معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 101 إلى 200 > شرح حديث عنوان البصري - الجلسة رقم 190: ماذا نطلب في ليلة الرغائب؟ وشروط الاستفادة من شهر رجب؟

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح حديث عنوان البصري

المحاضرة رقم 190

ماذا نطلب في ليلة الرغائب؟
وشروط الاستفادة من شهر رجب

ألقيت ليلة الليلة السابعة من شهر رجب
عام 1432 هـ

سماحة آية الله

السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين اللهم صل على محمد وآل محمد
واللعنة على أعدائهم أجمعين

    

ماذا نطلب من الله في ليلة الرغائب؟

هذه الليلة هي ليلة الرغائب، وهي الليلة التي وعد الله تعالى فيها عباده الخاصّين وأولياءه بمنحهم تلك النفحات الخاصّة الإلهية. إنّها ليلة الرغائب.. والرغائب تطلق على الهدية الغالية والقيّمة جداً، والتي يستبعد عادة الوصول إليها في الحالات العادية والطبيعية. إنّها تعني أن يحصل الإنسان على هدية أو تحفة ثمينة.

ولكن لو أتى شخصٌ وأعطانا هدية قيّمة، فهذه من المسائل العادية.. فالجميع يقوم بذلك، إذ البعض قد يهدي الآخر، وكذا الإنسان عندما يتاجر ويقوم بمعاملات يربح ويستفيد منها، وهذه المسألة عادية والجميع يقوم بذلك، والإنسان إنما يقوم بهذه المعاملة لأجل الوصول إلى الربح والفائدة، ولو كان يعلم بأنه لا فائدة من تلك المعاملة فلن يقدم عليها، وهذا أمر طبيعي.

لكن أحياناً عندما يقوم الإنسان بحفر الأرض ليبني منزلاً، أو يهدم بناء قديماً لإعادة بنائه.. فجأةً يرى بأنّ هناك حفرة يوجد فيها كنز وذهب، وقد يحصل ذلك مع بعض الأشخاص أحياناً، فهذا ما يُطلق عليه بأنه رغيبة، يعني هدية غير متوقّعة، وغالباً ما تكون كافية إلى آخر العمر...

إذاً جمع رغيبة رغائب، يعني التحف والهدايا الثمينة وغير المتوقّعة، لا التحف والهدايا العادية، ولا التي تصل الإنسان كل شهر أو سنة، بل هذه يقال لها هدية، لا رغيبة. وقد ورد هذا المعنى في رواية عن الإمام عليه السلام عند قوله: "وأعزز نفسك..( أو) وأكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً"، يقول الإمام عليه السلام: عليك أن تحافظ على نفسك عزيزةً ومنيعةً وعالية، فنفسك في مرتبة من العزّة بحيث أنّه لا يوجد أيّة تحفةٍ من التحف المادّية يمكنها أن تعوّض تلك النفس والعزّة.. ألا ترون أنّ بعض الأشخاص أعزّاء في بعض المسائل، ولديهم مناعة وعزّة.. لا يسلّمون ولا يخضعون بسرعة، ولا يفتحون مائدة القلب لأيّ كان، ولا يشكُون بسرعة من الابتلاءات التي يُبتلون بها.. بل يكتمونها في أنفسهم، ويبقونها في صدورهم.. يحاولون أن يظهروا أمام الناس وكأنه لم يصبهم شيء، ولا مبتلين بشيء، فالله هو الذي يعلم بحالهم فقط، وما دام الله عالماً بهم فلماذا يطرحون مشكلاتهم أمام الناس؟! فمن يفعل ذلك ويطرح مشكلاته أمام الناس لا يكون صاحب مناعة وعزّة نفس، وفي المقابل هناك أفراد لديهم مناعة طبع وعزّة نفس، يرى لنفسه قيمة ومكانة لا يضيّعها بالسؤال، ولا يستبدلها بالطلب. ولدينا في هذا المجال الكثير من الروايات التي تفيد أنّه لو عرف المؤمن ما الذي فقده بالسؤال؛ فإنّه لن يسأل طوال عمره أحداً. وفي بعض الروايات أنّ أصحاب رسول الله عندما كان يقع من أحدهم الشيء أثناء ركوبه، لم يكن يسأل الراجل أن يناوله ما سقط منه، بل كان ينزل عن راحلته ويتناوله بيده ثم يركب؛ وذلك كي لا يسأل الراجل شيئاً.

هذه عزّة النفس ومناعة الطبع تعدّ من المسائل الهامّة التي لها تبعات وآثار عجيبة، ليس في المسائل الاجتماعيّة فحسب، بل في نفس الإنسان. فهؤلاء الذين لديهم مثل هذه الحالة من السؤال والشكوى لا يتطوّرون أبداً ولا يرتقون، بل يبقون في هذه الحالة وعند هذا الحدّ.. لا تنتقل أنفسهم، ولا تتجاوز المشكلات؛ لأنها متى ما ابتليت بمشكلة تعرضها مباشرة وتشكو منها.. آخ رأسي يؤلمني.. رجلي توجعني... فالأيام لا يمكن أن تمرّ من دون مشاكل، ولا يوجد أحدٌ مستثنى من هذه المشكلات، إذ لكلّ شخص ملفّه الخاصّ به في ذلك. حسناً، إذا أراد الإنسان أن يصبر على هذه المسائل ويكتمها دون أن يتحدّث بها ويفشيها، فإنّ هذا الصبر والتحمل والكتمان ينقله من هذه المرتبة إلى مرتبةٍ أخرى، ويخطو من هذه المرحلة إلى مرحلة أعلى.

"وأكرم نفسك عن كل دنية" تعني هذا الكلام؛ تعني أن يكون الإنسان عزيزاً كريماً مكرماً نفسك التي منحك الله إياها عن كل عمل دني وسخيف وبدون محتوى ودنيوي.. عن كل تعظيمٍ وتجليل.. عن كل تملّق وتذلـّل.. عن كلّ تواضع في غير محله.. عن كلّ مدح وثناء لا طائل منه.. عزّز نفسك وأكرمها، وارفع شأنها. حتى لو كان هذا المدح والثناء والتواضع والتملّق سيسوقك نحو "الرغائب".. لا إلى الهدية والتحفة التي يرسلها إليك المسؤول عليك ومديرك أو الوزير الفلاني، فإن هذه من المسائل التي تأتي وتذهب؛ مثل الماء الجاري الذي يدخل من جهة ويخرج من جهة أخرى. بل حتّى لو كانت عبارة عن الهدايا غير المتوقعة لك، كأن تأتيك هديّة كبيرة جداً وعظيمة لا يمكن تصّورها، بأن تمنح مكانة وموقعيّة لا يمكن تصوّرها..

إذاً عليك أن تعزّز نفسك ولا تجعلها تسعى وراء هذه الأعمال الدنيّة والبسيطة، ولا تبِعْها بهذا المتاع البسيط؛ المتاع الدنيوي والأعمال اليومية في هذه الدنيا. لماذا الاحترام الزائد والتبجيل؟ ولمن التواضع والخضوع؟ ولأيّ شيء التملّق؟ فأنت الذي لا تعلم شيئاً عن مستقبلك، ولا تعرف متى يأتيك عزرائيل.. لماذا تتملّق وتتواضع؟ لأجل أن يزيد عطاؤك ألفين آخرين؟ تعساً لك، وتباً لك عندما تأتي وتستبدل تلك الهدية الإلهية التي منحك إياها، وألبسك خلعةَ "خليفةِ الله".. حيث جعلك خليفة له.. إذ يمكنك بإشارة منك أن تشقّ القمر نصفين، ومع ذلك تتملّق للآخرين؟ لماذا تفعل ذلك يا تعيس الحظ؟ يمكنك أن تشير إلى الشمس فتوقفها.. ألم يوقِف آصف بن برخيا الشمس، وكان بشراً كسائر البشر؟ فوزير النبي سليمان كان إنساناً عادياً كسائر البشر الآخرين، كان عبداً صالحاً لله، لكن صارت نفسه قاهرة ومسيطرة على مثال الموجودات نتيجة الطاعة، وصار مثال الموجودات وملكوتها تحت تصرّفه، فأعاد الشمس عندما أخبره سليمان بأنّه لم يصلِّ بعد، لانشغاله بمشاهدة الجيش. فقال له آصف اصبر قليلاً، فأعاد الشمس فصلّى النبي سليمان صلاة العصر.

هذه الأمور من المسائل الماديّة، لا تتعجبوا ممّا أذكره لكم، فهذه الأمور المادية، وهي لا تقاس بالرغائب التي لا توجد في هذه الدنيا، فمن الناحية الماديّة يمكن أن تصل إلى أن تجعل جميع الملك والملكوت تحت تصرفك.. ومع ذلك تأتي وتتملّق للآخرين؟ تمدح وتجلّل؟ من؟ أتمدح وتجلّل من لا يدري أخمسة أصابع في يده أم ستّة؟ لماذا تفعل ذلك؟ لأجل هذين اليومين اللذين تعيشهما في هذه الدنيا؟ والحال أن هذين اليومين ليسا باختيارك. إن قلت بأنّ الدنيا باختيارك، فتفضل وأخبرنا ما لديك عمّا سيحصل بعد ساعة.. لأجل هذين اليومين اللذين لا تملك فيهما شيئاً تأتي وتبيع نفسك التي بإمكانها أن تغيّر المكان والزمان.. بثمن بخس؟ أتبيعها بثمن بخس.

كان المرحوم السيد الحدّاد رضوان الله عليه رجلاً عظيماً بكلّ معنى الكلمة، لا عظيماً بالمصطلح المتداول اليوم؛ حيث يقال: فلان عظيم الشأن... بل كان عظيماً واقعياً؛ (وإنك لعلى خلق عظيم) ذاك العظيم الذي يصفه الله تعالى بالعظمة..

يقول المرحوم الحدّاد كان بعض الإخوة يأتون إلينا ويطلبون منا السعة في الحياة الدنيا.. بعضهم يقول: سيدنا لماذا قلّ تردّد الزبائن منذ شهرين، فلا يأتون لشراء السلع الموجودة في الدّكان؟ وكنت موجوداً عندما قال سماحته: البعض يأتي إلينا لرفع مشكلاتهم المادية وشفاء مرضاهم.. بعضهم يقول: سيدنا زوجتي مصابة بألم في ظهرها وهي مستلقية منذ يومين، فادع لها بالشفاء.. إذا فرضنا أنها لم تنهض فماذا سيحصل؟ فلتبقى مستلقية.. فما دخلك أنت ؟ إنّك لا تطلب الشفاء من أجلها هي بل من أجلك أنت!! ويأتي آخر ويقول: سيدنا عليّ قرض بمبلغ كذا فادع لنا.. وقد شاهدت بنفسي ـ حيث كنت في أحد المجالس عند السيّد الحدّاد ـ أحدَ الأشخاص الذين أتوا إلى السيد وقال له: إن موظفي جباية الضرائب يأخذون منّا كثيراً، فادع لنا أن تنقص الضرائب علينا، وكان يقول لهم إن شاء الله سأدعو لكم.. وكان الموظفون بعد ذلك يأتون وينظرون في دكّانه ويذهبون دون أن يتكلّموا بشيء. وكان يفعل ذلك، لكن هل تريدون السيد الحدّاد لأجل هذه المسائل؟ لأجل أن تشفى زوجتك من وجع الظهر، كي تقوم بخدمتك؟ لأجل أن يقضى دينك، فلا تذهب للعمل كثيراً؟ لأجل أن تقلّ الابتلاءات عليك؟ فهل تريدونه لأجل هذا؟ والحال أنه كان يقول: المطالب التي نطرحها على الإخوة، لا يمكن للكثير من معاجز الأنبياء أن تصل إليها.. ومع ذلك يأتون ويطلبون منه هذه الأمور.. الكثير من معاجز الأنبياء لا تصل إليها! ماذا كان يفعل النبي عيسى على نبينا وآله وعليه السلام؟ ـ ومرادنا بالنسبة لأهل الظاهر، أما بالنسبة لأهل المعنى فقد كان يقوم بهذه الأعمال أيضاً ـ كان يحي الموتى، وكان يصنع طيناً بشكل طير وينفخ فيه فيطير.. لكن من الذي يحيي القلب؟ فهذا الذي يحيه طين ، لكن من الذي يأتي ويوجد العلاقة و المحبّة بين الإنسان وبين الله تعالى؟ ومنْ مِن الأشخاص على وجه الأرض يمكنه أن يبيّن كيفية التخاطب بين الإنسان والله تعالى في الصلاة، ويفسّر هذه العلاقة؟ من الذي يمكنه ذلك غير هذا؟ فنحن نشغل أنفسنا بكيفية نطق (إياك نعبد) و (ولا الضآلين)، لكن من الذي يبيّن لنا كيفية العلاقة بيننا وبين الله تعالى؟ أيّهما أفضل؟ هل هذا أفضل؟ أم الذي يبدّل الطين إلى طير؟ أجيبوا بإنصاف، ذاك بدّل الطين إلى طير وانتهى الأمر، ما الذي حصل بعد؟ لكن من يذكر كلاماً بحيث تتغيّر على إثره صلاتي ويتغيّر فهمي وإدراكي، ذاك الكلام أثّر على تشخيصي للأمور، وأخرجني من التوهم.. نعوذ بالله من هذه الأوهام والتخيلات.. عندما نخرج من هذه الأمور، عند ذلك نفهم كلام العظماء والأولياء، وما الذي قالوه، وما الذي كانوا في صدده.

"وأعزز نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً". فإنّك مهما فعلت لن تعوّض ما فاتك من أمور.. فالدنيا ميدان تجارة، تفضل!

حسناً.. الليلة ليلة الرغائب، والرغائب من هذه الجهة تعني أن الليلة ليست ليلة أداء الديون، وليست ليلة معالجة الظهر، وليست من أجل رفع الابتلاءات.. وإن كانت هذه الأمور ستحصل تلقائياً، لكن هذه الأمور ليست رغيبة، فالإنسان لا بد له أن يطلب من الله تعالى، فقد خاطب الله النبي موسى: اطلب ملح طعامك مني[1]. لكن كلامنا في أنّه على ماذا ينبغي التركيز؟ وإلى ماذا يجب التوجه، وبأي شيء ينبغي الاهتمام؟ هذا هو مرادي.. بأي شيء ينبغي الاهتمام؟ بأي شيء؟ ينبغي التفكير بموانع طريقنا.. هذا الذي ينبغي أن نفكّر فيه.. يجب علينا أن نفكّر بالأمور التي تأتي وتقطع طريقنا و مسيرنا، فهذا هو ما يجعل الإنسان شقيّاً، و يأخذ منه دنياه و آخرته!!! هذا هو ما ينبغي أن نطلبه و نسأله من الله! فما قيمة آلام الظهر و البطن و المعدة أمام هذا الأمر ؟! ما قيمة هذه الأمور؟ لا قيمة لها أبداً !

إنّ ما ينبغي أن نفكّر فيه هذه الليلة هو تلك الخيالات التي تأتي و تقطع طريق السلوك و تسدّه! و تلك النفحات التي تأتي و تقطع تعلّقات الإنسان هي ما ينبغي أن يشغل بالنا هذه الليلة! و تلك الجذبات التي تهبّ نسائمها فتشعل قلب الإنسان بالعشق و المحبّة لله تعالى و تزيدها أضعافاً مضاعفة هي ما يجب أن نتفكّر فيه هذه الليلة و نطلبه من الله عزّ وجلّ ! فالليلة هي ليلة الرغائب!

فما هي الرغائب؟ هل صار سداد القرض من الرغائب؟! كلاّ فهو ليس أمراً مهمّاً ، بل هو أمرٌ عاديّ لا قيمة لها. و هل يعتبر الشفاء من المرض رغيبة من الرغائب؟ و هل صار التخليص من الابتلاء رغيبة؟! أم أنّ الأمر ليس كذلك! فعندما يقول رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: ينبغي أن تهتّموا بليلة الرغائب و تنتبهوا لها، و عندما نشاهد كلّ هذه التأكيدات من الأعاظم بخصوص هذه الليلة ... و لا تتخيّلوا أنّ الأمر ينتهي في أوّل الليلة [بأداء أعمال الليلة] بل المطلب مستمرّ حتّى طلوع الصبح، و الأعمال ليست منحصرة في الأعمال التي أدّيتموها فقط، فالمجال مفتوح للمسائل و الرغائب هذه الليلة حتّى الصبح و ذلك للأفراد ذوي القلوب المتيقّظة، و للأفراد المستعدّين و المنتبهين، ولذا تلاحظ أنّ أولياء الله و العظماء كانوا يحيون هذه الليلة، و كانوا يؤكّدون على إحيائها.. مثل ليلة النصف من شعبان و ليلة عيد الغدير و ليالي القدر في شهر رمضان أي ليلة التاسع عشر و الواحد و العشرون و الثالث و العشرون من شهر رمضان، و مثل ليلة المباهلة و أمثال ذلك!

ليلة الرغائب تعني أنّ الله سبحانه و تعالى يريد أن يعطي نعمة سنة كاملة لعبده في هذه الليلة، فماذا نطلب من الله حينئذٍ؟ ينبغي أن نتوّجّه إلى الله بالدعاء أن: يا ربّ ارفع عنّا الأوهام و التخيّلات في هذه السنة... فهذه رغيبة فعلاً ! يا ربّ أخرجنا من التخيّل و خلّصنا من القوّة الواهمة... هكذا تكون الرغائب، و مثل هذه الرغيبة تستحقّ أن يهتمّ بها الإنسان و يخلّص فكره في طلبها!

يا ربّ امنحنا تلك النفحات التي تقطع الإنسان عن التعلّقات في هذه الليلة حتّى السنة القادمة... فما يعطى هذه الليلة يستمرّ حتّى السنة القادمة، فمن هذه الليلة توضع الخطّة و تنفّذ.

يا ربّ ساعدنا على الحركة نحو ساحة قربك، وعلى الخروج من التوّهمات، و وفّقنا لكي تتخلّص نفسنا من تلك المسائل التي ألقت بأغلالها و قيودها على النفس... هذه رغيبة !

إنّ الحقير لا يبيّن هذه المطالب من عنده، بل هي أمور سمعناها من الأولياء و العظماء، فهم كانوا يمرون من تلامذتهم أن يطلبوا هذه الأمور في مثل هذه الليلة المباركة.

يا ربّ ارفع هذه السنة من مستوى فهمنا... أجل.. إنّ هذه لرغيبة! ماذا يعني أن يزيد الله فهمنا؟ يعني يا ربّ ارفع مستوى عقلنا! و اجعل حكمنا على الأشياء حكماً صحيحاً و نظرتنا لها نظرة واقعية و ليس مثل الناس.. هذه رغيبة!

يا ربّ أخرجنا من التوهّمات، و خلّص نفوسنا من التخيّلات، و اكتب لنا تلك الأمور التي فيها مصالحنا الحياتية الواقعية حتّى لو كان ثمن ذلك خسارة بعض الأمور الدنيوية.. نسألك أن تقدّر لنا تلك الأمور.

ففي النهاية ليس الأمر منحصراً في المصالح الدنيوية.. ولا ينبغي أن تكون رغباتنا منحصرة في المال و الزوجة و الأولاد ! فأين نذهب؟ و بأي اتّجاه نمضي؟ و أين ذهب عقلنا؟ و ماذا حصل لفهمنا ؟

إنّ هذه المسألة مهمّة جدّاً، و هي أنّهما المقصود بالرغائب في ليلة الرغائب؟ و ما هي الأمور التي ينطبق عليها أنّها رغيبة؟ و ما هي الأمور التي كان أولياء الله يطلبونها في مثل هذه الليلة؟ ففي آخر هذه الأعمال التي أديتموها قد ذُكر أنّه في آخر السجدة بإمكانك أن تطلب من الله تعالى ما تشاء، حسناً .. فماذا نطلب من الله؟ و ما هي الأمور التي يطلبها أولياء الله في آخر هذه السجدة؟ هل تتصوّرون أنّهم كانوا يطلبون من الله أن يشافيهم من آلام المعدة؟ هل هذا ما كانوا يطلبونه؟ لقد كان هؤلاء الأعاظم يطلبون تلك الأمور التي قام أولياء الدين و أئمتنا بتعليمنا إيّاها:

(و أدخلنا في كلّ خير أدخلت فيه محمّداً وآل محمد) هكذا علّمنا أئمّتنا أن نطلب وندعو ونسأل من الله! فما هو الخير الذي منحه الله للمعصومين الأربعة عشر؟ و في أيّ خير أدخلهم؟ هل فكّرتم في ذلك حتّى الآن؟ ما هو الخير الممنوح للأئمّة عليهم السلام؟ هل الخير الممنوح لهم هو أن يتمكّنوا مثلاً أن يطّلعوا على المسائل الجزئية ...(ولا شكّ أن هذا ممّا منحه الله لهم، و أنّه داخل تحت الخير الأعظم، و لكنّه ليس غاية الأمر) ... و أن يطّلعوا على الأحكام، و أن تزداد معرفتهم بالأحكام الفقهيّة، و أن يصلح لهم دنياهم و ما شابه ذلك ؟! كلاّ .. [بل الأمر أعظم من هذا بكثير]، فما هو إذاً الخير الذي منحه الله لهم؟ إنّه الورود في عالم الأسماء و الصفات الكلّية للذات الإلهيّة التي لا نهاية لها و لا حدّ، و السير في جميع الآثار الكلّية لله تعالى! هذا هو معنى الخير! إنّه الحركة باتّجاه مقام الواحديّة الذي يتضمّن جميع الأسماء و الصفات الإلهية في باطنه، و هو السير الذي لا نهاية له، بل الأمر أعلى من ذلك.. إنّه اتّصال الذات و الضمير بذات الله تعالى التي هي فوق جميع الأسماء الكلية و الصفات الكليّة... هذا هو الخير الذي يسعى أولياء الله و العرفاء للحصول عليه! إنّه اتّصال السرّ و الذات بمبدأ الوجود و مبدأ الحياة و ذات الله تعالى، و هناك حيث مقام لا اسم ولا رسم ومقام عدم التعيّن و التقيدّ، و هو ما يسمّى بـ "عالم البهم و العماء" ! هذا هو الخير..

حسناً.. هذا قسم من الدعاء، و أما القسم الآخر فهو: (وأخرجنا من كلّ سوءٍ أخرجت منه محمّداً وآل محمّد) ... فما هو السوء؟ أيّ سوءٍ أخرج اللهُ رسولَه منه؟ بكلّ الأحوال السوءُ سوءٌ ولا فرق، ولكن ما هو السوء الموجود في تلك المرتبة؟ فالسوء الذي في رتبتنا نحن هو عدم المعصية وعدم السرقة وعدم الكذب وعدم رمي التهم جزافاً، وهذه الأمور التي نقوم بها باستمرار ولله الحمد، هذا سوء!

لكن ما هو السوء الذي يدعو أولياء الله الخروج منه؟ ما هو السوء الذي أخرج اللهُ نبيَّه وآلَه منه؟ ذلك السوء هو عبارة عن اضطراب السرّ في لحظة، والانقطاع عن الله عزّ وجلّ نحو عالم الأسماء والصفات، ولا شيء غير ذلك، فالانصراف من الذات حتّى لو كان تجاه الأسماء والصفات فهو سوءٌ بالنسبة لهم!! إنّ لحظةً واحدةً من انصراف الإنسان عن التوجّه نحو الذات والانغمار في الذات والالتفات منها إلى الأسماء والآثار من دون ملاحظة الذات هو السوء! أمّا مع ملاحظة الذات فلا فرق، لأنّه هذه الرتبة هي مقام البقاء والجمع، وهي حيثيّة الكمال ولا إشكال فيها، هذا هو السوء بالنسبة لهم.

الليلة هي ليلة الرغائب، فماذا نرغب نحن؟ إنّما نرغب في هذا المقام! أليس كذلك؟ نرغب إلى الله و نتوسّل إليه أن: يا الله قدّر لنا كلّ ما قدّرته لنبيّك وآله صلوات الله وسلامه عليهم، وادفع عنّا كلّ ما دفعته عنهم، ونسألك أن تبعد عن طريقنا كلّ أمرٍ أبعدته من طريقهم، وأن لا تقدّر لنا ما لم تقدّره لهم، فهذا أمرٌ سهل بالنسبة لك يا ربّ!



 

    

التحقيق في تعيين ليلة الرغائب

هناك مسألة تتعلّق بليلة الرغائب أودّ الحديث عنها، ثمّ هناك مسألة أخرى أريد التعرّض لها وأرغب بتوضيحها بعد ذلك، ثمّ إذا كان هناك مجال (ولا أدري إن كان هناك وقت) فأرغب بتلبية الوعد الذي وعدتكم إيّاه سابقاً فيما يتعلّق بشرح بعض فقرات الدعاء الشريف والزيارة الواردة من الناحية المقدّسة للإمام عجّل الله فرجه الشريف، والوراد عن ولاة الأمر: <اللهم إنّي أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك> ، فإن استطعنا سنتعرّض الليلة إلى مقدارٍ منه، ثمّ نشرح التتمّة في المجلس اللاحق، أمّا إن كان حالنا لا يساعد على ذلك، فسنتركه إلى المجلس اللاحق إن شاء الله.
بالنسبة للمسألة الأولى فهي تتعلّق بنفس ليلة الرغائب: أيُّ ليلةٍ هي ليلة الرغائب؟ فما وردنا في الروايات عن ليلة الرغائب هو أنّها أوّل ليلة جمعة من شهر رجب، وقد وقع في هذا الأمر اختلاف، ومن الجيّد أن يطّلع الأصدقاء على هذه المسألة و يراجعوها وخصوصاً أهل العلم والفضل منهم.
ما وردنا في الروايات هو أنّ أوّل ليلة جمعة في شهر رجب هي ليلة الرغائب، وبعدها تتعرّض الرواية لأعمال ليلة الرغائب فذكر هناك أنّه إذا جاءت ليلة الجمعة فليصم يوم خميسه ثمّ تتحدّث عن الأعمال التي ينبغي عملها في تلك الليلة، و أن الله يقضي حاجات الإنسان في هذه الليلة. وقد تصوّر جمع من العلماء ومن الأعاظم هو أنّ ليلة الرغائب هي ليلة الجمعة التي لا يكون يوم جمعتها أوّل يوم في شهر رجب، ولا أدري لعلّه السنة الماضية أو التي قبلها كان أوّل يوم في شهر رجب هو يوم الجمعة، أو قد يكون يوم الجمعة من هذه السنة في بعض الدول هو أوّل يوم من شهر رجب خلافاً لإيران حيث كان يومه الأوّل هو السبت.
البعض يتصوّر أنّ الرواية ظاهرة في أنّ الخميس الذي ينبغي صيامه هو الخميس الذي يكون داخلاً بنفسه في شهر رجب، لذا يفسّرون هذه الروايات بهذا النحو: إذا جاءت ليلة الجمعة الأولى التي يكون خميسها من ذلك الشهر فعليه أن يصومه، وهذا ينصرف إلى كون الخميس جزءاً من نفس شهر رجب، وعلى ذلك ففي تلك الدول التي يبدأ فيها الشهر بيوم الجمعة، عليهم أن يصبروا أسبوعاً آخر إلى أن يصل إلى ليلة الجمعة الأُخرى فتكون تلك الليلة الثانية هي ليلة الرغائب، يعني أنّهم أضافوا الخميس إلى الشهر، و اعتبروا أن الرواية ظاهرة في كون يوم الخميس السابق على ليلة الرغائب جزءاً من شهر رجب، فينبغي أن يصوموا أوّل خميس من الشهر، وهذا هو فهمهم لها.
ولكن الحقير يرى أنّه لا خصوصيّة ولا مدخليّة لكون الخميس من الشهر أم خارج الشهر؛ لأنّ ما له المدخليّة بلحاظ تناسب الحكم والموضوع هو نفس ليلة الجمعة، يعني: نفس ليلة الجمعة في حدّ ذاتها لها موقعيّة وحيثيّة، وفي هذه الحيثيّة والموقعيّة تأتي هذه البركات، وإذا أراد الإنسان أن يستفيد من هذه البركات، ألا ينبغي أن يتهيّأ وأن يتحضّر بنحوٍ ما لها؟
هذا التحضّر والتهيّؤ يحصل من خلال الصوم، يعني: ينبغي على الإنسان أن يصوم قبل أن يدخل في ليلة الجمعة وبالتالي عليه أن يحصّل ذلك الفضاء والحالة الناجمان عن الصيام، وعليه أن يحصّل ذلك الاستعداد الخاصّ والروحانيّة والتهيؤ الخاصّ، وعندما يحصّلها يدخل في ليلة الرغائب وفي ليلة الجمعة، ولا يُستظهر من الرواية الواردة أنّه ينبغي أن يكون الخميس من الشهر، بل الروايات الواردة عن الرسول صلّى الله عليه وآله، ظاهرة في أنّه من جاءت عليه أول ليلة جمعة من رجب، فصام يوم خميسها ... فيوم خميسها ليس له علاقة بالشهر، بل هو مربوط بالليلة، فليلة الجمعة تعني الليلة السابقة ليوم الجمعة، و خميسها هو الخميس السابق عليها، و ليس الخميس الذي في ذلك الشهر. و المستفاد من الرواية أنه ينبغي الدخول في هذه الليلة المباركة بعد التهيّؤ و الاستعداد لها...
و على هذا الأساس، من كان يوم الجمعة هو أوّل أيّام شهر رجب عنده، فليلة الرغائب هي تلك ليلة الجمعة الأولى من الشهر ، و ينبغي عليهم أن يصوموا الخميس الذي يسبقها، و يدخل في ليلة الجمعة التي هي أوّل شهر رجب، و هي نفسها ليلة الرغائب و تترتّب عليها آثارها. و هذه النتيجة تبدو لي أقرب إلى الصواب من القول الآخر.
و على كلّ حال، فحيث أنّ بعض الأعاظم كانوا يقولون بالقول الآخر.. فقد كانوا يعتبرون أنّ ليلة الرغائب هي تلك الليلة التي يكون الخميس السابق لها داخلاً في شهر رجب، و حتّى المرحوم الوالد كان يقول بهذا الرأي في سابق الزمان عندما كان في طهران، و كان يفسّر الرواية بهذا الشكل، و لكنّني لست متّأكّداً من رأيه في المسألة في أواخر حياته، فهو كان يفسّر الرواية بأنّ ليلة الرغائب هي تلك الليلة التي يكون خميسها نفسه داخلاً في شهر رجب، و لا أدري فلعلّه كان يرى خصوصيّة ليوم الخميس بأن يكون من شهر رجب... على كلّ حال، بما أنّ الوضع كذلك، فما هو الإشكال أن يقوم الإنسان بإحياء كلتا الليلتين.. ليلة الجمعة الأولى و الثانية، و يتعامل مع كلتا الليلتين على أنها ليلة الرغائب... و لكن ألفت النظر أننّي لست متأكّداً أن هذا كان رأي سماحته في أواخر حياته، لأنّه رضوان الله عليه كان عنده بعض المطالب التي قام بتغييرها أحياناً، و لهذا أنا لست متأكّداً من رأي سماحته، و أنا كنت قد سألت سماحته عن هذه المسألة فسكت و لم يجب بشيء، و لم يردّ.
على كلّ حال، بالنسبة لهذه السنة فالظاهر أن الخميس السابق على ليلة الرغائب كان داخلاً في شهر رجب، و أن ليلة الجمعة السابقة كانت آخر داخلة في شهر جمادى الآخرة، وبالتالي فلا إشكال من هذه الناحية بما يتعلّق بهذه السنة، بل له علاقة بسنوات أخرى... لقد كانت هذه المسألة التي رغبت ببيانها حول ليلة الرغائب.

    

شرط الاستفادة من شهر رجب تصحيح الخيال و التخلص من الأوهام

و هناك مطلب آخر، يتعلّق بما طرحناه في الجلسة السابقة، وذلك أنّه بعد الجلسة السابقة فقد وصلتني العديد من الملاحظات و الأسئلة من الإخوة و الرفقاء، و لذا رأيت أن من المناسب أن أقدّم توضيحاً إضافياً للموضوع لما ذكرناه، بحيث لا يبقى في المسألة أيّ فراغ أو خلل.
إنّ ما عرضناه في الجلسة السابقة هو أنّ الأعاظم كانوا يؤكّدون في شهر رجب أنّ على الإنسان أن يؤدّي تلك الأعمال و التوصيّات التي أوصى بها أولياء الله قبيل شهر رجب أو حتّى في شهر رجب.. و ذلك من قبيل عيادة المرضى، و يصل رحمه، و يزيد زياراته لإخوته المؤمنين، و يزيد مراقبته لنفسه، و إذا كان بينه بين رفيقه خلاف، فليذهب و يرفع هذا الخلاف... فهذه الأمور مهمّة جداً و لها تأثير كبير في وضعيته و حالاته، و في كيفية الفيوضات الحاصلة في هذه الأشهر الثلاثة المتتالية.. رجب و شعبان و رمضان، و لكن في ضمن ما ذكرناه في الجلسة السابقة، أوضحنا أنّ أهمّ مسألة في الاستعداد لهذه الأشهر المباركة هي مسألة رفع الخيال، و هذا المطلب واضح بشكل عامّ، بل يمكننا أن نقول أنّ معنى المراقبة هو هذا ، فمعنى المراقبة هو أن يقوم الإنسان بتصحيح خياله بالنسبة للمسائل، و يقضي على التوهّمات الباطلة، و يسعى أن يتفكّر أكثر في المسائل و المطالب، لقد كنت في الليلة البارحة مع احد الإخوة، و نقل قضية عن أحد الأشخاص الذين لا أعرفهم.. سمعت باسمه و لكنّني لا أعرفه، و نقل عنه بأنّه فعل كذا و كذا ، و بحسب الظاهر فإنّ ما ذُكر عن هذا الشخص يبعث على الانزعاج و التأثّر، فلماذا ينبغي أن تحصل قضيّة من هذا القبيل؟ و لماذا صدر من هذا الشخص تصرّف كهذا تجاه شخص آخر؟ و لكن بمجرّد أن وجدت أنّ نفسي تريد أن تقع تحت تأثير هذه القضية ... لأنّ النفس عندما تتأثّر بكلام أحد الأطراف، فإنّ ذلك يولد سوء ظنّ في النفس تجاه الطرف الآخر ، حيث أنّ المسألة ليست أحادية الطرف...
مثلاً لو جاء شخص و قال لك: إنّ فلاناً قد تعرّض للظلم في القضيّة الفلانية، فتسأله: من الذي ظَلمه؟ فيجيبك قائلاً: فلان. فتتعجّب أنت بدورك و تتساءل في نفسك: لماذا فعل ذلك؟ ففي مثل هذه القضيّة قد وقع في نفسك أمران؛ الأمر الأوّل هو التعاطف و الترحّم تجاه احد الأطراف، و الحال أنّه قد لا يستحقّ مثل هذا التعاطف، و من الممكن أن يكون الظالم هو ، فالبعض يأتي متمسكناً باكياً ليستدرّ العطف، فيظنّ الإنسان أنّ الحكم واضح في القضية، فالأمر الأوّل هو التعاطف مع أحد الأطراف، وأمّا الأمر الثاني فهو حصول إحساس بالتنفّر من الشخص الآخر، و ذلك لأنّ المسألة ذات طرفين كما هو واضح، و عادة ما تكون المسائل ذات طرفين؛ فتجد هذا الطرف قد تصرّف بالشكل الفلاني تجاه ذاك، و هذا ردّ عليه بهذا الشكل، و لهذا السبب فعندما يسمع الإنسان من أحد الأطراف ستنشأ عنده هاتان الحالتان؛ تعاطف مع هذا الطرف، و نفور و انزعاج من الآخر.
حسناً... أنا عندما سمعت من هذا الأخ لم أكن أعرف الشخص الذي تعرّض للأذى، و حتى لو تعاطفت معه فلن يحدث ذلك فرقاً لأنني لا أعرفه إلاّ بالتصوّر و الخيال فقط، و لكنّني كنت أعرف الطرف الثاني الذي وقع مورداً لسوء الظنّ، و وجدت أنني قد بدأت أشعر بشعور سلبي تجاهه، فما شعرت بذلك التفتّ إلى هذا الأخ و قلت له: مِن أين تعلم أنّ هذا الكلام الذي بلغك [و نقلتَه لي] هو كلام صحيح؟ من أين تعرف صحّة هذا الكلام؟ فسكت قليلاً و تأمّل للحظات ثمّ قال: نعم، الحقّ معك لا علم لي بصحّة ذلك!! فقلت له: فلماذا تقول هذا الكلام إذاً؟!
هل رأيتم؟ هذا ما تعنيه المراقبة .. تجد البعض إذا سمع خبراً ما قال فوراً: آخ.. عجباً .. يا له من شخص !!
يا عزيزي.. لا تستعجل بقول هذه الـ "آخ" فوراً !! بل أجّل النطق بها ساعةً أو يوماً، فأنت الآن قد سمعت قضيّةً ما، فاذهب و تحقّق منها، و تأكّد قبل أن تحكم، فلماذا يسمح الإنسان لنفسه أن يسيء الظنّ بالآخرين؟! ولذلك التفتّ إلى صاحبي و قلت له: إنّني أستبعد أن يصدر مثل هذا الفعل من هذا الشخص الذي ذكرته! فقال لي: أنا أيضاً أستبعد صدور ذلك منه !! ثمّ قال: و على أساس ذلك، فينبغي ألا نستعجل بالحكم عليه بل لا ينبغي أن نفكّر بالموضوع قبل أن نسمع من الطرف الثاني ما عنده من معطيات. ها !! عندما يفكّر الإنسان بهذه الطريقة فإنّ النفس ترجع إلى حالة التعادل و التوازن بالنسبة إلى كلا الطرفين، ولم يحصل فيها ترجيح مسبق لكفّة على الأخرى، و هذا هو الصحيح!
فالإنسان في علاقاته مع الأفراد ينبغي أن يكون متوازناً، و لا يسمح لكفّة أحد الأطراف أن تميل على الأخرى، لأنّ الميل إلى أحد الأطراف يعني سوء الظنّ بالطرف الآخر، و هو سوء ظنّ بأحد رفقائه !! و حتّى لو لم يكن من الرفقاء ، فإن ذلك هو سوء ظنّ بأحد المؤمنين!! يعني هل تظنّون أن بإمكان الإنسان أن يقول ما يشاء عن المؤمن إذا لم يكن من رفقائه؟ و هل يجب أن يكون كلّ الناس من الرفقاء؟ و هل الرفقاء فقط هم من يستحقّ الاحترام و حسن المعاملة؟ كلاّ.. طبعاً ليس الأمر كذلك، فما أكثر الأفراد الجيدين الصالحين من غير الرفقاء ، أصلاً فلنفرض أن هذا الشخص ليس من الرفقاء، فهل يصحّ أن يسيء الإنسان الظنّ في الأفراد العاديين؟ يجب علينا أن نصلح أنفسنا، و نزيد و نوسّع من حالة التوحيد و محبّة نظرائنا في الإنسانية، ولا ينبغي أن نحصر ذلك في مجموعة صغيرة من الأفراد ثمّ ننتقي منهم عدداً قليلاً من الأشخاص ثمّ ننسب لهؤلاء جميع المحاسن وننسب لغيرهم جميع القبائح و المساوئ !! كلاّ ليس الأمر كذلك ولا ينبغي أن نتصرّف بهذا الشكل.
فبناء على ذلك، ينبغي علينا في خصوص هذه الأشهر الثلاثة أي: رجب و شعبان و رمضان أن نزيد من مراقبتنا وتدقيقنا؛ فإذا سمعنا مطلباً فلا ينبغي أن نستعجل فوراً و نقول: آخ! فمن استعجل بقول "آخ" فقد خسر، فلا داعي للاستعجال و التعجّب. كما ينبغي في هذا الشهر إصلاح الخيال، فقد سئل أحد العرفاء: ما هو التوحيد؟ فقال: التوحيد تصحيح الخيال، فإذا صحّحت خيالك فقد وصلت إلى التوحيد، و لكن انتبهوا فهذا الكلام له معنىً واسع جداً ! اعمل على تصحيح خيالك و وهمك، فإذا سمعت كلاماً من شخصٍ فلا ترفع حاجبيك تعجّباً، فلو فعلت ذلك، فهذا يعني أنّ خيالك ما يزال فاسداً و يحتاج إلى إصلاح، و أنّك ما تزال غارقاً في التوهّم، فقوّتك العاقلة معطّلة عن العمل، و بدلاً منها فإنّ القوّة الواهمة و القوّة المتخيّلة هي التي المتسلّطة على النفس والذهن، فتلك القوّة المتوهّمة قد تغلّبت و سيطرت في هذه الحالة. و ها هنا ماذا ينبغي للإنسان أن يفعل؟ يجب عليه أن ينظر ليرى ما هي الطرق التي يمكن أن تقود الإنسان إلى الخيال و التوهّم فيقطعها و يسدّها !! و عليه أن يسدّ طرق نفوذ الشيطان بالكلّية.
مثلاً إذا احتمل أنّه إذا ذهب إلى رفيقه و طلب منه هذا الطلب فإنّ رفيقه سوفّ يردّه ولن يلبّي له طلبه؛ فعليه ألاّ يذهب و ألاّ يطلب من رفيقه ذلك! لماذا؟ لأنّ الذهاب إليه و الطلب منه يعني إعداد وتهيئة الأرضية المناسبة لنفوذ الشيطان في النفس ! و لكنّك إذا جئت من البداية و أغلقت هذا الباب، فمن أين سيدخل الشيطان حينئذٍ؟! و من هنا إذا كان عندك حاجة فاطلبها من شخص غريب بحيث لو أجابك بالنفي فإنّك حتماً لن تتأثّر.
أو افرض أنّك تريد شراء شيءٍ ما، فهل ينبغي حتماً أن تشتريه من أحد الرفقاء ؟! لاحظوا أنّني اقوم بتوضيح المسألة، و خفضها إلى مستوى الأمثلة الجزئية و المصاديق، وذلك رغم أنّ السيد العلاّمة رضوان الله عليه كان قد قال لي: لا تطرح المسائل بشكل جزئي، و لا تتحدّث عن المصاديق! و لكن ليس أمامي حلّ آخر، فماذا أفعل؟!
حسناً.. إذا اشتريت شيئاً ما من أحد الرفقاء، فقد يأتي أحد الرفقاء الآخرين بعد أسبوع، فيسألك: بكم اشتريت هذا؟ فتقول: اشتريته بكذا، فيجيبك: إه ! يا للعجب!! لقد اشتريته بسعر غالٍ، فقيمة هذا أقل بكثير!! لقد ضحكوا عليك، فقم و اذهب و أرجعه من حيث اشتريته، و إذا أردت فبإمكانك أن تشتري نفس هذا الشيء من المحلّ الفلاني بقيمة أرخص!!
من هو الذي يلقي هذه الخيالات؟ إنّه الشيطان.. حضرة الشيطان جاء إلى هنا، وألقى في نفس هذا الشخص الذي تلبّس بلباس الرفيق، فلا تتصوّر أنّ هذا الشخص الذي جاءك و صار يلقي عليك هذه الأمور هو رفيقك في السلوك إلى الله بل هو الشيطان اتّخذ صورة رفيق سلوكي!! لقد تغلغل الشيطان في رأس هذا الشخص، و لكن لماذا لم يدخل الشيطان في رأس شخص آخر؟! لأنّ ذاك الشخص قد أغلق الباب في وجهه و قطع عليه الطريق! فذاك الشخص إذا سئل: بكم اشتريت هذا؟ فإنّه سيجيب: و ما علاقتك بالأمر؟ و ما المهمّ في معرفة السعر الذي اشتريته به؟ فماذا تريد من ذلك؟ فلماذا على الإنسان إذا اشترى شيئاً من أحد رفقائه أن يخبر كلّ الناس بالسعر الذي دفعه؟! لأنّه بمجرّد أن يقول: اشتريته بهذا السعر! فسيأتي هذا الشخص ويقول: يا للعجب! إن السعر الذي دفعته مرتفع، وكان عليك أن تسأل و تبحث عن سعر أقل! هل اشترط عليك أنّه لا يحقّ لك إرجاع البضاعة المشتراة؟ إذا لم يشترط فاذهب إليه و حاول إرجاعها، و من حقّك الاستفادة من خيار الغبن، و أمثال ذلك.. أجل بإمكانك الاستفادة من "خيار" الغبن و "باذنجان" الغبن أيضاً و هذه الأمور التي يعرفها الإخوة الفضلاء الذين درسوا الفقه [يضحك سماحة السيّد] ولذا أقترح عليك أن تقوم فوراً و تحاول إرجاعها و تبحث عن سعر أقلّ!
إنّ جميع ذلك من تسويلات الشيطان، يا عزيزي لقد اشتريت البضاعة و انتهى الأمر، فلا داعي بعد ذلك لكلّ هذا الكلام و لا لهذه التسويلات و الوسوسة! ها قد ضربت لكم مثالاً واضحاً، و مصداقاً معيّناً! إنّ جميع هذه الأمور هي من الشيطان، فعليك أن تسدّ طريقها و تغلق بابها! أصلاً من الذي قال لك أنّه ينبغي أن تشتري من رفيقك من الأساس؟! اذهب و اشترِ ما تحتاجه من شخص غريب بحيث لو تبيّن لاحقاً أنّ سعره كان مرتفعاً فارجع إليه و تشاجر معه كيفما تشاء !! ولكن لماذا يجب أن تذهب إلى رفيقك و تشتري منه هو ؟ فالشيطان يدخل بكلّ سهولة من هذه المنافذ، فأنت بمجرّد أن يحصل عندك سوء ظنّ برفيقك، فقد ذهب شهر رجب بالنسبة لك و ضاع تماماً!! لقد ذهب شهر رجب من يديك، وسيأتي دور شهر شعبان ! فاذهب و اشتر شيئاً آخر في شعبان لكي يضيع هو الآخر منك! و بعد ذلك افعل الأمر نفسه لشهر رمضان !! أجل لقد ضاع شهر رجب من يديك !! و لذا يجب على الإنسان أن يغلق الباب من البداية.

لماذا كان المرحوم السيّد الوالد رضوان الله عليه يقول: لا تراجعوني بخصوص مسائل الزواج و لا المسكن و لا العمل؟! هل فكّرتم في ذلك و عرفتم علّة ذلك حتّى الآن؟ فالسيّد الوالد لم يكن كذلك منذ البداية، و ما نذكره عنه أنّه كان يتدخّل في مسائل الأفراد، و في ذلك الزمان الذي كان الرفقاء معدودين ، و لم يكن عددهم كبيراً فقد كان رضوان الله عليه يتدخّل في مسائل زواجهم و مسكنهم و عملهم، و كان يعيّن لهم تكليفهم، ثمّ بعد ذلك تغيّر الأمر، و طلب منّي أن أعلم الجميع رسمياً بأنّه من الآن فصاعداً عليهم ألاّ يراجعوني بخصوص هذه المسائل، و بإمكانهم أن يراجعوني فقط بما يخصّ المسائل الشرعية،وذلك أنّ سماحته كان مرجعاً بالنسبة لهم، و بما يخصّ المسائل السلوكية فقط لا غير! و أمّا الاستشارة بشؤون الزواج، كالسؤال بأنّه هل هذه الفتاة مناسبة لي؟ و هل هذا الشاب مناسب لكي نزوّجه ابنتنا؟ أو هل نشارك الآن مع هذا الشريك أم لا؟ وهل نذهب إلى هذا المكان أو ذاك؟
لقد كان يقول: لا تسألونا عن هذه المسائل، هل تعلمون لماذا؟ هل فكّرتم في ذلك؟ كان بعضهم يقول: إنّ السبب هو أنّ الناس يأتون ويضيّعون وقته بذلك، فهذه المسائل لا تحتاج إلى سؤال، ففي يوم من الأيام اتّصل بالمرحوم العلاّمة رجل من إحدى المناطق، وسأله عمّا ينبغي فعلُه في مسألة معيّنة، وكانت قضيّة اجتماعيّة، فقال لي: اذهب وقل له: هل يمكن أن يُتحدّث عن هذه المسائل عبر التلفون؟ ألم نبيّن كلّ ذلك؟ فنحن لا ينبغي أن نعيّن التكليف للدواجن التي في البيوت. لقد كان ذلك الرجل يرفع سمّاعة الهاتف ويشرع بالسؤال والحديث الفارغ عن أمور لا ينبغي الحديث فيها، ولم تكن في محلّها، ولم يكن من الصلاح الحديث عنها، فهناك مسائل لا يمكن أن يتحدّث عنها، وعلى الإنسان في النهاية أن يُعمل عقله، فالمباني ذكرت وبيّنت، والكليّات تمّ توضيحها، وبحمد الله لم تبق هناك شبهة.
حسناً بعضهم كان يفسّر سبب نهي السيد العلامة عن مراجعته في هذه الأمور بهذه الطريقة، ولكنّ المسألة لم تكن من هذا القبيل، بل من باب أنّ المراجِعين هم على مراتب متفاوتة من حيث الاستقامة والثبات والصبر في مسائلهم، وليس الجميع على شاكلة واحدة، فمنهم من يستسلم أمام خمسين ألف تومان، ومنهم من ينهزم أمام كلمة واحدة يقال له فيها: لا علاقة لك بالأمر، ومنهم من يترك السير والسلوك بسبب تقطيب حاجب في وجهه لمرّة واحدة، ومنهم من يبرأ من الله ورسوله لمجرّد عدم الاعتناء به، ومنهم من لا يهتزّ مهما أنزلت على رأسه من البلاء، فهو ثابت كالوتد بل أشدّ.
فالناس متفاوتون في المراتب، وإذا كان الأمر كذلك فما هو التكليف؟ فهم يأتون إلى المرحوم العلاّمة ويقولون له: هل نقوم بهذا العمل أم لا؟ فإن قال لهم قوموا به، فمن الممكن أن يصل صاحبه إلى حالة من الفرح والمسرّة ونيل المنى بقيامه بهذا العمل، فيقول: جيّد جيدّاً، انظروا كم هو جيّد هذا الرجل، هل رأيتم عاقبة الأمر إلى أين انتهت؟ فقد سألناه وأجابنا ووصلنا إلى الهدف المبتغى، فتزداد محبّته للسيّد، فهو سيّد أشار علينا بالأمر بغير استخارة ولا تأمّل، فجاءت إشارته على وفق ما نريد. ويمكن أن يكون الأمر تارة أخرى على غير هذه الحال، وهنا .. واويلاه واويلاه ... وقد رأيت ذلك كثيراً ولديّ الكثير من هذه المسائل في صدري ولا ضرورة لإفشائها، فلتبق في القلب ..
يقول السيّد أمراً فإذا به يكون على خلاف ما نتوقّع، يقول مثلاً: قم بهذه المعاملة، فإذا به يخسر فيها وينكسر. يا ويلتاه، أهذا الذي كانوا يقولون عنه أنّه يعلم الغيب؟! هذا الذي يقول عنه مريدوه أنّه يعلم الغيب؟! ويخبر عن حقائق الوقائع، ويخبر عمّا وراء الستار؟ فلماذا كانت النتيجة على هذه الحال؟ اذهب وتزوّج من فلانة! فيذهب ويتزوّج منها، فإذا هي مخالفة لما يريد، فيا للمصيبة، وماذا نصنع بعد أن بقيت هذه عندنا؟ لا يمكن أن تصنع شيئاً، عجباً، لقد فوّتنا فرصاً عظيمة وشاورنا السيّد فقال لنا أنّ هذه هي المناسبة لنا دون غيرها، فتزوّجنا منها، فما هذه؟ وكيف هي مناسبة لي؟! لقد كانت تلك أنسب و افضل بكثير. فيجلس ويأكل أصابعه ندماً ويندب على رأسه لمشاورته السيّد في هذا الأمر.
لقد انتهى أمر هذا الرجل، فاقرؤا له الفاتحة، ووزّعوا القهوة والحلوى في مأتمه...

فللناس في علاقتهم مع الأولياء والعظماء جانبان: جانب الثقة، وأنّهم من العظماء وأنّ لهم اطلاع على بعض المسائل، وأنّ أفقهم أوسع ورؤيتهم أعمق، ولذلك فهم يأتون إليهم ويرتبطون بهم، ويديرون أعمالهم على هذا الأساس، وينظّمون علاقاتهم ومعاشراتهم عليه. هذا جانب، والجانب الآخر وهو الجانب الصعب، هو مستوى استعداد نفوسهم لقبول هذا الاعتقاد، فكم تثبت النفس أمام هذا المعتقد؟ وكم تصمد وكم تصبر؟ ومن هنا يقع الفساد، فلو أنّه استشار رجلاً آخر غير أستاذه، فهذا لا يضرّ بسلوكه، يقول استشرت رجلاً لا نسبة بيني وبينه، ولا أريد أن أطيعه، فلا يتغيّر شيء، بل يبقى سلوكه على ما كان عليه، وتبقى صلاته على ما كانت عليه، وتبقى محبّته على ما كانت عليه، وتبقى علاقته على ما كانت عليه، ولا يتغيّر شيء، وتبقى نسبة العَشرة بالمائة التي كانت لديه على ما كانت، وتبقى نسبة الخمسة عشر بالمائة على حالها، لماذا؟ لأنّه لا صلة بينه وبين هذا الرجل، ولكنّه جاء واستشار رجلاً كالمرحوم العلاّمة ثمّ وجد النتيجة مخالفة لتوقّعاته، فإنّ نسبة الاعتقاد الذي لديه ستتغيّر، وستتحوّل الخمسة عشر بالمائة إلى صفر، ولذلك فإنّ السيّد العلامة يقول لك: لا تأتِ لتستشيرني، فالأفراد ليس لديهم قدرة على القبول والتحمّل، وهم بمجرّد أن يجدوا خلاف ما يتوقّعون؛ يُسقطون السماء على الأرض وقد فعلوا.
فما الذي حصل يا عزيزي لتفعل كلّ هذا؟ لقد حصل أمر بسيط يخالف ما كنت تتوقّع لا أكثر، فامض في سبيلك واهتمّ بشؤونك، ما الذي حصل؟ أيّ شيء اتّفق يقتضي أن يوضع السلوك جانباً ويوضع الله ورسوله جانباً؟؟ {فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في صدورهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً}} .. أين موضع تطبيق هذه الآية؟ إنّه هنا في هذا الموضع ! فالله يقول للناس بصراحة: أيّها الناس! اثبتوا .. ما بالكم؟! أين ذهب إيمانكم ؟! و ماذا حلّ بعقيدتكم؟! إن حصلت مشكلة و خلاف مع شخص آخر، فلا بأس.. إمّا أن تكون ظالماً أو مظلوماً ، ثمّ ذهبتم عند رسول الله صلّى الله عليه و آله، فحكم بأنّ الحق مع الطرف الثاني عليك. حسناً.. فلنفرض أنّك كنت تعتقد بأنّ الحقّ معك، أفليس للنبيّ قيمة عندك بحيث تطيعه لو أمرك أن تصرف هذا الحقّ في هذا المكان ؟! ألهذه الدرجة لا ترى لكلام النبيّ قيمة عندك؟! فلو أنّ النبي صلّى الله عليه و آله جاء و قال لك: أعطِ الشخص الفلاني مقداراً معيّنا من المال ، ألم تكن لتعطيه؟! بلى بالتأكيد كنتَ ستعطيه و تقول: سمعاً و طاعةً يا رسول الله! ممتاز .. فالآن هذا رسول الله نفسه يقول لك: هذا المبلغ نفسه الذي وقع التنازع عليه بينك و بين فلان هو لفلان! فلم الاعتراض إذاً ؟! لماذا اختلطت عليك الأمور و انفعلت إلى هذه الدرجة ؟! افرض أن النبي أمرك منذ البداية أن تدفع هذا المبلغ لأحد الفقراء؛ أفلم تكن لتعطيه المبلغ؟! بلى طبعاً كنت ستفعل ذلك.. حسناً ها هو يأمرك بذلك و لكن بهذه الطريقة.
ألست مؤمناً بالنبي ؟! فلماذا كلّ هذا الاعتراض و الانفعال؟ و هذه الأمور ينبغي علينا نحن أن نتأمّل فيها، و نراجعها، ونبحث عن مصاديقها في حياتنا. ما هو السلوك يا عزيزي؟ إن السلوك هو أن يحصل الإنسان على المباني الكلّية، و يقوم بنفسه بتعيين المصاديق و يعمل و يتقدّم إلى الأمام، و لا حاجة أن يراجع [أستاذه] في كلّ جزء وفي كلّ قضيّة ترد عليه !! يا سيّد ماذا نفعل في هذه المسألة؟ يا سيّد ماذا نفعل في تلك المسألة؟! بل عليه أن يفهم المباني جيّداً ويستفيد من هذه القواعد الكلّية بنفسه، و يتحرّك و يتقدّم.
حسناً.. أنتَ ألا ترى لكلام النبي قيمةً إلى درجة أنّه لو جاء و قال لك ابتداءً: أعطِ هذا المبلغ ، أو افعل هذا الأمر ؟! إن كنتَ كذلك [أي غير مستعد لإطاعة أمر النبي]، فتباً لك و تعساً على هذا الإسلام !! و إن لم تكن كذلك ، [و كنت مستعداً لطاعة أمره ابتداءً]، فذلك جيد جداً.. في هذه القضية افرض أن الحق كان معك، و لكن النبي قال: الحق مع ذاك الشخص.. فعليك أن تمتثل دون تردّد، فبمجرّد أن قال النبي ذلك فإن الأمر انتهى! فما هو الفرق بين الحالتين بالنسبة لك؟! ما هو الفرق ؟! يعني ألا تحتمل بنسبة واحد من المليون أن تكون مخطئاً ؟! واحد من المليون ؟! أصلاً افرض أن الحقّ كان واقعاً معنا نحن، و لكنّ النبي وجد الصلاح في خلاف ذلك، و هو يرى أنّه ليس من الصلاح أن يصل إلينا هذا الحقّ! فما قولك حينئذٍ ؟! هل من المفترض أن يصل كلّ حقّ إلى صاحبه دائماً ؟! مع من كان الحقّ: مع الإمام الحسين أم مع يزيد ؟! الخلافة كانت حقّ من منهما: الإمام الحسين أم يزيد؟! من الواضح أنّها كانت من حقّ الإمام الحسين عليه السلام. فهل وصلت الخلافة إلى يد الإمام الحسين؟ كلاّ لم تصل! بل وصل إليها يزيد.
ولمن كانت الخلافة حقّاً: لأمير المؤمنين أم لأبي بكر؟! حقّ من؟ هل كانت حقّاً للإمام الحسن عليه السلام أم حقّاً لمعاوية؟ و هل كانت من حقّ الإمام زين العابدين أم من حقّ عبد الملك بن مروان؟ من الواضح أنّها كانت من حقّ الأئمة عليهم السلام، فهل وصلوا إلى حقّهم؟ كلا لم يصلوا. و هل من المفترض أن يصل كل صاحب حقّ إلى حقّه؟! فالخلافة كانت حقّاً للإمام الرضا عليه السلام أم للمأمون عليه اللعنة ؟! كانت حقاً للإمام الرضا عليه السلام، و لكن هل وصل إليها؟ كلاّ.
حسناً.. في ما نحن فيه، افرض أن النبي وجد أن المصلحة ألاّ يصل هذا الشخص إلى حقّه.. فليكن ذلك! و عليه أن يدع هذا المال للطرف الثاني ليأخذه برحابة صدر، فذلك يشبه ما لو أن الرسول منذ البداية قال له: أعطِ مالك هذا لهذا الشخص! فلو أن الرسول قال له ذلك منذ البداية، فهل كان سيعترض عليه قائلاً: لماذا يا رسول الله؟! كلاّ إذ لا محلّ للاعتراض هنا. حسناً فلأيّ شيء هذه المشاكل و الاعتراضات إذاً ؟! و أين ذهبت كلّ هذه الادعاءات بالإيمان و التسليم؟! و أين ذهب الادعاء بالصبر و التسليم و التحمّل عند البلاء؟! أين ذهب جميع ذلك؟! لقد تبيّن أنّها كانت دعاوى فارغة لا حقيقة لها يا عزيزي.
و لهذا .. فالمرحوم الوالد عندما كان يقول: لا تشاوروني في هذه الأمور فليس ذلك لأنني بخيل، فأنا لست بخيلاً !! و ليس سبب ذلك أنّني لا علم لي و لا اطّلاع، فأنا لست جاهلاً !! و ليس السبب أنّني أريد التقصير في حقّ رفيقي، فأنا أشدّ رفاقة من الجميع و أنا أحرص من الجميع عليكم!! ولكن ماذا أفعل حينما أجد أنّك في موقعيّة بحيث لو سألتني و أخبرتك بما ينبغي فعله فجاء خلافاً لتوقّعك فسوف تخسر حتّى ذلك المقدار القليل الذي تمتلكه ؟! ولذا أقول لك: لا تأتِ من البداية، حتّى تحافظ على الأقل على تلك الثلاثين بالمائة التي عندك. و هكذا يكون إغلاق الطريق أمام الشيطان، و منعه من النفوذ. و السيّد الوالد لهذا السبب قال للحقير: في هذه الأمور الثلاثة لا تقبل أن تكون موضعاً للاستشارة. و الحقير يطلب من الرفقاء الكرام أنّه إذا كانت هذه المسألة غير واضحة بهذا الشكل، فها هي قد طُرحت و بُيّنت بشكل صريح، فأرجو من الإخوة و الرفقاء أن يراعوها، لأنّ هذه المسألة خطيرة جداً و مهمّة جداً!
و هكذا الأمر بالنسبة لجميع الرفقاء و الإخوة و الأفراد، و عندما نشاهد بأنّ هناك مسألة ستقع وتفتح طريقاً لنفوذ الشيطان، فعلينا أن نتوقّف و لا نمضي فيها، و علينا أن نغلق هذا الطريق حتّى لا نسمح لهذه الأرضية المساعدة لنفوذ الشيطان بالتحقّق و الحصول، إلاّ إذا كان عند الإنسان تكليف بعمل هذه القضية، فالتطليف له حكم آخر و يجب على الإنسان أن ينفّذه.
على كلّ حال، ينبغي للإنسان أن يلاحظ المسألة من هذه الجهة، و هي أن المراقبة عبارة عن تصحيح الخيال و طرد الأوهام، ففي هذا الشهر على الإنسان يجدّد النظر في ما كان يسمعه، و في أفكاره و أحكامه السابقة، و يعمل على تصفية نفسه، حتّى تصبح قابليته على استقبال الفيوضات أكبر.
إن شاء الله نسأل الله تعالى أن يوفّقنا في هذا الشهر إلى ما يرضيه و يرضي أولياءه، و أن يرزقنا من تلك التحف و الكنوز الثمينة التي لا نعرفها ولا نعرف ما هي واقعاً، فنحن لا ندري ما هي الأخطار التي ننجو منها في طوال السنّة دون أن نعلم كيف تخطّتنا ولم تصبنا، و لا ندري ما هي المواهب التي نحصل عليها في طول السنة، و نحن نحسب أنّ حصولنا عليها كان صدفة اتّفاقية، و الحال أنّ جميع هذه الأمور هي في الواقع ببركة هذه الليلة و أمثالها، حيث يقدّر الله لنا هذه الأمور.
إن شاء الله نأمل أن يشركنا الله تعالى في كلّ خير جعله من نصيب رسول الله و أهل بيته الأطهار، و أن يخرجنا من كلّ سوء و غيريّة و بعد أخرج منه محمّداً و آل محمد، و أن يديم ظلّ وليّ العصر عليه السلام على رؤوسنا، و أن يرزقنا جميعاً في هذا الشهر المبارك من العنايات الخاصّة لحضرته.

اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.


[1] ـ إشارة إلى الحديث القدسي: " يا موسى سلني كل ما تحتاج إليه حتى علف شاتك، و ملح عجينك". (بحار الأنوار، ج 90، ص 303)

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی