معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1433 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1433هـ ـ الجلسة الرابعة: الفطرة السليمة تدعو إلى التوحيد

_______________________________________________________________

هو العليم

سلسلة شرح دعاء أبي حمزة الثمالي للعام 1433 هـ

المحاضرة الرابعة:
الفطرة السليمة تدعو إلى التوحيد

ألقيت هذه المحاضرة في الليلة الرابعة والعشرين من ليالي شهر رمضان المبارك لعام 1433 هـ

ألقاها:

سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني

حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على نبيّنا أبي القاسم محمّد
و على آله الطيّبين الطاهرين
و اللعنة على أعدائهم أجمعين

«عظم يا سيّدي أملي وساء عملي، فأعطني من عفوك بمقدار أملي ولا تؤاخذني بأسوأ عملي»
يقول عليه السلام: إنّ أملي يا سيّدي ومولاي عظيمٌ جداً، ولكن في المقابل فإنّ عملي لا يتناسب مع ذلك الأمل العظيم وتلك الرغبة، فلا تناسب بينهما أصلاً ! فهذه المقدّمة لا توصلني إلى "ذي المقدّمة" المطلوب؛ وحيث أنّ الأمر كذلك.. «فأعطني من عفوك بمقدار أملي» .. فحيث أنّ أملي عظيم جداً وعالٍ جداً (ومن الواضح أنّ هناك فرقاً بين العلو والعظمة، فالعلو يعني ارتفاع المرتبة، وأمّا العظمة فهي بمعنى الأفضليّة من جميع الجهات، و هو ما سوف يتّضح عن قريب إن شاء الله)، حسناً... فحيث أنّ الأمر كذلك .. «فأعطني من عفوك بمقدار أملي»...

    

لماذا لا يمكن التنازل عن الأمل العظيم؟

فنحن لا نقدر أن نتخلّى عن هذا الأمل، لأنّنا قد اتّخذنا لأنفسنا هدفاً وأملاً عظيماً، ولا نقدر أن نتنازل عنه، أو نقبل بأدنى منه، ولا نستطيع أن نصرف النظر عن هدفنا الذي نطمح إليه. وكما كان يقول السيّد العلاّمة الطهراني رحمه الله: نحن قد تذوّقنا هذا "الآش"[1]، و مازال طعمه موجوداً في فمنا، فمن ناحية لا نستطيع أن نتخلّى عنه، [و من ناحية أخرى لا نستطيع الأكل منه]... كان سماحته يقول: إنّ بعض رفقائنا يشبه حالهم حال ذلك الشخص الذي تذوّق مقداراً من "الآش" الساخن جداً و المليء بالنعناع اللذيذ ذو رائحة زكيّة، فبقيت اللقمة في فمه؛ فلا هو قادر على ابتلاعه لأنّه سيحرق فمه و حلقومه لو ابتلعه، و من ناحية أخرى فهو لا يستطيع أن يتركه ويصرف النظر عنه، فمن ذا الذي يستطيع أن يفعل ذلك بعد أن تذوّق مثل هذا "الآش" و قام بتجربة مثل هذا الطعم في فمه؟! و كيف يمكن له أن يصرف النظر بعد أن أدرك مسألة من هذا القبيل، و تعرّف على جوّ كهذا؟!

    

المنكرون لمقامات العرفاء و أحوالهم لا نصيب لهم من المعرفة

فلو أنّ الإنسان لم يتذوّق طعم هذا "الآش" فمن السهل عليه أن يصرف النظر عنه ويتركه، كما يفعل الكثير من الأفراد الآخرين، الذين تجدهم ينكرون ويقولون: ما هذا الكلام يا عزيزي، و ما هي هذه الخزعبلات؟! من الذي رأى أو سمع بمثل هذا؟! إنّ هذه الأمور ليست إلاّ خيالاً و أوهاماً، فهؤلاء [العرفاء] يتخيّلون هذه الأمور ليس إلاّ!! (ألا يقولون ذلك؟) يقولون: (ما "المعرفة"؟! وما هو "الشهود"؟ و ماذا يعني "التجرّد" و"الفناء"؟! إنّما هي خيالات وأوهام في ذهن هؤلاء الأشخاص، وهم اخترعوها من عندهم، و ليس من المعلوم أن يكون لها أصلٌ أو سند تعتمد عليه!! ونحن لا نجد في لسان وآثار أهل البيت عليهم السلام أمثال هذه الأمور!) وأمثال هذه الأكاذيب الباطلة الصادرة من هؤلاء ...
يقول العلاّمة الطهراني رحمه الله: عندما كنّا في النجف الأشرف، كانوا ينتقدونني و يهزؤون بي، و كانوا يقولون: هل هناك طالب علم يقضي ليلة الخميس في السهر و العبادة في مسجد السهلة؟! (و ذلك أنّ سماحته كان يقضي ليالي الخميس في التهجد و العبادة في مسجد السهلة حتّى الصباح) فكانوا يقولون: هل يصحّ من طالب العلم أن يقضي ليله بالسهر من الليل حتّى الصباح في مسجد السهلة؟! و هل من المناسب أن يقضي طالب العلم ساعة من وقته في السجود و قراءة ذكر اليونسيّة؟! و هل من الصحيح أن يجلس طالب العلم في عصر الجمعة و يقضي وقته في قراءة دعاء السمات؟!
يا عزيزي.. إذا لم يفعل ذلك، فماذا يفعل؟!
و هكذا كانوا ينتقدون سماحته على مثل هذه الأمور! و نحن نقول لهؤلاء: تفضّلوا أخبرونا.. أنتم كيف تقضون أوقاتكم؟ و ماذا كنتم تفعلون؟ وما هي الأعمال التي كانت تشغل وقتكم من الليل حتّى طلوع الصبح؟! فلندع ذلك فعلاً، فالأفضل أن نسكت و ندع هذا الأمر!
إنّ السيّد الوالد رضوان الله عليه كان يقول: [لقد كنت مجداً في دروسي] بحيث أنّه لم يكن هناك أيّ شخص في النجف يجرؤ على أن يواجهني بكلمة واحدة، لأنّه لو قال جملة واحدة لأجبته بستّة أجوبة محكمة في مقابلها! فسماحته لم يكن طالب علمٍ جاهل أو مهمل يضيّع وقته ولا يهتمّ بدروسه، بل كان طالبَ علم يقضي في كلّ يوم عشر ساعات من وقته في المطالعة والقراءة غير الوقت الذي كان يخصّصه للدروس والمباحثات و الأمور الأخرى، و ذلك بحسب تصريحه هو!! فهل مثل هذا الشخص عنده وقت ضائع و مهمل؟!
حسناً.. فهؤلاء الأشخاص يقولون: "[إنّ الأمور التي يدّعيها العرفاء] ليست إلاّ أوهاماً وتخيّلات!!".

    

مخالفة مدرسة العرفان منشؤها التعلّق بالدنيا و شؤونها

إنّ هؤلاء من الأشخاص الذين لم يفهموا شيئاً ولم يتذوّقوا طعم هذا الآش المحرق اللذيذ، ولا هم يريدون أن يفهموا ويتذوّقوا هذا الطعم! وهذا الأمر الثاني مهمّ جداً.. إنّهم لا يريدون أن يتذوّقوا هذا الطعم! فهم قد حسبوا المسألة بدقّة ووضوح، ووجدوا أنّه: إذا أردنا أن ندخل في هذا الوادي، فما الذي علينا أن نفعله؟! و ما هي الأمور التي يجب أن نتنازل عنها؟ وما هي الرغبات التي ينبغي أن نتخلّى عنها في سبيل ذلك؟ فنحن إذا مضينا في هذا الطريق فلن نعود قادرين على فعل ما يحلو لنا! ولن نتمكّن حينئذٍ من التكلّم بما نريد! وسيتوجّب علينا أن نخضع لساننا حينئذٍ للعقل والنفس اللوّامة، ولن يكون لساننا في خدمة أهوائنا ومصالحنا الدنيويّة، وينبغي عندئذٍ أن تكون تصرّفاتنا صحيحة وممضاة و مورداً للرضى، لا أعمالاً منبثقة عن طلب المصالح الدنيويّة و الوصول إلى أمور الدنيا و المنافع الشخصيّة، و دافعها الحقيقي هو السعي من أجل رفعة الشأن والشخصيّة والمكانة الاجتماعيّة بالرغم من اتّخاذها في الظاهر شكلاً دينياً، و لوناً شرعياً... هذه هي المسألة، و هذه هي القضيّة!
كان السيّد العلاّمة الطهراني يرحمه الله يتحدّث مع بعض الأشخاص، فسأله أحدهم: لماذا نرى أنّ بعض الأفراد يخالفون هذه المدرسة [مدرسة العرفان]، و يعارضونها؟ فماذا يوجد في هذه المدرسة بحيث يدفعهم للمعارضة؟ و ما هو الإشكال أو الخصوصيّة التي تسبّب ذلك؟ فنحن لم نرَ أيّ مشكلة أو خلل.
فقال سماحته: هل تعلمون ما هو سبب معارضتهم؟ إنّ المشكلة نابعة من أمرٍ واحد لا غير؛ ألا وهو أنّه في هذه المدرسة يقولون لك: إنّ كل شيء هو من الله، وكلّ ما عندك هو من الله، وهاهنا لا حديث عن الشأنيّة والمقام والشخصيّة والاستقلال ومحوريّة الذات والأنانيّة، فلا حديث هنا إلاّ عنه هو [الله سبحانه وتعالى]، وهؤلاء الأشخاص بعكس ذلك تماماً!! فهم يتحدّثون عن الأنا .. أنا .. أنا .. أنا.. مقلّديّ أنا.. تابعيّ أنا.. والأشخاص الداعمين لي أنا.. شأنيّتي ومقامي أنا .. شخصيّتي أنا... فكيف يمكن أن يتّفق هذان الخطّان؛ فذاك يتحدّث عن "هو" .. إرادته "هو" .. أتباعه "هو" ...وهكذا ، بينما هذا يتحدّث عن "أنا"، ولهذا السبب لا يمكن لهذين الخطّين أن يلتقيا أبداً!!

    

مدرسة العرفان تدعو إلى الله بينما الآخرون يدعون إلى الأنا

قبل مدّة نقل لي أحد الأشخاص قضيّة لطيفة، يقول: كنّا في أحد الأماكن المهمّة، و كانوا يضعون في أحد الغرف صوَر بعض الأشخاص، و أردنا أن نقوم بترميم هذه الغرفة و إعادة صبغها بلون جديد حيث أنّ لونها قد صار قديماً، فقرّرنا تجديد دهانها، و بطبيعة الحال فإنّهم عندما يريدون دهان الجدران فلابد من رفع الصور المعلّقة حتّى يصبغوا مكانها، فاللوحات والصور لا تصبغ مع الغرفة!! فلابدّ من رفعها. يقول: لقد رفعنا جميع الصور حتّى نصبغ الغرفة، ثمّ نعيد الصور إلى مكانها بعد أن ننتهي! و لكن ماذا حصل؟ بعد أن انتهينا من دهان الغرفة، نسي الشخص الذي كان مسؤولاً عن إرجاع الصور أن يُرجع صورةً واحدة، ولا داعي لذكر اسم صاحب الصورة! وبعد مدّة من الزمان انتبهنا إلى الأمر! فثارت ضوضاء كبيرة، وأجروا تحقيقاً مفصّلاً، وأحضروا ذلك الشخص لاستجوابه أن كيف لم يتمّ وضع الصورة الفلانيّة، وانزعج صاحب الصورة كثيراً، واعترض قائلاً: لقد مرّ أسبوع كامل، وجميع الصور معلّقة في مكانها ما عدا صورتي أنا!!
ما هذا؟! يا عزيزي.. لم كلّ هذا الانزعاج، فأنت ما زلت موجوداً فما المشكلة لو لم تكن صورتك معلّقة في إحدى الغرف؟! لا يوجد مشكلة في ذلك، فأنت نفسك موجود وحيّ ترزق وصحّتك جيّدة ، فلم كلّ هذا الانزعاج؟ ما هو الأمر الذي أزعجه؟ "صورتي غير موجودة" وهذا يعني أن الدين لم يعد موجوداً، والشريعة ليست موجودة ويعني أن الإسلام لم يعد موجوداً ، والقرآن ليس موجوداً !!! لماذا؟! لأن صورتي ليست موجودة!!
ما أعظم مدرسة العرفان!! واقعاً ما أعظمها! لقد نقلت للرفقاء قبل عدّة ليالٍ كيف أنّ السيّد القاضي رضوان الله عليه عندما قام ببناء دورات المياه لمسجد الكوفة، وجاء فرأى أنّ البنّاء قد وضع بلاطة مزخرفة من الكاشي في أعلى المبنى، و عليها اسم سماحته أن: قد تمّ بناء هذا المبنى بحسب أمر حضرة آية الله السيّد القاضي؛ فغضب جدّاً و تغيّر لون وجهه من شدّة الانزعاج، فأخذ فأساً، وصعد على السلّم وهوى بالفأس عليها حتّى حطّمها تحطيماً ، وكسّر جميع تلك البلاطات المزخرفة التي أتعبوا أنفسهم في تصميمها وطبخها وإعدادها ونصبها بشكلٍ متناسب في مكانها.. لقد ظلّ يضربها و يكسّرها حتّى صارت قطعاً صغيرة متلاشية، فلمّا تكسّرت بهذا الشكل تغيّر حاله، و استولت عليه حالة من السرور والسعادة.. بخٍ بخٍ، لقد قمتُ بتقويمكِ! [مخاطباً نفسه] هل كنتِ مسرورة لوضع اسمك في الأعلى بهذا الشكل؟ هل أسعدك أن تري أنّ اسمك منقوش على الكاشي.. "بحسب أمر حضرة آية الله السيّد علي القاضي"؟! أعجبك ذلك؟!
أخبروني.. أين تجدون مثل هذا ؟! إذا كان ما أقوله ليس صحيحاً، فقولوا لي: أنت تكذب يا سيّد!! إنّنا نرى هذا الأمر بأمّ عيننا، وليس ناشئاً من الحدس والخيال... [فأنت تجدهم يكتبون في كلّ مكان ينشئونه]: "تمّ إنشاء هذا المبنى بناءً على أمر فلان" .. "بناء على أمر فلان"... [فكأنّه يقول عن نفسه:] {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون‏} .. فهذا الأمر المبجّل صادر من مقام التكوين الذي هو فوق مقام التشريع!! فليته كان مقاماً تشريعياً! بل إنّك تجد بعضهم يكتب عبارات من قبيل: "لقد تمّ إنشاء هذا المبنى بناء على إرادة فلان" ، فهذا قد ترقّى بالأمر أكثر لأنّ مقام الإرادة مقدّم على مقام الأمر، فمقام الإرادة و المشيئة يقع في سلسلة العلل الطوليّة لمقام الأمر! .."لقد تمّ إنشاء هذا المبنى بناء على مشيئة فلان" فالمسألة لم تصل إلى حدّ الأمر بل بمجرّد الإرادة والمشيئة!!
هل ترون المسألة؟ إنّ هذين خطّان وطريقان مختلفان، فالأوّل يقول: أصلاً لماذا تمّ وضع اسمي هناك في الأعلى؟! لقد أخطأتَ كثيراً عندما وضعت اسمي هناك! من الذي أذن لك في فعل ذلك! و أمّا الثاني فيقول: ما لم تضع اسمي هناك في الأعلى فإنّني لا أدفع! هل ترون كيف أنّ هذين الطريقين مختلفان ومتقابلان؟! حسناً.. أيّ هذين الطريقين نقبل؟ و أيهما نختار؟ لو أردنا أن نختار واحداً منهما، فأيّهما نختار وأيهما نقبل؟ هل نختار ذلك الذي يقول: (إذا وضعت اسمي في الأعلى فإنّني أكسّره بنفسي، وأحطّمه وأمحوه بشكل كامل)؟ أم ذاك الذي يقول: (ما لم تضع اسمي فإنّني لن أعطي، ولن أدفع، ولن تحصل على شيء منّي! أوّلاً ضع اسمي في الأعلى ثمّ تعال!) ؟

    

الفطرة و الوجدان يحكمان بصحّة مدرسة العرفان وحقّانيتها

حسناً.. لنفرض أننّا نريد أن نتّبع أحد هذين ونطيعه، إمّا هذا أو هذا، وافرضوا أنّنا أصلاً لا نعرف شيئاً آخر عنهما، فإنّنا سنجلس ونراجع فطرتنا، و نسألها: أيّهما الصحيح؟ فنحن لا نعرف لا هذا ولا ذاك، ولا نعرف اسم هذا ونسبه وخصوصيّاته ولا ذاك، وكلّ ما قيل لنا أنّ الأوّل قد تصرّف بهذا الشكل وقال كذا، بينما الثاني فإنّه يقول كذا، فإلى أيّ الطرفين تتمايل فطرتنا؟ وإلى أيّ الطرفين ينجذب عقلنا؟ وإلى أيّ الطريقين والمدرستين تميل نفوسنا وتحبّه وتختاره؟ أيّ واحد منهما؟! فلنراجع أنفسنا ونرى.. سنجد أنّ فطرتنا تقول لنا: يا للعجب!! ما أعظم هذا الرجل!! مع أنّنا لا نعلم عنه شيئاً ولا نعرف مقاماته.. بل نُقل لنا هذه القضية عن هذا الطرف، وكيف تصرّف فيها، كما نُقل لنا نفس القضيّة عن الطرف الآخر وكيف تصرّف فيها! فالموقف الذي تعرّض له كلّ منهما واحد، ولكنّ هذا الطرف تصرّف بهذه الطريقة، أمّا الثاني فقد تصرّف بتلك الطريقة.
حسناً .. نحن عندما تعرض علينا هذه المسألة، فإلى أيّ اتّجاه نميل؟ نراجع فطرتنا فنجد أنّها تقول لنا: اذهب خلف هذا [إشارة إلى السيّد القاضي رضوان الله عليه]، واتّبع هذا، فهذا هو صاحب الطريق الصحيح! لماذا تقول لنا ذلك؟ لأنّ الله أوجد الفطرة على أساس التوحيد : {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتي‏ فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}[2]، فالله سبحانه لم يعطِنا هذه الفطرة عبثاً، ولا من أجل الأمور التي لا فائدة فيها، بل أعطانا إياها من أجل تصحيح طريقنا وتقويم حياتنا، ومن أجل تشخيص طريق السعادة والفلاح، وهو سيحاسبنا ويؤاخذنا غداً، و سيقول لنا: لقد أعطيتك هذه الفطرة!! فلو أنّني لم أعطك هذه الفطرة لما كان هناك مجال للسؤال والمؤاخذة، و لكنّني أعطيتك! إنّ هذه الفطرة التي أعطيتك إياها.. ألم تكن فطرة التوحيد؟! ألم تكن هذه الفطرة تدعوك إلى الابتعاد عن الكثرات؟! ألم تكن هذه الفطرة تدعوك إلى محبّة أبناء نوعك، وإلى الوحدة؟! ألم تكن هذه الفطرة تدعوك إلى ترك التحزّب، والشقاق والتفرّق والكثرة؟! ألم تكن هذه الفطرة مبنيّة على تأثير المبدأ الأوّل وحقيقة الوجود؟! ألم تكن الفطرة التي منحناك إيّاها كذلك؟! بلى كانت كذلك. حسناً، بما أنّها كانت كذلك؛ فلماذا اتّخذت لنفسك ذلك الطريق وتلك المدرسة المخالفة لهذه الفطرة، ولماذا اتّبعت ذلك الشخص الذي هو كذلك، وشاركت في مجالسه، وذهبت إلى منزله، وقمت بتأييده، وصرت من حواشيه وأعوانه، وشجّعته على إدامة طريقه؟!! لماذا فعلت ذلك؟ والحال أنّك قد فهمت أنّ عمل هذا الشخص خطأ ومخالف للصواب! فأنت نفسك الذي قلت لصديقك [عن ذلك العارف]: إنّك لن تجد مثل هذا الرجل أبداً، و لا نظير له هنا إطلاقاً؛ فلماذا أنت هنا إذاً؟ و لماذا تؤيّد هذا الطريق المخالف من خلال مجيئك إلى هنا؟! إنّك الذي تقول بنفسك: لا يمكن العثور على نظير هذا الشخص العظيم! وأنت الذي تقول: إنّ الكلام الحقّ الذي يقوله لا جواب له! فلماذا حينئذٍ تجاهلت بتصرّفاتك وأعمالك حكمَ عقلك ومنطقك وفطرتك ووجدانك واضعاً إيّاها جميعاً تحت قدميك؟ إنّ الله سيحاسبنا.
أجل.. عندما نرجع إلى فطرتنا فسوف نرى أنّها تميل إلى هنا، وتقول لنا: إنّ فعل هذا الشخص هو الصحيح.. إنّ ما فعله السيّد القاضي رحمه الله هو الصحيح! ومنهج أولياء الله الذين هم من هذا القبيل هو الصحيح.
جرى حديث ذات مرّة في أحد المجالس عن حادثة معيّنة، وكان أحد الأشخاص المطّلعين حاضراً، وقال: نحن نرغب بنشر المحاضرة الفلانيّة التي ألقاها فلانٌ، فخالفه بعض الأفراد الذين يؤيّدون شخصاً آخر، وأمثال هؤلاء الأفراد المتحمّسين موجودون دائماً، و هؤلاء يتحمّسون لمن يؤيّدونه أكثر من نفسه، وأمثال هؤلاء المؤيّدين الجهّال الذين ينطبق عليهم المثل القائل (قابلة أرحم و أشدّ حناناً من الأم)[3] موجودون بكثرة في كلّ مكان... أجل جاء هؤلاء، واعترضوا على اقتراح ذلك الشخص بنشر المحاضرة، فسألهم: لماذا تعارضون نشرها؟، فقالوا: لأنّنا نرى هذه المحاضرة بليغة جدّاً، ولها جاذبيّة وتأثير خاصّ في الظروف الحاليّة، ونحن بالمقابل ليس عندنا محاضرة أو خطبة تماثلها في القوة والبلاغة، فإذا سمحنا بنشرها الآن، فإنّها ستلقى قبولاً واستحساناً كبيرين من الناس، وستجعل صاحب المحاضرة ذا شعبيّة كبيرة تؤثّر على شعبيّة فلان [الشخص الذي نؤيّده] !! هل التفتّم؟!
لقد جاء النبيّ صلّى الله عليه و آله وسلّم، وأزال كلّ هذه الأمور، وأزاح كلّ تلك الأفكار، فشعاره كان: «قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا».. فكلّ ما هنالك يرجع إليه، فالمحاضرة الجذّابة منه سبحانه، ولكنّها جاءت على لسان هذا، والعلم الأرقى مصدره الله عزّ وجلّ، ولكنه قد ظهر من هذا الشخص، والجاذبيّة من الله تعالى، ولكنّها تجلّت في شخصيّة هذا الفرد، بل إنّ كلّ ما له قيمة مصدره الله سبحانه وتعالى، وغاية ما في الأمر أنّها تظهر وتبرز من خلال هذا المظهر!
إنّ هذا التوحيد هو ما تنادي به هذه المدرسة [مدرسة العرفاء]، ولذا تجد أنّ هذين الطريقين لا يلتقيان أبداً، فهل رأيتم يوماً أحد العرفاء عندما يلقي خطاباً أو محاضرة مؤثّرة جداً، فإذا به يُسرّ و يفرح لذلك؟! كلاّ، فهو لا يهتمّ لذلك، بل ذلك لا معنى له أصلاً عنده، فهو لا يرى أيّ داعٍ للسرور و السعادة لأنّ الحاضرين قد تأثّروا بكلامه! ولكن في المقابل فأنت لا تجد مثل هذا في الأماكن الأخرى، فأنت تجد هذا الشخص إذا ألقى خطاباً أثّر في الحاضرين يفرح كثيراً، و يهتمّ بذلك أشدّ الاهتمام، وتجد ابتسامته العريضة قد علت وجهه، وآثار السرور والفرح تصير بادية على أساريره.

    

موقف العارف من الشخص الذي يهتدي على يديه والشخص الذي يتركه

العارف إذا وفّقه الله لهداية أحد الأشخاص فإنّه يفرح و يُسرّ لذلك، و ذلك لا بأس فيه بل الروايات تؤيّده، و لكن لو تركه أحد.. لو جاء أحد واتّبعه ثمّ بعد مدّة تركه وذهب، فإنّه لا يتأثّر لذلك، ولا يحزن ولا يهتمّ. وأمّا في الاتّجاه المخالف لمدرسة العرفان إذا انضمّ إليه أحد الأفراد فإنّه يفرح، وإذا تركه فإنّه يحزن ويتضايق، ويضرب على رأسه أسفاً قائلاً: إه إه لقد ذهب أحد الأشخاص... لقد نقص عدد الحاضرين اثنين!!! ما الذي حصل؟ لماذا لم يأتوا؟ فلنذهب إلى منزله لنرى ما الذي دفعه إلى ذلك؟ ما الذي ضايقك يا عزيزي؟ هل صدر منّا مشكلة؟ إذا كان هناك ما يضايقك فأخبرنا لنرفعه، و نحلّ المشكلة، فهو يسعى جهده ويقدّم له الهدايا لعلّه يرجع!!
قسماً بحافر فرس أبي الفضل العبّاس إذا أراد الذهاب، فليذهب، فلا ضير في ذلك، ولا مشكلة في الأمر! إذا أراد الذهاب يا عزيزي، فليذهب! فكثيرون هم أولئك الذين يأتون ويذهبون وغير ذلك.
وهذه المسألة ليست بتلك الأهميّة حتى تُقلق الإنسان، فالهداية بيد الله، والعون بيد الله، وعلى المؤمن أن يفرح عند التحاق شخص آخر بطريقه ومدرسته، فلماذا لا يفرح؟! يقول الرسول لأمير المؤمنين: «يا علي، لئن يهدي الله على يديك نسمةً خير لك ممّا طلعت عليه الشمس» وبركات ذلك أكبر من السماء والأرض.. فهذا محفوظ في محلّه، ولكن إذا أراد نفس ذلك الشخص [الذي كانت هدايته على يديه] أن يذهب، وقال: يا سيّدي أنا لا أريد البقاء! [فجوابنا ينبغي أن يكون:] جزاك الله خيراً، توكّل على الله واذهب، فذلك لا يعنيني!
على الإنسان أن يستوعب طريقه ويمشي فيه عن قناعة ثمّ ينطلق فيه بعزم راسخ ولا يبقى في انتظار هذا الشخص وذلك الشخص الآخر، ولا حاجة له بالتحسّر على هذا وذاك، هل هذا واضح؟!

    

الإفراط ينتهي بالإنسان إلى التفريط

وقد رأينا طيلة عمرنا الكثير من هذه التجارب، حيث كان يأتي بعض الأشخاص عند المرحوم العلاّمة الطهراني، وكنّا نشاهد دموعهم تنهمل وتجري على وجوههم عند قراءة الدعاء، وكانوا يقولون للناس: أين يُمكن العثور على مثل هذا المجلس الذي نحن على يقين من أنّ الأشخاص الذين يحضرونه هم جالسون على أجنحة الملائكة، ثمّ لم تمضِ إلاّ بضعة أيّام حتى انتفض هؤلاء بعينهم، وقالوا أنّ هذه المجالس كلّها شعوذة وكذب واحتيال وتجارة.. نفس أولئك الذين كانت تنحدر الدموع من أعينهم على صفحات وجوههم. فما هي حقيقة ذلك؟ كان كذباً..كلا الأمرين كانا زيفاً، فحينما كان يتفوّه بتلك الكلمات، فإنّ ذلك كان منبعثاً من العواطف والإحساسات والأوهام والتخيّلات وأمثال ذلك، وأمّا كلامه الحالي، فمن المعلوم أنّه لا يساوي أيّ شيء، هل هذا واضح؟

    

كثرة الإشكال والاعتراض تدلّ على عدم الجدّية في تزكية النفس

يجب على الإنسان أن يسلك دائماً طريقاً معتدلاً، وأن يقيّم الأمور بعقله وفطرته، وأن يتقدّم إلى الأمام من خلال هذه الرؤية، وأن يتحرّز دائماً عن جانبي الإفراط والتفريط، فالعديد من الأشخاص الذين تعرّضوا للانحراف كنتُ قد نبّهتهم إلى ذلك منذ عدّة سنوات خلت.. وقد قلت لهم: يا سيّدي عدّل طريقك، وسر في طريق قويم، ولا تتكلّم بهذه الطريقة، ولا تقم بهذا العمل، فهذا الإفراط سيجرّك في يوم من الأيّام إلى جانب التفريط، و هذا ما حصل فعلاً! هل هذا واضح؟ فهذه أمور موجودة بالفعل، وعليه، فمَن هؤلاء الذي يلجؤون إلى المخالفة؟ إنّهم أشخاص لا يرغبون في اتّباع ما تمليه عليهم فطرتهم، فهم يُدركون مواضع الحقّ.. واللهِ العليِّ العظيم إنّهم لَيعلمون أين يكون الحقّ ـ فقد أقسمت باسم الجلالة ـ، ولكن ماذا بوسعهم أن يفعلوا عندما يلتفتون إلى أنفسهم وما تريده.. [فهو يقول في نفسه:] ماذا؟ لقد ذكرت هذا الأمر للناس [ولكن قد تبيّن لنا الآن خلافه]، فماذا أفعل إزاء ذلك؟ فيبقى حبيس هذه الأفكار ولا يقدر أن يتجاوزها، ثمّ يشرع في الاعتراض وإلصاق التهم بالطرف الآخر ويستشكل هنا ويستشكل هناك، فإذا أجبت عن إشكاله هنا، فإنّه يبحث عن إشكال آخر، فهو إنّما يريد أن يعترض ويشكل، ولا رغبة له في الفهم، وإلاّ فإنّ جواب ذلك الإشكال حاضر وهذا هو.. تفضّل.. فماذا تريد بعد ذلك؟
حسناً، ما هو جوابك عن هذا [الإشكال الآخر]؟
هذا أيضاً جوابه حاضر وهو بهذا الشكل.
حسناً، فلنجلس ولنفكّر قليلاً عسى أن يخطر على بالنا شيء آخر.. فنضغط على أنفسنا ثمّ نضغط على أنفسنا.. نعم، نعم، وجدتها، لقد تذكّرت إشكالاً آخر فأنت قد قمتَ في اليوم الكذائي بالعمل الكذائي!
فنقدّم له الجواب بسهولة: لقد قمت به لهذا السبب.
يا للعجب! نعم! فلنجلس مرّة أخرى ولنفكّر عسانا نجد شيئاً آخر!
اذهب واستعن بأقربائك، فلربّما تحصل على شيء ما في البين!
ما هي حقيقة كلّ ذلك الإشكال والاعتراض؟ في الواقع لقد أصبح هذا الشخص مريضاً ومرضه في قلبه، ولا يُمكن لنا أن نفعل له أيّ شيء. واويلتاه! وإلاّ فإنّ الإنسان المخلص والطالب للحقّ عندما يخطر بباله سؤال أو يعرض عليه إشكال، فليتفضّل بطرحه: يا سيّدي، يوجد إشكال في المسألة الكذائيّة!
حسن جدّاً، فإمّا أن أقول نعم أو أقول لا؛ إذا كان الإشكال وارداً، فإنّ الإنسان سيسعى إلى رفعه، وأمّا إذا كان إشكالك خاطئاً، فعليك أن تقرّ بخطئك وتنسحب لينتهي الأمر، فلماذا تأتي مرّة أخرى بإشكالٍ ثانٍ؟! فعندما رُفع الإشكال الأوّل وتمّت الإجابة عنه، لماذا سعيت للعثور على إشكال آخر؟! فلتعلم أنّه حينما فعلت ذلك، فإنّ حالك قد فسد و المرض قد سرى إلى قلبك، ولا يُمكنك فعل أيّ شيء إزاء ذلك!

    

كيفيّة التعامل مع الإشكالات في مدرسة التوحيد

في مدرسة العرفان، كلّ شيء واضح وشفّاف، وإذا استُشكل عليه [على العارف]، هل سينزعج؟ لا، بل هو سيقول: هذا إشكال وعيب، وعلينا رفعه، فجزاك الله خيراً، ورحم الله أبويك. إنّ العديد من الأصدقاء يأتون في بعض الأوقات ويوردون بعض الإشكالات علينا ، فيقولون مثلاً: يا سيّدي إنّ العمل الكذائي حصل فيه الخطأ الفلاني... فأقول لهم: جزاكم الله خيراً، فأنا لم أكن ملتفتاً. والبعض الآخر منهم يستشكلون فأقول لهم: لا، الإشكال غير صحيح لهذا السبب... ، فالأمر ليس بالشكل الذي نقبل فيه بكلّ بشيء، لأنّ الكثير من الإشكالات ليس في محلّه ، فنحن لسنا من الأشخاص الذين يجلسون ليصغوا لكلّ ما يقوله الناس ويفعلون كلّ ما يقترحه الآخرون، بل نحن نتأمّل في أيّ اقتراح أو إشكال ونقيّمه بما كنّا قد حصلنا عليه سابقاً، ونحن في نفس الوقت لا ندّعي لأنفسنا العصمة، فنحن نخطئ، والله يعلم أنّنا غير معصومين، ونحن لسنا بأئمّة ولا بأنبياء، ولا نحن من أولياء الله، بل قد نخطئ في بعض الأمور، ولكن ما دمنا نشخّص الأمر بطريقة معيّنة، وما دمنا نعتقد بأنّ تكليفنا هو بهذا الشكل، فلن نتعدّاه أبداً، وهذا ما ينبغي على الإنسان فعله.
حسناً، فالشخص الذي يسعى نحو مدرسة الفطرة ومدرسة التوحيد، لماذا عليه أن ينزعج ويتأذّى من إيراد الإشكالات عليه؟! ولماذا يحسّ بالضيق عندما يُقال له: إنّ عملك الكذائي يعاني من النقص؟! فإذا كان يعتقد بأنّ كلّ كمال هو من عنده [أي من عند الله تعالى]، فعليه أن يفكّر مع نفسه قليلاً بأنّه بما أنّ كلّ فضل وكمال من عنده [أي من عند الله تعالى]، فقد يكون هو الذي يُريد أن يرفع لك إشكالك من خلال هذا الطريق، فلماذا تنزعج إذن؟! إذا ظهر إمام الزمان عجّل الله فرجه في هذه اللحظة وشرّف هذا المجلس بحضوره وخاطبك قائلاً: يا أيّها السيّد الفلاني، إنّ العمل الكذائي الذي تقوم به خاطئ، وعليك أن تُصحّحه، أفهل ستنزعج؟! كلاّ، فهو إمام. حسناً فلماذا تنزعج إذاً عندما يقول لك أحد إخوتك المؤمنين ذلك؟ لماذا لا تنزعج إذا قاله لك إمام الزمان، بينما تنزعج إذا قاله رفيقك؟ هذا مع أنّ إزالة النقص واحدة في الحالتين معاً، وإزالة النقص والعيوب واجبة. أفهل أتينا إلى هذه الدنيا كاملين منذ البداية حتّى ننزعج الآن من فقداننا لذلك الكمال؟! لا، نحن لم نأت إلى الدنيا كاملين، بل أتينا إليها مع ألف نقص ونقص. أفلم يرد في الآيات القرآنيّة في وصف الإنسان: {إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً}[4] .. ولاحظوا أنّ الآية لم تقل جاهلاً بل قالت "جهولاً ".. أي جاهل جدّاً، و جاء في آية أخرى {وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً}[5] .

    

كيف وصل الأولياء إلى المقامات التي وصلوا إليها

إنّ هذا الطريق هو نفس الطريق الذي سلكه جميع العظماء، فوصلوا إلى تلك المقامات التي وصلوا لها، فهم كانوا يعملون على رفع عيوبهم ونقائصهم واحداً واحداً، وكانوا يُنَبّهون على ذلك. فماذا تظنّون أنّه حدث مع المرحوم السيّد الحدّاد أو المرحوم السيّد القاضي أو بقيةّ الأعاظم، نظير الآخوند الملاّ حسين قلّي والمرحوم البهاري والمرحوم الميرزا جواد الملكي التبريزي؟ أتظنّون أنّ أساتذتهم أجلسوهم على العرش منذ البداية، وكلّفوا مجموعة من الأشخاص لأجل أن يروّحوا عليهم بالمراوح، وأنّهم كانوا يضعون الوسائد تحت أقدامهم، ويذبحون أمامهم الأضاحي في كلّ يوم؟ فهل كان الأمر بهذا الشكل؟ لقد كانوا يتعرّضون كلّ يوم لأنواع من التأديب والتوبيخ وكان أستاذهم يواجههم بعبارات من قبيل: >لقد أخطأت!< و>وقعت في الاشتباه!< و>اذهب لحال سبيلك!<، فلا تعتقدوا بأنّ المسألة كانت بالشكل الذي يأتي فيه ذلك السيّد عند أحد الأعاظم فيستقبله و يعظّمه ويُجلسه في ذلك الموضع العالي، ليصير دفعةً واحدةً الميرزا الملكي التبريزي، أو يصير المرحوم القاضي أو الملاّ حسين قلّي أو العلاّمة الطهراني!!
فهذا المرحوم والدنا الذي يفوق هذا الحقيرُ الآخرينَ ـ إلى حدٍّ ما ـ في الاطّلاع على أحواله وعلى خصوصيّاته .. كانت علاقته بأستاذه المرحوم الحدّاد رضوان الله عليه [على أساس ما ذكرناه من التربية]...
وقد سمعت بأنّه تمّ في أحد الكتب المطبوعة حديثاً إنكارُ مسألة أنّ المرحوم السيّد الحدّاد كان أستاذاً لوالدنا، فياله من كلام سخيف! وياله من كلام تافه! وياله من كلام واهٍ ومن دون أساس نسمعه! وأنا لا أعلم ما هو الدليل على إنكار هذه المسائل، فهل سيتنزّل المرحوم الوالد عن مقامه ومنزلته عند انتسابه لمثل هذه الشخصيّة؟ كان والدنا يقول: لقد كان أستاذنا الحقيقي في السير والسلوك هو المرحوم الحدّاد وحسب، هذا مع أنّه كان في البداية تلميذاً للعلاّمة الطباطبائي، وكان يأخذ منه البرامج والدساتير.. فحينما كان يحضر في قمّ درسي المنظومة والأسفار عند العلاّمة الطباطبائي، كان يأخذ منه في نفس الوقت برنامجاً ودستوراً، ويوجد حاليّاً في كتبه المخطوطة البرامج والدساتير التي كان العلاّمة الطباطبائي قد أعطاه إيّاها، وحتّى أنّه ذهب إلى النجف عند المرحوم الشيخ عبّاس هاتف القوجاني بأمر من المرحوم [العلاّمة الطباطبائي]، وقد طوى طريق السير والسلوك في السنوات السبع التي قضاها في النجف اعتماداً على برامج المرحوم [العلاّمة الطباطبائي] التي استفادها من الرسائل والمراسلات التي كانت تدور بينهما، وقد كانت له في نفس الوقت معرفة بكلّ من المرحوم السيّد جمال الدين الكلبايكاني والمرحوم هاتف القوجاني، كما كانت له علاقةٌ دامت لعدّة سنوات بآية الله الشيخ محمد جواد الأنصاري الهمداني، حيث تتلمذ على يديه، فجميع هذه الأمور قام بها، غير أنّه كان يقول لي ولبقيّة الأشخاص ـ وقد كرّر لي ذلك عدّة مرّات ـ : لقد كان أستاذنا الحقيقي والواقعي في السير والسلوك هو المرحوم الحدّاد! ومع ذلك يأتون الآن ويكتبون كتباً يقولون فيها: لا، لقد كانت علاقته بالحدّاد علاقة رفقة وصداقة ليس إلاّ.. فياله من كلام تافه! وياله من كلام رديء! وياله من كلام واهٍ!
هذا وقد شهدت بنفسي كيف أنّه كان في العديد من الموارد عُرضةً لتوبيخ أستاذه، فهل كان ينبغي عليه أن يقف في وجهه ويقول له: كيف أكون مورداً لمثل هذا لخطاب وأنا عالم، بل أنا الأعلم، وأنا الذي يُقام لي ولا يُقعد، وأنا الذي أمتلك هذه المنزلة والمقام والشخصيّة وأمثال ذلك؟! وحتّى أنّ الأستاذ كان يُوبّخ تلميذه في العديد من الموارد فجأةً ومن دون سابق إنذار أمام الملأ العامّ وبشكل عمدي!! ويتعامل مع الموضوع كأنّه شيء عادي.. لا تعتقد أنّه يوجد شيء ذي بال!
ولكنّ العلاّمة الطهراني بدلاً من أن يصطدم مع هؤلاء [أي أساتذته]، وبدل أن يُزعجهم، وبدل أن يشرع في الشكوى والعويل، وبدل أن يلجأ إلى التهجّم والطعن فيهم، فإنّه كان يرضخ ويقبل بتربيتهم له بكلّ شراشر وجوده، بل كان هو الذي يسعى إلى مثل هذه الفرص، وهو الذي كان يسعى إلى موقف يكون فيه عُرضةً للتوبيخ (وهذه مسألةٌ لها بحثها الخاصّ بها وتُبحث في محلّها).
أجل فتأتي كلّ هذه التوبيخات وهذه الانتقادات وهذه التنبيهات لتُصلح بالتدريج ذلك الأمر الذي يُعدّ أساس العمل، والذي قلت عنه في بداية الحديث أنّه منشأ الصلاح و الفساد.. ألا وهو القلب، فإذا صلُح ذلك، لم تعُد أيّ مشكلة في البين، وصلُح كلّ شيء. بخلاف ذلك الشخص الذي يأتي ويشرع في الجواب والسؤال والجدال؛ يأتي ويقول: يوجد إشكال هنا. فنجيبه : يا سيّدي، لقد قمت بهذا العمل لهذا السبب، حسن جدّاً، لكّنه يأتي غداً بإشكال آخر، ولا نهاية لهذا الأمر؛ لأنّ هذا العارف يؤدّي أعماله انطلاقاً من أفق خاصّ، بينما ينظر الشخص الآخر من أفق مغاير تماماً، ولا ارتباط بين هذين الأفقين من الأساس، ولذا تجد هذا الشخص يأتي كلّ يوم ويقول:
لماذا قمت بهذا العمل؟
فيجيبه الآخر: قسماً بالله وبرسوله و أوليائه، لقد كان فعلي لهذا السبب.
حسن جدّاً، فيُعيد الكرّة في الغد، وبعد الغد و...
فمتى ينتهي الأمر؟ متى تنتهي هذه الإشكالات؟ إذ يجب أن يأتي يوم وتنتهي فيه.
أمّا من كان مثل العلاّمة الطهراني فإنّه بدلاً من ذلك، يأتي ويشرع في إصلاح هذا الداخل، وعندما يتمّ ذلك، فإنّ الستار سيرتفع ولا يبقى أيّ إشكال، وعندئذٍ سيصير "العلاّمة الطهراني".. هذه هي حقيقة الأمر!
وعليه، حينما يقول الإمام السجّاد عليه السلام: عظُم يا سيّدي أملي وساء عملي، فإنّ ذلك لم يكن اعتباطاً؛ فهو عليه السلام يُريد أن يقول: لقد تذوّقنا من ذلك الآش، وبقي طعمُه في فمنا، فلا نستطيع أن نبلعه (لأنّه ساخن ويحرق الفم)، ولا نستطيع أيضاً أن نغضّ الطرف عنه! فما هو هذا الشيء الذي تذوّقه؟ وما هي حقيقة المسألة ليأتي الإمام ويقول: مهما كان العمل الذي قمت به، فإنّه لن يكون جديراً بالوصول إلى هذا الأمل.. "ساء عملي".. أي أنّ عملي قاصر ولا طاقة له، فإذا كان الأمر بهذا الشكل، ما الذي عليّ أن أفعله يا إلهي، فقد صرت عاجزاً؟! فلو أنّك لم تعطني هذا الفكر وهذه الرغبة وهذه الفطرة لكان الأمر سهلاً، ولكن بما أنّك أعطيتني هذه الرغبة والفطرة والعقل والمنطق، وهذه المسائل و هذه الظهورات المتعدّدة وكلّ هذه الأمور، وبما أنّك أذقتني بعض الأشياء... وسنتعرّض إن شاء الله تعالى في ليلة أخرى لبعضٍ من هذه الأشياء التي أذاقها الله تعالى له، ونذكر ما هي الأشياء التي يقول عنها مولانا السجّاد: يا إلهي، أنا لا أستطيع أن أرفع يدي عنها!
في يوم من الأيّام عندما كنت صغيراً، قلت لأحد الأصدقاء ـ رحمة الله عليه، فقد انتقل إلى رحمة الله ـ : يا فلان (وقد كان يمتلك بعض الحالات المختصّة به)، ما هي الحالة التي تحصل للإنسان عندما يكون في حال الوجد وغير ذلك من الأمور التي يتحدّثون عنها؟ (فقد كنّا صغاراً، ولم نكن نفهم شيئاً من هذه الأسئلة، [يبتسم سماحة السيد] والآن مازلنا كذلك...) .فقال لي: ماذا أقول لك؟ ماذا أقول لك؟ سوف أحدّثك عن نزرٍ من هذه الأشياء التي يمنحوننا إيّاها في بعض الأحيان، وليس عن كلّها: تحصل لك حالة يأخذك فيها الوجد بجميع شراشر وجودك من أخمص قدميك إلى شعر رأسك، ويكون هذا الوجد بحيث أنّهم لو أخذوا مقدار رأس إبرة منه ووزّعوا اللذّة والبهجة الحاصلتين منه على العالم برمّته، فإنّ الهمّ والغمّ سيزولان عن جميع الناس!! هذا وأنا لم أحدّثك إلاّ عن القليل. فقلت له: حسناً، اللهمّ ارزقنا، فنحن لا نفهم شيئاً من هذه المسائل.
ما هي حقيقة الأمر؟ وما هي هذه الخصوصيّات؟ وأيّ حالة هذه؟ وأيّ عالم هذا؟ وأيّ عشق هذا؟ وأيّ سرور هذا؟ وأيّ انبساط هذا؟ وأيّ ابتهاج هذا لكي يأتي ويقول: لو أنّهم وزّعوا مقدار رأس إبرة منه على العالم برمّته لأخذ الوجدُ الجميع، ولارتفعت كلّ الغصص والكدورات والهموم وانزاحت وانعدمت. ولهذا فإنّ مولانا السجّاد عندما يقول: «عظُم يا سيّدي أملي»، فذلك يعني أنّني اطّلعت على شيء عظيم جدّاً، وليس من قبيل الجنّة والحور وأمثال ذلك، بل شيء آخر، فالمسألة هي من نوع آخر.
حسناً، بما أنّ المسألة هي من نوع آخر، فلنكِلها إن شاء الله إذاً إلى مناسبة أخرى نكون فيها بوضعيّة أفضل ونتوفّر فيها على مجال أحسن إن شاء الله.

اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد.


[1] ـ الآش نوع مشهور من أنواع الحساء المشهور في إيران

[2] ـ جزء من الآية 30 من سورة الروم

[3] ـ مثل فارسي أصله (دايه از مادر دلسوز تر)

[4] ـ ذيل الآية 72 من سورة الأحزاب

[5] ـ صدر الآية 78 من سورة النحل

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی