معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 هـ ـ المحاضرة 4: الهداية الباطنية

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 هـ

المحاضرة الرابعة:
الهداية الباطنية

 

ألقيت هذه المحاضرة ليلة الثامن من شهر رمضان لعام 1434 هـ ق

ألقاها:
سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه اللـه

 

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

عظُم يا سيّدي أملي و ساء عملي فأعطني من عفوك بمقدار أملي و لا تؤاخذني بأسوء عملي؛ فإنٌّ کرَمَك يجلّ عن مجازات المذنبين و حلمك يكبر عن مكافاة المقصِّرين
استعرضنا للرفقاء في بيان هذه الفقرات، بأنَّ الإمام السجّاد يقول في خطابه لله: إنّ أملي كبير، ولكنّ ما يقابله من العمل الذي يُفترض أن يوصلني إلى هذا الأمل و تلك الدرجة التي أتمنّاها في قلبي وذهني عملٌ ضعيف.

    

الانجذاب الباطني هو المحرّك للإنسان

إنّ الإنسان قد يجد في نفسه شعوراً معيّناً .. شعورًا داخليّاً بالميل و الانجذاب نحو شيء معيّن.. لذا فهو يسعى للوصول نحو ذلك الشيء حتّى بدون أن يعلم مصدر ذلك الشعور ؛ و ذلك أنّ الإنسان قد يحصل له إحساسٌ عميق في باطنه، ولكنّ ذلك الإحساس لم يصل إلى مرحلة يكون مشهوداً بشكل تفصيليّ له ، فهو لم يتضّح جليّاً له بعد، ولم تظهر معالمه التفصيليّة بشكل دقيق ، و غاية ما يعلمه عنه هو أنَّ هنالك شيئاً ما:
كسی ندانسته كه منزلگه آن يار كجاست
                             اينقدر هست كه بانگ جرسى مي‏آيد[1]

(يقول: لا يعلم أحد أين هو منزل الحبيب، ولكنّنا نسمع صوت جرس يأتي من حيث لا ندري.‏)
إنَّ لهذا الشعور لشأنًا، و هو شعور مبارك؛ فهو يجذب الإنسان شاء أم أبى إلى تلك الوجهة التي يجب أن يصل إليها، وينظّم مسير الإنسان بالشكل الذي يجعل عاقبته تنتهي إلى ذلك المقصد، و ما أعظم المصيبة لو كان الشعور في الاتجاه المعاكس! يعني نحن نرى أنَّ قلب بعض الأشخاص ينجذب في الكثير من الأحيان إلى الجهة المعاكسة؛ فترى هذا يُجذَب إلى هذا الاتجاه، بينما يُجذَب الآخر إلى الاتجاه المعاكس، فما هو السر الكامن وراء هذا الأمر؟ و العجيب أنّهم هم أنفسهم لا يدركون ذلك! فإذا ما جلس شخص في مجلس للوعظ و أخذ يذكر الله، نرى أحدهما يقول لصاحبه: لنذهب، لنذهب للاستماع إلى هذه الخطبة وهذا الكلام، فكم هو جميل حديث هذا الشخص! و كم هو جميل الأمر الذي ذكره ! بينما نرى الآخر يقول: و ما الذي قاله يا هذا؟ و أيّ فائدة فيه؟! اذهب لوحدك! إنّهَ قد شغل وقتنا بذكر بعض الكلمات المنمّقة ليس إلاّ ..
فما هو السر الكامن في الأمر؟ فلا هذا يعلم ما الذي يجري في نفسه ولا ذاك، وغاية ما يعلمه أنَّ هنالك شيئاً يجذبه إلى هذا الاتجاه، فتراه يأتي و يستسيغ و يجد في نفسه الرغبة إلى القدوم مجدّداً، فيقوم بتنظيم أموره بالشكل الذي يمكّنه من المجيئ ( انتبهوا ؛ فهذه أمور في غاية الأهمّية!!)، تراه يقوم بتنظيم برنامجه للوصول إلى المجلس مبكّراً، قبل أن يأتي أحد ليُفسد عليه الذهاب إلى هناك.. قبل أن يأتي من يطرق عليه الباب.. قبل أن يأتيه ضيف، فإذا ما جاءه أحدٌ دون اتّفاق مسبق، فإنّه يعتذر منه قائلاً: عفواً، لديّ عمل.. لديّ ارتباط، أرجو أن تتفضّل بالدخول، حتّى أذهب و أعود، و بشكل عامّ ترى أنّه يقوم بتنظيم أموره، و برنامجه، ووقت استراحته، ويُرتّب وقته، مزيلاً العوائق من أمامه ومهيّئاً كلّما يلزم لأجل الوصول إلى مبتغاه أي إلى ذلك المجلس ،و استماع ذلك الحديث، فيصل بالنتيجة إلى ما كان قد خطّط له.
هذا بالنسبة للشخص الأوّل، و الآن انظروا إلى الشخص الآخر، تروه يريد أن يتهرَّب بشكل دائم، مثلاً تقول له: لنذهب إلى مجلس فلان، فكم هو رائع حديثه!
فيجيب قائلاً: نعم، هذا اقتراح جيّد، سأفكر في الأمر.. لنرى.. ، نعم، نعم، سأُفكر، نعم! أخبرني عندما تريد الذهاب!
و عندما تخبره، تجد أنَّه ليس في البيت! بل ذهب إلى كرة القدم! أو ذهب للترفيه و النزهة! أو ذهب إلى منزل صديقه ليقوم بتشغيل التلفاز؛ ليشاهد كيف يضربون الكرة من هذا الطرف إلى ذاك! يضربون الكرة، ويركضون ورائها حيثما ذهبت! يا ناس! إنَّ الكرة عبارةٌ عن هواء ليس إلاّ، فلولا احتوائها على الهواء لما ذهبت إلى هذا الجانب وذاك! هل رأيتم يوماً أن أحدًا يضرب حجراً؟! يركل حجراً بدلاً عن الكرة باستمرار!! لا يمكن لأنّه ما إن يضربه حتّى تُكسر قدمه! ولذا هو يركل الهواء (يعني الكرّة)! فهو يتبع الهواء و الريح بلا شك! ألم تسمعوا عن حزب الريح؟ إنَّ هذا منهم! فخلق الله هؤلاء يتبعون الهواء، أجل.. الهواء ليس إلاّ! فليس هناك شيء داخل الكرة! بل هي مملوءة بالهواء! فالكرّة مادة مطاطيّة داخلها هواء، ينفخونه فيها، فتكون كرة! عندها تذهب إلى هنا وإلى هناك! و الناس مشغولون بها: يا ناس لقد ذهب هذا الهواء إلى هذا الطرف ، لقد ذهب ذلك الهواء إلى هذا الطرف! هيّا صفقوا، اوهتفوا! لأيّ شيء؟ لأنَّ الهواء ذهب إلى ذلك الطرف!
بعدها نقوم بإصدار رسالة تهنئة![يضحك سماحة السيّد] أجل، نبارك للناس لأنّ الهواء قد هبَّ إلى هذا الجانب و مال إليه ، بخٍ بخٍ، نبارك لكم ذلك! فإذا ما هبَّ الهواء غداً بالاتجاه المعاكس، ترى الرؤوس تنتكس وتُسحب التهاني و التبريكات!
يُسمى هذا بحزب الهواء، هذا هو حزب الهواء الذي يُذكَر.
متى يصير هؤلاء الناس من العقلاء و لو بمقدار يسير؟!
كنَّا جالسين يومًا في مشهد، وكان أحد الأشخاص قد جاء من طهران، وكان من أهل العلم وإمامًا للجماعة ، و كان قد جاء من طهران و لم يذهب بعد لزيارة الإمام الرضا عليه السلام، و يبدو بأنَّ ذلك قد كان في فصل الشتاء، أو الخريف. فقال له شخص كان يجلس إلى جانبي: هل ذهبت للزيارة؟
قال: لا، أجَّلت الزيارة إلى الغد، لأنَّه هنالك مسابقة لكرة القدم هذه الليلة بين الفريق الفلاني والفريق الفلاني، فرأيت بأنَّني لو ذهبت إلى الزيارة فإنّ المباراة ستفوتني. هذا مع كون الرجل في الستينات، و هو سيّد، ذو لحية طويلة! و مع ذلك قال: أؤجِّل الزيارة إلى الغد؛ لأنَّني لو ذهبت الليلة، فإنّ المباراة ستفوتني! و كلّنا كذلك! فلا تتصّوروا أنّ حالنا أفضل ! أجل ، لقد قايض الإمام الرضا عليه السلام بمسابقة لكرة القدم!!
و ذات مرّة كنت راجعًا من الحرم، في ذلك الوقت الذي كانت يُعرض فيه مسلسلٌ مّا لا أعرف اسمه، ما اسمه؟ يوسف وزليخا؟ هل أقولها بشكلها الصحيح أم لا؟ [يقول ممازحًا:] إذا أخطأت فصحّحوا لي! لأنَّه لا خبرة لي كالرفقاء في هذا المجال ، فمن الممكن أن أخلط بين الأسماء في هكذا أمور، ومن الممكن أن أخطئ! فعلى الرفقاء إيقاظي و تنبيهي، و من حقّي عليهم أن يُطلعوني على هذه الأمور!
نعم كنت راجعًا و كان الجوّ باردًا إلى حدٍّ ما، و كان الحرم فارغًا جدًا، فتعجبت كثيرًا، كيف يكون الحرم غير مزدحمٍ؟ لا أدري ماذا حصل الليلة! قلت في نفسي: لماذا يكون الحرم خاليًا من الناس؟ الشوارع خالية؟ مع أنَّ الموسم كان موسم زيارة، فقد كانت هنالك مناسبة يكثر فيها الزوّار عادةً، وبينما أنا كذلك إذا بعددٍ من الأشخاص قادمين، فقال أحدهم: إنَّنا لم نذهب للزيارة لحدّ الآن!
فأجابه الآخر: ولكن سيفوتنا المسلسل! إنّ الإمام الرضا لن يذهب بل هو باقٍ في مكانه! أمّا المسلسل فإنّه سيفوتنا! أسرع!
ثمّ ذهبوا مسرعين! وعندها علمتُ ما هو السبب الكامن وراء قلّة عدد الزائرين في حرم الإمام الرضا على الرغم من وجود مناسبة زيارة؟ السبب هو المسلسل! و هذا هواء أيضًا.

    

اختلاف مراتب الناس باختلاف معرفتهم

فانظروا، إنّنا الآن نستطيع أن نفهم معنى كلام المرحوم العلاّمة حيث كان يقول: إنّ مقدار الثواب يتوقّف على مقدار المعرفة التي عند الزائر! هنا يظهر معنى هذا الكلام.
قال رسول الله: يُدفن في طوس بضعة منّي، من زاره فله أجر حجّة وعمرة.
فتتعجب عائشة وتقول: حجّة وعمرة؟! حجّة وعمرة؟ كيف ذلك؟! فالحاجّ يذهب ويلبّي ويُحرم ويذهب إلى عرفات والمشعر، وغيرها من الأعمال الشاقّة.
فيقول الرسول: له حجّتان وعمرتان مقبولتان! (و الجدير بالذكر أنّه يقول: مقبولتان أيضًا).
فيزداد تعجب عائشة.
فيزيد الرسول في العدد حتّى يصل إلى العشرة، ثم المائة، ثم يصل إلى الألف! يعني حتّى يصل أجر الزيارة إلى أجر ألف حجّة وعمرة مقبولة!
و لكن ما هو تصوّر أمثال هؤلاء الأشخاص عن معنى هذه الروايات؟ أظنّ أنّ مثل هذا السيّد [الذي أخّر الزيارة لأجل مباراة الكرة كان سيقول:]
نعم، نعم، للزيارة ثواب! لزيارة الإمام الرضا ثواب!
و لهذا السبب فأنا لا أعتقد بأنَّهم سيعطون لإمام الجماعة هذا حتّى أجر زيارةٍ لمقبرةٍ مقابل زيارته بهذه الطريقة؛ فضلاً عن إعطائه ثواب حجٍّ أو عمرةٍ مقبولة أو ما هو أعظم من ذلك!! إنّ مثل هذا هو من يستخفّ بالروايات ولا يستطيع فهمها، ولذا تراه يُرجِّح لعبة كرة القدم الفلانية على زيارة الإمام، ويقول يمكن الذهاب للزيارة غدًا! الذهاب الليلة يُفقدنا اللعبة! هل التفتّم؟! فهذا نوع من المعرفة، و في المقابل نجد نوعًا آخر من المعرفة، حيث يقول [المرحوم العلاّمة الطهرانيّ]: لو جئتَ لزيارة الإمام الرضا من أقصى الدنيا إلى خراسان حبوًا على الثلج، فما فعلتَ شيئًا مهمّاً.
هذه معرفة أخرى! فكم هو الفارق بين المعرفتين؟ علمًا أنَّه صادق في قوله، و هو مستعدّ أن يأتي، فذلك الذي ينطق بهذا الكلام صادق في قوله، وهو مستعدّ لتنفيذه ؛ غاية الأمر أنّ ذلك لم يتحقّق خارجًا، و لكنّ كان مستعدًّا للمجيء زحفًا كما قال، و كان سيأتي لو اقتضى الأمر ذلك! فنحن نعلم بأنَّه أهلٌ لها، و لا يقول هذا الكلام مبالغة أو تصنّعًا! فهل تلكما الحالتان متساويتان؟ هل هذان سيّان ؟!
فذلك الذي يقول: (لنذهب حتّى نُدرك مسلسل زُليخا، فالإمام سيظلّ في مكانه)، أو ذاك الذي يقول: (نؤخّر الزيارة لكي لا تفوتنا مباراة انجلترا و كذا، فزيارة الإمام يمكن الإتيان بها بأيّ وقت): هل هؤلاء مثل هذا ؟! فهل كلتا الحالتين بنفس المستوى؟ ألهما نفس القدر؟
فهذا الذي يقول: ليس الآن ، و سأذهب لاحقًا، و هو يتعلّل بأنواع العلل، ثمّ إذا ما جاء بعد التي و اللتيا إلى مجالس الذكر و مجالس سيّد الشهداء و مجالس العزاء وغيرها، فإنّه سرعان ما يملّ منها و يقول: متى سيُختتم هذا المجلس؟ متى سينهي ذلك الخطيب كلامه؟ لقد نفذ صبري، متى ينتهي مجلسه؟ و يكون دائمًا في حالة ملل و ضجر... حتّى أنّ صاحبه الذي أحضره يقول: لقد ندمت على جلبي إيّاك معي إلى هذا المكان، و في نهاية المطاف ينهض و عند خروجه يشعر أنّه قد تحرّر!! و كأنه قد خرج من قفص، وكأنَّه كان مُكبَّلاً بالسلاسل، ثم فُكّ أسره، فيخرج ليتنفّس الصعداء! أمّا الآخر فيقول: ليت المجلس يستمر أكثر من هذا، ليت قارئ العزاء يستمرّ بالقراءة أكثر.
ما هو سبب هذا الاختلاف بين الحالتين؟ لماذا يكون هذا بهذا الشكل، وذاك على ذلك المنوال؟ إنّ السرّ في ذلك أمرٌ باطني و حركة باطنيّة.

    

الانجذاب الباطني يبدأ قليلاً ثمّ يزداد بالاستقامة

كنَّا جالسين في كربلاء بمحضر المرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله عليه، وكان المرحوم العلاّمة يشرح حالات رفقائه للسيّد الحدّاد، فلان هكذا و له هذه الخصوصيّات ... فكان يبتسم ابتسامة، أما بشأن البعض الآخر فقد كان يلتفت بشكل خاصّ، وكان يسكت بشأن البعض، وهكذا، فقد كان السيّد العلاّمة يشرح حالات الرفقاء والأصدقاء للسيّد الحدّاد واحدًا تلو الآخر، وبسبب التفات سماحته باطنيًا إلى الحالة الخاصّة لكلٍّ منهم ، كانت تظهر علاماتٍ معيّنة تعكس ذلك على قسمات وجهه المبارك في الظاهر، حتّى وصل إلى أحد الأشخاص، فابتدأه السيّد الحدّاد قائلاً: كيف حال فلان؟ يعني هو الذي ذكر اسمه و سأل عنه، فأجاب السيّد العلاّمة قائلاً: لقد أدرك شيئاً، و فهم أنّ هناك خبرًا، و هذا يجعله متمسّكًا لا يترك بسهولة.
فقال السيد الحدّاد: نعم، نعم، الأمر كما تقول، ولكن عليه أن يتابع ويستمرّ. يعني السيّد الحدّاد قال للسيّد العلاّمة: قل له: يجب عليه أن يتابع و يستمرّ، ولا يكتفِ بما لديه. كان يؤكّد هذا الأمر.
حسنًا ، إنّ المرحوم العلاّمة قال: لديه شيءٌ لا يدعه يترك بسهولة.
فالآن، ما هو ذلك الشيء الذي يمتلكه، والذي يجعله يتعلّق فلا يترك بسهولة؟ إنَّ ذلك الشيء الذي لا يدعه، هو ذلك الطلب الذي أودعه الله في الإنسان، فتأتي تلك الرغبة لتأخذ بيد الإنسان من أجل إيصاله إلى تلك الجهة حيث كماله، ومآله، ونهايته، فإذا ما حصلت موانع تحول دون وصوله إليها، فإنّ حالته هذه تُزيح الموانع عن طريقه، فلو جاءه صديق له، وقال له: لنذهب اليوم إلى المكان الفلاني، لأجابه: لا، لا أقدر أن أذهب لأنّ عندي عمل، إذ عليّ الذهاب إلى المجلس هذا اليوم...
و يأتي الآخر لأخذه إلى مكان آخر، أو تظهر مُشوِّقات و أمور جاذبة لتصرفه عن حضور المحاضرة، فيقول: لا، ويرجّح الذهاب إلى مجلس و حضور المحاضرة.

    

حقيقة الهداية الباطنية

و هاهنا يوجد أمثلة كثيرة.. أمثلة كثيرة، و قصص كثيرة حول كيفيّة ظهور تلك الرغبة الباطنيّة في جميع الظروف والمواقف الحياتيّة لتكون محورًا تنتظم حوله بقيّة الأمور والمواقف. هذا هو ما يُسمى بالهداية الباطنيّة، ألم تسمعوا بالهداية الباطنيّة؟ ورد عندنا أنّ لله هداية باطنيّة وهداية ظاهريّة، وله رسول باطنيّ ورسول ظاهريّ, فالهداية الباطنية هي هذه.
ثمّ يأتي العقل لتهيئة الأرضيّة على هذا الأساس، و ذلك أنّ هذا الأمر الباطنيّ أعمق من العقل.. أعمق من الشعور.. أعمق من الرغبة.. أعمق من التدبير، و أعمق من التقدير! إنّ هذا الأمر الباطنيّ العميق يجعل النفس ترتّب عقلها، و ميلها و إحساسها، بل و جميع خصوصيّاتها وجوانبها على أساسه، و تنظّم جميع أمورها بناءً عليه.
لقد أطلقوا على هذا الأمر الباطني أسماء كثيرًا: فتارةً يُسمّى توفيقًا، وتارة العناية الإلهيّة، أو العطف الربوبيّ، وتارةً العقل، والعشق الإلهيّ، والهداية الباطنيّة ... فهذه جميعًا شيء واحد و تقع في نفس الاتّجاه والأفق، و يمكن القول أنّها عبارات شتّى تُعبِّر عن معنى واحد.
إنَّ هذا الأمر هو الذي يشغل بال العظماء دائمًا، و هو أن نسأل الله أن يتفضّل علينا به:
بر سر تربت ما چون گذری همت خواه
                             که زیارتگه رندان جهان خواهد شد
(يقول: إذا ما مررت بتربتي فاطلب الهمّة، فهذه التربة ستكون مزارًا لأذكياء العالم.)

اعلموا أنّ قائل هذا الشعر هو حضرة الخواجة حافظ! وجناب الخواجة حافظ الشيرازي عارفٌ كبير ومعروف جدًا يقلّ نظيره، إذ قلّما جاء الزمان بمثله، قال المرحوم العلاّمة ذات مرّة: إنّ لمولانا درجاتٍ عاليةً من التوحيد والمعارف، وهو بحر من المعرفة، لكن حافظ أعلى! إنّ حافظ أعلى! غير أنَّ أشعار حافظ كانت في جانب من ذلك السير، بينما كان مولانا يهتمّ كثيرًا بالنواحي الأخلاقيّة والتربويّة. كان مولانا هذا بحرًا حقًا، كان بحرًا، كان بحرًا. أجل يقول جناب حافظ:
بر سر تربت ما چون گذری همت خواه
                             که زیارتگه رندان جهان خواهد شد

ما الذي يقوله؟ يقول: تعال فهاهنا كلّ شيء! فالهمّة هي تلك القوّة الباطنيّة، هي ذلك المحرّك الداخلي، فعليّك بتقويته؛ لأنّ هذا المحرّك عندما يصبح قويًّا، فإنّ جميع وجودك سوف يتبعه و ستكون حركتك سريعةً جدّاً، وحينئذٍ سوف لن تحتاج لأن يُقال لك: تعال هنا و اذهب هناك، و لن تحتاج إلى من يلاحقك و يحثّك، بل إنَّك ستمضي بنفسك سابقًا الجميع، و متقدّمًا عليهم، و علينا حينئذٍ أن نبحث عنك لأنّك ستكون قد حلّقت عاليًا تاركًا الجميع وراءك في حيرة! أجل:
بر سر تربت ما چون گذری همت خواه
                             که زیارتگه رندان جهان خواهد شد

    

كيف تحصل الهداية الباطنية ؟

إنَّ الحالة الباطنيّة هذه تحصل للإنسان عن طريق أسباب شتى، فإمّا أن تحصل للإنسان بواسطة حالة غيبيّة، أو عن طريق الاستماع إلى حديث الأفراد الواجدين لهذا الأمر وكلماتهم؛ فاطمئنان الإنسان بحديث العظماء، وإحرازه لصدق كلامهم و إحرازه لعدم خطأهم في الرؤية والبصيرة وشهود الحقائق ولمسها سيعمل على تقوية تلك الحقيقة الباطنيّة القلبيّة، وسيتحرّك نحو ذلك المقصد الباطني حتّى يصل إليه.
هذا هو الأمر الذي يطرحه الإمام السجّاد: يا رب، إنَّك أنت الذي أوجدّت ما في قلبي، لم أُوجده بنفسي.
عظُم يا سيّدي أملي! إنَّه عظيم جدًا ذلك الأمل وذلك المحرّك الذي في قلبي، وأنت الذي جعلته في قلبي! لم أُوجده بنفسي؛ فمن أنا حتّى أستطيع إيجاد حالٍ كهذا في نفسي؟! أو أُوجِد هذه الرغبة لديّ؟ أو أهيّئ هكذا هدف لي؟ فلو أنّك لم تجعل ذلك في نفسي، لكنت مثل بقيّة الأفراد الموجودين في الشوارع والأزقّة: حديثهم من الصباح حتّى المساء يكون عن الدولار والدينار، ارتفعت قيمة الدولار، وانخفضت قيمة اليورو... وعلى هذا المنوال! فيمضي الوقت من الصباح إلى المساء بالحديث عن هذه الأمور ... لماذا؟ لأنَّك يا ربّ لم تجعل في قلبه هذا الهدف و الأمل! إذ لو جعلته في قلبه لما ورد هذا الكلام في قلبه، ولما خطرت هذه الأمور في مخيّلته، ولمَا تمحور تفكيره حول هذه الأمور، ولما تمكّنت هذه القضايا من الاستيلاء على قلبه! تجده يرفع اليوم من شأن هذا، ليضع غدًا من شأن ذاك، يقوم اليوم بالترويج لهذا الشخص ، ثمّ ينكشف الخطأ الفادح، فيصيح : يا للخطب، يا ويلتاه! ثم تُعلم حقيقته بعد ذلك! وينكشف الخطأ للجميع؛ لتبدأ آلاف التبريرات!

    

حال من خلى قلبه من الأمل العظيم

سبب ذلك هو الخواء! قلبه خاوٍ! هذا القلب تملؤه أمورٌ أخرى؛ ففي هذا القلب قمامة.. في هذا القلب اعتباريّات وتوهّمات وتخيّلات.. في هذا القلب أمور دنيويّة وتقلّبات أحوالها.. في هذا القلب التجاء إلى غير الله و اعتماد على الأسباب الظاهريّة والماديّة؛ لذا نرى مسيره بهذا الشكل المتخبّط، فإذا ما تحدّثتَ عن الله، يضحك عليك (و إذا لم يضحك بالظاهر فإنَّه يضحك بقلبه)، و إذا ما تحدّثتَ عن الطريق إلى الله، [يقول:] ادعوا لنا الله ليوفقنا! ادعوا لنا! ادعوا لنا!
جاء أحدهم إلى المرحوم العلاّمة وكنت حاضرًا، وكان يقول: لا ندري أَ إلى الجنة أم إلى النار... و كان يُحرك يده هكذا، يعني: لا أدري هل ينتهي الأمر بي إلى الجنّة أم إلى النار!
يا عزيزي، لا تمشِ في هذا الطريق إذن! فبعد أن جئت إلى هذا المكان ، ما معنى هذا التصنُّع و التظاهر؟! فأنت تعلم بأنَّ هنا شيئًا ما، وتعلم بأنَّ حساب هذا المكان يختلف عن غيره، فلماذا تقول: لا ندري أ إلى الجنة أم إلى النار! و كان يُحرك يده هكذا! لا ندري أ إلى الجنة أم إلى النار!
وكنت أنظر إليه، لم أضحك عليه ظاهرًا، ولكنّي كنت أضحك بشدّة عليه في قلبي!
فما هذه الحركات؟! إنَّه لعب يا سيّد! لعب بالألفاظ، إنَّه تركيب لعدد من الجُمل، و حفظها وتعلّمها لاستعمالها في المكان المناسب وحسب ما تقتضيه الظروف! ليس إلاّ!
يا هذا إن كنت لا تعلم واقعًا، وتريد أن تعرف، فتعال؛ فالطريق موجود! تعال؛ سأُريك الطريق! سأُريك ما هو طريق جهنم، و لكن هل ستتخلّى عنه؟ أم أنّك متمسّك به بقوّة، و متشبّث به فلا تسمح لأحدٍ أن يسبقك؟!
كلاّ يا عزيزي! [ليس الطريق مخفيًا كما تزعم، فتعال لكي] أريك طريق جهنم وطريق الجنة، و أُعطيك مصاديقها واحدًا واحدًا.. جرّب ذلك فإنَّك سوف لن تخسر! اختبر ذلك لشهرين لا أكثر! بل اختبر ذلك لأربعين يومًا؛ فإذا ما رأيت حالتك قد تغيّرت، فعندها ستعلم بأنَّ هذا الأمر له واقعية، و أنّ ما يقال حقيقة لا خيال! و إلاّ, إذا رأيت أنَّه لم يحصل تغيّير في حالك، و أنّك لازلت على حالك السابق، فإنَّك لم تخسر شيئًا، وستعود إلى ما كنت عليه! فلم نأخذ منك شيئًا، ولم نُنزِل بك بلاءً.
هل اتّضح الأمر؟ و من هنا، فقد أصبح معلومًا بأنَّ كلّ ذلك لم يكن سوى كلمات، وأنّه لا يوجد شيء في الداخل [القلب]؛ إذ لو كان هنالك شيءٌ ما، لما كنتَ قد تلاعبت بالألفاظ بهذا الشكل، و من هنا يتّضح أن القلب خاوٍ.

    

من تمكّن الأمل العظيم في قلبه لا يستطيع التخلي عنه

يقول الإمام السجّاد عليه السلام: إنَّ ما يشغلني هو وجود ذلك الشيء في داخلي! فهنالك أمرٌ ما، يجذبني إلى هذا الاتّجاه، فأنا لست مثل أولئك الذين يُحرِّكون أيديهم هكذا ويقولون: (أ إلى الجنة أم إلى النار)، كلاّ، بل أنا حريص على هدفي و متمسّك به يا إلهي، و لن أتخلّى عنه! فأنت قد جعلتَ في داخلي شيئًا، جعلتَ في داخلي أملاً لا يتركني، و لكن ما الذي أفعله إذا كانت أعمالي وأفعالي لا تستطيع إيصالي إلى أُمنيّتي هذه! قل لي يا رب ماذا أفعل؟
فكون هذا الأمر موجودًا في داخلي هو مما لا شكّ فيه، فأنا أعلم أنَّ هنالك أمرًا ما، أعلم بوجود مسألة ما، و حالي كما قيل:
برقى از منزل ليلى بدرخشيد سحر
                             وه با خرمن مجنون دل افكار چه کرد
(يقول: لقد ومض برق من منزل ليلى سحرًا، فواهًا على ما فعل بقلب المجنون و أفكاره.‏)

لقد مسّني ذلك البرق! لقد غيّر ذلك البرق أحوالي! فعلمت أنَّ هنالك شيئًا ما، شيءٌ عظيم؛ وها أنا ذا قد علمت ذلك، فلا أستطيع تركه؛ فأنا إنسان، و لي عقل وإرادة ورغبة، وأريد الوصول إلى الكمال، فمجيئي إلى هذه الدنيا لم يكن عبثًا، وأنا أعلم بوجود أمر واقعيّ.. أعلم بوجود القدرة على ذلك.. أعلم أنّ ذلك ممكن و أنّ قابليّته موجودة.. أعلم كل ذلك، فهل أنا مجنون حتّى لا أُتابع الموضوع؟ إنَّه أمر عجيب حقًا! أن يعلم الإنسان كلّ ذلك، ثم يقول: ليس ذلك بالأمر المهمّ؛ إن حصل، فقد حصل، و إن لم يحصل، فلا يحصل!
ذات مرّة قال المرحوم السيّد الخوئي للمرحوم العلاّمة رضوان الله عليه: (يا سيّد محمّد حسين، لا تُتعب نفسك باتّباع هذا الطريق، فقد كنت مشيت فيه مدّةً، و أنا بالطبع فأنا لا أنكر هذه الأمور، و لكنّها تحصل للإنسان بشكل تلقائي!).
يا للعجب! فهل حصل لك ذلك؟! يعني هل كنت تملك هذه المقامات عندما غادرت الدنيا؟! رحمه الله، كان إنسانًا جيّدًا، كان المرحوم الخوئي إنسانًا جيدًا ، و كما يقول المرحوم العلاّمة: كان رجلاً طيّب النفس. و لكن [أيها السيّد الخوئي]، هل كنتَ مثل المرحوم القاضي رضوان الله عليه عندما ارتحلت عن الدنيا أم كنت مجرد إنسان عاديّ؟ هل تحصل تلك المقامات تلقائيّاً؟ يا للعجب!
عندما نقل السيّد العلاّمة هذه القصّة، كنّا في منزل الشيخ مطهّري رحمة الله عليهما، وكان الشيخ مطهّري قد دعانا للإفطار (كان ذلك في عصر الشاه) ، فلبّينا الدعوة و ذهبنا إلى منزله، غفر الله له، ورحمه الله، كان رجلاً متهجّدًا، مُحييًا للّيل، صاحب غيرةٍ وحميّةٍ، أين يوجد مثل ظفر أولئك في هذا العصر والزمان؟ لا يوجد حتّى ظفرهم ...
حسنًا، كان السيّد الوالد يقصّ تلك الحكاية للمرحوم المطهّري، وبعدها قال للشيخ مطهّري: (أيحصل ذلك تلقائيًا؟ يا للعجب! يا للعجب! بهذه السهولة، تحصل تلقائيّاً؟ يا سيّد، إنَّ ذلك يستلزم نزع الروح![و كان يرفع يده ويخفضها معدّدًا] يستلزم المراقبة! يستلزم السهر! يستلزم المجاهدة (و كان يؤكّد على هذا الأمر خصوصًا) . تحصل هذه الأمور بشكل تلقائي؟! تحصل هكذا؟!) و كان رحمه الله يسمع و يبكي.. كان المرحوم المطهّري يذرف الدموع باكيًا، رحمهم الله جميعًا.
كان السيّد الخوئي يقول له: يا سيّد محمّد حسين، لا تنشغل بهذه الأمور ؛ إذ على الطالب الاهتمام بدروسه! على الطالب الاهتمام بدروسه! فهذه الأمور تحصل تلقائيّاً!
فأجابه السيّد العلاّمة: تقول لي: على الطالب أن يهتمّ بدروسه! فهل أنا ممّن لا يهتم بدروسه؟!
([يقول سماحة السيد ممازحًا:] ولو كنت مكان المرحوم العلاّمة لقلت له كلامًا ثقيلاً! لا أقوله الآن! ولكنّه لم يكن لديه قلّة الأدب و الجرأة التي عندي! إذ كان مقام أدبه ومراعاته لمكانة الأستاذ يقتضي ذلك، و لكنَّني لو كنت مكانه و سمعت هذه الكلمات منه لكنت أقول له: الآن أبيّن لكم من هو الذي يجب عليه الاهتمام بدروسه ... )
حسنًا، أجابه المرحوم العلاّمة: (أنا الذي عليّ الاهتمام بدروسي؟ أنت تعلم بأنَّني من أذكى تلامذتك و أقدرهم و أكثرهم بحثًا وتحقيقًا، فأيّ نصيحةٍ هذه التي تنصحني بها؟ أنا مستعدٌّ للبحث معك في أيّ موضوع تختاره أنت و بحضور الطلاّب! كي يتّضح من هو الأعلم و الأدقّ في المسائل العلميّة: أنا أم أنت!)
في هكذا موقف لابدّ من الرّد! فلا يُفترض السماح للمقابل بالكلام بهذا الشكل، خصوصًا أنَّ الأمر متعلق بشرف الإنسان! فطريق الله هو شرف الإنسان، فغيرة الإنسان.. غيرته الدينيّة تفرض عليه الرّد.
يا سيّد، هذه أمور تحصل تلقائيّاً ؟!!
فهل هو خَلٌّ؟ حتّى يحصل تلقائيّاً؟ فحتّى الخَلّ لا يتحصل تلقائيّاً! هل هو خليط الدبس والطحينة بحيث إنَّك تذهب إلى أيّ محل فتشتري الطحينة و تخلطها فتحصل النتيجة بهذه البساطة؟!
هل صار المرحوم القاضي تلقائيّاً؟ هل وُجد المرحوم المولى حسين قلي الهمدانيّ تلقائيّاً؟ وُجِد هكذا تلقائيّاً! وُجِد هكذا! كان يمشي فإذا به صار المولى حسين قلي! صار المرحوم القاضي! صار السيّد أحمد الكربلائي! صار الشيخ محمّد البهاري! صار العلاّمة الطباطبائي! صار الميرزا جواد الملكي التبريزي! صار العلاّمة الطهراني! هل صاروا بشكل تلقائي! هكذا صاروا مرّة واحدة!
إنَّ هذا النمط من التفكير لا يُوصل صاحبه إلى نتيجة، بل يجعل الإنسان واقفًا على هذا الحال، يجعله ساكنًا.. يوقفه بلا فائدة.. يُوقفه ويُميت كافّة قابلياته، ويُميت ما أودعه الله فيه من القابليات و يقضي عليها!

    

في مدرسة العرفان: لابدّ من الفهم و التعقّل و الحريّة

أمّا رؤية أهل العرفان فتقول: ارتقِ! ارفع رأسك، وانظر ماذا هناك! ارتقِ بفهمك و استفد من عقلك و لو قليلاً، استفد من فطرتك، استعمل حريّتك! فقد خلقك الله حرّاً! فلست أسيرًا لأحد ولست أسيرًا لأذواق الآخرين ورغباتهم! فتعال بنفسك و انظر واعرف من أنت؟ و ما أنت؟ انظر بنفسك! فإن حاول أحدٌ أن يفرض عليك رأيه قائلاً:
ـ إنّ هذا هو الصواب!
ـ فأجبه: هذا مجرّد ادّعاء لا دليل عليه.
كنت أحضر درس "الشفاء" لأحد عباد الله، وكان هناك شخصٌ آخر، فحصل نقاش بيننا، و كان هذا الشخص مدير مكتب أحد الأفراد.. أحد عباد الله ممّن كان ذا منصب، ثمّ خُلع من منصبه فيما بعد و سقط... و لا داعي للخوض في تفاصيل ذلك، فقد أوكلنا الأمور إلى الله، فهو العالم بنفوس الناس و حقيقة الأمور، فلماذا نزجّ بأنفسنا و نحكم وبشأن هذه الأمور والقضايا و ... فنحن لا نعلم عن الأمور الشيء الكثير، فالله هو وحده العالم و هو أحسن قاضٍ وأحسن حاكم.
الحاصل أنّ هذا الشخص التفت إليّ وقال: إنَّ ما تطرحه الآن هو مخالف لآراء الشيخ فلان!
فقلت: إنَّ آراء الشيخ فلان بدورها تخالف آرائي!
فضحك الجالسين! فقلت: لقد أصبحنا متعادلين! ما المشكلة لو اختلف رأيي مع فلان؟! فليكن فلان ما يكون، فهل أُوحيَّ إليه؟ قل لي: هل هو نبي؟ هل هو إمام؟ هل هو جبرئيل مثلاً؟ إنَّه شخص، معمّم، و لم يكن سيّداً، أما أنا فسيّد! فهذه نقطة ترجيح لي، فهو شيخ، أمّا أنا فسيّد! [يبتسم سماحة السيد]
قال: كلامك يخالف كلامه.
قلت: بل كلامه يخالف كلامي! فأين المشكلة إذًا؟
و كان لسان حاله يقول: انظر إلى هذا الطالب الصغير! يقول كلامه يخالف كلامي.
ولكن هذا هو الواقع، و أنا أقول ذلك الآن أيضًا، فالأمر لم يتغيّر ، فكلنا بنفس المستوى، ولا ينبغي لنا أن ندّعي مقامًا لأنفسنا أعلى من الآخرين. فلتكن لدينا حريّة في أنفسنا!
فإنّ قال أحدهم: افعل ذلك، فلا يجب عليك أن تطيعه لمجرّد أمره. بل عليك أن تسأل: لماذا؟ وبأيّ دليل؟ ليُفصح عن دليله، فإذا كان دليله مقبولاً من قبل المحكمة.. محكمة العدل طبعًا، و كان كلامه منطقيّاً ومستساغًا عند العقل، على الإنسان أن يقبل، فلماذا لا يقبله الإنسان؟ نعم يقبله، إذ لماذا يُعارض الإنسان أمرًا ما بدون حُجّة؟ و ما الذي يدفع الإنسان لرفض أمرٍ منطقي و عقلائي؟ هل هو مجنون؟ لماذا يُعارض الإنسان الصدق؟ هل هو أبله؟ هل هو سفيه؟ لماذا يُعارض الإنسان العدل؟ لماذا يُعارض الإنسان النظام؟ لماذا يُعارض الإنسان التوحيد؟ لماذا يُعارض الإنسان الصدق والسداد؟ لماذا؟
و لماذا لا يُعارض الكذب؟ لماذا؟ لماذا لا يتوجب عليه رفض السرقة؟ لماذا لا يتوجب عليه رفض الغش؟ لماذا لا يتوجب عليه رفض المكر؟ لماذا؟ لماذا لا يتوجب عليه رفض الظلم؟ هل تعني بأنَّ علينا أن نكون مقلوبين؟ أيّ أن نتبادل أماكننا؟ كلاّ، فإذا كان الأمر هكذا، وهو ما تُحبونه، فلكم دينكم ولي دين!
يجب أن يكون طريق الإنسان، هو طريق الحقّ دائمًا، فكلّ من كان على هذا النهج، فمرحبًا به، فالصدق صدق، سواءً كان هنا، أو في فرنسا، أو أمريكا، أو أستراليا، أو أفريقيا أو أيّ بلد آخر؛ الصدق صدق، والشخص الصادق محترمٌ في جميع أنحاء العالم، والشخص الذي يكذب يكون مكروهًا ومطرودًا في أيّ مكان من العالم كان، لا فرق في ذلك.
السارق سارق، سواءً كان هنا، أو في أيّ مكان من العالم، فهو سارق.
و الصادق صادق أينما كان، هل التفتّم؟ إنَّ الأمر ليس على هذه الشاكلة بأن يكون الخمر حلالاً هنا، وحرامًا في مكان آخر، يكون طاهرًا هنا ونجسًا في مكان آخر. كلاّ يا عزيزي! أينما كان الخمر فهو خمرٌ، و الكذب كذبٌ أينما كان، بل إنَّه يمسي أسوء بدرجات عندما يكون هنا، الكذب هنا أسوء بألف مرّة منه في مكان آخر، ألف مرّة!
يقول العارف: كن حُرًا لنفسك! فما معنى أن تجعل عقلك ودينك ونفسك رهنًا لهذا وذاك؟ فإن قال هذا شيئًا، قلت : حاضر.
وإن قال ذلك شيئًا، قلت : حاضر!
فإذا قال ذلك ضدّه في الغد، تقول: حاضر!
وإذا ما قال ذلك ضدّه بعد الغد تقول: حاضر!
و كأنَّهم لم يعلّموك غير كلمة :حاضر!
كان المرحوم العلاّمة يقول عندما ذهبت إلى النجف، ذهبت لأصبح إنسانًا! كانت تلك هي عبارته! لا أن أكون عبدًا لهذا وذاك! لأصبح إنسانًا! لأجل نفسي، أردتُ أن أعرف بنفسي من أنا , و ماذا عليّ أن أفعل؟
فجاءوا وقالوا لي: دع فهمك جانبًا!
فأجبتهم: كلاّ، لن أدعه جانبًا! فأنا قد جئت هنا لكي أفهم! جئت إلى عتبة أمير المؤمنين عليه السلام لأرتقي بمستوى فهمي، وأنتم تقولون دع فهمك جانبًا؟
يقال: يا سيّد إذا كنت تفهم شيئًا، فعليك فتجاوز عنه الآن و اتركه ...
كلاّ! بل إذا فهمتُ أمرًا، فعليّ أن أتابعه إلى النهاية.
يقولون: تجاوز يا سيّد هذا الأمر الآن!
لماذا أتجاوزه؟ فأنا إن تجاوزت هذه القضيّة، فعليّ تجاوز تلك القضيّة المشابهة أيضًا؛ لأنّه إذا كان مقتضى الأمر أن أتجاوز هذه القضيّة، فعليّ تجاوز تلك القضيّة أيضًا، وإذا لم يكن عليَّ تجاوز هذه القضيّة، فلا ينبغي تجاوز تلك القضيّة أيضًا.
هكذا إنسان يُسمى حُرًا! ففي يوم عاشوراء، حُريّة الـحُرّ هي التي قد أنقذته! فقد رأى نفسه متحيّرة بين طريق الجنّة والنار، فهوكان يقول صادقًا: لا ندري أ إلى الجنّة أم إلى النار! ولم يكن يُحرِّك يده هكذا! بل طأطأ برأسه، ورأى الجنّة والنار أمامه حقًا! أمام قدميه! لقد رأى ذلك واقعًا!
أجل! فعندما يرى الإنسان أمرًا واقعًا، عندئذٍ يمكن أن يتحرّك، و يتغيّر!
فالحرّ رأى الأمر واقعًا كذلك! فما الذي يفعله؟ بسم الله![ففي هذا الجانب] عمر بن سعد، جهنّم، بل قعر جهنّم.. نزوات، وأهواء، وتعلّقات، وقاذورات، وبهائم، وحيوانات متوحشة تعيش في غابة، أو حديقة حيوانات، أين كلّ ذلك؟ في هذا الجانب!
و في الجانب الآخر: نورانيّة محضة، روحانيّة محضة.. تجرّد، وتوحيد، وتجليات الله، وجذبات الله! فإلى أيّهما أنظر، و أيّهما أختار؟
فيبدأ بالتفكير، و التأمّل، يا إلهي! فيحسب الأمور اثنان زائد اثنان يساوي أربعة، ثمّ يلتفت أنّ الوقت ينفد، وينقضي.. هيّا، خذ قرارك بسرعة، فالحرب على وشك أن تبدأ، و متى ما بدأت الحرب فقد تفوت الفرصة، فإذا ما ضربك سهم برقبتك في وقت الحرب، بينما أنت واقف تُقلِّب الأمور، فما الذي سيحصل؟! ففي الحرب لا يتقدّمون الحلوى! في الحرب سهمٌ وسيفٌ ورمحٌ وضربٌ و قتلٌ؛ فإذا كنت واقفًا في عسكر عمر بن سعد و أنت متردّد في نفسك تقول: أ أذهب أم لا أذهب؟ ماذا أعمل؟ ففاجأك سهمٌ في عنقك، فستُحشر حينئذٍ مع جيش عمر بن سعد!! فانتفض.. اخرج، ولا تتوقّف ولا لحظة، إذ لا ضمان عندنا و لا أمان من حصول ذلك!
هل تلتفتون أيّها الرفقاء إلى المسألة؟ إنَّها دقيقة جدًا، نعم! لم نُعطَ ضمانًا بأنّنا سنبقى أحياءً إلى الغد! ولم نُعطَ ضمانًا بأنّنا سنبقى أحياءً إلى السنة القادمة! ولذلك متى ما شعرت بأنَّك متردّد في مثل هذا الموقع، فاستعمل تلك الحريّة، وتلك الفطرة السليمة التي منحها الله لنا كأداة للتميّيز، واستمدّ منها، واخرج فورًا! اسحب نفسك خارجًا، ولا تؤجّل ذلك للغد؛ فلعلك تموت هذه الليلة في فراشك، فيكون موتك و أنت على شكّ! حينئذٍ ستكون قد متّ و أنت في حالة من الحيرة و التردّد! هذا هو الأمر!

    

أملنا عظيم و لكنّ عملنا سيّئ ؛ فما هو الحلّ ؟

يقول الإمام السجّاد عليه السلام: إلهي ماذا أفعل؟ ففي ذهني وقلبي أمل عظيم، عظُم يا سيّدي أملي، وأملي هو الوصول إليك، و أنت من زرع ذلك فيّ، و لكن ما الذي أفعله إن كان عملي لا يستطيع أن يوصلني إليك! إلهي انا مُتحيّرٌ عاجزٌ، و ها أنا أمدّ إليك يد الالتجاء.
فلا بدّ و الحال هذه أن تساعدني أنت، و أن تجد أنت حلًا لهذه الورطة التي أنا فيها، فكيف يكون ذلك؟ [الجواب:] فأعطني من عفوك بمقدار أملي! ألست أنت الله؟ فأعطني من عفوك و كرمك بمقدار أملي، أي أوصلني إليك، أوصلني إلى ذاتك، خُذ بيدي؛ هذا كلام الإمام السجاد، فانتبه!
فمن ذلك الجانب، قد جعلت في قلبي الرغبة في لقائك، أشعلت في قلبي نار الاشتياق للوصول إليك ، سلبتني النوم، سلبتني اليقظة، جعلت كل حياتي في إطار هذه الرغبة وهذا الطلب، و من هذا الجانب بقيت متحيّرًا لا أدري ماذا أفعل؟ قل لي يا رب: ماذا عليّ أن أعمل كي أصل؟ قل لي، فأنا كلّما أعمل أراني لا أستطيع الوصول! فلمّا كان الأمر هكذا، فأين ربوبيّتك يا رب؟
انتبهوا فالإمام السجّاد يعلّمنا ماذا نعمل الآن! فكلّ كلمة من كلمات دعاء أبي حمزة هذا معجزةٌ من معجزات الإمام السجّاد، إنَّه يعمل على تعليمنا، يقول: هذا هو حالنا؛ بدءً منّي أنا الإمام السجّاد، و وصولًا إليكم أنتم الجالسين هنا في هذا الزمان وهذه الليلة تتحدّثون عن دعائي، وتنقلون دعائي، فكلّنا واحد؛ فأنا الإمام السجّاد وأنتم الجالسون هنا [كلّنا واحد أمام الله]؛ فجميعنا ندعوا الله بقراءة نفس الدعاء؛ ولا تحسبوا أنّني أقرأ الدعاء رغم أنّني وصلت إلى مرادي و انتهت رحلتي، و أنّني إنَّما أقرأ لكي تعرفوا ماذا عليكم أن تفعلوا! كلاّ، ليس الأمر كذلك؛ بل حتّى أنا الإمام السجّاد هذا هو حالي أيضًا.
قلت لكم قبل عدة ليالي: إنّ الله يُري الإنسان أمورًا كي يعلم حقيقة وجود الله، و يفهم أن الربوبيّة حقّ ، و أنّ العبوديّة حقّ أيضًا؛ فكلاهما حقّ واقعًا، حتّى لا يكون الأمر مجرّد قراءة ، وإن كانت القراءة أمرًا جيّدًا أيضًا، فالمطالعة بحد ذاتها طريقٌ؛ لأنّ الإنسان عندما يقرأ هذه المسائل ، وعندما يسمع هذه المواضيع، يتفتّح ذهنه، وتزداد رغبته، ويشتدّ اشتياقه؛ فيبدأ بالحركة. إنّ قصص العظماء، والمسائل الأخلاقيّة لكلٍّ منها دور في هذا الموضوع، و لكن يبقى أنّه لا بدّ للإنسان أن يتذوّق بنفسه لكي يُدرك تلك الحقيقة، و الله يُذيق الجميع؛ فإذا ما رفع الله يده عن العبد و لو للحظة واحدة، فسيرى الإنسان حينئذٍ بأنَّه أسوء مَنْ في الأرض؛ يسحب الله موكلاً الإنسان لنفسه للحظةٍ واحدة، و حينئذٍ: انظر إلى نفسك الآن.
ولذا كان المرحوم الحدّاد يقول (و أنا أذكر ذلك نقلاً عن المرحوم العلاّمة طبعًا، لأنَّني لم أسمع ذلك منه): عندما أنظرُ إليه [يعني إلى الله تعالى]، أرى بأنَّ كلامًا واحدًا لي يكون أعظم من أربعة آلاف معجزة من معاجز الأنبياء؛ و لكن عندما أنظر إلى نفسي، أرى بأنَّ الله لم يخلق مخلوقًا على الأرض يكون أسوء منّي.
فما هذا؟ ما الأمر؟ و ما حقيقة القضيّة؟ و كيف يمكن للإنسان أن يكون كذلك؟
في الحقيقة هاهنا مرتبتان: فعندما ينظر إليه يرى عظمة الربوبيّة، ولا يرى نفسه؛ وحينئذٍ يرى عظمة الربوبيّة تكون أعظم من الأنبياء بالطبع! فما بالك بمعاجزهم؟! فالمعجزة من الآثار النازلة من وجود النبي، و من هنا عندما يكون نظره متوجهًا إليه، لا يرى نفسه، بل يراه هو؛ و إذا رآه هو فلا يمكن تصوّر شيء يكون أعلى منه أو أعظم.
أمّا عندما ينظر إلى نفسه ـ بدون عناية الله ـ فسيرى بأنَّ الله لم يخلق موجودًا أسوء منه!
على الإنسان أن يفهم ذلك و يدركه واقعًا! عليه التحرّك بهذا الاتّجاه.. عليه التحرك ضمن هذا الأفق، يُريد الإمام السجّاد أن يدفعنا لنبدأ بالحركة و السير ، يُريد أن يُحرّكنا، ويُخرجنا من مجرّد القراءة و المطالعة، و من هذه المقالة و من رأي فلانٍ ورأيي أنا، فهذا يقول: رأيّي هكذا، وذاك يردّ : بل أظنّ ان الأمر بذاك الشكل ... و أمثال هذه المهازل! يريد أن يُخرجنا منها، من "رأيي كذا" و "أعتقد أن الأمر بهذا الشكل" ، و من المقالات والكتب وهذه المواضيع التي ألّفها كل شخصٍ وفقًا لتخيّلاته وأوهامه ووفقًا لمجموعة مواضيع قام بتركيبها و إعادة صياغتها، فصارت أشبه بالأساطير و القصص الخرافية... نعم، ليُخرجنا من هذه.
يقول الإمام السجّاد عليه السلام: هذا أنت! تفضّل، ليس بيننا نزاع بهذا الشكل، لا حاجة للذهاب هنا وهناك؛ فهو الربّ وأنت العبد، فانظر إلى عبوديّتك، وانظر ـ دائمًا ـ إلى ربوبيّته. فإذا أردت النظر إلى عبوديّتك فإنَّك ستنتكس، ستثبط عزيمتك، وستفقد الأمل، ألم تلاحظوا ذلك؟ لقد لاحظ الرفقاء كيف أنَّ البعض كانوا أحيانًا يقولون: لقد ذهب فلان، والذي كان ملازمًا للعلاّمة لسنوات طويلة! وذهب فلان كذلك ... و أنا استشكل و أقول: ذهب، ليذهب ! ذلك ما كنّا نبغي.
يقال: ماذا حصل لفلان ، و لماذا ترك على الرغم من كل تلك المدة الطويلة التي قضّاها لدى المرحوم العلاّمة؟
ـ لقد حصل ما حصل، فما الذي يهمّك؟
لماذا لا تنظرون إلى المرحوم العلاّمة؟ لماذا لا تنظرون إلى أولئك العظماء؟ لماذا لا تنظرون إلى أولئك الأولياء؟ ما هذا النقص الذي يعترينا بحيث لا يجعلنا ننظر إلاّ إلى نقاط الضعف؟ يجب معالجة هذا، فهذا شيء خاطئ.
بالطبع فإنَّه لا يُفترض بالإنسان أن يكون مُتفائلاً أكثر من اللازم، و لكن عليه ألاّ يكون مُتشائمًا إلى الحدّ الذي يصاب به باليأس؛ أوَلسنا عباد الله؟ أ لله عباد آخرون؟ فنحن عبيده إذن، والله تعالى منذ البداية لم يخلقنا معصومين ؛ فنحن منذ البداية لم نصل هذا المقام ولم يُكتب ذلك على جباهنا؛ فهذا هو حالنا، وهذا هو حال الجميع، فنحن مثل بعضنا، فأنا مثلكم، بل أنتم أفضل منّي، ولا يوجد تفاوت كبير بيننا، و طبقًا لكلام المرحوم العلاّمة حيث كان يقول (و الحقّ كما قال سماحته، فنحن كنّا أحيانًا نتصوَّر [أنّه ربّما كان مبالغة]، و لكن في النهاية هذه المواضيع تتكرّر كثيرًا على لسان أهل المعرفة) .. كان يقول: على الجميع أن يروا أنفسهم مع غيرهم كأسنان المشط.
كنّا نرى أنَّ ذلك كلامًا صحيحًا، ولكن كيف يمكن [تطبيق ذلك]؟!
و لكنَّنا نرى الآن بأنَّ كلام سماحته صحيحٌ، واللهِ إنّ ما كان يقوله صحيحٌ! فالكلّ كأسنان المشط، وذلك الذي يرى بأنّ أحد الأسنان قد ارتفع عن البقيّة، ذلك شخص لديه مشكلة! ذلك ضُرب من تحت قدمه، بحيث ارتفع راسه، فيتصوّر بأنَّه أعلى من الآخرين! فهذا هو الخاسر!
يقول الإمام السجّاد: عليكم إيجاد هذا الحال في أنفسكم، يجب أن يكون لديكم أملٌ برحمة الله، لماذا؟ لأنَّه لدينا من ذلك الجانب ربٌّ جيّد؛ فربنا ربّ جيّدٌ جدًا! ولذا يجب أن يكون لدينا أملٌ بالوصول، وهو أمرٌ واقعيّ، ويجب أن يترسّخ في أنفسنا؛ و لكن يجب ألاّ نرى أنفسنا عظيمة و يصيبنا ما أصاب ذلك الشخص من الغرور:
فقد كان المرحوم العلاّمة قد أوصى أحد الأشخاص سابقًا بالذهاب إلى الشيخ مطهّري والارتباط به، فكان يتصوّر بأنَّ دستور العلاّمة هذا يعني أنّه قد صار شخصًا مهمًّا. لا يا هذا، لقد كان ذلك لأمرٍ مّا يستوجب أن يكون بينكما هذه العلاقة.
لقد قال لي هذا الشخص يومًا: بنظرك ، من هو أعلى تلامذة العلاّمة من حيث القابليات و ما شابه ذلك؟ (واللطيف أنّه كان يقول بعض الشعر أحيانًا ... نعم! لم يكن شعرًا جيّدًا في الواقع).
لقد فهمت ما كان يرمي إليه، فتظاهرت بعدم إدراك مغزاه، فقلت:
لا أعلم، أنا لا أفهم من هذه الأمور شيئًا.
فأخذ يلفّ ويدور ، وفي نهاية المطاف قال هكذا: هو ذلك الشخص الذي يمتلك عقل وتدبير الشيخ المطهّري، و عنده صفاء السيّد مرتضى الرضويّ وطهارته.
فقلت له: أتتصوّر بأنَّ ذلك هو أنت؟ بعدها قلت له شيئًا ما؛ فأصبح لونه كالبنجر! أحمر!
حسنًا، لقد وصل الأمر بهذا الشخص بعد ذلك بمدّة إلى الدرجة التي كان يُرسل فيها رسالةً في غاية القبح إلى المرحوم العلاّمة و كنت أرى رسائله؛ و كيف كانت؟! كانت بالشكل الذي يخجل معها حتّى السَّوَقة و أبناء الشوارع من أن يخاطبوا بعضهم البعض بتلك العبارات! كان يخاطب المرحوم العلاّمة بتلك العبارات! نعم هذا الشخص!
فإذا ما أردنا أن ننظر إلى أنفسنا، فهذا هو حالنا.
فرحم الله العظماء، جميعهم؛ فإذا ما نظرنا إلى أنفسنا، فتلك هي عاقبتنا، ولكنَّا إذا نظرنا إليه، إلى ربوبيّته، إلى عطفه، كما يُعلّمنا ذلك الإمام السجّاد: فأعطني من عفوك بمقدار أملي، أعطني من عفوك، فعملي سيّئ، فبالنسبة إلى عملي: ساء عملي، فأنا لا أستطيع، ولذا : فأعطني من عفوك بمقدار أملي، ولا تؤاخذني بأسوأ عملي.. لا تنظر إلى معاصيَّ، وأغمض عنها.
لقد أصبح معلومًا من خلال دعاء الإمام بأنَّ الله كذلك واقعًا، فلو لم يكن كذلك لما قال ذلك الإمام السجّاد، و بالتالي فقد بات معلومًا أنَّ ما يقوله الإمام السجّاد الآن له وجود وواقعيّة. جيّدٌ جدًا، فعلينا إذن أن نتعلّم، ثمّ علينا أن نعمل و نطبّق.. علينا أن نعمل وفقًا لتلك الأمور، وأن نُحقّقها في أنفسنا، علينا أن نجلس ونُفكّر.. أن نختلي بأنفسنا، فنتفحَّص الأمور، ونقلّب هذه المسائل لنرى كيف يمكن أن تكون، فالإمام السجّاد يقول: إنَّ ذلك ممكن!

    

نماذج واقعية للرحمة الباطنية من الله لعباده

حسنًا أنا أحد الذين ينطبق عليهم هذا الكلام.. أنا أحدهم؛ وإلاّ فمنْ كان الفضيل بن عياض؟ كان قاطع طرق.. كان لصّاً.. كان يتربّص بالمسافرين عند عقبات الجبال، و كان الجميع يخاف منه حتّى إنّه عندما كان يُقال للقافلة: إنَّ الفضيل سيهجم عليهم، كانت ترتعد فرائصهم من الخوف؛ ثم كان عاقبة أمره أن أصبح من أصحاب سرّ الإمام الصادق! فمن الذي فعل هذا به؟؟ بالطبع فقد انقدحت في قلبه شرارة في منتصف الليل ... وقصته مذكورة بالتفصيل [2] .
من الذي فعل هذا؟ فعله الله! فالإمام السجّاد يقول: كذلك هو الأمر؛ هل تريد أن أُريك نموذجًا، أُريك نموذج بشر الحافي، هذا أحد النماذج ... بل لننظر إلى أنفسنا! ماذا كنَّا، أين كنَّا، كيف تبدّلنا؟ كيف تبدّلت أحوالنا دفعةً واحدةً؟ كيف حصل الأمر؟
و قصّة السريّ السقطيّ مع تحفة، التي نقلها المرحوم العلاّمة (و لا أدري فيما إذا كان الرفقاء قد سمعوا بها أم لا)، وهي موجودة في كتب التراجم. اقرؤوا كتب العرفاء وانظروا؛ كم من الأشخاص كانوا يعملون ما يعملون، [ثمّ هداهم الله و أخذ بأيديهم]، و من ذلك قصّة الميرزا محمّد جعفر كبودر آهنگي مع تلك المرأة التي كانت في همدان و غیرها 0الکثیر...
أتذكّر.. نعم أتذكر جيدًا.. كان السيّد العلاّمة يتحدّث في ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان، ولا أدري فيما إذا كان قد تمّ تسجيل المحاضرة أم لا.. لا أعتقد أنَّه قد تم تسجيلها.. كان يبيّن في ليلة الثالث والعشرين كيف أنَّ الله مُقلِّب القلوب، وكيف أنَّ الله مُقلِّب الأحوال، وكيف يُغيّر الله التقدير، كان يتحدث ثمّ ذكر هذه القصة، وهي قصة طويلة، [أذكرها] باختصار، ولربما كنت قد ذكرتها للرفقاء، و خلاصتها أنّه كان في كبودرآهنگ وهي قرية كانت خارج مدينة همدان، وهي الآن في منطقة باسم كبودرآهنگ تبعُد بمسافة، وكان هذا العالم المحترم العظيم يعيش فيها ، فتأتي مجموعة من البلطجية بقصد إيذائه، والتعرّض له، وبالطبع فإنَّه كان قد تمّ تحريضهم من قبل فئةٍ ما، وخلاصة الأمر فإنَّهم يقيمون حفلةً [و يدعون هذا العالم إليها]، ويدعون امرأةً لتكون بمثابة نجمة الحفل ، و الغرض واضح من ذلك.
فجاءت هذه المرأة حاملةً بيدها قدحًا من الخمر وقدّمته إليه؛ فيطرق برأسه إلى الأرض؛ و عندما يحاول الخروج من المنزل، يجد أن الباب موصد؛ فيجلس مُطرقًا برأسه، فتأتيه وتقول له: تفضّل!
فيبقى مطرقًا برأسه ـ فهو لا يستطيع النظر إليها! فماذا يفعل؟! فيظلّ ساكتًا لا يتكلم؛ فتقوم بالدوران حول المجلس وتأتي لتقدم له القدح؛ وفي المرة الثالثة عندما تأتي لتقدّم له الخمر، تقول:
گر خود نمی پسندی تغیییر ده قضا را [3].
(يقول: إذا لم يُعجبك هذا فقم بتغيّير القضاء.)

فيرفع رأسه ويقول: قد فعلت ذلك! (غيَّرتُ القضاء).
فماذا حصل! صاحت صيحةً، ثمّ شرعت تُكسِّر أواني الخمر، و صارت تركض هنا وهناك صائحة، وبادرت لتُغطّي نفسها ببطانيّة أو فراش أو أيّ شيء موجودٍ ؛ إذ لم تكن تلبس شيئًا يعتدّ به! ثمّ تخرج من الباب و الجميع مبهوتين ... وبذلك تفسد المؤامرة.
فتذهب و لم يقف أحد على خبر لها، فيسألون هذا العالم عنها: ماذا عن فلانة؟ أين ذهبت؟
فقال: ذهبت والتحقت بالمكان الذي يجب أن تذهب إليه؛ ذهبت إلى ذلك الهدف الذي يجب أن تصِل إليه. و من الواضح أنّه كان عندها خصوصية حتّى نالت هذا التوفيق.. لابدّ و أنَّه كان هنالك شيء، فلا يمكن أن يكون ذلك دون سبب.
حسنًا، من كان هؤلاء؟ [كانوا أشخاصًا عاديين] انقدحت في قلوبهم شرارة، فالتهبت النار في أرواحهم، فتحرّكوا وذهبوا، و يوجد من أمثال هؤلاء إلى ما شاء الله! نعم؟ هكذا تكون الأمور مع أولياء الله! أجل قالت:
گر خود نمی پسندی تغیییر ده قضا را.
ثمّ يقولون إنَّ هذا الشخص متصوّف و كافر ، و كلامه هذيان و... لا يا عزيزي! [علينا أن نهتمّ بأنفسنا و نحاسبها] ، و نتمنّى ألاّ يرجع الناس عن دينهم بسبب كلامي وكلامك، ولذا فلا تُعطِ رأيك بهؤلاء الأعاظم!
نعم، هذا هو الطريق الذي يُرينا إيّاه الإمام عليه السلام: فأعطني من عفوك بمقدار أملي، ولا تؤاخذني بأسوأ عملي.
نقوم باستكمال الحديث عن الموضوع مساء الغد، إن شاء الله.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد


 


[1] ـ ديوان حافظ عليه الرحمة.

[2] ـ يمكن للقارئ الكريم قراءة قصة الفضيل في محاضرة (التوبة النصوح و احترام العلماء) للعلامة الطهراني رضوان الله عليه

[3] ـ و هو عجز بيت معروف للخواجة حافظ الشيرازي، يقول فيه: در کوی نیک نامان ما را گذر ندادند                              گر خود نمی‌پسندی تغییر ده قضا را
ترجمته: لقد منعونا من العبور من حيّ حسنيّ السُمعة، فإذا لم يُعجبك هذا فقم بتغيّير القضاء.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی