معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 هـ ـ الجلسة 15 : هل يكفي الادعاء للوصول إلى الأمل العظيم ؟

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1434 هـ

المحاضرة الخامسة عشر:
هل يكفي الادعاء للوصول
إلى الأمل العظيم ؟

ألقيت هذه المحاضرة في التاسع والعشرين من شهر رمضان المبارك لعام 1434 هـ

ألقاها:
سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه اللـه

 

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف


أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بِسمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحيم
و صلَّى اللهُ عَلَى سيّدنا ونَبِيّنا أبي القاسِمِ مُحمّد
اللهمّ صلّ على مُحمّد وآل مُحمّد
و عَلَى آله الطّيّبين الطّاهِرينَ واللّعنة عَلَى أعدائِهِم أجمَعينَ

عظم يا سيدي أملي وساء عملي، فأعطني من عفوك بمقار أملي، ولا تؤاخذني بأسوء عملي؛ فإنّ كرمك يجلّ عن مجازات المذنبين، وحلمك يكبر عن مكافات المقصرين.[1]
بيَّنتُ للأخلاّءِ في الليلةِ الماضيةِ أنَّ الإمام السجّادَ عليه السلام يُخبرنا في هذا الدعاء عن رؤيتهِ لمبدأ الوجود وذات الله المقدّسة؛ وينفخُ فينا روح الأملِ ويرفعُ معنوياتنا ويشحذُ هِمّتنا وإرادتنا بالنسبةِ لعاقبتنا وسعادتِنا، ويريدُ أن يدفعنا للحركة باتجاه هذا الهدف، ويُزيل عن أذهانِنا كلّ تلك التصوّراتِ الباطلةِ التي رسمناها في أذهانِنا عن الله حتى الأن، ويُخرجنا من هذه الأوهام.

    

نظر الله تعالى إلى جميع عباده بالتساوي

إنّ الله لم يعقد عقدَ قرابةٍ مع شخصٍ خاصّ من عباده، فجميع عبادهِ سواسيةٌ لديه؛ غير أنَّنا نتصوّرُ بأنَّ اللهَ ينظرُ إلى ذلك الفريق من عباده المخلَصِين والصالحين والأولياءِ بنظرةٍ خاصة، وأمّا نحن فهو لا يُعيرنا ذاك الاهتمام!! أرأيتَ إن كان أحدُنا يتكلّمُ مع شخصٍ له منزلةٌ خاصةٌ عنده ويُكنُّ له احتراماً فائقاً، ثم جاءَ إلى ذلك المجلسِ شخصٌ آخر، فسوف لن يعتني به أبداً، وإذا ما تكلّم فسينظرُ إليهِ نظرةً عابرةً، ويبتسمُ بوجههِ، ثم يعود ليصرف اهتمامه نحو الشخص الأوّل. لماذا؟ لأنَّ شخصيّة الأولِ ذات أهميّةٍ لديه، بينما لا تعنيه شخصيةُ الآخرِ شيئاً. أمّا الله فلا يتعامل مع عباده بهذه الكيفيّةِ، بل ينظرُ إليهم على السواء. لا تتعجبوا مما سأطرحهُ عليكم هذه الليلة.
ينظرُ اللهُ تعالى إلى كافةِ عبادهِ بنظرةٍ واحدة، وهي نظرةُ الربوبية؛ أمّا القُرب والبُعد فهو من جانبنا نحن ولا علاقة لهُ بالله؛ فالإحساسُ بوجودِ الحجابِ والبعدُ عن اللهِ أو الإحساس بالقُربِ هو من ناحيتنا لا من ناحيةِ الله. وهنالك رواياتٌ وشواهدٌ كثيرةٌ على ذلك.
لقد تُوفي شخصٌ من بني إسرائيلَ، ولم يكنٌ ذلك الشخص معروفاً بالسيرةِ الحسنةِ، فقد كان يرتكبُ المعاصي؛ وعند تشيِّيع ذلك الشخص، لم يشارك نبيُ ذلك الزمان بالتشيِّيع، فعاتبهُ اللهُ تعالى على عدم مشاركتهِ بذلك؛ فأجابهُ النبي بأنَّ ذلك الشخص لم يكن شخصاً صالحاً، وكان عملهُ عملٌ سيء (ساء عملي)، فجاءهُ الجواب: مالكَ وعمله، ألم يكن عبداً من عبادي؟
انظروا، كيف يتعاملُ اللهُ مع نبيِّهِ في مقام التربيةِ والتعليم، فهو يقول له: هب أنّ عمله كان عملاً سيئاً، فهل تعلم شيئاً عمّا يدور في قلبه؟ فهل كان مُبغضاً لي، أم أنَّه كان مُحباً لي غاية الأمر أنّ عمله كان عملاً فاسداً؟ على أيّ نحوٍ من هذين النحوين كان حال الرجل؟

    

ليس التوفيق بمجرّد صحبة الأولياء، بل المهمّ هو اتّباعهم بصدق و الادب معهم

كان هنالك شخصٌ يأتي لرؤيةِ النبي صلى الله عليه وآله يومياً، فينظرُ إلى وجهِ رسولِ اللهِ ويجلسُ قليلاً، ثم ينصرفُ إلى عمله ، فهو لم يكن من أولئك الذين يشغلون وقت الإنسانِ بجلوسِهم الطويل الذي يستغرقُ ثلاثَ ساعات ، بل كان يأتي للسلامِ على رسولِ اللهِ، ويبرزُ الودّ لهُ ثم يقول: أستودعك اللهَ، وأنصرِفُ لأفسحَ المجالَ للآخرين، فلا أريدُ أن أشغل وقتك. كم يكونُ هذا النوع من الناس موفّقاً! فنحن نعتقد بأن التوفيق يكونُ في إطالةِ الجلوسِ لدى العظماءِ وكثرة الحديثِ معهم.
جاء شخصٌ إلى المرحومِ العلاّمةِ، وكان المرحومُ ساكتاً، فقال: أريدُ أن تُقدِّموا لي نصيحةً للاستفادةِ منها، أريدُ أن أستفيد من حضوري لديكم! فهذا المسكين يعتقد بأنَّ المجلسَ لا ينبغي أن يمضيَ من دون أن يكون هنالك حديث؛ ولا يدري بأنَّهُ يُفاضُ عليه ويتغيّرُ حالهُ الآن لمجردِ جلوسهِ إلى جنب ذلك العظيم. يحسب البعض بأنَّ ذلك لا يتمُ إلاّ بالحديث، علماً بأنَّ حال الإنسانِ قد لا يكونُ مساعداً على الكلام أحياناً، بل قد يصل الأمر بالإنسانِ إلى عدم التمكن حتّى من تبادل التحيةِ مع الآخرين.
يحصل أحياناً أن يرنّ جرس الهاتف، وأكونُ حينها في حال المطالعة، أو حتّى أنَّه لا يكون لديّ عمل خاص أحياناً، غير أنَّ حالي لم يكن مُساعداً للنهوض والإجابةِ على المكالمة، فأترك الأمر للرد الآلي، لكي يترك الشخصُ المُتصلُ رسالةً، حتّى أقوم بالاتصال به فيما بعد أو أتصرّف بشكلٍ آخر. فهكذا يكون حالي في بعض الأحيان بحيث لا أتمكن حتّى من الإجابة على المكالمة الهاتفية، بينما يكون حالي بشكل آخر في أحيان أخرى؛ فحالُ الإنسانِ لا يكون على وتيرةٍ واحدة دائماً.
كان أحدُ الأشخاصِ في أيّام المرحومِ العلاّمةِ من أولئك الذين يتصوَّرونَ بأنَّهم قد تمكنَّوا من احتواءِ جميع مراحل السير والسلوك في جيوبهم؛ لقد كان واحداً من أولئك الذين يُقالُ عنهم بأنَّهم من أصحاب التوقّعاتِ التي هي في غير محلّها، فهو يتصرّفُ وكأنَّه قد وضعَ اللهَ في كيس وهو يحملهُ على ظهره، فأصبح ملكاً خاصاً له ، فلا يسمحُ لأحدٍ بالورودِ في هذا الحرم؛ ويرى لنفسهِ موقعاً بحيث إنَّه ينظرُ إلى الآخرينَ بعين الاستصغارِ، ويرى نفسهُ وكأنَّهُ قد نزلَ من السماء. وحيث أنّني كنتُ أنا وإخوتي وبعض الأشخاص الآخرين .. كنّا نحن واسطة الارتباطِ بين المرحوم العلاّمةِ والآخرين، فقد كنَّا نستلمُ طلباتِ الأشخاصِ لنوصلها إلى المرحوم العلاّمة، ليقوم بدورهِ بإصدار توصياته، اتصل بي هذا الشخص تلفونياً في مساءِ أحد الأيام، وبعد السلامِ قال لي:
ـ لقد انتهت مدةُ الذكر الذي أُعطي لي.
ـ فقلت له: يا للعجب!
ـ نعم، لقد انتهت اليوم.
ـ اليوم؟! لقد كنتُ أتصوَّرُ بأنَّه ليس لديك ذكرٌ منذ عام!
(يكون حالي أحياناً مُساعداً للمزاحِ مع الآخرين؛ وقد صادف اتصال هذا الشخص هكذا حالٍ عندي.)
ـ هل يمكنكم أن تتصلوا بالسيّد العلاّمة لإبلاغه الأمر، حتّى يُعطيني ذكراً جديداً؟
ـ بكلِ تأكيد، سأتصرّفُ بحيث لا ينقطع اتصالكم ولو للحظةٍ واحدة (وأحسبه قد رأى بأنِّي أمازحه). ثمّ قلتُ له: سأعرض موضوعكم عليه إن شاء الله.
فذهبتُ في اليومِ التالي إلى المرحوم العلاّمة؛ وكانت حالات سماحته بشكل عامّ متفاوتةٌ كما بيّنت آنفاً، ولذا فقد كنتُ أدخلُ عليهِ فأرى حالهُ جيداً في بعض الأوقاتِ بحيث إنَّني أستطيع التحدّثَ معهُ، وفي بعض الأحيانِ كنتُ أرى حالهُ بحيث لا يمكنُ التكلّمُ معه، فكنتُ أختصرُ الموضوع وأقول له: "هل لديكم أمر تتفضلون به؟"، فيقول: "لا، تفضّل أنت واخرج". فكنتُ لا أرى من الصلاحِ التحدّث إليه أو التلاطف معه، فكنتُ أغادرُ على الفور. فعندما دخلت عليه في ذلك اليوم، وجدتهُ على هذا الحال الذي ذكرته ـ أمّا ما هو السبب وراء ذلك؟ فلا علم لي! ـ فانصرفت. فاتّصل ذلك الشخص مساء اليوم التالي ـ لو أنَّه يسمعُ ما أذكرهُ الآن فسيكونُ ذلك مفيداً له ـ وقال: هل أخبرت السيِّد العلاّمة؟ قلتُ له: "لا، لم تحصل لي فرصةٌ لذلك"، فلم أكن أستطيع أن أوضِّح له تفاصيل الموضوع، فاكتفيتُ بأن قلتُ له: لا، لم أتمكن، لم تحصل لي الفرصة.
فقال: يا للعجب! يا للعجب! يا للعجب!
فأجبتهُ: (يك وجب! دو وجب! سه وجب!)[2] ويبدو أنَّنا في شهر رجب، فخذ هذه أيضاً.
فقال: أتسخر منِّي؟
قلتُ له: لا، بل أنت الذي قلتَ: يا للعجب ثلاث مرات، فأجبتُكَ بثلاثةِ إجابات: شبر، شبران، ثلاثة أشبار، فاختر منها أيهما شئت.
قال: أتأذنُ لي بالانصرافِ؟ قلتُ: تفضل. فقطع الاتصال.
ذهبتُ في اليومِ التالي إلى المرحوم العلاّمة، وجلستُ عندهُ، فوجدتُ أن حالهُ يسمح بالحديث، فبدأتُ بالحديث معه، غير أنَّ حالهُ بالنسبةِ للمواضيع المختلفة التي تُطرح عليه متفاوتةٌ، فلا يمكن التحدثُ معه عن أيّ موضوعٍ كان. لقد كان حاله في اليوم السابق بحيث لا يمكن الحديث معهُ أبداً، إذ عندما دخلتُ عليه بالأمس وسلّمتُ عليه، قال: عليكم السلام. قلت: هل تأمرونني بشيء؟ قال: "لا، انصرف". أمّا اليوم، فوجدتُ أنَّ حالهُ يختلفُ عن الأمس، فجلستُ وتحدّثتُ إليه، غير أنَّي رأيتُ بأنَّ عليَّ ألاّ أتجاوز الحدّ المسموح به، فاستأذنتُ وذهبت إلى المنزل. فاتصل ذلك الشخص:
ـ سيِّد!
ـ نعم.
ـ السلامُ عليكم!
ـ عليكم السلام.
ـ كيف أحوالكم الشريفة؟
ـ الحمدُ للهِ.
ـ هل عرضتم على السيِّد ما طلبتهُ منكم؟
ـ لا، لم أتمكن، لم أستطع.
ـ يا للعجب! لماذا تجري الأمور بهذا الشكل؟
ـ هكذا كان الأمر.
ـ سوف لن تنسى أن تعرِض الموضوع في الغد إن شاء الله.
ـ سوف لن أنسى.
فانتهى الموضوع إلى هذا الحد، ولم يصل إلى الشبر والشبرين!!
ذهبتُ في اليوم الثالثِ، فوجدتُ بأنَّ حال المرحوم العلاّمة مساعداً للتحدّثِ معه، فبدأتُ بالحديث إليه، ثم قلت له: لقد أوصاني فلان بشأن أذكاره. فقال لي: إنَّ حالي غير مساعد في الوقت الحاضر!
فقلتُ في نفسي: "كم هو سيءُ الحظِ هذا الرجل؟ فالحظّ لم يحالفه طوال هذه المدة، فكيف سأجيبهُ هذه الليلة؟! ففي المرة الأولى مضى الأمر بالشبر، وفي الليلة الماضية بشكلٍ آخر، أمّا هذه الليلة فعليَّ أن أهيئ نفسي لما سيحصل"، وبينما أنا كذلك ، إذا به يتّصل عل الهاتف، فرفعتُ السماعة قائلاً:
ـ نعم؟
ـ السلامُ عليكم، كيف حالكم؟ هل وُفّقتم في النهاية لإيصال ما طلبتهُ منكم؟
ـ لا، لم أتمكّن حتى الآن من ذلك.
فتكلّم معي بشكلٍ آخر، قال:
هل يصحّ التصرّف بهذه الطريقة؟ أبهذا الشكل يتم التعاملُ مع طلباتِ الأصدقاء؟
وقد كنتُ في ذلك الوقت في حالٍ من المرح والانشراح والانبساط، فقلتُ له: لماذا أنت مستعجلٌ إلى هذه الدرجة؟! أخّر وصولك إلى الفناء أسبوعاً، فما المشكلة لو تأخّر وصولكم إلى الفناء أسبوعاً؟! وما الضيرُ في ذلك؟ بل على العكس ستكونُ الملائكةُ في راحةٍ منك.
فقال: لماذا تتكلّم معي بهذا الأسلوب؟!
قلتُ له: وما الضير في ذلك، سيكون اللهُ وملائكتهُ في أمانٍ وراحةٍ منك، وأنت ستستريحُ أيضاً، يعني اعتبرها فرصة.. وسوف لن تحصل أيّة مشكلةٍ من جرّاء ذلك. وهنا أغلق سماعة التلفون دون أن يودّعني. [يبتسم سماحة السيد] ولا أدري ماذا حصل من مشاكل في منزلهِ بعدها، فلم أسأل أو أتابع الموضوع، وما أعلمه أنّه قد غضب ممّا جرى.
وفي اليوم التالي، ذهبتُ إلى منزلِ المرحوم العلاّمة، إذ كان قد دعا جميع الرفقاءِ للحضور، لقد كانت هنالك مناسبةٌ معينة لا أتذكر ماذا كانت تلك المناسبة، وقد تحدّث المرحوم العلاّمة لمدةِ ساعةٍ من الزمان، ثم انصرف من الحسينيّةِ وذهب إلى غرفتهِ. فرأيتُ الشخص المذكور قد تركني وذهب إلى أخي الأكبر المعظّم المكرّم ليعرض عليه أمرهُ، فلقد قطع الأمل منّي وتصوَّر بأنَّهُ لن يحصل منّي على نتيجةٍ لمّا رآني أمزح معه بتلك الصورة؛ لقد ذهب إلى أخي وقال له: "كانت لديّ أذكار، ولقد عرضتُ الموضوع على أخيك ولمدة ثلاثةِ أيامٍ، ولكنّهُ لم يكن يهتمُ بأمري، وكان يجيبني باستعلاء، فأريدك أن تقوم بهذا الأمر".
فذهب أخي إلى المرحوم العلاّمة دون أن يستفسر منّي عن الموضوع، فسمعنا صوت المرحوم العلاّمة قد ارتفع وهو يقول: اخرج، وقل له: متى ما أعطاك السيِّد محسن الجواب، فخذ الجواب منه. فرأيتُ أخي قد خرج ولون وجهه كالجصّ الأبيض، وهو يقول لذلك الشخص: "ألم تكن قد عرضت الموضوع على أخي، فلماذا تكلّفني بذلك؟! لقد غضب السيّد العلاّمة منّي حتّى كاد أن يصفعني!"، ولقد سمِع ذلك الشخصُ بنفسهِ صوت المرحوم العلاّمة وهو يصيحُ بوجه أخي الذي لم يكن يعلم عن الموضوع شيئاً. فذهب هذا الشخص، ولم يُسمع له صوتٌ بعدها!
وبعد مضي فترة اسبوع أو عشرة أيام أو اسبوعين، قال المرحوم العلاّمة: ما الذي كان يريدهُ فلان؟ قلتُ: لقد اتصل هاتفياً يريدُ ذكراً. فقال [دون اكتراث]: ليستمر على ذكره السابق!
لقد كان يظنُ بأنَّ المرحوم العلاّمة سيكتبُ له شعراً من البحر الطويل، فإذا به يقول له: استمرّ على ذكرك السابق! أجل، هكذا كان وضعُ الأشخاصِ الذين يتردّدون على المرحوم العلاّمة.
حسناً، لقد كان ذلك الشخص من الأفراد الذين إذا جاؤوا إلى رسول الله، فإنّهم لا يتوقّفون ولا يضيّعون وقته، كما يفعل بعض الأشخاص إذ تجده يطلبُ مقابلةً لمدةِ عشرةِ دقائق، وعندما يأتي يشغلُ وقت الإنسان لمدةِ ساعتينِ للحديث عن أوضاعه. ويأتي الآخرُ ليقول: أريدُ التحدّث إليكم لعدةِ دقائق. فعدة دقائق تعني من ثلاث دقائقٍ إلى ما لا نهاية له، ولعلهُ كان يقصدُ هذا الحد ّالأخير! فما دمتَ قد طلبتَ عدةَ دقائقٍ، فعليك أن تلتزم بذلك [فلا يُفترضُ بالإنسانِ أن يتجاوز الحدّ الذي طلبه].
سُئِلت امرأةٌ عجوزٌ عن عمرها، فقالت: ثمانية عشر عاماً وعدة أشهر! قالت: أنا لم أكذب بجوابي هذا. فمن الممكن أن يكون عمرها ستين أو سبعين عاماً، إلاّ إنَّها تقول بأنَّ عمرها ثمانية عشر عاماً وعدّة أشهرٍ؛ يبدو أنَّها تحنُّ إلى سن الثمانية عشر لأنَّها كانت تعيشُ حياةً سعيدةً في ذلك الوقت، فهي تعتبرهُ عمرها الواقعي، أمّا ما تبقى من عمرها فهي تراه عدّة أشهر.
وهكذا هو حالُ هؤلاء الأشخاص، فتراه يأتي ليقول: أتسمحُ لي بعدةِ دقائق للتحدِّث إليكم؟ وعندما يجلس، فإذا بالدقائق المعدودةِ تتحوَّلُ إلى عِدة ساعات. ثم لا يُغادر!! لقد طلبتَ عدة دقائق يا هذا! فعليك عرضُ طلبك في هذه الدقائق والرحيل.

    

محبّة أولياء الله سبب لنزول الرحمة الإلهية و نجاة الإنسان

لقد كان ذلك الشخص يأتي للسلامِ على النبي ثم يُغادر، فمضت أيامٌ دون أن يأتي هذا الرجل، فسأل رسولُ اللهِ الأصحاب قائلاً: كان هنالك رجلاٌ يأتي كلَّ يومٍ للسلام عليّ وإظهار المودّة ثمّ يغادر، فلماذا لا أراه هذه الأيام؟ فقالوا: لقد توفّي قبل بضعةِ أيامٍ وتمّ دفنه، ولم نُخبرك عن موته. فقال الرسول: رحمهُ الله وغفر له. فقالوا: لم تكن أعمالهُ صالحة، وكان يقوم ببعضِ الأعمالِ غير اللائقةِ. فقال رسول الله: لو كان الرجلُ نخاساً لتجاوز اللهُ عن ذنوبهِ لأجل تلك المحبةِ الصادقةِ التي يكنّها لي.

    

شرط الوصول إلى الأمل العظيم أن يكون هذا الأمل واقعياً وعميقاً في نفوسنا

هذه هي رحمةُ الله، فعلينا أن نعرف كيف نتعامل مع الله ونضعهُ نصب أعيُنِنا. يقول الإمام السجّاد هنا: إنَّ اللهَ الذي عرفناهُ يتمتع بهذه الصفات، فعلينا أن نكون مهتمّين بهذا الأمر بشكلٍ واقعي. فمع أملنا عظيم، فإنّ اللهَ لا ينظرُ إلى أعمالنا شريطة أن يكون ذلك الأمل العظيم متحقِّقاً في أنفسِنا، وهذا هو مربط الفرس، فالأشخاصُ الذين يكتفون بلقلقةِ اللسانِ، أو أولئك المسرورون بما يخطرُ على قلوبهم من خواطرٍ، لا نصيب لهم من هذا الأملِ العظيم. وكذا الأشخاصَ الذين يتصدّون للحديث، لا لشيءٍ سوى مجرّد الخطابة وقراءةِ بيتين من الشعر، أو لمجرّد أن يتمّ تصوير مجالسهم، ولا يوجد في حديثهم كلمتان ذات مغزى، أمثال هؤلاء لا يملكون مثل هذا الأمل العظيم، بل هم يدورون حول محور أنفسهم.
يقول الإمام السجّاد: أنا أقصد من الشخص الذي يقول: عظم يا سيدي أملي، ذلك الشخص الذي يشعرُ بوجودِ اللهِ في أعماقِ قلبه الملتهبِ شوقاً إليه، فذلك الذي يصل إلى الهدف، وإلاّ فهنالك الكثيرون ممن يمجدّون الله ويصفونه بأوصاف حميدة ولا يتجاوزون ذلك.

    

الادّعاء سهل يسير، ولكن الالتزام العملي هو العسير

نقل لي أحدُ الأصدقاءِ الساكنينَ في إحدى المدنِ بأنَّ أحد الأشخاصِ من أهل مدينتهِ والذي لا يزال على قيد الحياة كان يقولُ له بتكرارٍ: "بأنَّه إذا ما جاء الشخصُ الفلاني إلى هنا فأرجوا أن تخبرني، فكم أنا متعطشٌ لرؤيتهِ"، و لن أذكُرَ تفاصيلَ الموضوعِ لكي لا يتعيَّنُ المصداق، فهدفي هو بيانُ أصل الموضوع ـ والشخص المشار إليه (الذي كان من المتوقّع مجيئه) كان سيِّدٌ من أهلِ الحال، وكان له ارتباطٌ واسعٌ جداً مع المرحوم العلاّمة، وكانت له في ذلك الوقتِ حالاتٌ جيدة، وكان يقومُ ببعض الأعمالِ الخارقةِ للعادة، إلاّ أنَّ حالهُ قد تبدّل فيما بعد وظلّ راكداً عند مستوىً معين، و لكن في بداية أمره كانت حالته جيدةً جدّاً.
يقول صديقنا: كان هناك شخص يصرّ عليّ بأنّه إذا جاء هذا السيّد فأخبرني؛ فأنا متعطّش لرؤيته. وبعد مدةٍ زارنا هذا السيِّد، فأخبرتُ ذلك الشخص بأنَّ السيِّدَ الفلاني قد حلَّ ضيفاً علينا، وأنت مدعوٌ لتناولِ طعام العشاء معهُ في بيتنا ولقد كان الفصلُ شتاءً، فقال: حسناً جداً، سأحضرُ حتماً. وعندما حلَّ وقتُ العَشاءِ وأردنا إحضار المائدة، لم يحضر ذلك الشخص المذكور! فقلتُ: ماذا سنفعل هل نحضر المائدة أم ننتظر؟ فقال السيِّد (وكان من أهل المزاح): أحضر المائدة ودعنا نتعشّى، فهو مشغولٌ بأكلِ البرتقالِ مع زوجتهِ في الوقتِ الحاضر. وبعد انتهائِنا من تناول طعامِ العَشاء، إذا بجرس الباب يدقّ، و كان الطارق ذلك الشخص، فدخل ، وهنا حيّاه السيّد قائلاً :
السلامُ عليكم.
وعليكمُ السلامُ يا سيِّد، كم أنا مشتاقٌ لرؤيتكم و...، وشرع بالتكلّم بكلام طويل.
فأجابه السيّد: لقد كنّا منتظرين قدومكم.
لقد حصل لي أمرٌ أعاقني، وكلّما حاولتُ المجيء لم أستطع، و شرع بالتبريرات و...
كفاك يا هذا، بل كنتَ تأكلُ البرتقال مع زوجتك، وهي التي منعتك من الحضور، ألم يكن لون قشر البرتقالِ أخضراً؟!
فتغيَّير لونُ ذلك الشخص! لقد كان ذلك السيِّدُ مزوحاً، وكان يطرحُ بعض الأمورِ في طيّاتِ كلامه. قال له: لقد كنت تنوي الحضور، فمنعتك زوجتك وجلستما تأكلانِ البرتقال، ثم قالت لك: "لقد حضّرتُ العَشاء، أفتترك عشائي وتذهبُ إلى مكانٍ آخر؟!"، فلم يطاوعك قلبك وجلست تتعشّى معها، أتريد أن أضيف شيئاً آخر؟! هل أكمل التوضيح ؟!
فقال: لا يا سيّد، هذا يكفي!
هذا في الوقت الذي كان هذا الشخص يؤكّد على الرجلِ لمدةِ شهرٍ، وبكل إصرارٍ بأن يخبرهُ إذا ما حضر ذلك السيِّد.. هذا هو حال الناس، فأين هي حرقة الشوق إلى لقاء الحبيب في قلبه؟!

    

معنى قول العلاّمة الطهراني: أكثر من حولي سواد العسكر

فجميعُ أولئك الذين كانوا حول المرحوم العلاّمة كانوا على هذه الشاكلة، ولعلّ استعمال كلمةِ "جميع" غيرُ صحيح وفيه مبالغة، ولكن يمكن القولُ بأنَّ ثمانيةً وتسعين أو تسعةً وتسعين بالمائة منهم كانوا على هذه الشاكلة، وهؤلاء الذين يعلو صوتهم الآن من ضمنهم. أجل، عندما كان المرحوم العلاّمة يقول لي: "إنّ جميع أولئك الذين تشاهدهم حولي هم سوادُ العسكر"، ما كنت أستوعب مراده. حتّى إذا ما توسّد الترابَ، فهمتُ الأمر، فقلتُ يا للعجب! يا للعجب! أهكذا يفترضُ أن تجري الأمور؟! أهكذا تقتضي المروءةُ والحياء؟!
وكم كان حسناً أنّ الأمور اتّضحت لي ، وانفتح فهمي. بالطبع فإنِّي لم أكُن بالشخص الذي لا يفهمُ القضايا التي تجري من حولهِ، فلقد تربيتُ في هذا البيتِ لمدةِ أربعين سنةً، وكنتُ أرى عن قربٍ ما هو مستوى الأشخاصِ الذين يتردّدونَ على المرحوم العلاّمة، وكنتُ أستمعُ لأنواعِ الحديثِ الذي كان يجري ، و أنا لم أكُن غبياً لا يفهمُ ما كان يجري؛ صحيح أنَّني لم أكُن ذكياً ونابغةً، ولكنَّني لم أكُن غبياً لا يفهم ما يجري من حوله، ولكنَّني ـ مع ذلك ـ لم أكن قد وصلت واستوعبت ما كان يجبُ أن أصلَ إليه و أدركه، بل كنتُ واقفاً في مستوىً معين، فحصلت تلك الأحداث لتفتح ذهني مرةً واحدة وتنبّهني أن: لماذا ما تزال هنا؟ و لماذا تبقى بينهم؟ من أجل من تبقى هنا؟ وأيّ أمل ترجوه منهم؟ هل تأمل الخير من هؤلاء؟!
لقد التقيتُ يوماً بأحدهم وكان من أهل الفضلِ، فقلتُ له:
ألم تقل بشأني فيما يتعلق بالقضية الفلانية: كذا وكذا؟
أنا لا أتذكّر، أرجو أن تعذُرني.
ألا تتذكرُ ذلك؟! عُد إلى ذاكرتك قليلاً لترى هل تتذكّر أم لا؟!
كلّما راجعتُ ذاكرتي، أرى بأنِّي لا أتذكرُ ذلك.
اذهب وراجع الرواية المتعلقة باستدعاء أميرِ المؤمنين لأنسٍ بن مالك للشهادة له بشأن الخلافة! أنت لا تتذكّر، ها؟!
هؤلاءِ هم الذين كانوا يحضرون المجالس، وكنّا نراهم يبكون؛ فلا أدري ما هو مصدر ذلك البكاء؟! هل كان بكاءً واقعياً وناشئاً عن حُرقة قلبٍ؟ أم أنَّه كان نتيجةً للتأثيرِ الظاهري لذلك السيِّد وأبّهتهِ وجلالهِ وجماله! عن أيّهما كان ينجم ذلك؟!

    

علامة صدق الأمل العظيم هي اتّباع الحقّ ولو كان مُرّاً

يريدُ الإمام السجّاد أن يقول هنا: بأنَّ الله سيأخذُ بيدك إلى طريق الهداية فيما إذا كانت عندك لوعةٌ لسلوك هذا الطريق، وإلاّ ففي حالةِ فقدان تلك اللوعة والتي تعتبرُ بمثابةِ المحرّكِ بالنسبة لك، فإنَّ هذا الأمر سيتحوّلُ إلى عملٍ كبقيّة الأعمال وفنٍّ كبقيّة الفنون؛ لأنَّ الإنسان لابدّ له من أن يطوي هذه الدنيا بشكلٍ من الأشكال، وأن يجد له مكانةً بين الناس؛ فإن استطاع الحصول على مركزٍ قيادي عن طريق امتلاكه لرتبةٍ عسكرية مثلاً، فقد حصل المطلوب، وإلاّ فهو يلجأُ للعمامةِ والعباءة والقباء، وتمثيل حال التواضع والحياءِ بطأطأةِ الرأسِ أثناء المشي؛ إذ لا بدَّ له من أن يُحيط نفسهُ بمجموعةٍ من الأفراد. فالأمرُ واحد، إذ إنَّ المحور الذي تدور حوله القضيّة في جميع هذه الأحوال هو النفس. فعند عدم تقاطع الأمور مع المسائل النفسانيّة، ترى الشخص يتحدَّثُ وينصح الآخرين ويُرشدهم إلى الطريق الصواب، ولكنَّهُ ما إن تصطدم المسألة بمصالحهِ الشخصيّة، حتّى تراه يبدأ بالّلفِ والدورانِ وتبريرِ الأمورِ لكي لا تُمسَّ مصالحهُ؛ فتراه يتهرّب عن قول الحقّ.
قال لي صديقي الدكتور سجّادي: لقد كنتُ ألقي محاضرةً مرّة، فإذا بأحدِ تلامذتي يقطعُ عليَّ حديثي، ليتّهمني ـ بدافع الحسدِ ـ بأمورٍ باطلةٍ لكي لا تتعرّض سمعتهُ للخطر.
يا هذا، لقد كنتَ تلميذي لعدةِ سنوات، وكلّ ما لديك من معلوماتٍ فقد تعلّمتها منِّي، فأنا الذي كنتُ أعلّمك هذه الأمور في غرفة العمليات!
أتلاحظون، إنَّه يقف بوجه أستاذهِ! هكذا يكون الأمر عندما تتدخّل المسائلُ النفسانيّة، فلا فرق عندها بين الطبيبِ والمهندسِ و طالب العلم المُعمّم، فهذا يضعُ الحقّ تحت قدميهِ، وذلك يفعل نفس الأمر .. كلاهما يريانِ الحقَّ ويدوسانِ عليه.. كلاهما متوغلان في الظلمةِ والكدورةِ الشيطانيّة والنفسانيّة؛ فإن خلع ذلك الشخص الملابس الدينيّة، وخلع هذا لباس الطبابة الأبيض، لكانا شخصاً واحداً؛ فالفرقُ إذن في نوع الملابسِ فقط؛ فذلك يلبسُ القباءَ والعمامةَ، وهذا يلبسُ اللباس الأبيض، فيصبحان شخصين، فنقول عندها: إنّ هذا رجلٌ جيدٌ وذلك سيء. إنَّ حقيقة الأمرِ ليست بهذا الشكل، فكلاهما واحدٌ والفرقُ الوحيد هو في الملابس، فإذا ما وُضِعت الملابسُ جانباً لكانا شخصاً واحداً، لكل منهما رأسٌ وجسمٌ ويدٌ ورجل، كما أن الحالة النفسيّة لكلٍ منهما واحدة وهي عبارةٌ عن الشيطنة والأنانيّة، غايتها أنّ هذا ظهر بهذا المظهر، وذلك بذلك المظهر، هذا يدوس على الحق بهذه الكيفيّة وذلك بتلك الكيفيّة.
نشرت إحدى المجلات الصادرة باللغةِ العربية ـ تحت اسم نشر المواضيع العلمية والعقائديّة ـ نشرت مقالاً ينتقدُ كتاب الروح المجرّد؛ فعندما قرأتهُ وجدتهُ عبارة عن مجموعةٍ من الأباطيل، فكاتبها إمّا أن يكونَ شخصاً جاهلاً أو مُغرضاً، فلنقل بأنَّه لم يكن من الصنف الثاني وإنَّه كان جاهلاً. ولما كانت المجلة تُعلن استعدادها لنشرِ أيّ نقدٍ للمقالة، فقلتُ: حسناً سأكتب رداً على هذه المقالة لكي يُنشر ويُترك الحُكم في الموضوع للقارئ، فذلك هو المقال وهذا الرد عليه؛ غير أنَّهم لم يقبلوا بذلك، وحتّى هذه اللحظة التي أتكلّمُ معكم فيها لم يقبلوا أن ينشروه.
إنّ هذا النهجُ المتمثل بنشر المقال وعدم تقبّل نشر الردّ عليه، هو عين نهج عمر؛ فلذا سنرى صاحب المجلة، وصاحب ذلك الكلام وكاتب المقال، والشخص المتصدّي للنشر يقفون يوم القيامة في نفس الصف الذي يقف فيه عمر. وحينئذٍ سيقولُ هؤلاء: إلهي لقد كنَّا من الشيعة! وسيأتيهم الجواب: شيعةُ من كنتم؟! ألم يكن عليّ رجل حقّ؟ ألم يقبل أمير المؤمنين بحكم شريحٍ القاضي عندما حكم عليه، على الرغم من أنّ الحكم كان بغير الحقّ؟! أفرأيت كيف كان موقف عليٍ تجاه الحقّ؟ أتدَّعي بأنَّك من شيعة عليّ؟ إذا كنتَ كذلك فلماذا تدوس برجلك على الحقّ؟ لماذا لم تنشر الردَّ على ذلك المقال عندما سُلِّم إليك؟ فاذهب وقف في ذلك الصف؛ قف في ذلك الصف الذي تصرَّف رئيسهُ بنفس هذا الأسلوب، حين وقف بوجهِ الحقّ بعد ارتحال رسول الله، ولم يقبل الكلام الحقّ، فاذهب أنت وقفْ في نفس ذلك الصف؛ أمّا أولئك الذين ينطقون بالحقّ ـ ومن أيّ مذهب كانوا بحسب الظاهر ـ فإنَّهم يقفون وراء أمير المؤمنين يوم القيامة، هناك سيقال له: لأنَّك نطقت بالحقّ، لأنَّ قلبك كان يميل باتجاه الحقّ، لأنَّ قلبك كان يميل باتجاه ذلك الميزان الذي هو بقيادة عليّ؛ فلذا تعال وقفْ مع عليّ. هذا هو الذي يُطلق عليه الحقّ والعدل.

    

ضرورة أن يكون الهدف نابعاً من حرقة قلب للوصول للأمل العظيم

يقولُ الإمام السجّاد: إنَّ أملي عظيم، غير أنَّني لست من أولئك الذين هم "سواد الجيش" بتعبير المرحوم العلاّمة، بل إنِّي حريص و مهتمّ بهذا الهدف، و أنا جادٌّ في طلبه وها هي الليالي والأيام تمضي عليّ، وهذا الأملُ يتفاعل معي؛ فلو لم أكن أفكر بالأمر ليلي ونهاري، لما كنتُ بهذا الشكل.
لقد قال المرحوم العلاّمة مرةً ضمن حديث له كلاماً عجيباً فيما يتعلّقُ بدعاءِ كميل، في الفقرة التي يقول أميرُ المؤمنين فيها مخاطباً اللهَ تعالى قائلاً: «فَهَبْني يا إلهي وسَيِّدِي ومَوْلايَ ورَبّي صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ، فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ، وهَبْني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ، فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إلى كَرامَتِكَ» ، قال السيّد العلاّمة معلّقاً على هذه الفقرة: (هل تتصورون أنّ النار ستبقى أو يبقى لها أثرٌ لو وضَع أميرُ المؤمنين قدمهُ فيها؟ سوف لن يبقى عندها للنار أيّ وجود، فلو دخل أمير المؤمنين في جهنّم، فسوف لن تكون هنالك جهنّم!!، بل ستتبدّل جهنّم هذه إلى جنّة الذات، لماذا؟ لعدم إمكانية اجتماع النارِ مع الولاية، فلا يمكنُ للنار أن تُحرق الولاية. فأمير المؤمنين الذي يضعُ قدمهُ في جهنّم هو ليس جسم، فهو لا يدخلها بلحمه وعظمه، بل يضع قدمه فيها من خلال سيطرتهِ الملكوتيّة عليها؛ فأينما يضعُ أميرُ المؤمنين قدمهُ، فسيحصل فوران للنور والرحمة والنعمة والكرامة، و حينئذٍ فسوف لن يكون لجهنّم وجودٌ). فرأيت أنّه : يا للعجب! كم هو دقيق و لطيف هذا المعنى!
فنحن ترانا نكرّرُ ما قالهُ أمير المؤمنين ونقول: "هَبْني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ، فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إلى كَرامَتِكَ"، و لكن يا عزيزي، الحقيقة أنّك إذا ما وخزتك إبرة ، فإنّ صُراخك يجعل السقف يخرّ على الأرض! إنّ أمير المؤمنين هو الذي يقول ذلك بصدق، لأنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو الذي كان يشعر واقعاً بلوعة الفراق و حرقته، تلك اللوعة والحرقة التي لا توجدُ نارٌ لها القابلية على الإحراق مثلها.
نحن لا نقولُ بأنَّنا نستطيع أن نكون مثلهُ! هيهات، فذلك خاصٌ بأمير المؤمنين، ولا علاقة لنا به. غير أنَّ الإمام السجّاد يقول بأنَّك عندما تخاطبُ الله قائلاً: عظم يا سيِّدي أملي، فعلى الأقلّ لتكن تلك النيّة في قلبك واقعاً، ولا تقلها مازحاً؛ فإن كنت تقولها عن مزاح، فسيقولُ لك الله: وما هو الفرق بينك وبين الآخرين؟ كلّ ما هنالك أنَّك تدّعي بأنَّ لديك تلك النيّة، ولكن، ما قدرُ تلك النيّة التي لا تجعلك تختلفُ عن الشخص الذي لا يمتلك مثلها؟! فلا يكونُ هنالك أيّ فرقٍ بينك وبين الناس العاديِّين، فأنت تفعلُ نفس ما يفعلونه، وها أنت تعيشُ في حالٍ من التهاون والتردّد.
لقد تحدّثتُ للأصدقاءِ في أحد الأيام عن أولئك الذين يأتون من أطراف وأكناف إيران لزيارة مسجد جمكران وقبل زيارة السيِّدة فاطمة المعصومة سلام الله عليها (وأنا لا أريدُ أن أسيء الظن بأولئك الأشخاص، ولكنَّني أريدُ أن أقول بأنَّنا يجب أن نترفّع ونترقّى عن تلك العوالم المتدنية والعاديّة والرسوم المتداولة). نعم تجدهم يقصدون جمكران قبل السيّدة المعصومة رغم أنّ جمكران يعتبر بمثابة الحجر والطين إذا ما قورن بالتربةِ المقدسةِ لحضرةِ السيِّدة المعصومة التي تعتبر بمثابة كحل العين، ويجب التبرّك بها ومسحها على العين. إن أرادوا الذهاب إلى جمكران ، فليفعلوا، ولكنّ كلَّ ما يطلبهُ الإنسان، يجده هنا عند السيّدة المعصومة عليها السلام؛ ولكنَّ هذه المسألة قد أغفلت، وبحسب اعتقادي فإنَّهُ ما كان يجبُ أن يتم تشيِّيدُ هذا البناء الكبير بهذه الطريقة بحيث يصير في مقابل حرم السيِّدة المعصومة سلام الله عليها، بل كان من المفترض أن يتمّ الاكتفاءُ بذلك البناء القديم، سواءً اتّسع المكانُ للزائرين أم لم يتّسع. أمّا أن يتمّ تشيِّيدُ بناءٍ بهذا الشكل ليكون في مقابل تلك القبَّةِ المطهّرة للسيِّدةِ المعصومة، فهذا عملٌ خاطئٌ وغير صحيح؛ إذ لا يجب أن يكون هنالك مكان آخر في مقابل هذه البقعة المقدَّسة باسم جمكران ؛ بل يجب أن يبقى اسم السيِّدة المعصومة سلام الله عليها هو المتداول على الألسنِ ولا غير، وأن يكون قصد القادم من الأماكن الأخرى إلى مدينة قم هو التشرّف بزيارتها. ومن هنا، فتشيِّيدُ هذا البناءِ غيرُ صحيح، وهو نظير بعض الأبنية التي أشار إليها المرحوم العلاّمة.
إنَّ كلّ هذا انحرافٌ وجهل، وهو ناشئٌ عن قلة المعرفة. لقد تشرَّف السيِّد الحداد رضوان الله عليه في إحدى الليالي في زيارتهِ لإيران بزيارة مدينة قم، وقد كنتُ بمعيّتهِ، فقال: أريد رؤية مسجد جمكران، فذهبنا وكنَّا عدة أشخاص وكنتُ صغيراً، كان عمري في ذلك الوقت عشرة أو أحد عشر سنة، لكنّني أتذكر ما جرى جيداً، لقد كان البناءُ على هيأته القديمة ببنائه وقبته؛ فذهبنا هناك ولا أتذكرُ فيما إذا كان البابُ مفتوحاً أم مغلقاً غير أنَّنا لم نجد أحداً هنالك وكان المكانُ مظلماً، فعرف بعدها خادم المسجد بوجودنا، فجاء بفانوس من النوع القديم الذي يعملُ بواسطة الفتيلة؛ ولم يكن في كلّ المسجد غير هذا الفانوس، فأدَّى السيِّد الحداد الصلاة في المسجد وأبدى إعجابهُ به، فقال: كم هو مكانٌ نورانيّ. غير أنَّه بعدما قاموا بإعادة بناء المسجد بهذا الشكل الفعلي، قال المرحوم العلاّمة: لم يعد المسجد كما كان، فقد كان ذلك المسجد شيئاً آخر.
على أيّةِ حال، فلا بدّ من تنبيهِ الناس وتوعيتهم على كيفيّةِ التعاملِ مع هذا الموضوع، فهذا هو حالُ الناسِ العاديِّين، إن قيل لهم: اذهبوا إلى المكان الفلاني، تراهم يذهبون [بدون التحقّق من صحة أو سقم ما قيل لهم]، وإن قيل لهم: تمّ استحداث ضريحٍ لأحدِ أبناءِ الأئمةِ هناك، فهم يذهبون ويربطون قطع القماش على الضريح بقصد طلب الحاجة، دون أن يُكلّفوا أنفسهم عناء معرفةِ من يكون هذا السيِّد، ومدى صحة انتسابه.
إنَّ جميع أولئك الذين يأتون إلى مسجدِ جمكران في ليلةِ الأربعاء، أو يومه، وفي المناسباتِ المتعلّقةِ بولادةِ الأئمةِ وما شابهها يأتون لأجل إمامِ الزمان، ولكنَّ السؤال المطروح هو أيِّ إمام زمانٍ هذا الذي يحبّه الناس ويدفعهم الشوق للقدوم من أجله؟ وما هي صفاته؟ وما هو مقدارُ أهمّيته لديهم وما مقدارُ استعدادِهم للتضحيةِ من أجله؟ فإمامُ الزمان ليس بالشخص المعتاد، بحيث يكونُ التعاملُ معهُ كالتعاملِ مع بقيّةِ الناس العاديِّين، فهو لا يقتصرُ على حدودِ السلامِ والدعوةِ إلى المنزلِ لتناولِ الشاي وما شابه ذلك، بل لإمامِ الزمان مع الإنسان شأنٌ آخر، يتجاوزُ حدود السلام، فالسلام محفوظٌ في محلّه؛ ولكنَّ إمام الزمان يقول للإنسان: هنالك أمور لا بدّ من التحدّث بشأنها، وهنالك مسائل لا بدّ من إنجازها. فكم سيكون استعدادنا لذلك؟

    

الامتحانات تكشف الصادق من المدّعي

مرِض ابنٌ لأحدِ التلامذةِ السلوكيِّين للمرحوم الشيخ الانصاري رضوان الله عليه، ولما كان الشيخُ طبيباً في مجال الطبّ القديم، فقد وصف دواءً لابنِ ذلك الشخص؛ وبعد مضي عدةِ أيام مات الطفل، ولم تكن هنالك أيّةُ علاقةٍ لموت الطفل بالدواء الذي وصفهُ الشيخ؛ إلاّ أنّ هذا الشخص قام بشكاية الشيخِ واستدعائهِ إلى المحكمة بتهمةِ التسبّبِ في قتل ابنه!! كم هو مقدار معرفة هذا الشخص؟! هل تعجّبتم لهذا الأمر؟ لا تتعجّبوا لذلك؟! أنا لا أبوح بما حصل للمرحوم العلاّمة من قبل تلامذته؛ ولا أقولُ ماذا عانى من أولئك المدّعين للسلوك، والذين يعدّون أنفسهم من الطرازِ الأول من تلامذته؛ فأنا مطّلعٌ على هذه القضايا بحكم كوني أعيش معه في نفس المنزل؛ ولم أكن لأصرّح بكل ما أعرفهُ. لذا فهو عندما كان يقول لي: إنّ أولئك الذين تراهم محيطين بي هم سواد الجيش، لم يكن يقول ذلك عبثاً. و كما قلتُ لكم قبل عدةِ سنوات عندما كنتُ أتحدّثُ عن موضوعِ الظهور، فيما يتعلّق بأولئك الذين يضربون الصدور والرؤوس وينادون بنداء "يا بن الحسن عجّل على ظهورك"، و يتظاهرون بالانفعال، و التأثّر ثمّ يتظاهر بالإغماء و ما شابه ذلك، [إذ ذكرت لكم أنّه لا ينبغي أن يغترّ الإنسان بمثل هذه المظاهر.]
لقد كنتُ في حرم الإمام الرضا في يوم الأربعين قبل عدةِ سنوات ورأيتُ أحد أولئك المنتسبين إلى هذه المجاميع يقومُ بحركاتٍ تمثيلية، فيضربُ على رأسهِ وصدرهِ ثم أُغمي عليه، وتجمع الناسُ من حوله ليُعيدوا له الوعي، وكنتُ قريباً؛ فقال أحد الأشخاص من أولئك الذين يريدون أن يمزحوا: انظر إلى ورقة الألف تومان[3] تلك، فهي على وشك أن تسقط من جيبه! وإذا بذلك الشخص المُغمى عليه والذي يُحاول الآخرون إعادة الوعي إليه يقومُ بإرجاعِ الورقة النقديةِ إلى جيبه!!! لقد رأيت ذلك بنفسي، فهذه هي حقيقةُ حالاتِ الإغماء تلك، فلا تغشنَّكم ولا تغرّنكم! ولقد شاهدتُ في ذلك اليوم حالاتٍ من طرازٍ آخر، كانت تلك واحدةٌ منها. فقد كان هنالك رجلٌ مُعمّم يقومُ بأدوارٍ تمثيليةٍ وكان صراخهُ يصكّ الأسماع، وعندما نظرتُ إلى عينيهِ، لم أشاهد فيها قطرةً من الدمع؛ فقال له أحدُ الأصدقاء: أنت يا من تطلق تلك الصيحات في الأماكن الأخرى، أتطلقها هنا أيضاً؟! هل يصحّ ذلك هنا أيضاً؟! فترك المكان وهرب؛ لقد رأى أن هذا الشخص سوف لن يتركهُ وحاله.
ما كلّ هذا يا عزيزي؟ إنَّ كلَّ ذلك الصياحِ والعويل هو من باب التمثيل و اللعب ليس إلاّ! فلو أنَّ إمام الزمانِ يُعلنُ للجميع في هذه الليلة، وهي ليلة التاسعِ والعشرين من شهر رمضانٍ المبارك، بأنَّهُ سيظهرُ صباح الغد في مسجد جمكران، ويكون ذلك الخبر مؤكّداً؛ ألن نتحرك في الصباح لنذهبُ لرؤيةِ الإمام؟ هل سنذهبُ أم لا؟ بلى، سيتحركُ الجميع من طهران وقزوين و جميع المدن لرؤيةِ الإمام الذي سيظهر، سيأتي جمع كثيرٌ من الناس إلى جمكران لرؤية الإمام بحيث يصل الصف إلى منتصف الطريق إلى طهران، وسيزورون الإمام ويسلّمون عليه، وسيتلاطفُ معهم الإمام ويقول لهم: ها قد تحقّق لكم اللقاء، فانصرفوا إذاً. ثمّ بعد ذلك، يتمّ الإعلان بأنَّ الإمام سيأتي في الغد إلى جمكران أيضاً، فقد تحقّق الظهور إذاً؛ وفي الغد سيحضرُ نصفُ العدد الذي حضر بالأمس، وسيأتون ويسلّمون على الإمام:
ـ السلامُ عليكم.
ـ وعليكم السلام ورحمة الله.
ـ أنا مشتاقٌ إليكم كثيراً يا بن رسول الله.
ـ وأنا كذلك، وفّقك الله، وزاد في معرفتك وأيّدك، إن شاء الله.
ـ لقد كنًّا شديدي الاشتياق لرؤيتكم وكنَّا نلطم صدورنا ونضرب على رؤوسنا من شدة الاشتياق، وها قد ظهرتم أخيراً.
ـ نعم، لقد جئت إليكم، فتفضل ما الذي تريد؟
ـ يا بن رسول الله، إنَّني أشكو من انزلاق الفقرات!
ـ خذ استراحة من العمل لمدة اسبوع، وقلّل من العمل والحركات المؤذية، فستشفى إن شاء الله.
ـ يا بن رسول الله، أنا مدين! و عليّ ديون كثيرة.
ـ عليك أن تقلّل من آمالك و رغباتك، وزد في عملك، فستحلُ مشكلتك إن شاء الله.
ـ ما هذا! لقد كنّا نتوقعُ أن تُخرج دفتر شيكات من جيبك، بحيث أنَّه إذا ما جئناك، فسوف تسدّد جميع ديوننا، وتحلّ مشاكلنا على الفور!
ثمّ يأتي الذي بعده قائلاً:
ـ يا بن رسول الله، أنا غيرُ متزوّج.
ـ رزقك الله زوجةً إن شاء الله.
ثمّ تأتي أخرى قائلةً:
ـ يا بن رسول الله، ليس لديّ زوج.
ـ نسأل الله أن يرزقكِ زوجاً أو اثنين إن شاء الله!! [يضحك سماحة السيّد و الحضور] لعل ذلك سيحصل، إذ يُقالُ بأنَّ بعض الأحكامِ ستتغيّرُ في عصر الظهور، فنحن منتظرون لنرى هل سيكون هذا الحكم من جملةِ تلك الاحكام؟!
حسناً سيأتي الإمام في التالي أيضاً، وسيأتي عددٌ أقلّ من الناسُ لزيارتهِ؛ غير أنَّه وبعد مضي أسبوعٍ أو أسبوعين، سوف لن يكون في جمكران سوى عشرة أشخاص. ما الذي جرى؟! لقد انفضّ الجميع، و ذهبوا، أجل ذهبوا!
إنّ ما أقوله لكم هو أمرٌ قد رأيتُه بعيني ، فلقد كان هنالك أشخاصٌ يتظاهرون بالشوق لرؤية أولياء الله، حتّى إذا ما جاء ذلك الولي الكبير والعارفُ الكامل من مشهد، تراهم يسارعون للذهاب إلى المطار لاستقباله؛ ولكنَّه وما أن يمضي أسبوعٌ أو أسبوعين حتّى يبردَ ذلك الشوق، فيقال له:
ـ لماذا لم تأتِ؟
ـ كان لديّ عمل وذهبتُ إلى السوقِ لإنجازه، وكنتُ عازماً على المجيء لكنَّني لم أتمكّن.
ـ وأنت أيّها السيِّد، لماذا لم تأتِ؟
ـ كلّما حاولت المجيء، لم أتمكّن، إذ قد حصل لي بعض العوائق.
فهل سيختلف الوضع مع إمام الزمان؟!
حسناً، فما هو السبب وراء ذلك؟ إنَّ كلّ حالاتهم السابقة حالات سطحيّة ، فهي من نابعة من ظاهر القلب، أمّا في باطن القلب و عمقه فلا يوجد شيء هناك، إنَّ كلّ ما يُظهرهُ أولئك الأشخاص هو عبارةٌ عن انعكاسٍ لأحاسيسهم ومشاعرهم. فعلينا أن نختبر أنفسنا للتحقّق من هذا الأمر، يعني فلنحاول إيجاد فرصة لنا نختلي فيها بأنفسنا، لنفكّر في حالنا ولنتعمّق بالتفكير لنرى كم هو مقدارُ اعتقادنا القلبي؛ نعم ذلك أمرٌ ممكن، فما إن نُدقّق في الموضوع حتّى يتبيّن لنا واقع الأمر.
يوجد الكثير من نظائر هذه الأمور؛ كما أنَّ الله يُعرِّض الإنسان إلى اختبارات ليُريهُ حقيقة حالهِ وكيف ينخدع أحياناً بظواهر الأمور في تعامله مع الأحداث التي تجري من حوله؛ وكيف يتأثرُ بالبيئة و بالجوّ الحاكم بحيث تراه يتصرّف خلافاً لمعتقداته. كلّ هذه أمور يريها الله الإنسانَ لكي يعتبر بها.

    

ما هو معيار التقدّم و التأخر في السير و السلوك؟ وكيف نختبر أنفسنا؟

يقول الإمام السجّاد: إنَّني إذ أخاطبُ الله بخطاب "عظم يا سيِّدي أملي"، فهذا هو واقع حالي، فهكذا أنا أشعرُ بوجود الله في أعماقي؛ وأملي المتمثّل بالوصول إليه لا يفارقني، بل أنا جادٌّ في متابعة هذا الهدف. هنا يتّضح لنا معنى كلام المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه حينما كان يقول: (لكي تعرف كم تقدّمت في هذا الطريق، وكم هو مقدار ترقيك في سيرك، فلا تقس ذلك بكثرةِ صلاتك بالليل وقلّتها، ولا تنظر إلى مقدارِ قراءتك للقرآن، بل انظر إلى مقدار استقامتك ورغبتك وثبوتك على هدفك وتعلّقك به، وانظر إلى مقدار ما أُضيف إلى عشقك ومحبتك لذلك الهدف، وكم هو مقدارُ التضحية والسعي والجهد التي أنت على استعدادٍ لبذلها من أجل تحقيق هذا الهدف، وكم هو مقدار التمسّك به والثبات عليه. فذلك هو الميزان لمعرفة مقدار تقدّمك باتجاه الهدف المنشود، لا كثرة الصلاة)، فلو أنَّك شغّلت مسجلاً للصوت لأخذ بالقراءة حتّى المساء، فسيقرأ لك بصوت عبد الباسط أو غيره.
إنّ الأمر المهم هنا هو ذلك الحالُ الذي اكتسبتهُ، وكم هو ميزان ثباتك على الهدف؟ كم هو مقدار التزامك بلوازم ومتطلبات السير؟ فإن رأيت حالك قد تحسّن وازدادت غيرتك على مقصدك وازداد تعلّقك به مقارنةً بالعام الماضي [فذلك دليل على حصول الترقي لديك]. يعني إذا ما عُرض عليك أمر [مضرٌّ بسيرك و سلوكك]، ترى نفسك لا تُسارعُ إلى الاستجابةِ إليه، بينما لو كان نفس هذا الأمر قد عُرض عليك في العام الماضي، لكنت تتأمّل بشأنه بعض الشيء، وإن كنت لا تفعله؛ أمّا الآن فإنَّك لا تفكر في هذا الموضوع على الإطلاق، بل تضحك على من يطرحهُ عليك، وتتنفر من ذلك الموضوع. فهذا دليلٌ وعلامةٌ على حصول الترقّي لديك. أمّا إن كان الأمرُ على العكس ورأيت أنّ همتك وتعلّقك السابق كان أكثر مما أنت عليه الآن ورأيت نفسك تميل إلى الأمورِ والمشاغل الدنيوية، ورأيت فكرك مشغولاً بها [فذلك دليل على الهبوط].
ألا يختبرُ الإنسانُ نفسهُ عند ذهابهِ في سفرٍ؟ فإذا ما ابتعد الإنسان لعدّة أيام عن عائلتهِ وعن أصدقائهِ وعمله، إلامَ يشتاق في المقام الأول؟ لا شكّ وأنَّه سيشتاقُ لأولئك الذين تربطه بهم علاقة أكبر، فأولئك يشكّلون الطبقة الأولى من اهتمامات الشخص. فإن طال سفرهُ أكثر من ذلك وبلغ الأسبوع، فسيشتاقُ للأفراد من الطبقةِ الثانية وهم التالون للطبقة الأولى. فإن بلغ سفرهُ الأسبوعين، فسيكون اشتياقهُ للأشخاصِ من الطبقةِ الثالثةِ وهم الأصدقاء وما شاكل ذلك. فيبدأ بتذكّرهم ويقول: ليتهم كانوا معي في هذا السفر، أو متى أعود لكي أراهم. فإذا ما تعدّى سفره الثلاثة أو الأربعة أسابيع يبدأ بتذكّر الأشخاص الأبعد كالجارِ وغيرهِ ممّن كانت تربطهُ معهم بعض العلاقة.
حسناً، انظر الآن إلى هدفك ومسيرك، في أيّ طبقة من هذه الطبقات قد وضعته؟ فهل وضعتهُ في الطبقة الأولى أم الثانية، أم أنَّك عندما تنتهي من كلّ شيء، تتذكرُ عندها أنَّ لك ربّاً في هذا الوسط، وأنَّ عليك حضور مجالس عصر الجمعة لقراءةِ دعاءِ السمات، هذا فيما إذا كان الحال مُساعداً، ثم إنَّك تقوم بدعوة عمّتك وخالتك وصديقك وأقربائك وأقرباء زوجتك للحضور إلى بيتك ـ خلافاً لأمر المرحوم العلاّمة بضرورة عدم دعوة أيّ شخص، وعدم الذهاب إلى أيّ مكانٍ ظهر يومِ الجمعة، وضرورة المراقبة وأخذ قسط من الراحة، لكي يتمكّن الإنسان من حضور مجلس عصر الجمعة وهو في حال من الاستعداد والنشاط ـ فتراه يقوم بدعوتهم قائلاً:
ـ ليس لديّ أكثرُ من جمعةٍ واحدةٍ في الأسبوع لكي أتواصل مع أقربائي!
ـ [يجيب سماحة السيد ساخراً من هذا المستخفّ بسلوكه:] بلى، عليك أن تتواصل معهم! ومن أمرك ألاّ تتواصل معهم؟! بل افعل ذلك طوال الأسبوع، ولماذا يقتصرُ ذلك على يوم الجمعة؟
ـ فما الذي أفعلهُ إذاً؟
ـ أنت أدرى ! فذلك ما اخترته لنفسك، فأنت الذي تقولُ ليس لديّ مجال في يوم الجمعة؛ فما دمت تقولُ ذلك، فما علاقتي أنا بالموضوع؟
ـ ليس لديّ أكثر من جمعة في الأسبوع!
ـ هذا صحيح، وأنا أعلم ذلك أيضاً!
ـ فعليّ أن أستغلّ هذا اليوم للتواصل مع أقاربي!
ـ نعم، لتتواصل معهم إذاً!
ـ وماذا عليَّ أن أفعل بعد ذلك؟
ـ إنَّ هذا الأمر لا يتعلقُ بي؛ ولا أستطيعُ المساعدة بخصوصِ هذا الموضوع!
ولكن أخبرني يا هذا: لو كنت ترغب في مقابلة شخصٍ عزيزٍ عليك، فهل كنت ستدعو حسن وحسين والآخرين أيضاً؟ هل كنت ستدعوهم؟! أم أنَّك كنت ستعتذرُ عن استقبالِ من كان يريدُ زيارتك فضلاً عن دعوتهم؟ لماذا؟! لأنَّ ذلك الشخص يقع في الرتبة الأولى، ثمّ يأتي الآخرون في الرتب الأدنى.
إنَّ الله يُري الإنسان أموراً كثيرةً، ويكشفُ له في هذه الدنيا عن قضايا كثيرة. ويستطيع الإنسانُ التميِّيز بين الصديق من غيره، يستطيع التميِّيز بين الشخصِ ذي النيّةِ الصادقةِ من ذلك المُتظاهر الذي يستخدم كلماتٍ جذّابةً ومنمّقةً لاستمالةِ قلبِ المقابل إليه، مع أنَّ قلبهُ كالبالون الفارغ؛ أمّا قلب ذلك الشخص الأول ينطق بألف قضيّة، وإن لم يستطع النطق بلسانه بمثل تلك الكلمات المنمّقة. فاللهُ يُري الإنسان هذه الأمور واحدةً واحدةً، ويُفهمهُ بأنَّ هذا الشخص عبارةٌ عن بالون ليس إلاّ، فلا تنظر إلى حجمه، فما إن تخزهُ بإبرةٍ حتّى تراهُ قد انفجر وتلاشى؛ أمّا الآخر، فهو شيءٌ آخر، لأنَّ في قلبه شيءٌ ما.. قلبه مليء.
بناءً على هذا، يجب على الإنسان ألاّ يتهاون بموضوع ذلك الأمل العظيم، وأن يأخذ الموضوع بجديّةٍ ويضعه في الرتبة الأولى من اهتماماته. فإذا ما رأى الله العبد على هذه الشاكلة، فسيقول هذا عبد يُرتجى فيه الخير، فسأكون جليسهُ وسأهديه الطريق المستقيم. أليس كذلك؟
حسناً ،لقد تعبت قليلاً، وأعتقدُ بأنَّ الأصدقاء قد تعبوا أكثر منِّي. ولذا سنكمل ـ بمشيئة الله ـ الشرح والحديث في الليلة القادمة إن شاء الله.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد


[1] ـ مصباح المتهجّد وسلاح المُتعبِّد، ج 2، ص 584 فقرة من دعاء أبي حمزة الثمالي الشريف.

[2] ـ العبارة في المتن نقلت بالفارسية للحفاظ على الوزن، والمعنى: شبر! شبران! ثلاثة أشبار! وكان جواب السيَّد على وزن ما قاله ذلك الشخص؛ فكلمة وجب ورجب على وزن كلمة عجب. [المترجم]

[3] ـ التومان هو العملة النقدية في إيران.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی