معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 ـ المحاضرة 3 : من الذي أودع فينا الأمل العظيم؟

_______________________________________________________________

هو العليم

سلسلة شرح دعاء أبي حمزة الثمالي للعام 1434 هـ
المحاضرة الثالثة:

من الذي أودع فينا الأمل العظيم؟

ألقيت هذه المحاضرة في الليلة السادسة من ليالي شهر رمضان المبارك

ألقاها:
سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه اللـه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
و صلّى الله على سيّدنا و نبيّنا أبي القاسم محمّد
و على أهل بيته الطاهرين
و اللعنة على أعدائهم أجمعين

«عظُم يا سيّدي أملي و ساء عملي، فأعطني من عفوك بمقدار أملي و لا تؤاخذني بأسوأ عملي؛ فإنّ كرمك يجلّ عن مجازاة المذنبين، و حلمك يكبر عن مكافاة المقصّرين»
بَيَّنا فيما مضى ما هو مراد الإمام السجّاد عليه السلام من «الأمل العظيم» هنا، وأنّه عندما يقول عليه السلام: عندي أملٌ كبيرٌ وعظيمٌ في نفسي وقلبي؛ فما هو مراد الإمام من هذه العظمة؟ فكلّ أمرٍ نتصوّره ممّا سوى الله تعالى؛ لو جعلناه هو المُعطَى والممنوح من الله، فإنّ هذا الأمر يُعدّ قليلًا و صغيراً بالمقارنة بالهدِيّة الإلهية ـ أعني تلك الهديّة الأولى والكبرى ـ و هي مقام خلافة الله.

    

إذا كان المانح هو الله، فلماذا نطلب القليل ونقنع باليسير؟

وذكرنا أنّه لمّا كان المفروض أنّ الله سيمنح ويعطي، فلم يكون العطاء قليلاً والمُنحة بسيطة؟! ولماذا يكون مطلوبنا أمراً بسيطا أو صغيراً؟! فعندما يكون الإنسان إلى جانب بحرٍ لا يُنزف، و آثار جماله وجلاله حاضرة، و كلّ شيءٍ يؤخذ من هذا البحر يرجع إليه، ومهما أُخِذ منه فإنّ هذا البحر لا يَنقُص منه بمقدار كوبٍ واحدٍ.. عندما يكون الأمر كذلك، فلماذا نكتفي بطلب كأسٍ واحد أو فنجانٍ صغير؟! إنّ الإعطاء لا ينقص شيئاً من الله.

    

الجود و العطاء لا ينقص شيئاً من الله تعالى

افرضوا بحراً واسعاً، فلو جئنا و أخذنا كوباً من الماء من هذا البحر، فإنّ البحر في الحقيقة سينقص بمقدار هذا الكوب، غاية الأمر أنّ ذلك لا يظهر أثره بشكلٍ واضحٍ، ولكنّ هذا البحر في النهاية سينقص حقيقةً بهذا المقدار، و حتّى لو كان بدل البحر محيطاً عظيماً، فإنّه سوف ينقص بهذا المقدار أيضاً! ولكن لو ذهبت إلى البحر ونزلت متراً تحت سطح الماء، ثمّ أخذت كوباً من الماء هناك ثمّ أرقت ذلك الماء في

نفس الموضع؛ ففي هذه الحالة، ما هو المقدار الذي نقص من البحر؟ لا شيء! لم ينقص شيء! وكذلك الأمر لو فرضنا أنّك ملأت الكوب بالماء من تحت سطح البحر، فهذا الماء الذي وضعته في الكوب هل يسبّب نقصاً في البحر؟ كلاّ. ما هو المقدار الذي نقص من البحر؟ لا شيء! لأنّ الماء لا يزال في البحر، فأنت لم تُخرِج الماء من البحر لينقص حجمه.

تصوّر لو أنّ هناك حوضاً من الماء، ثمّ أتيت بكأسٍ وأدخلتها في داخل الحوض، وملأتها بالماء داخل الحوض، ولم تخرجها من الحوض، فكم نقص حتّى الآن من ماء الحوض؟ لا شيء أبداً.. لم ينقص من الحوض حتّى قطرة واحدة من الماء، لأنّ الكأس ما يزال في نفس الحوض، ولكن بمجرّد أن تُخرج الكأس من الحوض ويحصل انفصال بينهما، حينئذٍ سوف ينقص ماء الحوض بمقدار الماء المأخوذ، وهكذا لو أخذت كأساً آخر من ماء الحوض فإنّه سوف ينقص، وهكذا لو استمرّيت بفعل ذلك فإنّ ماء الحوض سينفد في نهاية الأمر.
إنّ كلّ نعمة يُعطيها الله تعالى للإنسان، فإنّ منشأ هذه النعمة ومبدؤها هو الذات الإلهية، ومآلها ومرجعها إلى نفس الذات أيضاً؛ لأنّ الوجود وجودٌ بحت و بسيط، والوجود البحت والبسيط لا بدّ أن يكون وجوداً إطلاقيّاً قطعاً ، يعني لا يمكن أن يكون لهذا الوجود حدّاً. هذه الحُسينيّة لها حدود، فأحد حدودها الحديقة، وحدّها الآخر الجيران، ولها حدٌّ من هذا الطرف وحدٌّ من ذاك الطرف، و بالنتيجة نجد أنّ لها حداً وبالتالي فهي محدودةٌ و مقيّدةٌ، أمّا الوجود الإطلاقي فهو الوجود الذي ليس له حدٌّ ولا مقدار، ولا يمكن لمقياسٍ أن يقدّره أو يسعه، فليس له مقدار وليس له كمّ ولا نقص، بل هو يمتلك سعةً تشمل نفس ذات واجب الوجود التي تمتلك جنبة الصرافة والانبساط وتخلو من كلّ حدّ وقيد، كما تشمل آثار هذه الذات التي تظهر في مراتب مختلفة وصور مختلفة، ومن ضمنها نفس الإخوان والرفقاء الجالسين ها هنا، فهم جميعاً من فيوضات الذات ومن آثار الذات التي تنزّلت من تلك العين الصافية، فظهرت في عالم الشهادة وعالم الكون بهذا الشكل وبهذه الصورة.

    

تشبيه تجلّي الوجود الإطلاقي بمثال الكوب في داخل الماء

حسناً ما الذي انفصل عن الذات بذلك؟ لا شيء، فذلك نظير أن تملأ كوباً من الماء مع إبقائه في الماء، فهذا العمل يؤدّي إلى إيجاد موضع وحدود لهذا الكوب في الماء، ولكن هذه الموضع المحدّد ما يزال في نفس الماء ـ وهذا مثالٌ جيّد في الحقيقة!! ـ ففي نفس الوقت الذي نجد أنّ لهذا الماء [الذي في الكوب] حدوداً و قيوداً، إلاّ أنّه في نفس الوقت منحلٌّ في الماء، مع أنّه في نفس الوقت هو في نفسه محدود! يعني لاحظوا هذا الكوب من الماء، ولا تنظروا إلى الزجاج بل إلى الماء المحدود به و إلى ذلك المقدار المستقرّ في الكوب، فهذا الماء.. هذا الماء في عين كونه محدوداً بحدّه الخاصّ، إلاّ أنّه في نفس الوقت منحلّ وفانٍ في مقدار الماء! و الآن لو جئنا و وضعنا كوباً آخر في هذا الحوض بنفس الطريقة، أو ثلاثة أكواب أو أربعة، أو ايّ عددٍ تريده؛ سيكون لكلّ واحد منها حجمه الخاصّ وحدوده الخاصّة، ولكنه في عين ذلك ليس بخارج عن حجم الحوض ومقداره.
ولو لاحظنا جميع عالم الوجود وجميع الكائنات من عالم المادّة أو غيره، فسوف نجد أنّها جميعاً لها حدود، فكلّها محدودة، وهو أمرٌ واضحٌ مشهودٌ، فنحن نشاهد هذه القيود والحدود، ولكنّها جميعاً منمحية في الوجود البحت والبسيط وفانية فيه، ولكنّ لا تدرك ذلك، فنحن لا ندرك أنّنا فانون في ذلك الوجود البحت والبسيط، ونحن لا نشعر بأنّنا منمحون في وجود الحقّ الإطلاقيّ وفانون فيه، بل نحسب أنّ لنا قيمةً واستقلالاً، فنحن نذهب ونمشي ونتحرّك، ونأمر وننهى!! آه، ما الأمر يا عزيزي، وماذا تحسب نفسك؟ لقد أعطوك يومين من الحياة في هذه الدنيا، ثمّ سيسترجعون هذه الوديعة، قائلين لك: تفضّل معنا، فإن جاء الإنسان طائعاً فبها، وإلاّ أخذوه إلى ذلك الطرف بالقوّة! فلماذا كلّ هذه الجلبة إذاً، ولماذا هذا التكالب على الدنيا؟ تعالوا نقضي هذين اليومين براحةٍ وسهولةٍ.
حسناً، إنّ هذا الوجود الإطلاقيّ للحقّ قد أفنى جميع المقيّدات والمحدودات في نفسه، وذلك في عين كونها مقيّدة ومحدودة، فالحدّ لا يزول، والقيد ما يزال موجوداً، ونحن نشاهد هذه الحدود بوضوح، كما نرى الآثار و الخصوصيّات التي لكلّ واحدة منها، و هذا الأمر عجيب جداً، فهذه الخاصيّة و الميزة التي في الوجود الإطلاقية غريبة وملفتة، فالوجود الإطلاقي ، و الوجود البحت و البسيط ..
[التفتوا] إنّ هذا الذي نبينه هو حقيقة وحدة الوجود التي يتحدّثون عنها، هل ترون كم هي مسألة بسيطة ؟! ..

    

الوجود البسيط الإطلاقي يفني في ذاته جميع المقيّدات، غاية الأمر أنها غافلة عن ذلك

حسناً، إنّ الوجود البسيط والوجود الإطلاقي يُفني في ذاته جميع المقَيَّدات، غاية الأمر أنّ نفس القيد لم يدرك ذلك الفناء والانمحاء حتّى الآن، بل هو يحسب أنّ له وجوداً استقلالياً، فهو يقول: أنا وأنت، وهو وهما وهم وأنتم وما إلى ذلك... فهذه الوجودات المقيّدة التي نطلق على كلّ واحد منها اسماً هي لا تدري أنّ هذا الذي أمامها فانٍ في الوجود الإطلاقي وأنّها هي نفسها كذلك فانيةٌ مثله.. لا تدرك أنّ هذا الذي تطلق عليه «أنت» هو فانٍ في وجود الحقّ ولا استقلال له، ولا يدرك أيضاً أنّ هو نفسه ـ أي هذا الذي يقول: «أنا» و «نحن» ـ هو بدوره فانٍ ولا استقلال له !!

أذكر كيف كان بعض المسؤولين في الزمان السابق يقف بشموخ وتكبّر قائلاً: نحن أمرنا، ونحن نهينا، وأذكر أنّني كنت أستمع لكلمة ألقاها أحدهم في زمان الشاه، وكانوا يعرضون صورته أيضاً، وعندما كان الإنسان ينظر إلى هذه الوجوه كان يتعجّب من [كلّ هذا الغرور و التكبّر]، ولا يدري هذا المسكين ما الذي سيحلّ به بعد سنتين أو ثلاث [يبتسم سماحة السيّد]، و كان يقول بلحن ملؤه التكبّر : «ما فرموديم..» بعين هذه العبارة، أو بقوله: «ما دستور داديم ..» (1)، فما الذي حصل لذلك كلّه؟ أين ذهبت هذه الأوامر؟ وأين ذهبت « نحن أمرنا..» و «نحن نهينا» ؟! وما الذي حلّ بذاك التكبّر والغرور؟! إنّ الأمر على هذا المنوال دائماً ها! كم هو جيّد لو استبدلنا هذه الـ «نحن» بـ «هو» ! وكم هو جميل أن نستبدل «نحن أمرنا» بـ «هو أمر» ! وأن يتبدّل هذا الغرور إلى خضوعٍ وذلّةٍ! وأن يتحوّل هذا الجهل والجهالة والغفلة والتغافل إلى شعور وفهم وإدراك! أن نفهم أين نحن؟ وندرك إلى أين سنذهب ؟ وما هو المكان المعدّ لنا؟
إنّ الإمام السجّاد عليه السلام جاء ليعلّمنا هذه الأمور، ويزيل ثقافة الفرعونيّة والأنانيّة .. في بعض الأحيان نسمع بعض العبارات والكلمات، ونقرأ بعض الكتابات... (وما ذكرته لكم يتعلّق بالزمان الماضي، و لكن هذه المسألة موجودة في سائر الأزمنة والأماكن) وواقعاً هذه الأمور تبعث على التعجّب: يا للعجب! هل يمكن أن تستولي الغفلة على الإنسان إلى هذا الحدّ، بحيث لا يفهم الإنسان أين هو، و ما هي موقعيّته الحقيقيّة؟! لماذا لا نتّعظ من عاقبة من قبلنا، ولم لا نتعلّم درساً ممّا حلّ بهم؟!

    

جميع السير و السلوك يهدف إلى أن يدرك الإنسان حقيقة الأمر

على أيّ حال، إنّ جميع السير و السلوك، و البرنامج و المراقبة كلّها إنّما هي لأجل أن يدرك هذا الكأس الذي في داخل الماء بأنّه فانٍ في الماء.. كلّها من أجل هذا.. إنّ جميع الشرائع والأديان وإرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية، والتكاليف والمباني والاعتقادات كلّها جاءت من أجل أن يفهم هذا ويعرف حقيقة الأمر، لأجل أن ندرك بأنّنا فانون ومنمحون، لأجل أن نعلم وندرك ونحسّ بذلك واقعاً ها! وهذا الإحساس هو العرفان، وذلك الإحساس هو المعرفة، وذلك الإدراك هو التوحيد، وذلك الإحساس هو ما يُسمّى بالفناء! ألم تسمعوا بمرتبة «الفناء»؟! الفناء ليس أمراً عسيراً، بل هو هذا الذي بيّناه، ليس الفناء إلاّ أن يصل شعورك وإدراكك وشهودك إلى هذه النقطة وهي أن تدرك أنّه ليس لديك وجودٌ استقلاليّ! هذا هو الأمر فقط! فإذا وصلت إلى ذلك تكون عارفاً. هل رأيتم كم هو الأمر بسيط؟ لقد صرنا جميعا عرفاء هذه الليلة [يبتسم سماحة السيّد] بدون أيّ مشقّة! طبعاً الأمر يحتاج أكثر من ذلك، و كما يقول حضرة حافظ:
اين گنج سعادت که خدا داد به حافظ
                             از يمن دعای شب و ورد سحری بود

(يقول: إنّ هذا الكنز من السعادة الذي منحه الله لحافظ كان من بركات دعاء الليل وأوراد السَّحَر).

الوصول إلى ذلك المقام يحتاج إلى هذه الأمور، و لكن شيئاً فشيئاً، ففي النهاية الأمر يحتاج إلى الدعاء في الليل، وإلى الأذكار والالتزام بالبرنامج و إلى المراقبة و ما إلى ذلك، ولكن خلاصة الأمر هو ما ذكرنا، فلا داعي لأن نخاف كثيراً، خصوصاً أنّ عندنا مثل هذا الربّ الذي يصفه لنا الإمام السجّاد بهذا الشكل، فما الذي نخافه ونخشاه بعد ذلك؟ ومن أيّ شيء نقلق؟! وما الذي يدعونا بعد ذلك إلى أن نتصوّره كأنّه غول مخيف؟ وأن نتصوّر هذه المقامات كأنّها جبلٌ عظيمٌ بعيد المنال، فنرى أنفسنا عاجزين، يا عزيزي:
برون آی از سرای امّ هانی
                             بخوان مجمل حديث لن ترانی
(يقول: اخرج من بيت أم هاني العجوز واتلوا حديث«لن تراني» ، يعني لا تكتفِ بمقدار معرفة العجائز العاجزين عن تحصيل المراتب العليا من المعرفة، بل لا بدّ وأن ترتقي إلى أعلى مدارج المعرفة).
فلماذا جلست كالنساء العجائز في منزلك تعمل على المغزل، وتلف نسيجاً حول نفسك من خيالك، وحبست نفسك في بيت العنكبوت، خيوط العنكبوت الناشئة من الخيالات والأوهام ؟!

    

أولياء الله قد جاؤوا لكي يخرجونا من الظلمات إلى النور، ويأخذوا بأيدينا إلى الكمال

إنّ هؤلاء الأعاظم يقولون: اخرج من هذا كلّه، ضع قدمك في الخارج، تعال فانظر ما الخبر ، فالنبي إبراهيم عليه السلام لم يخرج من بطن أمّه عارفاً، و كذلك النبي موسى والنبي عيسى عليهما السلام لم يولدا عارفين، بل هؤلاء قد عملوا وجاهدوا وتحمّلوا المشقّة، وساروا طبق برنامجهم، فخالفوا أنفسهم حيث يجب أن يخالفوها، وعندما وجدوا أنّهم يجب أن يقفوا وقفة حقّ فإنّهم وقفوا وصمدوا، ولم يُغمضوا أعينهم عن الحقّ من أجل بعض المصالح الدنيويّة والمظاهر الدنيويّة، ولم يمدّوا يد الاستجداء نحو كلّ فاسدٍ وساقطٍ لتحصيل منافع هذه الدنيا التي تنقضي بعد يومين! هكذا كانوا وكذلك كانت سيرتهم.
وكما قُلنا البارحة، فإنّ المرحوم السيّد العلاّمة الطهرانيّ، وكذلك الأفراد الذين كانوا يسخرون منه وينتقدونه قد ذهبوا جميعاً وارتحلوا من هذه الدنيا، فما هي الأوضاع الآن؟ علينا أن ننظر في حالهم الآن، فأين سماحته الآن وما هو محلّه؟ وأين أولئك وما هو موضعهم؟ علينا ندقّق في حالهم الآن!! فذلك الزمان قد مضى وانتهى.
إنّ نفس هذه القضية وما جرى عليهم سوف يجري علينا نحن أيضاً، سيحصل معنا أنا وأنتم كما حصل معهم بعينه، فذات يوم كان السيّد العلاّمة جالساً يحدّث رفقاءه ، غاية الأمر أنّه كان في المسجد أمّا نحن ففي الحسينيّة، و كان سماحته يقول لرفقائه في ليلة الثلاثاء نفس هذه الأمور التي أقولها أنا الآن لكم بأنّه: سيأتي يومٌ أموتُ فيه و تأتون إلى مجلس عزائي وتقرؤون لي الفاتحة. ألم يحصل ذلك؟ بلى حصل ذلك. وغداً سيتكرّر هذا الأمر معي.. سوف تأتون إلى مجلس الفاتحة المقام من أجلي، و تقولون: غفر الله له ذنوبه. صحيح؟ ومن هنا فعلى الإنسان الذكيّ أن يفكّر في أمر غدِهِ، لا في هذين اليومين اللذين سينقضيان كلمح البصر! لقد منحونا فرصة صغيرة لكي نُفكِّر في أمر مآلنا، فعلينا أن نستفيد من هذه الفرصة ونغتنمها! فإن اغتنمنها فذلك، وإن لم نغتنمها فإنّ هذه القافلة ستواصل المسير ولن تنتظرنا، وستأخذنا وتسلّمنا إلى القبر! ولا مزاح في الأمر، فالأمر جدّ لا هزل فيه، سنوضع في قبرنا سواءً شئنا أم أبينا.
إنّ ما ذكره السيّد الوالد في كتابه «الشمس الساطعة» من البحث الذي دار بينه وبين السيّد العلاّمة الطباطبائي... ذلك المطلب الذي لم يتمكّن المرحوم العلاّمة الطباطبائي من قبوله في بداية الأمر، لكنّه في آخره تقبّله (كما أشرت إلى ذلك في كتاب «حريم القدس»[2] حيث كان الحقير حاضراً معهما، فقد ذهبت مع السيّد الوالد إلى منطقة «سيّد خندان» في طهران لزيارة العلاّمة الطباطبائي، و هناك التقط الحقير هذه الصورة التي تجمع المرحوم الوالد والعلاّمة الطباطبائي) ، وقد كان ذلك المجلس بالنسبة لي مجلساً عجيباً، فقد كانت حالة العلاّمة الطباطبائي عجيبةً جداً في ذلك المجلس، وفي ذلك المجلس قال سماحته للسيّد الوالد بكمال التواضع ... فالعلاّمة الطباطبائي كان أستاذ السيّد الوالد رحمه الله، حتّى أنّ السيّد الوالد كان يقول: إنّ كل ما عندنا هو من العلاّمة الطباطبائي، و لم يكن هذا تواضعاً منه ولا مزاحاً، بل الواقع هو كذلك، و مع ذلك فمظاهر الله مختلفة، ومن هنا فما المانع أن يصل التلميذ إلى مرتبةٍ لم يصل إليها الأستاذ بعد، و لم ينكشف له الواقع بعد؟
أجل، لقد التفت المرحوم العلاّمة الطباطبائي في ختام المجلس إلى المرحوم الوالد وقال له بكمال التواضع: جزاك الله عنّا خيراً، فقد أيقظتنا ووعّيتنا، وكنت سبباً في هدايتنا. (أجل لقد استعمل هذا اللفظ : «الهداية» حيث قال: لقد كنت سبباً لهدايتنا).
فأطرق السيّد الوالد رأسه من الخجل، وقال له: ما هذا الكلام يا سيّدنا؟! إنّما أنا تلميذك، وكلّ ما عندنا فهو من عندك، وما ذكرناه من مطالب فهو ليس إلاّ تكراراً لدروسكم وما استفدناه منكم.
والحقّ أنّ ما قاله العلاّمة الطباطبائي هو ما ينبغي قوله، كما أنّ الجواب الذي أجاب به السيّد العلامة الطهراني هو الجواب الصحيح والمناسب وهكذا ينبغي أن يجيب، لأّن مقام الأدب والتتلمذ يقتضي ذلك، وواقعاً إنّ هؤلاء هم الأعاظم.
إنّ المطلب الذي كان السيّد الوالد يحاول بيانه في ذلك المجلس هو هذا وهو أنّ الفناء حاصلٌ وفعليٌّ الآن، إلاّ أنّ هذا القالب لم يُدرك ذلك.. لم يكسر هذا القالب ويخرج منه، ولم يخرج من هذا القيد، ولذا هو يرى نفسه دائماً في هذه الحدود وهذه القشور، ولذا فهو يفرض بقاء العين الثابتة دائماً، ولا بدّ أن الإخوان قد طالعوا هذا المطلب، ولا شكّ أن الإخوّة الفضلاء قد راجعوا هذه المسألة بشكلٍ أكبر.
ولكنّ السيّد الوالد أراد بيان هذا المطلب، والحقّ هو ما قاله، حتّى أنّني بعد ذلك قلت لسماحته: هل يمكن للإنسان أن يعتقد ببساطة الوجود وصرافة الوجود فعلاً، ثمّ لا يقبل بالفناء الذاتي الفعلي؟! فأجاب: كلاّ لا يمكن ذلك.
فقلت له: إذن لا داعي لكلّ هذا البحث والأخذ والردّ. [يبتسم سماحة السيّد]
فأجاب: أنت تقول ذلك، ولكنّني احتجت إلى عدّة جلسات مع العلاّمة الطباطبائي حتّى تمكّنت من إقناعه بهذا الأمر.
أجل، لقد كنت أقول له: إنّ الأمر واضح، ولا يمكن للإنسان أن يسلّم ببساطة الوجود وصرافته، ثم ينكر الفناء الذاتي، فهذا من لوازم ذاك. ولعلّ السرّ أنّنا نفكّر ببساطة ، ونحسب أنّ القضيّة بسيطة، ولكنّ أولئك الأعاظم لا شكّ أنّهم يلاحظون المسألة من ألف جانب، ويراجعون جميع الاحتمالات الممكنة فيها، ويقلّبونها، ولذلك تجد أنّهم بحاجة إلى التأمّل لكي يصلوا إلى النتيجة، أمّا نحن الذين لا ندرك هذه التعقيدات فنقول ببساطة: إنّ هذا الأمر واضح ولا يحتاج إلى كلّ هذا البحث، ولا مشكلة فيها، وننهي المسألة ببساطة [يضحك سماحة السيّد].
واضح؟ إنّ هذا البحث هو نفس ذلك الذي كنّا نقوله، يعني إنّ السالك يتحمّل كلّ هذه المشقّات، ويؤدّي هذه الأذكار، ويستيقظ في الأسحار، ويلتزم بالسلوك وما يلزم منه من اللوازم والتبعات.. يفعل ذلك من أجل أمرٍ واحدٍ وهو أن يزيل ذلك القشر الذي تحت الماء الذي يمثّل حدّ هذا الكوب، حتّى يُشاهد أنّ ماء الكوب وماء الحوض ماءٌ واحدٌ، والحقيقة أنّ الماء واحدٌ فعلاً، إلاّ أنّه لا يدرك ذلك ولا يشاهده!

    

إنّ الله لا مفرّ منه إلا إليه

ومن هنا يتبيّن أنّ مبدأنا منه ومآلنا إليه أيضاً: «يا من لا يُفرّ منه إلاّ إليه»[3]، وسيأتي مثله في المقاطع القادمة من دعاء أبي حمزة أيضاً... أجل، فنحن نفرّ منه، و لكنّ إلى أين هذا الفرار؟ أوَ هناك ملجأ غير الله حتّى نفرّ إليه؟! أوَ هناك مكان آخر غير حقيقة الوجود تلك، حتّى يمكنك أن تفرّ من هذا الوجود إلى ذاك الوجود، بأن نقطع المسافة من هذا الوجود إلى ذاك الوجود؟! أم أنّ الأمر ليس كذلك، بل الحقيقة أنّ أيّ مقصدٍ تؤمّه فستجد أنّ وجود حضرة الحقّ قد استولى عليه !
إذن فإلى أين تفرّ؟ إلى عند الله! وبالتالي سنفرّ من الله إلى الله.
أينما أردنا الذهاب، فسيقول الله: اذهب. إن أردت أن ترتكب المعاصي، فهل تظنّ أنّي لا أعلم ماذا تفعل؟! اذهب، أينما تذهب فلا زلت هاهنا!! مثل البستان الذي يبنون سوراً حوله، فنظنّ نحن أنّه بلا نهاية، فعندما نرغب بالفرار من هذا البستان، فأينما تفرّ ستصل في النهاية إلى السور، وعليك أن تعود في النهاية، وليس هناك من سبيل للخروج.
حسناً، هذه هي المسألة وهذه هي الحقيقة، وهذه الواقعيّة هي نفس المسألة التي عبّر عنها الإمام عليه السلام بالعظمة في دعائه، حيث قال: «عظم يا سيّدي أملي».

    

من يدرك مقام العظمة يعزف عن الجزئيات، بخلاف الغافلين

حسناً، نحن كنّا قد بيّنا أنّه لا يوجد هناك من مقامٍ أعلى من هذا المقام، وهنا يوجد العديد من الأدعية و[الروايات] الكثير الكثير إلى ما شاء الله، مثلاً يقول الإمام السجاد: «إلهِي مَنْ ذَا الَّذِي ذَاقَ حَلاوَةَ مَحَبَّتِكَ، فَرامَ مِنْكَ بَدَلاً؟ وَمَنْ ذَا الَّذِي أَنِسَ بِقُرْبِكَ، فَابْتَغَى عَنْكَ حِوَلاً؟!» فما هو سرّ هذه الكلمات؟ [ولماذا كانت تصدر منهم عليهم السلام؟] كلّه من أجل الوصول إلى مقام العظمة؛ فمن يصل إلى هذا المقام، هل يمكن له أن يلتفت أو أن يفكّر ويأمل في غيرٍ من الأغيار؟!! لقد وصل بنفسه إلى منبع العظمة! فهل يمكن أن نتصوّر بعد ذلك أن يميل إلى الأغيار؟! وهل أصلاً يمكن أن نقبل بذلك من الناحية العقلانيّة أن يكون هناك إنسانٌ قد وصل إلى مرتبة العظمة هذه ثمّ يميل إلى ما هو دون العظمة؟! ما معنى ذلك؟! هذا الأمر محال وغير ممكن.. أصلاً لا يمكن! وهنا نفهم لماذا لا يميل العرفاء إلى الدخول في المسائل الجزئية والخصوصيّات.
أمّا نحن فنجلس، ونبدأ: أيّها السيّد ما هي الأخبار؟ كيف هي الأوضاع؟ من أصبح رئيساً ومن أصبح مرؤوساً؟ من أصبح وزيراً ومن أصبح وكيلاً للوزارة؟ أينما نذهب يسألون عن آخر الأخبار؟
ما السبب لحصول ذلك؟ لأنّ أيدينا خالية من كلّ شيء! بهذه البساطة، لأنّنا خالو الوفاض ..أيدينا خالية.. صفر.. ليس فيها شيء.
نحن كل يوم نسأل: ماذا جاء في الراديو؟ ماذا كتبوا في الجريدة؟ هل يقولون ماذا سيحصل؟ نبحث عن كلّ ما يحدث في العالم في هذا الجانب أو ذلك الجانب.
ما السبب وراء ذلك؟ كلّه بسبب أنّ الباطن والداخل خاوٍ.. لا معرفة فيه؛ إذ لو كان هناك معرفة لما حصل شيء من هذه التصرّفات، ولو كانت المعرفة موجودة لما مال الإنسان إلى هذه الأمور، ولو كانت هناك معرفة لما وقف على المنصّات ليقوم بدعاية لفلان أو لفلان هنا وهناك، ولكنّ دماغه هذه خالية.. خالية وفارغة، فهو مرتاح! والآن حيث أنّها خالية، فهو مجبور لأن يقوم بملئها بطريقة أو أخرى!! فهو كالطبل الفارغة!!
ويلاه وا ويلاه!!

    

ينحصر اهتمام أولياء الله بالوصول إلى ذروة التوحيد، و كل ما سوى ذلك وسيلة إليه

ولكن عندما تنظر إلى مجلس عارفٍ من العرفاء ووليٍّ من أولياء الله ــ وقد رأينا ذلك ــ فإنّك لا تجده يتساءل عن ما يجري هنا و هناك، بل جميع أحاديثهم توحيديّة، فهم أصلاً لا يتنازلون عن ذلك، بل إنّ حال العارف تتبدّل ولونه يتغيّر حينما تريد أن تدخله في هذه المسائل ليتكلّم فيها؛ وما يسعى الآخرون إليه ويقطّعون أنفسهم قطعةً قطعةً في سبيله، يسبب له الاشمئزاز! لماذا؟ لأنّه مستغرقٌ في الذات، ولا يمكن له أن يتحدّث خارج تلك الذات، كلامه كلّه يميل نحو تلك الجهة، وكلّ تصرّفاته تتّجه نحو تلك الجهة، وكلّ خطاباته تنحو تجاه تلك الجهة.. لا يقبل بذلك لنفسه، ولا لمن حوله من الأفراد، ففي النهاية هؤلاء الأفراد المحيطين به بشرٌ، إنّهم بشرٌ أيضاً، وينبغي لهم كذلك أن يحصلوا على الفائدة، فهم رفقاؤه، وينبغي أن يحصلوا على نصيب من هذه السُفرة، وإذا كان المفترض أن يكون المحيطين به كالآخرين يقومون بما يقوم به الآخرون ويقولون ما يقوله الآخرون، فما الفرق بينه وبين البقيّة؟! وما هو الفرق بين مجلسه ومجلس الآخرين؟! وما هو الفرق بين محضره ومحضر سائر الأفراد؟! ينبغي أن يكون هناك فرقٌ، لا أن يكون الكلام الذي يقوله هو ما يقوله الجميع!!
كان أمير المؤمنين عليه السلام في حرب الجمل، فجاء رجلٌ وسأله سؤالاً حول الصلاة، فإذا بابن عبّاس أو شخص آخر يستنكر على ذلك الرجل: هل هذا الوقت مناسبٌ لكي تسأل هذه الأسئلة؟ فأجابه أمير المؤمنين عليه السلام: فعلامَ نقاتل القوم إذن؟ (فهذا الرجل كان يصلّي وطرأت له شبهةٌ ما، فأراد أن يسأل عنها، لا بأس بذلك فليسأل عنها) إذ علامَ نقاتلهم؟ إنّما نقاتلهم على الصلاة.
انظروا والتفتوا! الإمام يقاتل! يقاتل! لكنّ تفكيره أين؟ قلبه أين؟ هل انصبّ تفكيره فقط على الغلبة في المعركة وضرب العدو وهذه المسائل؟ أم أنّ فكره منصبّ على تلك الجهة، شعوره هناك، نظره هناك، ميله هناك، فيقول في نفسه: إلهي إن أردت لنا النصر انتصرنا، وإن لم ترد لنا ذلك لم ننتصر، وليس ذلك مهمّاً، نحن إنّما خرجنا للقتال لأنّك أمرتنا بذلك، وحينما تقول لنا عودوا نعُد.
هذا هو أمير المؤمنين عليه السلام وهذه هي حالته، إن لم تصدّقوا فاذهبوا واسألوا، [سماحة السيّد ممازحاً:] اسألوه لتروا أنّا نقول الصدق .. ، إن شاء الله نحن نقول الصدق، وطبعاً فإنّ فهمنا على قدر سعتنا، و هو سيقبله مع التأمّل و "ليت" و "لعل".
لقد كان عليه السلام في أحد المرّات يصلح حذاءه ، وابن عبّاس جالس فسأله:
ماذا تفعل؟! إنّ الناس ينتظرونك.
فيرفع رأسه ويقول: ما الأمر؟
الجيش ينتظرك.
فلينتظروا.
ما معنى فلينتظروا؟! إنّهم ينتظرون أوامرك.
إنّ حذائي انقطع، و إذا لم أصلح حذائي فإنّ الأحجار ستدخل فيه و ستدمي قدمي، ينبغي أن أصلحه أوّلاً.
كان يريد أن يلفت نظر ابن عبّاس بفعله هذا، فالإمام يقول الكلمة في محلّها لتفعل فعلها، و تؤثّر أثرها ، فتوقظ الإنسان من غفلته، فهو الإمام، ويريد أن يفهّمه، ويُعلّمه أنّ هذا الحذاء الذي لا قيمة له، ولا يُشترى بأكثر من درهم، بأكثر من درهم... يريد أن يفهمه أنّ قيادة الجيوش والرئاسة وأمثال ذلك... لا تساوي عنده شسع نعله تلك، فالنعل على الأقل يمكن أن يستفيد منها وأن يلبسها فتحمي رجله من الحجارة والأشواك، على الأقل فيها فائدة.
هذه الإضافات نحن نضيفها من عندنا ، ولكن هذا هو لسان حاله، يعني: لو سألناه لقال هذا ما في ضميري. لو استطعنا الوصول إلى أمير المؤمنين وسألناه كان سيقول: هذا ما كان في ذهني.. على الأقل هذه النعل فيها فائدة، تحمي رجلي من الحجارة والأشواك، أمّا قيادة الجيش فماذا تجلب غير المآسي وماذا تحمل سوى الطعنات والجراح ونفوذ السهام، فما نفعها لنا؟!
واقعاً عجيب هذا الفكر! هذه هي النقاط الدقيقة التي ينبغي علينا أن نتعلّمها، هذه المطالب التي ينبغي أن نتعلّمها: في حركاتنا وسكناتنا، وفي علاقاتنا مع الأفراد، وفي الأعمال التي ننجزها.. في خيالاتنا، وفي خطوراتنا.
وينبغي أن نعلم أنّه إن كان هناك نفع سنحصل عليه، فهو هنا.. ها هنا موضع الفائدة، وإلاّ إذا أردنا أن نغمض أعيننا، فنقول: ذلك عليّ، وأين نحن من عليّ؟! عندها سيقول الله تعالى لنا: إن كان كذلك، إذن فنحن لا نعطي عطاءنا إلّا لعليّ، ولا تتوقّعوا منّا أي شيء! ولا تنتظروا منّا شيء، فأنت قلت: ذلك كان عليّ.. !! حسناً ونحن سنعطي كلّ ما عندنا لعليّ.
وطبعاً هناك أشخاص غير عليٍّ عليه السلام [سلكوا هذا السبيل و وصلوا أيضاً]، ولهم مقامهم المحفوظ.

    

الله هو من أودع فينا هذا الأمل، فعلى الإنسان أن يلحّ في السؤال و الطلب

هذه هي حقيقة المسألة، والإمام السجّاد عليه السلام يقول: إلهي هذه هي أمنيتنا، ونحن لا نستطيع التخلّي عن أمنيتنا؛ لأنّك أنت من منحنا ذلك.
إن جبرائيل .. والله وتالله أقسم: إنّ جبرائيل لا يمكن له أن يتمنّى أمنيةً كهذه الأمنية! لماذا لا يمكنه؟ لأنّه لا يمتلك السعة اللازمة حتّى للتفكير في هذا الأمر.
إنّ هذا الكأس الذي أمامي والذي تشاهدونه، لم يفكّر ولا مرّةً واحدةً بأنّه لماذا لا أضع فيه ماءاً بمقدار الماء الموجود في الإبريق هذا، لا يحصل ذلك أبداً، لماذا؟ لأنّ سعة هذا الكأس هي هذه السعة، ولا يمكنه أن يفكّر بأكثر من ذلك، فأنا سعتي هي هذه السعة، [فجبرائيل عليه السلام] يشعر أنّ هناك أمراً موجوداً، ولكنّه لا يفهم ما هو، لا يدرك ما هو، فإدراكه محدود بحدود سعته الوجوديّة وسعته العلميّة، وهي عبارة عن نفس مرتبة العلم الحضوري والشهودي والحسيّة التي له، لا الاكتسابيّة، يعني لا يدرك إلا بمقدار ما هو عليه، ولا يستطيع أن يدرك أعلى من ذلك.
من الذي يمكنه أن يدرك أعلى من ذلك؟ هو الذي تكون سعته الوجوديّة أعلى من سعة جبرائيل، ذلك الذي بإمكانه أن يدرك تلك المراتب الأعلى.
أمّا أنّه هل يصل أم لا يصل؟ فذاك بحث آخر ومختلف، هل يصل إلى تلك النقطة أم لا يصل؟ هذه نقطة أخرى، ولكن الكلام يدور حول الإدراك الإحساس، ولو كان إدراكاً إجمالياً.
إنّ الإمام السجاد عليه السلام يقول: إلهي أنا لا أكتفي بأقلّ من الذات! لا أقنع بأقل من ذلك؛ لأنّك أنت من خلقني على هذا النحو، لو أردت لخلقتني في رتبة الملائكة حتّى لا أورد على لساني ذكر «العظمة» هذه فأقول: «عظم يا سيّدي أملي» ، ولكن الآن حيث أنّك خلقتني في رتبةٍ أعلى من الملائكة، وجعلت سعتي الوجوديّة أعلى من سعة الملائكة، وخلعت عليّ خلعة «خليفة الله» ، إذن فإنّني سأطلب هذه الأمنية وهذا الأمل، فأنت خلقتني هكذا، ثمّ لماذا لا أطلب؟ هل سينقص منك شيئاً لو سألتك هذه المرتبة التي هي مرتبة الذات؟ لا أبداً لا ينقص من الله شيء، لا ينقص.
بناءً على ذلك فإنّ الإمام السجّاد عليه السلام عندما يكون في مقام الدعاء فإنّه لا يقلّل من أمله، [ولسان حاله:] يا إلهي لا يعني أنّك إلهنا ونحن عبيدك أن نطلب منك القليل، لا بل أنا عبدك وأنا في مقابلك صفر! صفر! صفر! وأطلب منك أن تضيف إلى هذا الصفر عدداً لا نهائيّة له، عدداً جبريّاً إلى ما لا نهاية يضاف إلى هذا الصفر، وعندها ماذا يصبح؟ العظمة.
ما معنى إلى ما لا نهاية له؟ يعني: الوجود الإطلاقي، يعني: الوجود اللامحدود، يعني: وجود الحقّ المتعال، يعني: الوجود بالصرافة، هذا العبد الذي هو صفر والذي لا يساوي حتّى نصفاً في قبالك، ماذا يطلب منك؟ هل يطلب واحد؟ لا .
إثنان؟ لا .
عشرة؟ لا.
مئة؟ لا.
مليون؟ لا.
بل يطلب الــ ما لا نهاية له !
أجل، و ما المشكلة في ذلك؟ فما هي فائدة الربوبية إذن؟ ولأي شيء هي مدّخرة؟
[السيّد ممازحاً:] نحن طلبة ونريد أن نحاجج الله، نقول: في الأخير ألا ينبغي أن يكون هناك فرقٌ بين العبوديّة والربوبيّة أم لا؟ ونحن عبيد (وإن كان ذلك من باب الكذب والادعاء من قِبلنا، ولكن يا ربّ اعتبر كذبنا صدقاً والخلاصة نحن عبيد لله) نحن عبيد وأنت الربّ، وكونك الربّ هو الصحيح ولا كذب فيه ولا كلام في ذلك، فيا ربّ أظهر لنا ربوبيّتك وأرنا إلهيّتك، فلو قال لنا الله: لكنّكم عصاة! فسنقول: يا ربّ لو أردت لخلقتنا معصومين، لكنّك لم تفعل! وهذه هي حقيقتنا. السيّد ممازحاً:] فيقول الله: لقد درس هؤلاء دروسهم، والآن أتوا إلينا ليستخدموا دروسهم تلك معنا، فنقول: بلى نحن درسنا، ودروسنا دروسٌ صحيحة، وقد درسناها لأجل هذا الموقف يا ربّ، درسناها لكي نقف أمامك ونقول: نحن بعبوديّتنا صفر، وأنت بربوبيّتك تمثّل الـ "ما لا نهاية".
والآن حيث أنّ الأمر كذلك لماذا لا توصل هذا الصفر إلى ما لا نهاية له؟ ألا يمكنك ذلك؟ بلى يمكنك ذلك، أجل.. لو لم يكن بإمكانك ذلك، فإنّ ادعاءنا وطلبنا عبارة عن طلب لغويٍّ، ولكن حيث أنّك أنت من استودعت في أنفسنا هذا الاستعداد، فإذن نحن نطلبه منك.
إذن الإمام السجاد عليه السلام، [يطلب هذا الأمل العظيم من الله تعالى] في عين مقام عبوديّته.. كما قرأنا في الفقرات الماضية، و كما سنقرأ فيما بعد إذا وفّقنا الله عزّ وجلّ في الفقرات اللاحقة، فالإمام طرح من المسائل في دعاء أبي حمزة أموراً مميّزة، آه كم هي مميزة! لقد بيّن جنبة العبوديّة ولوازمها وآثارها ومطالبها، بحيث إنّ الإنسان يذهل ويتحيّر كيف أنّ الإمام السجّاد عليه السلام غاص في أعماق وجودنا، وكيف أنّه يبيّن كلّ ميزةٍ وخصوصيّةٍ من خصائصنا، واحدة تلو الأخرى، فهو يستلّها من الأعماق، يسحب واحدة تلو الأخرى و يبرزها: نحن كذا، ونحن كذا، نحن لدينا هذا الضعف، إلهي أنا كذا، إلهي أنا الذي عندي هذا الضعف الفلاني، هذا يعبّر عني أنا الذي أمامكم، كما يعبّر عنكم أنتم الذين تسمعون، أليس كذلك؟ أجل إنّه يشملنا جميعاً.
لقد غاص الإمام في جميع ذرّات وجودنا.. الروحيّة.. الجسميّة.. الظاهريّة.. الباطنيّة.. الدنيويّة.. الأخرويّة.. غاص في فطريّاتنا.. في تعلّقاتنا.. في كلّ نقطة نقطة من نقاط ضعفنا! وعرضها أمام الله، استلّها وأبرزها: إلهي هذا ضعفي في كذا، إلهي أنا كذا ها، إلهي إن لم تأخذ بيدي في هذه أصبح كذا، إلهي إن تتركني فسأقوم بهذه المعاصي وتلك الذنوب... أنا أفعل كذا وأكون كذا، و يبلغ بي الأمر أنني أنا من يعطي الرشوة للوصول إلى المعاصي! أنا الذي عصيت جبّار السما، أنا الذي أعطيت على المعاصي الجليلة الرشى. هذا هو أنا.

    

لا بدّ أن يفهم الإنسان حقيقة العبودية ويدركها في أعماق نفسه

واعلموا أنّ الله عزّ جلّ يظهر لنا هذه الحقيقة! وهذا ما عليكم أن تعلموه، وتؤمنوا به، صدّقوني إن الله سيرينا ألوهيّته، ويرينا أنّه لو تركنا و وكلنا إلى أنفسنا، ماذا نصير؟ و ماذا سيصبح حالنا؟ يرينا ذلك جميعاً، يرينا كيف أنّه لو أنّه صرف نظره عنّا لحظةً واحدةً، كيف أنّنا نجلس بجانب أولئك الذين كنّا نبتعد عنها آلاف الأميال. يكفي أن يبتعد لحظةً واحدةً فقط! وحينئذٍ يفهم الإنسان، والله يرينا ذلك، بل يريه للجميع!! وقد أراني أنا ذلك، حتّى أنا أراني ذلك، أجل قد أرانا ذلك، وعندها يفهم الإنسان كلام الإمام السجّاد عليه السلام، طبعاً إلى حدّ ما، وإلّا فما يفهمه هؤلاء الأعاظم، نحن لا نفهمه..
هل يكفي هكذا نقرأ دعاء أبي حمزة، ونقول: إلهي نحن صفر، إلهي نحن حقيرون ؟ لا ، بل ينبغي أن نفهم! وأن نؤمن بذلك ونصدّق به واقعاً، وأن نصل إلى مرحلة نقرّ ونعترف بأنّه: يا إلهي نحن نقول من أعماق قلبنا ومن أعماق وجودنا.. إلهي إن تتركنا لوحدنا، فسنعطي هذه الرشوة التي يعطيها الآخرون، وسنقوم بالكبائر من المعاصي التي يقوم بها الآخرون، إن لم تمسك بزمام نفوسنا، وإن لم تلاحظنا بعينك وتحفظنا، وإن لم تمنحنا ذلك النور [فهذه ستكون النتيجة!]
ماذا قال النبيّ يوسف عليه السلام؟ أولم يرد ذلك في القرآن؟ {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّه }[4] لولا أنّه رأى برهان ربّه لكان النبيّ يوسف مال إليها!! والآن فلنضع أنفسنا مكان النبيّ يوسف، لا! لا حاجة للنبيّ يوسف، بل في مكان أسهل منه، ماذا كنّا لنفعل؟! كنّا سنفشل و نسقط دون شك!
نعم هذه الأمور ستظهر لنا، كما قد ظهرت للنبيّ يوسف، لذا يقول النبيّ يوسف: إلهي من غيرك يستطيع أن يأخذ بيدي؟! إنّ النبيّ يوسف عندما قال ذلك كان صادق! هو الصادق في كلامه، لم يكن هازلاً في كلامه، أمّا نحن فكلامنا ليس جادّاً بل هو هزلٌ في الحقيقة، ولكن عندما ينزل البلاء على رأسنا، عندها سنفهم و سنقول: ها! إنّ ما قاله الإمام السجّاد صحيح، وسنفهم أنّ ما يدعوا به الإمام السجّاد أمام ربّه صحيح، وأنّه يقول الصدق والحقّ، وعندها نفهم أنّنا ينبغي أن نكون جادّين، وعندها نفهم أنّنا ينبغي أن نكون جادّين في عملنا، وعندها نفهم أنّه علينا أن نكون جادّين في طلبنا وأن نقول: إلهي نحن لا شيء، نحن صفر، نحن الفقراء، نحن الضعفاء. ثمّ نقول له أيضاً بكلّ جدّية: إلهي أعطنا المراتب العالية، كلاهما ينبغي أن يكونا بالجدّ، لا بالتسامح و الهزل، ولا ينبغي أن يكون بعض كلامنا جاد والآخر تلاعب، لا.
إنّ الإمام السجّاد يقول ما يقوله مع كامل الجدّ، دون هزل أو مزاح أو تساهل، فهو من جهة يقول: ساء عملي، ومن جهة يقول: عظم أملي، عظم يا سيّدي أملي، وفي تلك الجهة يقول بالجدّ: وساء عملي.
حسناً، الظاهر أنّ هذه الساعة التي وضعوها أمامي هنا ذكّرتنا أنّ الوقت قد انتهى، [ممازحاً] وعلينا أن ننظر لها كلّ فترة كي لا نتجاوز حدودنا...
إن شاء الله إذا وفّقنا الله، فإنّنا سنتكلّم في الليلة القادمة عن هذه المسألة و هي أنّه: كيف يمكن ــ من خلال عمل سيّء وغير جدير ــ أن نصل إلى مقام النورانيّة المطلقة.. إلى حيث لا يوجد أيّ كدورة؟ كيف يمكن أن نصل إلى هناك بمثل هذا العمل غير اللائق؟ كيف ينسجمان مع بعضهما البعض؟ لأنّه من هذه الجهة هذا العمل عمل سيّء ينطوي على الكدورة والظلمة قد خالطته النفس والأنانيّة، وفي المقابل بهذا العمل نفسه، يقول الإمام السجّاد: نريد أن نصل به إلى مقام النورانيّة.
لا يمكن ذلك فهاتان نقطتان متقابلتان! فماذا يصنع الله هنا؟ سنرى ماذا سيقسم الله لنا ليلة الغد إن شاء الله.

اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد


[1] ـ من الآداب الشائعة في الفارسية التعبير عن الشخص العظيم بلفظ الجمع، و التعبير عن قوله بأنّه "تفضّل بـ .." ، و هذا الشخص عبّر عن نفسه بتعابير التعظيم تلك، و الترجمة الحرفية للعبارتين هي: "نحن تفضّلنا بالقول .." ، و" نحن أصدرنا أمراً بكذا.." (المترجم).

[2] ـ راجع: حريم قدس (فارسي)، ص 113 .

[3] ـ اقتباس من دعاء الجوشن الكبير حيث يقول عليه السلام: (يا من لا مفر إلا إليه ، يا من لا مفزع إلا إليه، يا من لا مقصد إلا إليه ، يا من لا منجى منه إلا إليه) (المترجم).

[4] ـ سورة يوسف، الآية 24.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی