معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 ـ المحاضرة 2: الأمل العظيم والعمل

_______________________________________________________________

هو العليم

سلسلة شرح دعاء أبي حمزة الثمالي للعام 1434 هـ

المحاضرة الثانية:
الأمل العظيم والعمل

ألقيت هذه المحاضرة في الخامس من شهر رمضان المبارك

ألقاها:
سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه الله

 

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

    

ضرورة وجود تناسب بين الوسيلة والهدف

«عظم يا سيدي أملي وساء عملي فأعطني من عفوك بمقدار أملي ولا تؤاخذي بأسوأ عملي فإنّ كرمك يجلّ عن مجازاة المذنبين وحلمك يكبر عن مكافاة المقصّرين».
ما هو هذا الأمل الذي يريد الإمام السجّاد من الله أن يعطيه بمقداره؟ وما هي هذه الأمنية التي يعبّر عنها الإمام عليه السلام بلفظ العظمة، حيث يقول: إلهي لديّ أمل عظيم وأمنية كبيرة أريدها منك، ولكن ـ من جهة أخرى ـ عملي لا يمكّنني من الوصول إلى هذه الأمنية، فإنّ كل شخص لديه أمل وأمنية وهدف عليه أن يعمل عملاً متناسباً مع هذه الأمنية، فمن يريد الذهاب إلى طهران بحاجة لعشرة ليترات من البنزين فقط، وأمّا من يريد الذهاب إلى مشهد فلن تكفيه العشر ليترات، بل عليه أن يستعدّ أكثر لهذا السفر.
ومن يريد الوصول إلى الأمور الدنيوية هذه فعليه أن يستخدم الوسائل المطلوبة منه للوصول إلى أهدافه، وكلّ شخص ـ طبعاً ـ بحسب حدوده وبحسب المحيط والأفق الذي يعيش فيه؛ فإن كان المراد هو الوصول إلى الرئاسة والأمور الدنيوية، تراه يقيم علاقة مع هذا وذاك، ويقول لعلّ هذا ينفعنا يوماً ما، إذ قد يصير مسؤولاً هنا أو نائباً هناك، فإنّ الحب الدنيوي الذي يظهره هنا له هدف، وعلى الإنسان أن ينظر إلى تحيّة أهل الدنيا وسلامهم عليه، ويعرف ما وراء هذه التحيّة، وما هو هدفه منها، ولا يكتفي بالنظر إلى ظاهر هذا السلام وهذه التحيّة. هكذا هم أهل الدنيا، تختلف أشكالهم أمّا حقيقتهم واحدة، فإما أن يكون لديه شكل إلهي أو يكون لديه شكل آخر، لكن أبناء الدنيا هم أبناء الدنيا.

    

اختلاف أشكال أهل الدنيا لكن حقيقتهم واحدة

الآن قبل أن آتي كنت في المنزل وسمعت أمراً ، لن أوضحّه كثيراً.. وهو أنّه تم حرمان شخص من العلاج حتّى لا يقال بأنه لم يعالج هنا بل عولج في مكان آخر... فقلت في نفسي ما الفرق بين هؤلاء الأشخاص الذين فعلوا هذا وبين حرملة وعمر بن سعد وسنان وخولي؟ ألم يكن أولئك يصلّون ويصومون ويقرأون القرآن؟ فسنان بن أنس وخولي وابن زياد كانوا يصلّون، حيث كان أهل الكوفة يقتدون في صلاتهم بابن زياد! إذاً هؤلاء كانوا يصلّون ويقرأون القرآن ويحدّثون عن النبي ويدافعون عن الإسلام، ويدّعون بأنهم إنما قتلوا الإمام الحسين لأنّه قام بخلاف ما أتى به دين جدّه من السلم والسلام والوحدة بين المسلمين، وبسبب قيامه على خليفة زمانه الذي ينبغي إطاعته والتسليم له.. هكذا كانوا يبرّرون فعلتهم أمام الناس! وأنّه بما أنه فعل هذا الأمر فدفْعُه واجب! ولا بدّ من منعه بأيّ طريقة!
إذا كان دفعه واجباً، فما ذنب طفله ذي الستة أشهر حتى تضعوه أمامكم وتمزّقوه؟! لكن هذا جزء من تلك الوظيفة.
عندما كنت أتأمل في هذه المسألة، كنت أقول: هؤلاء كانوا يصلّون ويصومون ويدّعون أنهم يدافعون عن الله ورسوله، فما الفرق بين حرملة وبين هؤلاء؟ في الواقع لا فرق بينهما أبداً، غاية الأمر أنّ حرملة كان منذ ألف وأربعمائة سنة، بينما هذا حرملة الوقت، ذاك سنان بن أنس منذ ألف وأربعمائة سنة أمّا هذا فسنان بن أنس هذا الزمان! الزمان هو الفارق بينهما فقط، فهذا لو كان في ذاك الزمان لكان حتماً قد رمى الطفل علي الأصغر بسهم، نعم هذا الذي يدّعي الدفاع عن الله الآن، الذي يدّعي الدفاع عن العرفان ومدرسة العرفاء، هذا بنفسه يرمي سهمه في صدر سيّد الشهداء وفي عين أبي الفضل وعنق علي الأكبر، هو بنفسه يفعل ذلك! هل التفتم؟ لا يوجد أيّ فرق بينهما.
عندما يقال بأن عاشوراء دائماً موجودة وكربلاء دائماً حاضرة معناه هذا، يعني أنّك في كل آن إمّا أن تكون في هذا الطرف أو ذاك، لا وجود للحد الوسط.
يقول المرحوم العلامة: كان في زمن الشاه طبيب بلجيكي أو نمساوي، وهو مدفون في منطقة خواجة ربيع، وقد زرت قبره، وكان مكتوباً على بلاطة قبره ذلك، وهو طبيب نصراني أتى إلى مشهد وأسلم وتشيّع بمعجزة من الإمام الرضا عليه السلام، وكان جرّاحاً حاذقاً، ولم يكن الطب في إيران متطوّراً كما هو الحال الآن؛ حيث إنّ أفضل الأطباء في العالم من إيران، أما في ذلك الزمان فلم يكن الأمر كذلك، وكان هذا الطبيب يعمل في مستشفى مشهد (الإمام الرضا) وكان يُجري فيها عمليات موفّقة، وكان محطّ عناية الإمام. وكان بعض أطباء تلك المستشفى ـ كي يقال بأنّ هذا الطبيب ليس حاذقاً وأنه إنما أتى إلى هنا ليستأكل بعمله، وغيرها من العبارات الموجودة دائماً ـ يقوم بوضع الماء على جراح المريض الذي يخضع لعملية من قبل هذا الطبيب؛ حتى يلتهب الجرح وتفشل العملية.
حسناً، ما الفرق بين حرملة وبين هذا الطبيب، فحرملة قام بهذا الفعل، إذ ما الذي فعله حرملة؟ ما الذي فعلوه بعلي الأكبر؟ ضربوه بالحجارة والسيوف والرماح! هذا الذي فعلوه بأبي الفضل العباس، هؤلاء الذين كانوا يصلّون ليلة عاشوراء، لكنهم في اليوم التالي كمنوا له خلف الشجر وغدروا به بشكل جبان، فقطعوا يديه.. هم أنفسهم الذين كانوا يصلّون في الليلة السابقة، في أي حالة كانوا؟ لا فرق بين هذا الذي يضع الماء على الجراح لكي يلتهب وبين من يقطع يدي أبي الفضل، لا فرق بينهما إلا في الزمان، فذاك كان منذ ألف وأربعمائة سنة، وهذا منذ مائة سنة، ذاك كان سنة ستين للهجرة بينما هذا سنة ألف وثلاثمائة، الزمان هو الفارق فقط، فهذا لو كان في عاشوراء لكان كمن له خلف الشجرة الثانية وقطع يده الثانية؛ لأن الاثنين عملهما واحد؛ وهو صادر من النفس، النفس في المقام هي التي تتدخّل، الشيطان هو الذي يعمل في المقام، هوى النفس هو المتغلّب في هذه الحالة، لذا علينا أن ننتبه جيّداً.

    

يمكن لأي شخص أن يكون مع الإمام الحسين أو مع عمر بن سعد

لقد أُعطينا القاعدة والقانون على امتداد التاريخ، لا ندّعي أنه لا قانون لدينا ولا قاعدة، بل لدينا الكثير من المعايير والضوابط؛ بحيث أننا لا نحتاج إلى بحث وتحقيق كي نجدها، {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ}[1]. فهذا التاريخ وكلمات العظماء فيه جميعها مليئة ببيان المعايير والملاكات لنا، فالطبيب ينبغي عليه أن يعرف نفسه هل هو من أطباء معسكر عمر بن سعد، أم أنه من أطباء معسكر سيد الشهداء، والمهندس ينبغي أن يعلم هل هو من عسكر عمر بن سعد ـ فهؤلاء كان لديهم مهندسين أيضاً وأطباء، وكان لديهم من كل الأصناف ـ أم من مهندسي عسكر سيد الشهداء؟ على التاجر أيضاً أن يعلم، والعالم ينبغي أن يعلم.. واهٍ واه من هذا الأخير، إذ غداً سوف يحاسب العالِم على كل كلمة صدرت منه.
كنت بالأمس أكتب عن النيروز، حيث كنت أكتب مقدّمته، فقد كتبت في الهامش بأن وظيفة العالم هل هي أن ينظر إلى ما يحبّه الناس ويتكلّم بحسب ما يرغبون به؟ أم عليه أن يرى ما هو الحق فيبيّنه لهم، حتى لو لم يرضوا به؟ إذ ما شأني أنا برضا الناس أو عدم رضاهم، أهل المطلوب مني أن أتكلّم بما يقبله الناس؟ النبي لم يستطع أن يرضي الناس جميعاً، وقد بيّن الله هذه الحقيقة؛ {إِنَّكَ لا تَهْدي مَنْ أَحْبَبْت}[2] بل عليك أن تقوم بتكليفك، {لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنين}[3]، فحتى لو لم يؤمن أبو سفيان وخالد والمغيرة بن شعبة، فحتى لو لم يؤمنوا.. أنت عليك أن تقوم بتبليغك، فمن ينبغي أن يؤمن فسوف يؤمن، فالكلام لا ينبغي أن يكون لأولئك الذين يردّون الكلام قبل أن يسمعوه، فالخطاب ليس موجهاً لهؤلاء، إذ من إضاعة الوقت مخاطبة هؤلاء! فهم لهم فضاؤهم الخاص بهم، أو كالذين يشرعون بالنقض قبل أن يفهموا، فهل أنت لا عمل لك حتى تخاطب هؤلاء؟ لماذا تضيّع وقتك معهم؟ هذا الكلام ينبغي أن يكون مع الذين يريدون أن يسمعوا والذين نزعوا من آذانهم القطن، هذا الكلام إنما هو لهؤلاء. لماذا طويت أنا كل هذه المسافة وجئت إلى هنا؟ لأجل أن تقع هذه الكلمتين التي ألقيها في أسماع من ينبغي أن يسمعوا، لذا لا ينبغي أن يكون هذا موجباً لقلق الإنسان وعدم راحته فيقول هل سيسمع فلان هذا الكلام أم لن يسمعه.. العالِم يجب عليه أن يقول ما يراه هو؛ سواء قُبِل منه أم لا.
هناك ذكرت في الهامش ـ لقد كتبت رسالة حول الأربعين وذكرت فيها ـ بأن الأربعين مختصّة بسيد الشهداء وليس لدينا شخص آخر في التاريخ قد أقيم له الأربعين حتى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، هذه الكتب بين أيدينا.. فإن كان هناك غير هذه الكتب فنحن لا إطلاع لنا عليها، والحال أن هذه الكتب وهذا التاريخ الذي بين أيدينا والقراءات والمطالعات التي نقوم بها لا يوجد فيها شيء من ذلك، فحتى من كان أفضل من الإمام الحسين كأمير المؤمنين ورسول الله لم يُقَم لهما أربعين، وواقعاً لم يقم لهما أربعين، والحال أنهما كانا أفضل من الإمام الحسين، وكذلك فاطمة الزهراء، أين ورد لدينا أنّه أقيم أربعين للسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام؟ وأين ورد أنه أقيم للنبي الذي كان سيد الكائنات وأول تجلٍّ في العالم وهو التجلي الأعظم.. لكن نرى أنه مع ذلك يُسأل أحدهم عن الأربعين، فيجيب بأنّ الأربعين كان لجميع الأئمة لكن تم نسخها بالنسبة إليهم وبقي خصوص الأربعين للإمام الحسين.. يا أخي من أين أتيت بهذا الكلام؟! الأشخاص الذين يسمعون كلامك يأخذون به، فلماذا تكذب عليهم؟! إذا فرضنا أنهم بنوا على كلامك ورتّبوا عليه الأثر، فماذا سيكون جوابك أمام الله تعالى؟ لا تتكلّم هكذا، بل قدّم دليلاً على كلامك، فإن كان دليلك الوحي فينبغي أن نعرف.. حيث يقال الآن يوجد وحي ينزل على البعض، لكن ما نعلمه أن الوحي قد انقطع بوفاة النبي، فهذا الكلام ينبغي أن يكون من الوحي، حيث لم نجده في مكان ولم نقرأه ولم نسمعه من العظماء، فإن كان وحياً فقل أوحي إليّ هذا الأمر، وإن لم يكن كذلك، فلماذا تأتي وتقول: لقد كان الأربعين يقام لسائر الأئمة؟ نعم ما كان يقام للأئمة هو الذكرى السنوية فقط، فالإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام كان لديهم ذكرى سنوية، فالإمام الباقر عليه السلام أوصى بأن يُقام له مجلس عزاء في كل سنة في منى، وهذا الأمر ينبغي أن يكون، إذ لا بد من أن يبيّن الإمام نفسه للناس، ولا يمكنه أن يخفي نفسه عنهم، لذا عليه أن يقول أقيموا لي ذكرى سنوية، فإن لم نقمها للإمام، فلمن نقيمها إذاً؟ لكن أين لدينا أن الإمام الباقر قال أقيموا لي الأربعين؟ أو الإمام الصادق أو الإمام الرضا؟
هؤلاء هم هكذا، يعني أن نفس هذه الحادثة التي تراها، عبارة عن سهم بنحو مختلف، وضربة سيف بنحو مختلف، وشريح القاضي بنحو مختلف، وإمام جماعة لهم بنحو مختلف؛ لأنه يكذب! ليست وظيفة العالم أن يأتي ويرتّب الأمور كما يرغب الناس، فإن سُئل عن رأيه في أمر، يجيب ماذا تريدون، ثم يرتّب لهم ما يريدون.

    

ضرورة بيان الأحكام الشرعية دون مداهنة

إحدى الإشكالات التي وجهّت إلى المرحوم العلامة هي أنه لم يكن يداهن الناس في الأحكام الشرعية؛ كالربا والبنوك؛ حيث كانت المعاملات البنكية ربوية في زمن الشاه، لكن لا أدري الآن هل هي كذلك أم لا؟ وكان يبيّن الحكم بشكل واضح، وكان بعض أئمة الجماعات يُشكلون على العلامة بأنه لا يحلّ أمور الناس، بل يزيد في مشكلاتهم.. عجيب! إذا قال بأن الربا حرام، فهو من إيجاد المشكلات للناس؟! إذا كان الأمر كذلك فلماذا نقصر هذا الكلام على الربا؟! بل ينبغي أن نريح الناس ونخلّصهم من كل شيء.. نقول لهم الربا حلال، وشرب الخمر حلال والشطرنج حلال والقمار حلال والسفور حلال وما بعد ذلك حلال[ضحك من سماحة السيد]... فجميع هذه الأمور ينبغي أن تكون حلالاً في حلال، فلماذا نقف عند الربا فقط، بل علينا أن نوسّع من الدائرة لنصير موضع رضا الناس ومحبتهم...
لكن كم يوم سنبقى في هذه الدنيا؟ هل يمكننا الفرار من عزرائيل أو من الملائكة؟ إذا كان بإمكاننا الفرار فلا إشكال!
كانوا يقولون: العالِم هو الذي يحلّ مشكلات الناس، لا يزيد على مشكلاتهم ويعقّدها عليهم، وهذا السيد محمد حسين لا يعرف إلاّ أن يزيد في مشكلات الناس لا حلّها، وهذا الكلام كان يصدر من بعض أقاربنا، نعم من بعض أقاربنا! وكانوا يقولون: تعالوا إلينا لنحل لكم مشكلاتكم! يعني هل أن السيد محمد حسين ليس لديه العلوم التي لديكم؟ الآن علينا أن نرى ما الذي يجري هناك، فإن السيد محمّد حسين رحل وهم أيضاً رحلوا! الآن ماذا يحدث في ذاك العالم؟ من هو المتقدّم ومن هو المتأخّر؟ ومن يحاسَب ومن هو المرتاح من الحساب؟ ومن الذي وصل إلى تلك المقامات والدرجات العالية ومن الذي أعدّوا له وسائل التدفئة والمكان الحار... [ضحك] عندما ينتهي من إحداها ينتقل إلى الأخرى الأكثر حرارة والمتطورة أكثر.. الآن علينا أن نرى ماذا هناك، فتلك الأوضاع قد انتهت فعلاً! فهذا قد يعيش سبعين سنة وذاك عشرين، ولكن في النهاية سوف تنتهي كلها، الآن هذا في حالة سرور وبهجة وانبساط وغارق في أنوار الحق، بينما ذاك في حالة ضيافة خاصة وكذا.. فهل هذان اليومان في الدنيا يستحقّان منا ذلك؟! هل تستحق هذه الدنيا أن نأتي ونقف في معسكر عمر بن سعد، ونضرب السهام والسيف؟ والآن الأمر كذلك، وحريّة الاختيار بأيدينا نحن؛ فإمّا أن نكون في هذا الطرف أو ذاك الطرف، وهذه حالة الدنيا.

    

الأمل العظيم هو ذات الباري تعالى

وهنا يقول الإمام السجاد عليه السلام: إلهي لقد عرفنا أمر الدنيا، ورأينا أمثال ابن زياد ـ هذا لسان حاله ـ ورأينا أمثال يزيد ومعاوية وأمثال سنان، وفي المقابل رأينا أبانا وجدّنا ورأينا الأولياء وأصحاب والدي كيف كان فداؤهم له وكيف كانوا يتسابقون إلى ذاك الأمل العظيم الذي يشير إليه الإمام السجاد عليه السلام، حيث جعلوا هدفهم ذاك الأمل.. يقول إلهي لقد شاهدنا جميع هذه الأمور، ورأينا اعتبارية هذه الحياة الدنيا؛ فاليوم ترفع هذا الإنسان وغداً تضع الآخر، اليوم يتم مدحه وغداً ينتقد بألف انتقاد، اليوم كذا وغدا كذا. فقد رأينا هذه الحالة، رأينا اليوم يقولون شيئاً وغداً يقولون شيئاً آخر. إلهي ليس لدينا وقت وفرصتنا قليلة! والحال أنا نريد الخروج من هذه الأجواء، فما الذي يمكننا أن نضعه عوضاً عن هذه الأجواء؟ انظروا الإمام السجاد هنا يعلّمنا ما الذي ينبغي أن نطلبه! يقول إذا كان العاقل قد شاهد هذه الدنيا وخبرها، وأراد أن يعوّضها بشيء أفضل وعرف أنّ هناك شيئاً وراء هذه الدنيا.. فما هو الشيء الذي يطلبه عوضاً عنها؟ وما النعمة التي يطلبها؟ كل ما يريد الإنسان أن يضعه بدل هذه الدنيا في مقابل عمله لن يساوي ما وضعه الله تعالى لنا في الآخرة وما جعله في اختيارنا. نقول هناك في ذاك العالم نِعم وأمور وكل شيء.. نقول نَعم نحن نقبل بذلك! فجميع هذه الأمور صحيحة ومحفوظة في مكانها، لكن هل تقف المسألة عند هذا الحدّ؟ إذا كان الأمر كذلك، فما معنى {ولدينا مزيد}[4] إذاً؟ حيث يقول القرآن بأنّ هناك غير هذه النعم التي ذكرناها لكم! بمعنى أنه لدينا صندوقاً فيه كل شيء، وهناك أمور أخرى، فما هي هذه الأمور الأخرى؟
فكر بهشت و حوري و غلمان كجا كند
                             دلداده عاشقى كه نگارش برابر است
(ماذا يفعل العاشق بالجنة والحور والغلمان؟ فما يُعطى قلبه أعلى منها بدرجات)

تلك العبارة لدينا مزيد تعني أن هناك شيئاً آخر لا يعطى لأي شخص، بل بحاجة إلى أشخاص محدّدين، وقد جعلناها للأشخاص الذين ليس فقط أتوا إلينا وتركوا ما تمسّك به أهل الدنيا ـ فقد ذكرنا أن العاقل العادي لا يفعل ذلك فما بالك بالإمام! فهل يفعل العالم العاقل ما يقوم به أهل الدنيا من أعمال؟! ـ ليس فقط تركوا ذلك، بل تركوا سائر النعم الأخروية أيضاً وتجاوزوها، هؤلاء أعددنا لهم ذاك المزيد! فمسألة لدينا مزيد، تعني أن هناك نعماً أخرى غير جميع ما يتصوّره الإنسان؛ من آثار ذات الباري تعالى والنعم والأسماء والصفات الكلية ونزولها إلى المراتب الجزئية وظهورها في ما يوجب التذاذ النفس وانبساط روح الإنسان وابتهاجه.. جميعها في مرتبة آثار الذات، جميع هذه في مرتبة ظهور وبروز الذات الإلهية؛ فهي تظهر تارة بصورة حور وغلمان، وأخرى بصورة جنان تجري من تحتها الأنهار من عسل مصفى ولذّة للشاربين، وثالثة بصورة سائر النعم الأخرى؛ كلٌّ في مرتبتها الخاصة التي توجب ابتهاج النفس.. جميع هذه الأمور ـ دون فرق بينها ـ من آثار ذات الباري تعالى. أمّا لدينا مزيد، فهي شيء آخر في ذاك العالم، بل حتى في هذا العالم أيضاً، إذ لا اختصاص لها بذاك العالم، فالأولياء والعرفاء الإلهيون يصلون في هذه الدنيا إلى ما وعد الله تعالى عباده في ذاك العالم، وذاك عبارة عن ذات الباري تعالى نفسها، وهذا هو حقيقة الوصول إلى ذات الباري تعالى، والوصول إلى الحقيقة غير المتناهية له تعالى، والوصول إلى أي شيء لا يمكن لأي نعمة أخرى أن تقارَن بها، أنظروا إلى الخواجة ماذا يقول:
من كه ملول گشتمى از نفس فرشتگان
يقول لقد وصلت إلى مكان لا أستطيع فيه مجالسة حتى الملائكة، فذاك يوجب لي النزول عن المرتبة التي أنا فيها. هذا بالنسبة إلى مجالسة ملائكة الله تعالى، لا بالنسبة إلى الجمال العادي وغيره من الحور العين، بل الملائكة المقربين الذين يقولون: «لو دنوت أنملة لاحترقت».. هناك في تلك المرتبة يقول: لقد وصلت إلى مكان صرت فيه أملّ مجالسة الملائكة المقربين، فلا أستطيع التفكير بالتنازل عن الذات، ولو قبلت بالتنازل فأنا الخاسر وأنا المضيّع.
أحياناً قد لا يستطيع الإنسان ذلك، فلا كلام، فأنا الآن لديّ قدرة على شرب كوب واحد من الماء فقط، فلو طُلِب منّي شرب إبريق لن أستطيع، فاستعدادي محدود في شرب الماء؛ وهو شرب كوب واحد.. أنا لديّ استعداد للمشي على الأرض فقط، ليس لدي جناح كي أحلّق كالطيور! تارة لا يكون لدى الإنسان استعداد وقدرة فهذا مطلب آخر؛ كما هو الحال في سائر الخلائق؛ فهم من جهة سعتهم الوجودية لا يستطيعون ذلك، لكن إذا أدرك الإنسان أنه يمتلك هذه القدرة ومنح هذا الاستعداد، فكيف يمكنه إقناع نفسه بتلك المرتبة من النعم النورانية والاستئناس بها دون أن يصل إلى المراتب العالية. لذا هنا يقول الإمام السجاد عليه السلام لله تعالى: إلهي نحن لا نريد منك الجنة والحور والغلمان والجنات التي تجري من تحتها الأنهار، وإن كانت هذه موجودة، بل طلبنا هو أعلى من ذلك. فعندما تذهب للقاء صديق لك، لا تذهب لأجل ما سيضعه أمامك من فاكهة، وإن كنت ستتناول مما يقدمه لك أثناء لقائه والتحدث إليه، فالضيافة لها مكانتها الخاصة، إذ لا يضيّف الإنسان بالحجارة، بل يوضع أمامه الفاكهة والشراب.. وهذا محفوظ في مكانه، لكن ذاك الالتذاذ الذي تحصل عليه هل هو من الفاكهة أم من التحدث إلى صديقك؟ وتلك المسرة والابتهاج وتلك الحالة النفسانية التي تحصل لديك بلقاء صاحبك، والتي تحصل لدى لقاء المحب بحبيبه والعشيق بعشيقه.. تلك اللذة التي تحصل أثناء هذا اللقاء هل توازي لذة البرتقال والتفاح الموضوع أمامك؟ الإمام السجاد يقول يا إلهي لا أريد غير ذاتك العظيمة والتي لا تصوّر لعظمتها، فكل شيء دون تلك الذات هو أمر صغير، وفي مقابل القدرة والاستعداد والظرفية التي منحتني إياها كل شيء صغير حتى لو كان هو الحور والغلمان، والجنات التي تجري من تحتها الأنهار صغيرة، والجنة التي لا حد لها بكل مراتبها صغيرة.. إلى أن تصل المسألة إلى حد الذات، ففي مسألة الذات يصل الإنسان إلى مرحلة لا يعود هناك شيء وراءها.
يقول المرحوم العلامة.. لقد سمعت منه ذلك لكن لا أدري إن كان ذكر ذلك في كتاب الروح المجرد أم لا، لكني سمعت منه ذلك مراراً، فقد كان للمرحوم العلامة أساتذة كثر؛ إذ كان أستاذه الأول العلامة الطباطبائي وتتلمذ عنده لسنوات، وحتى حينما ذهب إلى النجف كان يعمل بدستورات العلامة الطباطبائي، وهناك تعرّف على عظماء كثيرين كالسيد جمال الدين الگلبايگاني؛ نعم لم يكن أستاذاً له بل كان لديه حالة رفاقة معه، وتعرف على تلامذة المرحوم السيد القاضي، وتعرف على الشيخ هاتف القوجاني.. والحاصل أنه كان هناك الكثير من العظماء ليس من الضروري ذكر أسمائهم جميعاً، وكان في الأخير مع المرحوم الشيخ الأنصاري، ولم يكن الشيخ الأنصاري قليلاً، بل كان مطّلعاً على الكثير من المسائل، وإن كان في نهاية عمره قد طوى المراحل العالية أيضاً.. لكن الكلام في أنه قال: عندما وصلت إلى المرحوم السيد الحداد وجدت ضالتي! ماذا يعني هذا الكلام؟ هذا يعني أنه مع جميع المراتب التي طواها وتلك السنوات الأربع عشرة التي قضاها مع أولئك العظماء وكان يأخذ منهم الدستورات ويعمل على أساسها وكان يذهب في كل ليلة جمعة إلى مسجد السهلة مشياً من النجف ويبيت فيه.. جميع هذه الأمور كان يقوم بها، لكنه عندما وصل إلى السيد الحداد قال لقد وجدت ضالتي! ماذا يعني ذلك؟ يعني أن ما وجدته في شخصية هذا الرجل لم أجده في غيره، وتلك المرتبة التي أراني إياها هذا الرجل لم يريني إياها غيره من الشخصيات.. هذا ما كان يقوله لي. لذا يعتبر أستاذه الأساسي والحقيقي هو المرحوم السيد الحداد، ولكن يأتي الآن من يقول: السيد الحداد لم يكن أستاذاً له!! ما هذا الكلام الفارغ؟! إن لم يكن أستاذاً له فلماذا كان يأخذ الدستورات منه دون العكس؟! يقولون: لم يكن السيد الحداد يأخذ دستوراً من العلامة من باب التواضع! أين التواضع في المقام؟! ولماذا التواضع كان من جهة واحدة فقط؟ فإن كانت المسألة من باب التواضع فينبغي أن يكون هناك تواضع من الطرف المقابل أيضاً، فيقول أعطني ذكراً أو دستوراً أو شيئاً ما؟!
ما هذا الكلام الذي يدوّن في الكتب؟ ما الذي يريدون أن يثبتوه بهذا الكلام؟ من الذي يريدون أن يرفعوه ومن يريدون أن يضعوه؟!

    

الأولياء لم يكونوا يطلبون سوى ذات الله دون سواها

لذا الإمام السجاد يطلب من الله تعالى هذا الأمر، فيقول: إلهي عندما تعرّفت على ذاتك فلن أطلب غيرها! فلن أريد غيرها؛ سواء كانت الجنة أم لم تكن، لأني أريد الوصول إلى تلك العظمة؛ عظم يا سيدي أملي، وهو الوصول إلى ذاتك، وذاتك حقيقةً بحيث أن كل شيء يُتُصوّر غيرها سيكون دونها، ولا أريد أن أكتفي بما دونك.
لذا ورد في كلمات المرحوم العلامة .. واقعاً عبارات العرفاء عجيبة فهم لا يمزحون ولا يخدعون أحداً، بل يريدون أن يصل الناس إلى ما وصلوا هم إليه، فالإنسان يمكنه أن يطّلع على مستوى الإنسان من خلال كلامه، فمثلاً يرى شخصاً جيداً جداً، لكنه منشغل دائماً بالأمور الخارقة للعادة وغير العادية وأمثال هذه المسائل، فهذا تعرف أنه في حدود عالم المثال، لا أكثر، وترى شخصاً آخر عندما يتحدث يحدّث عن ظهور إمام الزمان وأنه متى يظهر وغيرها من المسائل، فهذا تعرف أنه في هذا المستوى ليس أكثر، وشخص آخر عندما يتحدّث يتحدّث عن مسائل أعلى؛ عن المكاشفات وغيرها.. فهذا نعرف أن لديه شيئاً لكن ليس هو المطلوب، العظماء والأولياء ـ وقد أدركت هذه المسائل منهم بنفسي ـ لم أر أنهم كانوا يتنازلون في كلامهم عن المرتبة التي هم فيها، وبما أنهم لا يستطيعون بيان ما هم فيه بشكل واضح، كانوا يبيّنون للناس تلك المرتبة وعنوان ذاك المكان، ويعينوا تلك الجهة بكلامهم وحركاتهم وإشاراتهم، ويسوقوا الناس نحوها، لا إلى المراتب الأدنى والمسائل البسيطة والأفق العادي، ويمكن للإنسان أن يعرف مستوى هذا الشخص من خلال إدراكه للحقيقة التوحيديّة. لذا كان المرحوم العلامة وكذا المرحوم السيد الحداد ـ بحسب ما كنت أشاهد وأرى منهم ـ عندما كانوا يتحدّثون مع الأشخاص يأخذون الله فقط في الحسبان ورضا الله والوصول إليه، فعندما كانوا يطلبون فعلاً معيناً، فما هو الأمر المتوقّع من هذا الفعل؟ بعضهم يقول: رضا الله، بينما هم يقولون فقط ذات الله تعالى، وكانت عبارة ذات الله تتكرر دائماً على ألسنتهم، حيث كان المرحوم العلامة يقول: لا تتنازل عن ذات الله تعالى.. ما تقوم به ينبغي أن لا تأخذ بالحسبان غير ذات الله أبداً. لا بد أن هناك أجراً وثواباً، لكن ينبغي أن لا تتخلى عن الذات، لا تمزج الذات بغيرها حتى في فكرك، لا تجعل ذلك يخطر في ذهنك حتى، من أول الأمر ينبغي أن لا ترى غير الذات. وإذا كان الأمر كذلك، فكم يترك هذا الأمر أثراً على الإنسان؟ وكم يفرق الأمر بين الشخص الذي يعمل على هذا الأساس، وبين الأمور الأخرى التي توجب أنس الناس بهم، أو غير ذلك.. كلا، بل يريدون ذات الباري تعالى؛ سواء استحسن الناس ذلك أم لا، وسواء صفق الناس لنا أم لا، وسواء قال الناس غير ذلك أم.. تلك المرتبة ينبغي أن لا نتخلى عنها، هذا هو الطريق الذي سلكه وبينه لنا العظماء تبعاً لأولياء الدين والأئمة الهداة كالإمام السجاد عليه السلام.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا للوصول إلى تلك الحقيقة التي كان الأولياء يسعون إليها، وتلك المرتبة التي أفنوا في سبيل الوصول إليها جميع وجودهم.
اللهم صل على محمد وآل محمد


[1] ـ سورة يوسف، الآية 105.

[2] ـ سورة القصص، الآية 56.

[3] ـ سورة الشعراء، الآية 3.

[4] ـ سورة ق، الآية 35.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی