معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1433 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1433 هـ - الجلسة الخامسة: التناسب بين الهدف والطريق

_______________________________________________________________

هو العليم

سلسلة شرح دعاء أبي حمزة الثمالي للعام 1433 هـ

المحاضرة الخامسة:
العارف والتناسب بين الهدف والطريق

ألقيت هذه المحاضرة في الليلة السادسة والعشرين من ليالي شهر رمضان المبارك لعام 1433 هـ

ألقاها:

سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني

حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
و صلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد
و على آله الطيبين الطاهرين
و اللعنة على أعدائهم أجمعين

    

مقدّمة

«عظم يا سيّدي أملي وساء عملي، فأعطني من عفوك بمقدار أملي ولا تؤاخذني بأسوأ عملي»
إن أملي يا سيّدي ومولاي لعظيم غاية العظمة، وفي المقابل، أعمالي وفعالي ليست مناسبةً له، وبما أنّ الأمر كذلك، فمُنّ عليّ بأن لا تتعامل معي بما يقتضيه عملي، ولا تلتفت إلى ما يصدر منّي، بل تعامل معي على أساس الأمل الذي أمتلكه، لا العمل الذي قمت به؛ لأنك إن أردت أن تنظر إلى فعالي وأعمالي وتصرّفاتي فلن يبقى شيء أبداً، إذ لا تناسب بين أفعالي وتصرّفاتي وبين ذاك الأمل والهدف وتلك الغاية التي أرمي إليها، ولا ارتباط بينهما أساساً.
وإذا وفّقنا الله تعالى سوف نبيّن مسألة عدم التناسب هذه في الليالي القادمة؛ وأنه لماذا كانت غاياتنا وأهدافنا وما نريده ونقصده ونسعى إليه غير مطابقة لأفعالنا، وبالطبع ليس جميعنا كذلك، وسوف يتبيّن عندما نذكرها لكم كم نحن مدّعون ادعاء باطلاً، وما هو مقدار التطابق بين ما ندّعيه وبين الواقع وحقيقة الأمر؟
خوش بود گر محك تجربه آيد بميان
                             تا سيه روي شود هر كه در او غش باشد
(يقول:
اصبر لخطب الابتلا والمعتركْ
                             كي يفتضح غشّ الفتى عند المحكْ)

    

الطريق الصحيح: النظر إلى النفس على أنّها أداة ووسيلة

نسأل الله تعالى أن يخلص نوايانا، ويجعل هدفنا ذاته تعالى.. والعجيب أنه كيف أوضح لنا العظماء الطريق الصحيح بأفعالهم وتصرّفاتهم.. وقد ذكرت لكم في الليالي السابقة قصة السيّد القاضي رضوان الله عليه [عندما حطّم اللوحة التي كتب فيها اسمه].. فإنّ كلا التصرّفين كان صادراً من شخصيّتين، وكلّ منهما كان عالماً؛ لكنّ أحدهما من أهل المعرفة، بينما الثاني لا نصيب له من المعرفة، وإن كان عالماً وفقيهاً وكبيراً وو... أحدهما عندما يرى أن اسمه دُوّن أعلى المبنى يحمل معولاً ويحطّم تلك الأحجار المكتوب عليها اسمه ويرميها.. يقول: ماذا يفعل اسمي هنا؟ ماذا أكون أنا؟ ما هي شخصيّتي وشأني في المقام وموقعيّتي؟ لقد كان واسطة فقط.. إذا فرضنا مثلاً أنك أعطيت مالاً لصديقك كي يوصله إلى فلان.. أو تعطيه إلى خادمك.. فعندما يوصله إليه يمنّ عليه ويقول له: انظر لقد أنجزت عملك.. والحال أنه لم يقم بشيء سوى أنه ركب دراجته النارية وذهب بها... نعم الآن صار البنزين غالياً فيقول له لقد صرفت قدراً من البنزين لأجلك.. [ضحك] لكن إن كان قد ركب الحمار فلن يصرف شيئاً من البنزين عندئذٍ... فإن كنت قد ركبت حمارك وذهبت وأوصلته إلى ذاك الشخص.. فلماذا تمنّ عليّ وتنسب المال إلى نفسك، ولماذا تضع اسمك فيه؟ ولماذا تذكر ذلك؟ من أنت؟ أنت لست إلاّ عاملاً وواسطة في المقام، ليس إلا. وذاك الذي أعطى المال ـ مع غضّ النظر عن أنّ العلّة الأساسيّة هي الله ـ هو المصدر لهذا المال، وهو الذي أعطاه.. أمّا أنت فلم تقم بشيء سوى أنك ركبت مركبك وأوصلته إلى مورده فقط. هل المسألة غير هذا؟ فأنت عندما تقول: ما لم يكتب اسمي أعلى المبنى لن أدفع شيئاً.. من أين أتيت بهذا المال؟ هل جئت به بعملك وجهدك، ما الذي قمت به؟ فلو لم يأت شخص إليك ويعطِكَ هذا المال، لما أمكنك أن تتحدّث بهذا الكلام.. فما هو دورك في المقام؟ ما لم يلقِ الله تعالى في ذهنه أن يأتي ويعطيك هذه الأموال، لما كان لديك شيء.. فلماذا تنسب الأمر إلى نفسك وتتفاخر به؟ ولماذا تجعل لنفسك حساباً في هذا الأمر؟ لماذا لا تنظر إلى ذاك الأصل والمبدأ؟ ولماذا لا تنظر إلى مسبّب الأسباب، لماذا لا تتوجّه إلى علّة العلل؟ هذه الأمور كلها بسبب الجهل.. وإن كان الادّعاء كبيراً، لكنّه جهل.
العارف أو وليّ الله يقول: انظر إلى الحقيقة، لا إلى الظاهر، لا تنظر إلى الواسطة والوسيلة..
انظروا إلى دعاء أبي حمزة.. نرى أنّ الإمام السجّاد عليه السلام قد أتى بمعجزة فيه.. فمعجزة الإمام السجّاد عليه السلام ليست شقّ القمر وردّ الشمس، فهذه الأمور يمكن أن تصدر من صغار تلاميذ مدرسته.. لا أريد أن أكشف أسراراً هنا حتى لا يقال... نعم هذه الأعمال تصدر من صغار هذه المدرسة.. من يكون في الصف الأوّل فيها.. لكنّ معجزة الإمام السجّاد هي دعاء أبي حمزة الذي يقلب الإنسان رأساً على عقب، الذي يبيّن لنا الطريق الصحيح.. فأين تذهب أيها الجاهل؟! لقد درست لمدة عشرين ثلاثين سنة.. فلماذا لا تزال دون فهم؟ إلى متى ستبقى غارقاً في هذه الوسائط دون أن تنظر إلى ذاك المبدأ والأساس؟ ولا تحسب لتلك الحقيقة حساباً؟ إلى متى؟ أين ذهبت روايات الأئمة عليهم السلام؟ وماذا حصل بهذا الدعاء؟ وأين صار كلام الأئمة عليهم السلام؟ وأين ذهب ما رأيته بأم عينك؟ رأيته بنفسك.. لقد رأيت بنفسك العظماء والأقوياء والجبابرة وغيرهم.. أين ذهبوا؟ أولئك الذين كانوا يضعون الآلاف من الحرّاس المسلّحين حتّى لا يأتيهم عزرائيل... يا عزيزي يمكن لعزرائيل أن يدخل من خلال هؤلاء، حتى لو كانوا متراصّين تماماً. كما هو الحال في ذبذبات الراديو، فحتى لو كان هناك عوائق يمكن لذبذبات الراديو أن تخترقها وتصل إلى ما وراءها، بل يمكن أن تخترق الجدار أيضاً.. جناب عزرائيل مثل الذبذبات يخترق الموانع.. لا كما تظنون.. فإذا وضعت حارساً بجانبك ووضعت مدفعاً ليدفع عنك الموت وصاروخاً كذلك.. فإن عزرائيل يخترقها جميعاً ويصل إليك.. فهو يعرف الصاروخ ويعرف المضادّ له..
فالصواريخ التي يتم تصنيعها اليوم، يصنع في المقابل ما يضادّها.. فعندما يوجّه الصاروخ إلى بلد معيّن يطلق عليه صاروخ مضادّ له، فهذا يصنع صاروخاً وذاك يصنع مضاداً له وهكذا... أو يقوموا بحرف الصاروخ عن هدفه عبر إيجاد تشويش في نظامه... وجناب عزرائيل لديه مضادّ للصاروخ ومضادّ للرصاص ومضادّ للتشويش ومضادّ لكل شيء.. تطلق عليه صاروخاً أو رصاصاً، يقابله بالمضادّ الذي لديه !!
كان لدينا أستاذ خبير بالعلوم الغريبة رحمة الله عليه، فقد درست لديه الكثير من دروسي، وكان رجلاً جيداً، من أهل الصفاء والطيبة والإخلاص، رحمة الله عليه وعلى جميع من له علينا حق في بيان طريق الحق من الضلال من الأولياء والعرفاء ومن أيّ كان، ونسأله أن يجعلهم ينعمون على مائدة أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّ كل ما هو موجود هو هناك فقط، وغيره ليس شيئاً.. قال لي يوماً: أتاني شاب يريد أن يذهب إلى الجبهة ـ ولم يكن يذكر هذه الأمور لكلّ شخص بل كان يذكر ذلك لي بالخصوص ـ وطلب منّي حرزاً، وقال لي: إنّ أمّي وأبي خائفان عليّ كثيراً.. فتناولت ورقة وكتبت عليها شيئاً وأعطيته إياها، وقلت له ضعها في جيبك.. وذهب ذاك الشاب إلى الجبهة وكان في الخطوط الأماميّة للمعارك، وقال كان الرصاص عندما يصل إليّ ينحرف عني.. وكنت أرى قذائف الدبّابات متوجّهة إليّ وعندما تصل إلى قربي كانت تنحرف باتّجاه آخر [يضحك سماحة السيّد]... وكانت قذائف الهاون تصل إلى فوق رؤوسنا فتنحرف إلى ذاك الصوب.. والحاصل أنّنا كنّا كذلك، ومن كان معي كانوا يستفيدون من تلك البركات [ضحك]... إذ بعضهم يرى أنّ الفيض والفائدة في ذلك وبعضهم في الجانب الآخر..
عزرائيل يعرف حرف الرصاص جيداً.. يعرف جميع هذه الأمور.. فممّن نريد الفرار؟ لماذا لا ننظر إلى ذاك الأصل وتلك الحقيقة؟ إلى أيّ حد انغمسنا في الكثرات؟ كم غمسنا رأسنا في هذه الكثرات حتى لم تعد عيوننا قادرة على رؤية حقيقة التوحيد تلك.. فقد ركّزنا على هذه المظاهر واعتمدنا عليها وعلى هذه المسبّبات والمعلولات إلى حدّ أنّ حقيقة الأثر ذهبت من وجودنا أساساً، واضمحلّت حقيقة السبب من أمامنا، بل لم نعد نستطيع التفكير هل الله موجود أم لا؟ واقعاً عندما نرى ما يفعله بعضهم نتساءل في أنفسنا: هل هؤلاء يؤمنون بالله أيضاً؟ هل يقوم شخص يؤمن بالله بهذه الأعمال؟ هل يعرف هذا الرجل الله؟ وهل يعرف حقيقة باسم الله؟ فهل يمكن لشخص يؤمن بالله وباليوم الآخر وبالملائكة، ويؤمن بأن هناك ملكين يكتبان ما يصدر من الإنسان.. هل يمكن تصوّر شخص هذا اعتقاده يتصرّف هذا التصرف؟
هؤلاء العظماء هم الذين أرشدونا إلى الطريق الصحيح، لقد أوضح العرفاء لنا حقيقة الأمر، وهذا ما بيّنه لنا أولياء الله.. هؤلاء هم الذين لفتوا انتباهنا وحذّرونا: إياكم أن تقعوا! إياكم أن يشغلكم الأشخاص المحيطون بكم ويحرفوكم عن ذاك المبدأ والهدف الأصلي.. لا تتركوا ذاك المبدأ وتلك العروة.

    

تأثير إبليس تدريجيّ وليس دفعة واحدة

عندما يأتي الشيطان لا يأتي دفعة واحدة، بل يأتي تدريجياً؛ بحيث أنّك لا تشعر بحصول التغيّر والتبدّل الذي يطرأ على وجودك، لا تشعر بأنك تتغيّر، لكن عندما يمرّ شهر، ترى العجب ـ وقد ذكرت هذا الأمر للإخوة مراراً ـ إذ سابقاً كنتَ تقبل هذا الكلام بسرعة، لكن لماذا تتأمّل فيه الآن؟ ولو أنّ أحدهم طرح عليك إشكالاً أو انتقاداً في السنة الماضية، كنت تقول له: صحيح، فهذا الانتقاد يرد عليّ، أما الآن فتجيب: هل أنا الذي لديّ إشكال، أم أنك أنت الذي تتكلّم بكلام غير صحيح.. ها؟! ما الذي حصل هنا؟ وما التغيير الذي حصل من السنة الماضية إلى الآن؟ والحال أنه يطرح نفس الإشكال والإيراد السابق، لكن في السابق كنت تتعامل معه بشكل إيجابي، أما الآن فتتعامل معه بشكل آخر، وتحاول أن تردّه، فالآن أصبحت تكنّ العداء للشخص الذي يبيّن لك موارد الإشكال عندك.. ها! هذا هو الخطر!! إذ أنّك في السنة السابقة كنت تفرح عندما ينتقدك ويبين لك إشكالاتك، وتسارع إلى الاعتذار والتصحيح، بينما الآن أصبحت ترفض ذلك وتجيبه، وإن لم يكن لديك جواب حاضر، تفكّر في تأليف جواب لإسكاته.. فعندما تأوي مساء للنوم تفكّر في الجواب عليه، وعندما تنهض للصلاة يظلّ فكرك مشغولاً بذلك.. تقول أريد أن أجيبه جواباً كي أعلّمه أن لا يعود يوجّه أيّ إشكال أو انتقاد إليّ؛ فقد أهانني بين الناس بانتقاده إيّاي... فيبدأ بوضع الجواب وتأليفه.. يا أخي بدلاً من أن تعمل على إيجاد جواب اعمل على إصلاح نفسك.. فهو أفضل وأقرب إلى المراد..
كيف حصل هذا الفارق بين تلك الحالة وهذه الحالة؟ وما الذي جرى حتى حصل ذلك؟ ما الأمور التي حصلت حتى تغيّر تعاملنا في مسألة واحدة بين السنة الماضية وهذه السنة؟ كلّ ذلك بسبب الشيطان.. جميع هذه الأمور هي من النفس..

    

أقسام الناس في التعامل مع العيوب المهداة

لقد كان العظماء يوجّهون ملاحظات للآخرين، وكنا نشاهد ذلك منهم.. فقد كان رفقاء المرحوم العلاّمة على قسمين: قسم كانوا يعملون على إصلاح أنفسهم عندما يوجّه إليهم تنيبهاً أو إشكالاً، إذ عندما يتم انتقادنا ينبغي أن نرى ما المسألة.. وكيف تحل؟ فمن جملة وظائف العارف وولي الله والمربّي أن يتكلّم ويبيّن أخطاء الشخص، لا أن يبقى ساكتاً.. فإن وجد نقصاً وعيباً عليه أن يبيّنه، إذ لا يصل إليه شيء سواء بيّنه أم لا، فإن أصلحته فأنت المنتفع، وإلا فارتكب هذا العيب ما بدا لك، فأنت المتضرّر.. إذاً على الوليّ أن يبيّن ويقول بالإشارة والكناية أو بالصراحة إن كانت الصراحة ضروريّة.. فهذا هو تكليفه. فإن كان هناك شخص منحه الله بصيرة وتوفيقاً وهمّة يأخذ بهذا الكلام ويعمل به وهو الذي ينتفع ويصل إلى الصلاح والسعادة، وينتقل من مرحلة إلى مرحلة أخرى.
أمّا القسم الآخر ـ نسأل الله أن لا يجعلنا منهم ـ فيقولون: هذا الذي بيّن أنّي أخطأت هنا؟ لماذا فعل ذلك؟ أليس غيري يقوم بما أقوم به؟ فلماذا لم ينبّههم؟ فيقال له ما دخلك أنت بالآخرين، أليس هذا النقص والعيب فيك؟ فإن كان فيك فاذهب وأصلح نفسك! وإن لم يكن فيك عيب فقل: هذا العيب ليس فيّ.. لكنه عندما يرى أنّ هذا العيب موجود فيه تبدأ نفسه بالوقوف في وجه القبول بهذا الإشكال والانتقاد.. هذه هي المسألة. وعندما تصل المسألة إلى هنا، لا يستطيع أن ينكر عيبه والنقص الموجود فيه، فينتقل إلى الآخرين ويقول: الآخرون لديهم هذا العيب.. فلماذا اخترتني من بينهم؟ لماذا لا تذهب وتبيّن عيوبهم أيضاً؟ فهذا الكلام الذي تؤاخذني عليه قاله فلان أيضاً في ذاك المجلس.. فلماذا لا تعترض عليه أيضاً؟
لكن ما شأنك أنت بذلك؟ ألم تقم أنت بهذا الفعل؟ ألم تأت إلى هنا لتخضع للتربية؟ فما شأنك بأن يعترض على الآخرين أيضاً، إذ قد لا يريد ذاك الرجل أن يخضع للتربية، فهل أنت قيّم وولي ذاك الذي ارتكب هذا الفعل؟ هل لديك هذا العيب أم لا؟ إن لم يكن لديك هذا العيب، فقل ليس لديّ هذا العيب، أمّا إن كنت تقرّ به، فما دخلك أنت بالآخرين؟ هنا تأتي النفس حفظاً لمكانتها، وإبقاءً على مكانتها المفتعلة والكاذبة أمام الآخرين، والتي لا تريد أن تنكسر.. تأتي وتبدأ بقلب المسائل وتحويرها.. تذهب هنا وهناك، وتقول لماذا اعترض عليّ فقط دون الآخرين؟ ألم يرَ العيب في الآخرين أيضاً؟ هكذا تفعل النفس في قلب المسائل.. إلى أن تصل الأمور إلى طبع إعلانات ونشرها مرّة تلو الأخرى، ثم ينتقل بالذهاب إلى المنازل والتحدّث بهذه الأمور.. انظروا هذه النفس.. فيقول يتحدّثون عنّا هكذا وهكذا، فما نفعل؟ إذ نحن غير موفّقين ـ والحال أنكم غير موفّقين فعلاً ـ لكن لا ندري لماذا حصل ذلك هنا، أمّا هناك فلا، فهو يقوم ويتّصل ويدور في المحالّ ويلتقي بالناس.. إن كان لديك اعتراض فاجلس في مكانك، وأما الذهاب إلى هنا وهناك فأيّ مرض هو وأيّ داء؟! وما أقوله لكم الآن رأينا منه الكثير في زمان المرحوم العلاّمة وأستاذه، وقد رأينا من الملفّات ما يملأ الغرفة إلى سقفها.
وهناك قسم آخر يأتون ويتّخذون موقفاً من هذه المسألة، يقولون: كلاّ.. من أين نعلم أنّ هذا صحيح؟ وقد حصلت لنا بعض المسائل، وليس الأمر كما يقولون، وعلينا أن نفكّر أكثر، يقولون جيّد نحن نسأل الله أن يوفّقكم ولكن نحن لا توفيق لدينا، وهكذا يقولون: حسناً حسناً وكلاماً من هذا القبيل... ولكن ما هو منشأ هذا الكلام؟ منشؤه هو أنّ هناك مشكلة في موضع ما، هناك ضرر أصاب نفس هذا السيّد، لقد حصل تجاوز وانتهاك لحرمة السيّد، لقد تُعدّيَ على مكانته، لقد نيل من شخصيّته، أفهل أتيت إلى هنا لتحصّل لنفسك شأناً يا عزيزي! أم لتحصّل شخصيّة ومكانة، فإن أردت ذلك فاجلس بعيداً واذهب إلى أماكن أخرى لتحصيلها، اذهب إلى أماكن تفيد فيها الشخصيّة والشأن، اذهب إلى حيث يصنعون الشأن والشخصيّة.. يجعلون الاعتباريّات مقياساً بدلاً من الحقائق.. يجعلون الحقائق تحت أقدامهم، يظهرون الباطل بمظهر الحق، فاذهب إلى هناك حيث يقبل كلامك هذا، أمّا هنا فإنّهم يضربون شأنك ويسحقون شخصيّتك، وكلّ ما بنيته يدمّرونه، وكل ما ربّيته بين الناس ونفخته شيئاً فشيئاً حتّى صار بالوناً بحجم الفيل فإنّهم ينفّسونه ويجعلون فيه سيخاً يجعله يهبط ويخرج كلّ ما في داخله من هواء. فلماذا لم تذهب إلى هناك، لماذا اشتبهت وأتيت إلى هنا؟ ما دمت ناوياً أن تصنع من نفسك بالوناً بحجم الفيل فلماذا أتيت إلى هذا المكان؟ ولو أنّك ذهبت إلى مكان آخر لكانوا صنعوا منك حوتاً بدلاً من الفيل. ولكانوا نفخوا فيك مقداراً أكبر من الهواء... أما هنا فليس الأمر كذلك فلماذا ضللت الطريق وأتيت إلى هذا المكان؟ وهذا كلّه في سياق تفسير جملة «عظم يا سيّدي أملي»، فنحن عندما ندرك المراد من هذه الفقرة وما هو المقصود من هذه العظمة نعضّ على أيدينا ندماً وحسرة على إهمالنا وتفريطنا ونكراننا، أن إلى أين كان يدعوننا هؤلاء الأولياء وفي المقابل أين نسير نحن؟ هل نيّتنا هي نفس نيّة الإمام السجّاد؟ هل هدفنا وغايتنا ومقصدنا هو ما تحدّث عنه الإمام عليه السلام هنا بأنّه هدف عظيم حيث قال: «عظم يا سيّدي»؟ فما هو الشيء العظيم الذي تحدّث عنه الإمام السجّاد عليه السلام؟

    

عظمة الهدف في مسير العرفاء وسهولة إدراكه

لذا فنحن عندما ننظر نجد الأمر واضحاً، فهذا المسير هو المسير الذي فيه إخلاص، الذي فيه صدق، الذي فيه أمانة، الذي فيه توحيد، الذي فيه صفاء، هو الطريق والمدرسة التي تحتوي كلّ ذلك. أمّا إذا نظرنا إلى ذاك المسير فنجد فيه الأنانيّة، ومحوريّة الأنا والدعوة إلى الذات، والانغماس في الكثرات والانغماس في الأهواء الدنيئة و النفسانيّات، وهذا واضح ولا يحتاج إلى علم الرمل والاسطرلاب، اذهبوا إلى منزل المرحوم الوالد في مشهد، والذي كانت تقام فيه مجالس العزاء ما بين الطلوعين، ألم أحدّثكم أنّه كان يشرع ما بين الطلوعين وينتهي بعد ساعة من شروق الشمس؟ فقد كان هذا المجلس قد أسّس على أساس أن من يستطيع أن يأتي إليه مبكّراً يجد لنفسه مكاناً، ومن يأتي متأخّراً لم يكن يجد مكاناً. ومهما كنّا نقول للمرحوم العلاّمة: لنبن طابقاً علوياً يسع الناس، فإنّه كان يقول: لا، فهذا يكفي، ومن أراد أن يحضر المجلس فليأت مبكّراً، ولا نبني طابقاً جديداً. وهذا ما أجبر بعض علماء مشهد من الذين كانوا يختلفون عن المرحوم العلاّمة في رؤيته ومعتقداته، على أن يعترفوا بأنّ المرحوم السيّد محمّد حسين الطهراني هو الوحيد الذي فاق الناس في قصد القربة والإخلاص، لقد كانوا يقولون ذلك، وقد سمعته منهم في ذلك الزمان، ولن أذكر اسم القائلين، فقد توفّوا، فمنهم من كان يقول لي ـ وهو رجل مشهور ومدرّس معروف ولديه العديد من الطلاّب وكان من الفضلاء، وكان زميلاً للمرحوم العلاّمة في النجف ـ كان يقول لي: يا فلان ـ وكان بيني وبينه علاقة ـ ليس في مشهد كلّها رجل مثل أبيك في الإخلاص وصدق النيّة، وهذا اعتراف منه كان هو يتفوّه به قائلاً: الجميع يجعلون مجالسهم بعد طلوع الشمس أو في الليل أو وقت العصر، إلاّ أنّ أباك يجعل وقت مجلسه بين الطلوعين، فمن أراد أن يأتيه يأتي ومن لا يريد لا يأتي، وبعد ساعة ينتهي المجلس. فمن الذي يمكنه أن ينكر ذلك؟! ليس الأمر خافياً على أحد، وليس هو بالرمز الذي لا يمكن حلّه، بل يكفي لأن يشارك الإنسان في هذا المجلس يومين أو أسبوعاً أو شهراً كحدّ أقصى ليدرك أنّ الأمر هو كذلك، وليعرف مستوى الإخلاص و الصدق. وليدرك هل هذا الشخص هو مخلص أم لا، هل هو صادق أم لا؟ هل ينظر إلى العدد أم لا؟ هل ينظر إلى ما يخبر عنه في الراديو والتلفزيون والصحف أم لا؟ هل ينظر إلى عدد الحضور والشعارات التي يطرحونها أم لا؟ الناس يشخّصون هذه الأمور، فهم لم يأكلوا التبن والشعير.. يمكنهم أن يشخّصوا.
الأولياء والعظماء إنّما أتوا ليبيّنوا لنا هدفنا ويصحّحوا نوايانا، لنعمل على إخراج ما اختلط، وتصحيح النيّة وتصويب السير نحو الهدف المطلوب والمقصد الصحيح.. إذ ما هو الطريق الذي تريد أن تطويه، وما هو مقصدك وهدفك، وما هو المطلوب الذي تبحث عنه؟ أولاً عليك أن تصحّح هذه الأمور، ثم ابدأ بالسير.. حتى لا يكون هناك تعارض بين سيرك ومقصدك.

    

خلاصة ما يريده الإمام السجّاد من قوله عظم يا سيّدي أملي

فالإمام السجّاد عليه السلام في قوله: «عظم يا سيّدي أملي وساء عملي» يريد منّي أن لا أختار طريقاً بعيداً عن المقصد عندما أريد الشروع في السير إليك يا ربّ؛ كأن يكون مراد إنسان ما الذهاب إلى طهران فيسلك طريق شيراز الذي يقع في الجهة المقابلة تماماً، فهذا الطريق لا يوصل أبداً إلى ذاك الهدف. أو أن يكون مراده الذهاب إلى مكان فيختار الطريق المعاكس له تماماً، فهذا الشخص لا يمكنه الوصول أبداً. لذا فقد أتى العرفاء لأجل أن يحصل توافق بين النيّة والعمل، وأن يطابق بينهما.
فضلاً عن أن بعض الأشخاص ـ كما سنبيّن ذلك في الليالي الآتية ـ لا يريدون أساساً الوصول إلى ذلك المقصد، يقولون نحن نريد أن نبقى هنا في هذا المكان. فما الذي ذكره الإمام الحسين عليه السلام ليلة عاشوراء لعمر بن سعد، قال له ما الذي تريد؟ ما الذي تريده من هذه الدنيا حتى أعطيك إياه؟ إذا أردت الجنّة أعطيك الجنّة، وإذا أردت ممتلكات أعطيك مزرعة في المدينة، إذا كان عليك دين فأنا أدفعه عنك، ما هو الشيء الذي تريده، وما هو غرضك حتى عبّأت هذا الجيش، لماذا أتيت؟ لقد ضمن الإمام هناك الجنّة لعمر بن سعد، وعمر بن سعد كان على يقين بأنّ ما يقوله الإمام الحسين صحيح وحق، ويقسم على ذلك حتماً. لكنّه في نهاية المطاف قال له: لا يمكنني أن أتنازل عن ملك الري، فقال له الإمام لن تأكل من قمح الريّ شيئاً، فأجابه مستهزئاً: يكفيني شعيرها. عندما ينقلب قلب الإنسان يبدأ بالاستهزاء بالإمام أيضاً.. هل التفتم؟ يقول إذا حصلت على شعيرها كفاني.. يعني يأتي ويقتل الإمام عليه السلام وابن النبي ومن يمتلك مفتاح الجنّة والنار ومظهر تنزيل وتكوين وتحقيق إرادة الله في عالم الوجود.. هل يمكن لأحد أن يعمل عملاً مخالفاً لإرادة الإمام الحسين؟ وهل يمكن لخازن جهنّم ورضوان الجنّة أن يعملا شيئاً مخالفاً لإرادة الإمام الحسين؟ من بيده جميع مقاليد الدنيا والآخرة يقول له: أنا أضمن لك الجنّة. فيقول له: أنا أريد الحكومة.. يريد الحكومة حتى يقال: فلان صار حاكماً.. إذا صار الإنسان حاكماً ورئيساً فما هو المقدار الذي يزيد فيه؟ علينا أن نفكّر في هذه المسألة.. أنا لست حاكماً، ولن أكون إن شاء الله.. فإذا فرضنا أنه أتانا غداً تعيين وقالوا لنا: أيها السيّد الطهراني لقد صرت حاكماً في المكان الفلاني.. فهل يضاف على وزني شيء؟ كلاّ لا يضاف غرام واحد، اختبروا الأمر بأنفسكم، زنوا أنفسكم غدا، وبعد ساعة يأتي أمر تنصيبكم في المكان الفلاني.. عندما يأتي الخبر بذلك تصل بسمتنا إلى أقصاها هذا أولاً، ثم ننتقل إلى الميزان حيث نظن بأنّ وزننا صار مضاعفاً.. فقد صرت الحاكم [ضحك]... صرت المسؤول، صرت المختار على القرية... كلاّ يا عزيزي لم يزد وزنك شيئاً، بل بقيت كما كنت تماماً.. الذي أضيف هو داخلك، أيها التعيس والسيّئ الحظ، لقد ازداد داخلك، وخسرت كل شيء بهذه الإضافة التي حصلت لك. لو لم تكن تخسر لما حصلت لك هذه الإضافة، ولو لم تخسر الواقعيّة التي لديك لما أضيف عليك شيء، لكن بما أنك تخلّيت عن الحق فقد ازدادت نفسك.. ازداد داخلك؛ وذلك لأنك تخليت عن إنسانيّتك وتخلّيت عن عبوديّتك وتخلّيت عن شرفك، لأنك تخلّيت عن كلّ شيء.. واه واه.. إلى متى نبقى جاهلين؟ بما أنك تخلّيت عن جميع هذه الأمور عظمت نفسك وصارت كمثل فيل عظيم، لكنه فيل من الهواء يمكن أن يتقلّص بمجرد أن تصيبه إبرة.. فعندما يذهب لتولّي المسؤوليّة يأتي أمر عزله مباشرة.. هل عزلت من منصبي؟ نعم لقد عُزلت دون علمك... هذا هو التخلية من الهواء [ضحك]... هل كنت مجبوراً بأن يجري عليك ما جرى؟ فلو لم تكن قبلت من أول الأمر لكنت حافظت على استقلاليّتك في كلتا الحالتين. هذه الأمور كلها بسبب الطريق المعوجّ الذي نسلكه، بينما العارف يقول عليك أن تسلك الطريق الصحيح.. لو جئت والتزمت بمبادئ وليٍّ من الأولياء لما كنت تحركت في كلتا الحالتين من مكانك، لكن بما أنّك لم تكن تحت تربية ولي، وبما أنك لم تتحرك على أساس مباني الولي وعلى أساس مباني الحق والولاية.. فمن الطبيعي أن يسيطر الشيطان على تلك النفس التي كانت في وضعيّة معيّنة في السابق، ويغيّر مسارها إلى أن تصير في وضعيّة مختلفة.
إن شاء الله تتمّة المطالب والمسائل ـ لولا البداء إذ لا بدّ أن نلاحظ هذه المسألة دائماً فإن إرادة ومشيئة الله تعالى أعلى ممّا نريد ـ تتمّتها إن شاء الله في الليالي الأخرى.
اللهّم صلّ على محمّد وآل محمّد.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی