معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > وصايا و تعاليم و دستورات > إحياء ذكر أهل البيت عليهم السلام: أهميته و أساليبه

_______________________________________________________________

هو العليم

إحياء ذكر أهل البيت
عليهم السلام:

أهميته و أساليبه

 

محاضرة ألقيت في ليلة الثلاثاء
الخامس والعشرين من شهر ذي الحجّة سنة 1432 هـ
في جمع من طلاب العلم وفضلاء الحوزة

 

ألقاها:
سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
و الصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين
و اللعنة على أعدائهم أجمعين

    

ما المقصود من الذكر؟ و كيف نحيي ذكر الأئمّة عليهم السلام؟

لقد ورد عن الأئمة عليهم السلام في روايات عديدة وبتعابير مختلفةٍ ولكنّها متفقة المعنى أنّه: «رحم الله من أحيا ذكرنا»[1] ؛ ولذا نجد أنّ مجالس ذكر أهل البيت عليهم السلام تقام بكثرة في أوساط الشيعة، في حين أنّها لا وجود لها في أوساط أهل السنّة.
وليس المقصود من الذكر مجرّد التلفّظ اللساني باسم الإمام أو ذكر الروايات التي ترتبط به، وإنّما المراد هو الالتفات إلى الإمام وتذكّره باستمرار والمحافظة على منهجه وطريقه، هذا هو الذكر؛ فقوله تعالى: ﴿ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [2]، إنّما يعني أنّ القلوب تحصل على الطمأنينة بالالتفات إلى الله وحضوره في النفس، لا بمحض قول: «لا إله إلا الله»، و«الله، الله...» و«يا ربّ، يا ربّ...»، فأينما استعملت كلمة الذكر فهي بمعنى الالتفات والتوجّه والخطور، أمّا ما يجري على اللسان فهو الورد، والفرق بينهما هو أنّ الورد هو الذكر اللسانيّ الخاصّ الذي يقوم به الإنسان في ظروفٍ معيّنة وله آثاره الخاصّة، وقد ذكر العرفاء العظام الكثير من المطالب حول ذلك، وسنتعرّض لتفصيلها وتوضيحها في «شرح حديث عنوان البصري»، أمّا الذكر فهو بمعنى الالتفات والخطور والتذكّر، فما يهَبُ الطمأنينة إنّما هو الالتفات إلى الله لا قول: " يا الله يا الله " وأمثال ذلك، فلو واجه الإنسان مشكلةً، كأن يقال له: سيحدث كذا وكذا في المسألة التي كنت تطلبها وترغب فيها.. ويمكن أن يتدخّل فلان فيمنعك من الوصول إلى مرادك، وما شابه ذلك، فيصاب الإنسان حينئذٍ بالاضطراب والتشويش، وهنا ﴿ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ فبمجرّد أن يلتفت إلى الله ويوكل الأمر إليه قائلًا : فليحصل ما سيحصل! حينها يشعر وكأنّ ماءً باردًا قد صُبّ عليه، فتنزل عليه حالة من السكينة، ثمّ يغدو مسلّمًا لله موقنًا بأنّ إرادة الله مهما كانت ستتحقّق، فيشعر بالراحة والطمأنينة.

    

ذكر الله يمنح الإمام الحسين الطمأنينة في عاشوراء

وهذا ما نراه في موارد مختلفة، ففي يوم عاشوراء نرى أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان كلّما اشتدّت به البلايا، ازداد سكينة وأشرق وجهه بهجة وبشاشة[3] ، وما ذلك إلاّ لأنّ تلك الجلوات التوحيديّة كانت تزداد قوّةً وتمكّـنًا في نفسه شيئًا فشيئًا لتصل في آخر المطاف إلى نقطة النهاية والذروة، أي إنّ تلك الجلوات التوحيديّة وتلك الظهورات والفيوضات والأنوار كانت تُضاعف من شوق النفس إلى مبدئها، فيشعر الإمام بأنّه قد اقترب من ذلك الموعد الذي ضرب له، فحاله كمن أعطي موعدًا وهي يترقّبه، ويحدّث نفسه قائلاً: الموعد هو في الساعة الثانية بعد الظهر أو الثالثة، ولا يفصلني عنها سوى أربع ساعات، ولقد سرنا بحمد الله إلى هذه المرحلة وقد صبرنا وصمدنا إلى أن بلغنا هذا النقطة، لقد شملنا اللطف الإلهي إلى الآن... لذا كانت كلمات الإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء تدور على أساس التوحيد: « رِضىً بقَضَائِكَ تسْلِيمًا لأمْرِكَ لا معْبُودَ سِوَاك‏ »، فهذه الكلمات ليست بالتي تناسب ميدان القتال وأرض المعركة، ولكنّك ترى أنّ نفس الإمام كلّما كانت تقترب من مرتبة العبوديّة، وكلّما اقترب الأمر من بلوغ منتهاه، فإنّ حالة الشوق والرغبة والابتهاج تزداد وتتضاعف، خلافًا لسائر الناس حيث تجد أنّهم إذا واجهوا [خبر موتهم] فإنّهم يعيشون الاضطراب أن ماذا سيحدث وماذا سيصيبنا؟! نعم لا شكّ أنّ الناس متفاوتون في ذلك، والذين كانوا هناك أيضًا كانوا متفاوتين، ولكن ما وردنا عن الإمام عليه السلام أنّه كان على تلك الحالة، لماذا؟ لأنّ نفسه صارت مستقرّة في مقام الطمأنينة، ومتمحّضة في مقام السكينة ومقام الأمن، تتنزّل عليها الجلوات التوحيديّة، لذا فهو يزداد بهجة وبشاشة مع كلّ قدم يقترب فيها: يفقد حضرة عليّ الأكبر، ثمّ يفقد أصحابه الواحد تلو الآخر ، فيجد نفسه قد تنفّست وسكنت ، كلّ ذلك في عين رعاية جانب عالم الكثرة والاهتمام به [و في عين شعوره بالألم لفقدهم] ورغم التعلّق بالمظاهر والظواهر ـ والذي هو من لوازم مقام الإمامة ومقام الجمع ـ فإنّه من جهة أخرى يرى أنّه: ما شاء الله ها قد تجاوزنا التعلّق بحضرة عليّ الأكبر! لقد مضينا عن هذه المرحلة وقد ساعدنا الله على تجاوزها! لقد جعلني الله أعبر وأتجاوز. لقد تجاوزنا حضرة عليّ الأصغر، وتجازنا عن حبيب بن مظاهر أيضًا، وكذلك تخلّينا عن أبي الفضل العبّاس خير الإخوان الذي لا يمكنك أن تعثر على ما يوازي ذّرة من ظِفره.. لقد تخلّينا عن هذا أيضًا، كما تخلّينا عن إخواننا وعن الأصحاب الذين كنّا نزورهم كلّ يوم في المدينة أوكنّا نأنس بذكرهم، فهناك عبارات عجيبة حول بعض هؤلاء الأصحاب لسيّد الشهداء، رغم أنّ بعضهم كان في الكوفة، كحبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة، فقد كان الإمام في المدينة، ولكن ما هو ذلك الارتباط القلبيّ الذي كان يربطه بهم، بحيث كانت شهادة حبيب بن مظاهر ثقيلةً عليه حتّى كأنّ ركنًا من أركان الإمام عليه السلام قد انهدّ حين فقده يوم عاشوراء؟!
إنّ هذه هي الأمور التي تمثّل لديهم شؤون الدنيا ، فهي علاقات إلهيّة دنيّويّة، والحقيقة أنّ هؤلاء دنياهم خير من آخرتنا، فكيف بآخرتهم التي لا نعرف عنها شيئًا؟! ويقول الأولياء العظام أنّه عندما سقط حضرة حبيب بن مظاهر على الأرض فقد بدت آثار افتقاده على سيّد الشهداء، فأيّ ارتباط وتعلّق كان عنده حتّى كان أثره كذلك؟! أفتتصوّرون أنّ اجتماع هؤلاء الأصحاب في يوم عاشوراء كان مصادفةً، بحيث جاء هذا من هنا وذاك من هناك والآخر من وراء الجبال، وآخر من الغار وآخر من البحار اتّفاقاً؟! هل كان الأمر كذلك؟! كلاّ، بل كان كلّ واحد منهم قدوةً وأنموذجًا، فاجتمعوا وساهموا في وجود هذه الواقعة.

    

ما هي الدرجة التي وُعدها الإمام الحسين عليه السلام ؟

أجل، لقد كانت سيماء الإمام الحسين عليه السلام كذلك بسبب تمحّض تلك الحالة واشتدادها وتمكّنها، واقترابها من تلك الحقائق التي كان يستشمّها ويلتفت إليها ويسعى إليها ممّا لا نعرفه ولا ندركه نحن، بل ولا نعلم هو في أيّ عالم كان يسير، لقد كان يقترب ويدنو من عالمٍ لا يتناهى، ومن فضاءٍ رحبٍ لا حدّ له، ذاك العالم الذي قد وُعد بالوصول إليه وما عليه إلا أن يطوي هذا الطريق لكي يصل إلى مبتغاه: «إنّ لك لدرجة لا تنالها إلا بالشهادة» [4]، فلا بدّ أن تمضي وتسير، ولا بدّ أن تستشهد لتنال تلك الدرجة.
ولقد كان سيّد الشهداء عليه السلام إمامًا حتّى بدون الاستشهاد، فمن هنا نعلم أنّ هناك درجات أخرى وراء الإمامة، ففي الحين الذي كان فيه عليه السلام إمامًا، مع ذلك قيل له: «إنّ لك لدرجة لن تنالها إلا بالشهادة»، فما هي تلك الدرجة؟! إنّها الدليل على عدم تناهي الحقائق الربوبيّة وعدم وجود حدّ لها، وهي تكشف أنّ هناك من الحقائق ما لا تخطر لنا على بال، فما هو أقصى تصوّركم أنتم عن الإمام؟! يعني لو تجاوزنا عن النظريات الساذجة المطروحة حول الإمام، من أنّ مصدر معلوماته صحيفةٌ ودفترٌ محفوظٌ في صندوق ينظر فيه كلّ يوم، ويرى ما هي الوقائع التي ستقع كلّ يوم، أو أنّه يتعلّم منها الأحكام، وأشباه ذلك من الخزعبلات التي تطرح.. لو تجاوزنا ذلك وسألنا عمّا يمكننا نحن أن ندركه بفهمنا الناقص ما هو؟ إنّ غاية ما نصل إليه أنّ الإمام هو الواسطة بين الحقّ سبحانه والمخلوق، بين الربّ والمربوب، هذه الواسطة التي لولاها لكان العالم كلّه عدمًا، وقد طرحت هذه الحقيقة في الأدعية والزيارات، مثل الزيارة الجامعة وغيرها من زيارات الأئمة، كالزيارة السادسة لأمير المؤمنين عليه السلام في يوم الغدير، فنحن نقرأ فيها تلك العبارات الدالة على تلك الحقائق الوجوديّة لنفوس الأئمة عليهم السلام، فإنّا وإن كنّا لم نفهمها ولم ندركها حقّ الإدراك، ولكن على الأقل عرفنا أنّ هناك شيئًا ما في هذا المجال، لقد أرادوا أن يخبرونا أنّ هناك أشياء ومقامات بحيث أنّا وإن لم ندرك ما هي غير أنّا عرفنا وجودها وعنوانها، ونسأل الله أن يرزقنا معرفتها كما رزق أولياءه وعرّفهم الأئمة... نعم، الأولياء وحدهم لا غيرهم، فهم وحدهم من يعرف حقيقة الأمر، أمّا ما نفهمه نحن فهو أنّ وجود كافّة الكائنات هو بنفس الإمام عليه السلام، أي أنّ ما سوى الله إنّما يقف على قدميه ويسير ويتحرّك بواسطة نفس الإمام عليه السلام، ولولا وجود هذا الحبل لسيطر العدم على الجميع ولا يبقى سوى الله تعالى، أي تعود تلك الحقيقة التي يعبّر عنها بـ «كان الله ولم يكن معه شيء» فلا يبقى سوى الله بغير إفاضة وبغير ظهور الآثار، هذا هو دور الإمام، وهذه هي حقيقة الإمام الجواد وحقيقة الإمام السجّاد والإمام الباقر والإمام المجتبى عليهم السلام، ولكن الله يقول للإمام الحسين عليه السلام من بين سائر هؤلاء الأئمّة عليهم السلام: «إنّ لك لدرجة...» ، ففي الوقت الذي هو فيه إمام وقبل أن يمضي إلى كربلاء يقول الله له ذلك، والمقصود هو ما قاله له رسول الله صلّى الله عليه وآله في تلك الرؤيا قبل مسيره، ولا فرق بين ما يراه هؤلاء في اليقظة وما يرونه في المنام من المكاشفات، وقد أخبره رسول الله حينها بأنّك لا بدّ أن تسير إلى كربلاء فإنّ لك درجة لا تنالها إلا بالشهادة؛ فهذا يعني أنّ هناك درجة أعلى من الإمامة، فما هي تلك الدرجة التي تفوق درجة الإمامة؟! فهل تريد شيئًا آخر بعد كونك إمامًا؟! فالإنسان الذي يمثّل الواسطة بين الخلق والله ماذا يريد أرفع من ذلك؟! هل هناك أرفع من ذلك؟! يعني : إنّ ما فهمناه نحن لا يعبّر عن حقيقة مقام الإمام ولا عن جزء من ألفٍ منها، وما عندنا من الفهم والإدراك ليس إلاّ إدراكاً إجمالياً فقط، ووراء هذا الإجمال هناك شيء آخر هو نفس حقيقة الإمامة التي تمتلكها [أنت أيها الإمام، ومع ذلك هناك ما هو أرفع!!]؛ لذا ورد في الروايات أنّه يوم عاشوراء جاء الخطاب عبر جبرائيل أو غيره أنْ: إذا شئت فإنّ مقام الإمامة يبقى لك، وما عندك من مقام يبقى لك، ولكن لا تعطى مقام الشفاعة الكبرى، فقال الإمام: لا، أنا أريد مقام الشفاعة للأمّة إلى جانب الإمامة. هل التفتّم؟
ومن هنا تتضّح لنا الكثير من المطالب التي كان أولياء الله يطلقونها في ثنايا كلماتهم، نحو قولهم: إنّي مستعدّ لأن أتخلّى عن المقام الذي بلغته من الفناء والبقاء مقابل أن تبقى هذه الكتب التي كتبتها، فماذا يريدون أن يقولوا؟ وأي شيء يريدون أن يبيّنوا من كلامهم هذا؟ يعني كيف نفهم قوله: إنّي مستعدّ للتخلي عن الفناء والبقاء وكافّة المتاعب التي تحمّلتها للوصول إلى هنا، يعني يتخلّى عن ذلك ويقول لله: تفضّل فأنا بعد أن وصلت إلى الفناء والبقاء، أعيد إليك هذا الفناء وهذا البقاء. والآن نحن نتلفّظ بهاتين الكلمتين ونقول: "فناء وبقاء"، ولكنّنا لا نعلم شيئاً عن هذه الحقائق.. الفناء وما أدراك ما الفناء؟ تلك المرتبة التي قد لا تجدها قد أعطيت في كلّ مائة سنة إلاّ لإنسان واحد من بين كلّ الخلائق، وهو يأتي ويقول عن هذا الفناء: أنا مستعدّ لأن أتخلّى عنه دون كتبي. فما هي الحقيقة التي يدركها؟! إنّها تلك المرتبة التي يقول عنها الإمام الحسين عليه السلام: إنّي مستعدّ للتخلّي عن الإمامة لو استلزم الأمر ذلك ولكن لا أتخلّى عن مقام الشفاعة، أي الشفاعة للأمّة، ومن أجل ذلك فأنا مستعدّ للتخلّي عن كلّ شيء.. كلّ شيء! إذ معنى كلامه أنّه مستعدّ للتخلّي عن كلّ شيءٍ!!
يعني واقعاً نحن لا نفهم هذا الكلام.. لذا نوصي الإخوة بأن يدقّقوا في مطالب المرحوم العلامة عند استماعهم لتسجيلاته وقراءتهم لكتبه أو بعض الكتب الأخرى، وأن لا يتجاوزوا العبارة بشكل سريع، فإن بين العبارات مطالب هامّة ومسائل قيّمة، تفيد بأن هناك أموراً ومطالب غير ما درسناه وتعلّمناه في دروسنا وأبحاثنا، بُيّنت بنحو الإشارة والكناية، وعندما يتأمّل الإنسان يحتار فيها أنْ: ما هي القضيّة؟ وما هي حقيقة الأمر هنا؟ يعني في عبارةٍ من عباراته يقول: إن الإمام الحسين عليه السلام ضحّى بولده عليٍّ الأكبر حتى يهدينا أنا وأنت ويأخذ بأيدينا!
إنّ هذا الكلام لم يصدر مني ومن أمثالي، بل ذكره شخص كان من الناحية العلميّة أفضل من أقرانه، ومن ناحية الفهم فواضح، ومن ناحية المراتب في ذاك العالم... وعلى كل حال إنّ كان هناك من لا يعلم، فنحن نعلم بأنّه لم يكن شخصاً عاديًّا.. ثمّ إنّ علياً الأكبر كان تالي تلو الإمام عليه السلام، يعني لو لم تصل الإمامة إلى الإمام السجاد لوصلت إلى عليٍّ الأكبر؛ حيث كان مثل الإمام، عند ذلك يأتي الإمام الحسين عليه السلام ويضحي بعلي الأكبر لكي يأخذ بيدي ويدك.. ماذا يعني هذا الكلام؟! فهل كان عليٌّ الأكبر إنساناً عادياً؟! أم هل كان عالماً عادياً كسائر العلماء؟ لقد كان إماماً، غاية الأمر أنّه لم يحز عنوان الإمامة، هكذا كان هذا الشخص!! يعني أنّه وصل إلى تلك الحيثيّة بحيث أنّه أصبح قادراً على إيصال الفيض إل جميع ما سوى الله تعالى، غاية الأمر أنّ هذا الجنبة قد وصلت إلى أخيه! فإن مثل هذا الشخصيّة يقول السيّد العلاّمة عنه: إنّ الإمام الحسين عليه السلام قد ضحى به لكي يأخذ بأيدينا!
و كذلك نقرأ في زيارة الأربعين مثل هذا حتّى عن الإمام نفسه، حيث يقول: "وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبَادَكَ مِنَ الْجَهَالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَة"[5] . أجل فقد ضحى عليه السلام بقلبه وحياته وأراق دمه في سبيلك، كل ذلك حتى يهدي عباد الله! فما دخل الإمام الحسين عليه السلام في هداية الناس؟! لو كنّا نحن مكانه لقلنا: الناس عباد الله! دعهم وليحصل لهم ما يحصل! علينا أن نهتمّ بأنفسنا ـ لا أقول نهتم بوضع دنيانا بل بآخرتنا ـ ألا نقول ذلك؟! بلى، فنحن نقول: أنا لن أدفن في قبره، ولن يوسّد هو في قبري! وبالتالي علينا أن نعمل بتكليفنا وعلى الآخرين أن يعملوا طبقاً لتكليفهم. أحياناً يسعى الإنسان لهداية شخصٍ ما طالباً بذلك أن يؤجره الله ويمنحه من فضله في مقابل ذلك! لكن هذا ليس بالأمر الصعب! إذ أنّك قد أعطيتَ شيئاً وأخذتَ مقابله، فمثلاً أعطيتَ وقتك لشخص وحللت مشكلته وأخذتَ على ذلك ثواباً، وبالتالي فيكون حسابك قد وُفّي إليك!
حسناً! أمّا الإمام فلم يأخذ شيئاً مقابل ما قدّمه سوى هداية الناس! فما هي الحيثية الموجودة في الإمام حتى يتكلم بهذا الكلام؟! لا يمكن توجيه هذا الكلام إلا بالقول بأنّ الإمام عليه السلام في تلك الحال كان عبارةً عن تمثّل لوجود الباري تعالى نفسه، يعني أن الحيثية الموجودة في الله تعالى لهداية عباده وإفاضة الفيض عليهم، هذه الحيثية موجودة في الإمام الحسين عليه السلام في تلك الحالة، وعند ذلك لا يعود للإمام الحسين جنبة خَلْقِيّة، بل هناك يكون لديه جنبة ربّية! هناك جنبة نزول مقام الخالقية ومقام الرازقية ومقام الواهبية ومقام الإعطاء وجميع الصفات الأخرى... فلا بدّ أنّ الإمام عليه السلام كان واجداً لهذه الحيثيّة في ذلك الموقف حتّى يقول هذا الكلام ويفعل هذا الفعل، وحتّى يتجاوز عن عليّ الأكبر، ويتجاوز عن عبد الله الرضيع، ويتجاوز عن أبي الفضل العباس.. وما لم يكن لديه هذه الحالة لا يمكنه أن يفعل ذلك! وهذا في الواقع فوق الإمامة.
[و حينما نلاحظ تصرّفات وأقوال أولياء الله] نرى أنّ أولياء الله بدورهم عندهم إدراك لهذا المقام أيضاً؛ فمن يقول: أنا مستعدّ للتخلّي عن حالة الفناء وحالة البقاء التي حصلتُ عليها، لكن لا يمكنني التخلّي عن الكتب التي كتبتها! من الواضح أنه قد وصل إدراكه إلى حالة وصار لديه مدركات مثل تلك.. والسرّ في ذلك أنّ هذا الولي هو تلميذ هذا الإمام.. أجل هو تلميذ هذا الأستاذ، وأمّا إذا قلنا بأنّ أستاذه لم يعلّمه هذا الأمر فلن يكون أستاذاً له! هل التفتّم؟ إذن لقد حصل على هذا الأمر من الإمام الحسين عليه السلام.
فإذا فهمنا ذلك، علينا أن نعلم بأنّه إذا قمنا بعمل يوجب هداية وإرشاد شخص، فما الذي نكون قد فعلناه في الواقع؟! وإذا ـ لا قدّر الله لا قدر الله ـ قمنا بعمل يوجب إغواء وإضلال الناس وتخلّيهم عن الدين وابتعادهم، فما الذي نكون قد فعلناه؟! كما لو أنّ شاباً كان يصلّي، فقمنا بعمل أدّى به إلى ترك الصلاة! أو لوكان يحافظ على الصوم، فإذا به يقول [بسبب ما فعلناه]: لا أريد الصوم من الآن فصاعداً! لقد تركت لكم الصلاة والصوم. هل التفتّم؟! عندئذٍ إلى أين ستصل القضية؟
وهنا يقول رسول الله لعلي صلوات الله عليهما وآلهما: "يا علي! لإِن يهدي الله على يديك نسمة خير مما طلعت عليه الشمس"[6] ، يعني أنّ هداية شخصٍ واحد أفضل من كلّ ما خلق الله تعالى، لماذا؟ لأنّك تصير عندئذٍ مظهرًا لاسم الهادي.

    

إحياء الذكر هو بالاستقامة على منهج أهل البيت، لا بالتأويل و التوجيه

هذا هو معنى الذكر، وهو المراد في قوله تعالى: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ، وكذلك في كلام الإمام الصادق عليه السلام: "رحم الله من أحيا ذكرنا"، يعني أنّ الحقيقة التي نسعى وراءها والتي أتينا لأجلها، وتحمّلنا بسببها المصائب والمحن في هذه الدنيا، وحافظنا على استقامتنا رغم كلّ ما واجهناه، وكذلك استقام شيعتنا التابعون لنا.. هذه المسيرة ينبغي أن تستمرّ وتبقى من خلال شيعتنا ، فعليهم أن يستمروا في بيان هذه المسائل والأمور، ويستمروا في بيان الحقّ للناس، لا العمل على التوجيه والتأويل، عليهم أن يبينوا الحقّ لا أن يؤولوا الباطل ويوجّهوه!!
ولا تتصوّروا بأنّ التوجيه أمر مهم أو صعب، كلاّ! فهناك الكثير من القادرين على ذلك بين الناس، وبين الخطباء، وبين الكتّاب، وبين الأشخاص الذين يعملون على إظهار الأبيض أسوداً والأسود أبيضاً للناس ، وهذا ليس صعباً، بل هو بحاجة إلى ذهن جوّال ولسان طلق فقط، بالإضافة إلى حنك متحرّك، وبعد ذلك تحدّث وتحدّث.. هذا غاية ما يحتاجه فقط، [فإن أردت أن تكون من هؤلاء] ليس عليك إلاّ أن تعدّ حنكك للتكلم ساعتين قبل أن تتحدّث، ثم تأتي وتشرع بالحديث! وهذا موجود متوفّر، ولكن اعلم أنّ مثل هذا سيُلقى بعد ذلك في قعر جهنم؛ فهو في ظلمة خالصة.. أولئك الذين كانوا يوجّهون الباطل للناس ويؤوّلونه ، وهم موجودون سابقاً وحاضراً وفي المستقبل.. هؤلاء في ظلمة محضة.
و لكن هناك قسمٌ آخر وهو من يأتي في وسط هذه المعمعة لينظر ماذا قال الإمام الصادق عليه السلام، ولا يحاول أن يخدع نفسه، ولا أن يخفي رأسه في الرمال، بل يأتي ويبيّن الواقع والحقيقة للناس، والله تعالى يساعده. هذا هو معنى "رحم الله من أحيا ذكرنا".
وإلاّ، أفلم يكن مثل هؤلاء العلماء في زمن بني أميّة وبني العباس، فكانوا ينزّلون الحكّام منزلة رسول الله ويجلسونهم مكانه؟! ولو لم يجلسوهم مكانه، لما أتى الناس فصلّوا خلف هؤلاء الحكّام الجائرين! ولما حجّوا معهم! ألم يكن مثل هؤلاء العلماء في زمن بني أمية وبني مروان وبني العباس؟! بل كانوا، وكانوا يعملون على توجيه المسائل والتصرّفات الخاطئة، وإذا وقعوا في مشكلة يقولون: لا تسأل عن هذه المسألة! هذه ليست لنا! لا تتكلّم في هذا الموضوع! لماذا تتحدث بهذا الأمر؟!
يا هذا، ويحك لماذا تنهانا عن السؤال والتحقيق؟ وماذا يعني قولك: هذا لا علاقة لنا به، ولا تتكلّم في هذا الموضوع؟! بل على الإنسان أن يسأل ويفهم ويحقّق في الأمر حتّى آخره!! فهل لدينا نحن الشيعة "لا تسأل عن هذه المسألة" أو "يُمنع السؤال عن هذا الموضوع"؟! كلاّ، بل لدينا أن تطرح كل ما لديك من أسئلة، فإن لم يكن عندي جواب، فسوف أقول: لا أدري! لا أعلم! ولكنّنا لا نؤوّل ولا نوجّه.
كنت في مجلس في زمان المرحوم العلامة، فقيل لي: لقد فعل والدك الأمر الفلانيّ في الموقف الفلاني [و قد أخطأ في ذلك]! وعادتنا أنّه لو حصلت مثل هذه المسألة مع أحدنا لقمنا بضرب هذا المتكلّم مباشرة، ولكنّني قلت له: حسناً سوف أحقّق في هذه المسألة، فذهبت وتفحّصت عنها، فرأيت أنّها كذب، وما حصل هو سوء في الفهم ليس إلاّ، فأتيت وبيّنت الحقيقة له دون أن يحصل أيّ تلاسن أو مشكلة في البين. لماذا؟ لأنّ هذا هو الطريق الصحيح! وإذا كان طريق صحيحاً فلماذا تخاف؟ أمّا من يبدأ بالسباب والصراخ وافتعال المشاكل فهذا بسبب أنّ طريقه خاطئ، وذاك الذي يعمل على التأويل والتوجيه والاتّهام والافتراء فليس في يده شيء!
لقد رأيتم كيف تعاملنا مع الأمور التي جرت لنا في هذه المدّة وما جرى بعد وفاة المرحوم العلاّمة، لقد قلت: أنا على استعداد أن أجري محاورة، لماذا؟ لأننا لن نخسر شيئاً! إذ ما الذي سنخسره؟ لم ندّع شيئاً حتى نخسره! أما من ادّعى فيخاف أن يخسر شيئاً، ولذا هو يبدأ بالتوجيه والقول: ليس من الصلاح ذلك، والآن ليس الوقت مناسبًا، فالجو بارد ولنصبر حتى يدفأ، وما إلى ذلك من كلام..
إذا قيل لنا: إن الكلام الذي ذكرتموه كان خطأ! نقول: نعم لقد أخطأنا، ونحن نسحب هذا الكلام، ونستبدله بالكلام الصحيح! ماذا بعد؟! لم نخسر شيئاً! من يكون طريقه صحيحاً لا يخشى من شيء، بالإضافة إلى أنّنا لا ندّعي العصمة لأنفسنا، ومن يدّعي العصمة فليأت لنسأله سؤالين، وبعد ذلك يتبيّن هل هو معصوم أم لا؟ صحيح؟ هذا الإنسان يكون في راحة.

    

أيّام عاشوراء أيّام خاصّة و لها جوّ خاصّ ينبغي الاستفادة منه

في أيّام عاشوراء كان العظماء يذكرون بأنّه يحصل تغيير وتحوّل في الفضاء والجوّ العام في هذه الأيام. وهذا التحول ليس بواسطتي ـ أنا المتكلم ـ ولا بواسطتك أنت السامع، بل إنّ الإمام الحسين عليه السلام، شئت أم أبيت، يعمل على إيجاد تحوّل في هذه الدنيا، وهذا ليس مرتبطاً بنا، ولا مرتبطاً بإيران ولا بالعراق، فحتّى في أمريكا وأستراليا كذلك ، ولو كنّا في القمر أيام عاشوراء لظهر لنا تبدّل هناك أيضاً، فأيام محرّم على القمر تختلف عن سائر الأيّام هناك، وكذا خارج المنظومة الشمسية الأمر كذلك، فهذه الأيام هي هي، سواء في المنظومة الشمسية أم في خارجها.. هذا الفضاء يتغيّر وهذه الحالة تتبدّل، والإنسان يفهم بأنّ هناك تبدّلاً، والحيوانات والنباتات تتغير بذلك، بل جميع العالم يتأثّر أيضاً. وهنا، ينبغي على مبلّغي الدين أن يستفيدوا من هذا التغير والتحوّل الذي يحصل، يعني أن يستفيد المبلّغ الديني من الفضاء ومن الأحوال التي تتغيّر ويستغلّ هذه الفرصة.

    

توصيات مهمّة للخطباء و المبلّغين في مجالس الإمام الحسين عليه السلام

 

    

أولاً: الإخلاص في النيّة أساس كلّ شيء

وعليه أن يكون مقصوده من البداية هو اتّباع طريق الإمام الحسين عليه السلام، لا أن يستخدم طريق الإمام الحسين في سبيل أمور أخرى! فهذا خطأ. أذكر بأنّه في السنة الأولى للثورة بعد سقوط نظام الشاه، جاءت أيّام عاشوراء، فقام أحد العلماء ـ وقد توفّي الآن ـ بتوزيع إعلان يطلب فيه من الناس أن يخرجوا في مظاهرات في يوم عاشوراء، وقال: أنا لا أقول لكم: لا تقيموا مجالس عزاء، لكن أقيموا العزاء من خلال المظاهرات.
هذا خطأ، لأنّ التظاهر هو الموجود في ذهنه لا العزاء، ومن الواضح أن المظاهرات ليست موجّهة للناس في إيران، بل هي موجّهة للخارج، فهو يريد أن ينظر الخارج إلى إيران فيرون جميع الناس يمشون في الشوارع ويلطمون ويبكون، وينظروا إلى هذا الحماس والعنفوان وإلى هذه الحركات، فيعرفون بذلك أنّ جميع الناس منضوون تحت هذا الأمر ومنقادون له. ولكن أين صار الإمام الحسين من ذلك؟ وماذا جرى للإمام الحسين؟! هل التفتّم؟!
إذا كان الأمر كذلك، فلن نصل إلى نتيجة! لذا على المبلّغ عندما يريد أن يبلّغ أن يجعل في ذهنه الإمام الحسين فقط، لا أن يكون هدفه الدعاية لفلان أو فلان! يعني لأنّه قد جاء من قبل الشخصيّة الفلانية فعليه أن يذكرها على المنبر، ويذكر اسم هذا وذاك.. إذ عند ذلك لن يكون المنبر منبر الإمام الحسين، بل سيكون منبراً للتسويق لهذه الأفكار، لا للإمام الحسين، وحينئذٍ سيكون بلا تأثير ولا فائدة؛ لأنّ الهدف مشخّص ومحدّد من أوّل الأمر، وبالتالي بات معلوماً ما الذي ستصل إليه هذه الجهود التي تبذل والصراخ والنياح، وما المراد منها!
هل رأيتم بعض الذين يقرأون العزاء؟ تجدهم يضربون رؤوسهم ويقفزون هنا وهناك... والناس لا يبكون مع أنّه يكاد يقتل نفسه، يا أخي على الأقل ينبغي أن تنزل من الإنسان دمعة على هذا الفعل الذي يستحقّ أن يريق الدماء عليه بدل الدموع، ومع ذلك يبقى الناس ينظرون إليه كنظرهم إلى الحائط... ثم إذا به يقول كلاماً ما فنعرف أن هدفه كان شيئاً آخر منذ البداية! يا عزيزي، قل هذا من البداية، وأرحنا. فهذا يفكّر بهذه الطريقة، ويرتّب الأمور بهذا الشكل في ذهنه، يقول: سأذكر هذا الأمر ثمّ أنشد ذاك الشعر وأقرأ هذه المصيبة.. وهكذا أمهّد الأجواء حتّى أصل إلى ذكر النقطة التي أريدها وأصيب الهدف المطلوب، فيقال: المجلس كان جيداً! لقد أحسن هذا الخطيب سبك المجلس! وهكذا بالنسبة إلى غيره من الأفراد والأشخاص المختلفين الذين يدعوا كلّ واحد منهم إلى جهة أو شخص ما.. فهذا ليس إحياءً لذكر أهل البيت!
ينبغي في مجالس إحياء الذكر أن ينظر الإنسان من أوّل الأمر إلى ما هو مراد الإمام ؛ فينقل عن الإمام الصادق، عن الإمام الجواد، عن الإمام الرضا، عن الله، عن القرآن، فيبيّن ذلك من أوّل المجلس إلى آخره.. إلى أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذا هو مجلس الذكر؛ إذ الهدف منه إحياء ذكر الإمام عليه السلام فقط، والعمل على إبراز وإظهار الإمام عليه السلام والتعريف به دون غيره.
يقول الإمام العسكري عليه السلام: من كان هدفه تعظيم أئمته وبيان طريقهم، لن يدعه الله تعالى في يد الظالم المضلّ، بل سيرسل له من يأخذ بيده وينجيه [7]. فالله ينظر إلى المتكلّم: في أين حالٍ هو؟ وإلى المستمع: في أين حال هو؟ ينظر الله إلى ذلك ويقول لملائكته: إن كان المتكلم قد جعلني أنا ورسلي والأنبياء والأئمة في ذهنه من البداية، فاذهبوا إليه وسدّدوه؛ لذا ترى الملائكة يحفّون بالمنبر من هذه الجهة ومن تلك الجهة، طبعاً نحن لا نرى ذلك، بل يراه من يكون لديه عين باطنية ، فأولئك يرون.
يقول أحد الأصدقاء: شاركت في مجلس من المجالس، ورأيت الشخص الذي كان يتحدّث ـ وكان من أهل الصفاء والباطن ـ رأيت الملائكة يسدّدونه في كلامه. من يكون لديه عين باطنية يشاهد ذلك، فهو يرى أنّ هذا هو المتكلم، لكن الملائكة هي التي تأتي بهذا الكلام وتلقيه إليه. فهذا كان يرى الكلام قبل أن يقوله المتكلم يأتي من قبل الملائكة، [يقول سماحة السيّد ممازحاً:] يعني هذا الشخص صاحب البصيرة يمكنه أن يخبرنا بالكلام الذي سيقوله الخطيب قبل أن يقوله!
ويوجد عكس هذه الحالة أيضاً، وذلك إذا كان للخطيب هدفٌ آخر من كلامه، حينئذٍ يأتي بدلاً من الملائكة أفراد آخرون فيمدّونه بالكلام والمطالب التي ينبغي أن يتحدّث بها ليصل إلى تلك النقطة التي يريدها؛ لذا تراه يدوّر الكلام وينمّقه، نعم هو يقرأ العزاء، لا أقول: لا يقرأ العزاء، لكنّ العزاء الذي يقرأه يختلف كثيراً عن العزاء الذي يقرأه ذاك، فإنّ العزاء الذي يقرأه ذاك الآخر يشعر الإنسان بأنّ حالته تغيّرت منه، فصار خفيفاً وحصلت له راحة منه، أمّا هذا فعندما يسمعه الإنسان يقفز ويضرب ويصرخ و... وفي النهاية ماذا حصل؟ دخل من هنا وخرج من هناك، دون أن يحصل على شيء سوى أنّه بكى قليلاً فقط، لكن أفكاره لا تزال على ما هي عليه، وأموره كذلك..
ذهبت منذ مدة إلى مجلس فاتحة ـ ذكرت ذلك لبعض الإخوة ـ وعندما دخلت إليه تناولت قرصين للضغط الذي أصابني هناك!! ماذا كان هناك؟ الذي كان عبارة عن مسرحية فقط! نعم كنت أشكو قبل ذلك من حالة مرضية، لكن عندما دخلت تفاقمت حالتي فتناولت قرصين للضغط! وبعد أن رآني الإخوة الذين كانوا معي على هذه الحالة، أخذوا بيدي وأخرجوني من المجلس بالقوة، وقالوا بقاؤك فيه خطر! وبعد أن خرجنا من المنزل تحسنت حالتي مباشرةً! هل تصدقون؟! يعني لقد كاد قلبي أن يتوقف! ما هذه الأوضاع وما هذه المسائل التي تؤثّر في هذه الأمور، وما هذه السهام التي تطلق في الكلام، والحال أن الجميع كانوا يبكون ويلطمون في المجلس... كل ذلك لأن الشيطان هو الذي كان يتكلم! يقرأ آية قرآنية: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرينَ أَعْمالاً * الَّذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا) [8] .. يقرأ القرآن، لكنّ الشيطان هو الذي يلقّنه، لا الرحمن! ومن كان تحته كان يهزّ برأسه ويقول: بارك الله أحسنت! فذاك يعرف ما الذي يقوله، وهذا الجالس يعرف ما يقصده.. ضعف الطالب والمطلوب، فكلاهما في النار، وكلاهما في الضلال، وكلاهما في التوهّمات؛ المتكلّم والسامع كلاهما في حالة من التوهّم والتخيّل والضلالة والضياع.
مرة من المرات ذهبت بسيارة أجرة في زمن الشاه إلى طهران، واستمعت إلى شريط مسجّل لأحدهم ـ ولا داعي لذكر اسمه ـ وكنت سمعت أنّ فلاناً الخطيب له أشرطة، ولم أكن أعلم بأنه هو؛ حيث أعطى أحد الركاب السائق شريطاً ليضعه في المسجّلة، وعندما وضعه وبدأ بالكلام حصل لديّ حالة انقلاب عجيبة، والحال أنّه لم يكن يتحدّث بأمور سيئة، بل بأمور عادية! فتساءلت في نفسي: لماذا حصل لديّ انقلاب وصارت عندي كدورة إلى هذه الدرجة؟! فالتفتُّ إلى صاحب ذلك الشريط وقلت له: يا سيّدي، ما هو اسم المتحدّث؟ فقال لي: ألا تعرف يا سيّدي من يكون هذا الشخص؟!! قلت له: لا. قال: إنّه فلان! فقلت: قد عرفنا السبب إذن.. حسناً، حسناً!
ترى الإنسان يتحدّث بشكل طبيعي، لكنّ الظلمة والكدورة تنبعث من حديثه، أفمن المعقول أن تكون الملائكة هي التي تلقي الكلام على الإنسان، فيكون أثر هذا الكلام هي الكدورة؟! فما هو السبب في ذلك إذن؟ سببه أنّ النيّة فاسدة؛ فحينما لا تكون النيّة لله تعالى ولا تكون متعلّقة بالإمام عليه السلام، يأتي الطرف الثاني و... أجل ، لا ينبغي أن تغيب عن أذهاننا مسألة {كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ}[9] فجميع الناس يتلقّون الدعم والإمداد من الله تعالى، غاية الأمر أنّه يُرسل جبرائيل وجنوده وجيشه لإمداد هذه الطائفة، ويُرسل إبليس وجنوده وجيشه لإمداد الطائفة الأخرى؛ فيُرسل الإثنين معاً لأجل الدعم والإمداد؛ ولهذا علينا أن نعلم أيّها الرفقاء بأنّه إذا زللنا للحظةٍ واحدةٍ أو ساورنا أيّ خطور، فسنرى بأنّ جنود الشياطين قد حلّوا محلّ جنود الملائكة واتّخذوا مكانهم، فذهبت طائفة وحلّت مكانها الطائفة الأخرى، إلاّ أن نرجع مرّة أخرى، ونصحّح نيّاتنا؛ حينئذٍ سترحل تلك الطائفة، لتجلس مكانها الطائفة الأولى. وبالتالي، علينا أن نكون على اطّلاع بالمصدر الذي تنبع منه أقوالنا والمطالب التي تمرّ بأذهاننا، والكلمات التي نتفوّه بها، وما هو أصلها ومنبعها، وهل أنّها صدرت من النفوس الطيّبة، أم أنّها مستفادة من النفوس الخبيثة؛ وبالتالي فعلينا أوّلاً أن نُحقّق في أنفسنا الإخلاص في العمل والنيّة، وحينما تتحقّق هذه الأمور، تأتي بعد ذلك هذه الأقوال والكلمات والمطالب و... .
إنّ الرفقاء مطّلعون على هذه المسألة، وحديثنا عنها كان من باب أنّنا مضطرّون في الأخير للتحدّث عن شيء ما، وإلاّ فما الذي سنفعله! فأنتم على اطّلاع أكثر منّا على هذه الأمور، ولكم تجربة وغير ذلك. وأنا بصفتي أحد الرفقاء وبحكم التجربة التي اكتسبتها من الحضور عند العظماء، أسعى لنقل بعض المطالب للرفقاء، وهذه المسألة هي من المسائل التي كان العظماء يولونها أهمّية خاصّة؛ فقد كان المرحوم العلاّمة والعظماء بشكل عامّ يهتمّون كثيراً بمسألة التبليغ، وكانوا يُجبروننا في هذه الأيّام ـ أي أيّام محرّم وصفر ـ على الذهاب للتبليغ، ولم يكن يعنيهم كثيراً المكان الذي نذهب إليه، سواءً كان في المدينة أو في القرى والبلدات، وكذلك تعداد الناس [الذي يحضرون المجالس]، هل هو قليل أم كثير؛ فلا علاقة لنا نحن بذلك، وما يهمّنا هو أداء الوظيفة الملقاة على عاتقنا، ليبقى الأمر بعد ذلك بيد الله تعالى فهو الكفيل بالقيام به.
إنّ هذه المسائل عبارة عن امتحانات تحدث للإنسان، وهي تمثّل فرصةً للإنسان يُمكنه أن يختبر نفسه من خلالها، إذ من الواجب علينا أن نختبر أنفسنا، لكي نتعرّف على درجة اعتقادنا وإيماننا وتقيّدنا والتزامنا بالأمور التي تعلّمناها ونتعلّمها الآن، وقد اطّلعت خلال هذه الفترة على مجموعة من المطالب والمسائل التي بَعَث بعضُها على فرحي وابتهاجي، وبعضُها الآخر على أسفي وانزعاجي، وعلى أيّ حال، كنت أحسّ بأنّ المسألة لا تحتاج للتذكير والتنبيه، فالناس على علم واطّلاع بها، وخلاصة القول: اين گوى واين ميدان[10] ، فكلّ واحد يختار الطريق الذي يُريد، وبعد ذلك كنّا نرى أنّ ما كنّا نشعر به لم يكن أيضاً من دون سبب، وكنّا نُشاهد العاقبة التي آل إليها بعض الأشخاص، ولهذا، فإنّ هذه المسائل تؤدّي بنفسها لكي يُدرك الإنسان ـ على الرغم من عدم اهتمامه بها ـ صحّتها كحدّ أقلّ، وأنّها مسائل متينة، فعلينا أن نطوي الطريق بنفس الكيفيّة التي طواه بها العظماء.

    

ثانياً: التركيز على توضيح مباني مدرسة سيّد الشهداء و بيان كلماته عليه السلام

إنّ أفضل وسيلة للتبليغ في أيّام محرّم تكمن في استعراض مباني مدرسة سيّد الشهداء عليه السلام، وكان العظماء يقولون بأنّه من الأفضل أن يسعى الإنسان [المبلّغ] في هذا الشهر إلى بيان نفس كلمات الإمام الحسين عليه السلام والمسائل التي أوردها، ويجعلها محوراً لكلامه وحديثه. كما ينبغي علينا ألاّ نعمد للإطالة كثيراً في بيان المسائل؛ فلا يوجد أيّ سبب يدعو الإنسان لكي يُخصّص جلستين لمسألة يتطلّب الحديث عنها ربع ساعة مثلاً، بل عليه أن ينتقل بسرعة لبيان مسألة أخرى مختلفة. فإذا ألقينا النظر على كلام الأئمّة، سنرى بأنّهم لا يقتصرون على الحديث عن مسألة واحدة فقط، فانظروا إلى خطب نهج البلاغة، ستجدون أنّ كلّ خطبة تحتوي من أوّلها إلى آخرها على عشرين إلى ثلاثين مسألة، وانظروا إلى إحدى الروايات المنقولة عن الإمام عليه السلام، ستكتشفون أنّه تعرّض لبيان خمسة مطالب في رواية واحدة، لا أنّه كان يتحدّث عن مسألة واحدة فقط ثمّ بدأ في الذهاب يميناً وشمالاً وبدأ في التفريع والتشقيق [كناية عن التطويل]، بل كان ينتقل بسرعة للحديث عن مسألة أخرى.

    

ثالثًا: ضرورة مراعاة قدرات الحضور و المستمعين

ومن بين المسائل التي ينبغي الالتفات إليها هي: أنّه من اللازم على المبلّغ والخطيب أن يعلم بأنّ مجلس الذكر والخطابة يختلف عن مجلس الدرس الذي يُكتفى فيه بالحديث عن مجموعة من المطالب ثمّ يذهب بعد ذلك؛ فالهدف من هذه المجالس هو إلقاء المطالب وإيصالها، حيث ينبغي أن يتمّ ذلك بأفضل طريقة؛ ولهذا، عليه أن يرى بنفسه ما الذي يتوقّعه هو من الخطيب حينما يكون هو المستمع، وعليه أن يعلم أنّ الأشخاص الذين أتوا إليه قد صرفوا مقداراً من وقتهم من أجل الحضور في هذا المجلس، وقد كان بوسعهم الذهابُ إلى مكان آخر، أو البقاء في منازلهم والاستماع مثلاً للمذياع أو فتح التلفاز ومشاهدة مباراة في كرة القدم، لكنّهم بدلاً عن مشاهدة هذه الأمور التافهة، أتوا إلى هذا المجلس بهدف الاستماع إلى بعض الكلمات [المفيدة]. فعلينا أن نُدقّق في المسائل التي نطرحها عليهم، وعلينا أن نرى ما هي الأشياء التي يُمكنها أن تُفيدهم وتنفعهم في حياتهم وطريقهم.. فهذه هي المسائل التي ينبغي علينا أن نبيّنها لهم ونطرحها عليهم. ولا مبرّر أيضاً لكي نتحدّث عن المسائل التي يلتفت الناس إليها ويتعرّفون عليها بأنفسهم؛ لأنّه سيُدركونها ولو لم نتحدّث نحن عنها؛ نظير مسائل الحياة اليوميّة، وما الذي حصل هنا وما الذي حدث هناك، فعلينا ألاّ نضيع وقت الناس بأمثال هذه المطالب، بل علينا أن نطرح المطالب التي نعتقد بها ونؤمن بصحّتها.. هذه هي المطالب التي علينا أن نطرحها للناس ونلقيها عليهم.
و علينا أن نبيّن المطالب بشكل كلّي؛ إذ لا داعي للدخول في الجزئيّات والمصاديق بل لا فائدة ترجى من ذلك، ولذا ينبغي طرح المطالب بشكل كلّي.
و ينبغي أن نطرح تلك المطالب التي وصلتنا من الله ، والنبيّ وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين ومن أعاظم الأولياء رضوان الله عليهم.. تلك الأمور التي ثبت لنا بشكل قطعيّ ومن خلال التجربة العملية أنّها مفيدة لنا في حياتنا وأعمالنا.

    

رابعاً: الاهتمام بطرح السنن الإسلامية، و بيان السنن الاجتماعية الخاطئة

فمن الأمور التي باتت مورداً للابتلاء في هذه الأيّام مسائل السنن الاجتماعية والعادات والتقاليد الدارجة بين الناس (و قد تحدّثت بشكل مختصر عن هذا الأمر في الكتاب الذي أنهيت تأليفه قريباً عن "النيروز" ) ، فنحن الآن متورّطون في كثيرٍ من هذه العادات الاجتماعيّة الخاطئة، والحقيقة أنّ الكثير منها ليست أموراً واقعية، بل هي أمورٌ نحن اخترعناها، فخلقنا لأنفسنا بسبب ذلك موانع وعوائق لا داعي لها، فهي أشبه ما تكون ببيوت عنكبوتيّة نسجناها بأنفسنا ثمّ أوقعنا أنفسنا في أسرها. مثلاً : إنّ ما وردنا من سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّ أيّام العزاء على الميّت ثلاثة.. ثلاثة أيّام فقط [11]! ولكنّنا نأتي ونغيّر هذه السنّة فنجعل مدّة العزاء والحداد أسبوعاً أو أسبوعين أو أربعين يوماً، فنزيد المدّة ونطوّلها من تلقاء أنفسنا! يا عزيزي، لقد جعل رسول الله أيّام التعزية ثلاثة فقط، وأمر برفع آثار العزاء ولباس الحداد بعد ذلك، ألم يقل النبي ذلك ؟! إن كان قاله، فهل قاله لأجل الحائط والشباك والعمود، أم قاله لي ولك؟!
ثمّ بعد ذلك نأتي نحن ونمدّد فترة الحداد إلى أربعين يوماً من تلقاء أنفسنا! يا عزيزي إنّ إقامة الأربعين هي من مختصّات سيّد الشهداء عليه السلام، وهذا الأمر ينبغي علينا أن نذكره، ونبيّنه على المنابر ، ونعلنه للناس جميعاً، ونقول لهم: إنّ هذا الأمر (إقامة الأربعين للمتوفّى) لم يحصل على طول التاريخ.. لم يكن الأربعين يقام لا للأئمّة عليهم السلام، ولا للناس العاديين.. والله وبالله لم يكن هذا موجودًا، وهذه الكتب بين أيدينا، فكتب التاريخ والسيرة والروايات بين أيدينا وليس فيها أثر لهذا الأمر!
و لكنّنا مع ذلك نصرّ على إيجاد المشاكل لأنفسنا، مثلاً: تجد شابّين من إحدى العوائل يريدان الزواج، فإذا بأحد الأقارب يموت! فتقف الأسرة في وجههما ويمنعانهما من ذلك حتّى ينقضي أربعون يوماً على وفاة الميّت، بل بعض العوائل يلزمونهما بالتأخير حتّى تمضي سنةٌ كاملة! وجميع ذلك مخالف الشرع، فأنتم تبدّلون مجالس الفرح والسرور إلى مجالس حزن ومصيبة. ثمّ بعد انقضاء مدّة الحداد الطويلة وما إنْ يريد العروسان أن يقيما عرسهما حتّى يموت شخص آخر (خصوصاً إذا كان في عائلتهما الكثير من كبار السنّ!!) ، فيجلس العروسان ليندبا حظّهما ! والحقير يعرف بعض الحالات التي اتّفق أن حصلت ثلاثة أو أربع وفيّات وراء بعضها بهذه الطريقة، وكانت الأسرة تطالب العروسين بتأخير زواجهما مرةً بعد أخرى، ثمّ في نهاية الأمر أعرض العروسان عن أسرتهما وذهبا ليقيما عرسهما !!
هل ترون كيف أنّنا نسبّب المشاكل لأنفسنا بأيدينا ؟! ولذا يجب أن نخبر الناس بهذه الأمور ونفهمهم بأنّ هذه سُننٌ اجتماعية خاطئة! يا عزيزي، اذهب وأقم ألف مجلسٍ، ولكن لماذا انتخبتَ خصوص الأربعين [مع أنّه مختصّ بسيد الشهداء عليه السلام].
و من ذلك ما حصل لنا نحن في الفترة الأخيرة، حيث انتقل أحد أقاربنا إلى رحمة الله، فذهبنا إلى مجلس التعزية الذي اقيم لأجله، فطلب منّا الكثير من الأفراد أن نقيم مجلسًا لصلة الرحم، فوافق الحقير، وتحدّثنا بالمسألة، واتّفقنا أن يأتي من يشاء من الطرفين، وأن يكون ذلك المجلس فرصة للقاء الأسرة مع بعضها، وما أكثر ما ورد عندنا في الإسلام من التأكيد على صلة الرحم، ولكن للأسف نجد أنّ هذه الرسوم قد هُجرت في هذا الزمان، بحيث تجد أنّ الأخ لا يسأل عن أخيه وأخته لعدّة أشهر! فإن سألته عن ذلك،
أجاب: ماذا أفعل؟ فمشكلات الحياة ومشاغل الدنيا تمنعني ..
يا عزيزي، كيف لم تمنعك هذه المشكلات من الرجوع إلى منزلك كلّ يوم. ألا ترجع كلّ يوم إلى منزلك؟! فلماذا لا تخصّص ساعةً لزيارة أختك أو أخيك للاطمئنان على حالهما ؟! الحقيقة أنّ هذا الأمر لا يشغل بالنا أصلاً، ولسنا نهتمّ به.
حسناً، كانت هناك رغبةٌ عند أسرتنا في عقد مجلس للقاء الأقارب، ولكن ذلك لم يتحقّق، ثمّ حصلت فرصة من خلال هذا المجلس الذي عُقد مؤخّراً [12] ، وقد صادف أن مات هذا الشخص الذي هو من أقاربنا قبل موعد المجلس بأسبوعين، فجاؤوا إليّ [و طالبوني بتأخير موعد المجلس لمدّة من الزمان]، فقلت لهم: أنا لا أقدر على ذلك فقد دعوت الأصدقاء من مناطق كثيرة وبلاد بعيدة، ولذا لا أستطيع أن أغيّر الموعد، وكلّ شخص أدرى بتكليفه، فأدّى ذلك إلى أنّ الكثير منهم لم يحضروا المجلس، فحرموا أنفسهم من هذا الخير بأيديهم، وإنّما فعلوا ذلك بسبب متابعة عرفٍ اجتماعيّ خاطئ ، ولا أصل له في الشرع، فحرموا أنفسهم من اللقاء [بأقاربهم]، ومن فيض الرحمة الإلهية تلك!! افعلوا ذلك.. أنتم وشأنكم.
يا عزيزي، إنّ إقامة الأربعين مختصّة بسيّد الشهداء عليه السلام، فو الله حتّى رسول الله لم يقيموا له أربعيناً، ولا أمير المؤمنين ولا الإمام السجّاد ، ولا الإمام الرضا صلوات الله عليهم أجمعين. وإن كنتم تدّعون إقامة الأربعين، فتعالوا وبيّنوا لنا أين ذُكر ذلك؟ فهذه الكتب بين أيدينا: أين كُتب فيها ذلك؟!
مثلاً، الإمام الباقر عليه السلام أمر أحد أصحابه أن يقيم مجلساً لعزائه كلّ سنةٍ في منى لمدّة عشر سنوات، وبالتالي لا بدّ من إقامة مجلس سنويّ للأئمّة، ولكن هل أمر الإمام الباقر بأن نقيم له مجلس أربعين ؟! أم هل أمر الإمام الصادق بذلك؟! أم الإمام السجاد قال ذلك؟! أم الإمام الجواد صلوات الله عليهم أجمعين؟!
حسناً.. إنّ أئمّتنا لم يقيموا مجلس الأربعين لأنفسهم، فإذا بنا نحن جئنا لنقيم مجالس الأربعين لأمواتنا العاديين! إنّ الأئمّة لم يقيموا مجلس أربعين لأنفسهم لمدةّ مائتين وسبعين سنة تقريباً؛ لا يوجد مورد واحد لذلك خلال هذه المدّة المديدة، فنحن لا نتحدّث عن أسبوع أو أسبوعين بل نتحدّث عن حدود ثلاثة قرون! فنحن خلال ثلاثة قرون تقريباً لم يكن عندنا مجلس أربعين ! يا للعجب، عن أيّ شيء يكشف ذلك ؟!
[يقول البعض:] أوليس طلب الرحمة والمغفرة للمتوفّى مستحبّاً ؟
بلى، هو مستحبّ، ولكنّنا نسألكم: فلماذا إذن لم يفعل الأئمّة ذلك ؟ ولماذا لم يفعله أصحاب الأئمّة أيضاً ؟! لماذا لم يطلبوا الرحمة والمغفرة لقريبهم المتوفّى من خلال مجلس الأربعين؟! مع أن هذه المسألة وتلك المشاعر مشتركة وموجودة عند الجميع، فكلّ إنسان يفقد عزيزاً من أب أو أمّ أو أحد الأصدقاء، يرغب في إقامة مجلس لعزائه في الأربعين لطلب الرحمة له، فكما أنّنا نرغب في ذلك، هم أيضاً كانوا يرغبون فيه في ذلك الزمان، فلماذا إذن لم يقيموا هذه المجالس؟! من الواضح أنّ الأئمّة كانوا يرغبون ألاّ تقام مجالس الأربعين لأحدٍ غير سيّد الشهداء عليه السلام، وأن يكون الأربعين مختصّاً به صلوات الله عليه، ومن المعلوم أنّه قد ورد في رواياتنا أنّ زيارة الأربعين من علامات الشيعة [13].
أجل ، علينا أن ننظر في هذه السنن الاجتماعيّة والعادات التي لا أصل لها ولكنّها تقيّدنا وتعيقنا، فنعمل على بيان حقيقتها للناس.
فمن ذلك أيضاً تخصيص اليوم السابع لزيارة قبر المتوفّى، ومنه هذه الموائد والإطعام والتكاليف التي لا داعي لها، ومن ذلك شراء القبور بمبالغ طائلة؛ فأين جاء ذلك في الشرع ؟! من الأفضل للإنسان أن يأخذ هذا المال وينفقه على مائة فقير، أو يزوّج به مسكيناً.
ما هو الداعي لمثل هذه الأمور، وما الدليل عليها؟! ونحن يجب علينا أن نوضّح هذه الأمور للناس ونبيّن حقيقتها لهم حتّى يفهم الناس؛ لأنّه إن لم نبيّن أنا وأنت ذلك، فمن أين سيفهم الناس ؟! وكيف سيعرفون حقيقة الأمر؟! لقد ألّف الحقير رسالة عن (الأربعين)[14] ، فجاء أحدهم وقال: إنّ المطالب المذكورة في هذه الرسالة خاطئة، وليس الأمر كما ذكر فيها؛ فالأربعين كان قائماً للجميع في زمان الأئمّة عليهم السلام، ولكن لم يبق حتّى الآن إلاّ لسيّد الشهداء!
يا عزيزي، اعلم أنّه سيتوجّب عليك أن تجيب يوم القيامة عن هذا الكذب الذي قلته! فمن أين ادّعيت مثل هذا الادّعاء؟! تعال وأبرز لنا مصدر هذا الكلام؛ فمجرّد قول الكلام لا يعدّ دليلاً، بل عليك أن تأتي بسند ودليل ثمّ تقول مثلاً: طبقاً لهذا السند فإنّ الأربعين كان موجوداً في زمان النبي صلّى الله عليه وآله وزمان الأئمّة الأطهار، ولكنّه نُسخ بعد ذلك إلاّ للإمام الحسين عليه السلام. لو جئت بدليل لقبلنا بذلك منك.
و حتّى لو سلّمنا أنّك جئت بمثل هذا الدليل [و الحال أنّه لا وجود له]، فحتّى مثل هذا إنّما يُثبت إقامة الأربعين للأئمّة وليس لسائر الناس العاديّين! فإن أردت أن تقول بجوازه لعموم الناس، فعليك أن تأتي بدليلٍ يثبته للناس العاديين؛ لأنّنا الآن إنّما نقيم الأربعين للناس العاديين وليس للأئمّة عليهم السلام. هل التفتّم؟! إذن لا يصحّ للإنسان أن يقول أيّ كلام يخطر على باله ببساطة! ومن هنا نعلم أنّ وظيفتنا وظيفة مهمّة وثقيلةٌ.
و من ناحية أخرى، من الممكن إذا قال الإنسان الحقّ وبيّن المطالب الصحيحة، فقد يقع مورداً لاعتراض البعض، وقد يصل إليه بعض الكلام المؤذي. إن حصل ذلك، فليكن! ولا ينبغي أن يهتمّ الإنسان به، إذ ليس من المفترض أن يقول الإنسان نفس ما يقوله الآخرون، ولا أن يكون كلّ واحد نسخة عن الآخرين موافقاً لهم في كلّ شيء، بل يجب أن يطرح الإنسان ما يعتقد أنّه الحقّ، ومبلّغ الدين يجب ألاّ ينظر إلاّ إلى أربعة عشر شخصاً فقط دون غيرهم، فيجب عليه أن يهتمّ بهذه النفوس الأربع عشرة المقدّسة القدسية، ويبيّن مطالبهم مستفيدًا من كلمات الأولياء والأعاظم.
و من هنا يتبيّن لنا مدى أهميّة الآداب والسنن، فنحن عندنا الكثير جدًا من هذه الآداب والسنن نحو: آداب الذهاب إلى الحجّ، وآداب تغيير المنزل، وآداب المولود، والآداب المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية كالعلاقة مع الأرحام والأصدقاء... وغيرها، ونحن إذا جئنا وبيّنا هذه الآداب والسنن الصحيحة للناس فأيّ تحوّل سيحصل [في المجتمع وفي حياة الناس] ، ومن أراد أن يتكلّم وينتقد فليفعل! ما علاقتنا نحن بذلك؟! علينا أن نؤدّي وظيفتنا دون الالتفات إلى الآخرين.
و لذا فإنّ العلاّمة الطهراني رضوان الله عليه كان يهتمّ كثيراً بهذه المسألة وهي بيان السنن الإسلاميّة بين الناس وإطلاعهم عليها، يعني علينا أن ننظر في كتب السنن، ونراجع الأخبار الواردة في بيان السنن في كتب الشيعة، وكذلك في كتب العامّة، فروايات السنن موجودة في كتب العامّة أيضاً، ثمّ بعد ذلك علينا أن نبيّن هذه السنن للناس، بالإضافة إلى المباني الأخرى، وهذا الأمر له تأثيرٌ كبير، وهي مسألة مهمّة جدًا؛ لأنّه في كثير من الأحيان عندما نواجه سنّةً واحدةً خاطئةً فنوقفها، فإنّ العديد من الأبواب تفتح أمام الحقائق، فهذا الأمر مربوط بذاك وذاك بأمر ثالث وهكذا، فإذا بالإنسان قد فهم مطالبَ جديدةً، وإذا بتأثير هذه المسألة أكبر ممّا يتصوّر.
مثلاً نرى شائعاً في هذه الأيّام أنّه عندما تحصل مناسبة عند شخصٍ ما [كوفاة أحد أقاربه]، فإنّ البعض يأتي وينصب لوحة كبيرة يكتب فيها: نحن عائلة فلان نعزّي فلاناً في وفاة قريبه، وما شابه ذلك، ولكن في الحقيقة لا داعي لمثل هذه الأمور، ويكفي أن تذهب إلى الشخص صاحب العزاء بنفسك وتعزّيه، فهل من الضروري أن تنصب إعلاناً كبيراً وتضعه أمام المسجد حتّى يراه الناس جميعاً؟! إنّ جميع ذلك من تسويلات الشيطان. ونحن لا ندّعي أن كلّ من يفعل ذلك فهو مغرض، بل ربّما كان غافلاً، ولكن على كلّ حال لابدّ من بيان هذه المسائل.
رحم الله ذلك الخطيب المعروف الشيخ فاضل الكاشي، لقد كان كثيراً ما يأتي إلى مسجد القائم ويتحدّث فيه، وكان السيّد الوالد رحمه الله يحبّه كثيراً، كما أنّه كان بدوره يحبّ السيدَ الوالد كثيراً، حتّى أنّه قال للسيّد الوالد أكثر من مرّة: يا سيّد، إنّني كلّما رأيتك، فكأنّني أواجه الإمام الباقر عليه السلام !! أجل، لقد كان رجلاً مخلصاً جداً، وكانت قراءته للعزاء جميلةً جداً، كما أنّ صوته كان عذباً جميلاً.. رحمة الله عليه فقد كان رجلاً نزيهاً مهذباً... وذات يوم كان يلقي محاضرة بمناسبة مجلس فاتحة لأحد الأشخاص، وأثناء المحاضرة ناوله أحدهم ورقة ليقرأها على العموم وفيها أنّ مراسم الأسبوع ستقام في موضع دفن الميّت في المكان الفلاني، فالتفت إلى الحاضرين وقال: أجد أن من وظيفتي أن أبيّن هذا الأمر: لأي شيء تقيمون الأسبوع عند قبر المتوفّى؟! يا عزيزي، ليس من السنن الإسلامية إقامة مراسم الأسبوع والذهاب في هذا اليوم خصوصاً إلى قبر الميّت، فلماذا لا تنفقون هذا المال على الفقراء ؟! نحن وظيفتنا ان نقول لكم ذلك!
قال ذلك بصراحة ووضوح! ولقد أعجبني تصرّفه ذلك كثيراً، وقلت في نفسي: غفر الله لك، فهو لم يقل في نفسه: إنّ هذا الكلام لن يعجب أهل المتوفّى، وسينزعجون منه، بل قال: إنّ وظيفتنا أن نقول هذا الأمر ونبيّنه، وعلينا أن نؤدّي وظيفتنا فنبيّنه. وما أجمل أن نفعل نحن ذلك أيضاً فنؤدّي وظيفتنا، بأن نبيّن للناس أنّ هذا خطأ وذاك صواب.
و من ذلك ما نراه هذه الأيّام في بعض مجالس عزاء الإمام الحسين عليه السلام بأن توضع الكراسي في محيط المجلس؛ ليجلس عليها مجموعة من الناس ويجلس الباقين على الأرض، ولكنّ ما هو المبرّر لذلك؟ ولماذا نقسّم المعزّين إلى مجموعتين؟! وكذلك عند اللطم يقوم البعض ليلطموا بينما يبقى البعض جالسين ليتفرّجوا عليهم، فما معنى ذلك؟ ولماذا يحصل؟! والحال أنّ المجلس مجلس ٌ واحد، والإمام الحسين واحد للجميع! هل نريد بهذا التصرّف أن نقول: إنّ الذين يقومون للطم هم العوامّ وأصحاب المقامات الوضيعة وبائعوا الخضار، بينما علية القوم، والناس المحترمة يظلّون جالسين لأنّهم يستحون من الوقوف واللطم، أو أنّ ذلك عار عليهم، ولا يناسب شأنهم؟! أو إذا لطموا ، فإنّهم يحركون أيديهم بشكل خفيف جداً حتّى لا يتأثّر صدرهم المبارك من شدّة اللطم !! إنّ جميع ذلك يكشف أنّنا أقمنا هذا الأمر أو شاركنا فيه ليقال أنّهم قد أقاموا مجلساً ، لا أكثر.
و نظير هذا الأمر كان يحصل في الزمان السابق أيضاً، أعني في زمان الشاه وعصابته، فهؤلاء أيضاً كانوا يقيمون مجالس عزاء لسيّد الشهداء ليبرزوا أنفسهم وحتّى يقولوا: ونحن أيضاً عندنا مجلس.. نحن أيضاً نقيم مجالس العزاء، فهذا مجلس رئيس الوزراء، وذاك مجلس القصر، وهذا المجلس كان لقائد الجيش مثلاً، وهكذا.. ولكن السؤال المهمّ هو: هل كان الإخلاص أيضاً موجوداً في هذه المجالس؟! أم أنّ الغرض منها كان أن يقال: ونحن أيضاً أقمنا مجلساً ؟!
أجل لقد ذكرت لكم هذه الحكاية سابقاً، حيث ينقل السيّد الوالد رضوان الله عليه أنّه عندما كان سماحته صغيراً كان هناك مجلس قريب من منزلهم في حسينية السيّد هاشم، وكانت تقام فيها مجالس العزاء في أيّام عاشوراء، إلاّ أنّه في بعض الأيّام كان عدّة من المسؤولين في الدولة والتابعين للشاه يأتون، ويدخلون أنفسهم بين المسؤولين عن إقامة المجلس وخدمته، وكانوا أحياناً يقومون بخدمة المجلس بأنفسهم أو يحضرون معهم بعض الخدام؛ لكي يقولوا للناس: نحن أيضاً موجودون ونخدم هذه المجالس، علماً أنّ المجلس لم يكن لهم، بل كان لأهل المنطقة وبعض المحسنين فيها، غاية الأمر أنّ هؤلاء كانوا يذهبون أحياناً، ويشاركون في الخدمة. يقول المرحوم والدنا (العلاّمة الطهراني]: لقد كان عمري آنذاك صغيراً (خمس إلى ست سنوات)، وذهبنا أنا ووالدي إلى هذا المجلس، كانت مجالس العزاء تقام فيه صباحاً، وعندما جلسنا، رينا أنّ أفراداً من قبل الدولة يشاركون في خدمة المجلس، مثلاً كانوا يحضرون الشاي ويجمعون الكؤوس الفارغة (و كما قلت سابقاً، فإنّ المجلس لم يكن لهم، ولكنهم كانوا يفرضون أنفسهم، حتّى يقولوا: نحن أيضاً شاركنا) ، وكان هناك شخص مقرّب من قصر الشاه، وكان يقف عند الباب لاستقبال المعزّين مع أصحاب المجلس ليوحي للناس أنّه من القائمين عليه، وكان يحرص على إبراز نفسه، وكان ذلك في زمان رضا شاه، وذلك الزمان ضاغطاً جداً وكان كبت الحريّات شديداً. يقول سماحته: بعد أن أنهى الخطيب القراءة، وعندما كنّا نريد الخروج، جاء هذا الشخص المقرّب من القصر، إلى والدي وقال له: هل التفتّم سماحتكم إلى اهتمام جلالته [مشيراً إلى الشاه] بإحياء مجالس أهل البيت، وإقامتها؟
و قد خصّ هذا الرجل جدّنا بالكلام، لأنّ جدّنا كان معروفاً بمعارضته الشديدة لرضا شاه، وقد نقلت عنه الحكايات الكثيرة في ذلك، وقد نقل السيّد الوالد بعض هذه الحكايات في كتبه (و الظاهر أنّها في كتاب وظيفة الفرد المسلم[15] ). والحاصل يقول السيّد الوالد رحمه الله: عندما قال ذلك الرجل هذا الكلام لوالدنا، تقدّم سماحته إليه وهمس في أذنه كلاماً [يبتسم سماحة السيّد] بحيث أنّ لون الرجل امتقع حتّى صار لون وجهه أسوداً، وأخفض رأسه إلى الأرض، ولم ينبس ببنت شفة!
يقول السيّد الوالد: كان عمري خمس سنوات أو ست (عفواً، الظاهر أنّه كان عمره سبعة أو ثمان سنوات ، وعلى كلّ حال من الواضح أنّه كان طفلاً واعياً ودقيقاً؛ لأنّ طفلاً في هذا السنّ لا ينتبه إلى هذه الأمور الدقيقة، والتفاته لها وفهمهم إيّاها يكشف عن ذكاء حادّ كان عنده)... أجل، يقول رحمه الله: عندما خرجنا من المجلس سألت والدي قائلاً: سيّدنا، ماذا قلت لهذا الشخص حتّى انقلب حاله بهذا الشكل؟ فأجاب: لقد قلت له: لا حرمنا الله من ظلّ روسيا فوق رأسنا!
ومراد سماحته من ذلك يقول: إنّ الروس والانجليز قد دخلوا في حرب ومواجهة، وهذا سبب اهتمامك بالناس وعنايتك بالمجالس سببها سعيك لإرضاء الجبهة الداخلية، وإلاّ فلو أنّ الروس والانجليز تصالحوا، واستتبت لك الأمور، فإنّك ستعود إلى القسوة والظلم لنا جميعاً، ولذا نسأل الله أن لا يتصالح هذان حتّى نتمكّن نحن من العيش في سلامٍ قليلاً، ولذا قال له: لا حرمنا الله من ظلّ روسيا فوق رأسنا!
حسناً، فهذا هو حال أهل الدنيا، وهكذا هي مجالسهم.
و لكن ليس هذا آخر الكلام، ففي المقابل هناك فريق آخر له حسابات أخرى، وعلينا أن نفعل كما كان السيّد الوالد رحمه الله يقول: (اتركوا الدنيا لأهلها، وانشغلوا بعملكم وبأنفسكم)، فهذا أفضل طريق يمكننا أن نسلكه يمكننا أن نسلكه .

    

خامساً: عدم تطويل مدّة المحاضرة

و يجب على الخطيب أن يعلم أنّه يلقي مطالبه للمخاطبين أمامه، ولذا ينبغي ألا يكون كلامه موجباً لملل الحاضرين وتعبهم، يعني لو أنّ شخصاً كان يلقي أفضل المطالب، ولكنّه أطال الكلام أكثر من طاقة المستمع، فإنّ هذه الزيادة ستكون سبباً لتعب المتلقّي، وهذا التعب يذهب بأثر تلك المطالب القيّمة، ولهذا من الجيّد ألا تطول المحاضرة أكثر من أربعين إلى خمس وأربعين دقيقة.

    

سادساً: ضرورة احتواء المحاضرة على مقدار من قراءة العزاء

و من ناحية أخرى لا بدّ أن تحتوي المحاضرة على مقدارٍ من قراءة العزاء حتماً، فالعزاء في المحاضرة ـ كما يقول المرحوم الوالد ـ بمثابة الملح للطعام، فقد كان سماحته يقول: إن المحاضرة بدون العزاء كالطعام بلا ملح، يعني كالطعام الذي يعدّونه للمريض، فهذه المحاضرة الخالية من العزاء كذاك الطعام الخالي من الملح، والعزاء هو الذي يمنحها الطعم. وأنا أذكر أنّه ذات مرّة جاء المرحوم المطهّري إلى منزلنا، وكنت جالساً قريباً منهما، فسمعت الشيخ مطهّري يتحدّث مع السيّد الوالد عن كتابه "معرفة المعاد" ـ وكان لا يزال خطّياً آنذاك ـ قائلاً: أقترح أن تحذف مقاطع العزاء الموجودة في كتاب، بحيث تصبح المطالب متّصلة ويكون فيها وحدة موضوعيّة. فأجابه السيّد العلاّمة قائلاً:
إنّ هذا الكتاب بدون مقاطع العزاء سيكون بلا فائدة! انتبهوا، فهذا الكلام عجيبٌ جداً، وهذا الكلام ممّا يجب أن يجلس الإنسان ويتأمّل فيه جيّداً، فهذا من المواضع التي تبيّن الأفق الفكريّ للإنسان؛ ففي أي أفق نحن ؟ والآخرون في أيّ أفق؟ وما هي الأجواء الحاكمة على تفكير كلّ شخص؟
أجل، إنّ هذا العزاء له أثرٌ كبير جداً، فإنّ هذا العزاء يجعل هذه المطالب التي سمعها الإنسان تحتفر في الذهن وفي القلب، وتثبت فيهما، وبعد ذلك يحصل [في النفس] جنبة نورانية؛ فلا يكون المجلس مثل شريط التسجيل تسمعه، ثم تشرب الشاي وتخرج من المجلس، بل مطالبه تبقى.. إنّ هذه المطالب تبقى في القلب.

    

سابعاً: الاستفادة من كلمات الأولياء و أخذ العبرة من قصصهم

يمكن الاستفادة من المطالب التي فيها نفع مثل: الحكايات والقصص التي فيها عبرة، وكلمات العظماء وأولياء الله التي تحتوي على دروس ومواعظ، وكذلك يمكنكم الاستفادة من سيرتهم الموجودة في كتب التراجم مثل كتاب "تذكرة الأولياء" للشيخ العطار، و"نفحات الأنس" للجامي، وأمثال ذلك، أو مثل كتاب "طرائق الحقائق"، وأمثالها التي يوجد فيها كلام عن حياة العظماء، فيمكن أن يقوم بجمع هذه المطالب، وذكرها في المناسبات المختلفة؛ فإنّ لها أثراً كبيراً، وكذلك يمكن الاستفادة من طرائف حكم أمير المؤمنين عليه السلام وكلامه فإنها تحتوي على الكثير من هذه المطالب التي تؤثّر في النفس تأثيراً كبيراً. في بعض الأحيان يجد الإنسان أنّ جملة واحدة أو كلاماً بمقدار سطر واحد، أو نصف سطر له تأثيرٌ كبير في النفس، بحيث أنّ محاضرات لمدة شهر ليس لها ذلك التأثير، ألا ترون أنّي في بعض الأحيان أنقل بعض الجمل عن المرحوم العلّامة فتتأثرون بها حتّى أنّ ذلك يظهر على وجوهكم، و السرّ في ذلك أنّ هذا الكلام قد نُقل عن أحد الأعاظم، نُقل عن وليّ من أولياء الله، لذلك له أثر، ويوجِد تحوّلاً وانقلاباً في النفس، فأن يذكر الإنسان هذه المطالب ويذكرها في محاضراته مفيد جدّا جدّا.

    

ثامناً: مراعاة مجموعة من الضوابط في انتخاب الأشعار

كما أنّ مراعاة حال المستمعين، وتقييم قدرات المجلس والحضور ، من المسائل التي ينبغي الالتفات إليها من أجل الارتقاء بالمجلس.
والأشعار التي يختارها ينبغي أن تكون أشعارًا لشخص معروف، وفيها حكمة، وتكون مطالبها ملفتةً للنظر، ويكون قائلوها من أصحاب القلب وأهل الحال، مثلاً فؤاد كرماني عنده بعض الأشعار، وأيّ أشعار:
زنده ى جاويد كيست
                             كشته ى شمشير دوست

(يقول: من هو الحيّ الخالد إلى الأبد؟ إنّه الذي قُتل بسيف الحبيب)
انظر إلى أشعاره كيف هي؟! إنّها أشعار فيها روح أو مثل أشعار الملّا نير التبريزي أو أشعار المرحوم الكمباني أو المرحوم الفيض، وأمّا أن يأتي الشخص بدل هذه الأشعار بأشعار قائليها إدراكهم عاديّ، و نظمه للشعر ليس إلا من باب ترتيب بعض الكلمات فقط ليقال أنّه قد قال شيئاً، وتكون الأشعار مجرّد كلمات مصفوفة تلو بعضها البعض دون احتوائها على مضمون عميق، فلذلك من المستحسن أن يتشاور الشخص مع الأشخاص الآخرين بالنّسبة للشعر الذي يختاره.
وعندما يقوم بقراءة شعر من مثنوي مثلاً أو غير مثنوي فلا يأتي إلى المنبر بمجرّد أن يكتب الأشعار على ورقة، بل عليه أن يقرأها قبل أن يأتي، ويتأكّد من أنّ قراءته صحيحة وسلسة [ووزنها ليس مكسوراً]، وليس فيها أيّ إشكال، و حينها يأتي ويقرأها على المنبر، فإنّ بعضهم يكتب شيئاً على الورقة ثم يأتي على المنبر وهو لم يقرأها مسبقاً ولم يتدرّب عليها، لدرجة أنّه يتوقّف في بعض الكلمات مرتبكاً [ولا يقرأها بشكلها الصحيح]، فإنّ هذا الخطأ أو السكتة التي يسكتها يجعل المجلس يفقد حالته التي كان عليها و ينقلب، وبمجرّد أن يلتفت المستمعون بأنّ هذا الشعر قد قُرأ خطأً فإنّ جوّ المجلس سيخرب، والارتباط الموجود في المجلس لا ينبغي أن يقطع بل يجب أن يستمر، والأجواء الموجودة في ذلك المجلس لابدّ أن تستمرّ وتتابع، وتلك الأجواء يجب أن يحافظ عليها حتّى آخر المجلس، و لذا إن كان هناك خطأ، فسيؤدّي ذلك إلى انقطاع هذا الجوّ و حصول توقّف و انفصال، ثمّ إن أردت أن تشرع مرّة أخرى [و تسترجع ذلك الجوّ،] فهذا يحتاج لجهد كبير، لذلك علينا ـ إن أردنا أن نقرأ الأشعار ـ أن نقرأها مسبقاً بشكل صحيح وسليم، وبدون إشكال وبعدها نأتي ونقرأها على المنبر. ومن ناحية ثانية، لا ينبغي علينا أن نلقي الأشعار بسرعة بل علينا أن نلقيها بتروٍ، لا أن نقرأها كيفما كان ونمضي، بل يجب أن نتوقّف عند الكلمات المهمّة و نبرزها، وأمّا قراءة الشعر مع اللحن فله قواعده الخاصّة.
والمطلب الآخر الذي يجب أن يراعيه من يقرؤون قصائد العزاء [16] هو التدقيق في الأشعار التي ينتخبونها بحيث يكون في ما بينها مسانخة، يعني لا يقرأ شعراً له حالته وجوّه الخاص ثم ينتقل منه دفعة واحدة إلى شعر آخر له جوّ آخر، بل عليه أن ينتخب أشعارًا تكون من أوّلها لآخرها على نسق واحد، وإن كان هناك لطم في آخر المجلس فليكن متناسباً مع هذا الشعر المقروء، لا أن يكون الشعر مربوطاً بشيء معين ثم يقرأ لطمية ليس لها دخل بالموضوع، بل ينبغي أن يكون الشعر واللطميّة وحلقة الاتصال التي بينهما يكون لها موضوع واحد، وجوّ واحد، وكذلك إن لم يكن هناك لطميّة بل كان هناك قراءة أرجوزة والأشخاص يقومون بالجواب ،فينبغي أن تكون لها نفس الأجواء، و بشكل عامّ ينبغي المحافظة على نسقٍ واحد في الشعر و اللطمية و ما شابه ذلك؛ حتّى يبقى المجلس محافظاً على أجوائه.
ويجب أن لا يكون هناك فاصلة في الكلام مثلاً يقرأ جزء من الشعر ثم يتوقف ويخرج ورقة من هذا الجيب أو ذلك الجيب، وبعدها يقول لهم: "صلّوا على محمد و آل محمد"، فهذه الأمور ما الذي تفعله؟! تغيّر أحوال المجلس، فالصلوات لها وقتها يا عزيزي، ثمّ إذا لم يجد الورقة يقول لهم: "رحم الله من أعادها ثانية"، ثم يقول لهم بعدها: "وثالثة ...". هذه الأمور كلّها يجب أن تكون جاهزة من قبلُ، [يقول سماحة السيّد ممازحًا:] يا عزيزي أنت صلّ على محمد و آل محمّد في بيتك قبل أن تأتي! فعندها لا حاجة لأن تأتي هنا وتقول للناس بسبب تقصيرك:"صلّوا على محمد وآل محمد" .
وايضاً بالنسبة للطميّة يجب أن تكون لها معنى مهمّ، لا مثل ما يقولونه من كلام عادي كالعبارات التي يذكرها البعض بحقّ السيدة زينب عليها السلام أو عن عليّ الأكبر عليه السلام.. ما هو هذا الكلام؟! هذا الكلام عفى عليه الدهر، فالناس هذه الأيّام يريدون منّا كلاما له معنى، كلاماً رساليّاً، كلاماً فيه عمق، يريدون رسالة عاشوراء، لا بدّ لنا أن ننقل رسالة عاشوراء إلى الناس.
ثمّ إنّ الشعر لا ينبغي أن يكون شعرًا موهنًا؛ فأصحاب سيّد الشهداء هم أشخاص عظماء، و كذلك أولاد وذريّة سيّد الشهداء وأهله كانوا أشخاصاً عظماء، بحيث لو يقف كل أفراد العالم أمام أقدامهم فإنهم لا يهتمّون لذلك، هذه المطالب التي يجب على الإنسان أن يقولها، التعابير التي نوردها ينبغي أن لا تكون موجبة لتوهينهم عليهم السلام، وإن كان هناك في بعض المقاتل يذكرون بعض الأمور بتعابير معيّنة، ولكن لا يجب على الإنسان أن يقول على المنبر كلّ شيء ، نعم لا بأس أن يطلّع على هذه المسائل ولكن ليس عليه أن يحكيها ويتكلّم بها، فانتخاب المطالب يحتاج لسليقة حسنة، أي عليه أن ينظر ما هي المطالب التي ينتخبها؟! ينبغي عليه أن لا ينتخب أيّ مطلب ثم يأتي ويقوله، يعني يجب أن لا يكون المعنى الذي يورده مسبّبًا لتساؤل عند السامع أو ابهام، لذلك يجب المحافظة على مقام عظمة الأئمة عليهم السلام وحادثة عاشوراء، و من هنا فعلى الإنسان أن يراعي هذه المسائل في هذا الموضع.
وعلى كلّ حال، هذه الأمور التي ذكرناها بشكل عامّ تؤثّر على جوّ المجلس، و ينبغي على الخطيب أن يراعيها للحفاظ على أجواء المجلس، وتمكّن الناس من الاستفادة منها أكثر. و قد كان في ذهن الحقير بعض المطالب الأخرى التي كنت أرغب أن أعرضها للرفقاء، ولكن بما أنّ لها جنبة كلّية وعموميّة فقد صرفت النظر عنها، و اكتفيت بهذه المسائل المذكورة.
أرجو من الله أن يصرف قلمنا، وقدمنا، وبياننا، وطريقنا، ونفسنا، وهمّتنا، وكلّ آثارنا الوجوديّة إلى طريق رضاه تعالى، ولتحصيل رضا أوليائه.
و الحقيقة أنّ شُغلنا هو عمل خطيرٌ جدّاً جدّاً؛ فيمكننا بحرف واحد أن نغيّر طريق إنسانٍ، بحيث نغيّر طريقه إلى الجنّة أو إلى النار، و خطورة هذه الوظيفة تبرز بالخصوص في فتن آخر الزمان !
اسأل الله أن يجعل هدفنا هو رضا وليّ أمره، وصاحب زماننا، وأن يحيينا تحت ظلّ ذلك الإمام، ويميتنا على ولايته، ويحشرنا عليها يوم القيامة.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.


[1] ـ الكليني، الكافي ج2، ص 57؛ الشيخ الصدوق، مصادقة الإخوان، ص 17؛ جامع أحاديث الشيعة، ج 16، ص 33.

[2] ـ الرعد (13) مقطع من الآية 28.

[3] ـ راجع "معرفة المعاد" ، ج 1، 88، نقلاً عن معاني الأخبار، باب معني الموت، ص 288 وص 289

[4] ـ الأمالي، الشيخ الصدوق، ص217.

[5] ـ زيارة الأربعين للإمام الحسين عليه السلام.

[6] ـ تفسير مجمع البيان للطبرسي، ج 5، ص 129.

[7] ـ يشير سماحته إلى الرواية المعروفة عن الإمام العسكري عليه السلام في الاحتجاج، الطبرسي، ج 2، ص 456، حيث يقول عليه السلام: " لا جرم أنَّ من علم الله من قلبه من هؤلاء القوم أنَّه لا يريد إلا صيانة دينه وتعظيم وليِّه (إمام زمانه)، لم يتركه في يد هذا المتلبِّس الكافر. ولكنَّه يقيِّض له مؤمناً يقف به على الصواب، ثمّ يوفِّقه الله للقبول منه، فيجمع الله له بذلك خير الدنيا والآخرة، ويجمع على من أضلَّه لعناً في الدنيا وعذاب الآخرة".

[8] ـ سورة الكهف، الآيتان 103 و104

[9] ـ سورة الإسراء (17)، صدر الآية 20.

[10] ـ مثل فارسي ترجمته كالتالي: هذا الادّعاء وهذا الميدان أمامك فأرنا التطبيق، ومعناه: أنّه على الإنسان أن يطبّق ما يعرف مستفيداً من الفرص والظروف المتوفرة لديه وإلا فهذا دليل عجزه‏. المترجم

[11] ـ جاء في كتاب الكافي : عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : (يصنع لأهل الميت مأتم ثلاثة أيام من يوم مات.) و عن الصادق ( عليه السلام ) : ( ان النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمر فاطمة عليها السلام أن تأتي أسماء بنت عميس ونساؤها ، وان تصنع لهم طعاما ثلاثة أيام ، فجرت بذلك السنة ) ج 3 ص 217. و جاء في "الفقيه" ج 1، ص 111: قال الصادق ( عليه السلام ) : ( ليس لأحد ان يحد أكثر من ثلاثة أيام ، إلا المرأة على زوجها حتى تنقضي عدتها )

[12] ـ الظاهر أن سماحة السيّد يشير إلى مجلس زواج ابنه. المترجم

[13] ـ روي عن الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) ، أنّه قال : ( علامات المؤمن خمس : صلاة إحدى وخمسين ـ أي الفرائض اليومية ، وهي سبع عشرة ركعة ، والنوافل اليومية ، وهي أربع وثلاثون ركعة ـ وزيارة الأربعين ، والتختّم باليمين ، وتعفير الجبين بالسجود ، والجهر بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ ) .

[14] ـ الأربعين في التراث الشيعي.

[15] ـ راجع كتاب: وظيفة الفرد المسلم في إحياء حكومة الإسلام، ص 26 وما بعدها

[16] ـ من المعتاد في إيران أن يقوم شخص ذو صوت جميل بإلقاء قصائد العزاء قبل المحاضرة و بعدها، و كثيرا ما يكون هذا الشخص غير الخطيب الذي يلقي المحاضرة، و لا يخفى أنّ الخطيب أيضاً قد يلقي بعض قصائد العزاء المختصرة أيضاً. المترجم.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی