معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 هـ ـ الجلسة 13: ما هي الغاية من السلوك؟

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 هـ

المحاضرة الثالثة عشر:
ما هي الغاية من السلوك؟وضرورة إظهار الحاجة والفقر في التعامل مع الله

ألقيت هذه المحاضرة في السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك لعام 1434 هـ

 

ألقاها:
سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه اللـه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

عظُم يا سيّدي أملي و ساء عملي فأعطني من عفوك بمقدار أملي و لا تؤاخذني بأسوء عملي؛ فإنٌّ کرَمَك يجلّ عن مجازات المذنبين و حلمك يكُبر عن مكافات المقصِّرين.[1]

    

دعاء الإمام دستور عملي لسالكي الطريق إلى الله

كنّا قد استعرضنا للإخوة في الليالي السابقة، أنَّ هذه الفقرات من الدعاء تُحدّد مسيرنا وهدفنا وما نبتغيه في هذه الحياة. ويمكن القول بأنَّ الإمام السجّاد يخاطب سالكي الطريق إلى الله؛ ويُبيّن لهم كيفيّة ارتباطهم بالله، ويعلّمهم كيفيّة توجّههم إلى المقام الربوبي.
وهكذا هو الحال على مرّ الزمان، إذ هكذا كانت الأمور في الأزمنة السابقة، وهكذا كانت في زمن المرحوم العلاّمة، فقد كنت أشاهد طبيعة علاقة أصدقائه، والأسلوب الذي يتعاملون به معه، وكذلك تعليمه إيّاهم كيفية ارتباطهم بالله وتعاملهم معه؛ وكنت أشاهد ذلك عن قُرب، فقد كنت أعيش معه في نفس المنزل. والآن عندما أقرأ هذه الفقرات من دعاء أبي حمزة للإمام السجّاد عليه السلام، تَعرض أمام ناظري جميع تلك الذكريات السابقة، وخُطَب المرحوم العلاّمة، وما كان يدور من حديث بينه وبين أصدقائه، وكذلك ما كان يرغب فيه ويتمنّاه أصدقاؤه منه، وميزان إدراكهم لما كان يُلقيه عليهم.. إنَّها تُعرض أمامي وأنا أتكلّم معكم الآن.
بناءً على ذلك، فأنا أفهم الآن جيداً كلام الإمام السجّاد هذا الذي يقوله لله، ويتّضح لي جيّداً ما الذي كان يعنيه المرحوم العلاّمة عندما كان يقول لي: إنَّ هؤلاء الذين تشاهدهم حولي لا يطلبون ما أطلب ولا يسعون إلى ما أسعى إليه، بل هم يسعون للوصول إلى أمور أُخرى، إنَّهم لا يعرفون منِّي سوى هذا الظاهر، وهم مسرورون بهذه الخُطب التي أُلقيها عليهم وبتردّدهم على هذه المجالس. وكنت في ذلك الوقت أُلاحظ ذلك بنفسي ـ و أرجوا أن يعذرني كلّ من يسمع كلامي هذا ممن كان يرجع للمرحوم العلامة ـ فما دمنا بصدد شرح هذه الفقرات من الدعاء، فعلينا أن نصلح أنفسنا ، هل علينا أن نمرَّ عليها مرور الكرام؟! أم علينا التوقّف عندها لشـرحها من أجل أن ينالنا شيء من بركات أنفاس الإمام المعصوم لكي نُصلح أنفسنا؟! فجلوسي هذا بينكم والحديث إليكم هو من بركات مَنْ؟ فأنا لا أستطيع أن أقوم بجمع هذا العدد من الأشخاص الذين جاءوا من أماكن متفرّقة إلى هذا المكان، بل هنالك شخص آخر يقوم بإيجاد تلك النيّة والهمّة وهذا الكلام؛ ولكنَّنا نضع ذلك في حسابنا.
يقول لك الإمام السجّاد بأنَّه لم يبق من عمرك شيء، فعليك إصلاح أفكارك وتصرّفاتك. كان الإمام السجّاد يُخاطب الله بهذه الأدعية في ذلك الزمان، وكان أصحابه يحفظون تلك الأدعية ويكتبونها ويقرؤونها؛ ويمكن الاستدلال على ذلك بما سُمِّي به هذا الدعاء، فناقل هذا الدعاء هو أبو حمزة الثمالي، الذي كان أحد أصحاب الإمام السجَّاد عليه السلام. ويمكن الاستدلال على هذا المطلب أيضاً بدعاء كميل، فكميل هو أحد أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام.

    

كلام الإمام والأولياء كلام أبديّ

إنّ لنَفَس الإمام امتداد على طول الزمان، فقد استمرَّ حتّى يومنا هذا، وسيستمرّ إلى الأبد، لماذا؟ لأن نفسه نفس حق، ألم يستعمل الدراويش هذا المصطلح في كلامهم؟ وهم يعنون به أنَّه كلام لا شك فيه ولا شبهة، لذلك عليك أن تستمع لما يُقال لك ولا تعترض [إن كان القائل نفسه نفس حق]! لكن كم هو الفارق بين الإمام السجّاد وبين ما يذهبون إليه؟ فنَفَس الحق هو نَفَس أبديّ. أمّا أنفاسنا فهي مخلوطة بالأوهام والكثرات والتعلّقات الدنيويّة، ويتّضح ذلك للعيان من خلال حديث الأشخاص ومؤلفاتهم؛ فما أن يقرأ الإنسان جملتين أو سطرين من مقالة ما، حتّى يتعرّف وبسهولة على شخصيّة صاحبها ونواياه، ولكنَّك لو قرأت عبارة للمرحوم العلاّمة أو بيتين من الشعر للشيخ حافظ أو صفحة من شعر مولانا الرومي لوجدته شيئاً آخر، فهذا هو النَفَس الحق، فهو نابع من مصدر حقّ ويستطيع الإنسان العمل بموجبه.
هذا فيما يتعلّق بالعظماء، أمّا نحن فترانا نُقيم المجالس ونتحدَّث، ولكن ما إن نتوسّد التراب حتّى ينفضّ الناس من حولنا، ولعل البعض يُعجِّل بهذا وينفصل قبل أن يصل ذلك اليوم، فتراه ينفصل وينقطع عنّا لسبب بسيط، فعندما نستعلم عن سبب هذا الانفصال نجده يعود إلى أنَّنا كنَّا قد نبّهناه على أمر ما؛ وقلنا له: فوق عينك حاجب[2]! لذا نقول له: لو كنت قد عجّلت بذهابك لكان أفضل، فلو كنّا نعلم بأنك ستذهب لأننا قلنا لك بأنَّ فوق عينك حاجب، لسهّلنا عليك الأمر، وسهلنا عليك اختيارك، ولأضفنا إليها وتحت عينك أنف، وتحت حنكك كذا.
أما كلام المعصوم فهو حقّ وأبديّ. لذا ترى البعض يخلط في المواقف فيقول: لماذا تخالف كلام فلان؟ فالجواب على ذلك هو: وهل تعتقد بأنَّ فلاناً معصوم؟ فما دام غير معصوم فعلينا أن نتفحّص في كلامه، فإن كان كلامه كلاماً حقّاً، أو كان كلاماً صحيحاً ومستنداً إلى دليل، فعلينا أن نقبله، وإلاّ فلا. أمّا كلام الإمام السجّاد فليس فيه ترديد، بل لمناجاة الإمام ودعاء أبي حمزة هذا، سند أبديّ؛ لأنَّه كلام حق منبعث من نفس وقلب وليّ الله. لذا على الأخلاء التدبّر في عبارات الإمام السجّاد، لئلاّ يأتي اليوم الذي يندم فيه الإنسان ويقول لماذا لم أتعامل مع هذا الكلام بالجديّة اللازمة؟ فالإمام السجّاد يُري السالك هنا طريقه الذي عليه طيَّه.

    

الأولياء يعمّرون قلوب السالكين لا دنياهم

كنت ألاحظ في السابق، بأنَّ علاقة تلامذة المرحوم العلاّمة به كانت من نوع العلاقة المبنيّة على مصلحة، لا علاقة شخص جاء يلتمس طريق الهداية، فترى طلباتهم منحصرة في نطاق مشاكلهم الشخصيّة وخلافاتهم مع بعضهم البعض، لم يكونوا يفهمون بأنَّ عليهم أن يغتنموا وجود هذا الولي الإلهيّ لإصلاح أنفسهم وقلوبهم؛ فكانوا يأتون ليطرحوا عليه أموراً تافهة ويطرحوا مشاكلهم مع زوجاتهم! ألهذا جاء أولياء الله إلى الدنيا؟! وكان المرحوم العلاّمة يتذمّر من هكذا تصرّف، وقال لي يوماً: يا سيِّد مُحسن، إنَّ هؤلاء الأشخاص يُريدونني لأجل دنياهم. لكن لا شك أن هذا لا ينطبق على الجميع، فهنالك استثناءات، فكلّ واحد منّا يعلم حاله {بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصيرَةٌ}[3]. نعم، لقد قال لي ذلك سرّاً؛ قال لي: إنهم يريدوني لأجل دنياهم ولا يوجد فيهم من يُريدني من أجل ذلك الشيء الذي أُريد أن أُعلّمهم إيّاه ـ طلبت منكم قبل قليل أن تعذروني على ما أقول، فأنا مُضطرّ لطرح ذلك ـ إنَّ هدف أولياء الله هو تعمير قلوبنا، لا تعمير دنيانا، ولكنَّنا لم نأخذ ذلك بصورة جديّة، بل نتهاون ونتعامل معه على نحو المزاح.
ترى أحدهم يأتي ليتتلمذ على يديّ المرحوم العلاّمة مدة سنتين، وعندما تحصل له مشكلة، تراه يقول لماذا لا يحلّ لي مشكلتي؟
يا عزيزي! وهل كان مجيئك من أجل حلّ مشاكلك؟! فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا تذهب إلى إحدى الدوائر، أو إلى المؤسسات المختصّة بهذا الأمر، أو إلى أحد الوجهاء لكي تُحلّ مشكلتك قبل أن تصل إلى طريق مسدود. وهذا هو السبب الذي جعل الكثيرين في مستوى متدنٍ دون أن يترقّوا، وجعلهم يبقون أسرى الأمور الظاهريّة، غير قادرين على التحرّر منها وقطع التعلّق بها.
وبما أنَّ المرحوم العلاّمة كان رؤوفاً وعطوفاً، لم يكن ليترك أصدقاءه، بالرغم من كلّ ما كان يراه منهم، بل كان يتواصل معهم، ويضع جزءً من وقته للقاء بهم. وكنت أرى ذلك عن قرب، حيث كنت أعيش معه في نفس المنزل، ولم يكن ليخفى عليَّ شيء مما كان يجري، بل كنت مطّلعاً على أمور كانت خافية على الآخرين.

    

ولي الله لا يخطئ في قوله وفعله

في يوم من الأيام، كنت ألقي خطبة من على المنبر في مدينة مشهد، في السنة الأخيرة من حياة المرحوم العلاّمة، وكان الحديث يدور حول عدم إمكانية ارتكاب وليّ الله للخطأ، فلا يمكن أن يتفوَّه بكلامٍِ اليوم، ثم ينقض كلامه غداً ويقول: إنَّ ما طرحته بالأمس كان خطأً! نعم من الممكن أن يطرح الوليّ أمراً في ظرف معيّن ، ثم يطرح أمراً مخالفاً لما طرحه ولكن في ظرف آخر ، فذلك شيء آخر. فهذا أمر من الممكن أن يصدر عن النبي والإمام أيضاً، بل وحتّى عن الله؛ فقد تنزل اليوم آية من القرآن، لتأتي آية أخرى ناسخة لها في وقت لاحق، كما حصل في تغيير القبلة، فقد كان المسلمون يصلّون إلى بيت المقدس في مسجد القبلتين حيث نزلت الآية التي أمرت الرسول بالتوجّه في الصلاة إلى الكعبة؛ فذلك أمر من الممكن أن يحصل لأنه حصل في وقتين مختلفين. أمّا أن يطرح وليّ الله أمراً ما، ثم يأتي في الغد ويقول: إنَّ ما طرحته بالأمس كان خطأً وما أقوله اليوم هو الصحيح، فذلك مما لا يمكن أن يحصل.
لقد كان المرحوم العلاّمة حاضراً في ذلك المجلس ـ حيث كان يحضر في السنوات الأخيرة من حياته مجلساً واحداً من مجموع المجالس العشرة التي كانت تقام في منازل أصدقائه ـ وكنت أتحدّث بشأن قضيّة ما، فغيّرت مجرى البحث بشكل متعمّد لأتحدّث عن هذا الموضوع؛ لأنَّ هذا الموضوع كان يُثار في ذلك الوقت من قبل نفس هؤلاء الأشخاص الذين يطرحون بعض المسائل التافهة هذه الأيام، والذين يدّعون بأنّهم رُعاة هذه المدرسة في الوقت الحاضر، حيث كانوا يقولون بأنَّ ولي الله من الممكن أن يخطئ، فكلامه قد يكون صحيحاً في موضوع معين، لكنَّه غير صحيح فيما يرتبط بموضوع آخر.
وقلت في ذلك اليوم: بأنَّ ولي الله لا يمكن أن يخطئ، ولكن يمكن لكلامه أن يُفهم خطأً. كما حصل مرةً عندما كنت أحضـر لدى المرحوم العلاّمة مع شخص آخر، وقد فهم ذلك الشخص ما طرحه المرحوم بشكل خاطئ وبخلاف ما فهمته أنا! وبعد التحرّي تبيّن صحة هذا الموضوع، وقد تكرّر نظير هذا الأمر كثيراً؛ لهذا السبب صرت لا أعتمد على ما يُنقل عن المرحوم العلاّمة، فلقد رأيت هذا الأمر بنفسي ولم أسمعه عن غيري. وكنت أُنبّه الآخرين على خطأ فهمه لما كان يُطرح، وأقول له: اذهب واسأل مرة أخرى؛ وكان يتبيّن صواب ما قلته.
لقد طرحت الأمر في ذلك اليوم بهذه الكيفية؛ وهي: إنْ كان وليّ الله يقول اليوم شيئاً ما، ثم يتراجع عنه في اليوم التالي، فأنا أعلن عدم انتمائي لهذه المدرسة، لقد قلت ذلك صراحة، وهذا هو دأبي دائماً، فكنت أتطاول؛ وعليّ هنا أن أخبر الإخوة بأنّني كنت صريح اللهجة مع المرحوم العلاّمة وكنت أتباحث معه بشأن المسائل العلميّة، دون أن أضع أمامي أيّ حاجز، على الرغم من أن علوّ مقامه أمر محرز بالنسبة لي، وكان هو يشجّعني على ذلك؛ فإذا ما أردت يوماً عدم التكلّم أمامه بأمر ما، كان يؤاخذني ويقول: لماذا لا تتكلّم؟ لماذا لا تبدي وجهة نظرك؟ فكنت أبدأ بالكلام والورود في البحث بشكل تدريجي على طراز البحث الذي يجري في الحوزات العلمية، حتّى نصل إلى نتيجة معيّنة.
والحاصل أنّه عند عودتي إلى المنزل التفتَ إليَّ قائلاً: طيَّب الله أنفاسك، يا درويش!
فقلت: لقد تطاولتُ في كلامي، فقال: لا، لا لقد أحسنت صُنعاً! كنتَ صائباً بطرحك هذا الموضوع، ثم قال لي شيئاً ـ وهو أمر مهم بالنسبة لنا في هذا المقام ـ قال: يا سيِّد محسن، عندما تتحدّث عليك أن تطرح ما عندك، ولا تهتمّ بمن سيستمع إليك ومن سيعترض، فمن سيكون له نصيب من ذلك، سوف يفهم مغزى الموضوع منذ بداية طرح مقدّماته؛ ومن لم يكن له نصيب منه فلن يفهم، حتى لو كرّرت ذلك ألف مرة ـ كانت هذه عين عبارته ـ.
فلو قلت لشخصٍ ألف مرة بأنَّ هذا المصباح مضيء، لقال لك: لا، إنَّه منطفئ. فما الذي تقوله له عندئذٍ؟ ستقول له حسناً إنَّه منطفئ، وتنهي الموضوع! وإذا قلت له: هذا الوقت هو وقت المساء، لقال لك: لا، إنَّه وقت النهار! فهذا يعني أنَّه لا يريد استيعاب الحقيقة؛ هل التفتم؟ يوجد هكذا نمط من الناس من الذين يفهمون الحقائق جيداً، إلاّ أنَّ نفوسهم لا تسمح لهم بالقبول بها، فما دام الدور هنا للنفس، فلا فرق بين من يعيش في عام 1434 للهجرة وبين من كان يعيش في عام 61 للهجرة أي السنة التي حدثت فيها واقعة عاشوراء، فما الفرق في ذلك؟ لا فرق في ذلك أبداً! فالنفس التي تدوس على الحقّ في هذا الزمان، وفي هذه الليلة، هي ذات النفس التي رمت قلب الإمام الحسين بسهم ذي ثلاث شُعب. أُقسم بجدِّي سيِّد الشهداء أنّه لا يوجد أيّ تفاوت بين هاتين النفسين؛ وأنا مُصرٌّ على قسمي هذا. وسترون يوم القيامة في أيّ صفٍّ يقف هذا الشخص؛ كلّ ما هنالك من تفاوت هو أنَّ هذا الشخص وُلِد في هذا العصر، وذاك وُلِد في ذلك الزمان، فالفارق هو الزمان فقط! فإذا ما وضعنا الزمان جانباً، فسنرى بأنَّه يقف في صفّ سنان وخولي والشمر وعمر بن سعد. كما أنَّ ذلك الذي يعمل بموجب الحق ولا تأخذه في الله لومة لائم؛ تراه يقف في صفّ الإمام الحسين عليه السلام. وهذا هو معنى عبارة أحد العظماء: كلّ يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلاء.

    

من أراد خوارق العادات والمكاشفات فهذه المدرسة ليست هي محلّه

لقد كان نمط تعامل الأشخاص مع المرحوم العلاّمة مبنيّ على أساس أنَّ من ينتسب إلى هذه المدرسة يرى لنفسه حقّاً عليها، فتراه يقول: ها قد أنجزت العمل الفلاني، ولكنَّني لم أحصل على ما أريد. وعلى الرغم من أنَّ طلب البعض لم يكن في نطاق المسائل الماديّة، غير أنَّه كان يتعامل بنفس هذا الأسلوب، حتّى فيما يتعلّق بالمسائل المعنويّة، فتعامله لا يكون مقترناً بأسلوب التضرّع والالتجاء، بل يتعامل كإنسان يرى لنفسه حقاً مترتباً على انتمائه لهذه المدرسة. فتراه يقول: لقد مضى على وجودي هنا سنتان أو ثلاث أو خمس سنوات دون أن أشاهد شيئاً من العوالم الأخرى!
[نقول لهذا الشخص:] ألم يقل المرحوم العلاّمة منذ اليوم الأول بأنه ينبغي أن لا يكون همّ من ينتسب لهذه المدرسة الحصول على أمثال تلك المشاهدات؟ حيث لم يجبرك على المجيء إلى هنا، بل قال: إنَّ من قوانين ومقرّرات الانتساب إلى هذه المدرسة هو ألاّ يطلب الإنسان غير الله، وعليه أن يقرأ الفاتحة على المكاشفات والحصول على الأمور الخارقة للعادة؛ كالإخبار عن الغيب، وما يجري في نفوس الآخرين. فمن أرادها فليبحث عنها في مكان آخر؛ فقد كان في قم وغيرها أفراد من هذا القبيل، كانوا يُخبرون الأشخاص الواردين عليهم بما قاموا به من أفعال! ولكن كلّ ذلك لم يكن يتجاوز عالم المثال، حيث كانوا يطرحون في أسواقهم هكذا متاع، ولسنا بصدد الحديث عن كون ما يطرحونه صحيحاً أم خطأً، كما كانوا يرحّبون بانضمام المريدين إليهم، ويريدون جمع الأتباع حولهم.
فما دام المرحوم العلاّمة قد بيَّن منهجه منذ اليوم الأول، وأعلن عن عدم وجود مثل هذه الأمور فيها، فعليك أن تُصحّح أفكارك ونواياك قبل اتخاذك القرار بالانتساب إلى هذه المدرسة. فمن كان قدومه بهدف الاطلاع على العلوم الغيبيّة، أو الحصول على طيِّ الأرض، أو مشاهدة المكاشفات.. فلا وجود لهذه الأشياء هنا. أمّا مسألة الوصول إلى الهدف المنشود وعدم الوصول، فذاك أمر آخر.
لقد استدعاني أحد الأشخاص في أواخر عمره وقد كان مريضاً ـ لا أريد بيان تفاصيل عن شخصيّته، فقد انتقل إلى رحمة الله في الوقت الحاضر فرحمة الله عليه ـ وكان بإمكانه القيام بالأعمال الخارقة للعادة، حيث كان يستعرضها أمام الآخرين أحياناً. فقال لي: يا فلان! على الرغم من علمي بنمط تفكيرك ومنهجك في الحياة، إلاّ أنَّني أريد أن أطلب منك هذا الطلب؛ إذ لا أريد أخذ هذه الأمور التي أمتلكها معي إلى العالم الآخر[القبر]، بل أريد أن أودعها لدى شخص أمين قبل رحيلي، وكلّما تفحّصت، لم أجد الشخص المؤهّل لذلك. ومع أنِّي أعلم بعدم قبولك لهذا الأمر، إلاّ أنِّي أسألك بحق تلك المسائل التي بيننا والتي تعلمها أنت جيداً، أن تقبل رجائي هذا ـ وهذه هي المرة الأولى التي أفصح فيها عن هذا الموضوع ـ فقلت له: أنت أستاذي ولك حقّ في عنقي، وهذا الأمر محفوظ في محلّه؛ ولكنَّني أسألك سؤالاً: فأنت تقول بأنَّ ما في يديك هو أمانة ـ لقد كانت له إمكانات كبيرة من قبيل طيّ الأرض، والإشراف على النفوس، والاطّلاع على الأمور الغيبيّة، ورفع العوائق ومنع وقوع بعض الحوادث، وأمور كثيرة أخرى؛ وكنت أعلم أنَّ ذلك لم يأتِ من لا شيء ـ فلماذا لا تُعيد هذه الأمانات إلى صاحبها؟ فمن الذي أعطاكم هذه الأمور، ومن أين جئتم بها؟ أعيدوها إلى صاحبها، وهو الذي منحكم كلّ هذه المسائل التي يمكن تسميتها بالمسائل الجذّابة أو النِّعم أو الفيوضات أو التفضّلات أو المواهب والمُنح أو أيّ اسم آخر.. فهو شخص مُتقي لا يستغلّها في الأمور المُحرّمة. من الذي أعطاك إيّاها؟ من الذي منحك حقّ التصرّف فيها؟ وكنت أعلم أمراً معيناً، فقلت له: أتتذكّر الأمر الفلاني؟ منْ كان المُتسبب في إيجاد ذلك الأمر الذي أدّى إلى أن تصلوا إلى هذا المقام؟! وأخذت أذكر له بعض المسائل. ثم قلت: إن كان الأمر كذلك، فأرجِع الأمانة إلى صاحبها وارحل عن الدنيا وأنت مرتاح البال، بدلاً من أن تبحث عن شخص لتسلّم إليه هذه الأمانة.
عندما قلت له ذلك، فكأنَّما ألقي عليه ماء بارد! فقال لي: رحم الله أباك على هذه النصيحة، لم أكن مُلتفتاً إلى ذلك حتّى هذه اللحظة. علماً بأنَّ عامّة الناس لو اطّلعوا على واحد بالألف من تلك الأمور لذهبوا في الحصول عليها كل مذهب، إذ لا يمكن التخلّي عن هذه الأمور ببساطة، فالتخلِّي عن كلّ واحدة منها يجعل صاحبها يعبر عقبات كبيرة. بالطبع لنا حكايات متعدِّدة معه ومع غيره في هذه الأمور.
فقال حسناً، سأفعل، وقام بذلك بالفعل! كنت أريد منه أن يُخرج ذلك من قلبه، ولا يُبقي فيه شيئاً. قلت له: أعِد جميع ذلك إلى صاحبه الأصلي، واخرج من هذه الدنيا كما دخلتها؛ فأيّ شيءٍ كان لديك عندما جئت إلى الدنيا؟ لا شيء: {وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً}[4]. إنَّه لأمر عجيبٌ حقاً، فلقد جاء الله بنا إلى هذه الدنيا ولم نكن نعلم شيئاً، كانت معلوماتنا صفراً، ثم أضفنا إلى أنفسنا بعض الخصوصيّات، وصرنا نقول: "أنا" لا "أنت"، وعليك التنحّي عن هذا الأمر فهو خاص بي، وأمثال ذلك. والحال أنّه لم يكن هنالك شيء من هذا عندما جئنا إلى الدنيا، فلم نكن نعترض عندما كان يحملنا هذا الشخص أو ذاك، أو عندما كانوا يضعونا على الأرض. لم يكن لدينا أيّ خيار ولم يكن لنا أن نبدي رأينا في المسائل من حولنا.
فقلت له: ارحل عن الدنيا بنفس تلك الكيفيّة؛ فتوكّل على الله واترك كلّ ما كسبته في هذه الدنيا من العلوم الغريبة وما شابهها وراء ظهرك، وقل: ربي لقد تطهّرت من كلّ هذه الأمور! وأنا قادم إليك كما ولدتني أمي. ففي هكذا حال سيكون الأمر مختلفاً تماماً.

    

ما ينفع عند الله تعالى هو العمل الصالح والإخلاص لا القدرات الخارقة

أمّا إذا أراد الإنسان أن يأخذ هذه المسائل معه، ويقول: ها أنا قادم! وليكن بعلمك يا رب بأنَّي أمتلك القدرة على طيّ الأرض، فأوصِ بي منكرٍاً ونكيراً، فأنا أختلف عن الآخرين، حيث لي علم بما يدور في نفوس الآخرين، وأعلم الغاية التي من أجلها جاء ذلك الشخص مصطحباً علبة حلوى هدية، وقبل أن يبدأ الكلام قلت له: ستخسر إذا ما بعت تلك الأرض التي تنوي بيعها، فاصرف النظر عن هذا الأمر. كما أنَّي كنت أعلم بالقضيّة التي ستحصل في المكان الفلاني.. فهل نستطيع حمل هذه الأشياء معنا إلى العالم الآخر؟! وأين سنضعها؟ هل سنضعها في الكفن؟ فالكفن لا يسع هذه الأشياء، إذ هو عبارة عن ثلاث قطع من القماش؛ المئزر والقميص والإزار، ولهذا سُمِّيَ بالكفن؛ أيّ الغطاء الذي يُغطّي البدن. أمّا أن يقوم الإنسان برزم هذه الأشياء ووضعها على ظهره والذهاب بها إلى هناك، فسوف يفاجأ بعدم قبول منكر ونكير لها. وإن قال كانت لي القدرة على طيّ الأرض، يقول له منكر ونكير: ونحن لنا القابليّة على طيّ السماء أيضاً. وإن قال: كنت أستطيع الإخبار عن المغيبات، سيقولون له: وعلمنا قد أحاط بتلك العوالم إلى ما شاء الله. أنا أتكلم لكم بلسان حال منكر ونكير، ها أنا أنقلها لكم قبل أن يحين ذلك الوقت الذي تُسمع فيها منهما مباشرة.
بر سر بازار عشق كس نخرد اى عزيز
                             از تو به يك جو هزار كشف وكرامات را
(يقول: في سوق العشق، لا يُشترى منك ألف مكاشفة وكرامة بحبّة شعير، ياعزيزي)

سيأتيه الجواب في ذلك العالم بأنَّه: لا يوجد مشترٍ لهذا المتاع هنا! فذاك يخصّ عالم الدنيا التي كنت تعيش فيها. هنا أخبرنا عن مقدار تحقّقك بالعبوديّة؟ عمّا أظهرت من إيثار؟ عن مقدار تفكيرك بالله وتوجهّك إليه؟ فهذا هو الذي نسألك عنه نحن (منكر ونكير)، تفضل وأرنا ماذا جلبت معك من هذا المتاع؟ كم كنت تضع الله نُصب عينيك في حديثك، في تعاملك مع الآخرين، وفي كتاباتك؟ ألم تكن تكتب ما تكتب بقصد التغلّب على الآخرين وإسكاتهم؟
فالسؤال هناك هو: عمّن وضعت نصب عينيك في كلامك، وفي علاقاتك، هل كنت قد وضعت الله نصب عينيك، أم وضعت مصالحك الشخصيّة؟
عندما تتبدّل الأنظمة السياسيّة وتتغيّر الأوضاع، يتذكّر الإنسان ما كان يتحدّث به الآخرون قبل عدة أيّام وقبل عدّة سنوات، حيث يصبح واضحاً كم كان ذلك المتكلّم يُراعي رضا الله في كلامه وكم كان يُفكر في مصالحه الشخصيّة؟ هنيئاً لأولياء الله الذين أوضحوا لنا هذا الطريق، حيث كنَّا نشاهد أناساً من هؤلاء العلماء والمجتهدين ـ المقصود من المجتهد هنا هو المجتهد الاصطلاحي بالطبع ـ وكأنَّهم كانوا يفهمون القضايا بالمقلوب.
تذكّرت هنا قضيّة لا بأس بذكرها في هذا المقام وهي: عندما أرسلني المرحوم العلاّمة إلى قم، أوصاني بحضور دروس شخصين من العلماء، أحدهما هو الشيخ بهجت، والآخر لا أذكر اسمه لأنَّه لا يزال على قيد الحياة. وقال لي: على الإنسان أن يطّلع على الدروس التي تُدرّس، وعلى الأشخاص الآخرين ونمط تفكيرهم، فإن لم تُعجبك دروس فلان وفلان، فلعلّه يوجد من يمكنك الاستفادة منه. فقلت له: سأذهب! فما الذي يفعله العاطل عن العمل؟ لا شك بأنَّه سيذهب هنا وهناك. وبما أنَّه لم يكن لديّ عمل، فقد ذهبت للاشتراك في دروس أحد هؤلاء الأشخاص لمدة أسبوع ـ على خلاف ما يُشاع من أنَّني لم أذهب للاشتراك في تلك الدروس، بل حضرتها ـ وقد انتقل فعلاً إلى رحمة الله. ولما كان طالب الحوزة لا يجلس ساكتاً مكتوف الأيدي، لذا فقد قلبت الدرس رأساً على عقب. لقد كان الطلاب الذين يحضرون الدرس يضعون إحدى أيديهم فوق الأخرى، ويكتفون بالاستماع فقط. فقلت: إنَّ هذا ليس درساً حوزوياً، فهذا النمط يليق بالدروس الأخلاقيّة لا الدروس الحوزويّة، ففي الدروس الحوزويّة، كدرس الجواهر مثلاً، لا بدَّ من المناقشة والبحث، ولا شك أنَّ أهل الفن يعلمون ذلك جيداً.
وبعد مضي أسبوع على ذلك، وجدت أنّ حضوري للدرس يُسبّب مضايقة للآخرين، لذا امتنعت عن الحضور بشكل مؤدَّب. أمّا فيما يتعلّق بدرس الشخص الآخر الذي هو على قيد الحياة في الوقت الراهن، فقد حضـرت دروسه لمدة شهر أو شهرين ثم توقّفت. وعند تشرّف المرحوم العلاّمة بزيارة قم ـ وكان ذلك بعد ذهابه إلى طهران ـ جاء إلى منزلنا مساءً، وفي أثناء الحديث قال لي: هل بدأت بالتدريس؟ قلت: نعم بدأت!. فقال: أين؟ قلت: في البيت. فقال: ألم أقل لك بأنَّ عليك التدريس خارج البيت، لماذا تقوم بالتدريس في البيت؟
ولم يكن مزاجي يساعدني، ولم أكن أرغب في ذلك الوقت بإعطاء الدرس الطابع الرسمي؛ فإذا كان الهدف هو طرح المواضيع العلميّة والبحوث، فهي تصل إلى أسماع الآخرين في نهاية المطاف، كما حصل بالفعل ووصلت إلى الأسماع، وهي الآن في متناول الأيدي. فقال: لا، بل عليك أن تفعل كذا وكذا، ولا يُفترض أن يكون التدريس في البيت. ثم سألني: وماذا عن حضور دروس الشخصين اللذين أوصيتك بهما؟ قلت: نعم، حضرت دروس فلان لمدة أسبوع، ودروس فلان لمدة تقل عن الشهرين. قال: وما هو رأيك بتلك الدروس؟ ولماذا لم تستمر في حضورها؟ فقلت: اسمح لي يا سيدي بأن أتجرّأ وأقول بأنَّني لا أعرف مجتهداً غيرك وغير العلاّمة الطباطبائي! فضحك. ثم تابعت قائلاً: لو طلبت منّي الاستمرار، سأستمر! فقال: لا! ما دام الوضع كما ذكرت فالأمر إليك؛ لكن كنتُ أريد أن تذهب بنفسك وتتعرّف على الآخرين. قلت: أنا لا أعرف أحداً سواكم وسوى المرحوم العلاّمة الطباطبائي رحمة الله عليه والسلام. وقال لي شيئاً آخر ليس هذا مكان ذكره، إذ قد يعدّ ذكره إهانة للآخرين، ولا أريد أن أتعرّض للآخرين؛ سواءً من توفي منهم أم من هو على قيد الحياة؛ فكل شخص يجني ثمرات ما يبذله من جهد في هذه الدنيا، والمهم هو أن تكون نيّة الشخص نيّة خالصة وطاهرة.
لقد طرحت هذا الأمر هنا، لحصول تساؤلات حول هذا الموضوع؛ فأردت الإشارة إلى أنَّني كنت قد اشتركت في تلك الدروس التي أُوصيت بحضورها، ولكنَّني رأيت أن مشاركتي ـ وكما ذكرت ـ تُسبب مضايقة لأشخاص آخرين لا يرغبون بهكذا نوع من المضايقات، فتركت المجلس لأهله؛ أولئك الذين يرغبون الاستفادة بشكل أفضل، حيث كان هذا البحث والجدال يبعث على الإخلال بسكوتهم وهدوئهم.

    

على الإنسان أن لا يرى لنفسه على الله حقاً

كان المرحوم العلاّمة يسعى لإفهام الآخرين بأنَّ على الإنسان سواءً كان سالكاً أم لم يكن ـ وإن كان الحديث يتعلّق بالسالكين ـ ألاّ يرى لنفسه على الله حقاً، بل عليه أن يرى نفسه محتاجاً على كل حال، ولم يستطع المرحوم العلاّمة تحقيق هذا الهدف. وهذا هو الأمر الذي يُشير إليه الإمام السجّاد في دعاء أبي حمزة هذا، فهو يقول: يا من يقرأ أو يستمع لهذا الدعاء، اعلم بأنَّك إن رأيت لنفسك على الله حقاً في تعاملك معه، فسوف تكون صفقتك خاسرة! فاترك الطلب.. أنا لا أقول هنا بأنّه ينبغي التخلّي عن الهدف، فهذا الهدف، وتلك الرغبة، وتلك النيّة قد ألقاها الله في قلبك.. ولا تحسب لعملك حساباً؛ كأن تقول: إلهي لقد قمت بالوعظ والإرشاد من على المنبر في هذه المدة، فليكن تعاملك معي مختلفاً عن تعاملك مع الآخرين. فهذا النمط من مخاطبة الله نمط خاطئ. أو أن يقول الطبيب: إلهي لقد عالجت عبادك المرضى.. فيأتيه الجواب: ألم تستوفِ أجورك منهم؛ وعلى فرض عدم استيفائك لبعض الأجور أحياناً، فهل ترى نفسك متفضِّلاً على الله؟ ألا يستطيع الله أن يسلب منك قدرة التشخيص في تلك اللحظة؟
قال لي أحد أصدقائي الرفيق الشفيق والأخ المخلص العزيز الدكتور سجّادي، والذي يعتبر أفضل طبيب عيون في العالم في كلا الاختصاصين: الشبكيّة والقرنيّة، ويمكن معرفة ذلك من خلال حجم ما قام به من عمليات، كما أنّ ذلك مثبت في سيرته الذاتية.. قال لي: إنَّ إجراء عملية جراحيّة لسحب الماء الأبيض من العين بالنسبة لي بسيطة جداً؛ بحيث إنَّها تشبه ما يقوم به الإنسان من تقليم أظافره، فهذه العملية التي لا تستغرق مني أكثر من عشرين دقيقة أو نصف ساعة، وهي لا تُعدّ شيئاً بالمقارنة مع عملية الشبكيّة التي تستغرق سبع أو ثمان ساعات. قال: بعد إجراء عملية تمزّق الشبكيّة للمرحوم العلاّمة والتي استغرقت خمس ساعات ـ حيث كنت موجوداً في المستشفى حين إجراء العملية ـ وغالباً ما يعقبها إصابة العين بالماء الأبيض، وقد حدث لعين السيِّد العلاّمة هذا الشيء. فتقرّر أن أجري لعينه عملية جراحية لاستخراج الماء الأبيض ووضع عدسة، فقلت: سأقوم بإجراء هذه العملية الجراحية بنفسي. وعندما بدأت العمل وفتحت غشاء العين، وجدت نفسي عاجزاً عن إتمام العمليّة، فلم تكن لديّ القدرة على سحب الماء ووضع العدسة، وبقيت واقفاً لا أستطيع القيام بشيء. وكان الأمر محرجاً جداً فقد يؤدّي ذلك إلى العمى؛ حيث إنَّ هنالك طبقة بيضاء فوق القرنيّة، فإذا تمّت العملية دون مراعاة الدقّة، فقد يؤدي ذلك إلى تضرّر العين، بل قد يحصل العمى بسببها، ولا شك أنَّ أطباء العيون يعلمون ذلك، فبقيت متحيّراً. فقال لي الأشخاص الموجودون معي: لماذا لا تستمر بالعمل يا دكتور؟ فقلت: لا أستطيع! قالوا: أنت لا تستطيع ذلك؟ قلت نعم لا أستطيع.
لعلّ ذلك كان تصرّفاً من هذا السيِّد الممدود على السرير في الوسط، نعم هذا السيِّد الواقع تحت تأثير المُخدِّر. لا تتصوَّروا أنَّه فاقد الوعي، بل هو أكثر وعياً منِّي ومنك! فلا بدّ أنَّه قام بتصرّف ما. يقول الدكتور: تركت العمل، وقلت دعوني وشأني. فرفعت يديّ وقلت: لقد أخطأت يا رب! فما إن خطر على قلبي بأنَّ هذه العمليّة من البساطة بحيث إنَّها كشـرب الماء، حتّى حصل لي ما حصل، فكيف يتمّ إصلاح هذا الأمر. وما إن قلت لقد أخطأت! حتّى وجدّت نفسـي قادراً على إتمام العملية، فشـرعت بالعمل وسحبت الماء وأتممت بقيّة المراحل.
من حصل له ذلك، ليس شخصاً عادياً، بل هو أفضل متخصّص في العالم في هذين المجالين؛ ويعترف الجميع بمهاراته، وهنالك وثائق تدلّ على ذلك. فما الذي حصل إذاً؟ إنَّ سبب ذلك هو نسبة كلّ تلك المهارات إلى نفسه! لماذا لا تنسبها إلى الله؟ هل يستطيع أن يسلب منك كلّ تلك المهارات أم لا؟ نعم يستطيع.
كنت أُدرِّس درس القوانين، وكنت أستفيد من كتاب الحاشية على كتاب القوانين للسيِّد علي ـ الأصدقاء يعرفون ذلك ـ ولم أكن أرجع إلى بقيّة الشروح كشرح الأوثق وغيره، لم أكن أرجع إليها أبداً. وفي إحدى الليالي كنت أطالع موضوع العام والخاص في القوانين، لا أتذكّر ماذا كان الموضوع بالذات، وعند رجوعي إلى هامش السيِّد علي، خطر في قلبي بأنَّه لا المرحوم صاحب القوانين ولا السيِّد علي فهما الموضوع على ما هو عليه، والصحيح هو ما توصّلت إليه ـ يحصل للإنسان هكذا أمور أحياناً، فالإنسان وكما ذكرنا سابقاً ليس بمعصوم ـ فذهبت في اليوم التالي لإلقاء الدرس وأنا عازم على إخبار الباقين وبافتخار بأنَّه لا صاحب القوانين ولا السيِّد علي فهما أصل الموضوع. ولقد كان المرحوم السيِّد علي رجلاً قديراً، ويبدو أنَّه كانت له حالات روحانيّة أيضاً، حيث يُنقل عنه بعض الحالات غير الطبيعيّة. وعندما شرعت بالدرس ووصلت إلى شرح تقرير صاحب القوانين، وإلى طرح هذا الخطأ الذي اكتشفته، رأيت نفسي عاجزاً عن بيان الموضوع! وكلّما فكرت في الموضوع، وجدت نفسي عاجزاً عن البيان. فقلت للأصدقاء: كنت قد راجعت هذا الموضوع البارحة، فلماذا نسيته؟ فعلمتُ أنَّه ليس من المقرر أن أتذكّره.
[قيل لي:] إنك تتفاخر؟ تقول أنا الذي فهمت؟ لم يفهمه هذا ولا ذاك؟! إذاً سنُريك نوعاً من الفهم، حتّى لا تُكرّر مثل هذا الخطأ مستقبلاً. بعدها علمت فجأةً السرّ الكامن وراء ما حصل! فقلت: لقد أخطأتُ يا رب، فكلاهما أفضل منّي، وأنا لا أفهم شيئاً. ما إن قلت ذلك، حتّى انفتح فهمي. فقلت للأصدقاء: سأحكي لكم القصة، ولكن بعد أن نقرأ سورة الفاتحة لكليهما ثم نبدأ بالبحث حول الموضوع. كيف للإنسان أن يقول أنا الأعلم، أو ذاك هو الأعلم، وهذا علمه أكثر من الآخرين. من الذي أفاض كلّ هذه العلوم؟ من أين أتيتَ بهذا العلم؟
وقد حصل لي العديد من هذه الموارد، فالأمر إلى الله، فإن شاء أن يسلب فهم الإنسان، سلبه! وإن شاء منَحَه. فإن قيل بأنَّ علم هذا الشخص أكثر، فمانح هذا العلم الكثير هو الله، كما أن مانح العلم القليل هو الله أيضاً؛ ففي كلتا الحالتين يجب أن ننظر لما بين أيدينا على أنَّه أمانة، فلماذا لا نَنسِب تلك الأمانة إلى صاحبها الأصلي؟ لماذا نَنسبها إلى أنفسنا؛ فنقول علمنا أكثر من ذلك، أو علمه أقل من علمنا؟ وكذلك الحال بالنسبة للتقوى والمقامات وغيرها.
مَنْ كان بلعم بن باعورا؟ ألم يكن ذا مقامٍ عالٍ؟ ألم يكن مُستجاب الدعوة؟ ألم يكن قادراً على القيام بأعمال خارقة للعادة؟ ألم يذكر الله في القرآن بأنَّه آتاه آياته: { وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوينَ }[5]. فبلعم هذا قد استغلّ علمه ضدّ وليّ الله، وعلينا أن نستفيد من هذه العِبر. فجميع النِعم الظاهريّة والباطنيّة هي ملك لله. ولا يعني هذا أنَّ السالك ما دام قد وضع قدمه على الطريق، فإنَّ الأمر صار محسوماً بالنسبة له!! فقد انتقد المرحوم العلاّمة في كتاب الروح المجرّد ذلك الشخص المُتمرّد ـ على أنَّه لم يذكر الكثير مما كان يفعل ـ كان يُظهر أموراً خارقة للعادة لم أذكر لحد الآن واحدة منها للآخرين، فحتّى تلك المسائل التي ذكرتها في الجلسات الخاصّة لم تكن إلاّ أموراً بسيطة منه؛ حيث كان ينقل لي قضايا وأسراراً لا يمكن البوح بها. فشخص كان قد وصل إلى هذا المقام، تراه يقف بوجه وليّ الله ويُسيء الأدب إليه! لكنّه تلقّى ضربة، لا يزال ينحدر على إثرها إلى القعر حتّى يومنا هذا! فلا يتصوّر المرء بأنَّه إذا أحرز مقاماً معيناً، يكون قد وصل إلى نهاية المطاف، فمصدر جميع تلك المواهب الظاهريّة والباطنيّة واحد، فصاحب الأمانة واحد؛ فهو صاحب العلم، وهو صاحب المواهب وهو صاحب الفيوضات، فالذنب ذنب، وإن صدر من أيّ شخص وفي أيّ مقام كان؛ فعلى الإنسان أن يكون يقظاً، وعلينا ألاّ ننسى بأنَّنا محتاجون دائماً وعلى طول العمر.

    

الجميع فقير إلى الله حتى الإمام والنبي عليهم السلام

فحتّى الإمام السجاد وفي هذا الوقت الذي يدعو الله فيه بهذا الدعاء هو محتاج؛ فلو لم يكن محتاجاً لما قال لنا هكذا، ولما التجأ إلى الله بهذا الشكل! الإمام يُعلِّم أبا حمزة هذا الدعاء وهو في حال من الحاجة، لا في حال المطالبة. قلت لكم تلك الليلة لو كان الإمام السجاد يُخاطب الله بهذا الشكل: إلهي ليكن بعلمك إنَّ من يُخاطبك هو الإمام السجاد، فلتحافظ ملائكتك على الهدوء حين أتكلّم معك، ويجب عليك مراعاة منزلتي، فأنا الإمام السجاد، أنا علي بن الحسين! أنا الواسطة والحبل الممدود بينك وبين خلقك، وأنا وسيلة نزول الفيض من المبدأ الأعلى إلى عالم الكثرة في جميع مراتبها ومقاماتها، فليكن بعلمك ذلك!
لو قال الإمام ذلك، لقال له الله: ماذا تقول؟ أنت الإمام السجاد؟ أنظر إلى نفسك الآن، ألا زلت كما أنت؟ فيرى الإمام السجاد بأنَّ كل شيء قد سُلب منه، فلا يستطيع حتّى أن يرفع يده. نعم، لا يستطيع الإمام السجاد الذي هو الواسطة بين الله والعالم، لا يستطيع أن يُحرّك يده. نعم، هذا هو واقع الحال، فالله لا يُجامل أحداً، ولو جامل أحداً لجامل رسول الله الذي هو أحق من غيره في ذلك، ولما جاء في القرآن: { وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاويلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمينِ}[6]. إنَّ لهذه الآيات وقعاً كوقع الفأس عندما ينزل على العمود الفقري للإنسان؛ فهذا النبي، مع ما له من قدرة على شقّ القمر وجعل الشجرة تنطق بالشهادتين، ومع كون العالم كله رهن ما يخطر على قلبه.. لو أراد أن ينسب إليّ شيئاً لم أقله، أو أضاف من عنده شيئاً وإن كان قليلاً، أو أراد أن يرى له دوراً فيما يحصل { لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمينِ }.
هل تتصوّرون بأنَّ النبي قد أصبح نبيّاً وأخذ يصعد المنبر ويُخاطب الناس يا أيّها الناس أو يا أيها الذين آمنوا، بهذه البساطة؟! لقد قاسى النبي ما قاساه حتّى وصل إلى هذا المقام.
كــار پاكــان را قيـاس از خـود مگيــر
                             گرچـه باشــد در نوشتــن شـير شـير[7]
(يقول: لا تَقْس عمل الأصفياء وفقاً لملاكاتك و فهمك للأمور، فعلى الرغم من أنَّ كلمتي "الأسد" و "الحليب" تُكتبان بنفس الهيأة الكتابية ( فكلاهما يُكتب بالفارسية "شير") و لكن شتان بين هذا و ذاك.)

لا أدري عن أي شيء أتحدَّث، وماذا أترك! فقد كثر توارد المواضيع على ذهني في هذه اللحظة، ولا أدري من أين أبدأ. فهذا النبي وبتلك العظمة، لو أراد أن يتخطّى مقام العبودية ـ الذي تحدّثنا عنه وقلنا إنَّه سيكون محل سؤال منكر ونكير ـ ويحسب لنفسه حساباً، لأخذناه بيد القدرة، { ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتينَ} أيّ لقطعنا شريان حياته، ذلك الشريان الذي يُغذِّي الجسم بالدم من القلب! لماذا أضفت تلك الكلمة من عندك دون وحي منا؟!
هل تعتقدون بأنَّ آيات القرآن هذه قد نزلت عبثاً؟ تعالوا وانظروا ماذا يُقال عن آيات القرآن! يقولون: إنَّها كانت منامات يراها النبي! لا يدري الإنسان أيبكي على حال هؤلاء الناس أم يضحك عليهم. يقول الله: لو أضفتَ كلمة واحدة من عندك لقطعتُ شريان حياتك، فبأيّ حقّ أضفت هذه الكلمة؟ ما الذي يعكسه هذا الكلام؟ هذا الكلام يعكس بأنّه لا وجود لأيّ تعلّق في نفس رسول الله، فقد صارت صفراً مطلقاً، وأصبحت نفسه مرآةً. فإذا ما وضعت المرآة مقابل النجمة أو القمر أو الشمس أو الشجرة، فهي تعكس صورة هذه الموجودات، لقد أصبحت نفسه مرآةً بكل معنى الكلمة. قلت لكم: إنّ ذلك لم يحصل من لا شيء، بل قاسى الرسول وعانى ما عانى حتّى وصل إلى هذا المقام. فكم علينا أن نعمل لكي نصل؟
يقول الإمام السجّاد: لا عليك أن تتخلّى عن العمل، بل عليك أن تعمل، ولكن لا تحسب لعملك هذا حساباً؛ فإذا ما أخذت عملك بالحسبان، فسيقول لك الله: لقد ذكرت نفسك وقلت أنا الذي أنجزت ذلك العمل؟ من الذي أعطاك القدرة على العمل؟ أنت تتباهى وتقول لقد صلّيت صلاة الليل، ولقد شاهدتني ملائكتك وأنا أصلّي؟ فإذا كان الأمر منك، فانهض الليلة وصلِّ صلاة الليل؟ فما أن يهمّ الإنسان على النهوض، حتّى يرى أنَّه لا يستطيع القيام بسبب آلام في ظهره!
حصل لي قبل أيام آلام في ظهري، وكنت وحدي في مكان ما؛ وكان قد حصل لي انزلاق في الفقرات في وقت سابق، وهو يعاودني بين الفينة والأخرى عند عدم مراعاة بعض الأمور. لقد بقيت لمدة نصف ساعة أحاول أن أمدّ رجلي وأنا جالس على الأرض، فلم أستطع أن أمدّها ولو بمقدار عشرة سنتيمترات؛ فبقيت جالساً على هذا الوضع. فتوجهت إلى الله وقلت فرِّج عنّي يا رب، فلا يمكن أن يستمر الحال هكذا، فتمكنت بعد جهد جهيد من الحركة.
فإذا حصل لك مثل هذا، فقم إذاً وصلِّ صلاة الليل! ألم تتباهى بأنَّك قد صلّيت صلاة الليل بالأمس، وقلت لقد اصطفت ملائكتك لمشاهدتي أثناء الصلاة، وهم يقولون ها هو أحد عباد الله الصالحين واقف يصلي، وقد أتعبَنَا بصلاته تلك؟! فقم الآن وصلّ! مَنْ الذي وهبك الصحة؟ مَنْ الذي أيقظك؟! فلو ضُرب رأسك بالمطرقة لما نهضت من نومك، فمَنْ الذي أيقظك إذاً؟ ومَنْ الذي وفّقك وألقى في قلبك النيّة للقيام؟ مَنْ الذي ألقى في قلبك نيّة الإنفاق؟ ومَنْ الذي أعطاك هذه الأموال لكي تنفقها؟! فلو لم ألقِ في قلب فلان أن يأتي ويشتري منك، أو لو لم أُسبب لذلك الشخص مرضاً في أحد أعضائه حتّى يأتي إليك للمعالجة، هل كان سيأتي إليك؟! لولا ذلك لجلس كل منكما في مكانه يروِّح على نفسه. أنا الذي أمرضته وجعلته يركب سيارته ليأتيك ويراجعك، ثم يُعطيك أجور المعالجة وينصرف وهو شاكر لك، وتقوم أنت بإصدار النصائح له بحال من الخيلاء، فتقول له عليك العمل وفقاً لقائمة الدواء التي كتبتها لك، وستتعافى إن شاء الله، ونسألك الدعاء. من الذي قام بهذا العمل؟ الله فعل ذلك، فلماذا ننسبه إلى أنفسنا ونتفاخر به؟! كما أنَّ ذلك الذي يريد أن يبني بناية، لا بدَّ له أن يذهب إلى مكتب المهندس، ويطلب معه خارطة البناء، وإلاّ لاكتفى بعريش كعريش موسى، وذلك بأن يٌركِّز أربعة أعمدة خشبية في الأرض ويضع فوقها الخشب أو غيره مما يقيه أشعة الشمس، ولا يحتاج معها إلى الذهاب إلى مكتب المهندس لتصميم خارطة البناء وما شاكل ذلك!
يتّضح مما سبق بأنَّ الله هو الذي يُلقي في قلب الإنسان الحاجة إلى بناء بيت فيه غرف وصالة وحمام ـ وأهم شيء هنا هو الحمّام ـ[مزاح] وسرداب وما شاكل ذلك؛ فلما كان الإنسان لا يعرف كيف يرسم الخارطة ولا يعلم بأنواع الحديد الذي سيستخدمه في البناء، لذا سوف يذهب إلى المهندس ليُنجز له ذلك. فيقوم المهندس بالاستفسار منه عن طبيعة البناء الذي يحتاج إليه، ليقوم بعدها بإجراء اللازم ويأخذ منه أجوره. فكل شيء في هذه الدنيا يجري على هذا المنوال، أليس كذلك؟
وهذا الأمر ينطبق عليكم أيضاً، فقد تصوّرتم أنَّه ليس وراء عبادان قرية، والعالم فيه قحط فعثرتم على السيِّد الطهراني، فقلتم لنذهب إليه ونسأله. ليس الأمر كما تعتقدون يا أعزائي، اذهبوا إلى مكان أحسن مني، نعم من جهة انتسابي إلى المرحوم العلاّمة صحيح، ولكنَّني أشعر بالخجل لعدم تمكّني من أداء حقّ الانتساب لهذه المطالب.
جميع أمور العالم تجري على هذه الوتيرة، فعلينا التوجّه إلى حقيقة الأمور، لا إلى عالم الكثرة والتعلّقات الدنيويّة؛ فأنا محتاج إليكم، وأنتم محتاجون إلى أصدقائكم، وكلّ واحد منّا يحتاج إلى الآخر، غير أنّ مآل جميع ذلك إلى مَنْ لا يحتاج إلى أحد، وهو ذلك الأصل الذي تمتد إليه أيدي الجميع بالحاجة. وهذا هو الذي كان المرحوم العلاّمة يريد أن يُفهمنا إيّاه.
لقد أتّضح إلى حدّ ما، ما يُريد الإمام السجّاد بيانه في هذه الفقرات من الدعاء، فعندما يقول الإمام: عظم يا سيدي أملي وساء عملي، علينا أن نفهم المراد من ذلك؛ فعندما نقول عملنا سيء، فهذا يعني بأنَّه علينا ألاّ نُقيم وزناً لعملنا، لا أن نقوم بمساومة الله مع ما يفيضه علينا من اللطف والكرم فنقول: إلهي أنا أقوم بإجراء التحقيقات وتنظيم المواضيع والعمل على نشرها، وها أنا ذا أخصّص جزءً من وقتي للعمل على ذلك في البيت، وغير ذلك مما نتكلّم به فعلاً، فليس من الصواب أن نتكلّم بهذا الكلام، فما دامنا منشغلين بأداء هذا العمل، بل من الواجب علينا أن نقوم به، فلماذا لا نجعل منه عملاً خالصاً؟ ولماذا نخلطه بمسائل أخرى ونقوم بتخريبه بأيدينا؟ ولماذا لا ننسب هذا العمل ـ وبشكل خالص ـ إلى صاحبه الأصلي، ولا نجعل لأنفسنا منه نصيباً؟ فنتوجه إلى الله قائلين: إلهي أنت الذي منحتنا هذا التوفيق، وأنت الذي أعطيتنا الهمّة ووفرّت لنا الوقت للقيام به، فلو ابتليتنا بألم في الظهر ـ كما حصل لي، حيث بقيت لنصف ساعة دون حراك ـ فمن أين لي القدرة على إنجازه، لو أنَّ الله شدّد عليك أو أرخى لك قليلاً لسقطت في الحال، ولما استطعت تحريك يدك.
لقد حصل لي قبل بضع سنوات نزف في الاثني عشري عندما كنت في مشهد، فاستيقظت في منتصف الليل وكنت وحيداً، فوجدت نفسي غير قادر على تحريك يدي! فبقيت نائماً على وضعي هذا، فقلت لماذا لا تنهض يا من لك كلّ هذا الادّعاء؟ لقد كان ذلك في الليلة الأولى أو الثانية من شهر رمضان، لم أراعِ بعض الأمور في وقتها، كما إنِّي صمت بدون سحور؛ فترادفت عدة عوامل في وقت واحد وأدّت إلى حصول ما حصل، فلم أستطع حتّى تحريك يدي.
ذكرت لكم في الليالي الماضية، بأنَّ الإنسان لا بدّ من أن يمرّ بهكذا ظروف لكي يدرك هذا الأمر، فالمسألة لا تُدرك بالقراءة والاستماع، فإذا ما أردنا أن نفهم عبارات الإمام السجّاد حقاً، لا بدّ أن يرينا الله موارد من هذا القبيل؛ ولكن على الإنسان أن يكون يقظاً، ولا يدع تلك المسائل تمرّ من دون أن يُرتّب عليها أثراً، بل عليه أن يجعلها أساساً لبرنامجه الذي يعمل بموجبه.

    

على الإنسان أثناء الدعاء والصلاة أن يظهر العجز والحاجة

فما الذي يعنيه قول الإمام السجّاد: أعطني من عفوك بمقدار أملي، ولا تؤاخذني بأسوأ عملي؟ يعني بأنَّك عندما تتكلّم مع الله وتقول: إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، عليك أن لا تأخذ عملك بالحسبان، غير أنَّ الذي يحصل هو أنَّنا، وبدلاً من أن يكون هدفنا من أداء الصلاة إظهار العجز والحاجة، نتباهى بها ونضعها في حسابنا المصرفي، كم لدينا من المصارف الآن؟ لنعدّها! زادها الله مائة ضعف إن شاء الله! فكلّما كانت أكثر، أصبح الوضع أفضل! [مزاح].
فعندما نصلي، فنحن في الواقع نقول يا رب، نحن محتاجون، ولكن كيف علينا أن نظهر احتياجنا هذا؟ نقول: اذهب وتوضأ بهذه الكيفية؛ بأن تغسل يدك اليمنى، ثم اليسرى ثم تمسح على الرأس والرجلين، ثم تستقبل القبلة، وتبسط سجادة الصلاة، وتضع التربة والمسبحة.. وكل تلك المسائل هي مقدمات للصلاة، وليكن لباسك أبيض اللون، ولا ينبغي أن تكون سجادة الصلاة محتوية على رسوم وزخرفة ملوّنة، بل يفترض أن تكون بيضاء اللون لكي لا يتشتت الذهن أثناء الصلاة بالنظر إليها أو إلى زخرفة جدران المسجد والقبّة وغيرها.
لم يكن المسجد الذي بناه رسول الله بهذا الشكل، بل كان عبارة عن أربعة جدران دون سقف، قال عنه النبي: عريش كعريش موسى! وعندما طلب المسلمون من النبي أن يجعل له سقفاً للحماية من المطر، أمرهم النبي بعمل سقف من جريد النخل، يتم تغطيتة بالطين؛ لا أن تُصنع له قبة من الخرسانة المسلّحة لكي يتم التباهي بها على أنَّها أعلى قبّة لمسجد في العالم. فالهدف من الذهاب إلى المسجد هو للوقوف أمام الله ولإظهار العجز والمَسكنة والضعف والفقر، فيقف العبد ليقول: إلهي أنت الغني! أنت القادر على كلّ شيء! أنت العزيز، أقرأ مناجاة أمير المؤمنين في مسجد الكوفة، فها هو يقول في حال من البكاء: «مَوْلايَ يا مَوْلايَ أَنْتَ الغَنِيُّ وَأَنا الفَقِيرُ وَهَلْ يَرْحَمُ الفَقِيرَ إِلاّ الغَنِيُّ» فما هو ذلك البكاء؟ لم يكن تمثيلاً، لا والله؛ بل كان بكاءً حقيقياً نابعاً من قلب أمير المؤمنين، لكنَّنا لا نريد أن نتقبّل هذه الحقيقة، لذا فنحن لا نحمل الموضوع محمل الجد؛ وذلك لأنَّنا قد حبسنا أنفسنا في سجن الأمور الظاهريّة، فنحن نتصوَّر بأنَّ أمير المؤمنين يقول ذلك من باب المجاملة وإبراز التواضع والاحترام أمام الله، فلو كان الموقف هو موقف إظهار الأدب، فمن أين تأتي هذه الدموع؟! فالأدب لا يبعث على حرقة القلب وذرف الدموع، فهل تذرف الأم التي مات طفلها الدموع إظهاراً للأدب أمام الناس؟! إنَّ هكذا نوع من الدموع لا تكون دموعاً حقيقيّة، بل هي من قبيل الدموع التي يطلقها الممثّلون، فتلك الممثّلة التي تمثّل دور الأم، لم تفقد طفلها واقعاً، ولكنَّك تراها تبكي، فلا أدري ما هو مصدر تلك الدموع، هل هو بسبب استشمام البصل؟ على كل حال، فذلك البكاء هو بكاء تصنّعي، فهل بكاء الأم بكاء تصنّعي أيضاً؟ إنَّ بكاء الأم منبعث من قلب يحترق، وهكذا كان بكاء أمير المؤمنين، ولكنَّنا لا نُدرك ذلك. كما أنَّنا لم نفهم كلام الإمام السجّاد كذلك، لذا لم نأخذه مأخذ الجد.
فعلينا أن ندرك تلك الحقيقة التي أدركها النبي وأمير المؤمنين والإمام السجّاد وهي:
بی عنايات حق و خاصان حق
                             گر ملک باشد سياه استش ورق[8]
(يقول: كلّ أحد، وإن كان ملَكاً، فهو عبد رِق، ما لم تشمله عناية الحقّ وأوليائه)

فالهمّة والإرادة لا تتحقّق إلاّ بواسطته، وما علينا إلاّ إصلاح أفكارنا ومسيرنا.
لقد وصلنا إلى هذا المقدار في حديثنا، حتّى نرى ما الذي سيُقدّره الله لنا؛ وهل سنصل في هذه السنة إلى ما كنَّا قد رسمناه في أذهاننا ونوينا الوصول إليه أم لا، إن تمكنَّا من ذلك فقد حصل المطلوب، وإن لم نتمكّن فلا ضير في ذلك؛ فليس الإنسان هو المُدبِّر لأموره في جميع الحالات، بل عليه أن يوكّل أمره إلى تقدير الله، وعندئذٍ سيكون الأمر أفضل، إذ ذلك سيُقلِّل من التصنّع.
هل لاحظتم البعض؟ فعندما يريد أن يتكلّم، تراه يضع أنواع الزخارف على يمينه وعلى شماله وعَلَماً خلفه، وشيئاً فوق رأسه، فإذا ما رأيتم شيئاً من هذا القبيل، فستكون الحكاية واضحة لكم حتّى آخرها، فلا تتلفوا أوقاتكم بمتابعته، وانصـرفوا لأداء بقيّة أعمالكم؛ أمّا إذا لم تروا شيئاً من هذا القبيل، فيمكنكم عندئذٍ الاستماع لما يقول.
وهذا هو حالنا أيضاً، فنحن نسعى بأجمعنا وراء الزخارف، فربّنا ونبيّنا وقرآننا وكل شيء في حياتنا هو مُزخرَف، نسأل الله أن يمنَّ علينا، وأن يتفضّل إمام الزمان علينا فيُغيِّر نفوسنا ويفتح أفهامنا ويصلح طريقنا؛ ويرفع جميع الحجب أمام أعيننا بظهوره ويوصلنا إلى المنبع الأصلي ويسقينا من ذلك الماء المعين، وكما يقول الشيخ حافظ الشيرازي:
زان پيشتر که عالم فانی شود خراب
                             ما را ز جام بادۀ گلگون خراب کن[9]
رحم الله الشيخ حافظ، فهو يقول هنا إلهي دعنا نتذوّق تلك الحقيقة قبل أن نرحل عن هذه الدنيا الفانية، إن شاء الله.

اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد


[1] ـ مصباح المتهجّد وسلاح المُتعبِّد، ج 2، ص 584 فقرة من دعاء أبي حمزة الثمالي الشريف.

[2] ـ كناية عن أن الأمر الذي قلناه له أمراً واقعياً وحقيقياً ولكنه لا يستطيع أن يراه.

[3] ـ سورة القيامة (75)، الآية 14.

[4] ـ سورة النحل (16)، جزء من الآية 78.

[5] ـ سورة الأعراف (7)، الآية 175.

[6] ـ سورة الحاقة (69)، الآيتان 44 و 45.

[7] ـ المثنوي المعنوي، الجزء الأول.

[8] ـ المثنوي المعنوي، الجزء الأول.

[9] ـ ديوان حافظ، الغزل 396.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی