معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 201 إلى الأخير > شرح حديث عنوان البصري - الجلسة رقم 202: العشرة الأولى من ذي الحجة تتمة أربعينية موسى عليه السلام

_______________________________________________________________

هو العليم

العشرة الأولى من ذي الحجة تتمة أربعينية موسى عليه السلام
شرح حديث عنوان البصري

المحاضرة رقم 202

 

ألقيت ليلة السبت في الليلة الرابعة من شهر ذي الحجّة الحرام لعام 1433هـ

 

سماحة آية الله
السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
وصلّى اللـه على سيّدنا ونبيّنا محمّد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
اللهمّ صل على محمّد وآل محمّد

    

أهميّة العشرة الأولى من ذي الحجّة وأحوال النبيّ موسى فيها

بمناسبة حلول أيّام ذي الحجّة، وبسبب الاهتمام الذي كان يبديه الأولياء العظام بهذه الأيّام، والوصايا التي كانوا يوصون بها، فإنّا سنوقف بحثنا السابق، ونوكله إلى جلسة أخرى، وسنتحدّث شيئاً ما عن المطالب التي يجدر بنا الآن الالتفات إليها والاهتمام بها، رغم أنّ الرفقاء يعرفون معظمها أو جميعها، ولكن سنتعرّض لها من باب المذاكرة والتذكير.
إنّ هذه الأيام هي أيام مباركة، ولها أهميّة خاصّة تميّزها عن سائر الأيّام، فالعشرة الأولى من ذي الحجّة الحرام هي من الأيّام المعدودة والخاصّة التي ينتظر أهل المعرفة ورودها، بسبب أوامر الأولياء واهتمامهم بها.
ونحن نلاحظ أهميّة هذه العشرة أيضاً في أربعين موسى عليه السلام، والقرآن الكريم يشير إلى ذلك حيث يقول: {وَوَاعَدنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيلَةً}[1]، أي إنّا جعلنا لموسى ثلاثين ليلة للمناجاة والحصول على حالة خاصة في جبل الطور، ولم يكن موسى ـ كما ذكرت الروايات ـ يأكل ولا يشرب ولا ينام لحظة في تلك الأيّام، وهي نفس حالة الجذبة التي تحصل للسالك، والتي يؤدّي فيها الانجذاب النفسيّ إلى عدم الالتفات إلى الجسم، وإن كان يتصدّى للمسائل الظاهريّة، وهذه الحال يمكن أن تحصل للسلّاك أيضاً، وبالطبع هي حال مؤقّتة يمكن أن تحصل خلال يوم أو خلال أسبوع، ويمكن أن تحصل لساعة واحدة، وتحصل لبعض الأفراد طيلة ليلة، ويمكن أن تشتدّ أحياناً بحيث تسلب القوّة وتسيطر على النفس...

    

حصول حالات الجذبة لأمير المؤمنين وبيان استحالة فعليّة إمامين في آن واحد

ففي يوم من الأيام كان أمير المؤمنين عليه السلام في زمان الرسول صلى اللـه عليه وآله ولم يكن قد بلغ مرتبة الولاية ومرتبة الإمامة بعد؛ لأنّه لا يمكن أن يكون في زمان واحد إمامان اثنان، وذلك أنّه لا بدّ أن تكون هناك نفس واحدة في هذا المقام بلحاظ السير النزولي للولاية في العوالم السفليّة، لذلك كان رسول اللـه صلّى اللـه عليه وآله نبياً وإماماً في آن واحد مع وجود أمير المؤمنين عليه السلام، وبعد أن رحل رسول اللـه انتقلت الولاية والإمامة إلى أمير المؤمنين وفق تلك الكيفيّة الخاصّة، وهذا لا ينافي قيام أمير المؤمنين ببعض الأعمال الخارقة للعادة في زمان النبيّ، فمن الممكن لإنسان أن تصدر عنه مثل هذه الأمور رغم عدم وصوله إلى مقام الولاية، فعندما اقتلع أمير المؤمنين الباب في وقعة خيبر وجعله جسـراً يعبر عليه الناس ـ وهذا أمر لا يمكن أن يصدر عن القوّة أو القدرة المتعارفة ـ قال عليه السلام: ما قلعتها بقوّة بشريّة[2] فقد كان اقتلاعها بقدرة أخرى. وكذا المعجزات التي صدرت عن أمير المؤمنين عليه السلام كردّ الشمس الذي حصل في زمان رسول اللـه، حيث قال له رسول اللـه: يا عليّ ردّ الشمس، ولم يقل له: أنا أردّ لك الشمس لتصلّي، ولم يكن رسول اللـه هو الذي ردّها وأراد أن يكتبها باسم أمير المؤمنين ليتصوّر الناس أنّ أمير المؤمنين هو الذي ردّها، لا لكنّه واقعاً قال لأمير المؤمنين أنت ردّها[3]. نعم، تحقّق ذلك إنّما يتمّ من خلال نفس رسول اللـه صلّى اللـه عليه وآله، وهذا هو العجيب في الأمر، فليس لدينا ولايتان، بل هي ولاية واحدة، وهي التي تحكم عالم الوجود كلّه وتقوم بدورها وتفتح الطريق وتتصـرّف، فليس هناك سوى ولاية واحدة وقدرة واحدة، رغم أنّ الشخص المتصدّي لا يطّلع على ذلك أثناء قيامه بالفعل، لذلك فإنّ هذا المتصدّي في بعض الأوقات مهما حاول وسعى، فإنّ نفس العمل الذي كان يمكنه أن يقوم به قبل عشر دقائق، لا يمكنه أن يقوم به الآن فلا تعود تصدر عنه الكرامة والأمر الخارق للعادة، لأنّ العالم ليس مهملاً ليتمكّن أيّ إنسان من القيام بما يشاء ساعة يشاء، لا فلكلّ شيء قدر.
حسناً فأمير المؤمنين عليه السلام ردّ الشمس بأمر رسول اللـه صلوات اللـه عليه وآله، ولا إشكال في ذلك؛ إذ من الممكن أن يقوم بذلك من ليس إماماً، ولكن تكون له ولاية، ولاية تحت ظلّ وتحت سيطرة تلك الولاية الكليّة التي هي في نفس رسول اللـه صلّى اللـه عليه وآله، وقد قام بهذا العمل نفسه آصف بن برخيا وزير النبيّ سليمان عليه السلام، والحال أنّ آصف لم يكن متّصفاً بالولاية الكليّة، فولاية آصف هي ولاية جزئيّة، وبهذه الولاية الجزئيّة كان يقوم بتلك الأعمال، فماذا كان سيصنع لو بلغ الولاية الكليّة، فبولاية جزئيّة ومختصرة جُعِلَتْ تحت تصرّفه كان بإمكانه أن يقلب العالم كلّه رأساً على عقب، وبعد ذلك يأتي من يقول: أنّ الإمام لا يمكنه أن يصنع شيئاً، فكم نحن في منأى عن تلك المرتبة الرفيعة! وكم نحن في بعد عن الحقائق!
ففي ذلك الزمان كان أمير المؤمنين عليه السلام يعيش تلك الجذبات التي عاشها النبيّ موسى عليه السلام، إلا أنها كانت عنده بنحو أشدّ. وكذا قصّة ذلك الرجل الذي رأى أمير المؤمنين قد سقط، فظنّ أنّه فارق الحياة، فأسرع إلى بيت السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام وقال لها: لقد رأيت عليّاً فارق الحياة، فسألته عمّا جرى، فأخبرها بما رأى، فقالت له: هذا حاله في كلّ ليلة. فقد كانت حالة أمير المؤمنين في تلك المرحلة على هذا النحو وهذا الوضع، ولكنّها لم تعد ترَى منه بعد وصوله إلى مقام الولاية والإمامة الكليّة. وهذا الأمر نفسه منقول عن الأولياء وأهل المعرفة، فهذه المسائل موجودة عندهم ومنقولة عنهم وحتّى شوهدت فيهم وهم في مراتب التردّد بين عالمي الفناء والبقاء، ومراتب الالتفات والانجذاب والرجوع، وذلك قبل الوصول إلى مرحلة الملكة التامّة، وقبل حصول الفعليّة والاستقرار.

    

تحصيل الإنسان لبعض الحالات عبر تقوية القوى الروحية فيه

لقد حصل هذا للنبيّ موسى عليه السلام، واللـه تعالى في هذه المدّة أوجد له حالة الجذبة، وفي هذه المدّة كلّها فقدت النفس والجسم إحساس الجوع والعطش والنعاس، ولا غرابة في ذلك ولا إشكال فيه، فعندما يتمكّن الإنسان من التغلّب والسيطرة على قوانين المادّة بواسطة القوى الروحيّة، فإنّه يمكنه أن يجعل هذا البدن تحت تسخير النفس، ولا يحصل لديه أيّ تغيير وتحوّل. نعم هناك بعض الحالات الأخرى المشابهة لهذه الحالة تترك آثاراً على البدن، ولكنها مغايرة لها في الواقع. وفي هذه الحالة كان موسى عليه السلام كما تذكر الروايات لا ينام ولا يأكل ولا يشرب. وكم هو جميل أن يستريح الإنسان من تناول الطعام ومن النوم!! لعلّنا نصل يوماً إلى استبدال الطعام بقرص فنتفرّغ من الاشتغال بالطعام والشـراب!! [في سياق الملاطفة] فالطعام والشراب هما مجرّد مقدّمة ولا موضوعيّة لهما، حينها يصل الإنسان إلى مراتب من اللذائذ المعنويّة والروحيّة بحيث لا يمكن أصلاً... ينقل المرحوم العلاّمة أنّه كان يقضي بعض الليالي في كربلاء مع المرحوم السيّد الحدّاد بالحديث والكلام و... وأما ماذا كانا يتحدّثان فهذا ما لا قدرة لنا على تصوّره، ولا هم حدّثونا عنه، وكان يقول: كان الوقت يتأخّر بنا، وخصوصاً وأنّ زياراته ولقاءاته كانت في الشتاء للأسباب التي ذكرها في الروح المجرّد، وعندما كان ينقضي جزء من الليل وهما يتحدّثان ويتناولان أطراف الحديث حول المسائل والمطالب، بل كثيراً ما كان يحصل ذلك بدون كلام وبدون تلفّظ وبدون حديث، وهذا هو المهمّ جدّاً، وأنا كنت شاهداً في مورد واحد أو أكثر، حيث كانت تمرّ الساعات ولم يكن ليحصل أيّ كلام، مع كامل الالتفات والتوجّه، والحضور مائة بالمائة، وهذه أشياء لا نفهمها نحن، فقط نحن يمكننا أن نسأل اللـه أن يرزقنا إيّاها. كان المرحوم العلاّمة يقول: كنّا نجلس وكثيراً ما يحدث أن يمتدّ بنا المجلس والحديث، والحال أنّ زوجة المرحوم الحدّاد تكون قد أعدّت الطعام، واهتمّت به غاية الاهتمام، وبالتالي فهي ترغب بأن لا يبقى دون أن يتناوله أحد، حيث بذلت جهدها في إعداده، فكانت تأتي مراراً وتقول للسيّد الحدّاد كم أنتم تطيلون الحديث.. لقد كانت امرأة طاهرة ونقيّة لا تحمل حقداً ولا غشاً، وقد التقيت بها في زمان طفولتي، ومن شدّة صفائها وبساطتها تكاد تصل إلى حدّ الإسراف في ذلك، فكانت تكرّر الطلب من السيد هاشم لماذا لا زلتما تتحدّثان؟! ألا تبسطان المائدة! وهما لا يعتنيان بذلك لانشغالهما... واقعاً أيّ عوالم كانت لهؤلاء؟ وأين نحن منهم؟ فنحن منذ وقت العصر نبدأ بالتفكير بطعام العشاء، ومنذ الصباح نبدأ بالتفكير في الغداء وهكذا...!! فكانت تقول لهما لمَ لا تبسطان المائدة؟! لمَ لا تتناولان الطعام؟! وهما لا يلتفتان، حتّى كان ينفد صبر السيّد الحدّاد منها فيقول: سيد محمّد حسين! قم وابسط المائدة، فقد وقع في ذمّتنا عشاءٌ ولا بدّ أن نتناوله! فهم لا يدَعوننا وشأننا! فلنقم ونتناول منه ونسترح ونتفرّغ لعملنا. فهذه هي حالهم، وهكذا كانوا.. يقول قم لنتناول الطعام ونسترح ونتفرّغ لأعمالنا، فقد أعدّت المسكينة هذا الطعام، وهي لا تزال تدقّ الباب.. فلنتناوله! فهنيئاً لهم، هنيئاً لهم.. الإمام السجّاد عليه السلام في مناجاة المريدين أو المحبّين يبيّن أمراً عجيباً فيقول: «إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبّتك فرام منك بدلاً؟ ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولاً؟»[4] إلهي من هذا الذي أذقته ذرّة من محبّتك ثمّ اختار غيرك، أو أراد أن يذهب إلى مكان آخر، أو يوجّه ذهنه إلى موضع آخر، فماذا كان هؤلاء؟! وأين كانوا؟! أصلاً لم يكونوا يريدون أن يتنازلوا عمّا هم فيه، ولا أن يوجّهوا ذهنهم إلى شيء آخر.
لقد كان النبيّ موسى عليه السلام طيلة هذه الأربعين يوماً بغير طعام ولا شراب ولا نوم، كان دائماً في تمام هذه المدّة يعيش حالة الجذبة، من تلك الجذبات التي نسأل اللـه أن يرزقنا منها، والتي لو رزقنا منها ذرّة لوضعنا كلّ العالم بما فيه ومن فيه جانباً، كلّ ما في العالم وكلّ من في العالم، كلا الأمرين نضعهما جانباً، فالإنسان عندها لا يمكنه أن يلتفت إلى شيء آخر، ولو أراد ذلك لأصيب بحالة من الغثيان.

    

ضرورة الحفاظ على الأجواء المعنويّة وترك الخوض في الأمور التافهة

فمثلاً هذه المجالس التي هي مجالس ذكر وتوجّه وحديث عن المحبوب والمعشوق، ومجالس ذكرٍ للعظماء والأولياء، هل يأتي الإنسان ويشرع بالكلام السياسيّ والاجتماعي بدلاً من هذه المجالس؟ يقول لقد ارتفعت الأسعار أو رخصت، لقد خربت الأمور أو صلحت... فكلّ هذا يسبّب الغثيان للإنسان، ويؤدّي إلى تبدّل أحواله، إنّ هذا الكلام يخرّب.. يخرّب الجوّ.. يخرّب النفس.. يخرّب الذهن.. يخرّب الفكر.. يخرّب حالة الترقّي.. يفسد العروج.. إنّ كلمة واحدة من هذا الكلام تصنع كلّ ذلك؛ كأن يقال لك: سيّدنا فلان في الشارع صنع كذا وكذا! يا أخي فليقل ما! ماذا يفيد في هذا المقام يا عزيزي! لقد حدث كذا وكذا، فليكن! هذه الأحداث التي لا قيمة لها والتي هي دائماً موجودة، اليوم صعود وغداً نزول، وهكذا تغيّر دائم وتحوّل، فلنسعَ وراء شيء ولنوجّه أنفسنا وقلوبنا نحو مسائل ومطالب غير هذه... أنا لا أقول لا ينبغي الحديث حول هذه المسائل، لا ولكن لكلّ مقام مقال، ولكلّ شيء ظرفه الخاص وزمانه الخاص، فإذا خرج عنها سوف يلوّث الفضاء، ولا يمكن للإنسان أن يحلّق بعد ذلك في فضاء ملوّث، ولا يمكنه العروج، فمثلاً افترضوا أنّي الآن بدلاً من هذه المطالب التي ألقيها للإخوة وهم يقومون بالإنصات إليها بنفوسهم المستعدّة وقلوبهم المستنيرة والمشرقة، فيقومون بالنظر والتفكّر في ما أقول، ويقيّمون نقاط الضعف والقوّة فيه، فإذا ما قمت فجأة بالحديث عن تلك المسائل ماذا يحدث؟ هل تصوّرتم؟ هل تريدون أن نجرّب؟ تقولون: لا لا لا نريد، فهذه الأمور نعرفها أكثر منك، فنحن نعرف هذه الخزعبلات أكثر منك، فنحن أكثر منك اطّلاعاً على ما كتب في الجرائد والصحف، لا بل حدّثنا عمّا سمعت من العظماء وما سمعته من الأولياء وأصحاب الشأن، حدّثنا عن هذا، أما ذاك فنحن نعرفه.
وواقعاً هذا ما يحدث لو تحدّثنا عن هذه الأمور، إذ تكفي جملة واحدة لتفسد جوّ المجلس، جملة واحدة كافية، ولا حاجة أن يتحدّث الإنسان لمدّة ساعة حول تلك القضايا حتى تحصل النتيجة، بل بمجرّد أن يأتي الذهن إلى عالم الكثرة، وبمجرّد أن يأتي الذهن إلى هذه المسائل المتكثّرة في الدنيا، وبمجرّد أن تنزل النفس إلى هذا المستوى.. فإنّ الجوّ يخرب ويفسد. لذا كان المرحوم العلاّمة يقول على الرفقاء حينما يلتقون في مجالسهم أن لا يتحدّثوا في أحاديث دنيويّة، فلا يتحدّثوا عن السياسة والمسائل الاجتماعيّة المستهلكة، فهذه المسائل موجودة سواء تحدّثت عنها أم لم تتحدّث، وهي موجودة في كلّ مكان، أما الشيء الذي هو عزيز وغير متوفّر، فهو الذي ينبغي علينا أن نسعى إليه، الشيء الذي لا نجده في أيّ مكان هو الذي ينبغي لنا أن نبحث عنه ونعثر عليه.
لقد كان للنبيّ موسى حالة كهذه، ثمّ إنّ اللـه تعالى يقول: وأتممناها بعشر، فقد كان الموعد ثلاثين يوماً، فأتمها اللـه بعشر فصارت أربعين يوماً، وإلاّ لكان قال من البداية وواعدنا موسى أربعين ليلة، فاللـه لا يقول: أربعين ليلة، بل ثلاثين، حيث تنتهي المسألة بعد ثلاثين يوماً وينفتح الباب لموسى عليه السلام، وترتفع الحجب والموانع، ويعبر من عوالم المعنى، ويتحقّق له كشف الحقائق الإلهيّة وأسرار العوالم الربوبيّة، ولكن بعد مضي ثلاثين يوماً، رأينا أنّ هناك مجالاً لزيادة عشرة أيّام، وأنّ هناك إضافة قليلة لا بدّ منها كي تستمرّ حقيقة التوحيد، فبلغت أربعين يوماً.

    

آثار ملازمة الصالحين لمدة أربعين يوماً

والعجيب هو أنّ هذه المسألة قد تتحقّق لكثيرين.. لقد تذكّرت الآن مسألة، فقد تذكّرت كلاماً للمرحوم العلاّمة كان يقول فيه: إنّ أحد علماء النجف ـ وكان من العلماء المبرّزين، كان أستاذاً مهماً وخبيراً ـ حصلت لديه شبهة توحيديّة، أمّا سببها فغير معلوم، وعلى كلّ حال كانت شبهة في المسائل التوحيديّة حيّرت ذهنه وشوّشت أفكاره، حتّى أنها أثّرت على صلاته وعباداته، وجعلت أحواله مضطّربة، ولم يمكن له أن يصرّح بها لأحد، فهو رجل ذو لحية بيضاء وبعد ستين سنة هل يعقل أن يأتي ويقول لقد صرت الآن من الكفّار؟ فماذا سيصنع به الناس؟ وماذا سيقولون له؟! شكر اللـه سعيك! ماذا صنعت؟! الأمر الوحيد الذي خطر في ذهنه هو أن يطرح هذه الشبهة على المرحوم الآخوند الملاّ حسين قلّي الهمداني، الرجل العظيم والعارف القليل النظير، والذي كان المرحوم العلاّمة إذا ذكر اسمه تسيطر عليه حالة عجيبة وكنت أرى منه ذلك، وكان نادراً ما يصيبه ذلك عند ذكر سائر العرفاء، مما يعني أنّه رأى أشياء خاصّة لديه، وحين كنت أدقّق كنت أشعر أنّ قضيّة المرحوم الملاّ حسين قلّي الهمداني تختلف عن قضايا سائر العرفاء. والخلاصة أنّ هذا العالم أتى وطرح الشبهة على المرحوم الآخوند فقال له: لا إشكال، ليس الأمر مهمّاً، فقط عليك أن تبقى ملازماً لي أربعين يوماً، وكان هذا العالم يذهب ليلاً إلى منزله ويأتي صباحاً إلى منزل الآخوند ويجلس قربه، وكان يقول له: لا تتحدّث معي، بل اجلس وشاركني فيما نصنع؛ فإن ألقيت درساً فاستمع، وإن تناولت طعاماً فتناول معي، وإن سافرت وخرجت فاخرج معي.. وهكذا فكان يسافر معه، ولم يكن يتحدّث معه دائماً. التفتوا فإنّ نفس الحديث مع وليّ من أولياء اللـه، أو النظر إليه أو نفس وجوده وحضوره، أو إدراك حضوره، انظروا ماذا يصنع هذا الارتباط؟!...
لقد كان أحدهم يأتي إلى مسجد القائم في طهران، وكان يُدعى إلى بعض المناسبات، وكانت له وضعيّة خاصّة، فقد كان إلى جانب الاشتغال بالتبليغ والمسائل العلميّة له اشتغال بمسائل أخرى حقوقيّة، وعلى كلّ حال فقد توفّي رحمه اللـه.. فعندما كان يأتي في بداية شهر رمضان مثلاً الليلة الأولى، فقد كان يأتي على هيئة وشمائل خاصّة، وما إن تمرّ بضعة ليالٍ حتى كان لباسه يختلف، وبعد مدّة تتغيّر لحيته، والحاصل أنّه كان إذا وصل إلى الليلة الخامسة عشر كان يختلف مظهره بشكل كامل، بحيث يفقد ذلك الوضع الذي كان عليه. وفي يوم من الأيّام قام هو بنفسه بذكر هذه المسألة على المنبر، فقد حدثت مسألة ولم يكن المرحوم العلاّمة مرتاحاً إليها، فقد جاء رجل وتكلّم بكلام غير لائق، فتأثّر المرحوم العلاّمة من كلام ذلك الجاهل، فعندما جاء هذا الخطيب في الليلة التالية لهذه المشكلة شرع بمدح المرحوم العلاّمة، وكان جالساً قرب المنبر فاحمرّ لون وجهه من شدّة الحياء والخجل، وكان ذاك الرجل يثني عليه ويقول مثلاً: أنتم لا تعرفون قدر هذه الشخصيّة، ولا اطلاع لديكم من هو، فأنا رأيت الجميع وتحدّثت مع الجميع ولكن هذا الرجل هو شيء آخر، ومن جملة ما قاله: إنّ الإنسان إذا جلس قرب هذا الرجل فإنّه يتغيّر ويتأثّر به شاء أم أبى، نعم إذا جلس قربه ظهر فيه شيء من التغيّر والتحوّل، وأنا بنفسي واحد ممن جرّب ذلك، وهنيئاً لأولئك الذين يحيطون به، هنيئاً لهم. وكان ظاهراً على هيأته وشمائله أنّه قد تغيّر، وبهذه التغييرات ـ وهذه النكتة مهمّة جداً ـ يتغيّر فكر الإنسان أيضاً، لا أنّ حالات الإنسان هي التي تتغيّر فقط. ولهذا يقولون أنّه لا بدّ أن يكون جليسك أفضل منك، ومن هنا ما يقوله مولانا الرومي من أنّ لحظة واحدة من الحديث مع الأولياء تصنع ما تصنع في دنيا الإنسان وآخرته، وما يقولونه من أنّه لا بدّ أن يكون رفيق الإنسان وصديقه فرداً صالحاً، فكل ذلك بسبب هذه المسألة؛ لأنّه بمجرّد أن يحصل هذا الارتباط فإنّ الحالات النفسيّة والتغيّرات والتحوّلات النفسيّة تؤدّي إلى تغيير الأفكار أيضاً. فقد كان قبل ذلك يفكّر بنحو، بينما هو الآن يفكّر بنحو آخر، فيا للعجب، لقد كتب فيما سبق هذا الكلام في كتابه، ولكنه الآن يرى أنّه خاطئ، رغم أنّه لم يفكّر في هذه المسألة ولم يتحدّث عنها ولم يبحث عنها ولم يطالع حولها، ولكن بمجرّد أنّه جلس مع هذا الوليّ، فإنّ هذا الجلوس كان مصحوباً ـ إضافة إلى تغيير النفس ـ بتغيير ذهنه وتصوّراته وتصديقاته وفكره، مما جعله يتراجع شيئاً فشيئاً، فهو الآن يفكّر في المسألة بنحو آخر، ولا يدري ذهنه من أين حصل هذا التغيّر.
والحاصل قال المرحوم الآخوند الملاّ حسين قلّي لهذا العالم: ابق معي أربعين يوماً! فبقي أربعين يوماً، يقول المرحوم العلّامة كان هذا الرجل في اليوم الأربعين في مسجد الكوفة برفقة المرحوم الآخوند، وكان يحمل في يده كتاب اللمعة الفقهي، شرح اللمعة، فقال له المرحوم الآخوند: ما هذا الذي في يدك؟ فقال له: كتاب اللمعة أحضرته معي لأطالع فيه. فقال له افتحه لنرى! ففتحه فكان في تلك الصفحة رواية قد ذكِرَت لمناسبة ما، ومن المعلوم أنّ الروايات المذكورة في اللمعة لا تتحدّث حول المسائل الأخلاقيّة وأمثالها، بل هي روايات فقهيّة، فقال له: اقرأ. فقرأ فكانت رواية عن الإمام الصادق عليه السلام، وبمحض أن قرأها رأى أنّ الشبهة قد ارتفعت، فتعجّب كثيراً حيث رأى أنّ هذه الشبهة ليست بذي بال، نفس هذه الشبهة التي كانت تختلج في قلبه وأوجدت له المشكلات هي ليست بشـيء وجوابها واضح.
فالخلاصة أنّ نفس البقاء لأربعين يوماً له آثاره، وهناك الكثير من الروايات حول الأربعين، وكذلك كلمات الأولياء، وقد أوردنا شيئاً منها في كتاب "الأربعين" مما يتعلّق بخصوصيّات الأربعين. وللمرحوم العلاّمة كلام حول آثاره في تعليقته على رسالة بحر العلوم، كما أنّ للأولياء اهتماماً كبيراً بالأربعين، وهم يرون أنّ تأثير الذكر والورد يكون بعد أربعين يوماً، فهذه ليست مسائل تخيليّة واعتباريّة بل هي حقائق.

    

قيمة أربعين النبي موسى هي في هذه العَشرة الأخيرة

وهنا يتحدّث اللـه سبحانه وتعالى عن موسى ويبيّن أنّا {وَاعَدنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيلَةً وَأَتمَمنَاهَا بِعَشْرٍ} فالثلاثون قليلة، وهناك مجال لأن تظهر المسائل التوحيديّة وتتّضح له بحسب مستوى سعته الوجودية، ولذلك أضفنا عشرة أيّام أخرى، وهذه الأيام العشرة هي العشرة الأولى من ذي الحجّة هذه، فهذا الأربعين يشرع من أوّل ذي القعدة، وهذه العشرة أيّام هي أيّام خاصّة.
وربّما كان الغرض من هذا النحو من البيان هو أن يطلعنا على قيمة هذه الأيّام العشرة، وأنّ هذه الأيّام لها حساب مختلف عن تلك الثلاثين، ولذا كان للأولياء اهتمام خاصّ برعاية المراقبة فيها، والمرحوم العلّامة كان في كلّ عام يتحدّث قبل ورود هذه الأيام لتلامذته ومريديه، ويحثّهم على الاهتمام بمطالب هذه الأيّام العشرة.

    

الصوم وكيفيّة الدعاء يوم عرفة

ومن جملة الأعمال التي ينبغي الاهتمام بها في هذه الأيّام العشرة هو الصوم، فصوم هذه الأيام باستثناء يوم عيد الأضحى حيث يحرم فيه الصوم، أما الأيام التسعة الباقية فصومها مؤكّد، وحتّى في يوم عرفة الذي ورد تأكيد شديد على الصوم فيه، وهناك العديد من الأفراد ذكروا أنّ الكثير من الحقائق قد انكشفت لهم أثناء صوم يوم عرفة، وإن كان المرحوم العلاّمة يقول أنّ من الأمور المهمّة جدّاً في هذا اليوم هو دعاء سيّد الشهداء في يوم عرفة، والذي هو بدرجة من الأهميّة بحيث لو أنّ الصوم عارضه لكان هو المقدّم على الصوم، وهو دعاء عجيب جدّاً، وينبغي أن يُقرأ بتوجّه وتأمّل، لا في الأماكن التي يكثر فيها الضجيج، حيث يقرءون الدعاء ولا أدري ما يصنعون أثناء قراءته؟! يشرعون بترجمته وبقراءة العزاء... فهذا يخرّب الدعاء، بل ينبغي أن يُقرأ كما ورد، وكما أمر الأئمّة عليهم السلام، نعم لا بدّ من الالتفات إلى معاني هذه الأدعية، ولكن لا أن يأتي القارئ ويشرع من عنده... فمثلاً تجد أحدهم يقرأ دعاء كميل فيشرع بالنصيحة أثناءه، فيقلب حال المجلس والدعاء بأكمله، ويتحوّل الشخص إلى حالة أخرى، فلنقرأ الدعاء كما جاءنا ولا نخُوض أثناءه بذكر النصائح وإنشاد الشعر وأمثال ذلك، بل نقرأه كما أمرنا الإمام، لكن لا في مكان مزدحم ومليء بالضجيج، فكلّ ذلك يقلّل من آثار الدعاء في النفس. وكذلك ينبغي أن لا يُقرأ الدعاء بشكل سريع، فالدعاء السريع لا فائدة منه، أفهل نحن في إدارة رسميّة لكي ننجز عملنا ونسجّل حضورنا ونمضي؟!! بل ينبغي أن يُقرأ الدعاء بطمأنينة، وبصوت مرتّل، لكي تأتي هذه الكلمات الواحدة تلو الأخرى فتستقرّ في روح الإنسان، فالإمام هو الذي دعا بهذا الدعاء، وقد جاء على لسان الوحي، فكلّ كلمة من كلماته إنّما جاءت وفق حساب خاص، لا أنّ الإمام وقف يوم عرفات وشرع بالكلام بشكل عشوائي كما نفعل نحن، لا فالإمام سيّد الشهداء عليه السلام دعا بهذا الدعاء وهو في مقام العبوديّة المحضة، في عين إحاطته العلميّة والولائيّة، فقد صدر هذا الدعاء عنه من مرتبة الجمع بين هاتين المرتبتين. هل التفتّم؟ فمن جهة، هو في مقام الولاية والإمامة والإشراف الكلّي والعلّي على عالم الوجود كلّه، ومن جهة أخرى هو في مقام العبوديّة المحضة، فهو أمام اللـه صفر صفر، فأنتم إذ تقرأون دعاء عرفة هل يمكنكم أن تعثروا على فرد أكثر فقراً واحتياجاً ومسكنة من منشىء هذا الدعاء وصاحبه؟ وينبغي أن يكون كذلك، أفهل يمكن لسيّد الشهداء أن يكون شيئاً أمام اللـه؟! هل يمكنه أن يدّعي شيئاً أمام اللـه؟! هل يمكنه أن يعدّ نفسه شيئاً أمامه تعالى؟ هذه هي المسألة التي تجعل هذه الأدعية مؤثّرة، فهذا هو حال الأدعية الصادرة عن العظماء والأولياء، أمّا أن نأتي نحن وننشىء دعاء أو زيارة من عند أنفسنا، فهذه الأدعية والزيارات ستكون ناشئة من نفوسنا، لا من تلك الروح القدسيّة.. وكم فرق بين هذا وذاك؟ بينهما بعد المشرقين، فالتفاوت بينهما تفاوت جوهريّ، هذا صادر من نفس المعصوم وهذا صادر من نفوسنا، فالدعاء الذي يصدر عنه تكمن فيه الحقيقة المحضة والعبوديّة المحضة، والدعاء الذي يصدر عنّا ملوّث بتصوّراتنا وتعلّقاتنا وسلائقنا والزيادات والنقائص...
لذا فالمرجوّ من الإخوة أن يبالغوا في الاهتمام بدعاء عرفة، ويمكنهم أن يقرءوه في مكان هادئ خالٍ من الازدحام، أو أن يجتمع عدد قليل منهم بحيث يقرأ أحدهم ويستمع الآخرون، لا أن ينظر الباقون في الكتاب، فهذا يفسد التوجّه، بل على الآخرين أن يصغوا ويردّدوا بقلوبهم بشكل هادئ مع القارئ فيكون تأثيره أشدّ من تأثير النظر والقراءة مع القارئ، وينبغي أن تكون القراءة في حال من السكوت والتوجّه، وليسعوا أن لا ينظروا إليه كواجب يجب إنجازه والانتهاء من قراءته ليقولوا بعده: الحمد للـه نحن قرأنا ما يجب علينا، فهذا لا فائدة فيه.

    

كلام في الدعاء الملحق بدعاء عرفة

وينبغي الالتفات إلى ما ذكره العلماء العظام من أنّ القسم الملحق بالدعاء هو ليس منه، وإن كان يحتوي مضامين عالية، ولكنّه لا صلة له به، فعندما يقول سيّد الشهداء: يا ربّ يا ربّ يا ربّ يعلم أنّ الدعاء قد انتهى، وأنّ كلّ ما يريد قوله وكلّ المطالب قد قالها. وأمّا أنّ هذه الإضافة من أين جاءت؟ فأنا منذ مدّة مديدة أبحث عن تلك النسخة وأعدّها ضالّة لي، فمن المعلوم أنّ هذا الذيل الذي أورده المرحوم الشيخ عبّاس القمّي في المفاتيح مأخوذ من إحدى نسخ كتاب الإقبال للمرحوم السيّد ابن طاووس، فليست كلّ نسخ الإقبال متضمّنة لهذا الذيل، بل نسخة واحدة منه فقط، فمن أين جاءت هذه الإضافة فيها؟ بالنسبة للحقير من المسلّم أنّها ليست من نفس دعاء عرفة، أمّا كونها لسيّد الشهداء أنشأها في مقامٍ آخر، أم لابن عطاء الإسكندري ـ أحد عرفاء مصر ـ كما يحتمل البعض، حيث أوردها هذا الأخير في مناجاته العطائية، ولكنّها ليست متناسبة مع مناجاته بل تختلف عنها، وعلى كلّ حال يحتمل البعض أنّها له، غاية الأمر أنّ من ألحقها بدعاء الإمام الحسين عليه السلام قد ركّبها تركيباً. ولكن أنا أستبعد أن يكون ابن عطاء الإسكندري قد أنشأ هذه المناجاة، بل أحتمل احتمالاً كبيراً وأظنّ ظنّاً قويّاً أنّ هذه العبارات لمعصوم، غاية الأمر أنّه أوردها في مناجاته، وأنا لا زلت أبحث عن هذا الأمر وقد أوصيت بعض المكتبات أنّها إذا عثرت على النسخ الأصليّة فهي أحد المطالب التي أبحث عنها والتي تمثّل ضالّة لي أحاول العثور عليها، فإذا أمكن للإخوة والأصدقاء العثور عليها فأنا لهم من الشاكرين.
وعلى كلّ حال فدعاء يوم عرفة هذا دعاء عجيب جدّاً، فالإمام يتحدّث فيه عن كلّ مراتب تكوّننا في هذه الدنيا، وعن مراتب التربية ومراتب نزول التوحيد في العوالم المختلفة؛ إلهي أنت كنت لنا وكنت وكنت، أخرجتنا من كتم العدم، وتعهّدتنا ورفعت عنّا الموانع، وهيّأت لنا الوسائل والمعدّات، جعلت تربيتنا على هذا النحو، نجّيتنا من الضلال، أنجيتنا من السقوط في فخاخ الهلاك وشبكات الشيطان، فأنت كنت الحافظ لنا، ولولاك لكنّا من الهالكين، واقعاً عجيب عندما يقرأ الإنسان هذا الدعاء الشفّاف والصريح الذي يصف تمام خفايا وجودنا بكلّ وضوح، فإنّ كلّ خليّة من خلايا جسده ترتجف، وعلى الإنسان أن يقف عنده ويتأثّر به ويهتزّ له. إذا قرأه الإنسان بتوجّه وتمعّن فينبغي أن يترك تغييرات عميقة فيه، ويعرف موقعه الحقيقي.
فهذه أحد الأعمال التي كان المرحوم العلاّمة يوصي بها، وكان هو بنفسه كما أذكر في كلّ سنة من يوم عرفة يذهب بعد الظهر ويجلس في زاوية وحيداً ويقرأ دعاء عرفة. وكذلك حين تشرّفنا بالحجّ، حين كان عمري حوالي سبعة عشر عاماً، أذكر أنّه بعد الظهر من يوم عرفة، أخذ كتاب مفاتيح الجنان ومشى وحيداً بينما كنّا نحن في الخيام، ثمّ رجع قبيل الغروب، وكان قد اشتغل بقراءة هذا الدعاء. إنّ أمثال هؤلاء يدركون قيمة هذا الدعاء جيّداً، ويعرفون أنّ هذه الكلمات قد ترشّحت من قلب المعصوم. وهذه مسائل أوصونا بها، وأكّدوا علينا بها، ويكفي أن يقوم عمل من هذه الأعمال بجذب الإنسان، فهزّة واحدة من الهزّات التي تصيب الإنسان تكفي، وبرقة واحدة من هذه البرقات تكفي لتحرق كيان وجوده وتعلّقاته وكلّ ما هو موجود، ولذا يقولون ينبغي أن لا نقصّر، وعندما نريد القيام بهذه الأعمال فينبغي أن نقوم بها بدقّة وحساب، وينبغي أن نقرأة بتوجّه، لنرى أنّ التأثير الذي يتركه تأثير أبديٌّ خالد، ينبغي أن نغتنم الاستفادة من الفرص.

    

الأذكار التوحيديّة الموسوية ومضامينها الرفيعة

ومن جملة المطالب الأذكار التوحيديّة في هذه الأيام العشرة، وهي المرويّة عن أمير المؤمنين عليه السلام، وتقع في عشر فقرات، وهي أذكار عجيبة، تدعى بالأذكار التوحيديّة الموسويّة، والتي ترجع قصّتها إلى أربعين حضرة موسى، حيث ألقى اللـه إليه حقيقتها وواقعيّتها، ولدينا في الروايات أنّ على الإنسان أن يقرأها، وفي بعض الروايات أن يقرأها عشر مرّات في اليوم، وهذا أفضل، وبالطبع كما ذكرنا ينبغي أن تُقرأ مع الالتفات إلى المعاني: لا إله إلا اللـه عدد الليالي والدهور... عجيب جدّاً، فهؤلاء الذين يشكلون على مباني الفلسفة ومباني الوجود ومباني وحدة الوجود، ومباني صرافة الوجود، والحقيقة البسيطة للوجود، ماذا يقولون في شأن هذه الأذكار؟ وكيف يفسّرون معناها؟! هل يمكنهم أكثر من قراءتها ثمّ الانصراف؟
لا إله إلا اللـه عدد الليالي والدهور، يعني ليس هناك من معبود، ولا من مؤثّر، بمقدار عدد الليالي والدهور، أي أنّ حقيقة لا إله إلا اللـه سارية في تمام عالم المادّة والخلقة، فهذه الواقعيّة والحقيقة هي نفس ذلك الظهور الذي ترونه أنتم بصورة الليل وبصورة الدهر وجريان الفلك الدوّار، فهذه هي ظهور لتلك.
لا إله إلا اللـه عدد أمواج البحور، لحقيقة لا إله إلا اللـه سريان بعدد أمواج البحور، يعني ليس البحر وحده ظهوراً لحقيقة لا إله إلا اللـه وليس له استقلال، وليست الحقيقة التوحيديّة والوجود الصرف ساريتان في هذه البحار فقط، بل حتّى حركتها هي عين الظهور والتجلّي لحقيقة لا إله إلا اللـه.
لا إله إلا اللـه عدد أمواج البحور، لا إله إلا اللـه ورحمته خير مما يجمعون، هو دائماً كذلك وسيبقى كذلك، فإلى أين أنت متوجّه؟! كلّ شيء هو في هذه الجملة، إلى أين أنت ذاهب؟ وإلى من تتوجّه؟ وماذا تجمع وبماذا تتعلّق؟ وخلف من تلهث؟ أنت مشغول بجمع الأموال وجمع النفوس وجمع الأصدقاء وجمع الأنصار، فلماذا أنت غافل عن حقيقة لا إله إلا اللـه، ابحث عن هذه الحقيقة، وانظر إلى رحمة اللـه، وماذا تفعل بك هذه الرحمة! ولكنّك تركت هذه الرحمة ولحقت بالكثرات. لا إله إلا اللـه ورحمته خير مما يجمعون، فالرحمة التي تظهر في النفس بظهور لا إله إلا اللـه فيها لا تُبقي لك شيئاً، لا تُبقي لك تعلّقاً، لا تُبقي لك اهتماماً بالكثرات، ولا كلاماً عن هذه الأمور الفارغة أن افعلوا كذا هنا! وهناك افعلوا كذا! لماذا هنا حدث ذلك؟! ولماذا هناك ارتفع فلان؟! يا ويلاه لقد ارتقى فلان وانخفض الآخر! لقد خسرنا.. لقد ربحنا!! فتلك الرحمة التي تحصل في النفس عند تجلّي لا إله إلا اللـه لا تترك مجالاً لهذه الحسابات.
لا إله إلا اللـه عدد الشوك والشجر، لا إله إلا اللـه بعدد الأشواك والأشجار لا إله إلا اللـه عدد الشعر والوبر فلـ (لا إله إلا اللـه) تجلّيات بعدد كلّ واحدة من أوبار الحيوانات وأشعارها، واقعاً هذا في غاية الغرابة، ومثير لتعجّب الإنسان!
لا إله إلا اللـه عدد الحجر والمدر، بأعداد أحجار العالم، لا فقط أحجار الأرض، وبعدد قطع الطين اليابس المتماسك فيه ـ واقعاً كيف يعرّف اللـه نفسه؟! كيف يبيّن ويقول أنه كلّ شيء؟! أنه في كلّ مكان؟! كيف يبيّن معنى صرافة ذاته؟! بأيّ بيان يبيّن ذلك [إن لم يبيّنه بهذا]؟! بعدد الأحجار لا إله إلا اللـه، بعدد المدر في كلّ العالم لا إله إلا اللـه، أي أنّ كلّ حقيقة ترونها لها جهة ارتباط به، ولها جهة فناء في حدّ نفسها، فهي بدونه فانية: لا إله إلا اللـه، وهي به باقية، فبالارتباط به تحصل على البقاء، وبدون الارتباط به تفنى، أليس هذا هو معنى سريان حقيقة التوحيد في كافّة الأعيان الخارجيّة؟ أليس هذا هو معناها؟ لو كان لها معنى آخر فما هو؟!
لا إله إلا اللـه عدد لمح العيون، لحقيقة لا إله إلا اللـه وجود بعدد نظرات العيون السريعة التي تقع ما بين إغماضين، فنحن الآن إذ نغمض أعيننا ونفتحها، فهذه اللمحة من البصـر هي ظهور لا إله إلا اللـه. بعض الإخوان ينقلون أنّهم عندما يشتغلون بذكر لا إله اللـه وينتقلون إلى باحة المنزل فإنّهم يسمعون نداء لا إله إلا اللـه يرتفع من كلّ ورقة ورقة من أشجار الباحة، تفضّلوا، فهل هذا توهّم وتخيّل؟ إنّه كلام أمير المؤمنين: لا إله إلا اللـه عدد لمح العيون، أي لحقيقة لا إله إلا اللـه وجود بعدد لمحات العيون.
ينقل المرحوم العلّامة أنّ أحد أصدقائه.. رحمة اللـه عليه كان يُدعى السيد عبد اللـه الفاطمي الشيرازي، فقد كانت بينه وبين المرحوم العلّامة علاقة وثيقة وإن تضاءلت في أواخر حياته.. كان يعيش في النجف، وفي ليلة الخامس عشر من شعبان، رآه السيّد جمال الدين الكلبايكاني فقال له: أنا لا أستطيع أن أذهب إلى كربلاء لزيارة سيّد الشهداء، فتفضّل هذا المال واذهب أنت نيابة عنّي وزر عنّي وخذ لي حاجتي. يقول السيّد عبد اللـه الفاطمي: جئت إلى كربلاء وتوجّهت إلى موضع المخيّم الحسيني، ودخلت أوّلاً الحمّام واغتسلت غسل الزيارة، وما إن دخلت الحمّام وكان فيه برك ومخازن للمياه، وحيث كان الماء يتحرّك، كنت أسمع منه ومن حركته صوت "يا هو"، فكلّ موجة تأتي تقول: "يا هو" فمن هذه الجهة يأتي نداء " يا هو" ومن تلك الجهة يأتي نداء "يا هو" على امتداد سعة تلك البركة ـ وحقيقة " يا هو" أقوى من حقيقة لا إله إلا اللـه ـ يقول: كلّ شيء كان يقول "يا هو.. يا هو" والخلاصة أنّي لم أفهم ماذا جرى؟ هل اغتسلت أم لم أغتسل؟ ثمّ خرجت ومضيت لأزور سيّد الشهداء عليه السلام، وبمجرّد أن أردت أن أقول له أنّي جئت أحمل إليكم طلب وحاجة، قال لي سيّد الشهداء عليه السلام: لقد أديّناها اذهب وقل له أدّيناها. ثمّ عدت إلى النجف، وعندما وصلت إلى السيّد جمال الدين لأقول له خبر الحاجة، قال لي قبل أن أنطق: لقد وَصَلَتْ بالأمس. هنيئاً لهؤلاء! هنيئاً لهم، فهؤلاء ربحوا وأخذوا المطلوب.
لا إله اللـه إلا اللـه عدد أمواج البحور، تفضّلوا فأمير المؤمنين يقول إنّ لحقيقة لا إله إلا اللـه ظهور بعدد أمواج حركات البحار. وهذا المعنى يتجلّى لدى الكثيرين، إنّه يتجسّد أمام الكثيرين، لقد اتّضح هذا الأمر للعديد من الإخوة والأصدقاء السابقين والحاليّين، فهذه المعاني واضحة لديهم.
لا إله إلا اللـه في الليل إذا عسعس والصبح إذا تنفّس، فالليل حين يحلّ، والصبح حينما يظهر من جديد، ففي كلّ ذلك لا إله إلا اللـه، لا إله إلا اللـه عدد الرياح في البراري والصخور، بعض الإخوة كانوا يقولون لي: عندما كنّا نسمع صوت الريح كنّا نسمع معه صوت لا إله إلا اللـه، وبالطبع هذا السماع هو بأذن القلب، فهذا كلّه كائن وحقّ. وذلك الذي يقول بأنّ أمير المؤمنين كان يزورني فكانت علامته أنّ الحصى الصغيرة التي في الجدران كانت مشغولة معه بالذكر والتسبيح، فهذا ليس بالقول الهزل، وليس حقيقة الأمر أنّ هذه الأمور تحدث فجأة في ذلك الحين، لا بل هي موجودة وكائنة، غاية الأمر علينا أن نرفع من مستوى الجهاز الذي يلتقطها، فما دمنا الآن نجلس في هذه الغرفة فإنّ كافّة الأمواج موجودة فيها، ولكنّنا لا نسمعها، لماذا؟ لأنّنا لا نمتلك ذلك الجهاز، لو امتلكنا جهازاً فإنّا سنسمع بحسب قدرة هذا الجهاز، فلو كان ضعيفاً سمعنا بعض الأمواج، ولو قويّناه سمعنا أكثر، ولو كان أكثر قوّة أمكننا أن نسمع أكثر فأكثر، وكلّما كان الجهاز أقوى، فقدرته على الالتقاط ستكون أكثر فأكثر، وكما يقول المرحوم الحاج هادي السبزواري:
موسى اى نيست كه دعوى "انا الحق" شنود ور نه اين زمزمه كه در شجرى نيست كه نيست
ومعناه: ليس هناك أحد كالنبيّ موسى عليه السلام ليسمع صوت أنا الحق، وإلا فإنّه ما من شجرة إلا ولها هذا النداء.
ليس هناك من شجرة لا تردد هذا الذكر، فكلّ الأشجار تردّده، ولكن عليك أن تكون كموسى عليه السلام لتسمعها، فدائماً هناك نداء أنا الحق، أنا الحق كان في هذه الشجرة، وأنا الحقّ هو في هذا المكبّر للصوت الذي أمامي، من الذي يسمعه؟ لا بدّ أن يأتي موسى ليسمعه، لا أنّه يخلق هذا الصوت عندما يأتي. و"أنا الحقّ" متحقّق في هذا العامود، و"أنا الحقّ" كائن في هذا السجّاد، و"أنا الحقّ" في هذا المصباح، و"أنا الحقّ" في هذه المروحة التي تقوم بالدوران، وفي حركتها، ففي كلّ ذلك ظهور التوحيد وظهور الحقّ وسريان التوحيد موجود، عليك أن تقوّي الجهاز اللاّقط لتدرك ذلك. ارتفع إلى هذا المستوى فإنّهم سيطلعونك عليه لا على أكثر م نه، وارتق أكثر يطلعوك على الأكثر، ومهما ارتقيت أكثر رأيت ما يناسب الأفق الذي أنت فيه، لا أنّ هذه الحقائق لا وجود لها، لا بل هي موجودة ونحن علينا أن نرتقي إليها، نحن علينا أن نصل لنرى الحقائق المخفيّة، الحقائق التي هي موجودة الآن، لا التي ستخلق لاحقاً، فهي الآن موجودة، غير أنّ العين لا تمتلك الرؤية.
لا إله إلا اللـه من اليوم إلى يوم ينفخ في الصور، ففي كافّة عالم الوجود تسري حقيقة لا إله إلا اللـه. حسناً، لقد طال بنا الحديث عن هذا الأمر، والخلاصة أنّ وصيّة الأولياء العظام في هذه الأياّم هي تشديد المراقبة والاهتمام أكثر.

    

الاهتمام بصلاة عيد الأضحى وتفضيلها على صلاة الفطر

وفي يوم العيد ينبغي إقامة صلاة العيد فهي مستحبّة جدّاً، وعلى الجميع أن يصلّوها، حتّى أنّ أولياء اللـه بحسب اطلاع الحقير كانوا يهتمّون بصلاة عيد الأضحى أكثر من صلاة عيد الفطر، هذا ما يفهمه الحقير، حتّى بالنسبة إلى صلاة عيد الفطر، لأنّ الحالات والخصوصيّات في هذا اليوم لها جوانب وتجليّات توحيديّة خاصّة، فلذاك حسابه وأهميّته، فهو بعد شهر رمضان المبارك وضيافة اللـه، ولكنّ هذا العيد أيضاً لم يسمّ عيداً دون مبرّر، وبغير داع، بل له حسابه الخاص، لذا فالحقير رأى وأحسّ أنّ لهذا العيد أهميّة خاصّة، بالطبع عيد الفطر أهمّ بين الناس، ومن البداية هو كذلك، فهو يأتي بعد شهر من الصيام وبعد الفراغ من الصيام وكم تبلغ السعادة التي تحصل للإنسان بسبب ذلك!... هذا كلّه واضح، ولكن بالنسبة للخواصّ فإنّ عيد الأضحى له حالته الخاصة، لذا فالمرجوّ من الإخوة أن لا يقصّروا عن أداء صلاة عيد الأضحى، وأن يصلّوها حتماً، فهي صلاة في غاية الأهميّة.
نسأل اللـه تعالى أن يثبّتنا جميعاً على طريق أوليائه وأحبائه.

اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.


[1] ـ جزء من الآية (142) من سورة الأعراف

[2] ـ مدينة المعاجز السيّد هاشم البحراني ج 1 ص 426 وفي ذلك اليوم لما سأله عمر، فقال: يا أبا الحسن لقد اقتلعت منيعاً ولك ثلاثة أيام خميصاً فهل قلعتها بقوة بشريّة؟ فقال: «ما قلعتها بقوة بشريّة ولكن قلعتها بقوة إلهيّة ونفس [بلقاء] ربّها مطمئنّة مرضيّة».

[3] ـ الإرشاد الشيخ المفيد ج 1 ص 345 346 وكان من حديث رجوعها عليه في المرّة الأولى ما روته أسماء بنت عميس، وأم سلمة زوج النبي صلّى اللـه عليه وآله، وجابر بن عبد اللـه الأنصاري، وأبو سعيد الخدري، في جماعة من الصحابة: أنّ النبي صلّى اللـه عليه وآله كان ذات يوم في منزله، وعليٌّ عليه السلام بين يديه، إذ جاءه جبرئيل عليه السلام يناجيه عن اللـه سبحانه، فلما تغشّاه الوحي توسّد فخذ أمير المؤمنين عليه السلام فلم يرفع رأسه عنه حتى غابت الشمس، فاضطّر أمير المؤمنين عليه السلام لذلك إلى صلاة العصر جالساً يومئ بركوعه وسجوده إيماء، فلمّا أفاق من غشيته قال لأمير المؤمنين عليه السلام: «أفاتتك صلاة العصر؟» قال له: «لم أستطع أن أصليها قائماً لمكانك يا رسول اللـه، والحال التي كنت عليها في استماع الوحي» فقال له: «ادع اللـه ليردّ عليك الشمس حتى تصلّيها قائماً في وقتها كما فاتتك، فإنّ اللـه يجيبك لطاعتك للـه ورسوله». فسأل أمير المؤمنين اللـه عزّ اسمه في ردّ الشمس، فردّت عليه حتى صارت في موضعها من السماء وقت العصر، فصلّى أمير المؤمنين عليه السلام صلاة العصر في وقتها ثمّ غربت. فقالت أسماء: أما واللـه لقد سمعنا لها عند غروبها صريراً كصرير المنشار في الخشبة.

[4] ـ الصحيفة السجّادية، المناجاة التاسعة، مناجاة المحبّين.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی