معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 هـ ـ المحاضرة 6: كيف تتبدّل السيئات إلى حسنات؟

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 هـ

المحاضرة السادسة:
كيف تتبدّل السيّئات إلى حسنات؟

ألقيت هذه المحاضرة في الليلة العاشرة من شهر رمضان المبارك
لعام 1434 هـ

ألقاها:

سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه اللـه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمّد وآله الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين

«عَظُمَ يا سَيِّدِي أَمَلِي، وَساءَ عَمَلِي، فَأَعْطِنِي مِنْ عَفْوِكَ بِمِقْدارِ أَمَلِي، ولا تُؤَاخِذْنِي بِأَسوَءِ عَمَلِي، فَإِنَّ كَرَمَكَ يَجِلُّ عَنْ مُجازاةِ الْمُذْنِبِينَ، وَحِلْمُكَ يَكْبُرُ عَنْ مُكافاةِ الْمُقَصِّرِين»‏.[1]

    

ما هي مواصفات أصحاب الأمل العظيم؟

لقد ذكرتُ في الليالي السابقة للأصدقاء أنّ هذه المسألة وهذا الرجاء وهذه الأمنيّة التي تتعلّق بالدخول في عالم الصفاء والصِدق والنور والروحانيّة لا تنسجم مع أفعالنا وأعمالنا الظاهريّة، بحيث أنّهما يقعان في مقابل بعضهما البعض تماماً. فمن ناحيةٍ نجد أنّ هناك ادّعاءٌ لطلب الوفود إلى حريم القدس الإلهيّ، ومن ناحيةٍ أخرى، نرى أنّ الأعمال مبتنيةٌ على أساس هوى النفس والأمور النفسانيّة والتعلّقات وعلى أساس المؤامرات والمكائد، والمراءِ والدسائس...، فكيف ينسجم هذا مع ذاك؟!؟ فهما يقعان في قبال بعضهما البعض! ومن جهة أخرى، نجد أنّ هناك هذه النيّة العظيمة التي يمتلكها الإنسان.
نعم، بعض الأشخاص ليس لديهم مثل هذه النيّة، فهم مرتاحون! ولا يُعانون من أيّةِ مشكلةٍ! فهم في راحةٍ تامّةٍ! يعيشون لأنفسهم فقط، يَصِلُون الليل بالنهار والنهار بالليل، فترى بأنّهم ما إن يَصِلون إلى المنزل حتّى يفتحوا التلفاز: لنرى ما هي الأخبار! لنرى من مات، ومن بقي حيّاً؟ لنرى في أيّ بلد انهارت الأسقف والبنايات على أصحابها!
حسنٌ جدّاً، لقد انهارت البنايات، فما علاقتك أنت بذلك؟ لقد سقطت طائرة في تلك الناحية من العالم ولقي خمسون شخصًا حتفهم! إذا كانوا قد ماتوا، فليرحمهم الله تعالى! لم يجبرهم أحد على ركوب الطائرة! فما علاقتك أنت بكلّ ذلك؟! ما هو الداعي لكي تستمع للأخبار وترى ما هي الأحداث التي وقعت؟! فهذا يُشوّش الذهن. لقد فاز فلان بالمسابقة الكذائيّة! هنيئاً له الفوز، لكن ما علاقتك أنت بذلك؟ أنت جالس هنا تُسَرُّ لأنّ هذا ضرب الكرة، أو تحزن لأنّ ذاك لم يفعل.
قبل عدّةِ سنوات، كنت في منزل أحد الأقرباء بطهران، وكان جهاز التلفاز يعمل، فتمّ إعلان أن الفريق الإيراني قد خسر في إحدى المسابقات. حسنًا، لقد اِنهزم، فماذا بعد ذلك؟! فالإنسان [في هذه المسابقات] إمّا أن يربح أو أن ينهزم، ولا يوجد أيّ داعٍ للفرح والسرور أو البكاء! فلمّا انتهت المسألة، كان هناك شخصان، فشرعا بكلّ حماس في بيان الأمر: «هذا فعل كذا، وذاك قام بكذا، هذا ضَرب وذاك ضُرب و...» فكانا في وضعيّةٍ عجيبةٍ! فصرت أتأمّل في حالهما، وحاولت أن أفهم الأجواء التي يعيشانها، مع أنّني لم أكن مهتمّاً بمن ضَرب أو ضُرب، لكنّ حديثهما كان مفيدًا جدًّا بالنسبة لي!! وموجباً لفرحي وابتهاجي! وسبباً للتفريح عن النفس! فكلامُهما سيُساهم في هضمنا للطعام!
ثمّ إنّ الفريق الإيراني المسكين انهزم! وخلاصة القول أنّني لا أعلم في أيّة مسابقة كان ذلك، لكنّ المهمّ أنّني رأيت أحدهما قد شرع في البكاء! فرأيته بعيني يبكي مع أنّه كان كالدبّ الضخم يزن مائة وستّين كيلوغرامًا! يا للعجب! لقد أصبت بالذهول: انظر إلى هذا! إنّه يبكي! فماذا يُمكن للإنسان ـ والحال هذه ـ أن يُطلق على شخصٍ كهذا؟! فلقد كان في الخمسين من عمره تقريبا، وأنا لا أعلم كم كان عمره بالضبط، لكنّه كان يزن مائة وستّين أو مائة وسبعين كيلوغراماً تقريباً، فلم يكن يُعاني أيّ نقص من هذه الجهة! فإلى أيّ حدّ ينبغي على الإنسان أن يخضع للإحساسات والعواطف حتّى يكون مثل طفلٍ ذي خمس سنوات؟! فأين ذهبت إنسانيّتهُ، وأين ذهبت رجولتهُ، وأين ذهبت هويّتهُ؟! فانظروا إلى أيّ حدٍّ نحن متأخّرون، وإلى أيّ درجةٍ نحن متسافلون! أفهل يُؤدّي ضرب الكرة أو عدم ضربها إلى البعث على البكاء؟! فلماذا تبكي إذن أيّها الدبّ السمين؟!، ينبغي أن تخجل من نفسك! فلو أنّ ابنه بكى، لكان عليه أن يخجل، فما بالك به هو؟!
بعض الأشخاص لا همّ لهم إلاّ هذه المسائل: في أيّة نقطة من العالم حدث زلزال؟ وأين سقطت [طائرة]؟ وأين حدث كذا ؟ و... هذا همّهم فحسب! وعندما يحلّ الصباح فقد يُقيم الصلاة أو لا يُقيمها، ثمّ ينهض ويغسلُ يديهِ ووجههُ، ويتناول الفطور، ويذهب للعمل، ثمّ يأتي وقت الظهر والليل و... فهؤلاء في راحةٍ تامّةٍ! ولا يُعانونَ من أيّة مشكلةٍ! ولا يهتمّون بأيّ شيء!
ولكن ماذا عن الأشخاص الذين يشغل بالَهم أمرٌ ما، وقلوبُهم مشغولةٌ بمسألةٍ معيّنةٍ؟ فالأشخاص من الفئة الأولى لا يهتمّون بالأعمال التي يقومون بها؛ فلو أنّهم ارتكبوا الكذب من الصباح إلى المساء، فلن يُحرّك ذلك فيهم ساكناً! وقد يحتالون، وقد يكذبون على فلان، ‌فيقول له: «نحن لم نقم بهذا العمل (مع أنّهم قاموا به)، وقمنا بهذا العمل (مع أنّهم لم يقوموا به)» ، وقد يستولون على مال هذا، ويستولون على مال ذاك! فهم في راحةٍ تامّةٍ! ولا علاقة لنا بهؤلاء! وأمّا ذاك الذي يشغل بالَهُ أمرٌ ما، وتجول في قلبه مسألةٌ عظيمةٌ (وليس هذه التفاهات ووسائل اللعب الدنيويّة)، فتجول في ذهنه مسألةٌ عظيمةٌ، ويصبو قلبه لوصال المحبوب، فماذا عليه أن يفعل؟ ففي نهاية المطاف ثمّة هناك مثل هؤلاء الأشخاص الذين يختلفون عن الأشخاص العاديّين.

    

كيف يحافظ الإنسان على استقامته رغم الصعوبات؟‌

كان المرحوم العلاّمة [الطهراني] يقول مرارًا وتكرارًا:
عندما أتيت إلى قمّ، كنت أحمل في البداية تصوّراً خاصّاً عن العلماء وأهل العلم، وعن مختلف الأشخاص. لكن عندما دخلت في العمق أكثر، وخالطت هؤلاء الأشخاص، ودخلت منازلهم، وتعرّفت على بيوت [المراجع والعلماء] وعلى الأشخاص الذين كانوا يتردّدون عليها، وكنت أستمع إلى كلامهم، وأصغي إلى أقوالهم، رأيت أنّ ذلك لا ينسجم مع التصوّر الذي كنت أحمله؛ فشتّان بين ما كنت أعتقدهُ وبين ما ظهر لي بعد ذلك!
فكيف حصل ذلك؟!
ثمّ قال لنا:
لو أنّني لم ألتق هنا ببعض الأشخاص المعدودين ـ من أمثال المرحوم العلاّمة الطباطبائي رضوان الله عليه والمرحوم الشيخ عبّاس الطهراني رحمة الله عليه وثلّةٍ أخرى من العظماء نظير المرحوم الميرزا علي الشيرازي رحمة الله عليه الذي كان من الأخيار والصلحاء ـ لأضعت ديني! فاللقاء بهؤلاء العظماء هو الذي ساهم في أن أثبت على الطريق، وأصمد في هذا المسار الذي أنا فيه، وأمشي بخطواتٍ راسخةٍ.
يعني: مع أنّه كان هناك أولئك الأشخاص (أي: الفئة الأولى) ، إلّا أنّه في المقابل كان هناك أولئك العظماء أيضًا من أمثال العلاّمة الطباطبائي، والميرزا علي الشيرازي، والشيخ عبّاس الطهراني. أجل، فهؤلاء موجودون أيضًا، وهم بأجمعهم من أهل العلم والفضل ومن العظماء، فلماذا تنظر فقط إلى الفئة الأولى؟! لماذا لا تنظر إلى هؤلاء أيضًا؟ تعال وانظر إليهم، انظر إلى هؤلاء الأشخاص الذين يمشون وسط الناس بكلّ استقامةٍ وثباتٍ، ويعيشون حياتهم الخاصّة ويُؤدّون أعمالهم الخاصّة.
ثمّ قال:
لقد قابلت بعض الأشخاص من أمثال العلاّمة الطباطبائي والذي لا تأتي الملائكةُ على ذكر اسمه بغير طهارة ووضوء، والتقيت بأشخاص آخرين أستحيي حتّى أن أُطلق عليهم اسم إنسان، فضلاً عن أن أقول عنهم أنّهم مسلمون أو شيعة!
وكنّا نتعجّب كثيرًا من هذا الكلام، وكيف يُمكن أن يكون ذلك؟ وكيف يُمكن أن يحصل بهذه الكيفيّة؟
لكن بعد أن أتيت إلى الحوزة واشتغلت بالتحصيل، وبدأت بالبحث والتحقيق والتفحّص في الأمور قليلاً...، ففي ذلك الزمان لم أكن هادئًا وساكنًا كما عليه الحال الآن ـ [سماحة السيّد ممازحًا]: وأنا لا أعلم هل أنا هادئٌ الآن أم لا؟! ـ ، لكنّني في تلك الأيّام كنت أسعى للتنقيب في بعض المسائل وفهمها، فاكتشفت صحّة ما كان السيّد الوالد يذكره.
وكان يقول [المرحوم العلاّمة]:
عندما أتيت إلى النجف، وضعت القطن في أذناي الاثنتين، وقرّرت بأن أهتمّ بنفسي، ولا أرتبط بأيّ شخص آخر، اللهمّ إلاّ ثلّة خاصّة من العظماء، نظير المرحوم السيّد عبد الهادي الشيرازي، والمرحوم السيّد جمال الدين الكلبايكاني، والمرحوم الميرزا عبد الأعلى السبزواري (الذي تصدّى أخيراً ولمدّة قصيرة للمرجعيّة بعد وفاة المرحوم السيّد الخوئي)، والمرحوم الشيخ عبّاس هاتف القوجاني، (حيث كانت له علاقة بهؤلاء الأعاظم، ثمّ ارتبط بعد ذلك بالمرحوم الشيخ الأنصاري)، و قد أعرضت عن الاهتمام بما يقوله هذا وما يقوله ذاك، وما يفعله هذا وما يفعله ذاك تاركًا هذه المسائل لأهلها! فقد علمت أنّ الله تعالى خلق لهذه الأمور أهلاً! وأنّ هذه الأمور لن تتعرّض للضياع، فأهلها موجودون! ولأهتمّ بنفسي وببؤسي ومشاكلي وبما أتيت هنا لأجله وفي طلبه، ولأركّز اهتمامي على الأمر الذي التجأت من أجله إلى عتبة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام المحروسة بالملائكة؛ فعليَّ أن أسعى للاهتمام بهذا الألم.

    

ما هي الأسباب الموجبة لزوال الأمل العظيم؟

وهنا على الإنسان أن يكون منتبهاً، وأن يُقدّر جيّدًا مثل هذه المسائل التي انبثقت في وجوده! وعليه أن يستقبل هذا الضيف العزيز وهذا المسافر الذي أتى حديثًا، وأن يخدمه بأحسن وجهٍ، وألاّ يكون سبباً في إصابة هذا الضيف بالملل تجاهه، ولا يقوم بأيّ عمل يُؤدّي لتعبه وإنهاكه، وفقدانه بالتدريج للأهمّية والتأثير والإتقان. فهذا المسافر لا يطرق باب كلّ أحدٍ، وهذا الضيف لا يحلّ في منزل كلّ شخصٍ؛ فإذا ما اتّفق ونزل مجلّلاً هنا، على الإنسان أن يُرحّب به، ويقوم بواجبات الضيافة تجاهه.
فالإمام السجّاد عليه السلام يقول [في دعائه هذا] إنّ مثل هذه المسألة قد انبثقت في وجودي؛ فأنا أعيش على أمل وصالك، ولا مزاح في الأمر! وقد ترسّخ أمل الوصال هذا في نفسي وشراشر وجودي، واستقرّ هذا الأمر في جميع ذرّاتِ أجزائي، والمسألة ـ يا إلهي ـ جدّيةٌ لا مزاح فيها! ففي هذه الحالة، ماذا عليّ أن أفعل، خصوصاً مع هذه الأعمال التي لا تمتلك الجدارة لكي توصلني إلى هذا الأمر، ولا أهليّة لها لكي تنمّي فيّ هذه البذرة؟
فمن اللازم عليكم حينما تزرعون بذرةً في الأرض أن تهتمّوا بها، وتسقوها بالماء، وتغذّوها بالسماد، وتضعوها في ظروفٍ مناسبةٍ، وليس في ترابٍ صلبٍ كالحجارة، وإلاّ فلن تنمو؛ ولهذا، عليكم أن توفّروا الشروط اللازمة لنموّ النبتة؛ فهذه الحالة التي أتوفّر عليها الآن تحتاج للرعاية والاهتمام، ورعايتها تكمن في عدم ارتكابي للذنوب، وعدم غفلتي عن الله تعالى، وألاّ أعمد إلى الكذب على صديقي، وألاّ أسعى لإخفاء الأمور عليه؛ هذه هي رعايتها! وإذا لم تعمل على ذلك، فإنّ هذه الحالة ستنطفئ شيئًا فشيئًا، شأنك في ذلك شأن البقيّة، فتحضر مجلسًا وتترك الذي بعده،‌ ثمّ بعد ذلك تحضر مجلسًا وتترك مجلسين، ثمّ تحضر مجلسًا وتترك ثلاثة مجالسٍ، ثمّ تقول: لا يهمّ كثيراً سواءً أتينا لهذه المجالس أم لم نأت، فإذا لم نحضر، فسنستمع إلى شريط السيّد. ثمّ بعد ذلك لا نستمع إلى الشريط، فنقول: لقد سمعنا سابقًا هذا الكلام، وهذه المسائل موجودةٌ في الكتب، ثمّ يأتي الدور للكتب، فنقول: نحن على اطّلاع على هذه المسائل، ثمّ نقول أيضًا: إنّ الله تعالى كريم ورحيم، وسيمنحنا من دون الحاجة إلى مثل هذه الأمور!!
فما الذي يحصل؟! إنّه يتنازل عن هذه الأمور ويتسافل شيئًا فشيئًا، شيئًا فشيئًا، ويهوي إلى مستوى معيّنٍ بنحوٍ لا يشعر معه بأنّه يهوي إليه! لماذا؟ لأنّ ذلك يتمّ وفق حركةٍ متّصلةٍ تدريجيّةٍ، ولا يحصل دفعةً واحدةً؛ فلا يسقط من هناك دفعةً واحدةً، لا! بل بالتدريج.
سوف أضرب لكم مثالًا على ذلك: هل رأيتم أظافركم؟ انظروا إلى أظافر أصابعكم، هل تنمو أم لا؟ إنّها تنمو، فهل تلتفتون إلى نموّها؟ إنّها تنمو، ولو أردتم أن تمنعوا هذا النموّ، فإنّها ستُصاب بالقيح والصديد، وتنتفخ وتتورّم؛ فينبغي عليكم حينئذٍ أن تسمحوا لها بالنموّ. وإذا أردتم أيضًا أن تسحبوها بشكل قويّ ومحكم، فإنّها ستُقتلع بأجمعها مع اللحم، ويُصبح الأمر سيّئاً جدّاً! هل رأيتم من قبل أحدًا اقتلعت أظافره؟ أو أغلقت عليها الباب أو سقط عليها شيء ما؟ لقد رأيت ذلك سابقًا، حيث تصير في حالة ووضعيّة تتطلّب الذهاب إلى المستشفى ومعاينة الطبيب. لكنّنا نجد أنّ نفس هذه الأظافر تنمو وتتحرّك في كلّ ثانية من دون أن نشعر بذلك. فقد تقصّ أظافرك اليوم، لكنّك تكتشف بعد مرور أربعة أيّام أنّ مليمترًا واحدًا قد انضاف إليها من دون أن تشعر بذلك!
فحينما تكون نائماً، فإنّ هذه الأظافر تنمو، وحينما تكون مستيقظًا فإنّها أيضًا تنمو، وعندما تتناول الطعام، فإنّها تنمو، وعندما تُصلّي ... وهكذا، تجدها تنمو شيئًا فشيئًا، بحيث أنّك لا تشعر بذلك من الأساس. فبنفس هذه الطريقة يتسافل الإنسان، فهل فهمتم الآن حقيقة المسألة؟ فالإنسان يهوي للأسفل (نظير هذه الأظافر) بنحوٍ لا يشعر معه من أيّ جهة تلقّى الضربة! وفجأةً ينظر إلى نفسه، فلا يعثر في قلبه على أيّة محبّة، ولا هوى، ولا حرارةٍ، ولا نارٍ، ولا ولعٍ، ولا ميلٍ! لماذا لم أشعر أنا بذلك إذن؟ لماذا لم ألتفت؟ لماذا؟ لأنّك لم تعمل بما قيل [لك]؛ هذه هي حقيقة المسألة. ولم تُرتّب الأثر على ما قيل [لك]، وتعاملت مع هذه المسائل بالهزل، بينما تعاملت مع مسائل الآخرين بجدٍّ، إذ لو أنّك لم تكن قد أخذتها على محمل الجدّ، لما كنت قد صرت إلى ما صرت إليه؛ فمن الواضح إذن أنّك تعاملت معها بجدٍّ، بينما تعاملت مع الأخرى [المهمّة] بغير جدٍّ.
كان المرحوم الحدّاد رضوان الله عليه يقول دائماً للمرحوم العلاّمة: «كم هو عدد تلامذتك الذي أخذوا المسألة على محمل الجدّ؟» فحينما كانا يجلسان معًا، كانا يتحدّثان مع بعض، وفي بعض الأحيان كانا يأمراني بالخروج؛ كأن لا تكون مصلحة في بقائي، ويكون هناك ثمّة أمر خاصّ، فكانا يأمراني بالذهاب للحرم، فكنت أذهب للحرم، فلا أطّلع على ما كان يدور بينهما. لكن في أحيان أخرى كنت أستمع لذلك، كأن أكون نائماً أو أتظاهر بالنوم، فأشحذ السمع من تحت اللحاف، وحينئذٍ أسمع بعض الأشياء التي لا ينبغي عليّ سماعها! لكنّ ذلك كان يحصل في بعض الأوقات، ولا يخفى أنّهم كانوا يسمحون بذلك، وإلاّ لكنت قد استغرقت بدلًا عن ذلك في النوم من دون أن أطّلع على أيّ شيء؛ فإلى الحدّ الذي كانت هناك مصلحة في سماعي، فإنّني كنت أسمع.
وفي أواخر حياة المرحوم العلاّمة، كنت قد تشرّفت بزيارة مشهد، وفي أثناء كلامي قلت فجأةً:
حسنًا، هذا هو رأي المرحوم السيّد الحدّاد!
فقال لي [المرحوم العلاّمة]: من أين علمت بذلك؟
قلت: هل تتذكّر يا سيّدي في ذلك المكان حينما كانت الساعة الثالثة ليلًا، وكنتم قد أطفأتم المصباح وشرعتم في الحديث مع السيّد الحدّاد؟ لقد كنت في ذلك الوقت أستمع إليكم!
قال: يا عفريت! كأنّك استرقت السمع في موضع لا ينبغي لك فيه أن تفعل ذلك؟ لكن لا تُخبر أحدًا بذلك!
قلت: أنا لحدّ الآن لم أخبر أحدًا!
قال: وماذا سمعت أيضًا؟
قلت: لقد سمعت أيضًا بعض الأشياء الأخرى! قلت له فقط إنّني سمعت أشياء أخرى، لكن من دون أن أخبره بما سمعته.
حسناً، لقد كان [السيّد الحدّاد] يقول: «من بين تلامذتك، كم هو عدد الأشخاص الذين أخذوا المسألة على محمل الجدّ؟ كم هم الذين وصلوا إلى هذا الأمر؟» ثمّ ذكر عبارة بعد ذلك وردت بهذا الشكل: «كلّ من لم يصل إلى هذا الموضع، فلا تُرجى منه فائدةٌ كبيرةٌ» ـ حيث ذكر أيضاً لفظة «كبيرة» ـ «فعليه أن يصل إلى تلك الحالة بحيث يتعامل بجدّية مع هذا الأمر».
وحينما يأخذ المسألة على محمل الجدّ، فإنّ ذلك سيظهر على أحواله، وسلوكه، وسكناته، وأقواله، وكيفيّة ارتباطه ببقيّة الناس وبأهل بيته.
يقول الإمام السجّاد [في هذه الفقرة]: يا إلهي، لقد أخذت المسألة على محمل الجدّ! فقد «عَظُمَ يا سَيِّدِي أَمَلِي»، وأنا لا أمزح في ذلك؛ فأنا أصبو إلى وصالك وأريد أن أصل إلى قُربك، ولكن «وَساءَ عَمَلِي»؛ فماذا عليّ أن أفعل؟
حسناً، كان هذا فيما يخصّ هذه المسألة.

    

تبدّل السيّئة بالحسنة

في السنة الماضية، حينما كنّا نتحدّث مع الرفقاء عن هذه المسائل، وصلنا ـ بحسب ما يبدو لي ـ إلى هذا الموضع؛ فنكون بطبيعة الحال قد وصلنا الآن إلى نفس هذه المسألة؛ وهي: «مسألة تبدّل السيّئة إلى حسنة»، والتي وردت في القرآن الكريم بنفس هذا المعنى، حيث لدينا في سورة الفرقان حديث عن خصائص عباد الرحمن: {وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً} إلى أن تصل إلى: {إِلاَّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحيماً}.[2]
فعباد الرحمن هم الذين يمتلكون هذه الخصائص والمواصفات؛ وحينما يمرّون بالجهّال، فإنّهم يتجاوزونهم بسلامٍ ولا يُجادلونهم ويتركونهم وشأنهم ويذهبون للاهتمام بأمورهم الشخصيّة. و{وإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً}، يقولون لهم: السلام عليكم! في أمان الله ورعايته! وفّقكم الله تعالى! رحمكم الله تعالى! ويذهبون، فلا يتوقّفون للجدال والنزاع.
ثمّ إنّهم، هُم أولئك الأشخاص الذين لا يرتكبون المعاصي، ولا يكذبون، ولا يقومون بالزنا وشرب الخمر وأمثال هذه الأعمال، ولا يصدر منهم الظلم والجور. وإذا ما صدر منهم ذلك بحسب الاتّفاق، فإنّهم يتوبون عن فعل المعاصي؛ ولهذا ورد الاستثناء بـ : {إِلاَّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً}؛ تاب توبةً نصوحًا، توبةً حقيقيّةً، تراجع وغيّر نفسه، {وآمَنَ}، أي: آمن بما نُلقيه من مسائل، وآمن بما وعدنا به، واعتقد بذلك؛ فالله تعالى لا يعِد من فراغ، وبالتالي فإنّ كلّ من يتوب ويُؤمن، فإنّه سيقوم بأعمالٍ صالحةٍ أيضًا، وستكون أعماله صالحةً، لكن ماذا يفعل هؤلاء الأشخاص بالنسبة لأعمالهم السابقة؟ {فَأولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّأتِهِمْ حَسَنَاتٍ}، جميع أعمالهم السابقة ستتبدّل إلى حسنة! وهذا شيء عجيب جدّاً!
{وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيماً}، تأتي رحمته وتستر جميع تلك السيّئات وتُغطّيها؛ فيُدخلها سبحانه وتعالى بأجمعها تحت رحمته.

    

ماذا يفعل الإنسان العاصي ليبدّل اللـه سيّئاته حسنات؟

حسنًا، لقد بدأت المسألة هنا تتبلور تدريجيًّا: فمن ناحية، هناك «عَظُمَ يا سَيِّدِي أَمَلِي»، ومن ناحية أخرى، هناك «وَساءَ عَمَلِي». فماذا عليّ أن أفعل يا إلهي؟ فمن جهة، أنا أمتلك الأمل في الوصول إلى مقام قُربك، والبلوغ إلى ذاتك، وفي هذه الذات لا طريق للغشّ، ولا مجال للكذب، ولا مكان للخُدعة والنفاق والتلوّن؛ ففي تلك الذات هناك لونٌ واحدٌ، هناك التوحيد، هناك الانبساط، هناك الابتهاج، ولا يوجد هناك الغلّ والحقد والحسد وأمثال ذلك؛ وأنا قد خلطت أعمالي هنا بمثل هذه الأمور. حسن جدّاً! فما هو تكليفي إذن؟
يقول الله تعالى: تفضّل على بركة الله! {إِلاَّ مَنْ تابَ}... تفضّل، تعال وتُب وأقلِع عمّا كنت تقوم به؛ وهنا يأتي عمل التوبة الذي كان المرحوم العلاّمة يُوصي به؛ فحينما يأتي السالك، ينبغي عليه أوّلًا أن يتوب والرفقاء على علم بشروط هذه التوبة وخصائصها، ينبغي عليه أن يغتسل، إمّا غسل التوبة، أو غسل الاستخارة، ومن الأفضل أن يكون ذلك يوم الجمعة بعد صلاة الصبح، ويُصلّي ركعتين تحت السماء، ثمّ يهوي برأسه للسجود ويقول مائة مرّة «أستغفر الله ربّي وأتوب إليه»، وكان يأمر [المرحوم العلاّمة] الإنسانَ بعد ذلك أن يستعرض ـ بشكل حقيقي ـ جميع المعاصي التي ارتكبها طيلة هذه المدّة واحدةً واحدةً، ويعقد القلب على تركها بالكلّية! وأن يُقرّر مع نفسه عدم ارتكابها من الآن فصاعداً، كما أنّه ينبغي له أن يقرّر مع نفسه أن يترك المسائل التي يتعلّق بها قلبُه، و يرى أنّ تركها صعب. فكما أنّه لا يستطيع أن يفصل مثل هذه المسائل عن نفسه، عليه أن يفعل نفس الشيء مع ما يُؤدّي لسخط الله تعالى، ويُسبّب في إبعاده عنه سبحانه.، وبكلمة واحدة: أن يقرّر ترك كلّ ما يُفرّق بين الإنسان والله تعالى بأيِّ نحوٍ كان سواءً كان المفرّقُ عملًا مكروهًا، أم حرامًا، أم كونه مخالفًا لرضا الله تعالى وحسب.

    

ينبغي على الإنسان أن يقوم بالفعل الأحسن والأفضل دائمًا

في أحد الأيّام، جاءني أحد الأشخاص، وكان يحمل بعض الإشكالات، فأجبت عن إشكالاته، ثمّ إنّني أجبت عن إشكالاته الواحد تلو الآخر، فبدا لي أنّه أذعن لذلك، ولكنّه عندما وصل البحث إلى إحدى المسائل، شرع بالاعتراض بإصرار قائلاً: لا، هذا غير صحيح... .
وفي نهاية المطاف، أفحم في هذه القضيّة أيضاً واضطرّ للسكوت، ثمّ قال: «إنّ كلامكم واقتراحكم هو الأحسن، ولا يعني ذلك أنّ ما ذكرته باطل». فقلت له: «لا بأس، أنت اقبل بهذا الأحسن! أفلا تقول بأنّه أحسن؟ حسنٌ جدّاً، أنا أقول بأنّ المطلب الآخر باطل! لكنّك لا تقبل وتقول بأنّ مطلبي أحسن. لا بأس، فلماذا لا تقبل بالأحسن إذن؟!» فلَم ينبس ببنت شفةٍ.
حسنٌ جدّاً، لماذا يمتنع الإنسان منّا عن القيام بالفعل الأحسن؟ ولأيّ سبب؟ فهل هو بليد الذهن؟ هل هو سفيه؟ فإذا كان هناك عملٌ أحسن وأفضل، لماذا لا نقوم به؟ على الإنسان أن يقوم بكلّ ما يجلب رضا الله تعالى، ويتجنّب كلّ ما يكرهه.

    

ما الذي يجعل الإنسان العاصي مشمولاً برحمة اللـه؟

نعم، ذكرتُ سابقًا أنّه قد يصدر أحيانًا من الإنسان خطأٌ معيّنٌ [لا عن قصد]، فلا إشكال في ذلك؛ فنحن غير معصومين، والله تعالى يتجاوز عنّا بهذا المقدار، وليس كلامنا حول الأخطاء. لكنّ كلامنا:‌ لماذا تقوم بذلك في الموارد التي تكون فيها عالماً؟! وحينما تتحدّث مع الشخص الفلاني وتلوي لسانك بالكلام، لماذا تقوم بذلك؟! وعندما تقوم بهذا العمل وتعلم بأنّك ترتكب معصيةً، لماذا تقوم بذلك؟! اعلم بأنّ الله تعالى في ذلك الحين ينظر إلى كلّ ذلك، ويقول لك: ماذا؟ هل تحاول خداع هذا الشخص؟! إذا لم يكن هو يعلم بذلك، فأنا أعلم به، وأنا مطّلع عليكما أنتما الاثنين.
ففي الموارد التي يُخطئ فيها الإنسان [لا عن قصد]، لا ضَير ولا إشكال، والله تعالى يعفو عن ذلك؛ لكن لا يعني ذلك أن يفعل الإنسان كلّ ما يحلو له، ثمّ يقول: لنذهب إلى مجلس العزاء ونبكي قليلًا على الإمام الحسين، وانتهى الأمر! لا يا سيّدي! ليس الأمر بهذه السهولة! صحيحٌ إنّ رحمة الإمام الحسين واسعةٌ، لكنّ هذه الرحمة تخضع لحسابٍ خاصٍّ؛ فرحمته واسعةٌ بالنسبة للذي يرغب في الانضواء تحتها، ورحمته واسعةٌ بالنسبة للحرّ [الرياحيّ] الذي أراد أن يدخل تحتها؛ فمثل هذا يُقال له: تعال، ونحن سنغضّ الطرف عن كلّ ما فعلته. لقد جاء الحر قائلاً: يا بن رسول الله، لقد وقفت في وجه ذريّة الرسول وآذيتهم، فماذا أفعل؟ . فيقول الإمام الحسين: اترك الحديث عن الماضي.
يا بن رسول الله: لقد ارتكبت كلّ هذه الأمور!
فيقول الإمام: ألم أقل لك دع الحديث عن الماضي؟!
يا بن رسول الله فعلت كذا وكذا و... يا بن رسول الله...
فيجيبه: ما الخبر؟ لقد قلت لك دع الحديث عن ذلك! فقد تجاوزنا عن كلّ ذلك، وعفونا عنه بأجمعه.
هذه هي الرحمة الواسعة؛ وهذا هو معنى «يا رحمة الله الواسعة»! هل التفتّم؟ إنّ هذه الرحمة معدّةٌ لكم إذا جئتم وانضويتم تحت هذه الرحمة [فرحمة الله واسعة]، لكنّ ذلك يبقى متوقّفًا على مجيئكم.

    

التسليم للولاية وللإمام بنحوٍ واقعيّ وعمليّ يبدّل ماهيّة الإنسان كالإكسير

لقد بعث الإمام الحسين عليه السلام إلى عبيد الله بن الحرّ الجعفي يوم اجتمع معه في الطريق لكي يأتي، لكنّه لم يأت!!، فذهب الإمام بنفسه إلى خيمته!! فقال للإمام: يا بن رسول الله، عليّ أن أذهب للكوفة، وأنا مشغول ببعض الأعمال، فأرجو منك أن تستثنيني من هذا الأمر! ولكن أنا أواسيك بكلّ ما أقدر عليه وهذه فرسي ملجمة، والله ما طلبت عليها شيئاً إلا أذقته حياض الموت، ولا طُلبت وأنا عليها فلُحقت، وخذ سيفي هذا، فوالله ما ضربت به إلا قطعت!
فيقول له عليه السلام: ما حاجتي بسيفك وفرسك؟ فأنا سوف أقطّع يوم عاشوراء إلى مائة قطعة! فما الذي تقوله؟! أنا أريد أن آخذ بيدك يا مسكين! (وينبغي الالتفات إلى أنّ هذه العبارات منّي أنا وليست من الإمام الحسين) فمرادي هو أن آخذ بيدك، وإلاّ فإنّي سأُقطَّع يوم عاشوراء إلى مائة قطعة، وسيأخذون بدني ويدكّونه تحت الخيول؛ هذه هي حقيقة المسألة. فهل تظنّ أنّني أريد أن أركب فرسك وأهرب؟ لو كنت أريد أن أفعل ذلك، لما أتيت إلى هنا، ولكنتُ غيّرت مساري وذهبت إلى مكان آخر.
لكنّه عندما أرسل إلى زهير [ابن القين] ليأتي عنده، فإنّ زهيرًا أتى وأدخل نفسه، فلمّا دخل إذا به يتغيّر فنجده لمّا رجع عند زوجته ونظرت إلى وجهه، فإنّها قالت: ليس هذا زهيراً الذي ذهب!
لاحظوا كيف أنّ الوجه يتغيّر! فهذا هو الإكسير الذي يُصيِّر النحاس ذهباً عندما يمسّه! ذهباً من العيار مائة! وليس من العيار عشرين، بل من العيار ألف!
لقد رأت زوجة زهير بأنّ هذا الوجه وهذه الملامح تختلف عن السابق! إنّه لعجيب جدّاً!

    

ترك الولاية والإمام يطفئان الشعلة المتّقدة في قلب الإنسان

قبل يومين أو ثلاثة أيّام، كنت أشاهد بعض الصور، وأحدّق في بعض الوجوه، فرأيت عجبًا! بعض الأشخاص كانوا معمّمين، غير أنّهم ممسوخون! تراه يتحدّث عن الله تعالى، لكن كأنّ الشيطان يُجري على لسانه ذلك الحديث! فانقلب حالي من الأساس! ولم أعُد أتحمّل النظر والتحديق أكثر في تلك الصور، وتركتها جانبًا! فقد أتوني ببعض الصفحات منها مِن مكان معيّنٍ، فقلت: يا للعجب! لقد كنت على معرفة بهذا الشخص، ولم تكن لديه هذه الملامح في زمان المرحوم العلاّمة، فلماذا أصبح بهذا الشكل؟!
ولو سمعني ذلك الشخص أتحدّث بهذا الكلام، لقال عنّي أنّني أنا الذي أصبحت بذلك الشكل [ممسوخاً]، وهذا الذي يجعلني أراه كذلك! كونوا على يقين من هذا الأمر! فأنا على اطّلاع بما أقوله لكم! [يبتسم سماحة السيّد و يقول ممازحاً:] وأنا خبير بما يجري في الضمائر!!! فإذا سمع كلامي ذلك الشخص، فإنّه سيقول: «لقد صار بنفسه ممسوخاً، ولهذا السبب فإنّه يراني بهذا الشكل» ، وإذا كنتم غير متأكّدين، فاذهبوا واسألوا بأنفسكم؟!
لقد تغيّرت ملامحه، ولم يعُد يمتلك وجهًا بشريًّا. فتراه يتكلّم، لكن كأنّ إنسانًا آليًّا أو مصنوعًا من البلاستيك أو المطّاط يتحدّث، لماذا؟! لأنّ روحه قد انطفأت، تلك الروح قد انعدمت.
قبل أن يذهب زهير عند الإمام، كان وجهه وملامحه بشكل مختلف؛ وهذا أمرٌ عجيبٌ! وقد تحدّثت في إحدى المرّات للرفقاء ـ على ما يبدو ـ عن أحد القضاة السُنّة في سوريا، والذي صار شيعيّاً، وهو القاضي الأنطاكي ـ ، وألّف كتابًا حول أهل البيت اسمه: «لماذا اخترت مذهب الشيعة مذهب أهل البيت عليهم السلام؟» ؛ وهو كتابٌ جميلٌ وجذّابٌ يتناول فيه كيفيّة تشيّعه. وقد ظهر هذا الكتاب قبل مدّةٍ طويلةٍ في زمن الشاه، حيث اقتنيته وطالعته عندما كنت في فترة المراهقة.
وفي أوّل الكتاب توجد صورة للمؤلّف في فترته السابقة أي قبل أن يتشيّع، فكانت عيناهُ بنحوٍ كأنّه يُريد أن ينقضّ على الطرف المقابل، وكانت له ملامحٌ وهيئةٌ عجيبةٌ جدّاً، وكان واضعًا شيئًا أبيضًا على رأسه (لا أعلم ما هي تسميته)، وفي نهاية الكتاب، توجد صورةٌ أخرى له بعد تشيّعه، ويظهر فيها بحالةٍ من التواضع، والمظلوميّة، ولم يكن واضعًا فيها ذلك الشيء الكبير على رأسه، بل كان لابسًا عمامةً، وكانت عيناه قد رجعتا [لحالتهما الطبيعيّة]، بحيث أنّ الإنسان يلتذّ عندما ينظر لهذه الصورة! وقد كان شيخًا كبيرًا، لكن مع ذلك فإنّك لا ترغب في تحويل عينيك عن صورته.
فانظروا إلى إكسيرِ الأئمّة والولاية ماذا يفعل بالإنسان، بحيث إنّه يُزيل عنه تلك الملامح القبيحة ويستبدلها بملامحٍ ومظهرٍ علويٍ. وكان المرحوم العلاّمة يقول: انظر! كأنّه فلان.
لكن عندما تنظر للصورة الأخرى، فإنّك ترى حالة من الانكسار والخضوع والنورانيّة [الواضحة]؛ فما هو السبب في ذلك؟ لأنّه تغيّر!

    

ما هي حقيقة التوبة التي تبدّل السيّئات حسنات؟‌

حينما تبيّن الآية القرآنيّة ـ وسيأتينا مزيدٌ من الحديث عن هذا الأمر إن شاء الله تعالى ـ عن كيف أنّ الله تعالى عندما يُريد من الإنسان أن يتغيّر، فإنّ كلّ كيانه وأرجاء وجوده يتغيّر أيضاً. فهذه التوبة لا تقتصر على قول: «أستغفر الله» وينتهي الأمر، لا! بل عليك أن تُغيّر نفسك، وتعقد العزم وتُصمّم على ألاّ تفعل ذلك مرّةً أخرى، فلا مزاح في هذا الأمر، فثمّة شيءٌ هنا يحصل، وثمّة أمر هنا يحدث.
وهذا نظير ما يحصل معكم عندما تكونوا مرضى، قد أصابتكم حالةٌ من الضعف، ولا تستطيعون أصلًا أن تقوموا من مكانكم، فيأتون ويحقنونكم بإبرة البنسلين أو البندول، وبعد ساعةٍ واحدةٍ، فإذا بكم تنهضون، وتتحرّكون بأنفسكم، إنّ هذه الحقنة تترك مفعولها في البدن، حيث تعمل على محاربة الميكروبات والفيروسات التي تسلّلت إليه، فيحصل له التغيّر، وحينما تُحارب تلك الحقنةُ الميكروبات وتتغلّب عليها، نجد أنّ البدن يرجع لحالته الطبيعيّة بالتدريج، فيعتدل مزاجه وتعود له صحّته من جديد؛ ولهذا السبب تستطيعون القيام والنهوض؛ فمعنى قيامكم وجلوسكم هو أنّ هذه الحقنة قد تركت مفعولها فيكم، ومعنى نهوضكم وتحرّككم هو أنّ هذه الحقنة قد دخلت وأعلنت الحرب والقتال على هذه الميكروبات التي تسلّلت إلى هنا وسيطرت على خلاياكم وبدأت في القضاء عليها؛ فقد أعلنت الحرب عليها، وعملت على تحرير الخلايا والكريّات من أسر هذا الضيف المتطفّل والمشؤوم الذي تسلّل إلى البدن.
فحينما يتوب الإنسان: {إِلاَّ مَنْ تابَ وآمَنَ}، فهذا يعني أنّه قد آب ورجع: يا إلهي، لقد أنبتُ إليك! وعمله هذا ليس بالعمل الهيّن! أي إنّني تحوّلت عن ذلك الطريق والمسير الذي كنت أمشي فيه لحدّ الآن، إلى الطريق والمسير الذي ترتضيه أنت.
فهؤلاء الأشخاص هم الذين تُبدّل سيّئاتُهم إلى حسناتٍ، لا أولئك الذين يُخرجون السبحة من جيوبهم ويشرعون بالاستغفار والتهليل و...! فيكرّرون هذه الأذكار ثلاثة آلاف مرّة من الصباح إلى المساء، ثمّ من المساء إلى الصباح؛ إذ لا يحصلون على أيّة فائدةٍ من ذلك، بل يظلّون متوقّفين في مكانهم؛ لأنّه من ناحية، يُمسك السبحة بيده، ومن ناحية أخرى، عندما يخرج للشارع، فإنّه يفعل كلّ ما يحلو له. أو تراه ـ من جهةٍ ـ يُمسك السبحة بيده، لكنّه من جهةٍ أخرى، حينما يدخل للمنزل، فإنّه يرتكب شتّى أنواع الظلم. فلا فائدة من هذا التسبيح، ولا فائدة من الذهاب إلى المسجد والهيئة والمجالس المقامة لأجل الإمام الحسين والإمام السجّاد والإمام الرضا، اللهمّ إلاّ أن نتوب ونرجع، ونؤمن؛ أي أن نتوب عن إيمانٍ.
فالتوبة المُرفَقة بالإيمان هي أن تعلم بأنّ ثمّة هناك أمرٌ ما واقعاً وحقيقةً، وتعلم بأنّ وعد الله حقّ، وإلاّ إذا تُبتَ من دون إيمان، فإنّك لن تحصل على أيّة نتيجةٍ، فالإنسان قد يتوب من المعصية، لكنّه يقول: «لقد تُبت يا إلهي، فلننتظر لنرى ما سيؤول إليه الأمر!»، وقد تكون عودته واقعيّة بمعنى أنّه لا يرتكب ذاك العامل ثانياً، لكنّ هذا لا يكفي؛ فعلى قلبه أن يُؤمن بأنّ الله تعالى موجود في البين، وبأنّه سبحانه وتعالى أخذ على نفسه بأن يُعينه ويُمسك بيده، ويُؤمن بأنّ إمام الزمان موجودٌ هنا، وأنّ وليّه موجودٌ فعلًا، وعليه أن يُؤمن بأنّه حينما تاب، فإنّ ثمّة هناك مددًا موجودٌ هنا. وحينما يجمع بين هذين الأمرين، فإنّ نتيجة ذلك أنّ عمله سيُصبح عملًا صالحًا؛ وحينئذٍ، سيكون ذلك العمل قادرًا على إيصاله، لماذا؟! لأنّ العمل قد امتزج هنا بذلك الأمر العظيم، وصار منسجماً معه، فارتفع التعارض والتنافي من البين.
ومن الممكن أن يُخطئ، لكنّني ذكرت سابقًا بأنّه لا مشكلة في الخطأ؛ لأنّ ذلك العناد الذي كان يمتلكه في السابق قد زال؛ فتراه حينما يتحدّث مع رفيقه، فإنّه يتحدّث بصفاءٍ وانبساطٍ كانبساط كفِّ اليد! وأمّا حينما كان يتحدّث في السابق، فإنّه كان يحتفظ لنفسه ببعض الكلام، سواءً شعر بذلك الطرف المقابل، أم لم يشعر.
في زمان المرحوم العلّامة في بعض الأحيان، وبينما يكون المرحوم العلّامة جالسًا، كان يأتيه أحد الأشخاص، ويجلس عنده، [غير ملتفت عند من هو].. يا عزيزي، إنّ لكلّ شيءٍ حسابه الخاصّ، و ليس كلّ الأفراد مثل بعضهم! وخلاصة القول: إنّ المرحوم العلّامة كان قد بيّن إحدى المسائل، ولا أوضّح أكثر، حتّى لا يُعرف من التفاصيل من هو هذا الشخص، فالحاصل أنّ المرحوم العلّامة كان قد تعرّض لبيان إحدى المسائل، كانت تتعلّق بعملٍ معيّن كان قد صدر من هذا الشخص، فبعد أن بيّن المرحوم العلّامة مراده، بدأ هذا الشخص بتحوير المسألة، ومحاولة تبرير تصرّفه الذي صدر منه، وأنّ ذلك العمل الذي قام به كان لهذا السبب، وبسبب هذا الأمر، و... .
فرأيت أنّ المرحوم العلاّمة كان يكتفي بالنظر إليه ـ ولسان حاله يقول: [من تحاول أن تخدع بهذا الكلام؟] ـ وكان ذلك الشخص يزيد في التوضيح والبيان، فقلت له: كفّ عن ذلك وتوقّف!
وكان المرحوم العلّامة ينظر إليـه هكذا [بنظرة خاصّة]، ومن المعلوم أنّ العديد من الأشياء تختبئ وراء مثلِ هذه النظرات! فكان ينظر إليه، بينما هو يتكلّم ويشرح ويُوضّح ظانّاً منه أنّه قد امتطى جواد مُرادِه وأمسك بلجامه، وأنّه سينطلق الآن، و أنّه بهذا الكلام قد أقنع الجميع؛ فإذا بالمرحوم العلّامة يقول له فجأةً: بهذا قد تبيّن أنّه حينما أمرنا الرفقاء بالقيام بالعمل الفلاني، فإنّ ذلك لم يكن من دون فائدة، ولا بدون سبب!
فإذا به قد بهت، وأُسقط ما بيده! [وأدرك أنّ محاولته لإخفاء الأمر وتحوير المسألة لم تنطلِ على العلّامة! وفهم أنّ العلّامة يريد أن يقول له:]
لمن تقول هذا الكلام يا عزيزي؟! إذا لم تكن تتوفّر على اللياقة والأهليّة لأداء هذه المسألة التي أمرنا بها، فلماذا تأتي وتقول لنا قوموا بهذا الأمر؟ إذا لم تكن متمكِّنًا من الالتزام بالكلام الذي نقوله، فلماذا تذهب وتوقع نفسك في الحرج، ثمّ تأتي وتقول: يا سيّدي ماذا أفعل؟ لا تسأل من البداية! وأمّا إذا سألت، فجوابك هو هذا! جواب سؤالك هو هذا! لا تسأل من البداية، وافعل ما يحلو لك. وأمّا إذا سألت، فلا تتوقّع أن يكون الجواب موافقًا لرغباتك، بل ينبغي أن يكون الجواب مطابقًا للواقع؛ فالأجوبة قد لا تكون أحيانًا منسجمةً مع رغبات الإنسان. فإذا كنت رجلًا، وتعمل بمقتضى الرجولة، ومستعدًّا للتقدّم للأمام، والإصغاء لما يُقال لك، فتعال على بركة الله! وأمّا إذا لم تكن كذلك، فلا تأت من الأساس، وإلاّ إذا أتيت ـ والحال هذه ـ، فإنّك أنت الذي ستتضرّر. كما أنّه لا يتوقّف عليك هذا الأمر، فلا تظنّ بأنّه إذا لم تأت، فإنّ السماء ستقع على الأرض، لا يا عزيزي! فأمرك أنت سهلٌ، بل فليمتنع مائة مليار شخص مثلك عن المجيء، فلن يُؤثّر ذلك في الأمر شيئًا! إذ إنّ لهذا الطريق أهلًا، وله طلاّبه وعشّاقه الخاصّين به.
فيوجد من يرغب في الذهاب إلى هذه الناحية، ويوجد أيضًا من يُريد الذهاب إلى الناحية الأخرى؛ فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا التلاعب والتحايل ومحاولة التلبيس والتحوير؟!
فهنا تقول الآية: {مَن تَابَ}، أي أنّ الذي تاب وآمن، فقد تحقّق مراده. أفهل يُمكن لذلك الإيمان أن يدع له مجالًا للراحة؟ فهل يُمكن لذلك الإيمان ولتلك التوبة أن يدعانه يمشي بسكون؟ أفهل يدعانه؟ هيهات! حينئذٍ، إذا أصبح الأمر بهذا الشكل، فإنّ ذلك العمل أضحى قادراً على إيصاله إلى تلك العظمة، لماذا؟ لأنّ العمل أصبح إلهيًّا. فليس صحيحًا أنّ الرسول والأئمّة فقط هم الذين يستطيعون القيام بالعمل الإلهي، بل كلّ إنسان يستطيع القيام به بحسب وُسعهِ وطاقته. أجل، يبقى أنّه لا قدرة لنا أبدًا على الإتيان بنفس أعمالهم إلى أبد الآباد، ولكن على الأقل في وسعنا أن نجعل ضميرنا حاكماً علينا، ونحن قطعًا نعلم بما الذي يحصل في باطننا؛ فلماذا نخدع أنفسنا؟
إنّ ما يقوم به إمام الزمان، لا يستطيع إلّا هو وجدّه وآباؤهُ القيام به، فهل نقدر نحن على القيام به؟!
[يقول سماحة السيّد ممازحاً:] قال أحدهم: يا علي، إذا كانت الصلاة [التي تتمنّاها مِنّا القيام بها] هي تلك الصلاة التي تُؤدّيها أنت، فعليك أن تحمل أمنيتك هذه معك إلى حوض الكوثر! وأمّا صلاتنا، فهي بهذا الشكل، فإذا أردت أن تقبلها منّا، فافعل، وأمّا إذا كنت تتوقّع منّا أن نصلّي مثلك، فعليك أن تحمل هذا التوقّع معك إلى حوض الكوثر! وهذا صحيح، فحقيقة الأمر أنّهم يعلمون بأنّنا لا نستطيع ذلك، لكنّهم يقبلون منّا هذا المقدار القليل؛ فهم عظماء وأجلاّء وكرماء! وهذا هو حال الكريم، فهو يقبل حتّى القليل، لكن في نهاية الأمر ينبغي أن يكون هناك ثمّة شيء، لا أن يكون صفرًا وخاليًا من أيّ شيء، أو لا سمح الله أن يكون العمل مخالفاً ومضادًا؛ لأنّ العمل إذا كان مقابلًا، فإنّ المسألة سوف تتّخذ شكلاً آخر.
سنكمل الحديث إن شاء الله تعالى عن كيفيّة تبديل هذا العمل إلى حسنة؛ فحينما تكون مسألة معيّنة قد تحقّقت، فإنّها تحقّقت ووجدت، فحينئذٍ، كيف يُمكن لهذا التحقّق أن يتحوّل إلى مسألة أخرى؟ كيف يُمكن ذلك؟ حسنًا، يوجد هنا اختلاف كبير في الآراء؛ فكلّ واحد فسّر ذلك بتفسيرٍ خاصٍّ، وسنرى لاحقًا ما هو رأي العظماء حول هذه المسألة.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد


[1] ـ فقرة من دعاء أبي حمزة الثمالي الشريف.

[2] ـ سورة الفرقان (25)، الآيات 63 ـ 70.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی