معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 هـ ـ المحاضرة 9: بين الإسلام الحقيقي والإسلام الأجوف

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 هـ

المحاضرة التاسعة:
بين الإسلام الحقيقي والإسلام الأجوف

ألقيت هذه المحاضرة في الخامس عشر من شهر رمضان المبارك
لعام 1434 هـ

ألقاها:
سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه اللـه

 

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بِسمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحيم
و صلَّى اللهُ عَلَى سيّدنا ونَبِيّنا أبي القاسِمِ مُحمّد
اللهمّ صلّ على مُحمّد وآل مُحمّد
و عَلَى آله الطّيّبين الطّاهِرينَ واللّعنة عَلَى أعدائِهِم أجمَعينَ

عظُم يا سيّدي أملي وساء عملي فأعطني من عفوك بمقدار أملي ولا تؤاخذني بأسوء عملي؛ فإنٌّ کرَمَك يجلّ عن مجازات المذنبين وحلمك يكبر عن مكافاة المقصِّرين.[1]
بيَّنَّا للأخلاّء في الليالي السابقة بأنَّه لا يمكن الوصول إلى ذلك الهدف السامي والطاهر والمنزَّه عن كل شينٍ ورينٍ وقَذَرٍ وشوْب (والذي هو عبارة عن مقام ذات الله)، ولا يمكن الورود إلى حرم القُدس الإلهي عن طريق الإتيان بالأعمال الطالحة والسقيمة، ولا يمكن طيّ ذلك الطريق بالتوسّل بالعمل الفاسد؛ وكلّ من يتصوَّر بأنَّه يستطيع تحقيق ذلك الهدف بأيَّة وسيلة كانت، فهو غارق في بحر من التوهّمات والتخيّلات، وليس لديه أدنى حدٍّ من الإدراك لذلك الهدف وتلك الغاية؛ فنفس كلامه هذا يدلُّ على عدم فهمه للهدف والمقصد.

    

الوصول للإسلام الحقيقي لا يتحقّق من خلال مقدّمات فاسدة

فذلك الشخص الذي يعتقد بإمكانيّة الوصول إلى حقيقة الإسلام وواقعه بواسطة مقدّمات ووسائل فاسدة، لا يمكن أن يكون قد فهِم من الإسلام الذي جاء به الرسول والأئمّة شيئاً، بل يكون فهمه مقتصراً على ظواهر وقشور من الإسلام ومبادئه؛ كما هو الحال مع عمر، حيث أنّه لم يكن مُنكراً للإسلام، بل كان لديه تصوَّره الخاصّ عن الإسلام.. ذلك الإسلام الذي يُبيح له الوقوف بوجه النبي، ومنع العمل الذي فيه رضا الله.. ذلك الإسلام الذي يتوافق مع أحكامه المبتدعة؛ ولهذا نراه يقول في بعض كلماته: أنا زميل محمّد[2]! أي أنا عِدلُ محمّد؛ فمعنى الزميل هو العِدل والنظير، فهو يقول بأنَّ محمّد إنسان وأنا أيضاً إنسان، ومحمّد له تشخيصه الخاصّ للأمور، وأنا أيضاً لي تشخيصي الخاصّ، بل إنَّ تشخيصي في هذا الوقت أصوب وأرجح من تشخيص محمّد؛ ولهذا نراه غيَّر الكثير من الأحكام؛ فحتّى في زمان أبي بكر لم تكن الأحكام قد غُيِّرت، ولكنَّ عمر شرع في تغيِيرها عند تولِّيه الخلافة؛ فقام بتحريم متعة الحجّ، ومتعة النساء، وابتدع التكفير في الصلاة و... ، ولقد رأيت في أحد الكتب أنَّهم قاموا بإحصاء الموارد التي عمد فيها عمر إلى تغيير الأحكام، فكانت تزيد على الثلاثين مورداً؛ ومن تلك الموارد أمره بإقامة صلاة التراويح جماعة، وهي من الصلوات المستحبّة والتي يجب أن تُؤدّى فُرادى؛ فجميع الصلوات المستحبّة تُؤدى فرادى، باستثناء صلاة العيدين؛ علماً بأنَّها من الصلوات المستحبّة في عصر الغيبة فقط، وستكون واجبةً في عصر الظهور.
فرأى عمر أنَّه من المُستحسن أداء صلاة التراويح (والتي هي نوافل شهر رمضان) جماعةً؛ فما دام على الناس أداء صلاة التراويح، فلتُؤدّى إذن بعظمة وأُبَّهة وجلال أكثر! انظروا إلى هذا النمط من التفكير؛ فمع أنَّ حكم الله ورسوله يقضي بأداء صلاة التراويح فُرادى، يأتي عمر بحكم مخالف ويأمر بأدائها جماعة؛ وها هم أهل السنَّة يؤدّونها جماعة لحدّ الآن. فلو نظرتم إليهم كيف يؤدُّونها في المسجد الحرام في ليالي شهر رمضان، لوجدتم أنَّهم يؤدُّونها بأبَّهة عظيمة، حيث يقوم إمام الجماعة بقراءة جزء من القرآن في كلّ ليلة وبصوت جميل؛ فيُتمّ قراءة ثلاثين جزءاً من القرآن حتّى نهاية الشهر، والناس مبتهجون بذلك. فترى ما يُقارب الخمسين ألفاً من المصلِّين يقومون ويقعدون ويركعون ويسجدون معاً؛ أفهكذا أداء أفضل، أم أن يقوم كلّ واحد منهم بأدائها في زاوية من زوايا المسجد على انفراد؟ لا شكّ بأنَّ الناس سيقولون بأنَّ هكذا أداءٍ هو أفضل!
ولكن ما الذي يقوله الله تعالى؟ وهل سيترتَّب على هذه الصلاة ذلك الأثر الذي ينبغي أن يترتَّب على صلوة التراويح، أم سيبقى منها فقط تلك الزينة، وستكون عبارة عن فيلم سينمائي ومسرحيّة لا غير؟! فالكلام في هذا.

    

خطورة تغليب الجوانب الظاهريّة في الدين على الأمور الباطنيّة

نعم، فلأجل أداء الأمر بأُبَّهة، سيكون أداؤها بهذه الطريقة أفضل ممّا لو أُدِّيت فرادى وبالكيفيّة التي يكون فيها أحد المصَّلين في حال قيام والآخر في حال ركوع أو سجود؛ فانظر إلى تلك العظمة: فالكلّ يقومون معاً، ويتشهّدون معاً ويجلسون معاً، وبعدها يقولون بصوت واحد: آمين! فكم هو جميل ذلك الصوت المتناسق والمتناغم والعظيم! ولا شكّ بأنَّ الله والملائكة سيستحسنون ذلك!!! فهذا هو نمط تفكير عمر الذي يقول بأنَّ أهميَّة الجلال والأُبَّهة التي تُؤدَّى بها الصلاة أكبر لديَّ ممّا أمر الله به؛ فإذا كان الله قد أصدر أمراً بأداء صلاة التراويح فرادى، فقد أصدره لنفسه وعمّته وخالته!!![3] أمّا أنا، فإنِّي أفهم وأتعقّل الأمور أكثر من الله، ونحن أدرى من الله بمقتضيات العصر ومصالحه؛ فأعداؤنا في جميع أنحاء العالم، في أمريكا، وفي أوربا وإفريقيا ينظرون الآن إلى المسجد الحرام ويرون هكذا عدد من المسلمين يؤدُّون الصلاة بهذه الكيفيّة؛ فهم يقومون ويقعدون معاً بذلك الشكل الذي لا نظير له في العالم، فهكذا كيفيّة ستكون أفضل! نعم، نحن أعلم بمصلحتنا في هذا الزمان من الله، وأنا لا أمزح، فهكذا كلام يُقال بالفعل! نسأل الله ألاّ يُوصلنا إلى هذا المستوى؛ فإن لم يكن هنالك من يتفوَّه بذلك بلسانه، فهو يقوله في قلبه.. يقول بأنَّه أكثر إدراكاً للأمور من الله.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: إنَّكم تعلمون بأنَّ النبيّ كان يُنادي بحيّ على خير العمل في كلٍّ من الآذان والإقامة؛ فما هي دلالة هذه العبارة لدى رسول الله؟ إنَّها تدلّ على أنَّ الصلاة هي أهمّ وأكبر حكم من الأحكام الأساسيّة التي أمر الله عباده بها؛ فإذا ما ألقينا نظرة على أنفسنا اليوم، سنجد بأنَّنا نُعطي لكلّ شيء أهميَّة ما عدا الصلاة، وعندما يصل الأمر إلى الصلاة ترانا نقول: دعها الآن، فلدينا مُتَّسع من الوقت لأدائها، وإذا ما فات وقتها الآن، فسنقضيها لاحقاً!
هل التفتّم؟! ففي الوقت الذي نحسب فيه لكلّ شيء حسابه: لأعمالنا، لعلاقاتنا، للقاءاتنا، لكلّ ما علينا أن ننجزه في الليل والنهار من الأمور الشخصيَّة أو الاجتماعيّة، ترانا نترك للصلاة مكاناً في زاوية ضيّقة من زوايا قلوبنا؛ هذا فيما إذا كنَّا نُصلِّي! مع أنّنا نُنادي خمس مرّات في اليوم بحيّ على خير العمل في الأذان، ونذكرها خمس مرّات في الإقامة؛ أي: أسرعوا إلى أفضل الأعمال، وأفضل الأحكام، وأفضل القوانين وأفضل الموضوعات التي أنزلها الله تعالى على المُكلَّفين من عباده لأجل التقرُّب إليه.

    

الاهتمام بانتشار الإسلام وأبّهته لا ينبغي أن يكون بأيّ ثمن كان

فبما أنَّ عمراً يهتمّ بكل شيء غير الصلاة، تراه يقول: إذا ما رفعنا هذا النداء، فسوف لن يذهب الناس للقتال، ولفتح البلدان، وبالتالي لن ينتشر الإسلام؛ أتلاحظون هذا المنطق الذي يقول: لا بدَّ من انتشار الإسلام، ولا بدَّ من توسيع رقعة البلاد الإسلامية، لكي تكبر مساحتها وتكون عظيمة؟! فما الذي يدور في رأسه؟ إنَّه يفكّر دائماً في توسيع الرقعة، والانتشار، والإضافة، والتكثير؛ فهو لا ينظر إلى نفسه ليرى كم أضاف إليها، مع أنّ الله تعالى يقول: عليك الاعتناء أوّلاً بنفسك قبل الاهتمام بالتوسّع والانتشار وفتح البلدان وإرسال الجيوش ودعوة الناس! فهل سيدفنوك في قبر الآخرين، أو يدفنوا الآخرين في قبرك؟ عليك أن تُصلِح نفسك أوّلاً، حينئذٍ إذا كان تكليفك يقتضي فتح البلدان ونشر الإسلام، فافعل، وإلاّ فلا؛ فإن لم تكن مُكلّفاً بذلك، فعليك الجلوس في مكانك!
إنَّ الغفلة عن إصلاح النفس والانشغال بالمظاهر الخارجيّة، والتوسّع وفتح البلدان يمثّل إسلامنا هذا الذي نتمسّك به اليوم.. نعم، إسلامنا نحن! فلا فرق بيننا وبين الآخرين، كلّ ما في الأمر أنَّ ذلك كان قبل ألف وأربعمائة سنة، ونحن نعيش في هذا الزمان ونقتفي نفس ذلك الأثر؛ فلا فرق بين هذا وذاك، فنمط التفكير واحد، وزاوية النظر واحدة.
فبما أنَّ عمر قد وصل من حيث العلم إلى الحدّ الذي فاق فيه كلاًّ من ابن سينا وأفلاطون، نراه يستبدل عبارة «حيَّ على خير العمل» بعبارة «الصلاة خير من النوم»؛ فيا له من عقل، ويا له من نبوغ، ويا له من تجديد! فهذا أيضاً من ضمن إفاضات عمر وإفاداته؛ ولقد فاق عدد الأحكام التي بدَّلها عمر الثلاثين مورداً وفقاً لما أحصيته في إحدى المرّات.
وها نحن اليوم نرى البعض من أولئك الخطباء ـ وغيرهم من الأشخاص الذين لا علم لهم ـ يسيرون على نفس ذلك النهج ويطوون نفس ذلك المسير؛ فيقومون بإبداء وجهات نظرهم بشأن الأحكام والمبادئ والاعتقادات؛ وقد كنت أستمع يوماً إلى خطبة أحدهم، فتعجّبت كثيراً وقلت: كيف يُسمح لأمثال هذا بالحديث إلى الناس؟ لقد أصبح الوضع اليوم بحيث يُسمح لكلّ من يستطيع صياغة جملتين منمّقتين بالجلوس خلف لاقطة الصوت ليشغل أوقات الناس ويتحدَّث ساعة أو ساعتين بشأن هكذا مواضيع.
فمع أنَّ أمير المؤمنين قد قال: لولا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ منافق أو معاند،[4] يأتي ذلك الخطيب ليقول: "إنَّ عمر حرَّم المتعة لمصلحة قد رآها، فما هو الإشكال في ذلك؟!" فما هو الاسم الذي يُمكننا أن نُطلقه عليك يا هذا؟! وما هي عقيدتك إذ تتفوَّه بمثل هذا الكلام وتُدافع عن عمر في عاصمة دولة شيعيّة؟!
حسناً، ينبغي علينا ألاّ نتعجّب كثيراً!
على كلّ حال، فتلك هي رؤية هذا الشخص للإسلام؛ فإسلامه هو ذلك الإسلام الظاهري.. إسلام التطبيل والضجيج والصخب والفوضى؛ فينحصر الإسلام في كونه مدرسة ومذهباً عليه أن ينتشر في جميع الأنحاء، بحيث على الجميع أن يأتوا وينضمّوا إلى هذا التيّار ويتحرّكوا من خلاله وفقاً لمنهج خاصّ؛ كما يحصل في دورة التدريب العسكري التي يجري فيها التمرين حول كيفيّة الاستدارة إلى اليمين والشمال وفعل كذا وكذا؛ فهذا هو فهم الكثير من الناس للإسلام، فيُصبح القيام بأيّ عمل تحت ظلّ هكذا إسلام أمراً جائزاً ومستساغاً؛ سواءً كان ذلك كذباً، احتيالاً، سرقةً، نفاقاً، كتماناً للحقائق.. كلّ ذلك يكون ممّا لا بأس به إذا كان يصبّ في المجرى الموصل إلى الهدف المطلوب؛ فلأجل تحقيق هكذا هدف، يكون من الجائز قتل بنت رسول الله، وسحب عليّ بالحبال إلى المسجد، وإضرام النار بباب بيت الوحي؛ نعم، يكون كلّ ذلك جائزاً ولا إشكال فيه إذا كنّا نريد الوصول إلى هذا النوع من الإسلام. فأبو بكر وحزبه لم يكونوا يطلبوا من الناس أن يُصبحوا يهوداً أو مجوساً أو نصارى، بل كانوا يدعون الناس إلى الإسلام؛ ولكن أيّ إسلامٍ؟ إنَّه ذلك الإسلام الذي يكون ثمنه إضرام النار في بيت رسول الله؛ فأيّ إسلامٍ هذا؟ [إنَّ تبريرهم للأمر هو] إنَّ المصلحة تقتضي الآن إضرام النار في بيت الوحي، ومن أجل بقاء هذا الإسلام، إذا ما اقتضت المصلحة قتل بنت النبي، فلتُقتل!

    

الإسلام بدون إمام وولاية يساوي صفراً

هل تنتبهوا إلى ما أُريد أن أقوله؟ فلنعمل على بقاء الإسلام، وبقائنا نحن، ولنحتفظ بالمسجد والمحراب وصلاة الجمعة، وإرسال الجيوش لفتح إيران وأماكن أُخرى، وفي نفس الوقت نقوم بغصب الخلافة من عليّ؛ فلا ضير في ذلك! وما المانع من أن يُقتل الإمام ما دام الهدف هو بقاء الإسلام؟! بل على الإمام أن يُضحِّي بنفسه من أجل بقاء الإسلام! لكن أيّ إسلام هذا؟ يا للعجب! هل هو الإسلام الذي يتحقّق بهذا الشكل، أم الإسلام القائم بوجود الإمام؟ فكيف يُمكن ـ والحال هذه ـ أن يُضحّي الإمام بنفسه في سبيل الإسلام؟! إنَّ الإسلام هو الإمام، وذلك الإسلام الذي لا إمام فيه يساوي صفراً.. صفراً مطلقاً! نعم، هكذا يكون الإسلام بدون الإمام؛ وأمّا إذا وضع الإمام قدمه في البين، فإنّ الإسلام يصبح مطلقاً بإطلاق الإمام وإطلاق الولاية؛ فالولاية مطلقة لأنَّ الله مطلق، وولاية الإمام عليه السلام تعني ولاية الله، وولاية الله غير محدودة. إنَّ ولاية الله هي تلك الجنبة التوحيديّة غير المتناهية، والتي تتبلور في وجود الإمام؛ فالإمام بدون ولاية لا يكون إماماً، بل يكون أبوحنيفة، وأمّا مع الولاية فسيكون هو الإمام الصادق، والإمام بدون ولاية يكون مالكاً وأحمد بن حنبل، ومع الولاية يكون هو الإمام الباقر أو الإمام الكاظم أو الإمام الرضا؛ فهذا هو معنى الإسلام مع الولاية، وهذا هو معنى الإمام مع الولاية.
وعليه، فلا معنى للكلام القائل بأنَّه على الإمام أن يُضحِّي بنفسه من أجل بقاء الإسلام، وذلك لأنَّ حقيقة الإسلام قائمة بوجود الإمام عليه السلام، وأمّا ما نشاهده من تضحية سيّد الشهداء بنفسه ـ وبَذَلَ مُهجَتَهُ فيكَ لِيَستَنقِذَ عِبادَكَ مِنَ الجَهالَةِ وحَيرَةِ الضَّلالَةِ[5] (أي أراق دمه لكي يستنقذ العباد من عبادة أوثان وطواغيت الزمان) ـ فهو تضحية من أجل باطن الولاية؛ فالإمام ضحَّى بظاهره من أجل بقاء واستمرار باطنه، وما هو هذا الباطن؟ إنَّه حقيقة الولاية.
فمن أجل أيّ شيءٍ ضحَّى الإمام الحسين عليه السلام بنفسه؟ أمِن أجل بقاء ذلك الإسلام الذي يكون يزيد هو الحاكم فيه؟ فذلك الإسلام كان موجوداً بالفعل، ولا يحتاج ذلك إلى خروج الإمام الحسين من المدينة بذلك الشكل {فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّني‏ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمينَ}[6].
فلماذا خرج الإمام من المدينة؟ أمن أجل بقاء هذا الإسلام؟ فإذا كان ذلك الإسلام الذي خرج من أجله هو إسلام معاوية ويزيد، فلماذا ثار ضدَّهم إذاً؟ ولماذا وقف الإمام الحسن بوجه معاوية؟ فقد كانوا مسلمين.. ألم يكن الإسلام قائماً؟! ألم يكن معاوية يُقيم الصلاة؟! بلى، لقد كان يُصلّي ويحجّ ويُعطي الزكاة والخمس ـ من أموال الناس بالطبع ـ ويُقيم الجمعة ويفتح البلدان؛ فلقد تمكّن جيش معاوية بقيادة يزيد ـ على الظاهر ـ من الوصول إلى شمال تركيا ـ الجزء الأوربي من تركيا ـ ، وعبروا مضيق البوسفور، وتقدَّموا واحتلّوا قسماً من الجزء الاوربي من تركيا، كما فتحوا إفريقيا وتمكَّنوا من الوصول إلى مشارف الأندلس، إلى أن تمّ فتحها في خلافة عبد الملك بن مروان (وأمثاله)،[7] والذي استمر بالتقدَّم حتّى فتح كلّ جنوب أوربا المتمثِّلة بإسبانيا والبرتغال، وأمّا من الجهة الشرقيّة، فقد فُتحت إيران في خلافة عمر بن الخطّاب بواسطة قائد الجيوش الإسلاميّة سعد بن أبي الوقّاص؛ فما دام أمر الفتوحات على هذا المنوال، فلماذا يقف الإمام الحسن بوجه معاوية؟ فقد كان مسلماً يُؤدّي الصلاة والصيام والحجّ. لقد كان وقوف الإمام الحسن بوجههم لأنَّ إسلامهم كان إسلاماً بدون ولاية، والإسلام بدون الولاية يعادل الصفر؛ ولهذا، فقد وقف الإمام الحسن بوجههم من أجل إعادة هذا الإسلام إلى الإسلام الولائيّ، أي ذلك الإسلام المتضمِّن للولاية والذي تكون الإمامة هي الحاكمة فيه؛ فالإمام هو الذي يعلم ماذا يفعل، وكيف يتعامل مع الناس؛ لأنّ الإسلام ليس منحصراً بالصلاة والصوم فقط.. ويبدو أنَّني قد بيَّنت هذا الأمر في الجزء الثالث من كتاب أسرار الملكوت.
لماذا قام سيّد الشهداء بهذا العمل؟ لأنَّه كان يرى بأنّ يزيد هو شخص غارق في النزوات، شارب الخمر، يلعب بالكلاب والقردة، حيث كان يُلبس القرد ثياباً ويُجلسه إلى جنبه في العرش؛ أيمتلك هكذا شخص اللياقة ليكون خليفة لرسول الله؟! كان سيّد الشهداء يرى يزيد هذا يحكم المسلمين؛ فما الذي سيجري في ظلّ مثل هذه الحكومة؟ ومن هم الأشخاص الذين سيتولّون الحكم فيها؟ وما هي طبيعة نفوسهم؟ وكيف ستكون علاقتهم بالناس؟ وكيف سيُعلِّمون الناس أمور دينهم؟ هل يستطيعون فعل ذلك؟ لا، لأنّ الذي يُمكنه تحمّل ذلك هو الشخص الذي يكون هو والي حرم الولاية؛ وهو الإمام عليه السلام، أو الشخص المتّصل بالإمام، والذي يسأله بصورة مباشرة ويسمع الجواب، أو الشخص الذي له إشراف باطني على الأمور؛ وهو وليّ الله والعارف الكامل، لا بائع الشمندر والخيار [8]، فالعارف والوليّ الكامل هو وحده القادر على تلقّي المسائل من النفس القدسيّة والملكوتيّة للإمام عليه السلام، ثمّ منحها للآخرين وإنفاقها عليهم.
وها نحن نرى، وقد سمعنا وقرأنا في التاريخ عمّا حصل هنا وهناك؛ فقد حاول أشخاص القيام بهذا الدور، ولم يتوفّقوا؛ والسبب في ذلك يعود إلى ما قدَّمنا.
فإذا ما أراد الإمام التضحية، فإنَّما يُضحِّي من أجل باطنه؛ أي أنَّ هذا الظاهر يفدي الباطن، فيتلاشى الظاهر من أجل ألاّ يتلاشى الباطن؛ فالباطن ليس هو الإسلام، بل هو ولاية الإمام عليه السلام المساوية للإسلام الحقيقي والإسلام الواقعي. ويبقى أنّه لا يُمكننا الدخول في هذا البحث كثيراً لأنّه طويل ومفصّل.
بناءً على هذا، كيف يمكن للإنسان أن يصل إلى ذلك الإسلام الواقعي عن طريق مقدّمة فاسدة؟ إذ إنَّ هذين الأمرين متناقضين مع بعضهما البعض، فلا يمكن ذلك مطلقاً!

    

الإسلام الحقيقي لا ينسجم مع الكذب والخداع

إنَّ ذلك الإسلام الظاهري (وهو إسلام معاوية ويزيد وعبد الملك بن مروان والمنصور الدوانيقي والمأمون وهارون) يتماشى مع إغلاق شريعة الماء بوجه جيش أمير المؤمنين، كما يتماشى مع الكذب والخداع وإضرام النار في بيت بنت النبي، ويتماشى مع قتل الإمام الرضا وسجن الإمام موسى بن جعفر لثمان سنوات في تلك الظروف؛ ففي ظلّ هذا النوع من الإسلام، تقام صلاة الجمعة، ويُؤدّى الحجّ والصوم بحسب المعهود، وفي نفس الوقت لا يرون بأساً في سجن الإمام مقيَّداً بالأغلال لمدة ثمان سنوات، أو قتل الإمام الرضا بدسِّ السمِّ إليه ودفنه في سناباد (مشهد الحاليّة) ثم إقامة العزاء عليه، أو كسر ضلع بنت النبي وسحب عليّ بالحبال، والسيف مشهور فوق رأسه، وتهديده بـ : "إمّا أن تُبايع أو نضربك بالسيف ونشطرك نصفين"؛ ألم يقولوا ذلك؟ فكلّ ذلك مُسجّل في التواريخ.
نعم، فجميع هذه الأمور تنسجم مع هذا الإسلام، وأمّا ذلك الإسلام الذي يسعى أمير المؤمنين لتطبيقه، فهل يتماشى مع الكذب؟ كلاّ! فإذا ما رأيتم بأنَّ عليّاً قد كذب عليكم يوماً ما، فتخلّوا عنه، وإذا ما رأيتم بأنَّ عليّاً قد غشَّكم يوماً ما، فلا يمكن لكم أن تقبلوا بإمامته؛ فعليٌ لا يمكن أن يغشّ، ولا يمكن له أن يكذب؛ لأنَّه طاهرٌ، ومعصومٌ، ومطهَّرٌ عن كل رجسٍ وشينٍ ورينٍ، وإذا ما قال شيئاً، فقوله الصدق... يقول عليّ: أنا لا أكذب، وأنا لا أنطق إلاّ بالصدق؛ فسواءً تمكّنت من تحقيق الهدف الظاهري أم لم أتمكّن، لا يمكن لي أن أكذب، فأنا لست من أهل الكذب، وإذا رأيتموني أكذب يوماً ما، فأنا لست عليّاً؛ لأنَّ عليّاً لا يكذب، وذات عليٍّ صدقٌ محضٌ، فكيف يمكن له أن يكذب؟ هل حصل يوماً أن كان الأسود أبيضاً؟ أو الأبيض أسوداً؟ أيمكن ذلك؟ أي أن يكون هذا الورق أسوداً في ذات الوقت الذي يكون فيه أبيضاً؛ نعم، من الممكن أن يحصل ذلك بمرور الزمان وتغيِّر الظروف، فيتغيَّر لونه تدريجياً من الأبيض ليُصبح لونه أسوداً في يومٍ من الأيّام، أمّا أن يكون أسوداً في نفس اللحظة التي يكون فيها أبيضاً، فذلك مُحال، أو أن يكون طعم شيئاً ما حامضاً وحلواً كالعسل في آن واحد؛ فهذا لا يمكن أن يحصل، إذ إنَّ النقيضين لا يمكن أن يجتمعان في وقت واحد.
إنَّ ذكر هذه الأمور التي أطرحها ضروريٌ لتوضيح البحث الذي أنا بصدد بيانه؛ وعليه، إذا ما كنَّا نقبل بأمير المؤمنين هذا الذي سمعنا عنه، والذي نعرفه بتلك الصفات التي نُقلت إلينا عنه، فأمير المؤمنين هذا لا يمكن له أن يكذب ولو قطَّعته قطعة قطعة؛ فلو قيل له سنضمن لك تطبيق الإسلام في جميع الكواكب فضلاً عن الكرة الأرضيّة، بشرط أن تسلب حبّة قمح من فم نملة، ما كان ليفعل ذلك؛ فذلك هو عليّ الذي نعرفه. يقول عليّ: هذا هو إسلامي، وهذه هي حكومتي الإسلاميّة، ويقول عليّ: لو أنَّ جميع سكان العالم ـ بل وجميع سكّان السماء والقمر والمجموعة الشمسيّة ومجرَّة درب التبّانة و...!!! ـ سيصبحون مسلمين ومنضوين تحت لواء الحكومة الإسلاميّة، ويرفرف علم الإسلام في جميع أنحاء العالم وفي المجموعة الشمسيّة على أن أسلب حبّة شعير من فم نملة بغير حقّ، ما فعلت ذلك ولا كان لي حاجة بهكذا إسلام! هذا هو منطق عليّ! فكم هي الفاصلة بيننا وبين هذا المنطق؟ نحن قريبون جدّاً منه!!! بل لا توجد أيّة فاصلة بيننا وبينه، فنحن ملتصقون بهذا المنطق!!!
إنَّ منطق علي هو ذلك المنطق القائل بأنَّني مُستعدّ لأن أخسر حرب صفّين على أن أضرب عمرو بن العاص [في ذلك الموقف المعروف]، فهذا هو منطق عليّ؛ فكم هو مقدار قربنا أو بعدنا عن هذا المنطق؟ هل يمكن لهذا المنطق أن يسعَ الكذب، والخداع، والسرقة، والغشّ، والقبح، والظلم؟ كلاّ، لا يمكن لهذا المنطق أن يسعَ ذلك.
إنَّ فطرة الناس مبنيّةٌ على أساس هذا المنطق؛ ولهذا نرى كيف أنّ مواقف الناس قد تغيَّرت [لما رأوا التناقض الحاصل بين الفطرة وواقع الحال]، ولقد كان تصوّري في بادئ الأمر بأنَّ الإسلام الذي سيتمّ تطبيقه هو الإسلام المبتني على نهج عليّ، لكن مع مرور الزمان رأيت أموراً عجيبةً تحصل يوماً بعد الآخر؛ فقلت يا للعجب! يا للعجب! بل وحصل ما هو أعجب وأعجب؛ وهذا هو الذي جعل الناس تتخلَّى عن هذا المسير وتودّعه.
وعليه، فإنَّ الطريق إلى الله هو طريق الصدق؛ فلو تمعنّتم في الأحداث التي ذكرها المرحوم العلاّمة ـ رضوان الله عليه ـ في كتاب الروح المجرَّد، لرأيتم بأنَّه يُركِّز كثيراً على هذا الموضوع، كما أنَّني ومن خلال معاشرتي للعظماء عن قرب وملاحظتي لتصرفّاتهم ـ على الرغم من صغر سنّي في ذلك الوقت ـ لم أُشاهد المرحوم الحدّاد أو المرحوم العلاّمة ـ رضوان الله عليهما ـ يحيدون ولو لمرّة واحدة عن ذلك الصفاء وتلك الشفافيّة والطهارة والنقاء ذات اليمين أو ذات الشمال، فكانوا دائماً على هذا الحال؛ أي أنّ منهجهم كان بهذا النحو.
أتدرون ما الذي أُريد بيانه؟ أُريد أن أقول بأنّ هذا هو طريق الحقّ شئت أم أبيت، فلا مجال في مسيرهم لإخفاء الحقائق والمجاملات والتسامح في الحقّ، ولو كان الأمر على غير هذا، لما كنتُ أتّبع هذا المسير؛ فلماذا اتّبعتُ هذا الطريق؟ فلقد كان هنالك ألف شخص هنا وهناك ولكلّ منهم قابليات وإمكانيات مختلفة؛ فلماذا بقيت على متابعتي لهذا المسير؟ لأنَّني كنت أُلمس الصدق والصفاء في هذا الطريق.

    

نموذج عن الأشخاص الذين ينتحلون الإسلام الأجوف

اقرؤوا الروح المجرَّد وانظروا كيف كان نهج أولئك الذين أوجدوا المشاكل بعد ارتحال المرحوم الأنصاري ـ رضوان الله عليه ـ بمدّة والذين كانوا يُعارضون هذا المسير؟ وماذا كانوا يقولون عن السيّد الحدّاد؟ ولماذا لم تكن لكم الجرأة على مواجهته بذلك الكلام؟ ولماذا تذهبون خفية إلى هذا وذاك وتسعون في التخريب؟ ولماذا لا تواجهونه بصراحة؟ أتخافون أن تُفتضحوا؟ لماذا تكذبون، وتلصقون التهمة بهذا السيّد كذباً؟ لماذا تقولون بأنَّه ذهب لزيارة قبر أبي حنيفة؟ لقد كان السيّد الحدّاد يقول: أنا لا أعلم أين يقع قبر أبي حنيفة، وهم يقولون بأنَّني ذهبت لزيارة قبره!
لماذا تقولون بأنَّ هذا السيِّد معارض للولاية ومخالف لإمام الزمان؟ في الوقت الذي كان ذكره في كل مرّة ينهض فيها هو: «يا صاحب الزمان»، ولقد كنَّا نسمع ذلك منه.. أتلاحظون أيّ منطق يستطيع أن يجد له طريقاً هنا من أجل تحقيق الهدف؟ إنَّه منطق الكذب! فمن أجل أن يصل هؤلاء إلى هدفهم المتمثّل بتفريق الأشخاص من حول السيِّد وجمعهم حولهم، يتوسّلون بالكلام الصحيح والوقائع المشهودة إذا كان ذلك ممكناً، فإذا ما فشلوا في تحقيق هدفهم، توسَّلوا بالكذب، والخداع والحيلة والمكر والاتّهام؛ هكذا خطوة خطوة. فالخطوة الأولى تكون مبتنية على الأمور الواقعيّة، فإن لم يعثروا على هكذا أمور أو وجدوا بأنَّها لا تخدمهم، انتقلوا إلى الخطوة الثانية والمبتنية على الأمور غير الواقعية؛ ولا يرون في ذلك بأساً ما دامت تُوصِلهم إلى الهدف المطلوب؛ أتلاحظون؟ إنَّهم يتَّبعون نفس النهج الذي كان ينتهجه عمر!
هذا في الوقت الذي يقيمون فيه مجالس العزاء، ومجالس التوسّل في ليالي الأربعاء، كالتوسّل بموسى بن جعفر، ولقد كنت أحضر هذه المجالس، كما كانوا يقيمون مجالس ليلة الجمعة، وكانوا يذهبون إلى كربلاء لأداء الزيارة ويذهبون بشكل جماعي إلى مكّة؛ لقد كانوا يفعلون كلّ ذلك، ولكنَّك إذا نظرت إلى باطنهم، فماذا سترى؟ وأيّ مظهرٍ من مظاهر سيِّد الشهداء أو الأئمة ستراه مهيمناً على سلوكهم؟ لقد كانوا يقرؤون الدعاء، ولكنَّ هذه القراءة كانت في عالم النفس، وهي قراءة ظاهريّة، وليست قراءة واقعيّة؛ وكذلك الحال مع توسّلهم، فهو توسّل ظاهري؛ ومثلما ذكرنا سابقاً بأنَّ هناك إسلام ظاهري وإسلام حقيقي، فكذلك الحال مع التوسل، فهناك توسّل ظاهري وتوسّل باطني، وهناك عزاء ظاهري وعزاء باطني.
لأنّه إذا اقتضى الأمر أن تصير المسألة أدقّ نوعاً ما، فإنّ الأمر سينكشف؛ ولهذا تراهم يفرّون يميناً وشمالاً.
وحصل أن جمعني أحد المجالس برئيسهم في أحد الأيّام، وكنت أجلس إلى جانبه؛ فوجَّه هذا الشخص إهانة إلى المرحوم العلاّمة في زمن حياته، حيث كنتُ في طهران وذهبت إلى مكان ما؛ فقلت في نفسي لو أنَّك كنت قد وجَّهت الإهانة إليّ، لما رددت عليك؛ لأنَّني لا أعتبرك إنساناً حتّى أوجّهك إليك الكلام، أمّا أن تقوم بتوجيه الإهانة إلى والدي، فالأمر مختلف هنا؛ فخُذها مني! وكان ذلك بحضور تلامذته؛ فبدأت بالرَّد عليه بالشكل الذي أوقعه في الحرج؛ لقد تكلّمت معه بنفس اللغة التي يستعملها هو؛ فهو كان يعتقد بأنَّ أمور العالم تجري دائماً على وتيرة واحدة، غير أنَّ الأمر يتطلّب أحياناً أن تجري الأمور على منوال آخر، وخلاصة القول أنّ كلامه أصبح موجّهاً إليّ بدلاً عن المرحوم العلاّمة، فقلت: لقد تحسَّن الوضع الآن، فقل ما تريد أن تقوله، فلا ضير في ذلك! فتكلّمَ وتكلّمَ؛ حتّى إذا قال ما عنده، بدأت بالهجوم المُضاد!!! ولقد اقتصرت على جملتين أو ثلاثة، ولكن يا له من هجومٍ كان، فلقد سقط على إثره إلى الأرض! فتأمَّلَ قليلاً، واستجمع قواه واستأنف هجومه من جديد، فتركته يتكلّم وصبرت عليه، حتّى إذا ما استوى على صهوة جواده وأمسك باللجام، بدأ بالإغارة وقال ما عنده؛ عندها بدأت بالهجوم المضاد وكان ذلك بجملتين أو ثلاثة أيضاً، غير أنَّ ذلك كان بطريقة أدقّ من السابق، ثمّ قام للمرّة الثالثة بتجميع أسلحته وصواريخه للقضاء عليَّ، وكان تلامذته ينظرون هكذا متحيّرين؛ فمن ناحية، يرون بأنَّ أستاذهم قد سُحِقَ واضمحلَّ، ومن ناحية أُخرى، لا يستطيعون الردَّ عليَّ؛ فأنا لست بذلك الشخص الذي يستطيعون مجادلته؛ فإذا ما تفوَّهوا بشيء، فسيكون الأمر بشكل آخر، لأنّني لن أسكت وأبقى أنظر إليهم؛ ولهذا رأوا بأنَّ السكوت أولى، على الرغم من اضمحلال أستاذهم.
فالآن وقد توفيّ هذا الشخص، لا مبرّر للخوض في التفاصيل، بل المقصود من ذكر هذه الحكاية هو أن أصِلَ إلى ما أُريد بيانه. لقد وصل الأمر إلى الدرجة التي افتضح فيها هذا الشخص ولم يبقَ له أيّ شيء، فرأى بأنَّه إذا أراد الاستمرار بالجدال حتّى المساء لما اختلفت النتيجة شيئاً؛ فهو يرى بأنِّني شهرت السيف ولن أُعيده إلى غمده، فأخذ بالاعتذار، إلاّ أنَّني لم أسكت، بل قلت له: نعم، نعم، إنَّ ما قلتَه ليس صحيحاً، وعليك أن تنتهج هذا النهج، وشرعت في نصيحة أستاذ الأخلاق هذا الذي يتردّد عليه الكثيرون للتعلّم منه؛ فأردت أن أُبيّن للبقيّة بأنَّ أستاذ أخلاقهم هذا هو إنسان غير مؤدّب، وغير خاضع للتربية، وغير مثقّف، وجاهل، بحيث إنَّه يُفسِّر {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ}[9] بمعنى الإلحاق؛ فهذا الشخص الجاهل وغير المتعلّم قد أصبح أستاذاً في الأخلاق، وها هو يوجّه الإهانة إلى العلماء والعظماء، وخلاصة القول أنّه أصبح فارس الميدان.
إنَّ هذا الشخص هو ذلك الذي ذكره المرحوم العلاّمة في كتاب الروح المجرَّد.. ذلك الفلاّح الفلاني الذي تحدّث معه، ولم يستطع الإجابة، وبعدها عاد إلى سابق إنكاره؛[10] وإنَّه لأمر عجيب حقّاً!
فكان آخر ما قلته له: أيّها الحاج، خذ فأسك، واذهب لزراعة الحنطة ـ بهكذا عبارات ـ ما لك وللخوض في هكذا مواضيع؟ فأنت جاهل، وغير متعلّم، وتأتي لتجمع الناس حولك، وتتحدّث إليهم.. تعال هنا، تعال إليَّ، ما هذا الذي تتفوَّه به؟
لقد قُضي عليه في ذلك اليوم، ولم يحصل له طوال عمره أن مرَّ بموقف كهذا وفضيحة كهذه، وقد ذكرت سابقاً بأنَّني فعلت ذلك لكونه أهان المرحوم العلاّمة، فقلت له: اصبر سأُريك!
التفتوا، فنفس هذا الشخص يُقيم مجالس عزاء سيِّد الشهداء، ومجالس تدريس الأخلاق وينقل مواعظ وحكايات العظماء وأمثال ذلك، لكن في مقابل ماذا؟ في مقابل المواضيع التي كان يطرحها المرحوم العلاّمة، وما كان يطرحه المرحوم السيِّد الحدّاد، والمجالس التي كان يُقيمها المرحوم الأنصاري وبقية العظماء؛ فما حقيقة ذلك؟ إنَّ هذا هو العرفان الظاهري وعلم الأخلاق الظاهري، وهذا هو العرفان وعلم الأخلاق الأجوف في مقابل الحقيقي، وهما يقعان في مقابل بعضهما البعض تماماً؛ علماً بأنَّ لكلا الطريقين أُسسٌ، ولكليهما مسير وأتباع ومريدين؛ فلهذا الطرف أتباعه المتمسّكين بمبادئه، ولذلك الطرف أتباعه.
فهل أصبح معلوماً الآن أنَّ الإسلام ليس هو ذلك الذي يُنادى باسمه في كل مكان، بل الإسلام هو ذلك الإسلام المتضمِّن للحقيقة النورانيّة لولاية المعصوم عليه السلام؟ فهذا الإسلام يجب أن يتضمَّن الصدق المحض، والأمانة المحضة، والعدل المحض، والأخلاق المحضة؛ فكلّ صفة حسنة فيه لا بدَّ أن تكون محضة، وإلاّ فهو ليس من الإسلام بشيء، وإذا ما أردنا الإشارة إلى الإسلام الآخر، فسيكون مثله الأعلى هو إسلام عمر بن عبد العزيز؛ فقد تصرَّف بالشكل الذي جعل الناس ـ كما ذكرت في الليلة الماضية ـ يبكون عند تشييع جنازته، حيث كان يعدل بينهم، ويُطيّب خاطر المظلومين؛ وكان يفعل ذلك حقّاً، لكن يبقى في الأخير أنّ غصبه لحقّ الإمام عليه السلام هو أمر آخر؛ فعلى الرغم من علمنا بتفاوت تصرفّاته عن بقيّة الخلفاء، وكون منزلته لا يمكن أن تتساوى مع منزلة هارون والمأمون ومعاوية، غير أنَّ عليه أن يُجيب في يوم القيامة عن مسألة غصبه للخلافة، وسيُسأل عن ذلك، وأمّا ما سيؤول إليه أمره، فعلم ذلك عند الله؛ فالله والأئمّة هم العالمون بالذي سيفعلونه.. فهذا الإسلام غير ذلك الإسلام!
بناءً عليه وبالعودة إلى موضوع الحديث، نرى أنّ الإمام يقول: أنا أُريد الوصول إلى تلك الحقيقة النورانيّة المحضة، فكيف يمكن أن يتناسب ذلك مع أعمالي التي أقوم بها؟ وأنا أُريد أن أصِل إلى مقام التوحيد مع أنّ عملي هو عمل فاسد، فكيف يمكن التوفيق بين الحالتين؟ وما الذي عليَّ فعله؟ ماذا عليَّ أن أفعل يا إلهي للوصول إلى ذلك المقام مع كون عملي الذي أقوم به هو عمل فاسد؟ وهنا يأتي الدور للطف الله وكرمه ورحمته وعفوه وإنعامه، والذي سيستخلص الإنسان من تلك التعلّقات والميول وكلّ عائق وأمر مخلٍّ ومانعٍ من السير في هذا الطريق.
سيتمّ مواصلة الحديث في الليلة القادمة، إن شاء الله.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد


[1] ـ فقرة من دعاء أبي حمزة الثمالي الشريف.

[2] ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 12، ص 121.

[3] ـ كناية في العرف الفارسي على كون الأمر شخصيّاً ولا ارتباط له بالآخرين. المترجم

[4] ـ وردت هذه الرواية في المصادر بهذا النحو: "جاء في الخبر عن علي عليه السلام: لو لا ما فعل عمر بن الخطاب في المتعة ما زنى إلاّ شقيّ وقيل ما زنى إلا شفا أي قليلاً" (شرح ‏نهج ‏البلاغة، ج 20، ص 25). المترجم

[5] ـ بحار الأنوار، ج 98، ص 331، زيارة الأربعين

[6] ـ سورة القصص (28)، الآية 21.

[7] ـ كان فتح الأندلس في عهد الوليد بن عبد الملك. المترجم

[8] ـ عبارة كنائيّة المراد منها الشخص العامّي الذي لا أهليّة له لتقلّد مثل هذا المنصب، وليس المراد منها ـ لا سمح الله ـ التنقيص من أصحاب هذه التجارات. المترجم

[9] ـ سورة الحاقة (69)، الآية 1 و2.

[10] ـ راجع: الروح المجرّد، ص 58. المترجم

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی