معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 201 إلى الأخير > شرح حديث عنوان البصري ـ الجلسة 207: مخاطر النظرة الظاهرية نحو التشريعات الإسلامية

_______________________________________________________________

هو العليم

مخاطر النظرة الظاهريّة نحو التشريعات الإسلاميّة

شرح حديث عنوان البصري المحاضرة رقم 207

ألقيت في السادس والعشرين من شهر ربيع الثاني لعام 1434هـ

سماحة آية اللـه

السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
حفظه اللـه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد للـه ربّ العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ورسول ربّ العالمين
أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

    

للسير والتكامل شروط لابدّ من مراعاتها

ذكرنا في الجلسة السابقة للإخوة والأصدقاء بأنّ حركة الإنسان وسيره من عالم الطبع والمادّة والتوغّلِ في عالم الكثرات نحو عالم التجرّد له شروطه الخاصة، فينبغي للسالك أن يراعي تلك الشروط، حتّى يستطيع الإنسان الحركة والسير، ويتمكن من الاطّلاع على حقائق العوالم الربوبية بواسطة انكشاف المجهولات، وهذا الأمر لا يمكن إلاّ بمراعاة بعض الشروط، كما هو الملاحظ في سائر المسائل اليوميّة التي تحصل معنا، فعندما يريد الإنسان أن يصل إلى منافع خاصة عليه أن يخرج خارج المنزل، فيصرف وقته لتحقيق مراده ويرتبط بأشخاص مختلفين ويسعى ويتّصل وينفق ماله في سبيل ذلك... فإذا أراد شخص أن يصل إلى مراتب علمية؛ فعليه أن يدرس حتماً ويطالع، أمّا إذا قام بدلاً من ذلك بالذهاب إلى الحديقة أو إلى أماكن ترفيهية، أو صرف وقته بمجالس اللعب واللهو وهنا وهناك.. فلن يستطيع الوصول إلى النتيجة المطلوبة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى حركة الإنسان وسيره من عالم الطبع وعالم المادّة نحو عالم التجرّد فهو بحاجة إلى شروط خاصّة.
وقد ذكرنا هذه الشروط للإخوة؛ حيث ينبغي مراعاة بعض المسائل في الأمور المختلفة، فإنْ عمل بهذه الأمور والتزم بها؛ فسوف يستمرّ في حركته، وإن لم يعمل بها؛ فسيبقى كما هو حتّى لو بقي مع العظماء لمدّة مائة سنة.. فالعظماء ليسوا أفضل من النبي الأكرم والعياذ بالله، وليسوا أعلى من الأئمّة عليهم السلام.. فلو بقي الإنسان مع النبي مائة سنة، وصلّى خلفه جماعة، وسمع كلّ كلمة منه وسجّلها في دفتره الخاصّ [دون أن يعمل ويطبّق]؛ فسوف يكون حاله في اليوم الأخير كحاله في اليوم الأوّل، إن لم يكن أسوأ!!

    

خطورة العلم من دون العمل

وفي مثل هذه الموارد كان المرحوم الوالد يقول: ليتهم لم يأتوا أبداً!! لأنّهم بعد أن أتوا ورأوا هذه المطالب ثمّ لم يعملوا بها؛ فحكمهم حكم البيضة التي جلست عليها الدجاجة مدّة ثمّ قامت [قبل أن تكتمل] .. فتكون قد انتقلت من حالتها الأوليّة وفسدت! ولكن لو بقيت البيضة على حالتها الأولى لكانت مفيدة وصالحة للأكل، لكنّها الآن ما اكتمل نموها فصارت صوصاً، ولا بقيت على حالتها الأولى.
وهذه المسألة مشهودة، ونحن حتّى الآن نشاهد ذلك أيضاً، وقد كان بعض الأشخاص يأتون إلى المرحوم العلاّمة لمدّة ويشاركون في المجالس، لكنّهم لم يكونوا يعملون بما يقال لهم، وكنّا نرى أنّهم لا يعملون ولا يطبّقون! فكنّا نقول: إن لم ترد أن تعمل فلا تعمل! فليس لنا أن نجبر الناس على العمل، وليس لنا أن نوثقهم قياداً، فمن يقل: لا أريد أن أعمل، فماذا نفعل معه؟!
ثم بعد مدّة تجد هذا الشخص يبدأ بإظهار نفسه والدعوة إليها، والاستقلال والسير في مسير آخر.. كل ذلك لأجل أنّه أتى إلى هذه المجالس وفقد حالته الأوليّة التي كانت لديه، وليته لم يفعل، فلو لم يأت؛ لكان حافظ على صفائه الأوّل، لكنّه بعد أن أتى فقَدَ الصفاء الأوّل الذي كان لديه، وصار مطّلعاً على هذه المسائل، وعالماً ببعض القضايا وواقفاً عليها، لكنّه لم يتحرك إلاّ في النفس.. لقد سار في عالم النفس فقط.
فعندما أتى في البداية لم يكن لديه نفس، بل كان يقول: "كلّ ما تقوله فسمعاً وطاعة!" وكان صادقاً في كلامه هذا، لكنّه بعد ذلك تحرّك وتقدّم دون أن يرتّب أيّ أثر على ما كان يقال له، بل صار يُعمل ذوقه الخاص، فإذا تمّ تنبيهه إلى أنّه: لا تفعل هذا ولا تفعل هذا! كان يأخذ المسألة بتساهل واستخفاف.. إلى أن نمت نفسه وكبرت حتّى وصلت إلى مرتبة لا تستطيع أن تترك ما تعلّقت به، ولا يمكنها ترك هذه المطالب وهذه الموقعيّة التي حازتها، ولا يمكنها التخلّي عن المدح والثناء.. فكلّ من هذه الأمور سهم من سهام إبليس، وسمّ خطير من السموم الموبقة والمهلكة، وبطبيعة الحال فإنّ هذا الشخص سوف يبقى في تلك الحالة ويجمد عليها. وبذلك يكون قد فقَدَ ـ من ناحيةٍ ـ الصفاءَ الأوّل الذي كان لديه سابقاً، ومن ناحية أخرى لم يوصل الاستعداد الذي لديه إلى النتيجة المرجوّة. فيكون قد بقي معلّقاً في الهواء، لم يسقط على الأرض ويستقر، ولم يطِر إلى مكان يأوي إليه، بل بقي معلقاً في الهواء هكذا، يتحرّك ويمضي انطلاقاً من توهّماته، ويعمل بما يحلو له، فإن أغلق ثغرةً أمامه، انفتقت ثلاثة بدلاً منها.. فلا يعرف من أين يبدأ وماذا يفعل وأين يختتم!

    

التشابه الظاهري بين أفعال الصالحين وأفعال المضلّين

والدنيا بدورها تأتي إلى الإنسان وتهيّئ له الظروف والأرضيّة لكي تجعله أكثر ابتلاءً، وأكثر انشغالاً، فالشيطان لا يبقى هكذا دون عمل! هل تعتقدون بأنّ جميع هذه الدنيا خلقت عبثاً؟ وهل تحسبون أنّ جميع هذه الأحداث عبث؟ كلاّ، ليست عبثاً، فكما أن الملائكة موكّلون بإنقاذ عدد من الناس وإحضارهم من المكان الذي هم فيه؛ كذلك الشيطان موكّل بإحضار البعض إلى الالتفاف حول هذا الشخص.. فكلّ منهما يقوم بعمله، فهذا يضع عمامة، وذاك يضع عمامة، وهذا يشتغل هذا الشغل وذاك كذلك، وهذا له هذه المكانة وذاك له تلك المكانة بعينها، وهذا يأتيه أشخاص ظاهرهم حسن وذاك يأتيه مثلهم.. فترى هذا الشخص ينظر إلى هذا الشخص الذي جاء ليحضر مجلسه فيغترّ به ويقول: عجباً! هذا الرجل الذي قد عاد لتوّه من العمرة يأتي ليسمع محاضرتنا.. فمن المعلوم أنّ مجلسنا ـ بحمد الله ـ جيّد ومرضيّ عنه.

    

الاغترار بالظاهر والغفلة عن الباطن سبب للتيه والضياع

هل التفتّم؟! فهذه المسألة دقيقة جداً، وهذه الأمور هي التي قضت على أولئك وأسقطتهم، وهي التي أوجبت للبعض الاشتباه وضياع الوجهة والوقوع في حبائل الشيطان...
هذا ينادي باسم الله وباسم الرسول والولاية، وذاك ينادي باسم الله والرسول والولاية، هذا يصلي ويتحنّك في عمامته، وذاك يصلي أيضاً ويذكر الله.. فهؤلاء ليسوا من شاربي الخمر والعرق.. وليتهم كانوا كذلك! بل هؤلاء أسوأ بألف مرّة من شارب الخمر وأمثاله، فشارب الخمر يعصي وبعد ذلك يتوب، لكن هذا من يستطيع إصلاحه؟! وكيف السبيل معه؟! فعندما يأتي عمر بن سعد لقتال الإمام الحسين، من الذي يستطيع أن يردّه ومن يستطيع أن يصحّحه؟! فذاك الذي يقف مقابل الإمام الحسين لا يمكن أن يكون شخصاً عاديّاً، إذ لا يمكن لأيٍّ كان أن يفعل ذلك. بل لابدّ أن يكونوا أفراداً لهم مكانة واحترام بين الناس..
فالإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال لشخص كان يعمل في حكومة هارون ـ حيث كان يأتي إلى الإمام ويذهب إلى هارون أيضاً ـ: هل تعلم حجم خطئك ؟! فلولا أمثالك من الأشخاص المحترمين بين الناس... من العلماء الذين يضعون عمامة ولديهم لحية بيضاء وعندهم كتب ومؤلفات، ويتحدّثون بشكل جذّاب حتّى يقول الناس: انظر كيف يتكلّم بشكل جميل، إنه يرتّب الجمل بشكل متناسق، انظر كم من الأشخاص قد انجذبوا له! فإن لم يكن لدى الإنسان مثل هذه الخصوصيات لما التفّ الناس حوله.
كان أحد الرهبان في أمريكا طليقاً في كلامه وبيانه؛ بحيث أن بعض الأشخاص الحاضرين كان يُغشى عليهم من شدّة تأثّرهم بكلامه، فعندما كان يعظ الناس في الكنيسة كانوا يبكون، ومن شدّة البكاء والتأثّر كان بعضهم يغشى عليه.. لكن بعد مدّة اكتُشف أن هذا الرجل كان منحرفاً... لم يذهب إلى مكان إلاّ وكان لديه عمل شنيع..
ويقال بأنّ هتلر عندما كان يتكلّم، كان يسحر الأشخاص الذين كانوا يستمعون إليه.. فهذا نوع من الفنّ، حيث يأتي الإنسان ويعرض بعض المطالب بحيث أنّه يمثّل في هذا الكلام ويتفنّن في البيان حتّى يصل إلى مرحلة يجعل الناس يتأثّرون بحركاته وسكناته ووجهه وكلامه، وينفُذ فيهم بواسطة ذلك، فيقع كلامه في قلوبهم فيسمعون له ويطيعونه حتّى لو وصل الأمر بهم إلى أن يُقتلوا.. ألم يحصل ذلك؟! كان هتلر يتحدّث إلى مجموعة من الأشخاص؛ فيتأثّرون به كثيراً فيذهبون ويلقون بأنفسهم في حقل من الألغام!! فهل يجعل هذا من هتلر رجلاً إلهياً؟! هل كان جبرائيل يساعده أم ميكائيل؟! لا بل الشيطان هو الذي كان يساعده! نحن نظنّ بأنّ الشيطان جلس جانباً بلا عمل؟ كلا! فقد منح الله تعالى الشيطان تلك الوسائل والآلات والأدوات التي منحها للطرف الآخر تماماً؛ فهنا تبنى حسينيّة باسم الإمام الحسين، وهناك تبنى حسينيّة باسم الإمام الحسين، وهنا يأتي خطيب ويتحدّث عن النبي والإمام والإخلاص والإيمان وما إلى ذلك، وهناك يأتي خطيب ويتحدّث بشكل أفضل وأبلغ وأوضح.. هنا يضعون المائدة ويطعمون الطعام، وهناك يضعون طعاماً أدسم؛ إذ لديهم مال أكثر! لا أنّهم يضعون خمراً هناك على المائدة.. كلا، بل يضعون الأمور ويرتّبونها من الناحية الظاهريّة كما ينبغي مثل الطرف الأوّل تماماً.. لكن من الذي يدبّر الأمر هناك؟ إنّه الشيطان، إذ من الواضح أنّ الله تعالى والنبي ليسوا هناك.
ألم يحصل أن أتى القوم وجلسوا مكان النبي بعد ارتحاله، ووضعوا أقدامهم في المكان الذي كان يضع قدمه فيه تماماً، وبدأوا بالصلاة مكانه، وصعدوا منبره دون أن يغيّروه يميناً أو يساراً، ألم يجلسوا عليه ويتحدّثوا إلى الناس؟! من الذي كان يدبّر لهم الأمر؟ هل كان جبرائيل؟ هل كان ميكائيل هو الذي يساعدهم على ذلك؟! أم كان ذلك بمساعدة الشيطان؟! كان يقول: اذهب وقف هناك! وأنا سأساعدك.. هذه هي المسألة، يقول له: أنا لن أدعك! بل سأبقى رفيقك في كل أمر وسأهتمّ بك، وأرسل لك أشخاصاً ينفعونك أنت، لا ينفعون علياً عليه السلام.. سأذهب إليهم وألقي في قلوبهم، وأنفذ في حياتهم، وأزين لهم الدنيا، وسيؤدّي ذلك إلى تهيئة أسباب النصر. عندما كان النبي يرسل السرايا إلى البلدان، كان المسلمون يُهزمون أحياناً.. أمّا أنا [الشيطان] فسوف أهيّئ لك جميع أسباب النصر، أليس ذلك جيّداً؟! ماذا تريد أحسن من ذلك؟! فإن كان أولئك ينتصرون أحياناً ويُهزمون أحياناً أخرى، فنحن سوف نبقى منتصرين دائماً.. فماذا تريد بعد ذلك؟! إنّنا سوف نهيّئ الأمور نمهّد الأرضية التي يحتاجها هؤلاء ونلقيها في قلوبهم..

    

الشيطان يساعد أولياءه ويعينهم في طريق الباطل

هذه الأمور التي أذكرها لكم ليست مزاحاً.. بل تلك الأمور التي تخرج من هؤلاء يلقيها الشيطان في قلوبهم، يعني رغم أنّ هذا الشخص هو الذي يتكلّم، لكن من أين تأتي هذه المطالب؟ تجيب الآية: {إِنَّ الشَّياطينَ لَيُوحُونَ إِلى‏ أَوْلِيائِهِم}، فالآية تقول بأنّ الشيطان يوحي إلى وليّه؛ أي إلى من يتّصل به ويكون لجامُه بيد الشيطان، فهذا يقال له ولي، ومثل هذا يقول الله عنه: {إِنَّ الشَّياطينَ لَيُوحُونَ إِلى‏ أَوْلِيائِهِم‏}، فالكلام الذي يتكلّمون به والحديث الذي يتحدّثون به والمطالب التي يبيّنون بعضاً منها ويتركون البعض الآخر.. جميع هذه الأمور يلقيها الشيطان في قلوب هؤلاء. يقول له: تحدّث بهذا الشكل! اطرح هذا المطلب وتكلّم بهذا الكلام بهذه الطريقة مستخدماً هذه العبارات! هذا هو الشيطان!

    

الماديّة الدينيّة والنظرة الظاهريّة تردي الإنسان في المخاطر

هل اتّضح الأمر؟! فإن كان الأمر كذلك؛ فماذا علينا أن نفعل هنا؟ هنا ينبغي على الإنسان أن يتخلّى عن الظاهر! لقد بيّنا في الكتاب الذي نحن في صدد تأليفه الآن حول عاشوراء: كيف تأتي الماديّة الدينيّة والماديّة الإسلاميّة وتعمل على تضييع الإنسان وإضلاله؟ بحيث يرى الإنسان الظاهر دون الباطن، وهذا من العجب!
لهذا يصير أبو حنيفة من مفاخر الإسلام عند البعض، والمأمون وهارون من جملة الخلفاء العادلين والنافعين للإسلام.. عجباً! الخليفة الذي يقتل الإمام المعصوم يصير من مفاخر الإسلام! لماذا؟ لأنّه عَدَلَ في حكمين! لكن نقول أين عدَل؟ بل جميع أحكامه كانت ظالمة، ألم يحصل في زمن هارون والمأمون جميع أعمال القتل والنهب تلك؟! ألم يكن في زمن هذين الحاكمين جميع ما نزل بأبناء النبي وذريّته من ظلم وقتل؟! لكن مع ذلك صرنا نرى أنّ هؤلاء أفضل من يزيد.. كلّا بل هؤلاء أسوأ من يزيد بمائة مرّة! يزيد كان أحمقاً لم يعمل بتوصية معاوية، حيث نصحه معاوية وقال له عندما اقترب هلاكه وانتقاله إلى جهنّم: إذا أردت أن يبقى لك ملكك وسلطانك فلا تقترب من الحسين بن علي، وأمّا عبد الله بن عمر فدعه وشأنه، وأمّا ابن الزبير فاقتله أينما وجدته، ولو كان في جحر.. لكن يزيد لم يتّبع كلام أبيه، فقد كان شاباً أهوجاً مهووساً باللهو واللعب والفسق والفجور.
أمّا المأمون فكان أسوأ منه بألف درجة، حيث كان رجلاً سياسياً محنّكاً ومحتالاً إلى أبعد الحدود.. وكان أبوه هارون من جملة الجناة في التاريخ، فقد وقفوا مقابل الأئمّة عليهم السلام، واستطاعوا بالمكر والحيلة والخداع أن يستميلوا الناس ويقفوا في وجه الإمام. من الذي سجن الإمام موسى بن جعفر ثمان سنوات، وبعد ذلك سمّه بذاك الشكل؟! هل يصير هذا من مفاخر الإسلام لأنّه بنى مسجداً هنا، أو فعل شيئاً هناك؟!
هذا كلّه بسبب النظرة الظاهريّة والغفلة عن الواقع وحقيقة الأمر، هذه المسألة بالنسبة لنا هي الداء الذي لا دواء له! هذه هي القضيّة التي أرْدَت الكثير من الناس وأهلكتهم، مع أنّهم كانوا علماء وفضلاء؛ لأنّهم لم ينظروا إلى الحقيقة والواقع، فحقيقة جميع هذه الأمور ينبغي أن تدور حول الإمام عليه السلام، وإلاّ فلا فائدة فيها. أمّا إذا انقطع ذاك الحبل والرابط، فإنّ الإنسان سيصلّي على سجّادته في محراب المسجد ثم سيخرج ليمتطي صهوة جواده ويخرج لقتال ابن رسول الله!!
فحتّى لو صلّى، فهذه الصلاة لا قيمة لها؛ لأنّ المهم هو كم نفذت هذه الصلاة في وجوده؟ لكن بما أنّ هذه الصلاة لا ولاية فيها فهذا يعني أنّها لم تنفذ إلى باطنه، فذلك النفوذ إنّما يحصل بالولاية، ولا ولاية في البين! وهذا مثل من يريد ـ من باب المثال ـ أن يُحقن بإبرة بنسلين (penicillin)، فيضعون له بدلاً عن ذلك ماءً مقطّراً بدون مادّة الدواء الفعالة، فحينما يدخل الماء المقطّر إلى بدنه، فلن يكون له أيّ مفعول؛ لأنّه ينبغي أن يكون محتوياً على البنسلين حتّى يكون مؤثّراً. وأمّا إذا تمّ حذف الدواء الأساسي ففي الظاهر، يبدو أنّ هناك حقنةً، وهي تحتوي على سائل أبيض، غير أنّ بياض السائل لن يكون له أيّ تأثير ما دام لا يحتوي على مضادّات حيويّة (antibiotics)، وما دام مفتقداً لتلك الموادّ الأساسيّة، وإلاّ فلتحقنوا أنفسكم بعشرة إبر بدلاً عن واحدة، فلن يكون لذلك أيّة فائدة، بل سيؤدّي إلى انتفاخ البدن وحسب!
فما هي الفائدة إذن من بناء المساجد وأداء الصلوات وإلقاء الخطب وجمع الناس وتكثير السواد وتراكم الجموع؛ ما دام لا يوجد هناك اتّصال بالولاية والإمامة؟! ولهذا، كان الناس في زمن المرحوم العلاّمة يأتون إليه فيجلسون ويتحدّثون، وحينما كنّا ننظر إليهم، كنّا نرى بأنّهم يأتون ويذهبون من دون أن يُحصّلوا أيّة فائدة، ومن غير أن يُؤثّر ذلك فيهم أبداً؛ لأنّه كان من قبيل الأعمال العاديّة والرتيبة التي يُكرّرونها يوميّاً، وبالتالي يأتي يوم ينقطعون فيه عنه.. هل هذا واضح؟!

    

الذكر وحده بدون مراعاة الشروط غير كاف لتكامل الإنسان

فحركة الإنسان وسيره يجب أن يخضعا لمجموعة من الشروط؛ فإذا تحقّقت هذه الشروط، فستكون هناك حركة، وإلاّ فلا. فلا يُمكن للإنسان أن يقرأ الأذكار من جهة، وأن يحضر من جهة أخرى في كلّ مجلس يُدعى إليه ـ كيفما كان ذلك المجلس ـ؛ لأنّه لا يُمكن الجمع بين الأمرين. فمن ناحية، أنت تقرأ الأذكار، فتحصل لك حالة من التوجّه. ومن ناحية أخرى، تُشارك في مجلسٍ طبيعة الأشخاص المتواجدين فيه وطبيعة الكلام والمسائل التي تدور فيه تُفقدك جميع الحالات التي حصلت عليها في الليل، وتكتسب ـ علاوةً على ذلك ـ [بعض السيّئات]. فهذان الأمران لا يجتمعان مع بعضهما، ولا ينسجمان فيما بينهما من الأساس! فلا فائدة من ذلك أبداً، ولو تكرّر ذلك لعشر سنوات أو حتّى مائة سنة! فإذا قرأت الأذكار أو أحييت الليل، فعليك أن تحرص ألاّ يكون هناك تنافٍ بين مجريات الأحداث اليوميّة وطبيعة العلاقة مع الناس ومعاشرتهم، وبين ذلك الذكر الذي قرأته في الليل. وهذا نظير ذلك المريض الذي يحرص على تناول الدواء من جهة، لكنّه لا يحترز من جهة أخرى عن الأمور التي منعه الطبيب منها؛ فإنّه بذلك يكون قد أبطل مفعول الدواء، فلم يعُد مؤثّراً، فهو من هذه الجهة يتناول الدواء، ومن الجهة الأخرى يأكل طعاماً أمره الطبيب باجتنابه، فيُبطل مفعول الدواء.. كأن يتناول الدواء المختصّ بضغط الدم، ويأكل في نفس الوقت طعاماً مالحاً؛ فإذا قلنا بأنّ حالته لن تسوء، فإنّها ـ في أفضل الحالات ـ لن تتحسّن، وستبقى وضعيّته على ما كانت عليه. ولهذا، عليه أن يُقلّل من تناول الملح في الطعام حتّى يسمح للدواء بأن يُؤدّي مفعوله..
ومسألتنا هي من هذا القبيل أيضاً! ولا يخفى أنّنا تحدّثنا عن هذه المسائل فيما سبق، لكنّني تعرّضت لها مرّة أخرى من باب التذكير فقط؛ لأنّ الكلام يدور حول طريقة الأكل والتغذية، فكان من المناسب أن نطّلع على هذه القضايا التي ترتبط بها من قريب، وأن نعلم بأنّ حقيقة المسألة ليست بالذكر فقط. فالحركة التي يُؤدّيها الإنسان والمسير الذي يطويه يخضعان لمجموعة من الشروط والحيثيّات والقيود التي ينبغي على الإنسان مراعاتُها، وبدون ذلك لن تتحقّق أيّة فائدة. نعم، علاوةً على ما ذكرناه لحدّ الآن، سنتعرّض إن شاء الله تعالى إلى هذه المطالب فيما بقي من حديث عنوان الشريف.

    

ينبغي أن لا يكون الأكل والزواج الثاني نابعاً من لذة النفس

كان الكلام يدور حول الطعام والتغذية.. فمن بين المسائل التي خصّصنا لها العديد من الجلسات هي مسألة الطعام والتغذية، حيث إنّه من ضمن الشروط التي يجب أن يراعيها السالك في هذه المسألة هي أنّه إذا كان يرغب السالك في تلاوة الأذكار والاستيقاظ في الليل لأداء الصلاة، وكان يودّ أن تترك هذه الصلاة وهذا الاستيقاظ أثراً في نفسه، فلا ينبغي عليه حينئذٍ أن يتناول في الليل طعاماً يُثقل معدته، وإلاّ فإنّ هذا الطعام سيُفقده حالة التوجّه فيما بعد؛ لأنّ هذين الأمرين لا يجتمعان مع بعضهما ولا انسجام بينهما من الأساس.
نعم، كنت قد بيّنت [هذا الأمر] سابقاً.. كما أنّه موجود حتّى في بعض مصنّفات المرحوم العلاّمة المطبوعة، فقد ورد فيها إحدى المسائل عن المرحوم السيّد الخوئي رحمة الله عليه؛ حيث كان رحمه الله تلميذاً للمرحوم السيّد القاضي لمدّة معيّنة ـ ولعلّني ذكرت طريقة اتّصاله به في أحد هذه الكتب [المطبوعة] حديثاً ـ، فقد أمره المرحوم القاضي في ضمن البرنامج الذي أعطاه وقال له: لا تأكل الطعام لأجل شهوة النفس والتذاذها، بل ينبغي أن يكون تناول الطعام لأجل سدّ الجوع، وبسبب فائدته لصحّة الإنسان وسلامته، باعتبار أنّ الذين يتناولون الطعام لأجل الالتذاذ؛ فإنّ نفوسهم تبقى حبيسة في مرتبة الحسّ. وتُعدّ هذه المسألة صحيحة بحدّ ذاتها، ونحن نقبل بها، كما أنّ هناك العديد من الشواهد الصريحة عليها. إذ من المشهود أنّ أولئك الذين يهتمّون بطعم الأكل فقط، وينحصر اهتمامهم بالالتذاذ بالطعام، ويكون هدفهم من الأكل أمور أخرى غير ما يمنحه من فوائد للبدن (أي يسعون من خلاله إلى تحصيل أمور نفسانيّة وحسب)، يبقون في أفعالهم وبرامجهم على نفس هذه الحالة والوضعيّة. وهذا ينعكس بشكل جليّ على أفكارهم وتصرّفاتهم وطبيعة علاقاتهم والعلامات الملحوظة عليهم. وفي هذه الحالة، لن يحصل الإنسان على أيّ تكامل ورقيّ.
وينسحب هذا الأمر على بقيّة المسائل أيضاً، نظير مسألة الزواج والنكاح، حيث وصل إلى أسماع البعض أنّ الشارع جوّز مسألة تعدّد الزوجات، لكن علينا أن نرى ـ هنا ـ ما هي الأسس التي ينبغي أن يبتني عليها هذا التعدّد، وما هي الضوابط التي ينبغي أن يخضع لها، وهل يجوز أن يكون مبتنياً على تحصيل اللذّة النفسانيّة فقط؟! فالمسألة من هذا القبيل أيضاً، حيث ينبغي على الإنسان أن يلتفت هنا إلى أنّه إذا أخذ بعين الاعتبار أهواء النفس فقط، وكان يسعى إلى مجرّد تحصيل اللذّة النفسانيّة، ويشغل ذهنه وفكره بمثل هذا الأمر؛ فلن يتقدّم ـ قطعاً ومن دون أيّ شكّ ـ خطوةً واحدةً إلى الأمام..

    

الزواج المؤقت وكل حكم في الإسلام يبتني على محور توحيدي لا سياسي

وأنا أقول هذا بكلّ صراحة؛ لأنّ ثمّة أموراً قد حدثت، كما وصلتني مجموعة من الرسائل يسأل فيها أشخاص متعدّدون أسئلة حول هذه المسألة؛ ولهذا السبب أنا أتحدّث حول هذا الموضوع. فالحكم الذي شُرّع في الإسلام يبتني على محور ومرتكز توحيدي، وأمّا بالنسبة للذين يهذون قائلين: (إنّ الزواج المؤقّت كان يعتمد في الإسلام على أساس حكم سياسي قد يتمّ وضعه في زمان ورفعه في زمان آخر)؛ فإنّ كلامهم هذا مخالف للشرع بشكل كامل، فكيف يُمكنكم القول بأنّ الزواج المؤقّت هو حكم سياسي؟ وما هو دليلكم على ذلك؟ ولماذا يلجأ الإنسان إلى الحديث حول مسائل لا خبرة له بها من الأساس؟ أفلم نصل بعدُ إلى مرحلة النضوج الفكري والعقلي لكي لا نتعدّى حدودنا الشخصيّة؟! هاتوا دليلاً واحداً يفيد أنّ الزواج المؤقّت كان حكماً سياسيّاً وضعه الرسول في فترة معيّنة!
نعم! هذا هو نفس ما ذكره عمر عندما قال: متعتان كانتا محلّلتان في زمان رسول الله، وأنا أحرّمهما وأعاقب عليهما: متعة الحجّ ومتعة النساء! أي حجّ التمتّع والزواج المؤقّت .. أنا أحرّمهما.. وأعاقب عليهما، أي أجلد وأجري الحدّ عليهما. أفهل أنت نبيّ حتّى تُحرّم وتعاقب؟! لكن مع ذلك، نأتي في هذا العصر ونتفوّه بمثل كلام عمر، ونقول بأنّ الزواج المؤقّت كان حكماً سياسيّاً وُضع على عهد الرسول، وارتفع بعد ذلك عند ارتفاع سببه الذي وضع له.. أي أنّكم تقولون بأنّ الزواج المؤقّت سيصير ـ برفعه ـ محرّماً! أفهل تُفتون بذلك؟! أفهل يُمكن أن يصل الإنسان إلى هذا الحدّ من قلّة الفهم والإحساس؟! لماذا لا يتورّع الإنسان ـ لمجرّد أنّهم وضعوا أمامه ميكروفوناً ـ عن التفوّه بأيّ كلام كيفما كان؟! بل حلال محمد حلالٌ إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة.
نعم، ما يجب أن يُقال هنا هو أنّ المسائل التي من هذا القبيل لا ينبغي أن تكون مبتنية على أساس اللذائذ والأهواء النفسانيّة فقط، بل ينبغي أن تتكّئ على أساس دليل عقلي ومنطقي مقبول.. وهذه هي حقيقة المسألة، لكن هل يستطيع أحدٌ أن يُحرّم الزواج المؤقّت؟ إنّ الذي حرّم الزواج المؤقّت هو عمر! هل التفتّم لهذا الأمر؟! ففي العديد من الموارد، لا يستطيع الإنسان ـ سواءً كان شابّاً أو شابّة، أو رجلاً أو امرأةً ـ اللجوء إلى الزواج الدائم، فيُطرح الزواج المؤقّت هنا كطريق وحلّ وبعنوانه علاج ودواء لهذه المسألة. وأمّا إذا أردنا أن نتّخذ هذا الأمر كتفنّن نفساني فقط ... وقد شاهدت العديد من الأشخاص الذين يدّعون التديّن والسلوك وهذه الأمور، لكنّهم كأنّهم لم يتعلّموا من الدين إلا حكم هذه المسألة! هؤلاء الأشخاص يبقون محبوسين في هذه المرتبة، وكذلك الأمر بالنسبة لفكرهم وكلامهم، وكأنّه لا يوجد في هذا العالم وهذه المنظومة الشمسيّة وهذه الكواكب موضوع للحديث سوى حول هذه المسألة! فأيّ أثر سيكون لذلك؟ سيحتجز الإنسان ويحبسه في عالم الحيوانيّة والبهيميّة واللذّات الظاهريّة، ولا يسمح لهذه النفس بالمسير والحركة والانطلاق إلى خارج هذه الحدود نحو التجرّد والإطلاق، التي يصل إليها بعد أن يتجاوز هذه الأمور الظاهريّة.
ونفس الشيء ينطبق على الطعام والغذاء، غاية الأمر أنّ هذا يتّخذ شكلاً معيّناً، وذاك يتّخذ شكلاً آخر. لقد قال المرحوم القاضي للمرحوم السيّد الخوئي: لا تتناول الطعام لأجل اللذّة النفسانيّة، بل تناوله للفائدة المترتّبة عليه. ولكي لا يحصل له هذا الالتذاذ النفساني لجأ إلى اختراع مسألة من عنده، حيث عمد إلى فصل الأرزّ عن المرق وتناول الأرزّ وحده والمرق وحده! غير أنّ المسألة ليست بهذا الشكل يا عزيزي! هو لم يقل لك تناول الطعام بهذه الطريقة! وإلاّ لو كان الأمر بهذا الشكل، لكان ينبغي عليك أن تفصل الحمّص عن المرق أيضاً، وتفصل الماء عنه وهكذا... فهذا أفضل!!!

    

لا إشكال في التذاذ الإنسان بالطعام، بل الإشكال أن يكون ذلك هدفاً له

انتبهوا لما أريد أن أقوله.. لا توجد أيّة مشكلة في أن يلتذّ الإنسان بالطعام، وإلاّ فلماذا جعل الله تعالى كلّ هذه الملذّات؟! فالالتذاذ السليم هو من حقوق الإنسان الطبيعيّة، لكن لا ينبغي أن تكون هذه اللذّة هي الهدف من الطعام؛ فهنا يوجد لدينا مطلبان مستقلاّن: حيث يوجد فارق بين أن يجعل الإنسان هدفه وفكره واختياراته ورغباته منحصرة بقضاء اللذّة، وبين من لا يفعل ذلك.
نفس المرحوم العلاّمة كان يقول لبعض الأشخاص: لماذا لا تطبخون الطعام بشكل جيّد؟ لماذا لا تقومون بأداء حقّ هذه النعمة الإلهيّة؟ لماذا طبختموه بهذه الطريقة؟ لماذا لم تصرفوا وقتاً أكثر في طبخه؟ وحينما يأتيكم ضيف، لماذا لا تُضيّفونه بشكل لائق ومناسب؟! فكان يُؤاخذهم ويُعاتبهم.. وأمّا أن يأتي ويقول: تفضّلوا، ينبغي عليكم تناول الأرزّ وحده والمرق وحده!! فهذا كلام لا أساس له من الصحّة!

    

تأثير حالات الشخص الذي يطبخ الطعام على الطعام نفسه

فالإفراط هنا خطأ، وذلك بأن يغضّ الإنسان الطرف عن جميع فوائد الطعام وتأثيره على الصحّة، فيشتهي تناول كلّ طعام لذيذ، ولو كان فيه ضرر على صحّته، وخاصّة بالنسبة للأطعمة المصنوعة خارج المنزل، والتي لا يُعلم من الأساس كيفيّة طبخها ولا الأشخاص الذين طبخوها، وهل يُراعي مثل هؤلاء الأشخاص مسائل الطهارة والنجاسة، أم لا؟! وهل يهتمّون بالنظافة والحفاظ على التدابير الصحّية، أم لا؟! ففي بعض الأحيان، قد تحصل للإنسان حالةٌ من الاشمئزاز عندما يرغب في تناول كثير من هذه الأطعمة المطبوخة خارج المنزل، كما أنّ هذا النوع من الأطعمة يترك أثراً معنويّاً سيّئاً عندما يُطبخ بهذه الكيفيّة. فلماذا كان العظماء يُؤكّدون إلى هذه الدرجة على اجتناب هذه الأطعمة قدر الإمكان؟! نعم، لا إشكال في الأمر إذا استدعت الضرورة ذلك، لكن على الإنسان ـ قدر الإمكان ـ أن يتناول الطعام المعدّ في المنزل؛ لأنّه يختلف بالنظر إلى الشخص الذي يطبخه، ودرجة اهتمامه به، ومراعاته للنظافة والتدابير الصحّية وبقيّة المسائل الأخرى.. وقد كنّا نُلاحظ وجود مثل هذه الأمور عند السلف، لكنّها ضاعت وانمحت الآن! فقد كانوا يتوضّؤون قبل أن يشرعوا في طبخ الطعام...
وهذا نظير إرضاع الطفل، حيث ورد عندنا أنّ الأفضل للمرأة أن تتوضّأ إذا أرادت أن تُرضع طفلها؛ لتكون على طهارة حين القيام بهذا الأمر. فهذه الأمور تؤثّر في الإنسان، ولا ينبغي علينا أن نقول: هذا لا يعدو كونه حليباً، فما هو الفارق بين إرضاع الطفل على وضوء وإرضاعه بدون وضوء؟ وهل للوضوء أثر في هذا الأمر؟ فالإنسان لا يُدرك تأثير ذلك إلاّ فيما بعد، عندما يُواجه بعض المسائل وتعترضه بعض الأمور في حياته، حينئذٍ سيُدرك ما هو مصدر كلّ ذلك! كما أنّه لا ينبغي أيضاً إرضاع الطفل في بعض الموارد والحالات، وكلّ هذه الأمور تُبحث في محلّها. ونفس الشيء يُقال بالنسبة لإعداد الطعام، حيث كان أسلافنا ـ سواء النساء منهم أو الرجال ـ يتوضّؤون ويطبخون الطعام وهم في حالة طهارة، ثمّ يأكلونه بعد ذلك. وتوجد هنا العديد من القصص والحكايات التي يؤدّي التعرّض لها إلى إطالة المجلس، لكن يكفينا أن نعلم بأنّ جميع هذه الأمور تؤثّر في الجانب المعنوي والملكوتي والبرزخي للطعام، غير أنّ الأشخاص العاديّين لا يُدركون ذلك، فيتناولون الطعام بأيّة طريقة كانت.. فلو وضعتَ أمامهم صحناً من الأرزّ، لأكلوه من دون أن يُعيروا أيّة أهمّية للشخص الذي أعدّه. وأمّا حينما يصل الإنسان إلى حالة من الرشد والكمال والتجرّد نوعاً ما، وتصير نفسه مرتبطةً ـ ولو قليلاً ـ بتلك العوالم العالية، ومأنوسة بها إلى حدٍّ ما، فما إن يضعوا أمامه إناء الطعام ويتناول اللقمة الأولى، فإنّه لا يتمكّن بعد ذلك من تناول اللقمة الثانية، مع أنّك تجد الشخص الذي يجلس أمامه قد تناول طبق الطعام كلّه، ولم يُبق منه شيئاً! فما هو السبب في ذلك؟ السبب هو أنّ ذلك الطعام يحتوي على أمرٍ ما لا يسمح للنفس بأن تستسيغه؛ وذلك للارتباط الموجود بين النفس والبدن...
أعتقد بأنّه لا يوجد مجال لإكمال الحديث هذه الليلة، إذ يبدو أنّنا وصلنا إلى نهاية الحدّ المسموح لنا فيه بالكلام، وسنتعرّض في جلسة قادمة ـ إذا وفّقنا الله تعالى ـ إلى بيان العلاقة القائمة بين النفس والبدن على مستوى الأكل والتغذية، وكيف أنّ الإنسان حينما يصل إلى درجة من درجات الروحانيّة، فإنّ بدنه لا يعُود يتحمّل تناول الطعام العادي والمتعارف.. فلا يتقبّل الطعام المطبوخ بدون مراعاة للضوابط، ولا يُمكنه تناول الطعام المعدّ على خلاف رضا الله تعالى، ولا يستطيع تحمّل الطعام المعدّ من حرام. هذا مع أنّ البدن واحد ولا يختلف بين شخص وآخر.. فالكل لديه مريء ومعدة وأمعاء وفم وأمثال ذلك، لكن لماذا يستطيع هذا [تناول الطعام المتعارف]، بينما لا يتمكّن ذاك من القيام بذلك؟ السبب هو أنّ هذه النفس صارت محيطةً بالبدن ومسيطرةً عليه؛ فهذه النفس التي تُسيطر على البدن تختلف عن النفس التي يُسيطر البدن عليها. فالبدن أصبح خاضعاً لسيطرة النفس، ومن المعلوم أنّ مصدر الاشتهاء هو الدماغ الذي يقوم بإصدار مجموعة من الإشارات للمعدة حتّى تتمكّن من بلع الطعام وتقبّله؛ فإذا كان البدن خاضعاً لسيطرة النفس، فإنّ الدماغ سيكون واقعاً تحت سيطرتها أيضاً، وستكون الغدّة النخاميّة بدورها تحت سيطرة النفس.. تلك النفس التي خضعت للتربية، وحصلت على التجرّد والروحانيّة. ولكي نصل إلى هذه الدرجة، فقد أمرَنا العظماء بضرورة مراعاة هذه المسائل، فنحن لم نصل بعد. ولهذا، فإنّ أولئك الذين سلكوا ووصلوا، يأمروننا بضرورة المراعاة والحذر، وضرورة الانتباه بالنسبة لطريقة تناول الطعام الذي نُريد أن نحصّل منه فائدة.

    

لا ينبغي الإفراط ولا التفريط في تناول الطعام

وعليه، فإنّ ما نُقل في بعض الكتب عن المرحوم العلاّمة، وكان سبباً في طرح هذا السؤال عليّ من قبل العديد من الأشخاص، ومفاده: هل توصون أنتم أيضاً بنفس هذه المسألة، وأنّه إذا كان هناك طعام في المنزل (نظير الأرزّ والمرق، أو الثريد أو غير ذلك)، فمن اللازم علينا فصله عن بعضه؟ لا، ليس الأمر كذلك، فالمرحوم العلاّمة كان بنفسه يقول: على الإنسان ألاّ يسلك طريق الإفراط أو التفريط! ففي الأخير، لكي يتمكّن الإنسان من تناول الطعام، عليه أن يُثير شهيّته، وإلاّ فماذا سيأكل الإنسان؟! فلن يتجاوز مثل هذا الطعام [الذي لا يُثير شهيّة الإنسان] حلقه! نعم، كان مراد المرحوم القاضي من ذلك هو الهدف من تناول الطعام، حيث ينبغي علينا عدم حصره في اللذّة النفسانيّة.
لقد أردت الحديث حول هذه المسألة من أجل رفع شبهة كانت تحوم حول هذا الأمر. حسناً، سنتحدّث ـ إن شاء الله تعالى ـ في جلسة قادمة حول طبيعة العلاقة القائمة بين الطعام التي يتناوله الإنسان وبين أثره المثالي والملكوتي.

اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی