معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 هـ ـ الجلسة 12 : سبيل الوصول إلى الأمل العظيم طلب الحقّ و نصرته

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 هـ

المحاضرة الثانية عشر:
سبيل الوصول إلى الأمل العظيم طلب الحقّ و نصرته

ألقيت هذه المحاضرة في الثاني والعشرين من شهر رمضان المبارك لعام 1434 هـ ق

 

ألقاها:
سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه اللـه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بِسمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحيم
و صلَّى اللهُ عَلَى سيّدنا ونَبِيّنا أبي القاسِمِ مُحمّد
اللهمّ صلّ على مُحمّد وآل مُحمّد
وعَلَى آله الطّيّبين الطّاهِرينَ واللّعنة عَلَى أعدائِهِم أجمَعينَ

عظُم يا سيّدي أملي وساء عملي فأعطني من عفوك بمقدار أملي ولا تؤاخذني بأسوء عملي؛ فإنٌّ کرَمَك يجلّ عن مجازات المذنبين وحلمك يكبر عن مكافات المقصِّرين.[1]

    

إذا كان الطلب من شخص عظيم، فمن القبيح وصف الطلب بالعظمة

ذكرنا للرفقاء في الليالي السابقة مطالب تتعلّق بمفاد هذه الفقرات، وانتهى بنا الكلام إلى السؤال: ما هو ذاك المقصد العظيم الذي يصفه الإمام السجاد بالعظمة؟ ما هو هذا المقصد الذي يعبّر عنه الإمام السجّاد في مقابل عظمة الله تعالى ومقابل مواجهة الذات الربوبيّة بأنه عظيم ويقول له: إلهي مقصدي عظيم جدّاً!
عندما يقف إنسان أمام عظيم وكريم ووجيه من أهل الدنيا، فليس صحيحاً أن يقول له: لديّ أمر عظيمٌ وكبيرٌ جداً! فهذه العظمة التي يتمتّع بها ذاك الرجل العظيم وشخصيّته الكبيرة التي يمتلكها تقتضي أن يلاحظ الإنسان هذه الشخصيّة العظيمة، ولا يذكر أمامها أيّة عظمة أخرى. فعندما يذهب الإنسان إلى شخص ويطلب منه حاجة هل يقول له: انتبه! إنّ حاجتي كبيرةٌ جداً!؟ كلا بل يقول له: إنّ حاجتي بسيطة عندك، حتى وإن كانت في الحقيقة كبيرة جداً، فإنّ موقعيّة الشخص ومكانته تقتضي من جهة الأدب والبلاغة أن لا يرى حاجته عظيمة أمامه؛ لأن ذلك قبيح منه، فمثلاً يأتي إلى وزير بيده حلّ الأمور، وبدلاً من أن يقول له: لديّ مشكلة بسيطة عالقة في المكان الفلاني، فتلطّفوا علينا بتوصية لحلّها، يقول: لدينا مشكلة كبيرة جدّاً وعظيمة، وحينما يسأل الوزير ما هي، يقول له: إنّ معاملتنا عالقة في المكان الفلاني! عند ذلك يقول له الوزير: هذا ليس أمراً كبيراً! هذا يمكن حلّه بكلمة وورقة فقط، وهو ليس بحاجة إلى توصية، [ثم يبدأ بالافتخار أمامه ويقول:] أنت تعلم بأنّ كلّ رتق وفتق يحصل بكلمة منّا فقط، وكلّ شيء يحلّ بخطّ قلمنا! والأفلاك تدور بإرادتنا، فما بالك بالأمور الاجتماعية، بل الله تعالى يعمل بحسب إرادتنا نحن! فالله تعالى يعمل طبقاً لما نريد، وأنت تقول: إنّ هذا العمل الذي تطلبه كبير وعظيم؟! فهذا الكلام إهانة لي! والواقع أنّه يعدّ إهانة له.
فكيف بنا إذا أتينا إلى الله تعالى مالك الملوك، ومالك السماوات والأرضين، ومالك الدنيا والآخرة، ومالك الظاهر والباطن، ومالك كلّ شيء.. فأقول له: إلهي انتبه جيداً! هل تعرف ما الذي أريده منك؟! لديّ مسألة عظيمة جداً.. أليس هذا الكلام قبيحاً مع الله؟! فإنّ كنت أمام موجود عظيم فما قيمة الشيء العظيم الذي لديك؟! فتقول له لديّ مسألة عظيمة وأريد هذه المسألة العظيمة منك! أليس هذا توهيناً لله عز وجل؟! فهو يقول جميع مقاليد السماوات والأرض بيدي؛ من الجنّة والنار والعذاب والحساب والحشر والنشر والصراط وتطاير الكتب و... كلّها بأمري! فالملائكة لا يقومون بشيء بدون إرادتي، والجنّ والإنس لا يخطون خطوة بدون تقدير منّي! وجميع الملك والملكوت بيدي، ومع ذلك تأتي أنت وتقول لي: إلهي! لديّ طلب عظيم منك! وأنت الوحيد الذي يمكنك أن تحقّقه لي! فإن الله سيعاتبه، ويقول له: ما هذا الكلام؟! إن كان كلّ شيء بيدي، فلا مبرّر لأن تصف مطلبك بالعظمة، فهذا ليس صحيحاً.

    

كلُّ ما تطلبه غير ذات الحق، فأنت مغبون

ومع ذلك يأتي الإمام السجاد عليه السلام ويصف طلبه من الله بالعظمة، ووصفه هذا صحيح! فكل ما سوى الله في مقابل الشأن الربوبي ومقابل إرادة الله هو صغير وحقير ولا قيمة له، مهما كانت قيمته!
لقد ذكرنا في الجلسات السابقة بأنّ المرحوم العلّامة كان يقول: بأنّك مهما طلبت من شيء غير الله فأنت المغبون! ما الذي يقصده العلامة من هذا الكلام؟ إن الذي يقصده هو أنّك تمنّيت شيئاً وأردت أمراً يمكنك أن تطلب ماهو أعلى منه، فلماذا لم تطلب ذاك الأعلى؟!
تارة نقول بأنّ الإنسان لا يمكنه ذلك، أو يقال له بأنّ سهمك هو هذا لا أكثر، أو يقال له إيّاك أن تطلب الدخول في حريم الذات والمراتب العالية، وأنّك لا تمتلك قابلية الوصول إلى تلك المراتب وأمثال ذلك.. فعليك أن تقول حسناً، سأتكلّم بمقدار حجمي لا أكثر! ولن أطلب أعلى من ذلك؛ لأنه لن يتحقّق.
لكن تارة يقال للإنسان: هذا ليس تقصيرنا، فأنت الذي لم ترد..

    

الحر بن يزيد الرياحي طلبَ الحق وتخلّى عن كل شيء

عندما جاء الحرّ بن يزيد إلى الحسين عليه السلام.. من هو الحرّ؟ هل كان الحرّ ـ عندما كان في الكوفة ـ من أولياء الله؟ لا والله! بل كان إنساناً عادياً، هل صدر منه شقّ القمر؟! لا، وإن كان يوجد في الكوفة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام من كان كذلك! ألم يكن حبيب بن مظاهر كذلك؟! ألم يكن رشيد الهجري وميثم التمار كذلك؟ وكذا أويس وسلمان؟ أمّا الحرّ بن يزيد الرياحي فلم يكن كذلك، بل كان إنساناً عادياً، وكان وجيهاً في عشيرته ومن أصحاب المكنة فيهم، بحيث لا يستطيع أحد أن ينظر إليه نظرة اعتراض. هكذا كان الحرّ الرياحي! أليس كذلك؟
عندما جاء وشاهد ما الذي آلت إليه الأمور، قال: إلهي! أنا لم أكن أعلم بذلك، لقد أخطأت واشتبهت، كان تصوّري عن الأوضاع شيئاً آخر! كنت أتصوّر أنّ ابن زياد سيرسلني ـ إما لأجل مكانتي أو قدرتي ـ لكي يوصل رسالة إلى الحسين بن علي، ويتراجع قليلاً ويحصل شيء من التفاوض يمكن أن تحلّ به المسألة، وتنتهي الأمور! ولم أكن أعتقد بأنّ المسألة ستنتهي إلى الحرب وضرب السيوف وطعن الرماح! لم أكن أتصوّر هذا الأمر أبداً. والآن أتيت ووضعت جميع الأمور جانباً، تخلّيت عن الزوجة والأولاد ـ وكان مالكاً للكثير من الأراضي والمزارع ـ يقول بأني تركت جميع ذلك.
الحرّ يقول تركتها جميعاً، بينما عمر بن سعد يقول: ماذا سيحصل بمزارعي التي في الكوفة؟! انظروا! ذاك يقول لقد تركت كلّ شيء! ليأخذ عبيد الله كلّ مزارعي ويصادرها وينتزعها و... فليفعل! إذ عندما أقول بأني تركتها، فإن شاء أن يأخذها فليأخذها! بل إني تجاوزت نفسي أيضاً.

    

وجوب نصرة الحقّ على الجميع

الحرّ عندما أتى لم يفعل كما فعل الزبير؛ بأن اعتزل العسكر جانباً، وقال أنا لست مع هذا الطرف ولا مع ذاك! ولم ينسحب من أرض المعركة، ويقول: لا علاقة لي بشيء مما يجري.. بل أتى الحرّ وقال: لقد صدر منّي هذا العمل، وعليّ أن أتحمّل مسؤوليّتي في ذلك! وهذا يختلف عن فعل الزبير كثيراً! فأنت أيها الزبير عندما فهمت بأنّك أخطأت، فما هو المبرّر لعدم نصر الحقّ بعدما عرفته؟ فلو فرضنا أنّك لم تأت أصلاً لحرب عليّ، وأنّك لم تحرّض الناس عليه أبداً، فعليك أن تأتي وتنصر علياً لأنّه الحقّ! فما بالك وأنت من حرّض الناس عليه، فهذا أسوأ حالاً، فلو لم تأت أصلاً ولم تحرّض أحداً عليه، لما جاز لك أن تبقى بعيداً عن الحقّ بعدما اتضح لك! فلا تتصوّر أنّك بسكوتك وجلوسك جانباً وقرارك في مكانك وطلبك العافية سوف تترك؟! لا! فنحن ليس لدينا هذا الخيار في الدنيا، خيارنا في هذه الدنيا أن نتّبع التكليف فقط لا غير! وأمّا ما هو التكليف فهذا مطلب آخر. هل التفتّم؟! نحن لا يمكننا أن نقول: نجلس جانباً وننظر فقط.
بعد ارتحال المرحوم العلامة رضوان الله عليه، فعل بعض الأشخاص مثل ما فعل سعد بن أبي وقّاص! فكانوا يقولون: نحن لا علاقة لنا لا بهذا الطرف ولا بذاك الطرف، وكنت أقول لهم: لقد أخطأتم بوقوفكم على الحياد وعدم تدخّلكم، بل عليكم أن تروا ما هو الحقّ فتتّبعونه! أمّا أن نجلس جانباً ولا نتكلّم بكلام ولا يعلو صوتنا، ونقول ندع الطرفين ونرى ماذا سيحصل.. فلا يحقّ لنا ولا يوجد لدينا مثل هذا الكلام! وليس لنا أن نختار هذا الاختيار! هذا عين ما فعله سعد بن أبي وقّاص؛ حيث قال: أنا لست مع خلافة أبي بكر ولا مع عليّ، بل أجلس جانباً.. وقد عاتبه معاوية على ذلك.. لمن نقل المرحوم العلامة هذه المطالب في كتبه؟ اقرأوا كتاب معرفة الإمام[2]، فقد ألقى معاوية عليه الحجّة في ذلك؛ حيث قال له: لقد اشتبهتَ حينما جلست جانباً! ألست من أنصار الحقّ؟ فهل يمكن أن يتقاتل شخصان أو طائفتان من المسلمين ولا تكون إحداهما على الحقّ، فإمّا أن تكون هذه على الحقّ أو تلك، فلماذا قلت: أجلس جانباً؟! فإذاً أنت أخطأت عندما تنحّيت عن عليّ وقلت لا علاقة لي! فالله تعالى لن يتركك! لماذا قلت لا علاقة لي؟! فهل بقولك لا علاقة لي ستنتهي الأمور؟! كلا! هكذا كان بعضهم؛ فقالوا: نحن لا علاقة لنا بهذا الطرف ولا بذاك الطرف.
نعم في بعض الأحيان لا يكون الإنسان يعرف ولا يعلم أين الحق، فعليه حينئذٍ أن يذهب ويحقّق حتى يعلم ويعرف! بل حتى وإن كانت النتيجة التي وصل إليها نتيجة خاطئة، فلا إشكال في ذلك، لقد أخطأت في القول الذي قلته لا إشكال في ذلك! فالله يسامح، ونحن جميعاً يمكن أن يصدر منّا الخطأ، فلسنا معصومين، ولكن الله يسامحنا بذلك المقدار الذي نحن فيه قابلين للخطأ لا أكثر من ذلك، إذ لكلّ شيء حساب دقيق. فإذا فرضنا أنّ شخصاً حقّق في المسألة وتوصّل إلى أنّ الحقّ ليس هنا ولا هناك وكلاهما مخطئ، وقال: أنا لست مع هذا ولا مع ذاك، فهذا لا إشكال فيه، بل عمل بتكليفه. لكن أحياناً يعرف الإنسان من الذي يقول الحقّ، ومع ذلك يقول: لا داعي لتسبيب وجع الرأس بهذا العمل، فلأجلس جانباً ولا علاقة لي بذلك. كلا ليس من حقّك أن تفعل ذلك!
هناك شخص [اعتزل جانباً].. وقد قلت له في ذلك الوقت: لو كان المرحوم العلاّمة حيّاً، فهل ستقول لا علاقة لي، وسأجلس جانباً! فأجابني: هل تعتقد بأنّك نفس المرحوم العلامة؟ فقلت له: لو اعتقدت ذلك لكنت مخطئاً خطأ جليلاً، لكن أليس كلامي هو نفس كلام المرحوم العلّامة؟ هذا الذي أريد قوله. فهل كان المرحوم العلامة يطرح نفسه على أنّه صنم يجب أن يبقى إلى يوم القيامة؟! كلا بل هو جاء لعدّة أيام، لعدة سنوات، لخمسة عشر سنة إلى عشرين سنة إلى ستين سنة وبعد ذلك مضى، فكل من يأتي يرحل!
لم يبق أحد إلى الأبد، حتّى النبيّ الأكرم لم يبق إلى الأبد، بل بقي نيّفاً وستين سنة ليس إلا! وكم عمّر أمير المؤمنين عليه السلام؟ وكم عمّر الإمام الرضا؟ وكم عاش الإمام الجواد؟ عاش سبعة وعشرين عاماً! جميع حياة الإمام الجواد لم تتعدّ سبعة وعشرين عاماً، لكن كلام الإمام الجواد خالد بخلود النبي، لا نفس الإمام الجواد يعني بدنه، فهو لم يعش أكثر من سبعة وعشرين عاماً. والمراد بالخلود هو حقيقة الإمامة الخالدة، كم سنة بقي بدن الإمام الجواد في هذه الدنيا؟ سبعاً وعشرين سنة. كم بقي بدن الإمام الهادي في هذه الدنيا؟ سبعاً وأربعين سنة أو ثمان وأربعين سنة. كم بقي الإمام العسكري؟ لم يتجاوز الثلاثين، وبعضهم نقل أنه عاش إلى حدود ثلاثة وثلاثين سنة! كم عاش إمام الزمان؟ الظاهر أنّ نصيب إمام الزمان كان أكثر من جميع الأئمّة، فكل من كان لديه نقص في عمره من آبائه وأجداده جُعل من نصيبه وأكمله هو [ضحك]... فسواء عاش إمام الزمان ألف ومائتي سنة أو اثني عشر ألف سنة لا يختلف عن يوم من حياة الإمام الجواد؛ لأن كلاً منهما إمام! نعم البدن مختلف، أما الإمامة والولاية فهي ما فوق الزمان والمكان، فكلام الإمام عليه السلام هو كلام خالد وأبدي. وما ذكره المرحوم العلامة من أنّه لا ينبغي أن نعطي صفة الأبديّة لكلام غير كلام الإمام إنما هو لأجل ذلك! وهذا مخصوص بالإمام المعصوم فقط؛ سواء كان حياً فكلامه حجّة؛ بمعنى أنّه يمكنك أن تعمل بكلام الإمام المعصوم، ويوم القيامة تقول لله: لقد عملت بكلام الإمام، ولن يحاسبك على ذلك! أم كان الإمام قد ارتحل عن هذه الدنيا، فيمكنك العمل بما كان قد قاله قبل موته! فتقول: سمعت قبل أربع سنوات من الإمام هذا القول، فيمكنك بعد وفاته أن تعمل به، ولا إشكال في ذلك، فكلام الإمام سواء كان حيّاً أم ميّتاً كلام أبدي. هذا ما يقال له حجّة، والحجّة يعني الدليل، يعني البيّنة، يعني القول المحكم والدليل المتين. أمّا أن تأتي وتجعل كلّ شيء كذلك فهذا لا يصح؛ مثلاً أفتح الآن كتاب الشيخ الطوسي وأعمل به، سيقول الله تعالى لي: بأيّ دليل تفعل ذلك؟ ومن أين لك أن تعلم بأنّ كلامه هذا صحيح أم خطأ؟ فهل أنت أهل اختصاص في ذلك؟ وهل أنت من أهل الاستنباط؟ إذ لعل الشيخ الطوسي اشتبه هنا! فليس لك الحقّ في أن تنظر إلى كتبه وتعمل بها، ولست مجازاً في ذلك! بل عليك أن تعمل بتكليفك؛ فإن كنت مجتهداً فعليك العمل بتكليفك، وإن كنت مقلداً فعليك العمل بفتوى الأعلم.. أمّا أن تقول: بما أنّ الشيخ الأنصاري رجل عظيم فأحبّ أن أعمل بكتابه! نعم الشيخ الأنصاري رجل عظيم! لكن كلامه ليس حجّة بالنسبة إليك، فهو عظيم وعظمته ليست بحيث أنّه لا أعظم منه، بل عظمته محدودة، حيث كان هناك من هو أعظم منه ويوجد الآن من هو أعظم! أمّا كلام الشيخ الأنصاري وكلام الشيخ الطوسي وكلام الشيخ المفيد وكلام الشيخ ابن بابويه والمحقق والعلامة.. جميع هؤلاء عندما يضعون رأسهم على الأرض يُغلق ملفّهم، وعند ذلك يذهب كلامهم مع ذهابهم، في أيّ مرتبة كان هذا الكلام، وعندما يوضع على قبره بلاطة يكتب عليها هو الحيّ الذي لا يموت، هذا المضجع الشريف والقبر المنيف للعبد الصالح الشيخ المفيد! حسناً رحمة الله عليه. أو هذا قبر الشيخ الطوسي..
أين هو قبر الشيخ الطوسي؟ من يعلم؟ [بعضهم أجاب]: النجف! كربلاء الكاظمين.. حسناً جميعكم يعلم جيداً ما شاء الله.. كلا يا عزيزي! قبر الشيخ الطوسي في النجف في مسجد الشيخ الطوسي وشارع الطوسي، ومن تشرّف بالزيارة يعلم أين يقع، فعندما يخرج الزائر من باب الطوسي، يجد على يساره مسجداً، قبر الشيخ الطوسي في هذا المسجد، ويوجد إلى جانبه مرقد السيد بحر العلوم، وعلى القبرين قبّة صغيرة. وكان المرحوم العلامة لمدّة سبع سنوات يحضر درسه في هذا المسجد ليلاً، حيث كان بعض أساتذته يلقي دروسه فيه بعد صلاتي المغرب والعشاء، والظاهر أنه السيد الشاهرودي أو المرحوم الحلي، أنا نسيت.. فالشيخ الطوسي مدفون هناك، وعندما نذهب إلى النجف نذهب إلى قبر المرحوم بحر العلوم وإلى قبر الشيخ الطوسي، ونقرأ لهما الفاتحة، فهم من عظمائنا، فيجب قراءة الفاتحة لهم وطلب الشفاعة منهم، فإنهم أفنوا جميع حياتهم ودنياهم لإحياء الدين وإحياء كلمة الحقّ وشريعة النبي، وقد وقفوا كلّ حياتهم في سبيل ذلك.. كلّ ذلك محفوظ في محلّه.
لكن كلامهم ليس له حجّة بعد ذهابهم، بل حجيّة كلامهم محدودة، وهي حجيّة تنزيليّة.. والإخوة من أهل الفن يعرفون ذلك، لا أنّ حجيّته ذاتية.. نعم هناك شخص واحد حجيّة كلامه حجيّة ذاتيّة، وهو المعصوم عليه السلام فقط، مع التأكيد على "فقط"، وهم المعصومون الأربعة عشر، فهؤلاء حجيّة كلامهم حجيّة ذاتية؛ سواء كانوا أحياء فكلامهم حجّة، أم كانوا أمواتاً بحسب الظاهر كلامهم حجّة! عندما يسمع الإنسان منهم مباشرة كلامهم حجّة، أو سمع بعد ألف سنة فكلامهم حجّة. مثلاً لو فرضنا أنّك عثرت على كتاب لم يطبع بعد، ووجدت فيه خبراً عن الإمام الصادق عليه السلام، وبعد التحقيق علمت بأنّ هذا الخبر معتبر.. فإنّه يجب عليك الآن أن تعمل بهذا الخبر. وهذا هو معنى الحجيّة الذاتيّة. وهذا الأمر مختصّ فقط وفقط بالمعصومين الأربعة عشر دون غيرهم.
حسناً! إذا كان الأمر كذلك، فبأيّ دليل نقوم باتّباع كلام شخص ألقاه قبل خمسين سنة؟ ألقاه في ذلك الوقت حسناً، لكن مع ذهابه يذهب كلامه، والذي لا يذهب كلامه هو الإمام عليه السلام، والذي لم يذهب هو الإمام الهادي عليه السلام، وهو الذي لا يذهب أبداً، الإمام الباقر عليه السلام الذي لا يذهب، أما ذاك فقد ذهب وانتهى أمره! الشيخ الطوسي ذهب وانتهى، لقد كان رجلاً عظيماً وجيداً، نعم ونحن نطلب الشفاعة منه ونقرأ الفاتحة له.. لكن لكلٍّ حسابه الخاص. إنّ حقانيّة مدرسة الشيعة هي أنّها تضع كلّ شيء في موضعه، هذه هي حقانيّة الشيعة؛ فمن يكون لديه درجة سبعة عشر لا يعطى درجة ستة عشر ولا ثمانية عشر، ومن تكون درجته أربعة عشر يعطى أربعة عشر لا أكثر ولا أقل، ومن درجته ثمانية يعطى ثمانية، ومن تكون درجته عشرين يعطى عشرون، فلا تستبدل العشرين بالثمانية، هذه مدرسة الشيعة، وهذه مدرسة العرفان، فمدرسة العرفان هذه، لا شيء آخر.

    

ضرورة نصرة الحقّ لا خذلان الباطل فقط (قصّة الزبير نموذجاً)

لذا قلت لذاك الرجل: انظر إلى كلامي! هل كلامي هو كلام المرحوم العلامة أم لا؟ فأين أنا من المرحوم العلامة حتى تشبّهني به؟ إذ تشبيهي به مضحك، لكن عندما ترى أنّ مطلبي مطلب صحيح أو خطأ.. فإمّا أن تناقش كلامي، وتقول: لديك اشتباه في الموضع الفلاني، فإن كان صحيحاً وقبلت به، عليك أن تقول صحيح وتقبل به، وعليك أن تلتزم به، فإن لم تلتزم به فسوف يأخذ يوم القيامة بتلابيبك من كنت معه سابقاً وتركته الآن، وسيقول لك: لقد تحمّلتُ المصاعب لأجلك، ثم تأتي أنت بعد أن وضعت رأسي على التراب، وتقول في أمان الله! وكأنّك لم تر شيئاً؟ لا أقلّ أنصفنا قليلاً! فما حدث لتلك الزحمات التي تحمّلتها لأجلك؟! وتلك المحاضرات الذي ألقيتها لك، وتلك المجالس التي أقمتها؟! فبمجرّد أن وُضع رأسي على الأرض انتهت؟ فكلّ شخص سوف يضع رأسه على الأرض يوماً ما! هل تنتهي المسألة بذلك؟ فهل تعمل بكلامي ما دمتَ تنظر إليّ بعينك، وعندما أذهب تقول في أمان الله! وكأن شيئاً لم يكن. فأنا إنّما تحدّثت معك في هذين اليومين في الدنيا لأجل أن تنتفع بما حدّثتك بعد وفاتي، أما الآن فأنا حيّ أقول لك ماذا تفعل وما لا تفعل! والآن إذا حصل معك شيء تأتي وتعرضه عليّ، ولا يمكنك أن تتفوّه بشيء لأنّي موجود، وفوق رأسك. لكنّي أعلم بأنّك إنما تفعل ذلك لأجل اليوم الذي أضع فيه رأسي على التراب، فترفع رأسك وتقول ما تشاء! أنا أعلم جميع ذلك! ولذلك قلت لك ماذا تفعل وماذا لا تفعل! هل التفتم؟
لا أن نأتي في هذه الدنيا، أو يأتي الزبير ويقول: لقد جمعت خلق الله، ولما حاججني عليّ ولفت نظري إلى بعض الأمور.. باعتبار أنّ الإمام استدعاه وذكر له ما كان قد جرى في المدينة على زمن رسول الله عندما كانا معاً وشاهدهما النبي وقال له النبي: اعلم يا زبير بأنك سوف تقف يوماً مقابل عليّ والحال أنّ الحقّ معه، وأنت على غير حقّ! عندها قال الزبير: عجباً لقد نسيت! ولعلّه كان صادقاً في قوله ذلك، أنا لا أعلم! قال: لم أكن أتذكّر ذلك، وقد يكون صادقاً في أنه نسي، إذ كلّ إنسان قد ينسى أحياناً، وإن كان أحياناً أخرى يُنسي نفسه. فلا ينبغي على الإنسان أن يُلقي نفسه في النسيان، والله تعالى يتكفل به..
يقال بأنّ من كان نائماً يمكن إيقاظه وتنبيهه بتحريكه قليلاً، أو بتحريكه بقوّة أو بضربة أو بكوب ماء.. ففي النهاية ينتبه! أمّا إذا كان يتناوم ويُظهر نفسه بأنّه نائم، فماذا يمكن أن تفعل له؟ يكون مستيقظاً، لكنّه يتظاهر بالنوم! فهذا لا يمكننا أن نفعل معه شيئاً، فهذا وضعه صعب جداً..
ولعل الزبير كان ناسياً فعلاً، حيث قال: يا عليّ لقد نبّهتني! وذكّرتني، لم أكن أتذكّر ذلك. ثم ذهب واعتزل الحرب.. كلّا لا ينبغي لك أن تعتزل، بل عليك أن تأتي وتدافع عن الحقّ، عليك أن تقوم وتعلن للناس: أيّها الناس! أنا الذي دعوتكم إلى قتال عليّ! أيّها الناس نحن الذين أخفينا أنفسنا وراء عائشة للوصول إلى الدنيا، وقدّمنا زوجة النبي أمامنا لذلك، وأتينا بها من زقاق إلى زقاق ومن بلد إلى بلد، وقطعنا بها صحراء بعد صحراء! أيّها الناس اعلموا بأنّا فعلنا ذلك انطلاقاً من هوى النفس، وعليّ بريء من دم عثمان.. وعليكم أن تحدّدوا تكليفكم بأنفسكم. كان عليه أن يقول ذلك، لكنّه لم يقل! وقد اشتبه بعدم قوله ذلك! كان عليه أن يقول: لقد اشتبهتُ في هذا الأمر! وأنتم أعلم بتكليفكم. ففي المحصّلة هؤلاء إنّما أتوا ونهضوا بسببك أنت! وصدّقوا كلامك لما سمعوه من النبي في مدح الزبير! ولما لديك من شخصيّةٍ وشأنٍ ومنزلةٍ في المجتمع. ألم يكن كذلك؟

    

لا ينبغي التسليم والانقياد دون دليل ولو لشخصيّةٍ عظيمة

الآن كيف يتمّ خداع الناس؟! الليلة عندما تذهب إلى المنزل، ضع أمامك ورقة واكتب عليها الأسباب التي تؤدّي إلى خداع الناس؟! ما هي المسائل والقضايا والتعلّقات والأمور التي تفعل ذلك؟ وبعدها سنصل إلى نتيجة جيدة.. يعني إذا ذهبت إلى المنزل ووضعت أمامك قلماً وورقة وبدأت بتعداد تلك الأمور والمسائل والمجريات ،تلك التعلّقات أو العلاقات التي تجعل شخص ما يمشي بهذا المسار المعيّن، أو أن لا يمشي فيه، فإننا سنحصل على نتيجة جيّدة.. أو أن يكون بعضهم في مسار معين، ثم يشرعوا بمحاربة الطرف المقابل لهم بكلّ الوسائل؛ بالصحف والمجلاّت والراديو وأمثالها.. ما هي هذه القضايا؟! إحدى تلك القضايا التي تخدع الناس هي أن يكون شخص مميّز في هذا الطرف أو ذاك، سواء كان شخصاً صادقاً أم كاذباً! فإنّ شخصيّة الأشخاص تجذب الإنسان، وتسلبه ـ إلى حدّ ما ـ القدرة على التفكّر والتأمّل! لا تسلبه ذلك بشكل كامل بل بشكل محدود، وإلا لو كانت تسلبه ذلك كاملاً لكان الإنسان معذوراً ومرفوع القلم عه حينئذٍ. أمّا إذا كان مسلوباً إلى حدٍّ ما فيبقى قادراً على تشخيص الحقّ.
لقد كنت في زمن المرحوم العلّامة رضوان الله عليه أناقشه في بعض المباحث، ولم أكن أسمح لنفسي أن تأسرني شخصيّته وتسلب منّي القدرة على التفكير، وأن أطيعه في كلّ ما يقوله! وكان يقول هذا هو الصحيح! لقد ذكرت للإخوة مراراً بأنه عندما كانت تحصل بعض الأمور، كنت أذهب إليه وأسأله عن دليله بشكل جيد، وكان يسمح لنا في ذلك ويفسح لنا المجال، وكنّا نتحدّث معه، إلى أن نفهم المسألة فعند ذلك تنتهي المسألة، فعندما يفهم الإنسان المسألة يقرّر ما الذي سيفعله، أما عندما يكون لدى الشخص مثل هذه الموقعيّة، ويصير علاّمة ويصير لديه ظهور.. فيقول الإنسان الذي أمامه: أنا أطيعك في كلّ ما تقوله.. فهكذا شخص يكون قد تأثّر بهذه الشخصيّة وهذه الموقعية ولا يعود له القدرة على التأمّل والتفكّر لفهم المطالب وللوصول إلى حقيقة وباطن الأمور، عند ذلك يأتي الخطر، هناك يأتي الخطر.

    

اتباع العظماء تأثّراً بشخصيّتهم لا فهماً لمبانيهم يؤدّي إلى الانحراف

في ذلك الزمان، حصلت قضيّة، وقد تأثّرت جداً لذلك، وقلت: واهاً لهذه الأمّة إذا صار أمرها بيد هؤلاء الأشخاص! حيث كان المرحوم العلّامة قد قال: على النساء أن لا يخرجن من المنزل بعد الغروب، طبعاً قال بأنه لا ينبغي لأحد سواءً من الرجال أوالنساء، لكنّه كان يؤكّد على النساء بالذات.. وبأنّه ينبغي أن يلزم كلّ منزله بعد الغروب.
وبعد ذلك حدث أمر في مشهد، حيث كان هناك مجموعة فاسقة وفاجرة تقوم بترويع الناس عبر بعض الأعمال.. والحاصل أنّه جرى شيء من عدم الأمن والاضطراب في مشهد لمدّة معينة، وبعد فترة تمّ اعتقالهم والقضاء عليهم. ثمّ بعد ذلك سمعت أنّ أحد الأشخاص كان يتحدّث بين الناس؛ عندما يركب التكسي أو يدخل الدكان لشراء بعض الأغراض أو في أي مكان يقف فيه.. [بأن هؤلاء لا زالوا يقومون بأعمالهم من ترويع الناس]!! يا عزيزي المجتمع بحاجة إلى إحساس بالأمن والهدوء! إذ نساء الناس وأطفالهم بحاجة إلى الإحساس بالأمن والهدوء.. وكان هذا الشخص يتحدّث بين الناس في كلّ مكان بأنّ هذه العصابة قامت بهذا الأمر في المكان الفلاني وتعرّضت لتلك المرأة في ذاك المكان، وهنا كذا وهناك كذا.. والحال أنّه كان كذباً محضاً، وعندما اطّلعت على ذلك قلت له: هل أنت حيوان أم إنسان؟ فقال: نحن نريد أن يحذر النساء من الخروج ليلاً كي نطبّق كلام المرحوم العلّامة. فقلت له تعساً لك! تعساً لك على هذا الفهم ـ طبعاً لم يكن لديه فهم أصلاً ـ بل تعساً لك على عدم الفهم والجنون! فإنّك لا تفهم أساساً، فلأجل أن يتم تطبيق كلام أحد العظماء ويكون مسموعاً بشكل أفضل من قبل الناس، تأتي وتضع أخباراً كاذبة من عندك تثير بها الذعر والخوف في المجتمع! فقلت له: يا عزيزي أنت بدلاً من أن تهذّب الشجرة وتقلّمها تعمل على قلعها!
هؤلاء هم الأشخاص الذين سبّبوا تلك الأحداث التي جرت بعد ارتحال المرحوم العلامة! هل التفتم الآن؟ هؤلاء هم سبب كلّ ما جرى! فهذا النوع من التفكير الذي هو أشبه بالجنون والتوحّش وعدم الفهم والتحجّر، والتصرّف كالخوارج وغيرها.. لقد فهموا أمراً واحداً منه[العلامة] وغفلوا عن ألف مطلب آخر، كلّ ذلك لأجل أن يجري تلك المسألة عملياً!!..
ما أقوله لكم هو ما جرى فعلاً، أنا لا أقول شيئاً من تلقاء نفسي، ومن يعرف تلك المسائل من الحاضرين يعلم ما أقول. إلى أين يصل الإنسان مع هذا النوع من التفكير؟! إلى أين يصل الإنسان بهذا الطرز من السلوك؟! أنت عندما تقوم بهذا العمل الذي تقوم به، ألا تقول بأنّ هذا الخوف الذي توجده في المجتمع، وتلك المرأة التي تعيش حالة القلق من هذه المسائل بما فيه الكفاية، والتي تزداد عندها هذه الحالة، قد يتسبّب بحصول شيء ما ـ لا قدّر الله ـ فهل يمكنك أن تتحمّل مسؤولية عملك؟! هل يمكنك ذلك؟!
لقد كان اشتباه الزبير أنّه لم يأت ويقول للناس: إني أخطأت في العمل الذي قمت به! بل عندما التفت إلى اشتباهه اعتزل الفريقين وقال بأني لست مع هذا الطرف ولا مع ذاك! قولك بأنّك لست مع هذا الفريق ولا مع ذاك لا تحلّ المسألة، فالله تعالى لم يشرّع لك حريّة الاختيار في هذه المسألة حتى تقول ذلك! الله جعل لك طريقاً واحداً فقط، ما هو ذاك الطريق؛ هل هو الاعتزال أم اتباع عليّ؟! لم يجعل لك الله الاختيار في ذلك! بل يجب عليك أن تدافع عن الحقّ! سواء سُمع كلامك أم لا! وعليك أن تؤدّي وظيفتك في هذا الأمر.

    

الحر بن يزيد أعطى الله كل شيء فأعطاه الله كل شيء

أمّا الحرّ بن يزيد الرياحي فقام بهذا العمل؛ حيث قال لقد اشتبهت! قال ذلك أمام أصحابه وقادة جيش عمر بن سعد، وقال: لقد أخطأت واشتبهت في وقوفي أمام الحسين.. حيث كان لديّ تصوّر آخر، لكن الآن اتضح الأمر لي بعد أن تحدّثت مع عمر بن سعد! وقد أخذت قراري! لقد خدعتموني ولكن إلى هنا يكفي، ولكن بعد الآن فلن تستطيعوا أن تخدعوني! في أمان الله، اعلموا أنّي ذهبت وحدّدوا بأنفسكم ما الذي عليكم أن تفعلوه! وبالفعل أتى وترك كلّ شيء خلفه، وفي المقابل أعطاه الإمام الحسين عليه السلام كلّ شيء، منحه اللقاء به ـ وهو عين اللقاء بالله ـ منحه لقاء الله، ومنحه لقاء النبي، ومنحه مرافقة رسول الله والأئمة عليهم السلام، منحه مقام القرب والتجرّد، ومقام التوحيد.. منحه كلّ شيء يتصوّره الحرّ أولا يتصوره، منحه الإمام الحسين كلّ شيء، كلّ ما لدى الإمام أعطاه للحرّ.. ما هذا؟ هذا الذي أعطاه إيّاه لأنه تخلىّ عن كلّ شيء، وعندما يتخلّى الإنسان عن كلّ شيء يُعطى كلّ شيء! فحينما يأتي ويقول للإمام: لقد تخلّيت عن كلّ شيء، فحتى لباسي هذا خذوه إن أردتم فقد تخلّيت عنه أيضاً.. فأنا حاضر أن أفعل ما تطلبه منّي! عند ذلك الإمام لا ينظر إلى ما فعله قبل ذلك، ويقول له أنت فعلت هذا! لا! بل المهم هو الآن! عندما تقول هذا الكلام أمامي، هل تقوله واقعاً أم أنّك تمثّل أمامي؟ أمام الإمام لا يوجد تمثيل، بل يوجد واقع فقط! ويقول الحر للإمام: أنت ترى هذا! فإن كان تمثيلاً فأصلحه أنت، فنحن هذا الذي يمكن أن يصدر منّا.
منذ عدّة ليالي ذكرت للإخوة بأنّه يجب أن نقول: إلهي! ليس من المفترض أن يكون عبادك هؤلاء المعصومين الأربعة عشر فقط، فنحن أيضاً موجودون! فإن كنت تتوقّع منّا أن نصل يوماً إلى غبار أقدامهم، فلن تتحقّق أمنيتك في ذلك، ولن نصل إلى غبار أقدامهم أصلاً! ولكن لا يمكنك يا إلهي أن تسلبنا عبوديّتنا لك وأن تتخلّى عن ربوبيّتك لنا! حسناً فهم في مكانهم ونحن في مكاننا... فهل من المفترض أن يكون جميع عبادك في درجة واحدة؟! فأولئك المعصومون الأربعة عشر والأولياء والمقرّبون لهم مكانتهم عندك، ونحن لنا مكاننا، لكن اهتمّ بنا! فنحن عبادك أيضاً ولا يمكنك أن تخرجنا من تحت هذا العنوان! ولا يمكنك أن تخرجنا عن دائرة عبوديّتك، حتّى أنت لا يمكنك أن تُخرج عبداً خلقته من تحت عبوديّتك.. يمكنك أن تقول: أنت عبد مذنب! أنت مسيء! متمرّد! مخالف! يمكنك أن تقول ذلك، لكنّه على كل حالاته وعلاّته يبقى عبدك! وهو لا يمكنه الفرار من حكومتك.
الحرّ الرياحي أتى إلى الإمام وترك كلّ شيء خلفه، هذا هو التخلّي عن كلّ شيء.

    

كل ما سوى الله يبقى قليلاً

يأتي الإمام السجاد عليه السلام ويقول لله تعالى: إلهي يا من له ملك السماوات والأرضين ويا من هو كذا وكذا.. لي مراد كبير جدّاً! فالتفتْ إليّ في ذلك! ما معنى هذا الكلام؟! فهذا ليس صحيحاً! لكن مع ذلك كلام الإمام السجاد صحيح! لماذا هو صحيح؟ لأنّ كلّ ما تفترضه سوى الله فهو مختوم بختم ما سوى الله! وهو أثر الله تعالى، ومتولّد عنه تعالى ـ بمعنى الظهور لا بمعنى الانفصال ـ فهو ظهور لله، وبما أنه ظهوراً له فلا يمكن أن يكون هناك تناسب و شأنية بينه وبين حقيقة الذات.
أمير المؤمنين عليه السلام يقول في خطبة همّام: "عًظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم"[3] ، الخالق وحده هو الذي ظهر في نفوس هؤلاء، وصار له مكان في نفوسهم، فقط الخالق! وهو الذي أتى وجعل لوجودهم شأنيّة وحيثية، عظم الخالق؛ يعني أنّهم جعلوا شأنيّة حقيقتهم ومكانتهم التي يستحقونها مختصّة بالخالق فقط، لذا صغر ما دونه في أعينهم؛ يعني أنّ جميع ما هو غير الله يرونه صغيراً..
عندما رموا النبي إبراهيم في النار، أتاه جبرائيل وقال له ماذا تريد منّي حتى أفعله لك؟! والحال أنّه جبرائيل، وهو مظهر الاسم الأعظم الإلهي، والنار ليست بشيء أمامه، بل يمكنه أن يقلب الدنيا رأساً على عقب! وهذا ليس فعلاً مهمّا بالنسبة إليه، لكن النبي إبراهيم أجاب جبرائيل: علمه بحالي حسبي من مقالي![4] صغر ما دونه في أعينهم، يعني حتى جبرائيل لا ينظرون إليه!! نحن نتوقّع أنّ مراد أمير المؤمنين في هذه الخطبة مختصّ بأهل الدنيا، كلا! بل كلّ ما سوى الله، لا خصوص أهل الدنيا، فأهل الدنيا لا قيمة لهم حتى يذكرهم الإمام في خطبته، فهم ليسوا أهلاً لذلك؛ كأن يكون مراده عندما يأتي شخص ويوكّل محامياً عنه في المحكمة يقول له الإمام عندما تنظر إلى الله لا حاجة للنظر إلى هذا المحامي وذاك الوزير وذلك المسؤول.. فهؤلاء ليسوا بشيء حتى يأتي الإمام ويتحدّث عنهم.
بل الإمام يقول بأنّ هؤلاء جعلوا الله تعالى فقط هو الهدف لهم، فلا نظر لهم إلى جبرائيل ولا إلى ميكائيل ولا إلى ملائكة الرزق ولا إلى ملائكة العلم ولا إلى ملائكة الحياة، ولا ينظرون إلى الأمور والأسباب الدنيوية، ولا إلى الأسباب الأخرويّة، بل ينظرون فقط إلى هدفٍ واحد، ولا يتنازلون عن ذاك الهدف.
عندما يقول المرحوم العلّامة: كلّ من تجعله هدفاً لك دون الله فأنت مغبون، مراده هذا الكلام! كان لديه هدف واحد فقط، حيث قال: لا أقبل بأن يصل رفقائي إلى أقل مما وصل إليه سلمان! معناه هذا. انظروا مضمون الكلام واحد، فهذا تلميذ ذاك الإمام عليه السلام، وهو تعلّم ذلك من عليّ عليه السلام، وتعلمه من هذه المدرسة، واستفاد من هذه المباني، وبناء على هذه المباني يعلّم تلاميذه ويقول لهم: يا تلاميذي يا إخواني يا أصدقائي! احذروا أن تُغبنوا! لقد حذّرتكم! لا يأتيني أحدكم يوم القيامة ويقول لي: كنت تعلم هذا الأمر ولم تقله لنا! لذا كان المرحوم العلّامة يقول: كلّ أمر وكلّ فعل وكلّ شيء غير ذات الباري تعالى جعلته نصب عينيك فأنت مغبون! لماذا؟ لأنّه إذا كان المعطي هو الله سبحانه، فلماذا الاقتناع بما دون ذاته؟!
فلو لم يمكن للإنسان الوصول إلى ذلك، أولم يكن لديه القابليّة للوصول لذلك المقام، فليس عليه أن يطلب أكثر من ذلك! أمّا إذا كان باستطاعتي ذلك ولديّ قابليّة هذا الأمر؛ بمعنى أنّه منحني هذه القابليّة، فلماذا يرضى الإنسان بأقلّ من الله تعالى؟ إذاً هذا عين الخسران! عين الخسران!
لذا الإمام السجاد عليه السلام يقول: عظم ياسيدي أملي. وبما أنّ غير ذات الباري تعالى صغير، فالعظيم هو ذات الله، وعليه فلا إشكال أن يقول عظم يا سيدي أملي، فمقصدي يا إلهي كبير، فهذا لا يوجد فيه إساءة أدب مع الله؛ لأنه يريده هو. بل لو قال: مرادي بسيط، وهو يريد الله، لكان إساءة أدب، إذ يقول الله له: أنت تريدني وتقول بأنّ طلبك هذا قليل؟! إذا كان هذا قليلاً فما هو الجليل عندك؟! أنت تقول: إنّي أريد ذاتك، لكن ذاتك ليست بالطلب الجليل! ما هذا الكلام؟! إذا كنت تريد غيري فغيري بالنسبة لي قليل، لا أنه قليل بعنى أني لا أستطيع أن آتي به، بل بمعنى أن شأن وموقعيّة هذا الطلب والمقصد هو شأن قليل، والحال أنك تريد أن تتّصل بالذات؛ تلك الذات هي التي تستحق أن توصف بالعظمة، فغيري مهما كان فهو صغير. فصغر ما دونه في أعينهم! حتى الملائكة...
ماذا يقول الخواجة حافظ الشيرازي؟ يقول:
من كه ملول گشتمى از نفس فرشتگان
                             قال ومقال عالمى مى كشم از براى تو

(لقد صرت ملولًا من أنفاس الملائكة، وتحمّلت لأجلك كلام الناس جميعا)

يقول: لقد سئمت الجلوس مع الملائكة والتحدّث إليهم، وصارت تسبب لي الملل! إلى أيّ مدى بلغ؟! والحال أنّه صادق في قوله هذا، لا يمازح في ذلك! أين وصل بحيث أنه يقول: لقد سئمت الجلوس مع الملائكة! فنحن لا نتصوّر ذلك حتى في المنام، فنحن لا نرى في المنام أنّا نتحدّث مع ملك من الملائكة، لا مع جبرائيل، بل مع أحد الملائكة البسيطين ـ لأن الملائكة مراتب ـ فنحن نقول إلهي لو أعطيتني ملكاً من الملائكة في المرتبة البسيطة نقبل به، أمّا هو فيقول: لقد سئمت الجلوس مع من هو أعلى منه، بل سئمت الجلوس حتى مع جبرائيل.
لم ننس المرحوم الحداد الذي ذكرته لكم في الليالي السابقة! فإنّ كلام هؤلاء جميعاً منسجم تماماً، فإنا حينما نأتي بكلام القرآن وكلمات أمير المؤمنين وعبارات الإمام السجاد عليه السلام وكلمات العظماء.. نرى أنّها كلها تتحدّث من أفق واحد وفي فضاء واحد لكن بعبارات مختلفة، وتعبّر عن حقيقة واحدة بكلمات متفاوتة؛ وهي أنه عليك أن لا تقبل بغير ذات الباري تعالى، فإنّك إن قبلت بغير ذات الباري تعالى ـ مهما كان ـ وجعلته مقصداً لك، فلن تكون قد وصلت إلى المقصد المطلوب وهو الوصول إلى مقام خليفة الله.
إن شاء الله تتمّة المطالب في الليالي القادمة
اللهم صل على محمد وآل محمد


[1] ـ فقرة من دعاء أبي حمزة الثمالي الشريف.

[2] ـ معرفة الإمام، ج 10، ص 156.

[3] ـ نهج البلاغة، ج 2، ص 161.

[4] ـ بحار الأنوار، ج 68، ص 156، وردت هكذا: "فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي".

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی