل أمرٍ معيّنٍ. وفي هذه الحالة فإنّ عرض فعل الوليّ على كتاب الله وعلى السنّة سيكون لغواً شرعاً.. سيكون لغواً لأنّه مخالف لأصل الفرض.

    

إنكار بعض العلماء إمكانية مخالفة الإمام المعصوم لظاهر الشريعة

في يومٍ من الأيام، كنّا قد تشرّفنا بالذهاب إلى مشهد، وذلك في تلك الأزمنة السابقة... (يبدو أنّ الوقت صار متأخّراً الليلة، لكن لابأس أن أذكر لكم هذه القصّة، وإن شاء الله أترك بقيّة البحث لليلة التالية، فحتّى أنا أصبحت مرهقاً).
في زمن الشاه، تشرّفنا يوماً من الأيام مع والدي المرحوم العلامة ومع أحد إخوتي لزيارة مشهد لعدّة أيام، وكانت في أيام عيد الأضحى، في إحدى الليالي، كنّا في الفندق، (كان عمري آنذاك ثلاثة وعشرين عاماً) في إحدى الليالي، كنّا في الفندق، وذلك بعد أن عُدنا من الحرم طبعاً كنّا قد بدأنا نهيّء أنفسنا للنوم، لكن فجأة سمعنا أحدهم يطرق باب الغرفة التي نزلناها في الفندق، فذهبت أنا وفتحت الباب، رأيت في الباب سيداً ومن العلماء المعروفين، وقد سكن فيما بعد في مشهد، وكان عالماً مشهوراً جداً، لا أدري إن كان على قيد الحياة الآن... لا، الظاهر أنّه ميّت الآن.. فقبل فترة كنت قد تشرّفت للذهاب إلى مشهد، ورأيت أنّهم وضعوا إعلاناً عن ذلك.. نعم لقد توفّي.
كان سنّه مقارباً لسنّ المرحوم الوالد، وكانا يعرفان بعضهما البعض منذ أن كانا في النجف، فجاء هذا العالم وطرق الباب فجأةً، ودخل وقال: سيدنا السلام عليكم.. أنت موجود هنا...؟!
بعدها فهمنا أنّه كان قد أتى لزيارة شخصٍ آخر! واللقاء بفردٍ آخر، ولم يكن يعلم أصلاً أنّنا نسكن هنا. وحقيقة الأمر أنّه عندما سأل في الاستقبال، اعتقدوا أنّه يريد والدي، فأعطوه عنوان غرفتنا، لكنّه كان يريد أن يلتقي بشخصٍ آخر، فجاء وطرق الباب، فقال: حسناً سيدنا! الآن قُسم لنا نعم البدل! الآن نأتي ونجلس بخدمتكم هنا، وبالفعل جاء ودخل.. وصار هناك سلام وترحيب، وجلسوا، كذلك نحن جلسنا أيضاً، ثمّ بدأ بالتحدّث.. خلال الحديث فهمنا أنّه كان من تلامذة السيّد الخميني، وأنّه كان يحضر درسه في النجف.. فقد كان يذهب إلى درس السيد الخميني، وقال: كنّا نتحدّث ونبحث في إحدى الليالي عن هذه المسألة: وهي هل يمكن للإمام عليه السلام أن يحكم على شخصٍ من الأشخاص بحكمٍ مخالفٍ لحكم الشرع، كأن يقول مثلاً: «يا فلان عليك أن تطلّق زوجتك!».. هل يمكن للإمام أن يحكم بحكمٍ كهذا أم لا؟
والحاصل أنه قال جرى الحديث عن هذه المسألة، ولكن بالطبع لم يذكر رأيه بنحوٍ صريح، والحقير لم يسمع ما هو رأي المرحوم السيّد الخميني في هذه المسألة، ولكنّه كان يقول: نحن كنّا جالسين مع بعض الأفراد هناك، فقال أحدهم (وهو الآن على قيد الحياة ويسكن في إحدى المدن، فأنا أعلم أنّه ما زال على قيد الحياة)..
قال: كان هناك شخص آخر ـ فلان ـ التفت إلى السيد الخميني وقال: سماحة السيد روح الله، إنّ هذا الكلام لا يقول به حتّى بائع الألبان الموجود على رأس الزقاق! فكيف يصدر عن إمام؟!! كان يقول: حتّى بائع الألبان فلان...! (وذكر في حينها اسم بائع لبنٍ هناك والذي كان في رأس زقاقهم، كان بائع اللبن رجل عربي في النجف، وقد ذكر اسمه.. والآن لم أعد أذكر الإسم)..
كان يقول: حتّى بائع الألبان هذا، لا يصدر منه كلام كهذا الكلام، يعني: هذا الكلام قبيح جداً وبعيد عن مقتضى القاعدة، فكيف يمكن لإمامٍ أن يتفوّه به؟!! هل يمكن لإمام أن يأتي ويقول: «يا فلان عليك أن تطلّق زوجتك»؟!! أصلاً لا يمكن أن يحصل أمرٌ كهذا، فحتّى بائع الألبان لا يصدر منه كلام كهذا الكلام، وفي النهاية ضحك الجميع... وكلامه يعني: «أنا أيضاً رأيي في المسألة هذا»، كان يقول: هذه هي حقيقة المسألة.
حسناً، لكن المرحوم الوالد لم ينبس ببنت شفة، وقد تعجّبنا من ذلك جداً، ومع أنّ عمري كان آنذاك ثلاثة وعشرين عاماً فقط، ولم أكن مطلعاً على هذه المسائل جداً في ذلك الوقت، ولكن في نهاية المطاف بناءً على اطلاعي المحدود كنت أستبعد كلامه جداً، فكيف يعني ذلك؟ يعني: إذا أراد الإمام أن يقول: «يا فلان طلّق زوجتك» فقوله هذا يكون خلاف الشرع؟!! وليس للإمام الحقّ أن يقول لأحدٍ طلّق زوجتك؟! كان كلاماً عجيباً بالنسبة لنا!
وبعد أن قضى مدّة من الوقت استأذن ومشى، وعندما ذهب، التفتُّ إلى المرحوم العلامة، وقلت: سيدنا هل أنت موافق على ما طرحه؟ فقال سماحته: اذهب من هنا يا سيد محسن، إنّ هؤلاء ليس لديهم أيّ خبر ولا فهم أصلاً عن الفقه والشرع وأمثال هذه المسائل!! ليس لديهم حتّى رائحة ذلك! فما أهميّة الطلاق؟ بل لو قال الإمام: «اقطع شرايين عنقك» يجب عليك أن تقطعها في تلك اللحظة! فما بالك بالطلاق؟
هل التفتم إلى الاختلاف! الاختلاف في التشخيص، والاختلاف في المعرفة، أين هذا من ذاك؟! ذاك يقول: إنّ هذا الكلام لا يصدر حتّى من بائع الألبان الذي يقبع في رأس الزقاق! فكيف بعالم، فكيف بإمام؟! هل رأيتم اختلاف المراتب؟
هذا يقول: ما أهميّة الطلاق؟ لو قال: «اقطع شرايين عنقك» عليك أن تضربها بلا تردّد.. ولو أنك تأمّلت في أمره وتردّدت ثانيةً واحدة، فتكون خسرت!! الاختلاف بينهما إلى هذا الحدّ.
لقد مرّت هذه الحادثة، وبعد عدّة سنوات من انقضاء هذه القضيّة، كنّا في مجلسٍِ من المجالس في مشهد، وكان هناك مجموعة من العلماء، حتّى أنّ البعض منهم أتى من طهران، وبعضهم كان من نفس مشهد، وكان جميعهم من العلماء المعروفين، كان ذلك الرجل من جملة الحاضرين في ذلك المجلس، فطرح أحد العلماء مسألة من المسائل تتعلّق بحدود اختيارات ولاية الفقيه وأمثال ذلك، من هذه المسائل العاديّة المتعارفة.
هناك رأيت أيّها العزيز أنّ القضيّة عجيبة فعلاً، فقد صدمنا جداً من هذه المسألة، وصدمنا جداً من البحث، وكان المرحوم الوالد جالساً ولم ينبس ببنت شفةٍ أيضاً، بل كان ينظر إليهم فقط، ويشاهدهم وهم يتحاورون في البحث، والحال أن جميع الذين كانوا حاضرين هناك (هذا ما أريد أن أوضّحه للأحبة) كان العديد من الذين حضروا هناك ممن لهم مقلّدين، وكان جميع هؤلاء الأفراد يقولون بهذه النظريّة، ويعتقدون بهذه الفكرة!! جميعهم!! إذ كان يعتقدون بأنّ الإمام لا يحقّ له أن يخطوة خطوةً أبعد من حدود الشرع الظاهر، لا يحقّ له أن يوجب أمراً على فردٍ لم يكن واجباً.. لا يحقّ له أن يحرّم أمراً على فردٍ كان مباحاً في الأصل.. لا يحقّ له أن يحكم حكماً مخالفاً لذلك الحكم العام الذي ينطبق على الجميع؛ بناءً على قاعدة اشتراك العالم والجاهل في الحكم، وما إلى ذلك من هذه المسائل المتداولة، وهو لا يحقّ له أن يخرج عن ذلك الحكم العام، ولا أن يذكر الحكم الخاصّ!! إنّ وظيفة الإمام هي فقط أن يقف ويذكر تلك الأحكام الكليّة والسلام، هذه هي وظيفته! ولا وظيفة أخرى له يمكن أن يقوم بها.. لا يمكن له أن يقول: يا فلان تعال وافعل كذا، لا يمكنه أن يقول: يا فلان لا تفعل كذا! لا يمكنه ذلك! هناك أحسست بالتعجّب فعلاً!! إذ كم نحن بعيدون عن حقيقة التشيّع؟! وكم نحن بعيدون عن حقيقة الشريعة؟! وكم نحن غرباء جداً عن مباني التشيّع ومباني الولاية؟! غرباء فعلاً!
حسناً البحث له تتمّة، وقد وصل بنا البحث إلى هذه المسألة، وهنا كنت أودّ أن يعلم الأصدقاء والرفقاء أنّه بسبب عدم اطلاعنا على المباني، في أي مقام نكون قد وضعنا الإمام فيه؟ جعلناه فقط في مقام الناطق الرسمي للمسائل الشرعيّة لا أكثر!! فقط تعال أيّها الإمام واذكرنا المسألة! قل: على الجميع فعل كذا، أو عدم فعل كذا! أمّا أكثر من ذلك، فليس للإمام الحقّ في إبراز أيّ حكم خاصٍّ في الموارد الخاصّة!
إن شاء الله نترك بقيّة البحث لليالي الآتية فنبيّنها هناك بحول الله وقوّته.
اللهم صلِّ علی محمّد وآل محمّد


[1] ـ سورة الشورى، الآية: 13.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی