معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 101 إلى 200 > شرح حديث عنوان البصري ـ المحاضرة رقم 199: مراقبة تناول الطعام (شرح فقرة وأما اللواتي في الرياضة...)

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح حديث عنوان البصري

المحاضرة رقم 199

مراقبة تناول الطعام
(شرح فقرة وأما اللواتي في الرياضة...)

ألقيت في الثاني من شهر شعبان عام 1433هـ

سماحة آية الله

السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين

    

ضرورة المراقبة حين تناول الطعام

يعطي الإمام الصادق عليه السلام في الحديث الشريف المرويّ عن عنوان مجموعة من الوصايا والقواعد تتعلّق بكيفيّة تناول الطعام وكميّته وخصوصيّاته، حيث يقول:
«أمَّا اللَوَاتِي في الرِّيَاضَةِ:
فَإيَّاكَ أنْ تَأكُلَ مَا لا تَشْتَهِيهِ، فَإنَّهُ يُورِثُ الحَمَاقَةَ وَالبَلَهَ، وَ لا تَأكُلْ إلاَّ عِنْدَ الجُوعِ، وإذَا أكَلْتَ فَكُلْ حَلالاً وسَمِّ اللـهَ، واذْكُرْ حَدِيثَ الرَّسُولِ صلّى اللـهُ عَلَيهِ وآلِهِ وسَلّم: مَا مَلأ آدَمِيّ وِعَاءً شَرَّاً مِنْ بَطْنِهِ، فَإنْ كَانَ ولابُدَّ فَثُلْثٌ لِطَعَامِهِ وثُلْثٌ لِشَرَابِهِ وثُلْثٌ لِنَفَسِهِ»
.
سنتعرّض لمواضيع هذه الفقرة كوحدة واحدة، وسننظر كيف كانت طريقة الأعاظم في هذه المسألة؛ لأنّ سيرتهم هي أفضل سبيل ينبغي اتّباعه.
يقول الإمام: «أمَّا اللَوَاتِي في الرِّيَاضَةِ» أي: أما ما يتعلّق برياضة النفس، وما يتعلّق بسلوك الإنسان طوال حياته ومعيشته في كيفيّة تناول الطعام، فينبغي أن يكون على هذا النحو الذي بيّنه فيقوله: «إيَّاكَ أنْ تَأكُلَ مَا لا تَشْتَهِيه»، فعلى الإنسان أن يلتفت إلى نفسه حين الطعام، فهناك أطعمة لا يشتهيها ولا يشعر بالحاجة إليها من الناحية البدنيّة، ولكن في نفس الوقت يقوم بالاستمرار بالتناول منها إمّا بسبب طعمها، وإمّا بسبب ندرة وجودها، أو لأيّ سبب آخر... ، مثلاً: يأكل الإنسان برتقالةً فيشعر أنّ حاجته قد كُفيت، لكنّه ينظر مرّة أخرى، فيرى واحدةً أخرى [ويقول في نفسه] ما شاء الله ما أجمل لونها! فتتمايل نفسه لتناولها ولا يرى بأساً في ذلك، وفي النتيجة يتناولها مع عدم وجود حاجة لتناولها، يعني: يتناول ما لا يشتهيه! أو مثلاً عندما يتناول مقداراً من الطعام فيشبع ويبقي مقدار قليل في صحنه، فيرى أنّه لا بدّ من إنهاء هذا المقدار الذي لا يحتاجه... فهذا الأمر مذموم من الناحية التربويّة ومن ناحية التزكية والتكامل، والإمام يقول: «فَإنَّهُ يُورِثُ الحَمَاقَةَ وَالبَلَهَ» أيّ يوجب البلادة الذهنيّة.
حسناً ما هي العلّة التي تجعل الإنسان بليد الذهن إذا ما تناول أكثر من حاجته، فيمنعه ذلك عن إدراك المعارف؟ ما هي العلاقة بين هاتين المسألتين؟ وما هي الحلقة التي تربط بين هاتين المسألتين؟ فنحن نفهم أنّ الإنسان حينما يأكل ثلثاً إضافيّاً من الطعام، يؤدّي ذلك إلى ثقلٍ في معدته، لكن أن يؤثّر ذلك على تفكيره، وتصبح قواه الفكريّة أضعف، وتضعف قدرته على الإدراك والفهم، فهذا الأمر هو الذي ينبغي أن نبحثه، فما هي العلاقة بين هاتين القضيّتين؟
عندما يستمرّ الإنسان بتناول الطعام ويستمرّ حتّى يتجاوز الشبع ويصل إلى الامتلاء وما بعد الامتلاء، حينها تتعطّل معدته عن العمل، لكنّه يقول: ها يوجد هنا حلوى، ولا بأس أن نأكل ملعقتين أو ثلاثاً، فقط أريد أن أتذوّق طعمها. أكل الحلوى وإذا به يجد صنفاً آخر من الطعام من نفس المجموعة، مثلاً: شله زرده[1]، يريد أن يعرف كيف هو طعمها أيضاً، وهكذا يستمرّ بتناول الأطعمة التي لا يحتاجها بما يزيد عن الحدّ الذي يكفيه، وهذه المسائل موجودة وتحصل، أليس كذلك؟

    

الغذاء وسيلة لا غاية

لقد ذكرنا للإخوة فيما سبق بعض الأفكار والمواضيع التي تتعلّق بهذا الشأن، وعرضنا الأساس الذي ينبغي أن تبتني عليه مسألة تناول الطعام من أصلها، وأنّا هل أتينا إلى هذه الدنيا لتناول الطعام؟! إن كان الأمر كذلك، فالأغنام تتناول الطعام أيضاً!! وكذلك الأبقار والجمال تتناول الطعام، كذلك الأسود والنمور، فآكلات اللحوم تتناول بطريقة معيّنة، وآكلات الأعشاب تأكل بطريقة أخرى، وهذه الحيوانات تأكل أكثر ممّا نأكل، لكنّنا لا نلتفت إليها، ولا نراقبها، لأنّنا نقول: حيوان، يتناول العلف، ما شأني؟ هكذا خلقه الله، فلا تجد أنّنا نذمّ أو نؤيّد فعل تلك البقرة التي تذهب إلى الحقول وتبدأ بتناول الأعشاب، بل نقول: على البقرة أن تأكل لتعطيَ الحليب في الليل، لأنّها إن لم تتناول العشب، فلن تعطينا الحليب، وسائر المنتجات.
حسناً، هل أمرنا يتماثل من هذه الناحية مع الحيوانات؟ إن كان الأمر كذلك فلا فرق بيننا وبين الحيوانات. فأنا بإمكاني أن أقسم بأنّ اللذة التي نحصّلها بواسطة هذه الأطعمة التي تصنع لنا باعتبارها نموذجيّة ونتلذّذ بتناولها، والتي تجعلنا ننتظر أن تُفرش السفرة عند الظهر والمساء، وخصوصاً في ليالي شهر رمضان المبارك الذي صار على أبوابنا، فهذا التوقّع الذي نتوقّعه من أطعمتنا، أعتقد أنّ الحيوانات إن كانت لا تتلذّذ أكثر منّا من أطعمتها فليس أقلّ منّا، فمن أين لكم أن تعلموا أنّها لا تتلذّذ؟ هل دخلتم في بطن أحد الحيوانات لتعلموا أنّ تلذّذه قليل؟ بل إنّ نفس الحالة التي تحصل عندنا عندما يوضع أمامنا مجموعة من أصناف الأطعمة المختلفة والمتنوّعة، هي موجودة عند الخروف حينما يتناول الأعشاب المختلفة والمتنوّعة، نعم نحن ننظر إلى طعامه بازدراء، لكنّه ينظر كذلك إلى طعامنا بازدراء، فيقول: هل الأرزّ واللحم طعام يؤكل؟! تعال يا عزيزي: هنا يوجد عشب، بل أفضل أنواع العشب!! [يبتسم سماحة السيّد] ، انظر إلى البرسيم كم هو لذيذ! الخسّ وسائر الأعشاب.. تجده يأكلها ويستمتع بذلك، ثمّ يذهب وينام، إذن ليس هناك من اختلاف أبداً.
إن كان الأمر كذلك فما هو الفرق بيننا وبين هذا الحيوان؟!
هذه المسألة توصلنا إلى أنّ أصل عملية الاغتذاء و كلّ المواد الغذائيّة المختلفة التي خلقها الله عزّ وجلّ للإنسان، ينبغي أن تكون في سبيل التوجّه والالتفات إلى عالم الربوبيّة والألوهيّة، ومن أجل تزكية النفس، لا التركيز على نفس الطعام والغذاء.
هذه النعم التي منحها الله للإنسان وهيّأها له، قال تعالى: {قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده}[2] وقال عزّ وجلّ: {أحلّت لكم بهيمة الأنعام}[3] وأمثالها، فكلّ هذه الأمور التي أحلّها الله لنا سواءً في البحار أم في الهواء أم في البرّ، ينبغي أن تعامل كسبيل وطريق للوصول إلى الغاية المرجوّة، ومن أجل الوصول إلى ذلك المبتغى، لا أنّها هي غاية بحدّ ذاتها أو لها قيمة في نفسها للإنسان، لا أبداً.

    

بلوغ الغذاء كماله حين تناول العبد الصالح له، وقصّة حوار الأضحيّة مع أحد الحجاج

وقد ورد لدينا في الروايات بالنسبة للحيوانات ولغير الحيوانات كيف أنّ هذه الأطعمة هي معدّة لإطعام أحد العباد الصالحين، وأنّها تحصل على الرقي والتكامل والتجرّد من خلال كونها طعاماً لذلك العبد الصالح، وكيف أنّ هذا الحيوان يتباهى بطاعته وعبوديّته تلك للـه، يعني: تفتخر هذه الفاكهة أو هذا الخروف أن كان طعاماً لذلك العبد الصالح، وفي هذا الصدد لدينا العديد من القصص العجيبة والأسرار العميقة، وأنا لن أعرض إلاّ قصّة حدثت قبل عدّة سنوات لأحد الأصدقاء والتي نقلها لنا أحدهم، وقد حدثت في مكّة، حيث كان قد ذهب إلى المذبح لتقديم الأضحية، وكان قد انتخب بنفسه الخروف الذي سيضحّي به، لكنّه لم يتمكّن من تسليمه إلى القصّاب.. فنفسه لم تطاوعه في ذلك، ولم يكن يرغب أن يحصل ذلك؛ لأنّه حيوان ذو روح في النهاية، وبعد قليل سيفقد روحه ويصبح طعاماً، ولذا لم يكن يرغب هذا الرجل بذلك، في هذه اللحظة بدأ هذا الحيوان بالتكلّم معه، وقال له: "لماذا أنت منزعج من التضحية ببدني الترابي هذا لكي أصل إلى مرتبة أعلى؟" (عجيب جداً) ، يقول له: لماذا أنت منزعج؟ لماذا لا تريدني أن أصل إلى تلك المنزلة؟ (كان ذلك يوم عيد الأضحى) ، لماذا لا تريدني أن أصل إلى تلك المرتبة والمنزلة؟ فمن خلال الذبح يحصل هناك أثران في عالم التكوين: الأول: حركتك أنت، والتجرّد الذي تحصل عليه بسبب هذا الذبح، وأنت تخطيته بهذا الذبح، فأنت بذلك وكيل للقيام بهذا الذبح، وفي الواقع كأنك تذبح نفسك وتعبر عن نفسك، وقد محوت و أفنيت نفسك في الواقع.
قال تعالى: {وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظيمٍ}[4] فالنبي إبراهيم عليه السلام حينما كان يذبح ابنه، كان في الواقع يضحّي بنفسه، والآية تقول: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا}[5] ، صدقتها وعبرت عن نفسك ووضعت السكّين على حلقوم فلذة كبدك، وهذه الحركة التي قام بها النبي إبراهيم عبارة عن عبوره عليه السلام والوصول إلى العبوديّة، والفناء في المقام الربوبي، ورفض جميع الشوائب الوجوديّة، التي ظهرت على صورة "الابن"، ذلك الوجود الباقي والمستمر للإنسان، فعلى الإنسان أن يعبر عن هذا الوجود أيضاً.
[والثاني: حركة نفس الحيوان] وهذا يعني أنّ ذلك الحيوان يمتلك إدراكاً وشعوراً، وهذا الأمر واضح بالنسبة للحيوانات التي تكون مع الأعاظم ومع أولياء الله، ومع الأنبياء والأئمّة عليهم السلام، كالمراكب التي يركبونها، وكيف أنّها لم تكن تحتمل فراق الإمام عليه السلام بعد ارتحاله، وأنهاكانت تقضي نحبها بعد مدّة قصيرة من الزمن حزناً على ذلك الإمام، وكذلك التصرّفات التي كانت تقوم بها، فما هي كلّ هذه الأمور؟ وكذلك كلّ تلك الحيوانات التي كانت تتكلّم مع الأئمّة عليهم السلام في الصحاري، والتي وردتنا قصصها في الروايات وفي كتب السيرة والتاريخ، فلماذا كانت كلّ هذه المسائل؟ كلّها تعبّر عن هذه الحقيقة وهي: كما أنّ الإنسان يمتلك حركة وأسلوباً ونمطاً للبقاء في هذه الحياة، كذلك الحيوانات تمتلك حركةً وأسلوباً ونمطاً خاصّاً بها، فهم يطلبون من اللـه الأجر، ويطلبون أن يكونوا طعمةً وغذاءً للإنسان، ليتمكّن من خلال ذلك أن يقيم الصلاة ويدعوَ الله ويذكرَه، فهذا الطعام يتبدّل إلى تجرّدٍ روحانيّ وتجرّدٍ نوراني، ويصل إلى مرتبته الكماليّة، فهذه الحصّة الوجوديّة تصل إلى مرتبتها الكماليّة، وهي ترغب جادّةً إلى اللـه أن يوصلها إلى هذه المرتبة.
قال ذلك الرجل: لقد بدأ يتكلّم معي: "لماذا أنت منزعج لذبحي؟ هل تتصوّر أنّي أفقد وجودي إذا ذُبحت؟ أنت مخطئ، بل عندما أُذبح يصبح وجودي أرقى، وأنت الآن تقف حائلاً أمام وصولي إلى هذه المرتبة الأكمل، وتمنعني من ذلك".
هل التفتّم إلى حقيقة المسألة؟

    

العلّة في حرمة صيد اللهو وقتل الحيوانات عبثاً، وقصّة اهتزاز عرش الله لقتل حشرة

فكلّما وفّره الله عزّ وجلّ للإنسان إنّما وفّره وهيأه له للوصول إلى هذا الأمر، فلماذا يقولون: لا ينبغي أن تصطادوا في الصحاري والبراري، وأنّه مكروهٌ جداً، بل إن البعض قد أفتى بالحرمة إن كان للّهو واللعب؟! لماذا؟ لأنّك تقتل بذلك حيواناً عبثاً! فالبعض يحب أن يذهب إلى الصحراء وأن يطلق النار على الحيوانات هناك، لا لأجل شيء سوى التسلية والاستمتاع!
نعم في بعض الأحيان يقوم بذلك من أجل الطعام، فهنا يوجد حاجة، وبالتالي يريد قتله لتحصيل فائدة معيّنة. لكن في بعض الأحيان يكون الهدف هو التسلية ليس إلاّ! لذا نجمع بعض الأصدقاء ونتوجّه نحو الصحاري والبراري ونطلق هناك النار على تلك الحيوانات للتسلية فقط، أليس كذلك؟ فهذا الأمر له حكمه وذلك له حكمه.
أصلاً أنت لا يحقّ لك أن تقتل الحيّة التي تمشي في حال سبيلها في الصحراء، لماذا تقتلها وهي لم تؤذك؟ بلى، لو أنّ حيواناً دخل من الصحراء إلى المدينة.. إلى الشارع أو المنزل، فهنا يختلف الحال، لأنّه دفعٌ للأذى والمؤذي، وحكمه يختلف، لكن لو كان هذا الحيوان يمشي لوحده في الصحراء، فما شأننا به؟ لا يجوز لأحدٍ أن يؤذيه. إذا كان يمشي في الصحراء، فما علاقتنا به، ولا يوجد مبرّر لكي نقتله، لا ينبغي للإنسان أن يؤذيه، فكلّ شيء له حدّه وحدوده، ولا ينبغي تجاوز هذه الحدود، ولا ينبغي للإنسان أن يُعمل ذوقه الخاص في التصرّف في الأمور.
نقل لي أحد الأصدقاء أنّه كان في أحد الأيام في البريّة، وكان هناك حيوان، ولم يكن من الحيوانات المؤذية، بل من الحشرات الأرضيّة، وكانت هذه الحشرة على شجرة، وكنّا نجلس بجانب تلك الشجرة، يقول هذا الصديق: خطر ببالي أن أقتلها، وحينما هممت بذلك تمهّلت قليلاً، عندها صارت لي حالة من الحالات ـ وكان هذا الرجل من أهل الحال وأهل المعنى وأهل الإدراك والفهم، رحمه الله، فقد توفي قبل عدّة سنوات ـ يقول: "صارت لي حالة، ورفعت هذه الحشرة رأسها إلى الأعلى (نفس هذه الحشرة التي لا نحسب لها قيمة) رفعت رأسها إلى الأعلى، وأحسستُ حينها أنّ كلّ مفاصلي ترتعد" ، أنت ترى أنّ هذه الحشرة صغيرة جداً لا قيمة لها، لكنّك لا تعلم أنّ لها نفساً، لها نفساً وروحاً.
بلى لو كانت هذه الحشرة في المنزل، يمكن لك أن تقتلها لأنّها مؤذية أو مضرّة، ولكن حينما تكون في البراري، وعلى الأشجار، فما شأنك بها؟! لماذا نسلب روح حيوانٍ من الحيوانات من دون أيّ سبب؟! كيف بنا والحال أنّ هذه الحشرة لم تكن مؤذية!
وكان تعبيره كالتالي: "رفعت رأسها إلى الأعلى، فرأيت أنّ عرش اللـه يهتزّ للفعل الذي كنت أريده"، اهتزّ عرش الله من أجل حيوان.. من أجل حيوان بهذا الحجم الصغير،كان يقول: "ورأيت حينها أنّني لو قتلت تلك الحشرة، لذهب كلّ عمري وعباداتي وسيري وسلوكي أدراج الرياح" يخطّون عليها بخطّ البطلان.
هل التفت الأصدقاء والرفقاء إلى ما أرمي؟ إذا كان عرش اللـه يهتزّ لسلب روح حشرةٍ صغيرةٍ من دون سبب، فآه آه ممّن يقتل إنساناً من دون حقّ ومن دون سبب!! عندها ماذا سيحصل؟ ماذا سيحصل؟!
يقول ذلك الصديق: "حينها تركتها، وقلت: يا عزيزتي اذهبي بحال سبيلك، [يتبسّم سماحة السيّد] ، يا عزيزتي نحن أخطأنا بحقّك، ولن نعود إلى مثلها أبداً! ومن الآن فصاعداً سنحسب لكلّ شيء حساباً" ينبغي أن يحسب لكلّ شيء حساباً، حتّى لو كان صغيراً بمقدار رأس الإبرة.
وبالتالي فما هيّأَه الله لنا ووفّره من الطيّبات، ينبغي أن يستفاد منه في سبيل الوصول إلى التكامل والرقيّ، كلّ هذه المسائل ينبغي أن تسير في هذا السياق، فإن حصل نكون حينها قد عملنا بتكليفنا الذي كُلّفنا به، وحينها لن يحتاج الأمر إلى شيء، لن يحتاج إلى علم الأصول ولا إلى إجراء الأصول العمليّة وأمثال ذلك، لن يحتاج إلى إجراء أصل الإباحة...! فنفس الالتزام بهذا الأمر يبرّر ويجوّز الاستفادة من هذه النعم الإلهيّة.
وطبعاً هذا الأمر لا ينحصر بهذه المسألة فحسب، بل يجري في سائر المسائل كما بيّنته سابقاً للأصدقاء والرفقاء من مباني الأعاظم، كمسائل النكاح والزواج، وحتّى الأمور الأخرى، كمسألة المسكن، ومسألة اللباس وغيرها من المسائل حيث ينبغي لجميعها أن تكون في هذا السياق، غاية الأمر أنّنا نحن الآن بصدد الحديث عن الطعام والغذاء لذا تعرّضنا لها من هذا الجانب، ولكن إن شاء الله قد نتعرّض لبقيّة الأمور فيما بعد.
بناء على ذلك، المهمّ للسالك هو أنّ عليه أن يرى ما هو الصلاح له في كيفية الغذاء.. ما هو الصلاح له؟ هل الجوع هو الأصلح له، أم الشبع؟ أمالحالة الوسطى بينهما؟ فالإنسان بنفسه عليه أن يلاحظ ظروفه وأحواله الخاصة، وأن يقف على موقعيّته.

    

العلّة في حصول البله والحماقة إثر تناول الطعام بما يزيد عن الحاجة

وحين يقول الإمام عليه السلام أن زيادة الطعام عن مقدار الحاجة توجب الحماقة، فهو يعني أنّ الإنسان عندما يتناول ما يزيد على ما تطلبه معدته، فمن الطبيعي أنّ الإحساس بالثقل سوف يؤدّي إلى انشغال النفس والروح به، وهذا الانشغال ماديّ ونفسيّ؛ وذلك لأن الروح في حالة انشغال واهتمام بالبدن، إذ ما دام الإنسان على قيد الحياة، فهناك علاقة بين النفس والبدن، لكن عندما يموت تنتهي هذه العلاقة، حيث ينفصل البدن عن النفس، وتذهب النفس إلى حيث كانت. لكن عندما يكون البدن على قيد الحياة فهناك علاقة بينه وبين النفس، فالنفس تصرف بعضاً من قدرتها في سبيل هذا البدن؛ فعندما يحصل لديه ألم في الرأس، ستبتلى النفس بهذا الألم، وكذا عندما يتألّم القلب ستنشغل النفس به، وهكذا في كل عضو من أعضاء البدن، فعندما يبتلى بمرض أو ألم، فسوف تتوجّه النفس إليه بشكل تلقائي. وطبيعيّ أنّ توجّه النفس في هذا الثقل سيوجب التقليل من قدرتها؛ لأنّ هناك علاقة بينهما. وعندما تكون النفس في حالة اهتمام بالبدن فلن تستطيع أن تحافظ على حركتها وتركيزها، بل سوف تصرف بعضاً من توجّهها نحو هذه المسألة. لذا نرى هنا أنه عندما يأكل الإنسان مقداراً أكثر من حاجته، فسوف يؤدّي انشغال النفس بالمعدة والجهاز الهضمي إلى أن تتضاءل قدرتها الفكريّة. فمثلاً عندما تكون متخماً لا تستطيع أن تحلّ مسألة رياضيّة، إذ الفكر لا يقدر عند ذلك. وعندما تتناول طعاماً بعد شبعك وتطالع كتاباً، ترى أنك لا تقدر على فهمه بالشكل المطلوب، ليس لديك ذاك الذكاء والحدّة في الفهم الذي ينبغي أن يكون في مثل هذه المسائل، واستخراج المعاني من الكتب؛ وذلك لأن النفس الآن مبتلاة ومشغولة بهضم هذا الطعام. وهذه هي الحماقة، فالحُمْق يعني قلّة العقل، والعقل هو الذي يعطي الفهم للإنسان والدقّة والحدّة. وعندما تتكرّر من الإنسان هذه الحالة، فيعتاد على تناول الطعام على الطعام، ويبقى مشغولاً بتناول المكسّرات وغيرها أثناء النهار.. فسوف تتبدّل الحالة السابقة إلى حالة من البلادة الفعليّة. لقد كان سابقاً إذا طرحت عليه بعض المسائل يستنتج منها بعض الأمور بسرعة، لكنّه الآن عندما يطرَح عليه شيء، يبقى ينظر إليك هكذا وكأنّما هو جدار. لمَ حصل ذلك؟ لأنّ هذه الحالة قد تغيّرت لديه، وذاك الفهم الذي كان لديه قد تغيّر، وذاك الذكاء الذي كان يتمتّع به قد تبدّل.. وبعبارة المرحوم العلاّمة أن البعض لديه من الفطنة وسرعة البديهة أنه يفهم الكلام وهو لا يزال في الهواء؛ يعني أنه قبل الكلام يفهم المراد.. يعني أنه ذكي، لكن عندما يصل الإنسان إلى هذه المرتبة من البلادة، فحتى لو كنت تنظر إلى عينيه وتتكلّم معه فسيقول: ماذا؟ ماذا تقول؟ فأنت تنظر إليه وتكلّمه ولكنّه لا يفهم فيقول: نعم جيّد، لمَ حصل ذلك؟ لأنّ هذا الرجل قد تغيّر شيئاً فشيئاً وتبدّلت حالة نفسه، وهذا الأمر لا يحصل بسرعة، بل شيئاً فشيئاً، أي أنّ النفس عندما تأتي وتخرج من مرتبة النظرة الآلية، وبدلاً من أن تنظر إلى الغذاء بنظرة آلية وتتخذ منه وسيلة لتكاملها، تنظر إليه بنظرة استقلالية، عندها ستترك هذه الحالة أثرها على تلك النفس شيئاً فشيئاً، وستجعلها مستغرقة في الجانب الظاهريّ فقط، وعندما تغرق في الظاهر ستصرف النظر عن الباطن، ولا تعود تنظر إليه، بل تبتعد عنه. هذا بالنسبة إلى كثرة الأكل.
وكذلك هو الحال بالنسبة إلى قلّة الأكل، فلو فرضنا أنّ الإنسان صام، والحال أن الصوم له نظام محدّد؛ بأن يأكل عند السحور وعند الإفطار.. فلو فرضنا أنه لم يتناول السحور، وأراد أن يزيد في جوعه، أو أراد أن لا يفطر بأن يواصل صومه ـ طبعاً لا بالمقدار المحرم ـ كأن لا يكون لديه رغبة في الطعام مثلاً، أو يريد أن يخالف نفسه ويحمّلها جوعاً زائداً.. ففي هذه الحالة نرى أن النفس تبتلى بأمور أخرى.. ويصير حاله كمن يقال له: تأخّر عن حافّة السطح حتى لا تقَع، فيتأخّرُ إلى أن يقعَ من الطرفِ المقابل.
فالنفس قد تبتلى من هذه الجهة، إذ قد يقع الإنسان في حالة من الضعف، بحيث أنّ هذا الضعف لا يدعه يتقدّم في تكامله، إذ يتغلّب عليه الضعف، ويعجزه تماماً.. هذا خطأ أيضاً.
لماذا كان المرحوم القاضي يوصي بأنه عندما ينهض الإنسان لصلاة الليل في السحر فعليه أن يأكل شيئاً، لماذا؟ لكي يحصل البدن على نشاط ويخرج عن حالة الضعف، فالذكر الذي يذكره الإنسان عند الجوع لا فائدة فيه، الذكر الذي يذكره الإنسان في حالة من الضعف لا فائدة فيه، إذ يصير مثل الشريط المسجّل الذي يذكر.. بل يجب أن تتحرّك النفس والروح بهذا الذكر، ولا بد من أن تترقّى النفس بهذا الذكر الذي يتم تكراره. أما عندما يكون الجوع هو المسيطر، فلن يستطيع الإنسان أن يورد ذلك المعنى في ذهنه أبداً، أو أن يتمكّن هذا الذكر في النفس ويحرّكها ويتقدّم بها، مهما كرّر الذكر. لذا يوصي العظماء بأنه على الإنسان أن يذكر في حالة من التوجّه، في حالة نشاط، عليه أن يعرف ماذا يذكر وماذا يقول. إذا استطاع أن يذكر مائة مرة بحالة من النشاط فهو أفضل من مائتين بحالة من الذبول.. أو ثلاثمائة مرة في حالة ضعف.. بل على الإنسان أن يحصل على النشاط والحال أولاً، حتى يترك الذكر أثره. لا كالذي يأتي بالصلاة وهو في حالة من النعاس والكسل.. يقول نصلي هاتين الركعتين ثم نذهب إلى النوم. هذه صلاة، وهناك نوع آخر من الصلاة التي يؤتى بها بحالة من النشاط والاندفاع، فكيف سيكون ركوعها وسجودها وسائر الأمور فيها، هل ستكون متساوية مع تلك الصلاة؟ حتماً لا! لذا يجب أن تكون المسائل بحيث تترك أثراً، وأما إذا لم تترك أثراً فسوف تكون كسائر المسائل الأخرى.. ستكون مجرّد قيام بالتكليف الظاهريّ وينتهي الأمر. إذا أراد الإنسان أن تترك صلاته أثراً فعليه أن يقوّي المراقبة عنده.
لماذا يقول العظماء بأنّ على الإنسان عندما يريد المشاركة في جلسة عصر الجمعة، عليه أن يهتمّ بالمراقبة في ذلك اليوم.. فلا يستدعي ضيفاً إلى منزله، ولا يحلّ ضيفاً عند أحد، وعليه أن لا يمضي وقته بعد الطعام بالحديث والكلام الفارغ.. لماذا أوصوا بهذه الأمور؟ إذ يمكن للإنسان أن يشارك في جلسة الجمعة.. حتى لو كان ضيفاً أو أتاه ضيف، حيث يمكن أن يجلس ويتحدّث إلى ضيفه ويضحك معك ساعة أو ساعتين، ثم يتوضّأ ويذهب إلى الجلسة.. ما الفائدة من ذلك؟ أن يذهب الإنسان إلى الجلسة ويطرق برأسه هكذا ويغمض عينيه، فهذه ليست جلسة.. وهذا ليس ذكراً، وليس توجهاً..
كان المرحوم الوالد في مسجد القائم عندما كان يتحدّث ويقيم جلسة في ليلة الثلاثاء.. وأعتقد بأنّ من الإخوة هنا من كان يشارك فيها ويتذّكرها.. عندما كان يبدأ بالحديث لمدّة خمسة دقائق أو عشرة دقائق كان بعضهم يغمضون أعينهم، وبما أن الحديث ليس كله قصصاً، إذ عند القصة تتبدل العين إلى أذن سامعة أيضاً.. لكن عندما تنتهي القصة ويصير المطلب عميقاً بعض الشيء، ترى الجميع عيونهم مغمضة... في مرة من المرّات كنت جالساً قرب أحدهم، فأطرق برأسه وأغمض عينيه، وبدأ صوت شخيره يعلو، فناداه المرحوم الوالد.. يا فلان! هل أنت بخير؟ فقال نعم... [ضحك]
يا أخي! هذا الذي يأتي لكي يحاضر في جلسة ليلة الثلاثاء، ليس عاطلاً عن العمل، بل كان يأتي ليتكلّم معي ومعك، لكي يبيّن لنا الطريق، لكي يبيّن لي ولك طريقة الحياة التوحيديّة.. هذا الرجل هو الذي يقول: لم أكن لأصرف ساعة من عمري في إيران بدون إجازة من أستاذي.. هل التفتّم؟ لم يأتي ليلقي مطالب كسائر الناس الآخرين... لماذا تصدر منّا هذه الأفعال؟ لأجل أننا لم نصل إلى أهميّة المطالب، لم نصل إلى ضرورة هذه القضيّة وأهميّتها، لم نلتفت إلى أنّ كلّ كلمة تخرج من أفواه هؤلاء الأولياء المباركة هي عبارة عن حلّ لزاوية من زوايا حياتنا.. لأننا لم نصل إلى هذه الحقيقة، بل كنّا نظنّ بأنّ هذا السيّد هو كسائر الأشخاص الآخرين الذين لديهم مساجد، فهو يتحدث إلى الناس وهكذا.. أحدهم يصعد المنبر والثاني يقف خلف المنصّة وذاك يجلس... ليس لدينا توجّه والتفات إلى هذه المسائل والأمور.. لذا يقولون بأن الإنسان إذا أراد أن يذهب إلى مكان ـ وكان المرحوم العلامة كذلك وكنا نشاهده ونرى ماذا يفعل؛ إذ هو ولي الله ـ لم يكن يذهب إلى مكان يوم الجمعة ولم يكن يستقبل أحداً، بل كان يتناول طعام الغذاء ويوصي بالاستراحة قليلاً. حتى في سائر الموارد، لكن ما دام الإنسان لم يعمل بهذه الأمور فلن يدرك قيمتها..
كنت يوماً عند المرحوم السيد الحدّاد رضوان الله عليه وكان هناك بعض الإخوة، وكان المرحوم العلامة جالساً في مقابله، وكنا نحن نجلس جانباً نقدّم الشاي للحضور، والأشخاص الذين كانوا هناك كانوا متفاوتين.. ومن الواضح أن الأولياء يطرحون نكاتاً ضمن كلامهم أحياناً، وبين كلماتهم يذكرون بعض الأمور ويمضون.. لكن ترى أن بعض الأشخاص مشغول بأمور أخرى أو بقضايا مغايرة.. من الذي يفهم تلك الأمور؟ الذي يفهم هو الملتفت فقط، أما البقيّة فلم يأخذوا شيئاً، وقد مرّت تلك النكتة ولن تعود مرة أخرى. لذا كان المرحوم العلامة يقول لنا: عندما يكون السيد الحداد يتكلّم، عليكم أن تنظروا إلى حركات وجهه وعينيه.. كان يقول لي ذلك.. راقب حركاته فضلاً عن كلماته وسائر الأمور الأخرى، لأنّ بعض المطالب لا يمكن للإنسان أن يأتي بها بلسانه، بل يبيّنها بحركة عينيه أو بتحريك حاجبيه أو بحالة عبوسه أو انبساطه.. من يريد أن يستفيد منه عليه أن يلتفت إلى هذه الأمور. فالمسألة مهمّة وحسّاسة جداً! لكننا نرى أنّ بعض الحضور لم يكونوا يلتفتون إلى هذه الأمور.. ما النتيجة التي حصلت جرّاء ذلك؟ النتيجة هي بعد مضيّ سبعين سنة أو ثمانين سنة من عمره ينظر الإنسان إلى هؤلاء ويرى أنهم هم الذين كانوا قبل أربعين سنة هم عينهم قبل خمسين سنة، ما زالوا في نفس الحال والهوى والمسائل التي كانوا عليها..
هذا المطلب وهذه القضية ينبغي أن تكون بهذا النحو، فطعام الإنسان يجب أن يكون مضبوطاً، والإمام عليه السلام يرى بأنّ الطعام الذي لا تشتهيه لماذا تأكله؟ لا تأكل منه، بل عليك أن تأكل بشكل تبقى لديك الرغبة إلى الطعام.

    

إسلام الطبيب النصراني على يد الإمام الرضا عليه السلام

أتى طبيب نصراني إلى الإمام الرضا عليه السلام وسأله هل ذكر نبيكم مطالب حول السلامة والصحّة أم لا؟ من غير الممكن أن لا يكون هناك ذكر لذلك، لا يمكن، لأنّ الروح والبدن يسيران ويتكاملان معاً في ظلّ الارتباط والعلاقة التي بينهما، فنحن لسنا في عالم المثال والبرزخ كيلا تكون هناك صلة للروح بالبدن المادي الفيزيقي، فإن كانت لدينا أوامر تتعلّق بالروح، فلا بدّ أن تكون في مقابلها أوامر تتعلّق بالبدن والحفاظ عليه، وإن كان هناك أوامر تتعلّق بالتربية والتزكية وأمثالها فلا بدّ من أوامر تتعلّق بكيفيّة الوصول إلى ذلك وإلا بقي الأمر ناقصاً، ولذلك قال الإمام عليه السلام: نعم هناك أوامر تتعلّق بذلك، فقد قال نبيّنا صلّى الله عليه وآله: «المعدة بيت كلّ داء، والحمية رأس كلّ شفاء»، فكلّ مرض يصيب الإنسان إنما هو من المعدة، فإن أصيب قلبه بألم، نسأل ماذا أكل؟ وإن أصيب كبده فتضاعفت نسبة الدهون في دمه نسأل ماذا أكل؟ وإن أصيبت الأمعاء نسأل ماذا أكل؟ فكلّ مرض تفترضونه لا بدّ أن يُرجعنا إلى المعدة، وإلى البحث عمّا وصلها من طعام، ولذلك نجد أنّ الأطبّاء يأمرون أولاً بترك بعض الأطعمة والالتزام ببعض آخر منها، فـ «المعدة بيت كلّ داء»، وفي الطبّ القديم كان هذا هو المعتمد، فلو أصيب القلب بألم فإنهم يبحثون عن السبب في المعدة، والكبد كذلك، ومثله سائر الأمراض، فأولاً كانوا يعالجون المعدة، وكانوا يعطون نظاماً غذائياً لمدّة أسبوع أو أسبوعين أو ثلاثة، بعدها يشرعون بمعالجة سائر الأمراض، فالمعدة هي بيت كافّة الأمراض، و «الحمية رأس كلّ دواء». وهذا أصل وأساس كافّة أساليب العلاج وحفظ السلامة والصحّة. نعم، فتأمّلَ ذلك الطبيب قليلاً، ثمّ أعلن إسلامه حيث وجد أنّ نبيّ الإسلام قد اختصر الطبّ كلّه في هذه الجملة.
وهذا الأمر هو نفس ما بيّنه الإمام الصادق عليه السلام، حيث قال: «لا تأكل ما لا تشتهيه...»؛ فعلى السالك أن ... ـ ويبدو أنّ الوقت قد شارف على الانتهاء فيجب أن نختم الكلام وإن شاء الله تبقى تتمّة المطالب إلى الجلسات اللاحقة، فالمطالب هنا وفيرة، ولا أريد أن أتوقّف عند هذه الفقرة كثيراً، إذ لديّ رغبة في أن نشرع ببقيّة الفقرات، وإن شاء الله ننهي هذه المسألة خلال الجلستين أو الجلسات الثلاث القادمة بحول الله وقوّته ـ حسناً.. فعلى السالك أن يكون في حال تنسجم مع هذه المعادلة التي قدّمتها لكم، وذلك بأن لا يكون شاعراً في نفسه بأنّ هناك انشغالاً من قِبَل نفسه بمعدته.. أن لا يشعر بالثقل، لأنّه بمجرّد أن يشعر بالثقل فليعلم أنّ حالة العجز النفسي والعجز العقلي ستكون مسيطرة عليه، وكلّما كان أكثر ثقلاً كانت المشكلة أشدّ.

    

تأكّد ضرورة مراقبة الطعام في الأشهر الثلاثة المباركة

وخصوصاً في هذا الشهر الذي نعيشه، شهر شعبان، والذي هو شهر دعاء وتوجّه وابتهال، وهو شهر عظيم جدّاً، فلا بدّ من رعاية هذا الأمر فيه، كما في شهر رجب الذي مضى، وكذلك في شهر رمضان المبارك، حيث إنّ النعم والفيوضات الإلهيّة النازلة في هذين الشهرين تمثّل ذخيرةً ورأسمال واقعيّ، فشهر شعبان كان رسول الله يصومه كاملاً، وكم أكّد الأئمّة على ذلك! فقد كانوا يصومون منه ما استطاعوا، ويستفيدون من فيوضاته.
ومن ليالي هذا الشهر ليلة النصف منه، وهي ليلة تحيى وكان المرحوم العلاّمة والأولياء العظام يؤكّدون عليها كثيراً، وكانوا يحيونها حتّى الصباح، وهي ليلة ولادة إمام زماننا عجّل الله فرجه الشريف.
وكان الأولياء العظام يؤكّدون على الاهتمام بشهر شعبان، ولا بدّ من ذلك سواء في النهار أم في الليل، فلا بدّ أن يعلم أنّ هناك تأثيراً بينهما، فهناك ارتباط وثيق بين كيفيّة استقرار النفس في النهار وبين حالها في الليل، ولذلك لا بدّ من الالتفات الكافي إلى هذه المسائل.
ومن الأمور المهمّة التي ينبغي للسالك أن يقوم بها في شهر شعبان قراءة أدعية شهر شعبان وخصوصاً المناجاة الشعبانيّة ذات المضامين العالية، والتي كان بعض الأولياء يقرأون من فقراتها في قنوت صلواتهم دائماً، «إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك...» إلى آخر المناجاة، فهذه مناجاة عجيبة واقعاً، صدرت عن أمير المؤمنين لتغيّر حال الإنسان وتبدّل أوضاعه، وكم هو جميل أن يقرأ الإخوة الذين لا اطلاع لهم على اللغة العربية ترجمتها ويستفيدوا من معانيها ومفاهيمها، فالأدعية التي وصلتنا عن الأئمّة عليهم السلام ليس المطلوب أن نقرأها فقط، نعم قراءتها جيّدة ومطلوبة وعليها ثواب، ولكنّ فهم هذه المعاني والوصول إلى هذه المفاهيم يعطي للإنسان معنى آخر وفائدة مختلفة، فعندما يقرأ الإنسان هذا الدعاء بمعانيه ومفاهيمه فإنّ الأمر يختلف كثيراً عن مجرّد قراءته. وأذكر أنّ المرحوم العلاّمة في زمان حياته التي شهدتُها كان في كلّ ليلة يقرأ هذه المناجاة أو يصغي إليها، وكان يؤكّد على قراءتها. كما يمكن قراءتها في النهار ومن الجيّد أن تقرأ بعد الظهر من يوم الجمعة بدلاً من دعاء السمات، ويستفيد الإنسان من فيوضات هذه الأدعية.
وواقعاً كلّ ما هناك من مطالب قد بيّنت لنا، وتمّت النعمة، ولم يبق هناك أمر ناقص، وكل ما هو موجود قد بيّن لنا، ولم نعد في حالة بحث عن شيء مفقود، ومن الآن فصاعداً ينطبق علينا قول الشاعر:
گر گدا کاهل بود تقصير صاحب خانه چيست
[ويعني: إن كان المستجدي عديم الهمّة فليس الذنب ذنب صاحب البيت، فصاحب البيت كريم ويعطي ما يُطلب، ولكن المشكلة في المستعطي أنّه لا يأخذ ما يقدّم له].
فما ينبغي أن يصل إلى أيدي الناس قد وصل، وما ينبغي أن يعرفه السالك في مسيره إلى الله قد بيّنه لنا أولياء الله العظام وأوضحوه لنا، وبيّنوا لنا الطريق والمنهج.
نسأل الله تعالى أن يقسم الله لنا توفيق العمل، والمزيد من الفهم والمزيد من العمل، وأن ننعم بالحظّ الأوفر من المواهب والنعم المختصّة بهذا الشهر تحت ظلّ ولاية صاحب الولاية الكليّة.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.


[1] ـ أكلة إيرانيّة منزليّة تصنّف من بين الحلويّات يكون لونها مائل للصفرة. (م)

[2] ـ سورة الأعراف، الآية 32.

[3] ـ سورة المائدة، الآية 1.

[4] ـ سورة الصافات، الآية: 107.

[5] ـ سورة الصافات، صدر الآية: 105.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی