معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1433 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1433 هـ الجلسة السابعة: رفع الأمل إلى أعلى مستوى

_______________________________________________________________

هو العليم

سلسلة شرح

دعاء أبي حمزة الثمالي

للعام 1433 هـ

رفع الأمل إلى أعلى مستوى

المحاضرة السابعة

ألقيت هذه المحاضرة في الليلة الثامنة و العشرين من ليالي شهر رمضان المبارك

 

ألقاها:
سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه اللـه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
و صلّى اللـه على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين
ولعنة اللـه على أعدائهم أجمعين

    

ضرورة الارتقاء بالأمل إلى أعلى الحدود

«عظم يا سيّدي أملي وساء عملي، فأعطني من عفوك بمقدار أملي ولا تؤاخذني بأسوأ عملي»يقول عليه السلام: إنّ أملي وأمنيتي ومقصودي وهدفي يا سيّدي ومولاي عظيمٌ جداً، ولكن عملي سيّء وتصرّفاتي قبيحة، فأعطني من مقام عفوك وكرمك بمقدار أملي، ولا تعطني أقلّ من ذلك، فلا تنظر إلى عملي السيّء، ولا تأخذه في الحسبان، بل أعطني بمقدار أملي، ولا تؤاخذني بعملي السيّء ولا تعاملني بعدلك.
حسناً.. في الليالي الماضية، تحدّثنا عن هذا الطلب الذي يطلبه حضرة الإمام السجّاد عليه السلام، والأسرار الموجودة في هذا النحو من الطلب وهذه الطريقة من التخاطب، وبيّنا بعض المطالب للإخوة الأعزّاء، وقلنا: إنّ الإمام السجّاد عليه السلام قد أتمّ المطلب بشكل كامل في هذه الفقرات، وعرض فيها بشكل واضح ما يطمح إليه العبد ويطلبه من ربّه، في عين الوقت الذي بيّن فيه موقعيّة هذا العبد في هذا الطلب وهذا الأمل، فقد أوضح من ناحيةٍ ما هو الأمر الذي ينبغي أن يكون هدفاً ومقصداً للعبد، ومن ناحية ثانية بيّن ما هي الموقعيّة التي يجب على العبد أن يكون فيها للوصول إلى هذا الطلب، وهذا هو تمام الأمر، فالإمام عليه السلام لم يترك شيئاً بعد هذا، وبعبارة أخرى يكون قد أتمّ الحجّة على الجميع؛ فأنتم من ناحية تستطيعون أن تطلبوا من ربّكم ومولاكم وصاحب اختياركم أعلى المطالب وأن تتوقّعوا منه أقصى الآمال، وأعلى ما يصل إليه فكركم وخيالكم من مطالب.. فيا له من أمرٍ عجيب!! يعني يمكن للإنسان أن يطلب ويأمل أقصى ما يصل إليه تفكيره من الآمال. فما هي آمالنا؟ وما هي مطالبنا؟ ما هي آمال الناس؟ وما الذي يطمحون إليه؟ وما هو المقصد الذي يطمحون إليه عندما يخرجون من منازلهم صباحاً؟ بعض الناس يريدون المال، يقولون: ليتني أتمكّن من الحصول على رزق يومي هذا، وإن استطعت أن أحصّل رزق الغد أيضاً فذلك جيّد.. ولو بأن أحتال على خلق اللـه وآخذ منهم مبلغاً إضافياً، بل ليتني أتمكّن من تأمين مبلغ من المال يملأ جيبي لمدّة شهر كامل، بل إنّ بعض الأشخاص .. ما شاء اللـه .. ما شاء اللـه.. عندهم همّة وطموح كبير، فهم ليسوا فقط ممّن لا يقنع برزق يومهم فحسب، ولا برزق شهرهم، ولا حتّى برزق سنة كاملة، بل إن طموحهم يتعدّى ذلك كلّه، فهم يريدون أن يجمعوا من المال ما يكفيهم طوال عمرهم وعمر ذرّيتهم حتّى قيام القيامة، فينهبون تلك الأموال من خلق اللـه ثمّ يفرّون إلى هنا وهناك، حاملين ما سرقوا معهم دون أيّ اثر لهم!! [يقول سماحته ساخراً:] إنّ هؤلاء هم أصحاب الهمّة العالية، والطموح الكبير، وينبغي للإنسان أن يتعلّم من أمثال هؤلاء!! فتحصيل رزق يومٍ واحد ليس بالأمر العظيم، ولا مهارة في ذلك، بل المهارة في أن يقوم الإنسان بعملٍ يحصّل منه ما يكفيه ويكفي ذريّته إلى عدّة أجيال!! هذه هي المهارة!!
كان هناك خطيب في زمان الشاه، وكان يلقي الخطب والمحاضرات هنا في قم... ولن نقول فيه إلاّ: أمره إلى اللـه.. فلعلّ اللـه يغفر له ذنوبه! على كلّ حال، كان هذا الخطيب يلقي المحاضرات على المنبر، وفي كثير من الأحيان كان يذكر الشاه وأزلامه بالخير ويمجّدهم ويمدحهم في ذلك الزمان، وبطبيعة الحال، فنحن عندما كنّا نلتقي به لم نكن نعتني بأمره؛ وذلك لأنّنا كنّا نعلم بأنّه على علاقة بالنظام الظالم، وأنّه يتلقّى منهم الهدايا والأموال، فهذه المدائح والتمجيدات التي كان يذكرهم بها لم تكن مجّانية، فكلّ مديح يوجد خلفه أمرٌ خفيّ، اعلموا أنّ ذلك هو الحال دائماً، وكما يقول المثل: (سلام روستائى بى طمع نيست) (أي: إنّ سلام القروي ليس خالياً من الطمع)، فكلّما رأيتم أنّ هناك مديحاً وتمجيداً غير عاديّ فاعلموا أنّ هناك شيئاً وراءه من العنايات والألطاف والفيوضات!! حسناً.. ذات مرّة سمعنا أنّه ذهب إلى أحد المجالس، وألقى محاضرة تحدّث فيها عن الشاه بالكثير من التعظيم والمديح، ثمّ بلغنا أنّ الشاه قد منحه مائتين وخمسين ألف تومان.. عفواً.. بل مائتين وخمسين توماناً، ففي ذلك الزمان كان للتومان الواحد قيمة!! وفي أحد الأيّام كنّا عند السيّد العلاّمة الطهراني رضوان اللـه عليه، وتم ذكر هذا الشخص، وذكروا له أنّه قد تحدّث في المجلس الفلاني بهذه الطريقة فأعطوه مائتين وخمسين توماناً ، فقال سماحته: مائتان وخمسون توماناً فقط؟! يا تعيس الحظّ، إذا كنت ستبيع دينك، فلماذا تبيعه بهذا السعر القليل؟! كان عليك أن ترفع السعر، فهم مستعدّون لأن يعطوك أكثر من ذلك بكثير، فهؤلاء الذين يجلسون في تلك المناصب عندهم من الأموال الكثير، وهم لا يتردّدون في صرفها على أمثال هذه المسائل! أجل.. لقد رأينا الكثير من الأمور في حياتنا، ولكن لا داعي للحديث عنها الآن فلا فائدة في ذلك.
حسناً.. إذا قرّر الإنسان أن يبيع دينه؛ فلماذا يعطيه بمائتين وخمسين توماناً؟! وإذا عزمت على أن تحارب ابن بنت رسول اللـه صلّى اللـه عليه وآله؛ فلماذا ترضى أن تفعل ذلك مقابل كيس من القمح؟! اطلب شيئاً أكبر.. اطلب كيساً من الذهب مثلاً، فابن زياد موجود وهو حاضر لإعطائك ما تريد.. فاطلب كيساً من الذهب أو كيسين! ارفع همّتك وارتق بطموحك دائماً، فالإنسان إنّما يصل إلى المقامات العليا بالهمّة العالية!

    

التأكيد على طلب الأمر الذي لا يزول في ذلك العالم

حسناً.. يقول الإمام السجّاد عليه السلام: انظر إلى همّتك وطموحك ولاحظ ذلك! انظروا الآن إلى هؤلاء الناس؛ ما هي الأمور التي يطمحون إليها؟ وما الهدف الذي يسعون إليه؟ لقد ذكرنا لكم قبل قليل بعضاً من أهداف الناس، وبعض الناس الآخرين يطمحون أن يصبحوا أطبّاء، وبعضهم الآخر يريدون أن يصبحوا مهندسين، وبعض آخر يريد أن يبلغ أعلى مراتب العلم، وشخص آخر يبحث عن منزل ليسكن فيه، وشخص آخر يريد أن يكون لديه مصنع، وهكذا... فهذه الأهداف التي عند الناس تمثّل إراداتهم وطموحاتهم وآمالهم، فهم يريدون الوصول إلى هذه النقطة، فالذي يبحث عن منزل يريد الوصول إليه، وعندما يعثر على المنزل يكون قد وصل إلى مقصوده ومراده، ولكن ما هي غاية هذا النوع من المقاصد والأهداف؟ وإلى متى سيستمرّ أمدها؟! إنّ هذه الأهداف والآمال مهما بلغت وتصاعدت فإنّ أمدها ونهايتها لن يتجاوز وقت الموت، فعندما يأتي الموت، لن يكون هناك فرق بين ذلك الطبيب الذي بلغ المقامات العليا، وبين طفل عمره خمس سنوات، غاية الأمر أن هذا نائم، وذلك قد سقط بغير حراك، فكلاهما عاجز عن القيام بأي عمل، وحينما يأتي الموت إلى المهندس الذي بلغت شهرته الآفاق، وصار اسمه معروفاً في كلّ مكان... ويقال له: تفضّل، فحينئذٍ لن يبقى هناك فرق بينه وبين حجر أصمّ موضوع إلى جانبه! فكلاهما لا روح فيه وكلاهما عاجزٌ عن الحركة.

    

عدم معرفة أحد أمير المؤمنين عليه السلام

إنّ لأمير المؤمنين عليه السلام عبارة عجيبة في نهج البلاغة.. وهي واقعاً عجيبة جداً. يقول عليه السلام: «وَإِنَّمَا كُنْتُ جَاراً لَكُمْ جَاوَرَكُمْ بَدَنِي أَيَّاماً».. فأنا كنت معكم وجاركم لبضعة أيّامٍ، ولكن في هذه الأيّام التي جاورتكم فيها في هذه الدنيا، إنّما جاوركم «بدني»،ولكن هل كنتم تعلمون أين أنا في الواقع؟ كنتم ترون عليّاً كلّ يوم يخرج من منزله، يذهب إلى المسجد ويصلّي، ثمّ يرجع إلى منزله، ثمّ يذهب إلى بستان النخل، ثمّ يذهب إلى حاجة أخرى، ثمّ يرجع إلى منزله، ويتكرّر الأمر عصراً، وعند المغرب، وهكذا في اليوم التالي والذي بعده... وعندما استلم حكومته لم يسمحوا له بجرعة ماء سائغة، فما إن تولّى الأمر حتّى جاءه في اليوم الثاني طلحة والزبير قائلين له: يا علي أعطنا حقّنا! فلمّا نهرهم، ووجدوا أنّهم لن يحصلوا على شيء منه أثاروا عليه الفتن التي انتهت بحرب الجمل، وما كادت تنتهي حرب الجمل حتّى اشتعلت حرب صفّين التي طالت بدورها ثمانية عشر شهراً.. تحمّل فيها حرارة القيظ وبرودة الشتاء...
الآن يوجد مدينة بالقرب من حلب اسمّها الرّقة في سوريا، وفي موضع هذه المدينة وقعت معركة صفّين، وقد شيّدوا هناك مقاماً وقبّة لعمّار بن ياسر وأويس القرني الذين كانا من أعاظم الأصحاب ومن ذوي المراتب العليا، خصوصاً أويس القرني الذي يقع قبره في جهة اليسار... أجل في موضع مدينة الرقّة هذه وقعت معركة صفّين، وأجواء هذه المنطقة في غاية القسوة، فحرارتها شديدة في الصيف، وبردها قارص في الشتاء، ونهر الفرات يمرّ بالقرب منها، وجميع شهداء صفّين قد دفنوا هناك، ولكن ليس لهم موقع مشخّص هناك باستثناء هذين الصحابيين وشخص ثالث معهما...
حسناً.. لقد استمرّت معركة صفّين ثمانية عشر شهراً، وما كادت صفّين تنتهي حتّى اشتعلت حرب النهروان، وعندما انتهت حرب النهروان تآمر عليه بعض الخوارج وقتلوه في محرابه! هذه هي حياة أمير المؤمنين عليه السلام! يقول عليه السلام: «جاوركم بدني»، ولكن هل كنتم تعرفون من هو هذا الشخص الذي كان يتحدّث إليكم؟ وما هو الأفق الذي كان فيه؟ وهل كنتم تعلمون عن هذا الشخص الذي كنتم ترافقونه وتصاحبونه وتذهبون معه وترجعون.. في أيّ عالم هو يطير؟ وفي أي أفق يسير؟ وفي أيّ ملأ تتحرّك نفسه المباركة وماذا تشاهد وأين تسير؟! أين هو؟

    

عدم معرفة الأولياء الإلهيين

كنّا نشاهد سماحة السيّد الحدّاد رضوان اللـه عليه، وكان سماحته يتحدّث معنا وينصحنا، وينقل لنا بعض الحكايات المعبّرة، وكذلك الأمر مع السيّد الوالد رضوان اللـه عليه، وأقصى ما استطعنا أن نصل إليه هو أن نحاول تحديد موقعيّة سماحته في إلقاء هذه المطالب! هذا أقصى ما تمكّنا منه! وذلك بأن نقول: يا له من مطلب عالٍ وما شابه ذلك. ولكن هل كنّا نعرف أين هو هذا الشخص الذي أمامنا؟ وفي أي عالم هو؟ وما هو المقدار الذي يعطينا إيّاه من حصّته ونصيبه؟ كم كان يعطينا؟ إنّ ذلك لم يكن ليبلغ واحداً من مليار مليار مليار! وأنا لا أبالغ في ذلك، بل إنّني أعرف بعض المطالب التي لا يمكنني أن أذكرها... إنّهم لم يكونوا يذكرون لنا حتّى واحداً من مليار مليار مليار ما عندهم! ومع ذلك كنّا نتعجّب من الأمور التي يقولونها، وكنّا نقول: يا للعجب! انظر إلى ما يقول سماحته! ما أعجبها من أمور! ويا لها من مطالب راقية لا تكاد تجدها في أيّ مكان آخر! فأين يمكن العثور على مثل هذه المطالب؟! بل كنّا نفتخر كثيراً بأنّ عندنا قابلية عظيمة بحيث أنّهم كانوا يلقون علينا أمثال هذه المطالب!! وكنّا نشعر بالاعتزاز والفخر لذلك، ولم يكن عندنا خبر بأنّه يضحك من حالنا، ويتعامل معنا على قدر عقلنا (وكنّا في ذلك الوقت في ريعان الشباب ولم تظهر حتّى اللحية على وجهنا)، وبطبيعة الحال فإنّ الحق معهم، فهم كانوا يراعون طاقتنا ومستوى إدراكنا، وكما يقال:
چونکه با کودک سر وکارت فتاد
                             پس زبان کودکی باید گشاد [1]


أفهل يمكن أن تقال حتّى كلمة واحدة، أو أن تُبيّن حتّى نقطة صغيرة من تلك الأمور التي أعطيت لهم؟!

    

الأئمة بينوا من الحقائق ما يقدر الناس على تحمله

يقول الإمام السجاد عليه السلام: إنّ عندي من العلوم لو أفصحت عنها لاتّهمني الناس بالكفر![2] وليس المقصود بالناس أولئك المعاندين كأمثال يزيد وابن زياد، بل المقصود هذا الصحابي ذو القدر الجليل... نفس أبي حمزة الثمالي هذا الذي علّمه الإمام هذا الدعاء الذي بين أيدينا كان سيتّهم الإمام عليه السلام بالكفر..
إنّ أسوأ الأعمال هي قتل إنسان بريء، فما بالك بقتل الإمام عليه السلام؟! لا يوجد عملٌ أسوأ من هذا في الدنيا! ومع ذلك فإنّ هؤلاء يقولون: ما أفضل العمل الذي قمنا به! فلقد قتلنا شخصاً كافراً وخلّصنا الدنيا منه! «يرون أقبح ما يأتونه حسناً» لو فتحت فمي وأفصحت عن مكنون صدري!
حسناً.. يا جناب أبي حمزة الثمالي رحمة اللـه عليك فأنت رجل عظيم، ومقامك وموقعيتك محفوظة بلا شكّ، ولكن هل فهمتَ من هو هذا الشخص الذي علّمك هذا الدعاء الرفيع؟! من هو وما هو؟ وما هي خصوصيّاته؟! هيهات هيهات!! هيهات أن يستطيع أحدٌ أن يدرك مقام الإمام عليه السلام باستثناء العارف الواصل والولي الكامل فذلك له حسابٌ آخر!
أجل.. يقول أمير المؤمنين عليه السلام: لقد جاوركم «بدني»، ولكن ما هي الغاية التي كنت أريد الوصول إليها؟ هل كنتم تعلمون ذلك؟ كلاّ ! ما هو الهدف الذي كنت أسعى إليه؟ وما الذي كنت أريد تحقيقه من كل تلك الأفعال والتصرّفات التي صدرت منّي.. من ذلك الذهاب والصلاة في المسجد، ومن تلك الخطب والكلمات، وما هي النيّة التي كانت في نفسي وفكري عندما كنت أتحدّث معكم وأجلس بينكم؟! لقد بيّنا لكم ذلك... وهذا لسان حال أمير المؤمنين عليه السلام، فهو يقول لنا: لقد بيّنت لكم ذلك، وأوضحته في الأدعية وفي الخطب والكلمات.. لقد بيّنته في المناجاة الشعبانية، وفي دعاء كميل، ولكن من ذا الذي يفهم ذلك؟!

    

فراق الحبيب أشد على المؤمن من حرّ النار

ألم يقل أمير المؤمنين عليه السلام في دعاء كميل: «فهبني يا سيدي ومولاي وربي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك، وهبني صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك»؟ افرض يا سيّدي أنني استطعت أن أصبر على عذاب يوم القيامة، وتمكّنت من تحمّل ذلك!! عجيبٌ عجيبٌ!! فذلك العذاب لو أخذوا منه بمقدار رأس إبرة وصبّوها علينا في هذه الحياة الدنيا لتألّمَ كلّ من في العالم من شدّة الآلام التي ستنالنا بسبب ذلك، ولو نال أثرٌ من عذاب يوم القيامة شخصاً في هذه الدنيا لما تحمّل بدنه ذلك أبداً، ولن يطيقه أبداً!! ومع ذلك فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام يقول: افرض أنّني تحمّلت عذاب ذلك اليوم، وأنّك وضعتني في النار... إنّ هذا الكلام عجيبٌ جداً، فالإمام عليه السلام لا يقول هذا الكلام من بابا المسامحة مثلما نفعل نحن، وهو لا يتساهل ويمزح في خطابه، فإذا قال عليه السلام شيئاً يقوله بجد، وهو يعني ما يقول، فهو قد تذوّق شيئاً وعلى أساس ذلك يقول هذا الكلام، وقد أحسّ ولمس وأدرك شيئاً حتّى قال هذا الكلام!!
تصوّروا الأمر معي، لو أخذتم قطعة من الحديد وقمتم بتسخينها، ثمّ قرّبتم يدكم منها، فما الذي سيحلّ بكم؟! هل ذلك ممكن أصلاً؟ هل يمكن أن تقرّبوا يدكم من قطعة من الحديد تتوهّج بسبب الحرارة؟ انظروا هل يمكنكم أن تقرّبوا يدكم منها؟! ولكن أيّ نار هي هذه؟ إنّها نارٌ من هذه الدنيا التي لو قسناها بنار الآخرة فسنجد أنّه لا قيمة لها نهائياً! ومع ذلك نجد أنّ أمير المؤمنين عليه السلام يقول: ربّما استطعت أن أتحمّل نارك، ولكن لا تحرمني من رؤيتك والنظر إليك! إنّ الإنسان ليصاب بالحيرة والذهول من ذلك! فما هذا الأمر؟ إنّ هذا الكلام وارد في دعاء كميل، لا أقوله من عندي. إنّ أمير المؤمنين عليه السلام يقول: إذا لم تبعدني من قربك ، فربما تمكّنت من تحمّل نار يوم القيامة! ولكنّني لا أقدر أن أتحمّل البعد عنك والحرمان من النظر إليك!
فما هي المسألة؟ وما القضيّة التي يخفيها هذا الكلام؟ وما هو الأمر الذي جعله عليه السلام حاضراً ومستعداً لأن يتحمّل أن يُقتل ويُقطّع وأن يُحرق ويصير رماداً ويُذرّ في الهواء، وأن يمحى كليّاً، بشرط أن لا يصيبه ذلك!! هل تفهمون ما الذي أريد قوله؟! يعني ماذا يوجد خلف هذه المسألة؟ وما هو الأمر الذي أدركه عليه السلام وأحسّ به؟ وما الذي حصل عليه بحيث يصير الإنسان مستعدّاً أن يتحمّل إلى هذا الحدّ، وأن يخسر كلّ شيء من أجله؟

    

أصحاب الحسين يفضلون القتل معه مراراً على فراقه

وكذلك الأمر بالنسبة لزهير بن القين فبعد أن جلس مع الإمام الحسين عليه السلام صار حسينياً، وتغيّر معدنه، وانقلبت مادّته الوجودية التي يتكوّن منها بشكل كامل، فصار شيئاً آخر تماماً، وصار له حكاية أخرى! حسناً.. بعد أن حصل له هذا التغيّر والتحوّل انظروا ماذا يقول؟ عندما جاء الإمام الحسين عليه السلام في ليلة عاشوراء، وجمع أصحابه وقال لهم: انطلقوا جميعاً، أنتم في حلّ من بيعتي، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، قام أهل بيته وتحدثوا، ثمّ قام الأصحاب وتحدّثوا، وكلّهم يقول له: إلى أين نذهب؟ وكيف نتركك؟!
ذات مرّة قلت لأحد الأصدقاء: لو كنّا حاضرين في تلك الليلة ووفّقنا اللـه تعالى لأن نبقى مع من بقي، ولا نفرّ كما فرّ البعض... لو وفقنا اللـه لذلك، لقمنا وقلنا للإمام الحسين عليه السلام: حسناً.. نحن نطيعك ونذهب من هنا، ولكن بشرط أن تعرّفنا على شخص مثلك أوّلاً لكي نلتحق به ونتّبعه.. أرنا شخصاً مثلك!! أوَهل يوجد شخص مثل الإمام الحسين أصلاً؟! بل هل يمكن أن نتصوّر شخصاً يكون نظيراً لسيّد الشهداء عليه السلام؟! أين ذلك؟! وفي أيّ عالم؟!
أجل.. لقد قام زهير بن القين وقال: إنّنا لم نكد نتذوّق طعم صحبتك (وهذه الإضافات منّي طبعاً لكي أبيّن لسان حاله) نحن لم نكد نتذوّق طعم صحبتك، فإذا بك تقول لنا: اذهبوا واتركوني؟! إلى أين نذهب يا سيّدي؟! أقسم باللـه لو قطّعوا جسدي قطعةً قطعةً، ثمّ أحرق ثمّ ذرّ في الهواء، ثمّ أحيا، ثمّ يفعَل بي ذلك سبعين مرّة أو ألف مرّة لما تركتك يا سيّدي!! ما هو الشيء الذي يشعر به زهير ويتذوقّه فيدفعه إلى مثل هذا الكلام؟ ففي النهاية هناك إحساس حقيقيّ عند زهير دفعه لمثل هذا الكلام، وهو صادق لا يكذب فيما يقول، فلو أنّ زهيراً أحييَ مرّة ثانية في يوم عاشوراء ألم يكن سينزل إلى الميدان؟! واللـه إنّه كان سينزل.. لكان نزل ولاستشهد وحصل له ما حصل من جديد! ولو أنّ الإمام الحسين عليه السلام أحياه بعد ذلك مرة أخرى [لكرّر الأمر من جديد]... ـ أفلم يكن الإمام الحسين يحيي الموتى؟! كان يحيي الموتى بل الإحياء هو عمل صغار أهل البيت عليهم السلام، فما ظنّك بالإمام الحسين عليه السلام؟! ـ أجل.. لو أحياه الإمام عليه السلام فهل كان يقول: كفى سيوفاً وسهاماً وجراحاً.. في أمان اللـه؟ أم لا؛ بل كان يقول: كم هو رائع! لقد بدأنا لتوّنا نستشعر قليلاً لذّة هذا العمل!؟ لكان ذهب وقتل للمرّة الثالثة ولو أحياه الإمام للمرّة الرابعة فسيقول: ما شاء اللـه! كم هو جميل! ها نحن نتذوّق من جديد، ويبدو أنّ هذا الحديد وهذه السيوف ليست سيئة الطعم! فمهما قتل فإنّه يزداد سروراً وأنساً!
فما هي حقيقة المسألة؟! وما هو الشيء الذي يُصبُّ في كأس شهادة هؤلاء؟! ما هو الشيء الذي يأتيهم من قِبَل الإمام فيردّ نفوسهم وأرواحهم وقلوبهم وأسرارهم حتّى أمسوا يقولون: ما شاء اللـه! كم هو جميل! كم نحن مسرورون؟ لقد كانوا يتمنّون أن يحيوا من جديد ليقتلوا مرّة أخرى، ولكن في النهاية لم يكن لهم ذلك إلا مرّة واحدة. كانوا يحزنون لعدم إحيائهم وقتلهم مرّة ثانية، وكانوا يقولون: لماذا لمْ يتمّ ذلك إلا مرّة واحدة؟ ليته يحصل لمرّتين أو لثلاث! فما هي حقيقة المسألة؟ لتفكّروا فيها قليلاً...
أجل .. إنّ أمير المؤمنين عليه السلام يبيّن حالة نفسه إذ يقول:« فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك؟»[3] ؟»( ) أي لو فرضنا أنّي استطعت أن أحتمل عذابك فهل لي ـ أنا عليّ بن أبي طالب ـ أن أحتمل فراقك؟ فما هو الشيء الذي أراه اللـه لعلي حتّى تكلّم بهذا الكلام؟ نحن الآن ندّعي نفس هذا الادّعاء عند قراءة هذه العبارات من الدعاء، ونزعم أننا كذلك، ولكن مهلاً مهلاً!! فنحن لا نحتمل وخز إبرة، فلنمتحن أنفسنا الآن، أليس معكم إبرة؟ فلندخلها في أجسادنا ولنجرّب أن نقول ونردّد: «فهبني صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك» [تبسّم من سماحة السيّد].
لقد أخبرتكم قصّة ذلك القارئ في حرم السيّدة زينب عليها السلام، الذي أدار ظهره إلى القبلة، ووجهه نحو جهاز التصوير، وهو يقول: أعتذر منكم لقراءتي الدعاء على غير القبلة؛ فجهاز التصوير لا يمكن أن يوضع في مكان آخر!!! فهذا ليس دعاء كميل. فهل قولنا في مثل هذه الحال هو نفس قول الإمام عليه السلام؟ وهل هو يتضمّن نفس الإحساس، ونفس الإدراك ونفس الشعور والشهود؟!

    

شرط الوصول إلى الكمالات هو الانضواء تحت تربية الإمام أو ولي اللـه

لقد أخبرونا عليهم السلام حقيقة المسألة، وقالوا لنا: إنّ هناك أموراً ما وأخباراً، ولو كان هذا الحال مختصاً بعليّ عليه السلام فلماذا أمرَنا أن نقرأ دعاء كميل في ليالي الجمعة؟ فهذا الحال مختصّ بك يا أمير المؤمنين، وقد رزقك اللـه هذا الأمر، فما علاقته أنا بي؟ هل حصل يوماً أن طلبنا من اللـه أن يعطينا مقام النبوّة؟ لا فاللـه يقول لنا: لا تطلب منّي هذا الأمر؛ فقد انتهى آخر فرد منه مع نبوّة محمّد صلى اللـه عليه وآله. هل حصل لنا أن طلبنا من اللـه مقام الإمامة؟ بأن يجعلنا إماماً؟ أبداً أبداً فاللـه يقول: الأئمة اثنا عشر فقط والسلام، ولا تدّع لنفسك هذا المقام لأنّ لذلك حساباً عسيراً، فالأئمة اثنا عشر فحسب، ولا تطلب ذلك بعد الآن، ولكن اطلب ما استطاع الإمام أن يناله من مقام المعرفة والشهود والكمالات الإنسانيّة، فإنا نوصلك إلى ذلك ولا إشكال فيه، انضوِ تحت تربية الإمام.. انضو تحت إطاعة الإمام.. انضو تحت تزكية وإرشاد الإمام وحينئذٍ فسوف نعطيك ولا إشكال في ذلك، وهذا ميدان الاختبار، والمائدة مبسوطة فجرّب، وهي تنتظر من يجلس عليها.
ومصداق ذلك ما ذكرناه في المحاضرات السابقة في موضوع حجيّة فعل وليّ اللـه، فقد ذكرنا هناك وتساءلنا: ما هو الشيء الذي نتوقّعه من الإمام ولا يقدر عليه وليّ من أولياء اللـه؟
ـ فالإمام يحيي الموتى وولي اللـه يحي الموتى كذلك، بل لقد حصل ذلك أمام عيني، ولم يكن سحراً ولا شعوذة، ولن أذكر موارد ذلك الإحياء...
ـ الإمام يمكن أن يبدّل الحجر إلى ذهب وولي اللـه كذلك (وهذه في الحقيقة مسائل لا قيمة لها أساساً لكي نتحدّث عنها! فهي لا تستحق أن نتحدّث عنها ...)
ـ الإمام يمكن أن يخبر عمّا في الضمير، وقد أخبر وليّ اللـه آلاف المرّات عمّا في ضميري أنا كواحد من الناس، ولنترك إخباره عن ضمائر غيري... نعم ألف مرّة.
ـ الإمام يمكنه أن يخبر عن المستقبل وعن مسائل الغيب، وقد سمعت بنفسي عشرات الموارد من وليّ اللـه عشرات الموارد التي تحقّقت مائة بالمائة.
فماذا بعد ذلك؟ دلّني على أمر واحد يعجز عنه وليّ اللـه والعارف به، وبواسطة هذا العجز يكون لديه نقص تربوي في حياته وفي تربيته للسالك! أين هو هذا الأمر؟ لا وجود له.. لا وجود له أساساً. لماذا؟ لأنّه بواسطة لطف مقام الولاية فإنّ نافذة قلب العارف والوليّ الكامل تستقي وترتوي وتمتلئ من ولاية الوليّ الكامل الذي هو الإمام عليه السلام، وبذلك تنال مقام المعرفة والشهود والبقاء. فلا معنى بعد ذلك لأن يبقى لديه شيء مجهول، إنّه حين ينظر إلى الحقائق فهو يرجع إلى منبعها وأصلها لا إلى الظواهر والمسائل الظاهريّة، إنّه يرى الواقع.
في يوم من الأيام أمرني المرحوم الوالد بأمر، ثمّ جئت لأتحدّث إليه بعد أن سألني وقال لي: ماذا صنعت بما أمرتك؟ وكنت قد قمت بما أمرني ولكنني أهملت قليلاً في تنفيذه، وكان يريد منّي أن أقوم به بغير هذا الإهمال، فحاولت أن أبرّر ما صنعت، وما إن شرعت بالكلام حتّى نظر إليّ ضاحكاً، يريد أن يقول لي: أصلاً كلامك هذا لا طاقة لي على استماعه، فانتقل إلى حديث غيره، يعني يريد أن يقول: لقد كنت حاضراً بنفسي، وأنت تريد أن تبرّر؟! لقد كنت حاضراً! فلمن هذا التبرير؟ هل تحبّ أن أخبرك ماذا حصل في ذلك المجلس؟ هل أخبرك ما هي الأحاديث التي دارت فيه؟ لن أقول هذا، ولكن عليك أنت أن لا تقوم بالتبرير، ولا تخفِ الحق أمام القاضي، لقد كان يختصر الأمر بابتسامة، وكنت أنا أقرأ تتمّة الرسالة بنفسي، ثمّ أتعجّب من ذلك وأسرّ. حسناً؟ ليس هناك شيء مخفيّ لديه ليريد أن يرفع جهله أو نقصه.

    

الأمل العظيم والانقطاع إليه هو ترك كل ما سوى اللـه

ألم يقل أمير المؤمنين عليه السلام في المناجاة الشعبانيّة.. في ذلك الدعاء الذي يقرأ في القنوت ـ وكنت قد وعدت بعض الإخوة أن أجمع أدعية القنوت التي سمعنا العظماء يدعون بها، وقد مرّت على ذلك سنوات لا زلت أتعرّض فيها للخطاب والعتاب والنظرات المتسائلة منهم!! ولا زلت أشعر بالخجل أمام وجوه الإخوة، وإن شاء اللـه إذا وفّقني اللـه سأفعل.. وقد أنجزت منها مقداراً، فالمأمول أن نجمع هذه الأدعية التي كان يقرأها أولياء اللـه العظام ونجعلها في متناول الأيدي لتتمّ الاستفادة منها ومن جملة هذه الأدعية هذا الدعاء ـ يقول عليه السلام: «إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك» »، انظروا أيّ شيء كان مطلوب أمير المؤمنين عليه السلام؟ وهنا الإمام السجّاد يقول: «عظم يا سيّدي أملي» »، أي أنّ طموحي ومقصدي وأملي كبير يا سيدي وربّي. وأبوه عليه السلام يقول في المناجاة الشعبانية: «إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك»»، فانظروا كيف يبيّن أمير المؤمنين المسألة حين يطلب من اللـه كمال الانقطاع؟ أي منتهى درجات قطع التعلّقات بغيرك، كل ما هو غيرك مهما كان! فما هو «غير اللـه»؟ هو الدنيا وما فيها، الرئاسات والحكومات وترؤّس الوزارة، وتسنّم منصب القضاء، ورئاسة هذه المحلّة أو تلك، وما أشبه ذلك من التفاهات التي يصاب الإنسان بالاشمئزاز لذكرها، فكلّ ذلك هو «غير اللـه»، والإمام يقول هب لي قطع التعلّق بهذا.
ولكن حتّى لو حصل الانقطاع عن ذلك، فذلك لا يحقق بعدُ «كمال الانقطاع»، فإلى هنا قد حصل انقطاع عن الدنيا فقط، ولكنّه ها قد قطعنا تعلّقنا بالدنيا فماذا عمّا هناك؟ لقد خلق اللـه عوالم أخرى، فللنظر إلى عالم المثال والبرزخ ولنرَ ما الخبر؟ ولننظر إلى تلك النشأة ولنشاهد ما الأمر هناك؟ الحوريّات التي تكفي نظرة واحدة إليها كي يمتنع الإنسان عن النظر إلى أحد بعدها ما دام حيّاً! نظرة واحدة!! هل تريدون أن تجرّبوا ذلك؟ لو جرّبتم لحدثت المشكلات [تبسم].. فلا تجرّبوا مثل هذه التجارب!!
كان هناك أحد أقاربنا وقد توفّي رحمه اللـه، وكان رجلاً صالحاً من أهل المكاشفة، وكانت له مصاهرة معنا، بل بيننا وبينه نسب أيضاً، وكان المرحوم العلاّمة يحبّه وكان يزوره في منزله بين مدّة وأخرى، وفي أواخر عمره كان يعوده، حتّى توفّي قبل المرحوم العلاّمة بسنوات عديدة فدفن، وكان في مراسم الدفن رجل من أصحاب القلوب، فكان يقول: كنت واقفاً عند قبره وكنت أنظر إلى قبره فرأيت...
ألم تقرأوا في كتاب معرفة المعاد أنّ المؤمن إذا مات جاءت الحور العين إلى قبره وأخذت تلاطفه وتحدّثه ويكون معها عقد فتتناثر حبّاته في القبر، فيعمل الميت على جمعه ويشتغل بذلك فلا يكاد ينتهي من جمعه إلاّ وقد قامت القيامة، فهناك روايات تدلّ على مثل ذلك، وعندما يحدّثنا الإمام عن ذلك فليس عبثاً، بل الأمر حقّ.
نعم لقد أخبرني ذلك الرجل بنفسه أنّهم حين دفنوا ذلك الرجل المؤمن ـ وقد كان من السادة ـ وكان هناك رجل يلقّنه الشهادة أنّه رأى عدداً من الحور العين قد جاءت وأحاطت به، فكم هو ذو حظّ عظيم! لقد جاءت الحور ولمّا ينتهوا بعد من تلقينه! لم تفسح له الحور بأن يتمّوا تلقينه الشهادة! لقد جاءت الحور وشرعت بالحديث معه وملاطفته والضحك حتّى نسي من يقف على قبره يلقّنه، ومن الذي يقف حوله، فهو منشغل بهنّ، وقد لقّنه الملقّن وكان الناقل للقصة ينظر.. ثم قال لي: أريد أن أخبرك شيئاً وهو أنّ اللـه محى هذه الصورة من نفسي، ولو أنها بقيت في ذهني لواجهت مشكلة تجعلني لا أحتمل أن أنظر إلى أيّ إنسان!!
حسناً أليست هذه نعمة من اللـه، نعمة من الجنّة؟! ولكنّها مع ذلك هي غير اللـه، ولذلك يقول المرحوم العلاّمة أنّ الحور العين تشكو إلى اللـه يوم القيامة من أولياء اللـه لأنّهم لا ينظرون إليهنّ، فيصير حال وليّ اللـه معهنّ كذلك مصداقاً لقول أمير المؤمنين: «جاوركم بدني»»، فهو يجلس مع الحوريّة ولكنّها لا تدري أين هو؟ وبالطبع هذا ليس للجميع فهو مختصّ بهم.. ثمّ يقول اللـه: لأيّ شيء قد خلقت الحور؟ فانظروا إليهنّ ولاطفوهنّ وامسحوا على رؤوسهنّ!! فما لكم تنظرون إليهنّ هكذا بغير إحساس؟! فهذا غير لائق!! فيأتي هذا الوليّ ويتنزّل عن مقامه ويلاطف الحور مدّة ثمّ يمضي، فتسأله إلى أين؟ فيقول لها: في أمان اللـه، سأعود.. فلا تقلقي!! أجل.. أمير المؤمنين عليه السلام يقول: حتّى هذا خذه منّي يا إلهي. وأما ما هو أعلى من ذلك وأعلى وأعلى فهو ممّا لا يحتمله المجلس، وإن شاء اللـه نتركه إلى فرصة أخرى.
فالإنسان يصل إلى مرحلة يرى فيها أنّ كافّة آثار اللـه وكافّة ما تحدّث عنه الحديث الصريح: «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»»، [لماذا لا يخطر على قلب بشر ؟] لأنّ الخطور على القلب يحتاج في النهاية إلى استعداد وأرضية مسبقة، فكيف يمكن أن يخطر على القلب مع أنّه لا إمكانيّة ولا استعداد؟ أجل.. إنّ اللـه يعطي كلّ ذلك، وأمير المؤمنين يقول: اللـهم اقطع علاقتي بكلّ ذلك، فما هي حقيقة المسألة يا ترى؟! اقطع علاقتي بكلّ ذلك، «هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، فأبصار القلوب لا تتنوّر إلا بنظرها إليك، حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور وتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك»، يا له من دعاء! ويا لها من مناجاة! فأمير المؤمنين عليه السلام يقول: أزح حجب الأنوار عن أعيننا بحيث تصبح روحنا متّصلة بمقام عظمتك، فقوله:« بعزّ قدسك»» يعني الاتصال بمقام العزّة والكبرياء، بحيث لا يبقى أيّ أثر من الآثار النوريّة ليتجلّى لنا، فما هي هذه المرتبة؟ إنّها الذات الإلهيّة. ومن هنا يتبيّن المراد بالأمل في كلام الإمام السجّاد عليه السلام في هذا الدعاء: «عظم يا سيّدي أملي»».. إنّه الفناء في الذات الإلهيّة، هذا هو المراد بالأمل، حيث تمحى كامل الآثار الوجوديّة، ولا يبقى أيّ تعلّق، ويبقى اللـه وحده وحده دون أيّ أثر وبغير أيّ ظهور، هذا هو العظيم، فإذا كان اللـه هو العظيم ـ «اللـهمّ أهل الكبرياء والعظمة! يا عليّ يا عظيم! هو العظيم!»!» ـ إذا كان اللـه هو العظيم فمتى تكون الأمنية عظيمة؟ ومتى يكون الأمل عظيماً؟ عندما يكون الأمل هو اللـه، وإلا ما لم يصل إلى هذا الحدّ فلن يكون عظيماً، فهو لا يزال حبيساً في الآثار والظهورات وفي المراتب الدنيا، ولهذا كان المرحوم العلاّمة يقول: أيّ شيء طلبت غير اللـه فأنت خاسر، فكلامه هذا ناظر إلى هذه المسألة، وهي أنّ على السالك [أن يعمل بهذا البيت]:
عليك بها صرفاً فإن شئت مزجها
                             فعدلك عن ظلم الحبيب هو الظلم

عليك أن تفكّر بذات اللـه فقط وفقط، وأن تتوجّه إلى ذاته، وأن تجعل وجودك ممحواً في ذاته، وإن شئت أن تتنازل عن ذلك، فلا ينبغي أن تتنازل عن الأئمة وولاية الأئمة عليهم السلام، وإلا ابتليت بالخسارة والظلم العظيم.
حسناً، كان هذا مقداراً مما تتضمّنته هذه الفقرة... وحيث أنّ من المحتمل ألاّ أوفّق في الأيام المتبقية من شهر رمضان لأن أكون في خدمة الإخوة، فنترك تتمّة هذه الفقرة إلى السنة القادمة إن وفّقنا إن شاء اللـه، لنقدّم مزيداً من التوضيح حولها، وكذلك سنبيّن الفقرة اللاحقة لها، وكيف أنّ عمل الإنسان لا يمكنه أن يوازي هذا المطلوب؟ إن شاء اللـه.
نكتفي بهذا المقدار، ونسأل اللـه تعالى أن يمزج حقيقتنا وسرّنا وشراشر وجودنا بهذه المطالب وهذه المسائل التي علّمناها المقرّبون إليه.
اللـهم صلّ على محمّد وآل محمّد.


[1] ـ هذا البيت من الشعر قد نظم على نسق الحديث الشريف: «من كان عنده صبي فليتصابَ له»

[2] ـ إشارة إلى الأبيات المنسوبة إليه عليه السلام حيث يقول:

 

إني لأكتم من علمي جواهره

                             كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتننا

وقد تقدم في هذا أبو حسن

                             إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا

فرب جوهر علم لو أبوح به

                             لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستحلّ رجال مسلمون دمي

                             يرون أقبح ما يأتونه حسنا

[3] ـ مقطع من دعاء كميل ابن زياد.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی