معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من رقم 1 إلى رقم 100 > شرح حديث عنوان البصري - الجلسة الأولى: الغاية من تأسيس جلسات عنوان البصري

_______________________________________________________________

هو العليم

الغاية من تأسيس جلسات شرح رواية عنوان البصري

شرح حديث عنوان البصري

المحاضرة الأولى

 

سماحة آية اللـه

السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
حفظه اللـه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين

    

الجلسات التي كان يعقدها العلامة الطهراني لبيان معارف الدين

قبل وفاة المرحوم الوالد ـ رضوان اللـه عليه ـ ومنذ تلك اللحظة التي هاجر فيها إلى مشهد، قلّ احتكاك الرفقاء بكلامه ومطالبه التي كان يطرحها في المجالس، فهو منذ رجوعه من النجف الأشرف كانت مسائل التبليغ والتحقيق والعمل والتحدّث مع الأشخاص والأصدقاء محطّاً لنظره، وقد ورد في رسالة كتبها إلى المرحوم الحاج الشيخ محمد جواد الأنصاري )رحمة اللـه عليه( أنّ: الأصدقاء هنا ـ أي في طهران ـ يأملون في عقد جلسة، فهل توافقون أم لا؟ وقد قال في جوابه: نعم، لا مانع من ذلك. ومنذ ذلك الحين، كان العلاّمة يعقد جلسات نهار الجمعة الدوريّة، كما شرع في شرح نهج البلاغة؛ وقد استمرّت هذه الجلسات الدوريّة (بحسب اعتقاد الحقير) زهاء ثمانية عشر سنة. ومضافاً إلى ذلك، فقد كان في ليالي الثلاثاء ـ وكثير من الرفقاء والأصدقاء الموجودين الآن هنا يتذكّرون ذلك ـ يعقد جلسات لقراءة القرآن في مسجد القائم، وبعد قراءة القرآن التي كان يباشرها بنفسه...

و كذلك كان الأمر في جلسات يوم الجمعة الدوريّة حيث كانت تتمّ قراءة القرآن أوّلاً، فتوضع الرحال[1] في محيط المجلس، ويأتي الأصدقاء مع أولادهم، فكانوا يجلسون ويقرؤون القرآن، فكان أحد الأشخاص الذين لهم اطّلاع أكثر على تجويد القرآن يقوم بتصحيح القراءة.

وفي ليالي الثلاثاء، كان يُشرف [المرحوم العلاّمة] بنفسه على التصحيح وتنظيم قراءة القرآن؛ فكانت مجموعةٌ تقرأ القرآن بهذا الشكل لمدّة ثلاثة أرباع الساعة أو لساعة تقريباً، وبعد ذلك كان يقوم بتفسير القرآن، ولكن في الأيّام الأخيرة كانت له ـ عوضاً عن التفسير ـ جلسات لشرح الأحاديث القدسية، أي تلك الأحاديث التي تبتدأ بعبارة "ياعيسى! يا عيسى" والتي أوردها الشيخ المجلسي رحمه اللـه في المجلّد السابع عشر من بحار الأنوار، ولكن لم تحفظ هذه الشروح القيمة و لم يصل إلينا أي منها، وكذلك الأمر بالنسبة لشرحه لنهج البلاغة، حيث لا يوجد في متناول أيدينا ـ للأسف ـ أيّ شيء مكتوب منها، اللـهمّ إلاّ بالنسبة للتفسير الذي كان يقوم به، حيث كان يدوّن بعض الكتابات المتعلّقة به والتي يُستفاد منها حاليّاً.

لهذا أقول جادّاً أنّنا لم نكن نُدرك في ذلك الزمان قيمة كلام سماحته بشكل واقعي، بل إنّني أذكر جيّداً أنّ العديد من الأشخاص الذين كانوا يُشاركون [في تلك الجلسات] ـ ولعلّهم لم يكونوا من الرفقاء، و كان العديد منهم يأتون بشكل عابر أو كان لهم ارتباط من بعيد ـ كان الكثير منهم ينامون ويغفون إبّان حديثه!! فكان يوقظهم أحياناً، ويقابلهم بأسلوب المزاح. أمّا الآن فنحن ندرك جيّداً حقيقة هذا الأمر و شعرنا ـ بتمام وجودنا ـ أنّه أيّ جوهرة قد ضاعت منّا فعلاً!! وأنا عندما أقول هذا الأمر، فإنّني لا أقوله مزاحاً، بل أقوله من خلال التجربة الشخصيّة التي حصلت لي بعد رحيله عنّا، بحيث أنّ ما خسرناه لا يُمكن أن يُعوّض أبداً.

ولله الحمد، ففي ذلك الزمان وفي ليلة الثلاثاء وكذلك في يوم الجمعة (حيث انتقلت [الجلسة القرآنيّة] ـ فيما بعد ـ من الجلسة الدوريّة إلى مسجد القائم) ، [تمّ حفظ الكثير من تلك الأبحاث القيمة]، وهذه الأبحاث التي تشاهدونها الآن في هذه الكتب حول معرفة الإمام ما هي إلاّ ثمرة للأبحاث التي كانت تُعقد في أيّام الجمعة أو في بعض الشهور المباركة من السنة، حيث كان يتحدّث فيها بنفسه. وكذلك الأمر بالنسبة للأبحاث المطروحة حول معرفة المعاد والتي كان يداوم عليها في بعض الأشهر المباركة أو في ليالي الثلاثاء.

وحقيقةً أنا لا أستطيع إدراك سرّ ذلك الاهتمام، وأيّ اهتمام كان لديه!! وكأنّ شخصاً قد أخذ منه تعهّداً بلزوم قضاء جميع ساعات أيّامه ولياليه في خدمة الإسلام وتبليغ أحكامه.. أجل، كانت أوضاعه بهذا الشكل. لقد قال لي في أحد الأيّام: لو كان الأمر بيدي ووفقاً لميلي ورغبتي، لم أبقَ ولما بقيت ساعةً واحدةً في طهران، ولقد كانت إقامتي في طهران طيلة هذا المدّة امتثالاً للأوامر والتكليف! وثمرة بقائي في طهران هي هذه الثلّة من الشباب الذين تراهم الآن، ولنا معهم مراودات وجلسات وخلاصة القول أنّنا نُجالسهم.. هذه هي ثمرة طهران! وبالطبع، فقد كانت تُطرح من خلال هذه الجلسات العديدُ من المسائل والمطالب التي انبثق مقدارٌ منها على هيئة هذه الكتب، و لكن لم يتمّ ـ مع الأسف ـ تسجيل العديد منها ولا تدوينه في دفتر أو كتاب.

    

بيانات الأولياء و كلماتهم كنز نادر لا ينبغي التفريط به

في أحد الأيّام، أذكر أنّني كنت مريضاً (وقد كان ذلك في ليلة الثلاثاء)، لكنّني كنت قادراً على الذهاب إلى المسجد، فلم يكن الأمر بحيث أنّني كنت عاجزاً، وخلاصة القول، فأنا لم أذهب إلى المسجد بسبب تكاسلي وليس مرضي. أجل، لقد ذهب [المرحوم العلاّمة] إلى المسجد، والمنزل كان في ذاك الزمان قريباً، وحينما رجع قال: يا فلان، لَمْ تأتِ؟! قلت: لا، أنا.. حاصل الأمر أنّي تكاسلت، وتقاعست وتوانيت و... خلاصة القول أنّي أطرقت برأسي خجلاً.
فقال: أجل، ألا تعلم يا سيّد أنّه قد ضاع منك.
قلت: ما الذي ضاع منّي؟ (فهو لم يقصد أن يمدح نفسه؛ لأنّنا نعرفه جيّداً، وقد كانت منزلتُه واضحة ومعلومة. لقد كان يرغب في تحذيرنا، وفي أن يقول: اغْتَنِمُوا الْفُرَص، لأنّك فجأةً ترى بأنّ الفرصة قد جاءت وذهبت، لتتركنا نضرب على رؤوسنا [ونندب حظّنا العاثر] )
قال: لقد تحدّثت في هذه الليلة حول هذه الفقرة من دعاء رجب: اللـهمَّ إنّي أسئَلُكَ بِجَميعِ ما يَدعوكَ بِهِ وُلاةُ أمْرِكَ المأمونونَ علَی سِرِّكَ، ولقد ضاع يا سيّد محسن منك ذلك!

وهذا هو الحقّ! وأنا أعلم أنّه حينما قال: لقد ضيّعت ذلك، فإنّه يعني أنّه تحدّث عن بعض المسائل التي لم يتحدّث عنها إلى حدّ الآن. ففي نهاية الأمر، نحن طلاّب علمٍ أيضاً، ونستطيع إدراك المطالب من خلال القرائنو طريقة الحديث. والعجيب أنّه كان في بعض الأوقات يطرح بعض المسائل التي قد تظهر بصورة مستبعدة؛ وحاصل الأمر، أستطيع أن أقول أنّ تلك المسائل كانت تُطرح بشكل لا إرادي.

أذكر أنّه حينما كنت في المدرسة بقم برفقة أخي الأكبر السيّد محمد صادق ـ حفظه اللـه ـ، كان [المرحوم العلاّمة] عادةً ما يتشرّف مرّة واحدة في كلّ شهر بالمجيء إلى قم، فكان يأتي لزيارتنا، ويتفقّد أعمالنا وبرامجنا وأحوالنا...، وقد دار الحديث في إحدى المرّات عن الطريقة التي نستطيع من خلالها المجيء إلى طهران، وقد كان يصعُب عليّ المجيء إلى طهران في تلك الأيّام، إلى درجة أنّني كنت أودّ أن آتي مرّة كلّ شهرين أو ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر أو أن لا أذهب أصلاً إلى طهران. فقد كان كلّ هدفي وتفكيري منصبّاً على الدراسة وحسب... و هكذا طرحت الأمر عليه بهذا الشكل. فقال لي: إنّ هذه المسائل التي تذكرونها صحيحة ومحفوظة في محلّها، غير أنّكم عندما تكونون متواجدين في قمّ، فلن تطرق أسماعكم تلك المطالب [التي نذكرها في طهران]، فما ستفعلون حيالها حينئذٍ؟!

هل التفتّم إلى الذي يُريد أن يقوله؟ إنّه يريد أن يقول: إنّ المطالب التي يتمّ الحديث عنها ليست بالشيء الموجود في دكّان أيّ عطار!! فقد جاء وبينّ تلك الحقائق بالشكل الذي يصير معه طريق ومسلك كلّ شخص واضحاً ومميّزاً من خلال تلك الكلمات. لقد كانت ذخيرة وثمرةَ تجربةِ عمرٍ طويل، وهي مطالب مُستلهمة من عالم الحقيقة والواقع، ومُستفادة من العظماء والأولياء، وحاصل تجربة سلوكيّة؛ هذا ما كان يُريد أن يقوله. فباللـه عليك، أين يُمكنك أن تجد مثل هذه المطالب في قمّ؟! أين يُمكنك؟

نعم، هذا هو السبب الذي يدفعني للقول بأنّ الأشخاص الذين كانوا يُعاشرونه ويُراودونه في ذلك الزمان كانوا يستفيدون وينتفعون منه بدرجة أكبر ممّا يمتلكونه من قابليّة واستعداد، وبدرجة أكبر ممّا يتوقّعونه.. فقد كان يلتقون به مرّتين في الأسبوع على الأقلّ ، علاوة على أنّه كان لديهم مجلس آخر، لتصير بذلك [لقاءاته بهم] ثلاث مرّات. وقد كان حاضراً على الدوام ومستعدّاً للالتقاء بكلّ من أراد التحدّث معه وكان يقابله و يجالسه و يتحدّث معه، والآن أنا أرى نفسي ملزماً بالعمل بالمسائل التي كان يطرحها ويبيّنها في ذلك الوقت، ويجب عليّ أن أعمل بها الآن!

    

انحسار لقاءات العلامة الطهراني بالأفراد بعد هجرته إلى مشهد

ولكن حينما هاجر إلى مشهد وتشرّف بالإقامة هناك، قَلّت بعد ذلك هذه المحاضرات و المجالس؛ فقد تفرّغ دفعةً واحدة للتأليف وخصّص له جميع أوقاته. نعم، كان أحياناً يتحدّث ويتعرّض لبيان بعض المطالب.

أذكر في أحد الأيّام أنّ أحد الأصدقاء اتّصل به هاتفيّاً من مكان معيّن، وكان يُريد أن يسأله حول تكليفه تجاه مسألةٍ توشك أن تقع، فنظر إليّ [المرحوم العلاّمة] وقال: اذهب وقل له: إنّ ما كان لازماً علينا بيانُه في سبيل توجيه الأفراد وتحديد مسلكهم ومسيرهم قد بينّاه، وأمّا الباقي فَبِعُهدتهم هم، وأنا لن أقدّم أيّ جواب في هذا الخصوص.

أوّلاً: إنّ طرح هذه المسائل في الهاتف يُعدّ بنفسه محل إشكال، وثانياً: إلى متى يجب علينا في كل قضيّة وكلّ مسألة أن نأتي ونسأل؟ هل تُعدّ هذه المسألة مغايرة لما يُطرح الآن؟! فاللـه أعطى الإنسان عقلاً وإحساساً وإدراكاً، والإنسان ليس دائماً على اتّصال بعالمٍ كبيرٍ أو حكيم؛ ففي بضع الأحيان قد يسافر، وفي أحيان أخرى قد تحدث فُرقة وبعد، وفي بعض الأوقات قد تحصل بينونة واختلاف، وقد تطرأ مسألة ما، فلا يتمكنّ [من الحصول عل الإجابة]، فمن غير الممكن أن يكون الإنسان ـ في كلّ أمر ـ على اتصال وتواصل فوري ودائمي في كلّ حال وفي جميع الظروف، فليست المسألة بهذا الشكل، وعلى الإنسان ـ من خلال استيعاب تلك القضايا التي تُطرح وتبيّن و أخذها بعين الاعتبار ـ أن يستنبط بنفسه أمّهات المسائل وأصولها الكلّية، وعلى أساسها يقوم بتعيين مسار حياته، ويتحرّك في مسيره نحو اللـه تعالى متّكلاً عليه.
لقد كان هذا هو أسلوبه. وأذكر أنّه قال لي يوماً في مشهد: يا فلان! قل لهم أن يشرعوا بقراءة هذه الكتب في الجلسات، وليقُم الأشخاص الذين لهم اطّلاع أكثر على القراءة والمطالعة وغيرها بقراءتها على الآخرين، وليبيّنوا هذه المطالب للناس. كان مفاد العبارة التي وجّهها إلـيّ هو أّنّني قد كتبت هذه الكتب وهذه المطالب للجميع، وليس لمجموعة من الأشخاص المعتزلين في جانب من المغارة الكذائيّة. لا! إنّها مخصّصة للجميع؛ فالمراد من السلوك والمسير نحو اللـه هو تقوية الفهم والإدراك، والدعاء وحده لا يكفي يا سيّد! ما أنقله من عبارة العلامة إنّما أنقله دون تصرّف: الدعاء وحده لا يكفي، وفهم المطالب وإدراكها والوصول إليها هو أمر مهمّ بالنسبة للسالك، ونحن ما ألّفنا هذه الكتب إلاّ من أجل أن تُقرأ ويتمّ التأمّل والتدبّر فيها.

    

الغاية من تأسيس جلسات شرح حديث عنوان البصري

قبل وفاة المرحوم العلاّمة وبسبب طروّ بعض المسائل ـ التي لا أرى سبباً لطرحها مرّة أخرى ـ جمعنا أمرنا و ابتعدنا بشكل تدريجي، ولاحظنا أنّه لم يعُد يوجد أيّ داع للكلام وطرح المسائل والسؤال و الجواب وغير ذلك؛ ففي زمان المرحوم العلاّمة، كنّا نتدخّل بأنفسنا في جميع الموارد و...، وأمّا في الأعوام الأخيرة ـ وباستطاعتي القول قبل سنتين أو ثلاثة سنوات من وفاته ـ، فقد طرأت بعض الأحداث التي جعلتنا نعتقد بأنّ الظروف لم تعُد مناسبة لطرح المسائل والمطالب بنفس الطريقة والكيفيّة التي كنّا نطرحها بها في السابق. هذا من جهة، ومن جهة أخرى رأينا أنّه لم يعُد للرفقاء نفس ذلك الارتباط السابق الذي كان لهم بالمرحوم العلاّمة؛ فالمرحوم العلاّمة كان منهمكاً في التأليف، حيث كان يقضي جميع أوقاته في المطالعة والكتابة والتأليف وغير ذلك. وحتى بالنسبة لنا، لم يتوفّر لدينا مجال لكي نأتي عنده ويتفرّغ للحديث إلينا. ومن هنا، فقد أصرّ العديد من الرفقاء ـ بسبب المحبّة التي يكنّوها للحقير ـ على عقد جلسة في تلك الأيّام تُطرح فيها أسئلة وأجوبة، وتكون مجالاً لاجتماع مجموعة من الأشخاص.. يتحدّثون فيما بينهم ويبثّون همومهم لبعضهم البعض، ليعيشوا أجواءً من المحبّة والمودّة والدفء بعيداً عن الوقائع المؤلمة والمزعجة التي لربّما كانت تحدث ـ إلى حدّ ما ـ في تلك الأيّام، لِنوجِد في الأخير أجواءً من الأنس والألفة، وكلّ من كان يرغب في تحصيل تلك الفائدة المرجوّة، كان يستطيع القيام بذلك؛ ولهذا كنّا في نفس تلك الأيّام ـ ولعلّه قبل سنة من وفاة المرحوم العلامة أو أكثر ـ نعقد جلسات في ليالي الخميس. وعادةً ما كان الرفقاء يطرحون هناك سؤالاً، فيدور الحديث حوله، وقد كان الهدف الوحيد من ذلك هو الاجتماع وتحصيل التوافق وجمع الشمل، وبحسب قول الشاعر:

آسمان رشك برد بهر زمينى كه در
                             آن دو سه يارى، دو سه دم، بهر خدا بنشينند

(يقول: إنّ السماء لتغبط الأرض التي يوجد عليها حبيبان أو ثلاثة أحبّة يجتمعون في سبيل اللـه)
هذا هو الهدف الذي كنّا نصبو إليه من ذلك. وقد استمرّ هذا الأمر بهذا الشكل بعد وفاة المرحوم العلاّمة إلى أن تعطّل هذا المجلس مرّة أخرى بسبب طروّ بعض الأحداث. نعم، ينبغي عليّ القول أنّ الهدف من عقد هكذا جلسات ـ والتي لا يصحّ لنا حتّى أن نُطلق عليها اسم الجلسة ـ لم يكن الهدف هو مواجهة بعض الأحداث أو الأمور التي ستقع، بل كان الهدف الوحيد من ذلك هو الاجتماع بحدّ ذاته، وتحصيل الفائدة إن كان من المقرّر أن تحصل فائدةٌ ما، وإلاّ فالعذر عند كرام الناس مقبول، هذا هو الهدف الذي كنّا نصبو إليه وحسب.

في الأيّام الأخيرة، ازداد الإلحاح على الحقير من أجل عقد جلسة تستمرّ إلى ما شاء اللـه، يعني أنّ الرفقاء وواقعاً الأعزّاء والأحبّاء قد أنهكوني من كثرة ما ألحّوا عليّ بأن يا سيّدي! فلنعقد مجلساً، ففي هذه الأيام لا أحد يتحدّث، ولا يتمّ طرح المسائل. فمثلاً، هذا تاجر يذهب منذ الصباح إلى عمله إلى أن يرجع في الليل إلى منزله، وذاك طالب يذهب إلى درسه ويرجع ليلاً إلى بيته، وعليه أن يهتمّ بدروسه وأبحاثه وانشغالاته اليوميّة. وخلاصة الأمر، إنّ الرفقاء كانوا يريدون منّا ـ إذا أمكن ذلك ـ أن نتعرّض لبيان ولو كلمة أو جملة ـ نكون قد حفظناها عن المرحوم العلاّمة، أو كتبناها في دفاترنا، في أوراقنا، أو ما إلى ذلك ـ لعلّها تكون فاتحة للطريق، بحيث تكون هذه الكلمة على شكل مسائل مرتّبة ومصنّفة تُؤخذ بعين الاعتبار ويُمكن الاستفادة منها في مختلف الموارد، فهذا أمر جيّد. لكن ينبغي عليّ القول بشكل جدّي ـ وكلّي حياء ـ بأنّ هذا العبد وهذا الحقير هو مصداق واقعي لهذا البيت الشعري:

مهر جهانسوز چو پنهان شود
                             شب پره بازيگر ميدان شود

(يقول: عندما تغيب الشمس المضيئة، يصير الخفّاش فارس الميدان)

فتلك المكانة التي كان يحظى بها المرحوم العلاّمة وتلك المسائل التي كان يطرحها لا يُمكننا أن نعثر عليها مرّة أخرى، بمعنى أنّه لا ينبغي على الرفقاء أن يتوقّعوا منّي ومن أمثالي طرح مثل تلك المطالب والمسائل ذات المضامين العالية والتي تختلف عن المسائل الروتينيّة والمتعارفة؛ فتلك المسائل لا يُمكن العثور عليها أبداً، وقد تمّ الأمر فيها وعلى الإسلام السلام! والآن، إذا كنتم تريدون أن نأتي (ومن باب ما تقدّم في بيت الشعر السابق) ونُبيّن ما قد يبدو لنا من ذلك الرجل العظيم، وما سمعناه من العظماء من مسائل ـ لكن بشرط أن يكون هدفنا هو إيجاد أجواء من الأنس فقط ـ، فليأت الأصدقاء، وليزُر بعضهم البعض؛ فلا أظنّ أنّ أحداً يُمانع في اللقاء والزيارة، فالمقتضي لذلك موجود، وهو أمر في حدّ نفسه مطلوب.

وفي هذا الصدد، فإنّ مسألة البدء بزيارة السيّدة المعصومة بحدّ ذاتها لها موضوعيّة، وبعد ذلك، لو بدت الضرورة لأحد الأشخاص من أجل طرح كلام، أو سؤال أو أيّ شيء آخر، أو حتى طرح مسألة من المسائل، فلتُطرح، لكن ليس من باب الهداية والطريق والسلوك وأمثال ذلك، بل من باب الاضطرار وقلّة الحيلة، كما يُقال: "از بد حادثه اينجا به پناه آمدهايم".[2] فخلاصة حالنا [جميعاً] أنّنا قد قمنا بكلّ شيء دون أن نتمكّن من سدّ الفراغ الذي كان يملؤه وجودُه، فقرّرنا في الأخير بأن نأتي كمجموعة من الأشخاص ونجلس مع بعضنا البعض، لينظر كلّ واحد منّا إلى الآخر. ففي الأخير، ينبغي علينا فعل شيء ما، وليُكن ما كان... لهذا السبب. أجل، وبحسب المرحوم حافظ الذي يقول:

الا اى آهوى وحشى كجايى[4]
                             .........................

الواقع أنّ قصيدة ساقى نامه (رسالة الساقي) لحافظ هي قصيدة رفيعة جدّاً، حيث يُسدي فيها النصح، ويُبيّن هناك الطريق وخصوصيّاته.

....................................
                             مرا با توست چندين آشنايي[4]
بيا تا حال يكديگر بدانيم[5]
                             ....................................

نعم، ثمّ يقول بعد ذلك:

چنينم هست ياد از پير دانا
                             فراموشم نشد هرگز همانا
كه روزى رهروى در سرزمينى
                             به لطفش گفت رندى ره نشينى
كه اى صوفى چه در انبانه دارى
                             بيا دامى بنه گر دانه دارى
جوابش داد گفتا دام دارم
                             ولى سيمرغ ميبايد شكارم
بگفتا چون به دست آرى نشانش
                             كه از ما بى نشانست آشيانش

(يقول: فأنا لا زلت أذكر نصيحة لشيخ عارف لا أنساها أبداً
أنَّ سالكاً حاذقاً وواصلاً قال لأحد السلاّك:
ما الذي يحويه جرابك أيّها الصوفي؟ أقم وانصب شركاً إن كان فيه حَبّاً.
فأجابه: أجل؛ عندي شراك ولكنّي أروم صيد العنقاء.
فقال: كيف السبيل إلى ذلك مع أنّه لا أثر لعشّها؟)


نعم، من أين لنا أن نعثر على عنوانها؟ فهي تحيى من دون أثر ولا عنوان. ثمّ يشرع بعد ذلك في الكلام، وفي بيان الطريق والمنهج، وبيان نفس مسألة "اغتنموا الفُرص" التي ذكرناها سابقاً. يقول:

چو آن سرو روان شد كاروانى
                             ز تاك سرو مىكُن ديدهبانى
چو نالان آمدت آب روان پيش
                             مدد بخشش ز آب ديده خويش
بياد رفتگان ودوست داران
                             موافق گرد با ابر بهاران

(يقول: بما أنّ شجرة السرو تلك [إشارة إلى قامة المعشوق] قد صارت قافلةً، فلتجعل من غصنها حارساً.

وإذا ما جاءك الماء باكياً فامدد له يد العون من دموع عيونك.

ولتذرف الدمع مثل غيوم الربيع ـ على ذكرى الأحبّة الذين فقدتهم.)

أجل، فهو يقول بأنّه ينبغي علينا في الأخير القيامُ بشيء ما، ولو بمستوى "ذرف قطرات من الدموع والحديث مع النفس"، أو دراسة أحوال العظماء والاتعاظ بها، ومجالستهم، إلى أن يأتي في الأخير نسيم اللطف والعناية الإلهيّة لكي ينتشل الإنسان.

مقالات نصيحت گو همين است
                             كه سنگ انداز هجران در كمين است

(يقول: إنّ أقوال الناصح مفادها أنّ "مقلاع" الهجران كامن لك بالمرصاد فاحذر)

فعندما يحلّ الهجران، فإنّه يضع حاجزاً بين الإنسان وبين الحقيقة والطريق.

ومن هنا، وبالنظر إلى هذه المسألة، فقد أعددت نفسي تدريجيّاً في الأيّام الأخيرة من أجل عقد مجلس ـ إن شاء اللـه تعالى ـ مرّة واحدة كلّ أسبوعين ـ فعليّاً ... إلى أن نرى ما الذي يُقدّره اللـه تعالى وما الذي تقتضيه مصلحتُه ـ، ويكون هذا المجلس مرتبطاً بالمطالب التي يبدو لي أنّ الرفقاء والأحبّة هم مشتاقون ـ من ناحية سلوكيّة ـ إلى سماعها، وفي كلّ موضع تُطرح فيه مسألة ما أو يبرز فيه تساؤل معيّن، يقومون بطرح ذلك.

في البداية، ونظراً إلى أنّني سمعت المرحوم العلاّمة يقول مراراً وتكراراً بأنّه من اللازم والواجب على كلّ سالك ـ نعم، يبقى أنّ المراد من الوجوب هنا هو اللزوم وليس الوجوب الشرعي ـ مطالعةُ حديث عنوان البصري مرّتين في الأسبوع كحدّ أقلّ، فقد

قرّرنا أن نبدأ في الأوّل بترجمة هذا الحديث الشريف، وبعد الانتهاء منه ـ إن شاء اللـه ـ، نشرع في دراسة الأحاديث القدسيّة والكلام حولها، حيث كان المرحوم العلاّمة يتعرّض بنفسه في ليالي الثلاثاء إلى شرح تلك الأحادث القدسيّة المبتدئة بعبارة (يا أحمد!) و(يا عيسى!) ـ التي قد يذكرها الرفقاء ـ وذلك في مسجد القائم. ونرجو من اللـه تعالى أن يشملنا بلطفه وعنايته، وأن يُثبّت أقدامنا دائماً للعمل بما يُوافق رضاه. فالمهمّ في الأمر هو ألاّ يتصوّر الإنسان عند أدائه لعمل معيّن بأنّ ذلك العمل صحيح، ثمّ يكتشف بعد ذلك أنّه صار مصداقاً لقوله تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرينَ أَعْمالا * الَّذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }[6]. يتصوّرون بأنّه دفاع عن الدين، يتصوّرون بأنّه دفاع عن الإسلام، إلاّ أنّ جميع أعمالهم { هَباءً مَنْثُوراً }[7]، فلا يحصلون في الآخرة على أيّة فائدة من هذا العمل.

    

ضرورة العمل و التطبيق و عدم الاكتفاء بإشراف مقام الولاية

إنّ حديث عنوان البصري هو برنامج عمل أعطاه الإمامُ الصادق عليه السلام لعنوان البصري. وخلاصة الأمر أنّي سمعت لمرّات عديدة من المرحوم العلاّمة وكذلك من بقيّة الأعاظم أنّ المسير نحو اللـه لا يتحقّق بالكلام واللسان، وأنّ اللـه تعالى لا قرابة له مع أحد، ومن اللازم على الإنسان أن يعمل؛ فما معنى العمل؟ يعني أن يعلم بحقيقة الأمر بنفسه، ويتوصّل إلى حقيقة المسألة، ويلمس القضيّة بشكل واقعي، ولا يكتفي بمجرّد الاعتماد على إشراف مقام الولاية، بل ينبغي على الإنسان أن يرى أنّ لعمله وكلامه وسلوكه أثراً تكوينيّاً ؛ أي عليه أن يرى أثراً تكوينيّاً للكلام الذي يقوله، وكذلك في علاقته بالناس في العمل وفي المعاملة، وهذا الأمر لا مزاح فيه، وينبغي عليه أن يشاهد أثراً تكوينيّاً في حديثه وفي أوضاعه العائليّة.

ذات مرّة سمعت سماحة السيّد الحدّاد رحمه اللـه يقول: إنّ اللـه تعالى لا يمنح بعض الناس المال والثروة؛ لأنّه منحهم إياها، فلن يستطيعوا تحمّل ذلك، وسينسون أحوالهم، وعندئذٍ سيعتدون على حقوق نسائهم وأطفالهم؛ ولهذا فإنّ اللـه تعالى يحافظ على هؤلاء. إنّ النساء والأطفال هم أمانة اللـه التي وضعها تحت يد الإنسان، فينبغي على الإنسان رعايتها، لا إيداعها في طيّ النسيان، وذلك السالك الذي ينشغل بقراءة ذكر (يا هو) في الليل، وقراءة أشعار حافظ، وقضاء ساعتين أو ثلاث ساعات في قراءة هذه الأذكار، ثمّ لا يلتفت إلى عائلته أدنى التفاتة؛ فإنّ جميع هذه الأمور لن تؤثّر فيه ولو بمقدار رأس إبرة، بل تكون جميعُها { هَباءً مَنْثُوراً }.

كان عمري يناهز الاثنتا عشرة سنة في ذلك السفر الذي شرّفنا فيه المرحوم السيّد الحدّاد بالمجيء إلى إيران، وكنت حاضراً في إحدى جلساته، حيث كان يتحدّث فيها مع شخص معيّن، وقد كانت جلسة خاصّة تضمّ المرحوم السيّد الحدّاد وشخص آخر بالإضافة لي أنا، حيث كنت أبلغ عشر سنوات أو اثنتا عشر سنة من العمر ( هكذا أعتقد، لأني كنت في السنة الخامسة ابتدائي.. وبالتالي فقد كان عمري أحد عشر عاماً)، وقد كان يتحدّث حول الأهميّة التي يجب على الإنسان أن يُعطيها لتصرّفاته وسلوكه، وكان من ضمن ما قاله سماحته: في يوم من الأيّام، تشرّف المرحوم القاضي ـ رضوان اللـه عليه ـ بزيارة كربلاء، وقدِم إلى منزلنا، فخرجت معه من المنزل، وبدأنا نسير على أقدامنا في ذلك الشارع، حيث كان يتحدّث إليّ، وفي تلك اللحظة جاءت طفلته [أي طفلة المرحوم السيّد الحدّاد] الصغيرة ـ واسمها السيّدة علويّة التي كانت طفلة في ذلك الوقت ـ وبدأت تجرّه من قميصه "العربي"، ولم تسمح له بالذهاب، [و هذا طبيعي] ففي آخر الأمر، كانت طفلة صغيرة! لقد أمسكت بقميص أبيها ولم تسمح له بالمسير، وكلّما كان يطردها كانت ترجع مرّة أخرى، وقد تكرّرت المسألة بهذا الشكل مرتين أو ثلاث مرّات، فضاق صدره. يقول المرحوم السيّد الحدّاد: لقد ضاق صدري، فنظرت إلى المرحوم القاضي وقلت له: اسمح لي يا سيّدي بإرجاع هذه الـ ... إلى المنزل. إلاّ أنّه استعمل عبارةً لا أريد أن أذكرها هنا، فلنقل من باب المثال أنّه قام بإهانة تلك الطفلة الصغيرة.

يقول السيّد الحدّاد رضوان اللـه عليه: ما إن نطقت بهذه الكلمات حتى توقّف المرحوم القاضي، وانتفخت أوداجه بشكل كبير ونظر إليّ قائلاً: يا سيّد هاشم! ما هذا الكلام الذي تفوّهت به؟ ما الذي قلته؟!

يقول المرحوم السيّد الحدّاد: فجمعت يديّ ورجليّ، [فقال المرحوم القاضي:] ألا تخجل من توجيه مثل هذه الكلمات إلى سيّدة من ذريّة الرسول؟! ما هو الجواب الذي يُمكنك أن تجيب به اللـه تعالى؟ ما الذي يُمكنك أن تفعله يوم القيامة وأيّ جواب يُمكنك أن تُقدّمه؟ وهكذا استمرّ بتوجيه الكلام إليّ ومعاتبتي وانتهاري، حتى قلت له: سيّدي أنا أعتذر عن ما صدر منّي من أساسه.. لقد تبت... ونظير هذا الكلام ـ فهذه العبارات هي منّي أنا ـ ولكن خلاصة الامر أنّه قدّم اعتذاره.

و بعد أن نقل سماحة السيد الحداد هذه القصّة لذلك الشخص قال له: عليك أن تعلم بأنّ كلّ كلمة تنطق بها فإنّها تترك أثراً تكوينيّاً في هذه النفس بالشكل الذي لا يُمكنك معه أن تُزيل ذلك الأثر. أجل، عندما حصلت هذه القصّة، فإنّ المرحوم السيّد الحدّاد لم يكن بالشخص الذي يأتي ويتباهى بأنّ: أستاذي هو السيّد القاضي، وفتّشوا كلّ الكرة الأرضية، فإنّكم لن تعثروا على نظير له، والواقع أنّه لا يُمكن العثور على مثيل له، وهو أمر صحيح، فلم يكن يوجد من يُماثل المرحوم القاضي؛ أي أنّنا إذا تساءلنا عن الشخص الذي يتلو مولانا بقيّة اللـه أرواحنا فداه، فإنّنا نقول هو المرحوم القاضي، بالنسبة لي على الأقلّ لا أشكّ في أنّه هو ، إلاّ أنّ كلّ هذا لا يكفي، فالحصول على أستاذ كالمرحوم القاضي، والدخول تحت ولايته، بحيث يكون هو المسؤول عن أعمال الإنسان وتصرفّاته، كلّ هذا لا ينفع إلاّ إذا كان السالك يعمل و يطبّق، ولا يغترّ بأنّه يمتلك الآن مثل هذه المكانة والمنزلة،

هذا هو المهمّ! وسنتعرّض إن شاء اللـه تعالى في الليالي المقبلة لبيان المطالب المرتبطة بما يُساهم في تغيير حال الإنسان.

إنّ بيت القصيد ها هنا و هو أنّنا لا نستطيع الاكتفاء بذلك، فاعلموا أنّه إذا أتاكم شخص وقال لكم: (أنتم حصلتم على وليّ، كما أنّ عندكم سيّد [و مرشد]، وأنتم من الآن فصاعداً داخلون تحت حيطة الولاية وقد وصلتم إلى المراد)، فاعلموا أنّ هذا الكلام أشبه بكلام البُله والمجانين منه بكلام شخص منطقي يحسّ بالألم ويعلم أنّه لم يتبقّ له من عمره أكثر من يومين و يعلم أنّه : (وإنّ أَمَامَكم عَقَبَةً كَؤُوداً)[8].

    

التعريف الإجمالي برواية عنوان البصري

إنّ رواية عنوان البصري هي رواية كان المرحوم العلاّمة كثيراً ما يوصي بها إلى درجة أنّه كتبها بنفسه، وكان يضعها في جيبه عندما كان يدرس في النجف الأشرف، وكان ـ مثلما ذكر بنفسه ـ يقرؤها مرّتين في الأسبوع، وهي رواية عجيبة واقعاً ، فحينما سنطّلع في الجلسات المقبلة إن شاء اللـه تعالى على مضامين هذه الرواية، سنكتشف بأنّ الإمام الصادق عليه السلام قد بيّن لذلك الشخص في هذه الرواية حقيقة السلوك والمسير إلى اللـه بأجمعه من خلال عبارات مختصرة وقصيرة.

نُقلت هذه الرواية عن المرحوم الشيخ البهائي ـ أعلى اللـه مقامه ـ، حيث أنّه قال: قالَ الشَّيخُ شَمْسُ الدِّينِ مُحمّدُ بنُ مكِّيٍ نَقَلتُ مِن خَطِّ الشَّيخِ أحمدَ الفَراهانِيِّ رَحِمَهُ اللـه، عَن عِنوانِ البَّصريِّ ، وكانَ شَيخاً كَبيرًا قَد أتَى عَليه أربعٌ وتِسعونَ سَنَةً. قَال: كُنتُ أخْتلِفُ إلى مالكِ بنِ أنَسٍ سِنينَ (أي مرّت سنوات وأنا على علاقة بمالك في المدينة، حيث كنت أتردّد على منزله) فَلَمّا قَدِمَ جَعفرٌ الصَّادقُ المَدينةَ اخْتَلَفتُ إليهِ وأحبَبْتُ أنْ آخُذَ عنه كما أخَذْتُ عن مالكٍ، فقالَ لي يَوماً: إنّي رَجلٌ مَطلوبٌ (ومراقب من طرف أجهزة النظام وواقع محطّ نظرهم، وبعبارة أخرى أنّهم قد وضعوا عليّ جواسيس، فلا أريد أن أرتبط بعلاقات كثيرة مع الناس) ومعَ ذلك لِي أورادٌ (و أذكار) فِي كلِّ ساعَةٍ مِن آناءِ اللَّيلِ والنَّهارِ (وقدومك إلى هنا يُسبّب لي التخلّف عن وردي وذكري) ، فَلا تَشْغَلْنِي عَن وِرْدي وخُذ عَن مالكٍ.
توجد مسألة هنا يجب الالتفات إليها، وهي مسألة ضرورة الذكر والورد من أجل تلطيف السرّ وتجرّد النفس، ولدينا آية قرآنيّة شريفة تقول: { أَلا بِذِكْرِ اللـه تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب }[9] ، و قد ذكر أمير المؤمنين عليه السلام ـ عند استعراضه لصفة أولياء اللـه ـ عبارة تتحدّث عن الأثر الذي يتركه الذكر والورد في نفس الإنسان، و نحن سنكتفي هذه الليلة بترجمة حرفيّة لهذه العبارة، على أن نترك بقيّة المطالب لليالي المقبلة إن شاء اللـه تعالى؛ لأنّنا أطلنا الكلام كثيراً في المقدّمة. يقول عليه السلام: (وَإنَّ لِلذِّكرِ لَأهلاً أخَذوهُ مِن الدُّنيا بَدَلاً فَلَم تَشْغَلْهُم تِجارَةٌ ولابَيعٌ عَنه ...) ، والمراد هنا من الذكر الذي يتحدّث عنه أمير المؤمنين ليس هو الأوراد، بل هو ذكر اللـه [والتوجّه

إليه وعدم الغفلة عنه]. وبما أنّ الأوراد هي عبارة عن تسبيح اللـه تعالى وتحميده وبيان صفاته الجماليّة والجلاليّة، فإنّ الإنسان سيكون عند أداء الورد ـ بالتبع ـ متوجّهاً إلى الذات والصفات الجلاليّة والجماليّة ومتمحّضاً فيها فقط. ومن هذا الباب، فإنّ الأوراد تُسمّى أيضاً بالأذكار. وأمّا حقيقة الذكر، فهي عبارة عن ذكر اللـه تعالى وعدم الغفلة عنه، وسنترك التفصيل في هذه المسألة إلى فرصة قادمة.

ثمّ يقول: "يَقطَعونَ بهِ أيَّامَ الْحَياةِ ويَهتِفونَ بِالزَّواجِرِ عَن مَحارِمِ اللـه فِي أسْماعِ الغافِلينَ ويَأمُرونَ بِالقِسطِ ويَأْتَمِرُونَ بِهِ (ويعملون به قبل الآخرين) ويَنْهَونَ عَن المُنكَر ويَتَناهَونَ عَنهُ (ويسبقون البقيّة في التناهي عنه) فَكَأنّما قَطَعوا الدُّنيا إلَى الأخِرةِ وهُم فِيها فَشاهَدُوا مَاوَراءَ ذلِك؛ فَكأنَّما اطَّلَعُوا غُيوبَ أهلِ البَرزَخِ فِي طُولِ الإقامَةِ فِيهِ وحَقَّقت القِيامَةُ عَليهِم عِداتِها (فتجسّمت لهم القيامة بجميع وعودها و وعيدها، فرأوها عياناً)، فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذلكَ لِأَهلِ الدُّنيا (فهؤلاء هم أشخاص اطّلعوا على جميع ما وُعدوا به، وجاؤوا ليكشفوا الغطاء للناس) حتَّى كأنَّهُم يَرَونَ مَا لا يَرى النَّاسُ ويَسْمَعُونَ مَا لا يَسمَعُونَ[10].

    

دعوة الأولياء مبنية على كشف الحقائق المخفية لا مجرّد وعود

إنّ المطالب التي يتحدّث عنها العظماء هي كشف للحقائق المخفيّة عنّا، لا أنّها مجرّد وعود لكي نذهب ونقوم بالعمل الكذائي. لا، بل هم جاؤوا وكشفوا الغطاء لنا. يقولون: أيّها الناس، لقد ذهبنا وعملنا و طبّقنا، فشاهدنا؛ تعالوا أنتم أيضاً واعملوا لكي تشاهدوا بدوركم، هذه هي المسألة! نحن ذهبنا وشاهدنا تلك الحقيقة، فإذا لم ترغبوا في المجيء، فلا تأتوا، فلن يُجبركم أحد على ذلك.. لن يُجبركم أيّ أحد، ولا تتوهّموا أنّكم إذا لم ترغبوا في المجيء إلى هنا، فإنّ "سوق" اللـه سيُصيبه الكساد. لا، و لا تحسبوا أيضاً أنّكم إذا رغبتم في المجيء، فإنّكم ستملؤون الجنّة بعملكم هذا، لا ليس الأمر كذلك أبداً! فالدلال والتعالي منه هو، و الفضل والمنّة له هو، والفقر منّا نحن؛ فإذا لم نسلك إلى اللـه تعالى، ولم نُدخل هذه المعارف حيّز التنفيذ، فإنّ النظام الإلهي لن يتعرّض للكساد! نحن نظنّ بأنّه إذا استيقظنا في إحدى الليالي وأدّينا ركعتي صلاة الليل، فإنّه على الملائكة أن تصطفّ لكي تشهد لنا الواحد تلو الآخر. ماذا تقول يا عبد اللـه؟! إذا كان الأنبياء والأولياء ـ مع ما يمتلكونه من مقامات وسرائر عجيبة ـ يُقطّعون إرباً إرباً لكي يحظوا بنظرة عطفٍ واهتمامٍ واحدة من اللـه! فكيف بحالنا نحن، ولذا علينا أن نراجع حساباتنا و نعرف موقعيّتنا.

في أحد الأيّام، أتاني أحد الرفقاء بشخصٍ ما، جاء عندي وبدأ يقول ـ خلاصةً ـ : (أنا لست مستعدّاً للإيمان و التسليم لهذا الإله، فقد لاحظت بأنّه يُظهر نوعاً من الترفّع، ويرى نفسه أعلى وأرفع). وكان يتوقّع منّا ـ والحال هذه ـ أن نأتي ونقول له: لا يا عزيزي! تنازل قليلاً عن منزلتك الرفيعة، وصلّ قليلاً في بعض الأحيان، باللـه عليك، فأنت لا

تخسر شيئاً، تعال و... . ولكنّني لمّا انتهى من حديثه، قلت له: يا عزيزي، أريد أن أطرح عليك سؤالاً: إذا اقتحم سارقٌ منزلك، وكان مسلّحاً، ولم تكن تمتلك أيّ سلاح، فما هو موقفك حينئذ؟ وماذا ستفعل إذا قال لك فرضاً: يا سيّد، عليك أن تُسلّمني خزنتك، فهل ستهجم عليه بقبضة يدك؟! قال: لا. قلت: ماذا ستفعل إذاً؟ قال: سأستسلم له؛ لأنّه إذا لم أفعل ذلك، سيقضي عليّ بسلاحه.

قلت له: هل تعتقد باللـه أم لا؟ قال: نعم، ولكنّني لا أؤمن بهذه الأفعال التي يقوم بها. قلت: على الأقلّ، الشيء الذي أُريد أن أقوله لك هو: هل أنّ قدرة وقهاريّة هذا الإله الذي تعتقد به تقلّ عن قدرة سارق اقتحم منزلك؟ أنت تعلم بأنّك ستلتحق بعد يومين بالأسلاف، وحضرة عزرائيل [سيزورك عاجلاً أم آجلاً]، وأنت لا تستطيع إنكار هذا الأمر، فحتى الإنسان المُلحد لا يُمكنه إنكار ذلك، فهو أمر نشاهده بأعيننا، والإنسان لا يمكنه أن ينكر الحقائق التي تواجهه و تمثل أمام ناظريه.. فلا شكّ في وجود ملك اسمه عزرائيل يُمرّغ أنف جميع الطغاة والمتمرّدين في التراب، و لا ريب في وجود ملائكة قاهرة ومسلّطة على كلّ شخص يخطر على بالك في هذا العالم (لاحظوا كيف دخلنا في البحث معه من جهة جلاليّة، على أن نوكل جانب الجمال لفرصة لاحقة إن شاء اللـه)، كما أنّ مصيرنا معلوم. حينئذٍ، مع وجود مثل هذا الإله، ومثل حضرة عزرائيل هذا، ومثل هذه الملائكة التي جاءتنا، هل يحقّ لنا أن نتدلّل ونتعزّز؟! ونقول يا إلهي، نحن لا نعتقد بك. لأنّه سيقول عندئذ: لا تعتقد، فذلك شأنك و لكن تعال وتجرّع! لا مشكلة في الأمر، إذا كنت لا تُريد أن تُؤمن، فإنّ ذلك لا يهمّنا في شيء، ونحن لا نتحمّل الدلال والتعزّز من أيّ شخص، ولدينا هنا ملك اسمه عزرائيل قد طرح جميع طغاة العالم أرضاً ـ وأمّا أنت فأمرك سهل ـ، لقد طرحهم بأجمعهم أرضاً، ولم يتركهم فوق الأرض، بل أرسلهم جميعاً تحت الأرض! ولقد أرسل جميع الأنبياء، وجميع العظماء، وجميع المؤمنين، وجميع الملحدين، وكلّ من يخطر على بالك إلى ذلك العالم.

في أحد الأيّام، كنت أقرأ عن مذكّرات الشاه، فوجدت هناك عبارة مثيرة (نسأل اللـه ألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبداً )، لقد كان الشاه جالساً في مكان معيّن، فبدأ ابنه بالسخريّة، والتفوّه ببعض العبارات التي تدلّ على الاستخفاف باللـه تعالى والدين وأمثال ذلك، فنظر الشاه إلى ابنه وقال: استهزئ بمن شئت، لكن لا تستهزيء باللـه، ألا ترى ماذا حلّ بنا؟!

إنّ جميع هؤلاء الطغاة أذلاّء وحقيرون بين يدي ملائكة اللـه (ونحن الآن نبيّن جهة الجلال والقهاريّة). عندئذٍ، إذا كان لدينا مثل هذا الإله الذي يمتلك أسلحةً ماذا أقول عنها... لو وقفت في مقابلها جميع أسلحة العالم [فإنّها ستكون عاجزة] ، وكان لدينا مثل هذه الملائكة، ومثل هذا القبر، ومثل هذا الحساب، وهذه القيامة، فإنّ الإنسان العاقل عندما يقف في مقابل مثل هذا الإله، فما هو الموقف الذي سيتبنّاه؟ هل سيسعى للانسجام مع هذا النظام، أم لا؟ فما الذي سيفعله شخص عاقل يعلم بأنّه قد لا يبقى حيّاً إلى الغد، وحتّى لو فرضنا أنه سيبقى إلى عشر سنوات أخرى، أو عشرين سنة أخرى، ففي الأخير لن يُعمّر إلى ستين أو سبعين سنة أخرى، ففي نهاية الأمر علينا أن نرحل!

فما الذي سيسعى إليه الإنسان العاقل في هذه الدنيا؟ سيسعى إلى الانسجام مع هذا القانون وسيراعي مقرّراته، وأيّ قانون هو؟! إنّه قانون يُحدّد له الحياة ويُؤمّنها له، ويُمهّد له السعادة؛ هذا هو الإنسان العاقل.

فإذا ما اقتحم منزلكم سارق يحمل سلاحاً مزيّفاً على شكل لعب أطفال من دون أن تنتبهوا لذلك، بحيث أنّه يُجبركم على تحكيم العقل من أجل الاستسلام لرغباته، فإنّكم في هذه الحالة لا تواجهونه و لا تقولون: نحن سنهجم عليه بقبضتنا كما هجم علينا... لأنّه سيرفع [ذلك السلاح في وجوهكم] ، و من المحتمل أن يكون سلاحاً حقيقيّاً فيؤذيكم.

حسناً، إذا كان السلاح المزيّف ـ الذي هو على شكل لعب أطفال ـ قد أجبرك على تحكيم العقل، فكيف لنا إذاً أن نتساهل ونتسامح ونجامل في مقابل نظام الخلقة والسعادة والمستقبل الذي لا نشكّ فيه أبداً؟! فمن الذي نريد أن نخدعه بذلك؟ هل نريد أن نخدع اللـه تعالى؟ بل نحن نخدع أنفسنا!
نعم، يبقى أنّ ما قلته اليوم هو جانب من جوانب المسألة، إلاّ أنّنا عندما نُدقّق في كلام أمير المؤمنين عليه السلام، وفي العبارات التي ذكرها العظماء، وفي الحالات التي كانت تعرض عليهم، وفي دقائق لطائف أسرار الوجود، وفي لطائف ورقائق المشاهدات الجماليّة والأنس بمقام سرّ وحقيقة "لو دنوتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ" .. في ذلك المقام حيث يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "بَل وجَدتُكَ أهْلاً لِلعِبادةِ فَعَبدتُكَ" ، أي أنّني تجاوزت مقام جلالك وجمالك، وعبرت من مقام التهديد والإرعاب والخوف من الضرب والعقاب أو الطمع في السكاكر ولعب الأطفال، فعليٌّ قد تجاوز هذه الأمور، وأعرض عن اللُّعب، وعبر إلى ذلك المقام الذي يرى فيه المحبوب فقط، وصار وجوده بأجمعه ـ شاء أم أبى ـ يهوي للسجود في مقابل المعبود .. [إذا دقّقنا في ذلك فستتبيّن لنا جهات أخرى]، و لكنّنا سنوكل هذه المسائل إلى فرصة قادمة إن شاء اللـه تعالى، فنحن قد أردنا أن نقول هنا بأنّه علينا ألاّ نستهين بهذه الأمور إلى هذا الحدّ، فسوف يأتي علينا يوم يُكبّلوننا فيه، ويضعوننا في المستشفى ويُقطّعوننا إرباً إرباً، ثمّ يرحلون بنا! هذا اليوم سيأتي حقيقة! ولا مزاح في المسألة! سواءً شئنا أم أبينا، فإنّهم سيرحلون بنا. حسناً، فما العمل إذن بالنظر إلى مسألة من هذا القبيل؟

نرجو من اللـه تعالى أن يشمل حالنا بلطفه وعنايته دائماً وفي جميع الأحوال والأوقات، وألاّ يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبداً، وأن يكون لطفه سبباً لرشدنا وارتقائنا ووصولنا إلى درجة الكمال، وألاّ تكون أيدينا قاصرةً عن التعلّق بأذيال الأولياء، وأن تكون أعمالنا وأفعالنا وتصرّفاتنا محطّ نظر ومحلّ رضا الحقّ تعالى على الدوام.

اللـهمَّ صلِّ عَلَى محمَّدٍ و آلِ محمَّد


[1] ـ الرحل قطعتان من الخشب يوضع عليهما المصحف الشريف عند تلاوته. المترجم

[2] ـ مصرع بيت من شعر فارسي للخواجة حافظ الشيرازي (قدّس سرّه) هذا مطلعه: ما بدين در، نه پي حشمت وجاه آمدهايم، والمعنى هو: ما أتينا هذا الباب لكسب المقام والجاه، بل أتيناه لائذين بسبب الحوادث السيّئة.

[3] ـ يقول: ألا أيّها الظبي الوحشي، أين أنت؟ (و تتمة البيت تأتي بعد اسطر. المترجم)

[4] ـ يقول: فلي بك معرفة قديمة.

[5] ـ و تتمة البيت: مراد هم بجوییم ار توانیم. و معناه: تعال لكي يتعرّف كلّ واحد منّا على الآخر، ونبحث عن مرادنا بقدر استطاعتنا.

[6] ـ لآيتان 103 و 104 من سورة الكهف.

[7] ـ آخر الآية 23 من سورة الفرقان

[8] ـ نهج البلاغة، جزء من الخطبة 204.

[9] ـ سورة الرعد (13)، ذيل الآية 28.

[10] ـ نهج البلاغة، الخطبة 222.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی