معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > وصايا و تعاليم و دستورات > توصيات شهر رجب > الوصايا الخمس للاستفادة من الأشهر المباركة

_______________________________________________________________

هو العليم

الوصايا الخمس للاستفادة من الأشهر المباركة

مقتطف من محاضرة حجية أولياء اللـه رقم 11

ألقيت في 25 جمادى الثاني من سنة 1433هـ

لسماحة آية اللـه

السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه اللـه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
وصلّى اللـه على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى أهل بيته الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين[1]

    

تأكيد الأولياء على عظمة الأشهر الثلاثة

الأشهر الثلاثة المباركة التي سنستقبلها بعد قليل، ينبغي أن نلتفت إليها و نهتمّ بها، فالوصايا التي كان العظماء يؤكّدون عليها حول الدخول في هذه الأشهر الثلاثة (رجب وشعبان وشهر رمضان)، لم يكونوا يؤكّدون على مثلها في غير هذه الأشهر. وفي الواقع أظنّ أن الذي كانوا يريدونه من هذا التأكيد هو القول بأن نتيجة الأشهر التسعة التي تقدّمت في المراقبة والذكر والحركة، ينبغي أن تحصّل هذه النتيجة في هذه الأشهر الثلاثة، والإنسان عند دخول شهر رجب يشعر بأن الفضاء يتغيّر، ألم تشعروا بأن الفضاء والجوّ وتلك الحالة النفسانيّة والخصوصيّات تتغير في هذا الوقت؟! إنّ هذه المسألة ملاحظة بشكل كامل، وبالأخصّ في شهر رجب، وكذا شهر شعبان وبعده شهر رمضان الذي يشتمل على ليالي القدر، والتقدير الإلهي يصل إلى مرحلة الإنجاز في هذا الشهر، يعني عندما يدخل شهر رجب تبدأ حركة المشيئة الإلهيّة وسيرها نحو التشكّل والتحدّد.

    

البدء بتشكل المشيئة الإلهية في شهر رجب

عندما يريد الرسّام أن يرسم لوحة، يشرع في البداية بوضع الألوان وسائر الأمور.. بحيث يصير من أوّل الأمر مشخّصاً لدى الناظر الاتجاه الذي تسير فيه هذه اللوحة. وعندما يصل إلى الأخير تصير هذه اللوحة واضحة جداً، وتصير الصورة مشخّصة.
إنّ المشيئة الإلهيّة والتقدير الإلهيّ الذي يكتب للإنسان في السنة القادمة يبدأ من أوّل شهر رجب، ثم شيئاً فشيئاً يبدأ بالتشكّل، لذا كان الأولياء يوصون دائماً بأنـّه ينبغي على الإنسان أن يحافظ على نفسه أكثر في هذه الأشهر. لقد كنتَ إلى الآن محافظاً على لسانك وتصرفاتك، ومحافظاً على أعمالك.. لكن من الآن فصاعداً لتكن هذه المحافظة بشكل أكبر.
كان المرحوم العلاّمة في مثل هذه المجالس دائماً يذكر هذا الشعر:
صَمت وجُوع وسَهَر وعُزلت و ذكرى بدوام نا تمامان جهان را كند اين پنج تمام
(الصمت والجوع والسَهَر والعُزلة ودوام الذِكر؛ هذه الخمسة ستجعل غيرَ الكاملين في العالم كاملين).

    

أهميّة الصمت والضرر المترتّب على الكلام

فالصمت يعني السكوت في غير الموارد الضرورية، فنحن إذا نظرنا إلى أنفسنا نرى أنّ الأصل عندنا هو الكلام إلاّ إذا لم يعد لدينا قدرة على الكلام، أو إذا لم يعد هناك مستمع! فنحن نتكلّم ونتكلّم مثل المسجّل.. إلى أن يتوقّف! مثلاً نذهب للقاء الأخ، نسأله كيف حالك كيف أوضاعك وما هي الأخبار؟ وهكذا..! يا أخي لماذا تسأل عن الأوضاع؟ فأوضاعه جيّدة جدّاً، ولا يوجد أيّ شيء جديد.. لكن لا بد من الكلام. حتى الآن لم نتّخذ هذا الأصل أساساً لنا بأن نجعل السكوت هو الأساس، فما الذي حصلنا عليه من هذا الكلام الفارغ؟! خصوصاً الكلام الذي يجري على مائدة الطعام! فما إن توضع السفرة حتى نبدأ بالكلام، ونقول الخضار لم ينظّف جيداً، والخبز لم ينضج بعد.. يا أخي دعنا نكمل الطعام، لا داعي لهذا الكلام.
كنت في أحد الأيام جالساً على مائدة مع بعض الأشخاص الذين كانوا يتحدّثون فيما بينهم، فقمت بتسجيل الحوار دون أن يشعر أحد بذلك، وبعد انتهاء الطعام قلت لهم: أفرغوا الكلام الموجود في هذه المسجلة على الورق، وانظروا ما الكلام الذي دار في هذه النصف ساعة؟! يا أخي تناول طعامك وأنت ساكت؛ إذ التكلّم أثناء الطعام مكروه، والسكوت أثناء الطعام أفضل وأسلم للمعدة، ويمكنها هضمه بشكل أفضل؛ لأنّ الهواء يدخل إلى الجوف إذا تكلّم الإنسان أثناء تناول الطعام، بالإضافة إلى أنّ النبي والأئمّة والأولياء لم يكونوا يتكلّمون أثناء الطعام. فقد جلسنا على مائدة المرحوم السيّد الحدّاد والمرحوم الوالد، وقرأنا في الكتب بأنّهم لم يكونوا يتكلّمون، بل كانوا يتناولون طعامهم بهدوء وسكوت... وسوف نتعرّض لبيان هذه المسألة في جلسات عنوان بشكلٍ مفصل، وسنبيّن أنّه عندما يتحدّث الإنسان يخرج من نفسه شيء معين، وتصير نفسه خالية منه، بينما الأشخاص الذين لا يتكلمون يبقون مليئين، والأشخاص الذين يبقون ساكتين لديهم استقرار، ولديهم اطمئنان.. وليس المراد أن يبقى الإنسان ساكتاً حتى في الموارد الضروريّة.. يقول: نحن لدينا تكليف بأن لا نتكلّم! لا ليست المسألة كذلك، والضـرورة بدورها معلومة والإنسان يعلم متى يتحدّث ومتى لا يتحدّث.
عادةً نرى أنّ الناس يبنون علاقاتهم على أساس التكلّم، هذا الأمر خطأ! أحد مباني السير والسلوك خلاف ذلك تماماً؛ أي أنّ الأصل هو السكوت!
عندما كنّا نذهب إلى العلاّمة الطباطبائي أو يأتي إلينا، لم يكن يتحدّث ما لم يُسأل، بل كان يبقى ساكتاً.. نعم، في موردين أو ثلاثة كان هو الذي فتح الحديث مع الحقير دون أن أسأله، لكن ذلك كان نادراً منه. لذا نرى كم كان رزيناً ومتيناً وكم كانت نفسه مطمئنّة وكم كان مليئاً؟! أمّا إذا أراد الإنسان أن يتحدّث، ونفسه تحاول أن تقضي الأوقات في الكلام، فهذه الحالة بنفسها ضرر؛ أي حالة انتظار أن نتحدّث بشيء، فهذه الحالة بنفسها أمر سيّئ، سواء تحدثنا أم لم نتحدث. لذا ينبغي أن يكون بناؤنا إذا كنّا في مكانٍ ما أن نبقى ساكتين، إلاّ إذا طرأ مطلب أو جرى سؤال عن شيء.. امتحنوا ذلك، وشاهدوا النتيجة!
في هذه الأشهر الثلاثة كان العظماء يوصون بأنّه ينبغي مراعاة هذه المسألة بشكل أكبر، أي أنّه ينبغي على الإنسان حتّى الإمكان أن لا يتحدث في المنزل، لا أن يمتنع عن الكلام أساساً، فهذا أمر خطأ، لكن عليه أن يراعي هذا المطلب.
وهذا الأمر كما يجري في الكلام فإنّه يجري في الاستماع أيضاً (وإن كان الكلام أثره أعظم من السماع)؛ فإذا فرضنا أنّ شخصاً في المنزل يشغّل الراديو بشكل دائم، بحيث أنّ صوته لا ينقطع عن أذن الإنسان، [فذلك أمر خاطئ].. يا عزيزي الإنسان بحاجة إلى سكوت وهدوء، ألا يكفي ما يسمعه من الأصوات والضوضاء في الشارع وخارج المنزل؟! وهكذا الأمر بالنسبة إلى استماع الحديث والكلام.
ينبغي على الإنسان أن يراعي هذا المطلب في هذه الأشهر الثلاثة بالخصوص، وسوف نرى آثاره بشكل مباشر.

    

مراعاة الجوع وأهميّة الصوم في هذه الأشهر

الثانية الجوع، لكن لا الجوع المضرّ، بمعنى أنّه على الإنسان أن يترك نفسه جائعاً، ولكن بحيث لا يغلبه الضعف، وأفضل حالة للسالك من الناحية الجسمانيّة هي أن لا يشعر بثقل في معدته، بل أن يشعر بالخفة، لا الضعف، فمثلاً عندما يأكل التفاح يرى بأنه تكفيه نصف تفاحة، فهنا عليه أن لا يتناول النصف الثاني، بل إذا أكل النصف الأول وشعر بأنه امتلأ فليترك النصف الثاني جانباً، أو قد يشعر بذلك عند تناول ربع التفاحة، فليكتف بها دون الباقي. هذا معنى الجوع، لا الجوع بمعنى الضعف، فإن الضعف ليس مطلوباً ولا صحيحاً، بل أثره سلبي.
من الجوع الصوم، لذا في هذه الأشهر الثلاثة جرى التأكيد على الصوم.. نعم، الصوم في شهر رمضان واجب، أمّا في هذين الشهرين فنرى أنّ العظماء كانوا يكثرون الصوم فيهما؛ ولدينا في الروايات بأنّ رسول الله كان يصوم هذه الأشهر الثلاثة، وكان يصِل شهري رجب وشعبان بشهر رمضان. وللصوم في هذين الشهرين آثار كبيرة جداً، نعم، هذا بالنسبة إلى الذين لا مانع لديهم من الصوم من مرض أو ضعف، و أمّا من كان كذلك؛ فليكتف بتناول المقدار القليل من الطعام، وليقلّل مقدار الطعام فيها حتى تستطيع النفس الاستفادة بشكل أفضل من العنايات والبوارق والنفحات التي تصل إلى القلب، ولا يشغل نفسه بالطعام والجهاز الهضمي، بل عليه أن يبقى حرّاً من هذه الجهة، وإن بقي حرّاً أمكنه أن يستفيد أكثر من هذه النفحات.
لذا كان المرحوم العلاّمة يقول بأنّه ينبغي على الإخوة أن يسعوا للصوم ثلاثة أيّام في الأسبوع على الأقل في هذين الشهرين، وأمّا الأيّام الأربعة الباقية فبحسب حاله ووضع معدته، والهدف من ذلك أن يحافظ على فضيلة الصوم في هذه الأيام، بحيث أنّه إن أفطر يوماً وأراد بدنه أن يعتاد على الطعام؛ صام في اليوم التالي ويستمر على ذلك. وأمّا الذين ليس لديهم أيّ إشكال في الصوم، فليصوموا جميع الشهر! ما المانع في ذلك! وليتنعّموا ببركات الصوم والفوائد المترتّبة عليه في هذين الشهرين.

    

إحياء الليالي بالعبادة والدعاء

و[الثالث] السهر أي إحياء الليل، يعني ينبغي أن يهتمّ بليالي شهر رجب وشعبان وشهر رمضان، وعلينا أن نعرف قيمة هذه الليالي، فإنها تختلف عن غيرها من الليالي، فهذه الليالي لها خصوصيّة، وإن كانت ليالي شعبان لها خصوصيّات مختلفة، وهي مهمّة أيضاً؛ فإحياء ليلة النصف من شعبان فضيلة، وكان المرحوم العلاّمة يحيها في كلّ سنة مع رفقائه وأصدقائه، وكان يقرأ فيها دعاء كميل.. فالإحياء مهمّ جداً، نعم ليس من الضروري في هذا الإحياء أن يشتغل الإنسان دائماً بالصلاة والذكر، فلا إشكال في صرف بعض الوقت في مطالعة مطالب العظماء، أو قراءة أدعية شهر رجب، أو يستمع إلى من يقرؤها، وقد كنت أشاهد أنّ المرحوم العلاّمة في الكثير من ليالي شهر رجب وشعبان (عندما كان في طهران، وكذا بعد انتقاله إلى مشهد) كان يستمع إلى تسجيلات الأدعية التي سجّلها له بعض الإخوة.
وفي ليالي شهر شعبان كان يستمع إلى المناجاة الشعبانيّة، وهذه المناجاة عجيبة جداً، وكان يستمع إليها كلّ ليلة، وكانت دموعه تنهمر على خدّيه أثناء ذلك. وفي شهر رجب كان يستمع إلى الأدعية التي سجّلت له أيضاً.
وكذا كان يستمع إلى الأشعار، أشعار العرفاء أمثال أشعار حافظ الشيرازي ومولانا وابن الفارض، فإنّ هذه الليالي هي الوقت التي تقرأ فيه هذه الأشعار.. فهذه الأيّام والليالي هي محلّ قراءة هذه الأشعار، فالأشعار والحقائق تترك أثرها الخاص في نفس الإنسان في هذه الليالي، بالإضافة إلى الأدعية والآثار المنقولة عن الأئمة عليهم السلام، فإنّ آثارها محفوظة هي الأخرى، حيث جرى التوصية على استمرار قراءة أدعية شهر رجب، وكذا أدعية شهر شعبان وشهر رمضان. وفي شهر رجب على الإخوة حتماً أن يقرؤوا هذه الأدعية جميعاً، فإذا لم يستطيعوا قراءتها جميعاً فليقرءوا اثنين أو ثلاثة منها، وليلتفتوا إلى معانيها؛ لا يقرءوها دون التفات إلى المعاني، فإنّ الأفضل للإنسان أن يقرأ هذه الأدعية مع التمعّن بالمعاني، حتّى يمكنه أن يستفيد إلى حدّ ما من روحية هذه المضامين.
ويقرأ دعاء مكارم الأخلاق خصوصاً في شهر رجب وشهر شعبان، فله مضامين عالية جداً، وإن لم يستطع أن يقرأه كل يوم، فليقرأه في الأسبوع مرة. وكذا يقرأ الزيارة الجامعة الكبيرة في شهر رجب، فإنّ الأولياء أكّدوا على الاهتمام بقراءتها، وكنت أرى كيف كانوا يداومون على قراءة الزيارة الجامعة الكبيرة خصوصاً في شهر رجب، حيث كانوا يقرءون دعاء مكارم الأخلاق والزيارة الجامعة الكبيرة، بالإضافة إلى قراءة المناجيات الخمسة عشر للإمام السجّاد عليه السلام في شهري رجب وشعبان، وقراءتها في هذين الشهرين له أثر واضح وبيّن؛ كمناجاة المحبّين ومناجاة التائبين ومناجاة المريدين، كان الأولياء والعظماء يؤكدون كثيراً على قراءة المناجاة الخمسة عشر في شهر رجب. من هنا كان المرحوم السيّد الحدّاد يقرأ في كل يوم من أيّام رجب واحدة أو اثنتين من هذه المناجيات بصوته، سواء في النهار أو في الليل أثناء صلاة الليل. هذه أدعية شهر رجب.
وقد ذكرنا مسألة إحياء الليالي بأنّها جيدة، نعم من الأفضل للإنسان أن ينام مقدار ساعة أو ساعتين، ليجدّد بذلك قواه، وبعدها ينهض للإحياء بهذه الأمور. إذ ليس من الصحيح أن يحيي الإنسان الليل بحالة من التعب، لقد قرأتم في الروح المجرّد أن المرحوم العلاّمة ذكر بأنّه ينبغي أن يأكل شيئاً لتبقى النفس بحالة من النشاط، لكن لا يأكل شيئاً ثقيلاً؛ بل يأكل فاكهة أو تمراً، ويتناول الشاي مع التمر، بحيث لا يثقله هذا الطعام، فإن أكلت شيئاً وشعرت بأن قلبك انقبض فتوقف مباشرة، حتى لو فرضنا أنّ الباقي كان قليلاً، فاتركه! دع حالة النشاط والخفّة هي الغالبة عليك، هذا هو الطريق الأفضل للحصول على النشاط المطلوب.

    

العزلة وعدم إضاعة الوقت في علاقات فارغة

و[الأمر الرابع] العزلة وهي بمعنى الابتعاد عن الأشخاص والأحداث غير المفيدة وغير الضروريّة؛ كأن يشغل الإنسان نفسه بمسائل لا قيمة لها أبداً، إذ لا فائدة في ذلك، بل عليه أن يبتعد عنها، وعليه أن يبتعد عن العلاقة مع الناس، تلك العلاقات التي لا تجلب سوى إضاعة الوقت، كأن يخرج الإنسان من منزله ويقول: ما زال لديّ ساعة لكي يفتح الدكّان أو تفتح الإدارة.. يقول فلأذهب في هذه الساعة إلى فلان، وبعد ذلك نذهب إلى الدكّان أو الإدارة، أو أن يكون لديه عمل في مكان معيّن، فيقول بما أنّ هناك ازدحام في ذلك المكان الآن، فلنذهب لزيارة فلان.. جميع هذه اللقاءات لا فائدة فيها ولا نتيجة منها، إذ لا هدف وراءها ولا غرض، بل هي مجرّد إتلاف للوقت. فهل على الإنسان أن يضيّع وقته في مثل هذه الأمور، ويصرفه في مثل هذه اللقاءات؟!! إنّ صرف الوقت بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا هدف لديهم لا إشكال فيه، كأن يجلس ساعة أو ساعتين للحديث، أما الذين يشعرون بالحاجة ومن يعتبر بأنّ لديه حساباً وكتاباً فهذا عليه أن يفكّر بمطالب أكثر أهمية.. عليه أن يلتفت إلى أنّ اللقاء مع أيّ شخص لا يمكن أن يمرّ هكذا، بل إنّه يترك أثراً في النفس، وهذا الأثر من جملة الآثار التي يصعب نزعها من النفس والتخلّص منها، إذ تتغيّر حالة الإنسان معها، لذا لم يأمر العظماء بالعزلة عبثاً. طبعاً المراد بالعزلة ليس بمعنى الانعزال والترك، بل بمعنى تصحيح العلاقات لا الانعزال، أي عليه أن يتخلّى عن الزوائد لا الضروريّات!وكذا الحال في ارتباط الأخ بأخيه، عليه أن يلاحظ هذه المسألة حتّى تكون هذه العلاقات هادفة، لا أن تمرّ كيفما كان.

    

الذكر وحقيقته

و [الخامس] الذكر الدائم، والمراد بالذكر هو أن يكون الإنسان في حالة التوجّه؛ سواء كان يلفظ الذكر أم لا، أن يرى دائماً أنّ الله تعالى حاضرٌ وناظر، فلا يغفل أبداً عنه ولا ينسى حضوره، فإذا فرضنا أن ضيفاً مّا كان في المنزل، فكم يكون الإنسان ملتفتاً في تعامله ومنتبهاً؟! علينا أن نتعامل بجزء من هذا المقدار مع الله تعالى، لا نقول بهذا المقدار تماماً!! [ولكن على الأقلّ] علينا أن نحسب لله حساباً وندخله في حسابنا.

    

ضرورة الاستمرار على هذه الأمور بشكل دائم

وهذه الأمور الخمسة ينبغي أن تكون بشكل دائم، لا خصوص الذكر، بل الصمت بشكل دائم، والجوع والسهر والعزلة وكذا الذكر جميعاً ينبغي أن تكون بشكل دائم، أما إذا لم تكن بشكل دائم بل بشكل مؤقت؛ كأن يذكر يوماً وينسى يومين، أو يفعل ذلك ثلاثة أيام، وبعد ذلك ينسى.. فإن كان كذلك فلا فائدة فيه.
كنت يوماً ـ قبل أن أضع العمامة وكان عمري حدود ثمانية عشر أو تسعة عشر عاماً ـ أمشي هنا في قم وكنت عائداً من الحرم، فالتقيت بشخص في الشارع، فسلّم عليّ وسألني عن أحوالي فقط.. وكان من المخالفين لهذا الممشى؛ حيث كان من أصدقاء المرحوم العلاّمة ثم انفصل عنه.. فسلّم وسألني عن أحوالي وأبدى شوقه إليّ وتجامل معي.. فشعرت بأنّ حالتي قد تغيرت لمدّة أسبوع، فلم يعد لديّ حضور قلب في الصلاة، ولا توجّه ولا شيء.. كلّ ذلك بسبب سلامٍ فقط!! فلننظر أنّنا خلال اليوم أيّ بلاء ننزله على أنفسنا؟! حيث نتحدّث مع أيّ شخص، ونجادل أياً كان، ونتحادث على التلفون بأحاديث لا طائل منها، نتناول أرقام الهاتف ونبدأ بالرقم الأول إلى الأخير، طوال اليوم.. يا أخي كفى! لقد احترق الهاتف! إن لم تكلّ أذنك فنفس الهاتف قد احترق!! وإذا لم نتّصل نحن يتّصلون بنا، فلا يبقى لنا هدوء، يا أخي ابق ساعتين أو ثلاث بصمت.. فالحياة ليست تلفون فقط، والحياة ليست موسيقى وضوضاء وأخبار وغيرها من المطالب.. لماذا علينا أن نعمل كما يعمل الآخرون؟! من قال بأنه علينا أن نفعل مثلهم؟! لماذا لا يفعل الآخرون مثلنا؟!
هذه الأمور ينبغي أن تكون بشكل دائم، ينبغي أن تحصّل المراقبة حتى نحافظ على تلك الحالة التي أتتنا كضيفٍ وحلّت في قلبنا.. ينبغي أن نحسن ضيافتها، لا أن نطردها خارجاً..
في الحالة التي حصلت لي نتيجة السلام بقيت أسبوعاً بحالة منقلبة إلى أن ذهبت إلى السيّدة المعصومة وتوسّلت بها، وقلت: لن أعود إلى هذا الخطأ مرة أخرى.. إلى أن منّت عليّ والحمد لله.. هذا كلّه بسبب سلام فقط، انظروا إلى الأثر السيّئ الذي تركه!!
عندما أقول للإخوة بأنّ عليهم أن يلتفتوا، وأنّ عليهم ألاّ يرتبطوا بأي شخص كان.. إنّما هو لأجل ذلك، وفائدته ترجع إليكم أنتم، والنتيجة تحصلون عليها بأنفسكم، جرّبوا ذلك.. ابقوا مدّة لا تستمعون فيها لأحد، وانظروا ماذا سيحصل؟!
هذه المسائل جرّبت، لقد جرّب العظماء هذه المسائل واختبروها، وأعطونا نتيجة تجاربهم تلك، حتى لا نجرّب مرّة ثانية؛ لأنّ الله تعالى لم يمنح الإنسان عمرين!
حسناً! نسأل الله تعالى أن نكون في هذه الأشهر المباركة والفرصة الخاصّة والضيافة المخصوصة التي منحها الله لعباده وأوليائه من الموفّقين لهذه الضيافة في هذه الأشهر، وأن نحصل على ذلك الكمال المرجوّ من هذه الأمور كما قال الشعر المتقدّم: نا تمامان جهان را كند اين پنج تمام‏ (فهذه الخمسة ستجعل غير الكاملين في العالم كاملين‏)، وأن يُنضج الثمر الفجّ ويكمل الناقص ويقوّي الضعيف ويوصل الاستعدادات إلى الفعليّة. إن شاء الله.
نسأل الله أن يوصلنا إلى هذه الكمالات تحت ظلّ إمام العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف الذي هو واسطةٌ في هذا الفيض.. واتّفاقاً بعض أدعية شهر رجب وصلت من ناحيته. وكان المرحوم العلاّمة يوصي بأنه ينبغي أن نقوّي الالتفات إلى مقام الولاية، وعلى الإنسان أن يشعر بحضور تلك النفس المقدسة في جميع مفاصل وجوده وفي تمام آثار الحياة.

اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.


[1] ـ ألقيت هذه الوصايا في ختام المحاضرة الحادية عشرة والأخيرة من محاضرات حجية أولياء الله، و المعنونة بـ (إشراف الولي الإلهي على الواقع يوجب اتّباعه) ، و حيث أنّ موضوعها مختلف عن ذلك البحث فقد تمّ نشرها منفصلة. المترجم

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی