معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1433 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1433 هـ - الجلسة الثانية: التضحية بكل شيء للوصول إلى الأمل العظيم.

_______________________________________________________________

هو العليم

سلسلة شرح دعاء أبي حمزة الثمالي للعام 1433 هـ

المحاضرة الثانية:
التضحية بكلّ شيء للوصول إلى الأمل العظيم

ألقيت هذه المحاضرة في الليلة الرابعة من ليالي شهر رمضان المبارك لعام 1433 هـ

ألقاها:

سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني

حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
و صلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
و على آله الطيبين الطاهرين
و اللعنة على أعدائهم أجمعين

    

الأمل نوعان: عظيم وبسيط

«عظم يا سيّدي أملي وساء عملي، فأعطني من عفوك بمقدار أملي ولا تؤاخذني بأسوأ عملي»
في الليلة الماضية بيّنا للرفقاء أنّ الأمل في هذا المقطع من الدعاء يراد منه ذلك الهدف والمقصد الذي يسعى إليه الإنسان، ويبذل قصارى جهده لكي يصل إليه، فالشخص الذي يشتغل في مسائل الدراسة والبحث، عنده أمل وهدف هو الوصول إلى مرتبة معيّنة قد وضعها نصب عينه منذ البداية، فهو لا يقول: فلندخل في هذا المحيط العلمي، وبعد ذلك نرى ما هو القرار الذي نريد أن نقرّره، وماذا سنفعل، وما الذي سيحصل!! مثل الطالب الذي يتقدّم إلى الجامعة ويشترك في امتحان القبول، ويقول: فلنقدّم الامتحان الآن، ثمّ بعد ذلك نرى ما هي النتيجة التي سنحصل عليها وما هي التخصصّات المتاحة لنا على ضوء تلك النتيجة فنختارها! إنّ هذا لا يُسمّى أملاً وهدفاً، بل هذا عمل جزافي فوضوي، ومثل هذا الشخص إنما يرغب في الحصول على شهادة ووضعها في برواز على الحائط! فالشخص الذي ليس عنده هدف، ليس عنده أملٌ أو أمنية كذلك، أو أمله الوحيد هو الحصول على تلك الورقة ليضعها في برواز مذهّب ويعلّقها على الحائط، ويعرضها على جميع الناس... هذا هو غاية أمله!
وأمّا الإنسان الذي عنده أملٌ حقيقي.. عنده أمنيةٌ يريد تحقيقها، فهذا لا يقول: سوف أقدّم امتحان القبول وأرى ما هو التخصّص الذي سيسمحون لي به، ولا يقول: دعنا نرى ما الذي سيحصل، وما هي الخيارات المتاحة لنا، بل هو من البداية يعرف ما يريد، وقد عيّن التخصّص الذي يريد الدخول فيه، وهو يعمل لتحقيق هذا الهدف. وهذا الكلام صحيح بغضّ النظر عن نوع التخصّص الذي يريده.. فبطبيعة الحال كلّ شخص يميل إلى تخصّص غير الآخر بحسب الأذواق والميول الشخصية، وبحسب ما تقتضيه قدراته واستعداداته. فهذا الشخص منذ البداية يضع هدفه نصب عينيه، فإذا شارك في امتحان القبول في الجامعة، ووجد أن العلامة التي حصل عليها لا تمكّنه من الدخول إلى التخصّص الذي يريده؛ فسوف يتضايق وينزعج، ويلوم نفسه أن لماذا لم أتمّكن من الحصول على العلامة اللازمة، بخلاف ذلك الشخص الآخر الذي يذهب إلى الامتحان دون هدف محدّد، ويقول: لنرى ما هي العلامة التي نحقّقها، فمن الواضح أن مثل هذا الشخص ليس جادّاً، ولا يسعى إلاّ من أجل الحصول على تلك الورقة ليس إلاّ، وهذه الورقة يمكن الحصول عليها بطريقة أو بأخرى [يبتسم سماحة السيد]!!.. بل قد يتمكّن البعض من الحصول عليها دون عناء، وبعض الأفراد خصوصاً يمكنه الحصول على مثل هذه الأوراق بسهولة!! حسناً لن نتكلم أكثر في هذه المسألة!
وأمّا ذلك الشخص الذي يحدوه الأمل، وعنده هدف وأمنية وطلب يريد تحقيقه، وعنده حساب وتخطيط لما يريد .. فعندما يريد أن يأتي ليدرس في الحوزة، فهو يعلم لماذا يريد أن يأتي! فقد صرف النظر عن كثير من الرغبات العاديّة في سبيل تحقيق ذلك، وتنازل عن كثيرٍ من الأمور التي كان يمكنه الحصول عليها.. فهذا الشخص لم يهرب من منزله ويأت إلى هنا ليدرس، بل كان يمتلك الكثير من القدرات والخيارات، وكان بإمكانه أن يصل إلى مواقع ومراتب عالية، ومع ذلك فقد تنازل عن ذلك، وضغط على نفسه، ودخل إلى الحوزة من أجل الوصول إلى المرتبة العليا من المعرفة!

    

ضرورة التضحية للوصول إلى الأمل العظيم

أجل.. كان المرحوم السيّد الوالد رضوان الله عليه يقول: عندما جئنا إلى الحوزة، كانت كلّ الفرص متاحة لنا، وجميع الأمور مهيّأة لنا، فعلاماتنا في الدرس كانت عشرين من عشرين... ففي الفترة التي كان يدرس فيها الهندسة الميكانيكية كان عند سماحته مدرّس ألماني، لم يكن يتحدّث الفارسيّة أصلاً، وفي نهاية العام أعطاه علامته وكانت ثمانية عشر من عشرين.. وشهادة علاماته موجودة عندي الآن.. أعطاه هذه العلامة وقال له: يا حسيني، أقسم بالمسيح (فقد كان مسيحياً) أنّني في حياتي كلّها لم أمنح أحداً سبعة عشر حتّى الآن، ولكنّني الآن سأعطيك ثمانية عشر!
واضح؟! لقد ترك السيّد العلاّمة الطهراني رضوان الله عليه كلّ شيء، وتخلّى عن جميع تلك المميّزات الظاهريّة، وترك كلّ العروض التي مُنحت له، والمناصب التي عرضت عليه.. لن أذكر التفاصيل، وعندما جاء إلى هنا، ما هي النيّة التي كان يحملها؟ كانت غايته الوصول إلى تلك المرتبة العليا من معرفة الدين، أجل.. لقد دخل إلى الحوزة العلميّة لتحقيق هذا الهدف، ولم يكن من الأشخاص الذين ليس عندهم شغل أو ممّن فشل في كلّ المجالات الأخرى.. فجاء إلى الحوزة! كلاّ لم يكن كذلك. وكان قد نصحني أنا بنفس هذا الأمر، حيث أنّ بعض المسائل كانت قد عرضت عليّ، وواقعاً لولا توجيهات سماحته في تلك الفترة، فمن غير المعلوم أين كنتُ سأكون الآن، وماذا أفعل!
وكان سماحته يقول: لا زلت حتى الآن أتأسّف وأتحسّر على السنوات الثلاث أو الأربع التي صرفتها في تلك الدراسة، ولو أنّي لم أصرفها هناك، لما ضاعت ثلاث إلى أربع سنوات من أفضل سنيّ عمري. لاحظوا كيف يقول سماحته هذا الكلام رغم درجته العلمية العالية التي بلغها، ومع ذلك يقول: حتّى الآن أتأسف على تلك السنوات الأربع التي أضعتها!! وكان يقول: عندما جئنا إلى قم، جئنا لأجل الوصول إلى حقيقة الأمر، ولكي نعرف حقيقة المسألة، ولكي نفهم من نحن؟ وما نحن؟ ولكي نوسّع عقلنا ونرتقي به، (لا من أجل إضعاف عقولنا، والقضاء على فهمنا)، جئنا لكي نرتقي بعقلنا وفهمنا، ولكي نفهم ما الذي يجري؟ ما هي حقيقة هذه الدنيا؟ وما هي حقيقة العقبى؟ ولكي نتعرّف على الله تعالى، وعلى رسوله، ولكي نعرف حقيقتنا نحن، وما هو المستقبل الذي ينتظرنا؟ وما هو كمالنا؟ ففي النهاية من نحن؟ وما هو الهدف الذي من أجله جئنا إلى هذه الدنيا؟! هل جئنا لنقضي وقتنا هكذا كيفما اتّفق؟! ها؟! لقد جعلنا نيّتنا من القدوم إلى الحوزة خالصةً... إنّ هذه المطالب من الأمور التي ذكرها سماحته للحقير. والحقّ أن ذكر هذه المطالب خصوصاً للإخوة الفضلاء وطلاّب العلوم الدينية لها حكم ماء الحياة، ورغم أنّها كذلك فهي مفيدة لباقي الأفراد أيضاً من أجل تصحيح الطريق، وتصحيح السلوك، وتصحيح المنهج والأسلوب الذي يمشون عليه، ولكن ينبغي لخصوص الإخوة الفضلاء من طلاب العلوم الدينية والعلماء الربانيّين أن يعلموا ما هي النيّة التي دخل بها الأعاظم إلى هذا المجال؟ وما هي الأهداف التي وضعوها نصب أعينهم عند ورودهم إلى هذا الميدان؟ لقد كان سماحته يقول: عندما جئنا إلى الحوزة، فقد كان أملنا وهدفنا هو الفهم.. نريد أن نفهم، ونريد أن نعرف حقيقة المطلب.
وهذا الأمر ليس مختصّاً بجماعة معيّنة دون غيرها، بل هي شاملة لجميع الأفراد، فالجميع يجب أن يفهموا.. فهذا الطريق المفتوح أمام الجميع هو طريق الفهم، وليس طريق القضاء على الفهم، وهذا الطريق هو طريق توسيع العقل وتفتّحه والارتقاء به، وليس طريق تغطية العقل والفهم، وهذا الطريق هو طريق فتح البصر، وليس طريق إغلاق العين والمضي في الطريق وهو مغمض العينين عن المطالب والحقائق، أو وضع القدم على الحقيقة وتجاهلها، وهذا الطريق هو طريق المنطق لا طريق الشعارات!! أجل.. هذه هي القضية.

    

لماذا الخوف من بيان الحقيقة

وبطبيعة الحال، فإنّ الإنسان يمكن أن يشتبه ويخطئ في تشخيص إحدى المسائل، وهذا لا إشكال فيه فنحن لسنا معصومين، ولكنّ المهمّ ألاّ نغمض أعيننا! فتارةً نكون نائمين، فيوقظوننا، وتارة نحن نجبر أنفسنا على النوم والغفلة، فحينئذٍ من الذي يستطيع أن يوقظنا؟! وذلك عندما لا نريد أن نفهم، ونأبى عن الوصول إلى الفهم والإدراك، ونخاف من الوصول إلى الحقّ والحقيقة!! لماذا يتملّكنا الخوف؟! لماذا نخاف أن تتضّح حقيقة القضيّة الفلانية؟ لماذا؟ ما الذي نخاف منه؟! أوَلا نريد أن نصلح أنفسنا؟! فمّمّ نخاف إذاً؟ إنّ هذا الخوف هو من النفس، فالنفس تتقدّم هنا ولا تسمح لنا أن نتخطّى حدّاً معيّناً، فهي ترسم لنا خطّاً أحمر يمنع تجاوزه.. تقول: إذا كنتَ تريد أن تمضي بهذا المطلب فإنّك ستواجه الخطر الفلاني، فلا تتقدّم! وإذا انكشفت القضيّة الفلانية فإن الأمور ستخرب، فلا تسمح بانكشافها! ولو أردنا أن نحكم في القضيّة الفلانية، فإن الكثير من المسائل ستظهر وتنكشف، لذا فلنترك الحكم جانباً!! عجباً! هل التفتّم؟ تردّد عبارات: لو فعلت كذا.. وإذا قمت بـ .. إذا أصررنا على هذا المطلب، فإنّ بعض الأمور ستفضح، ولذا فعلينا ألا نفعل ذلك.. يجب ألا نحكم في هذه القضية.. ينبغي أن نتوقّف ولا نتقدّم.. ويجب ألا نفتح هذا الموضوع.. ولتبقَ الحقيقة مخفية... وهكذا نغطّي وجه الحقيقة بحجاب تلو الآخر!! ولكن حتّى متّى؟! حتّى متّى ينبغي أن نغطّي وجه الحقيقة؟! حتّى يظهر صاحب الزمان؟! وحتّى متّى ينبغي ألاّ نسمح لأنفسنا بأن نفهم وندرك؟! هل ننتظر إلى أن يشرّفنا حضرة عزرائيل بحضوره؟! ولكن في ذلك الوقت لن يكون هناك فائدة! فالأمور ستتضّح بنفسها في ذلك العالم، وفي ذلك العالم لا يمكن لنا أن نخدع الله سبحانه، ولا يمكن أن نخدع الملائكة هناك، ولكنّنا في هذه الدنيا خدعنا أنفسنا المرّة تلو الأخرى، ووضعنا الحجاب تلو الآخر أمام عين بصيرتنا.. نستجير بالله! والعجيب كيف أن الإنسان يتحمّل كلّ ذلك ويحافظ عليه!!
إنّ هذه الألاعيب والخدع والحجب التي نضعها أمامنا تزيد حملنا نحن ليس إلاّ، فهي لا واقعية لها أصلاً، إنّها تثقل علينا ولكنها لا تقوم بتغيير شيء في الخارج! فما الذي غيّرته إذاً؟! لقد غيّرت هذه النفس المسكينة!! وأحاطتها بأنواع الحجب! يا عزيزي لقد دعوناك كثيراً وقلنا: افتح فهمك، فقال: كلاّ لا مصلحة في ذلك! فقلنا: حسناً لا بأس.. ولكن في هذه القضيّة الأخرى افتح عقلك، فيقول: كلاّ لا مصلحة في ذلك!! نقول له: حاول أن تفهم أساس هذه المسألة وحقيقتها، ولكنّه يهرب من هذا الباب إلى ذاك، ويتذرّع بالمصالح وما شابه ذلك!

    

ضرورة قول الإنسان الحقّ ولو كان بضرره

بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وفي تلك الجلسة التي عقدت في مسجد النبي بعد ما حصل من أحداث الخلافة الغاصبة الظالمة المحرّفة المنحرفة، جاء أمير المؤمنين عليه السلام إلى المسجد، وفي ذلك المجلس التفت إلى أنس بن مالك، وذكره بقضيّة حصلت في زمان رسول الله، (و قد نقلتُ الرواية كاملة في المجلّد الأول من كتاب "أسرار الملكوت")، وقال له: لقد كنتَ حاضراً في تلك القضية، وشهدت ما حصل، فتعال واشهد بما رأيت واذكر ما حصل في تلك الحادثة. فتلفّت أنس بن مالك يميناً وشمالاً، ثمّ قال: يا علي، لقد نسيت من كبري...
يا هذا، لماذا تقول بأنك قد كبرت، فهذه الحادثة لم تقع في أيّام طفولتك، بل وقعت منذ بضع سنوات فقط!! فقال له عليه السلام: يا للعجب! هل كانت هذه السنوات القليلة كافية لتنسى كلّ ما حصل! الظاهر أنّك فعلاً قد كبرت كثيراً وخرّفت، وبما أنّ الأمر كذلك فدعنا نجعلك أكبر وأشدّ خرفاً!! يا أنس إن كنت كاذباً فيما تدّعي.. رماك الله ببرص في وجهك لا تقدر أن تستره عن الناس، ولظىً في جوفك وعمىً في عينيك!! فابتلاه الله ببرص شديد في وجهه بحيث أنّه مهما حاول ستره لم يقدر. وكلما أدنى عمامته إلى الأسفل ليغطي البرص في جبهته ازداد البرص، ومن ناحية ثانية أخذ الله منه بصره!!
واعجباً ! لماذا تكتم الحقيقة يا عزيزي؟! من أيّ شيء تخاف؟ ومن تخشى؟ هل تخشى أن تقوم وتشهد بالحقّ فيأتون ويضربوك قليلاً؟! فليكن ذلك.. دعهم يضربوك! فما المشكلة في ذلك؟ تحمّل ضربة أو ضربتين في سبيل الله! ما العيب في ذلك؟! فإن كان لا بدّ من الضرب والحبس والأذى، فلماذا يكون ذلك مختصّاً بموسى بن جعفر عليه السلام؟! لماذا يكون ذلك مختصّاً بالإمام زين العابدين عليه السلام؟! ولماذا يكون ذلك مختصّاً بالإمام عليّ النقي عليه السلام فقط؟! ولماذا يتحمّل الإمام الرضا عليه السلام السمّ لوحده؟! لماذا ينبغي أن يكون تجرّع السمّ لهم فقط؟! إذا كان القضاء والتقدير كذلك فما المشكلة؟! يعني يأتي الإنسان ويقول كلاماً حقاً، فيحصل ذلك له. حسناً ما المشكلة في ذلك؟ فلتتحمّل أنت أيضاً بعض الضرب والأذى، وليحرموك من بعض المميّزات الاجتماعيّة، وليستدعوك للتحقيق والسؤال! فليكن ذلك! أفهل من المقرّر أن تسير الأمور بشكل طبيعي دائماً، ولا يتعرّض الإنسان لأيّ موقف مزعج طوال حياته؟! وهل من المقرّر أن يقتلوا زوجة عليّ فقط ويعصروها بين الحائط والباب وحدها؟! ما المشكلة لو تحمّلتَ أنت ضربة أو ضربتين؟! من أيّ شيء تخاف؟ هل تخاف أن يقلّ احترامك عندهم؟ وهل تخشى ألاّ يرفعوك ويوقّروك؟! أم تخاف أن يحرموك من منصب اجتماعيّ تطمح إليه؟! هل هذا هو الأمر؟ وهل هذا كلّ شيء؟! عجباً للإنسان كيف يمكن أن يكون ذليلاً ومنحطاً إلى هذه الدرجة بحيث يأتي إليه الإمام المحقّ عليه السلام، ويطلب منه أن يشهد من أجل إحقاق الحقّ، فيتهرّب منه، ويقول مثل هذا الكلام!
والتاريخ مليء بهذا النوع من الأحداث، فمثل هذه الوقائع كانت دائماً موجودة في التاريخ، فهؤلاء أفراد لا أملَ لهم وليس عندهم أيّة أمنية أو هدف!! إنّ غاية أملهم هي كما قال تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }[1]، دعك منهم، فليذهبوا وليلعبوا وليأكلوا وليسعوا وراء آمالهم الدنيويّة، وليشغلهم الحصول على هذه الأمور الدنيّة ويلههم عن الوصول إلى ذلك المطلب والهدف الحقيقي ويمنعهم من الحصول عليه، ذرهم فهؤلاء من أهل الدنيا! فبناء على ذلك، إنّ جميع الأفراد واقعون في معرض الامتحان والاختبار.. جميع الأفراد كذلك!!

    

الهدف من طلب العلم هو ارتقاء الفهم

كان المرحوم السيّد الوالد رضوان الله عليه يقول: عندما جئنا إلى الحوزة جئنا يحدونا هذا الأمل بأن نرتقي بفهمنا! وإلا لجلسنا في مكاننا، ولحصلنا على كلّ ما نشاء، فقد عرضوا علينا ألف منصبٍ ومركز، لكن في ذلك المحيط لا يمكن لفهمنا أن يرتقي. ولو عاش في تلك البيئة لما صار "العلاّمة الطهراني"، ولو تحرّك في ذلك الجوّ لما صار عارفاً بالله وبأمر الله، ولو بقي في ذلك المحيط، وفي هذه الأجواء والموقعيّات التي نراها الآن.. فإنّ أقصى ما كان يمكن أن يصل إليه هو أن يصبح إنساناً جيّداً يخدم الناس ويقضي حوائجهم، وعلى الأقلّ لا يكون خائناً في أداء واجبه في الموقعيّة التي فيها! ولا يكذب عليهم، بل يبيّن للناس ما فيه خيرهم وصلاحهم، ولا يقدّم مصلحته الدنيويّة على باقي المصالح.

    

كل عمل يشتمل على وسوسة الشيطان وإيحاء الملائكة

وهكذا فكلّ إنسان أمامه كلا الخيارين في مهنته وفي حرفته وفي الفنّ الذي يتقنه، هل يقول الواقع، أم يكذب؟ هل يخبر الزبون والمشتري خلاف مصلحته أم يخبره بمصلحته حتّى لو كان ذلك مضرّاً له! هل يعمل في محيطٍ بحيث يكون ذلك المحيط مورداً لرضا الله عزّ وجلّ، أم أنّ ذلك المحيط يراعي المصالح الدنيويّة؟ وعندما يستشيرونه، فهل يُخبرهم بالحقيقة والواقع، أم يخبرهم بما يصلح له هو، ويؤكّد على ما هو خير له؟
على كلّ إنسان أن يعلم أنّه في أيّ موقع يكون فالشيطان يقف في الطرف والملائكة في الطرف المقابل، في أيّ موقع كان: سواءً أكان حدّاداً أم له محلّ للألمنيوم... [يضحك ويقول:] في يوم من الأيام ذهبنا إلى محلّ ألمنيوم، واشترينا منه باب ألمنيوم وعندما وصلنا إلى المنزل ووضعناه رأينا أنّ هذا الباب ثقيل جداً، وبعد مدة اضطررنا أن نقطع منه بعض أطرافه، فوجدنا أن في داخله الأحجار والتراب وما إلى هنالك من الأمور التي تزيد من وزن هذا الألمنيوم حتّى يبيعه بثمنٍ أغلى، فما هو هذا؟ هذا هو الشيطان.
يا عزيزي، قل: أنا أريد أن آخذ القيمة الفلانيّة، لكنك لا تجده يقول ذلك، بل يضع في داخله التراب وبعض المواد التي تجعله ثقيلاً؛ ليأخذ أضعاف قيمته الحقيقيّة.
كذلك بعض الحدّادين يفعلون ذلك، وبعض النجّارين وبعض البنّائين، وكذلك بعض الأطبّاء وبعض المهندسين، وحتّى بعض المشايخ من طلبة العلوم الدينيّة، وكلّ المهن هكذا، يوجد في أحد الأطراف الشيطان، وفي الطرف الآخر الملائكة. وأنا الذي أتكلّم معكم الآن كذلك، يقف على هذا الطرف الشيطان، ويقول: تكلّم بالحديث الفلاني، ولا تتكلّم في الحديث الفلاني، حتّى لا يرتدّ هذا الحديث عليك، ويكون على خلاف مصلحتك، بل اعبر عن هذا الموضوع وتحدّث في موضوع آخر، ولن يفهم أحدٌ ما جرى، فهؤلاء لا يعلمون بما في ضميرك.. لكن تقولون: يا للعجب كم هو حديث هذا الرجل جميل، لم يخبركم بثلثي ما لديه، لقد بيّن ثلث الحقيقة فقط.. نحن لا نعرف عن الرجل المحتال إلاّ أنّه معروفٌ بالزهد والتقوى، حبّذا لو تختبروه وتحكّوه، هل رأيتم كيف يعبر الخطباء والمتحدّون عن المواضيع المهمّة، أصلاً هذا الأمر واضح في أعينهم أنهم ينتقون كلماتهم انتقاءً، وكيف يجمع الكلمات تجميعاً.
يأتي الملائكة من الجهة الثانية ويقولون: تكلّم ولا تكذب (طبعاً الكذب هو الحرام، ولكن لا يجب على الإنسان أن يقول كلّ حقّ يعرفه).. لكن ما نتحدّث عنه هو أنّه على الإنسان أن لا يكتم الحقيقة في الموطن الذي ينبغي إذاعة الحقيقة فيه، في الموضع الذي نحتاج فيه إلى الحقيقة لتتضح الأمور.. ماذا يقول حافظ:
فردا که پيشگاه حقيقت شود پديد
                             بيچاره مفلستر که عمل بر مجاز کرد


يقول:
غداً عندما تطلع شمس الحقيقة
                             سنعلم أن أتعسهم من عمل طبقاً للمجاز


هذه هي حقيقة المسألة، فغداً يبقى هذا الفعل، هل رأيتم حينما يكذب شخصٌ على شخصٍ آخر، ويتمّ تسجيل ما حصل بالصوت والصورة، فإذا طالبوه لاحقاً قد ينكر ويقول: أنا لم أقل لم أفعل.. وإذا بالآخر يشغّل المسجّل، ويواجهه بالحقيقة ليذهب كلّ زعمه أدراج الرياح... [يضحك سماحة السيد] في يوم القيامة سيكون الوضع هكذا، سيفغر الجميع أفواههم عندما يجعلونهم يرون صورهم، ويتساءلون من أين أتيتم بهذه الصورة؟! أنا لم أرَ أن هناك أحداً كان يصوّر؟! سوف يفغر فاهه آنذاك. إنّ قوله تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَديد}[2] إشارة إلى هذه المسألة.

    

اطّلاع وليّ الله على عالمي المثال والملكوت

كان المرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله عليه في مجلسٍ من المجالس، والحقير كان في ذلك المجلس، وكان يتحدّث مع أحد الأفراد، وهذا الرجل ما يزال على قيد الحياة، وكان يريد أن يخفي المسألة التي عنده، وكان يتخيّل بأنّ الأعاظم تخفى عليهم هذه المسائل، لذا فقد حاول هذا الرجل أن يخفي الأمر وأن لا يظهره، فجأة قال السيّد الحداد: عمّن تخفي الأمر؟! أيّها البائس لو أنّك تخفيه في السماء الرابعة لأتيتك به ووضعته أمامك. طبعاً الأولياء لا يذكرون هذه المسائل في أيّ وقت وفي أيّ مكان، ولا يفشون ذلك أمام أيّ كان، بل فقط في بعض المواطن من باب التنبيه لأشخاص محدّدين حتّى لا يعتقدوا أنّ الدنيا تمرّ من دون حساب ومساءلة.
في مرّة من المرات قال لي الوالد العلاّمة قدّس الله سرّه: إنّ حضور الرفقاء وغيابهم لا يختلف بالنسبة لي أبداً، فحتّى لو كانوا على القمر، فبالنسبة لي لا يختلف ذلك عمّا لو كانوا بقربي هنا.. لماذا؟ لأنّ العارف حينما ينظر إلى واقعٍ معيّن، لا ينظر إلى الصورة الظاهريّة، بل ينظر إلى حقيقته المثاليّة والملكوتيّة، وهناك لا يوجد قمر وأرض ونحو ذلك، بل لو كان الإنسان في آخر نقطة من النقاط في السيّارات الموجودة، تلك السيّارات التي الواحدة منها تحتاج إلى مليارات السنين الضوئيّة لكي نصل إليها، هل فهمتم عمّ نتكلّم؟ يعني عندما ننظر إلى إحدى النجوم من خلال المنظار (التلسكوب) فهذا النور الذي نراه متى تحرّك ليصل إلينا الآن؟ تحرّك قبل مليارات السنين، والآن أنتم استطعتم أن تروها عبر هذا التلسكوب. واضح؟ فحتّى لو كان هناك في ذلك المكان البعيد جداً، فهو بالنسبة له كما لو كان جالساً إلى جانبه!! لماذا وكيف ذلك؟! السرّ في ذلك أنّ هذا العارف ينظر إلى مثال هذا الشخص.. إنّه ينظر إلى المثال والملكوت، ولا ينظر بهذه العين المادية حتّى لا يقدر أن يرى أكثر من مائتي متر أمامه، بل ربما كان ضعيف النظر ويضع نظّارة على عينيه! كلاّ .. بل هو الآن ينظر إلى حقيقة ذلك الشيء، وهذه الحقيقة متّصلة بوجوده، ولها اتّصال مثاليّ مع مثال هذا العارف، ومن ثم فليس هناك أيّ معنى للبعد والقرب المكاني، ولهذا تجده يقول: الأمر سواء لديّ : لو كان على القمر، أو كان جالساً إلى جانبي!

    

كون الصدق والاستقامة أساس السلوك

ومع ذلك تجد بعض الأشخاص قبل أن يأتي لزيارة السيّد العلاّمة رحمه الله يقف في الخارج ويدخّن سيجارة أو اثنتين قبل أن يدخل، فهو يدخّنها سراً لأنّ السيّد الوالد رضوان الله عليه كان يفتي بحرمة التدخين (وأنا كذلك أقول أن التدخين حرامٌ!!) أجل.. كان يدخّن في الخارج ثمّ بعد ذلك يأتي ويدقّ الجرس، فكان السيّد العلاّمة يقول: هذا يتخيّل أنّني لا أراه !! فتجده يدخل ويسلّم ويقبّل يدي أيضاً، فيقول له السيد العلاّمة: أهلاً وسهلاً.. تفضّل اجلس، وهو يقول في نفسه: إن شاء الله لم يرني السيّد، ولعلّه كان مشغولاً بالتأليف والكتابة أو لعلّه كان يصلّي أو يتناول الطعام، وبالتالي فقد كان مشغولاً ولم يلتفت إلى الأخطاء التي نرتكبها! واضح؟! ولكنّ السيّد العلاّمة يقول: إنّ فلاناً يظنّ أنّني لا أراه!
وبنفس الطريقة تأتي السيّدة الفلانية وتقول: سيّدنا .. أعطنا دستوراً وأمراً لننفّذه! أيّتها الأخت المكرّمة، قبل أن أعطيك أيّ دستور، تفضّلي واتركي التدخين! وتوقّفي عن ارتكاب هذا العمل المحرّم، وحينئذٍ تعالي واطلبي دستوراً! أو يأتي السيّد الفلاني ليقول: أيّ أمرٍ تطلبه منّي فأنا بالخدمة!! يا عزيزي، لماذا كذبت على المشتري الذي جاء إلى محلّك قبل أن تأتي إليّ؟! هل تتخيّل بأنّ المسائل بهذه البساطة؟ والحال أنّ الله يرى كلّ شيء، وهو يشاهد أعمالنا وتصرّفاتنا، والحساب حسابٌ يا عزيزي!
عندما يأتي الإنسان ويقرّر أن يضع قدمه في طريق الله تعالى، فعليه أن يكون ملتفتاً إلى أنّ السير في طريق الله له شروطه الخاصّة، وأمّا في الأماكن الأخرى فقد لا تكون هذه الشروط موجودة، إذ يمكنك هناك أن تفعل ما يحلو لك، ولكن في طريق الله توجد شروط وقواعد لابدّ من رعايتها، وأمّا في الأماكن الأخرى فهم كالهيئات.. تجدهم ينصبون الأعلام، وينشرون الدعوات أن تعالوا واحضروا محفلنا، وينشرون الإعلانات في الصحف وفي لوحات الطرقات العامة، ألم تروا هذه الإعلانات الكبيرة المنصوبة في بعض الطرق والتقاطعات العامّة تقول: إنّ الهيئة الفلانية تعقد مجلس عزاء في المكان الفلاني، ويكتبون اسم المحاضر بخطٍّ كبير جداً، وبعده اسم قارئ العزّاء، ولابدّ أن تكون هذه الأسماء موجودةً طبعاً!! فلا يصحّ أن يكون الإعلان بدون أسماء! لأنّه إذا لم يكن اسمي موجوداً فلست مستعدّاً للقدوم وإلقاء محاضرة من الأساس، ولهذا ينبغي أن يكون الاسم موجوداً، وينبغي أن يكون اسم فلان مكتوباً بخط كبير في أعلى اللوحة، بحيث تقع العين أولاً عليه، ثمّ يأتي الاسم الثاني تحته، ولا ينبغي أن يوضع الاسمان بجانب بعضهما البعض، فذلك ممنوعٌ بتاتاً، وإذا ارتُكب هذا الخطأ الفظيع فإنّ السماء ستسقط كسفاً على الأرض، وستصطدم المجرّات ببعضها البعض!!
يا عزيزي، الشيطان موجود في كلّ مكان، وقد ذكرت لكم مراراً أنّكم حيث تذهبون فستجدون أنّ هناك طرفين: يقف الشيطان في طرف، ويقف الرحمن في الطرف الآخر.. تجد الملائكة في أحد الطرفين، والشيطان في الطرف الآخر!

    

لا يعمل العارف الخيرات لإبراز اسمه بل لله تعالى

ما أعظم الأولياء والعرفاء! فالطريق الصحيح هو طريقهم الذي سلكوه فوصلوا!! لقد كانت أحياناً تصل أموال إلى المرحوم القاضي رضوان الله عليه من تبريز من التجار وأهل السوق وغيرهم من أجل إصلاح مسجد الكوفة، فقام ببناء حمامات ومغاسل وما شابه ذلك من أمور يحتاج إليها الزوّار الذين يذهبون إلى المسجد. ولمّا انتهوا من البناء، جاء ذلك البنّاء المسؤول عن إنشاء المبنى ونقش اسم السيّد القاضي رضوان الله عليه على حجر، وثبّته في أعلى البناء طبقاً للعادة الجارية في مثل هذه الأمور، وهذا الأمر ما يزال موجوداً حتّى الآن، مثلاً تجد مكتوباً على أحد المباني: هذه المدرسة قد أنشئت بأمر حضرة آية الله فلان... هذا المسجد قد بني على نفقة فلان، وهكذا... وسيراً على هذه السنّة الدارجة جاء هذا البنّاء فكتب على هذه البلاطة أنّ هذا البناء قد أنشئ بأمر سماحة آية الله السيّد علي القاضي الطباطبائي التبريزي، فلمّا جاء سماحة السيّد القاضي ليرى ما تمّ إنجازه، فتعجّب مما رأى.. رأى اسمه مكتوباً في أعلى المبنى، وبمجرّد أن رأى اسمه غضب غضباً شديداً حتّى بان الغضب في وجهه، وكأنّ جنايةً قد ارتكبت، وبادرهم بالقول: أين المعول؟! أين الفأس؟! أعطوني فأساً أو معولاً! فأخذ فأساً ووضع سلّماً وصعد عليه وصار يضرب تلك البلاطة حتّى حطّمها تماماً، وكسّر تلك الخطوط والنقوش التي أتعب ذلك البنّاء نفسه في كتابتها، ولمّا انتهى نزل سعيداً.. الآن صار الأمر جيّداً.. أجل هكذا أفضل، وظهرت عليه حالة من النشاط والبهجة.. وكان نشاطه واقعيّاً لا تصنّعاً ولا تمثيلاً!! إذ البعض ماهرون جداً في التمثيل، فبعض الممثّلين قادر أن يجلس ويبكي فتنزل دموعه.. يا للعجب إنّه واقعاً يبكي، ولا أدري كيف يفعلون ذلك؟! هل يضعون مادّة ما في أعينهم أم ماذا؟! والمشاهد الذي يراه يصدّق أنّ هذا الممثّل حزين ويبكي لأمر واقعيّ، وأنّه قد فقد شيئاً عزيزاً، ثمّ يتفاجأ به بعد قليل يضحك ويمزح، فهو تارة يبكي وأخرى يضحك! أجل هكذا يكون التمثيل والأفلام. ولكنّ أولئك الأعاظم لا يمثّلون، فالسيّد القاضي رضوان الله عليه كان في البداية بحالة واقعيّة من الغضب والقهر والاشمئزاز والنفور، وأمّا حالته الثانية [بعد تكسير البلاطة التي تحمل اسمه]، فقد كانت حالةً من البهجة والنشاط والانبساط.
ما سبب هذا الانبساط؟ إنّه يقول لنفسه: يا نفس! أتحاولين أن تخدعيني أنا؟! هل تريدين أن تأسرينني في شباكك؟! هل تحاولين أن تأخذي فهمي منّي، وتسخّري عقلي لرغباتك؟! حسناً.. تحمّلي ما سينالك! لقد هويت بالفأس على أمّ رأسك وكسّرتك تكسيراً، حتّى لا تعودي إلى مثل هذه الخدع! أجل أمثال هؤلاء قد سلكوا الطريق، ووصلوا إلى مرادهم! فإن كنّا نريد أن نختار شخصاً في هذه الدنيا ليكون أسوةً لنا فينبغي أن نختار السيّد القاضي رضوان الله عليه وأمثاله.. فهؤلاء هم الذين ينبغي للإنسان أن يتبعهم ويسير على خطّهم! أجل هؤلاء هم الذين يعكسون الواقع، ويبيّنون الحقيقة ويظهرونها.

    

ضرورة جعل الأمل هدفاً رفيعاً وعالياً

من هنا يتبيّن لنا أنّه ينبغي على الإنسان أن يجعل أمله وأمانيه ورغباته متّجهةً نحو أهداف رفيعة وقيّمة. والإنسان العاقل هو الذي ينتخب دائماً هذا النوع من الأهداف.. أهدافاً قيّمة بالنسبة إليه.. أهدافاً لا توجب له ـ بعد الوصول إليها ـ الحسرة والندامة؛ هذا هو الإنسان العاقل! وأمّا إذا كان الإنسان ـ من خلال مراعاة أمور ومصالح أخرى، وبالالتفات إلى التخيّلات والاعتباريّات والتوهّمات ـ يريد أن يُقبل على هذه الرغبات الدنيئة والسافلة والحقيرة، فإنّه سيُحرم من ذلك الأمل وتلك الرغبات والأماني الواقعيّة، ولن تصل يداه إلى هناك. ففي أماكن أخرى قد تجدهم يقولون لك: إن كنت كذبت، فلا علاقة لنا بذلك، المهمّ هو أن تأتي وتملأ مجلسنا! فنحن لا يعنينا كذبك، بل الذي يعنينا هو حضورك هذا المجلس، والذي يعنينا هو اكتظاظ مجلسنا! فلا يهمّنا أنّك كذبت في الخارج أم لم تكذب. أمّا في مجالس أولياء الله، فإنّه لا يُفسح لك المجال إذا ما قمت بالكذب.. بل يقال لك: اذهب خارجاً! لاحظوا كم هو الفارق! لا يقولون تعال إلى هنا، وحسابك على الله، بل يقولون: قم في البداية بتصحيح الكذب الذي ارتكبته في الخارج، ثمّ تعال إلى هنا. لماذا؟ لأنّ هذا المكان أوّلاً ليس "هيئة"، والأمر الثاني هو أنّك عندما تدخل [إلى المجلس] بنفسك الملوّثة، فإنّك ستُؤدّي إلى إفساد النفوس الأخرى، فما الذي يُمكننا فعله تجاه هذا الأمر؟! هو أن نقول لك: لا تأت، لماذا عليك أن تأتي بهذه النفس التي لوّثتها في الخارج بالكذب، ثم تأتي وتدخل المجلس لتسلب منه روحانيّته ونورانيّته، وتلوّث أذهان الذين جاؤوا لاكتساب الفيض وتحرمهم منه؟! وعليه، فإنّك تُعدّ ـ من خلال تواجدك في هذا المجلس ـ خائناً، وينبغي حرمانك من الحضور إليه؛ لأنّك تمارس الخيانة، ولم تتحرّك بصدق. بينما لو ذهبت إلى مكان آخر، فإنّهم سيستقبلونك.. مرحباً يا سيّدي >الفلاني<، لقد شرّفتنا بالمجيء، لقد زيّنت مجلسنا، لقد نوّرت مجلسنا، لقد، لقد.. فلدينا الكثير من هذه الألفاظ، ويُمكنكم أن تعثروا بأنفسكم على بعضها! فيضعون عليكم مثل هذه العبارات إلى درجة أنّها تصل إلى الأعلى.. ويضعون تحت إبطكم من ذلك البطيخ الذي يبلغ وزنه عشرة أو خمسة عشر أو أربعين كيلو.. لا أعلم حقيقة الأمر، ولكنّهم يقولون أنّه يوجد في بعض الأمكنة بطيخ يزن خمسين كيلو والله العالم! فيضعون عليكم من هذا البطيخ ذي الخمسين كيلو، والعجيب أنّه لا يسقط أبداً، فلا أدري ما هو نوع الصمغ الذي ألصقوا به هذا البطيخ وثبّتوه تحت إبط الإنسان.. حضرة السيّد، مولانا السيّد، حضرة السيّد فلان... [يبتسم سماحة السيد]
في إحدى المرّات حضرنا أحد المجالس مع المرحوم العلاّمة، وكان مجلس عزاء أقامته هيئة من طهران في مدينة مشهد، حيث اكتشفنا كم كانت عجيبة تلك الهيئة! وكيف كان ذلك العزاء! وأي مراسم مقامة في ذكرى الإمام الحسين ومولاتنا فاطمة الزهراء! وأيّة أمور أخرى... فقد كانت جميع أذكارهم متعلّقة بمجيء فلان وفلان، وكان أحد الأشخاص موجوداً في الموضع الذي كنّا جالسين فيه وكان يقول: آه، لقد جاء فلان اذهب واستقبله! فكان صديقنا يذهب مسرعاً في اتجاه الميكروفون، ويأخذه من ذلك المسكين الذي كان يقرأ العزاء.. يقول: نُرحّب بقدوم جلالة فلان! وقد حدث هذا قبل مدّة طويلة جدّاً، وأمّا الآن فلا وجود لمثل هذه الأمور، بل كان ذلك في العهد السابق.. جلالة فلان، وفخامة فلان، وفلان، أهلاً وسهلاً بهم، نُرحّب بقدومهم، على الرحب والسعة! ثمّ يأتي شخص آخر، فيهرع مرّة أخرى لأخذ الميكروفون.. اذهب لاستقباله وإدخاله للمجلس.. ما معنى >اذهب وأدخله إلى المجلس<؟! ما هي حقيقة المسألة؟! فنحن لم نكن على دراية بمثل هذه الأمور، إلاّ أنّنا صرنا بعد ذلك خبراء بها! [يبتسم سماحة السيد] اذهب وأدخل السيّد الفلاني! يا لها من مهزلة! فقد صار الإمام الحسين وسيلة بيد مجموعة من مثيري الشغب والخونة والكذّابين والغشّاشين والمشعوذين، وذلك تحت عنوان الهيئة ومجالس الذكر ومحافل إحياء سنّة أهل البيت. أدخلوه، أدخلوه! وأقول لكم بصدق، لقد كنّا في تلك الساعة التي قضيناها هناك نُشاهد شريطاً سينمائيّاً، ويا له من شريط سينمائي! بل كان مسرحاً بكل معنى الكلمة.. كما حدثت مسائل أخرى لا داعي لذكرها الآن. ففي تلك الأماكن، لا يهمّهم إذا ما قام أحدهم بالكذب، المهمّ هو أن يكون صاحب جاه ومقام، وأن يأتي إلى المجلس أصحاب الجاه والمقامات! مثل ذلك الشيخ الفلاني... في أحد أيّام عاشوراء، ذهبنا صباحاً إلى مسجد في طهران، فكان الشيخ يتحدّث ويقول: أجل، لقد ذهبنا البارحة إلى المجلس الفلاني وألقينا كلمة هناك، وكان هناك مجموعة من الوزراء. فليكونوا وزراء، وماذا بعد ذلك.. فليكن! لماذا لا تقول: لقد حضر الناس إلى هناك؟! أَوَ هل تعدّ الناس عندك بمثابة قرون الماعز، بحيث يكون للسادة الوزراء فقط أهميّة ومكانة؟! فهذا يعني أنّ بقيّة الناس ليسوا بآدميّين! والحال أنه كان هناك مجموعة من الناس أيضاً.. أي أنّ البقيّة لا شيء، بل هم عندك مجرّد تبن وقشّ! ما هو سبب ذلك؟ إنّه بسبب التوهّمات والتخيّلات. ففي الأماكن الأخرى، لا يعنيهم أنّك كذبت على المشتري وغششت في الصفقة.
وأمّا إذا أردت أن تأتي إلى مجالس أولياء الله، وتحضر محافل الذكر، فإنّهم يقولون لك: اذهب أوّلاً وأصلح حسابك وصفِّهِ مع ذلك المشتري، ولا يحقّ لك أن تضع قدمك هنا مادمت لم تُصحّح عملك.. هكذا هو الأمر.

    

ضرورة الحكم بالحق ولو على الأقربين

جاء أحد الأشخاص عند المرحوم العلاّمة يشتكي إليه من أحد أصدقائه ـ وكانت هذه المسألة تتعلّق بمدينة أخرى إلاّ أنّني كنت متواجداً هناك، وكان كلاهما من باعة الشاي والأرز ـ وذكر له أنهما تعاقدا وتعهّدا بعدم بيع البضاعة في السوق بأقلّ من الثمن الكذائي، وتوافقا على أن يكون الثمن مقداراً معيّناً، وكان ثمناً منصفاً أيضاً. فجاء [ذلك الصديق] وعرض سعراً أقلّ ـ لكن لم يكن هو الذي قام بذلك، بل ابنه الذي كان حاضراً أيضاً ـ فأدّى ذلك إلى المساس بمنزلتي [الشاكي] عند بقيّة الناس الذين كانوا يقولون: لقد باعنا فلان بسعر أقلّ، فلماذا تبيع أنت بثمن أغلى؟! وقد أدّت هذه المسألة إلى إلحاق الضرر بي من ناحية سمعتي التجاريّة، وكذلك من الناحية الاقتصاديّة. وكان ذلك الشخص المتّهم أقرب إلى المرحوم العلاّمة من المدّعي والشاكي من ناحية المراتب المعرفيّة ومن ناحية إخلاص الودّ والمحبّة، حيث كانا يختلفان تماماً من كلتا الناحيتين.. فما إن سمع المرحوم العلاّمة هذا الكلام ـ والحال أن الذي قام بهذا الفعل هو ابن هذا الشخص لا نفسه، ومع أنّه لم يكذب ـ قال له: ينبغي عليك أوّلاً أن تُعلن توبتك، فاذهب واغتسل بغُسل التوبة ـ وقال له ذلك أمام الجميع، حيث كنت موجوداً أنا وذنك الشخصان ـ وتعهّد بأنّك لن ترتكب تلك المعصية بعد الآن، وأنّك ستظلّ وفيّاً بالعهود والالتزامات التي تعطيها للناس. هذا أوّلاً، وثانياً، عليك أن تذهب وتُعلن لجميع الأشخاص المتواجدين بذلك السوق والمركز التجاري بأنّك أنت المقصّر في هذه المسألة، وأنّ تصرّف الرجل الآخر كان صحيحاً، وأنّه التزم بتعهّداته، بينما أخللت أنا بها. وثالثاً، عليك أن تُعوّض له جميع الأضرار التي أُلحقت به.
لقد كانت المسألة جدّية لا مزاح فيها! فأنت حتّى لو كنت أقرب إليّ، ومنزلتك عندي أكبر، ووقع منك ما وقع.. لكن اذهب الآن وصالح أخاك، فأنتما رفقاء.. اذهبا الآن وأصلحا الأمر، ولا تُلحّا كثيراً! فقد ارتكبت معصية، وعليك جبران ذلك. لا توجد مشكلة في أنك عصيت، فليكن ذلك ولن يضربك أحد على رأسك، لكن عليك أن تتدارك الأمر، فإذا تداركته فمرحباً بك هنا، وأمّا إذا لم تتداركه، فإنّك ستُطرد من هنا؛ لأنّ الإنسان العاصي لا ينبغي له التواجد هنا.

    

خدع الشيطان لثني الإنسان عن التوبة

إذا ارتكب الإنسان معصية، فما المشكلة في أن يأتي ويُقرّ بذلك، وبأنّ المسألة كانت مخالفة [للشريعة]؟! ما هي المشكلة في ذلك؟! فنحن لسنا معصومين. هل نحن معصومون؟ كلا. لقد قام الشيطان بخداعنا، فليكن ذلك، حسن جدّاً، فهذا لا يحظى بأهميّة كبيرة؛ لأنّ الإنسان يُمكنه الرجوع، وإلاّ فلمَن جعل الله تعالى التوبة إذن! وأمّا.. وأمّا إذا بقينا ثابتين على مواقفنا... بأن نقول: أنا السيّد الفلاني! والمسألة يوجد فيها تنازل كبير.. وأنا الذي كان يُحسب لي ألف حساب، ينبغي عليّ أن أقول لنفسي لقد أخطأت، وأنا الذي كنت محلّ اهتمام الرفقاء الذين كانوا يأتون إليّ طلباً للمشورة، وكانوا يتحدّثون عن عقلي الكبير، ينبغي عليّ أن أقول: يا للعجب، لقد أخطأت! هل هذا ممكن؟! أنا الذي أحظى بكلّ هذا الاحترام وسط أقراني، ينبغي عليّ أن أقول لنفسي مثلاً: لقد أخطأت.. هل هذا ممكن؟! أنا الذي كان يُحسب لي ألف حساب.. أنا الذي.. أنا الذي.. أنا الذي... فكلّ هذه الأمور هي وسوسة من الشيطان الذي يقع في الجانب الأيسر، فهو الذي يأتي بهذه >أنا الذي، أنا الذي لقد أتانا بلاغ بأنّ الوقت قد انتهى، وسعادة الطبيب حاضر بيننا وهو ينظر إليّ بنظرات متسائلة [ضحك].. سمعاً وطاعةً يا سيّدي، سننهي الكلام إن شاء الله تعالى! هل هذا واضح؟! فيأتي ذلك الملك ويقول: أيّها المسكين التعيس، صفّ حساباتك! صحيح أنّك تمتلك منزلة وجاهاً، لكن إلى متى هذا الجاه؟ إلى ما بعد يومين آخرين. صحيح أنّك موضع لطلب المشورة، لكن من طرف من؟ من طرف أشخاص سيتخلّون عنك غداً.. أفلم يحصل ذلك؟! فاليوم فقط يُسلّمون عليك، وهذه المسألة دائماً ما كانت تتكرّر..
حسناً، فمع أنّنا لم نتمكّن من إنهاء المطلب، لكن بما أنّنا سلكنا هذا الوادي، فقد ارتأينا أنّه من المناسب أن نبقى مع الرفقاء مدّة أطول، وأن نتحدّث معهم أكثر، على أن نكل تكملة المطالب إن شاء الله تعالى إلى الليالي المقبلة، راجين منه سبحانه أن يجعل ـ دائماً ـ من فهمنا فهماً يمكنه الوقوف في وجه نفوذ الشيطان.. أي أن يكون فهمنا الغالب، وهذا لا يعني أنّنا لا نمتلك أيّ فهم، فحتّى يزيد كان يمتلك فهماً، وكذلك الأمر بالنسبة لعمر بن سعد، إلاّ أن فهمهما لم يتمكّن من الوقوف في وجه وسوسة الشيطان، بل كانت النفس والأطماع الدنيويّة ولذّات الأمل والرغبات الدنيئة هي التي تغلّبت عليهما، ووضعت ذلك الفهم الغالب جانباً. فندعو الله تعالى أن يجعل من هذا الفهم الغالب ـ الذي يأتي ويقف في وجه ذلك ـ حيّاً وراسخاً فينا على الدوام.

اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد.


[1] ـ الآية رقم 3 من سورة الحجر

[2] ـ الآية رقم 22 من سورة ق

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی