معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1435 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1435 هـ ـ الجلسة 4: هل نحن نتعامل مع الله بعدله دون أن نشعر؟

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1435 هـ

المحاضرة الرابعة:
هل نحن نتعامل مع الله بعدله دون أن نشعر؟

ألقيت هذه المحاضرة في الليلة الثامنة من شهر رمضان المبارك لعام 1435 هـ

ألقاها:
سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه اللـه

 

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف


أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين

"وَأَنَا يَا سَيِّدِي‏ عَائِذٌ بِفَضْلِكَ هَارِبٌ مِنْكَ إِلَيْكَ متنجِّزٌ مَا وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ أَحْسَنَ بك ظنًّا"

    

معنى العدل ومعنى الفضل

أي: يا سيّدي ومولاي لقد عذت بفضلك؛ فالفضل مقابل العدل، والعدالة تعني إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، لا أقلّ ولا أكثر؛ هذا الذي يُقال له "عدالة"، فلا توجد فيها زيادة ولا نقصان؛ فإذا فرضنا أنّ شخصًا أتى بهدية لشخص آخر قيمتها مائة تومان مثلاً، فعندما يذهب هذا الشخص إلى ذاك، يأخذ له هديّة بقيمة مائة تومان؛ فهذه هي العدالة: لا توجد فيها زيادة ولا نقصان، أو كان لدينا ـ من باب المثال ـ سلعة بقيمة مائة تومان واشتراها شخص ودفع فيها مائة تومان؛ فهذه عدالة، حيث لم يعط مالاً أزيد ولا أنقص؛ فإن أعطى أقلّ، يكون قد أجحفه في حقّه، وإن أعطاه أكثر ممّا يتوقّع، يكون قد تفضّل عليه. أو إذا فرضنا أنّ شخصًا أدّى للإنسان عملاً معيّنًا بقيمة مائة ألف تومان، فإن أعطاه مائة ألف تومان يكون قد راعى العدالة معه، لا أكثر ولا أقلّ، وأمّا إذا أعطاه تسعين ألف تومان، سيكون قد أجحفه وظلمه، وإن أعطاه مائة وعشرة آلاف تومان، سيكون قد زاده، وهذه الزيادة يقال لها فضل؛ فالفضل يقابل العدالة التي تعني إعطاء الحقّ من دون زيادة أو نقصان، حيث لدينا دعاء ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام يقول فيه: "اللهم آخذني بفضلك ولا تؤاخذني بعدلك",[1] وكان السيّد الحدّاد رضوان الله عليه يقرأ هذا الدعاء في قنوته: " اللهمّ إنّك آنس الآنسين لأوليائك، وأحضرهم بالكفاية للمتوكّلين عليك، تشاهدهم في سرائرهم، وتطّلع عليهم في ضمائرهم، وتعلم مبلغ بصائرهم..." إلى آخره، ويوجد في نهايته: "اللهمّ آخذني بفضلك ولا تؤاخذني بعدلك"، يعني: "إلهي، أسألك أن تعاملني بفضلك لا بعدلك"، وأمير المؤمنين لا يمزح هنا مع الله حينما يقول: إذا قرّرت أن تعاملني بعدلك، فغير معلوم ما الذي سيصير إليه أمري.. هذه هي المسألة!

    

عواقب معاملة الله تعالى إيّانا بعدله وقصّة المرحوم البروجردي

أمّا إذا أتينا نحن، ووقفنا أمام الله تعالى، وقلنا: "إلهي، عاملنا يوم القيامة بعدالتك، فالعدل من جملة صفاتك؛ ولهذا عاملنا بعدلك، فنحن لا نريد أكثر من ذلك!"، فسيقول الله تعالى: حسن جدًّا، إذا كنت ترغب في ذلك، فسوف نتعامل معك بالعدل؛ وعندها ندقّق معك الحساب، بحيث نخرج الشعرة من اللبن، حتّى لا تعلم من أين تلقّيت الضربة!
رحم الله الماضين من العظماء، حيث ينقل أحد أصدقاء المرحوم العلاّمة.. الشيخ إسماعيل الملايري رحمه الله ـ الذي كان شخصًا فاضلاً؛ فهو الذي استمرّ بالعمل في كتاب جامع أحاديث الشيعة الذي شرع به المرحوم البروجردي، وحقّقه وأنهى العمل به ـ حكايةً يقول فيها: في الأيّام الأخيرة أو الساعات الأخيرة من عمر المرحوم آية البروجردي، كنت عنده برفقة بعض الأصدقاء؛ منهم الشيخ محمد حسن نوري الذي كان من أصدقاء المرحوم العلاّمة، وكان رجلاً صالحًا، ولديه نفس طيّبة.. قال: كنّا عنده، فرأينا أنّه كان في حالة اضطراب وقلق، وهو يقول: "واأسفاه، واأسفاه، واأسفاه، لقد انقضى العمر!"؛ انظروا كم هي مسألة مهمّة، ومتى يكتشف الإنسان هذه الحسرة! يكتشفها في ساعاته الأخيرة ولحظاته الأخيرة وأيّامه الأخيرة؛ فحين يلتفت إليها الإنسان، يكون قد انتهى الأمر! وعندما يكون الملفّ في حالة إغلاق، عندها يفهم الإنسان حقيقة المسألة، وكم هو الفرق الموجود بين الأشخاص! لقد كان المرحوم البروجردي رجلاً تقيًّا جدًّا، ومختلفًا عن بقيّة الأشخاص، وكان رجلاً خاليًا من الأهواء ـ إلى حدّ ما ـ، وطيب النفس، ومتديّنًا، وكان رجلاً ذا همّة، ومحبًّا للدين، وحميميًّا.. هكذا كانت صفاته!
في مرّة من المرّات، كنت أطالع رسائل المرحوم العلاّمة، فوقعت عيني على رسالة يقول فيها ـ بعد رجوعه من النجف ـ بأنّه لم يحضر دروس المرحوم البروجردي، بل حضر جلستين فقط ـ أو أنّه حضر لمدّة أسبوع واحد ـ، وعندما ذهب إلى منزله لتوديعه، قال له: إلى أين تريد الذهاب يا سيد محمد حسين؟ هل تريد أن تذهب إلى النجف؟ فقال: يجب عليّ أن أذهب، فقال: لماذا لا تبقى هنا عندنا؟ فقال له: لا مناص لي من الذهاب، فأنا في وضع يجب عليّ معه أن أذهب إلى النجف! لا مناص من ذلك! فقد كان يعيش بعض الأوضاع الخاصّة، وكانت هناك بعض المسائل والأحداث.
فأظهر المرحوم البروجردي أسفه الشديد لذلك، وقال: يا ليتك تبقى عندنا! وعندما أراد الخروج، قال له: أبلغ سلامي إلى أمير المؤمنين! وقل له أن لا يتخلّى عنّا، فإن تخلّى عنّا، فغير معلوم إلى أيّ وضع سيؤول حالنا! قال: ثمّ بدأت دموعه تنهمل، وشرع بالبكاء، قائلاً: من المحتّم عليك أن توصل هذه الرسالة لأمير المؤمنين، وقل له أن لا يدعنا! وبعد ذلك، أعطاني عباءة ومصحف، وقال: اقرأ القرآن في هذا المصحف دائمًا، وضع هذه العباءة على كتفك؛ فشكرته على ذلك، فنهض وشيّعني إلى باب المنزل.. لقد كان المرحوم البروجردي رجلاً صالحًا، وكان رجلاً عظيمًا جدًّا جدًّا؛ فأين تجد مثل هؤلاء العظماء؟
نعم، قال المرحوم الشيخ إسماعيل الملايري: رأينا أنّ حاله اضطرب، فقد كان في ساعاته الأخيرة، حيث كان وضعه مشخّصًا؛ فقلت له: لماذا أنت منزعج إلى هذا الحدّ؟ لماذا أنت مضطرب؟ فقال: ألا ترى وضعي؟ إنّني أموت! فقلت: نعم، فالموت مكتوب على الجميع! فقال: لكن لا يوجد معي شيء، فأنا ذاهب ولا شيء في يدي! فعندما ننظر، نرى هذا الرجل مع كلّ هذا العلم الذي كان لديه، ومع هذه التقوى والمنزلة، وهذه الأعمال التي قام بها ـ حيث كان مرجعًا، وإذا أردنا أن نرى ماذا فعل في العقود الأخيرة من أمور، لوجدنا أنّه كان رجلاً عظيمًا جدًّا ـ ، ومع ذلك يقول... فقلت له: لقد تحمّلت كلّ هذه الأعباء، وبنيت هذه المدارس، وشيّدت هذه الحسينيّات والمساجد؛ سواء في إيران أو خارجها، بل حتّى في البلاد الغربيّة، حيث بنى العديد من المساجد في أوروبا وأمريكا والعراق وفي نفس إيران، وبنى مجموعة من المؤسّسات والمساجد والحسينيّات، ومساكن للزوار؛ ـ فقد بنى مسكنًا للزوّار في سامراء، وكنّا نذهب بدورنا إلى هناك أحيانًا ـ فكان يقول: لا، لا! يعني: عندما كان يراجع نفسه، كان يرى بأنّه وإن بنى كلّ ذلك وأولى اهتمامًا به، لكنّه لم يستطع أن يملأ به ما كان يشعر به من خلأ في نفسه بالنسبة إلى حاله ومستقبله؛ فما الذي كان يشعر به؟ نحن لا نعلم! ففي النهاية، من فعل هذه الأمور يعلم أفضل منّا في أيّة وضعيّة وأيّ حال قام بهذا العمل؛ فهو يعلم جيدًا بذلك! فقلت له: يا سيّدي، لقد ألقيت كلّ هذا المقدار من الدروس، وربّيت طلابًا وكذا وكذا، فقال: لا، لا! لا يمكنني أن أعتبر هذا كزاد لذاك العالم؛ والحاصل كلّما كنت أقول له شيئًا، كان يقول: لا! إلى أن قلت له: ألا تقبل بهذه الرواية التي تقول: مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء؟ فقال: بلى، أقبل بها! ـ فما يُألّفه العالم وما يكتبه وتلك المطالب التي يدوّنها أفضل من دماء الشهداء ـ ، فقال: أقبل بها، وأنا بنفسي جزء من سلسلة سند هذه الرواية! فقلت: إذن، ماذا تقول عن كتاب "جامع أحاديث الشيعة" الذي كتبته، وجمعت فيه أحاديث أهل البيت وبدأت بتدوينه؟ ما إن قلت له ذلك، حتّى غرق في التفكير، ولم يقل: لا، لا! ثمّ قال: لعلّ الله تعالى يقبل هذا منّا بفضله، وفرح لذلك! فرح بأنّه لعلّ... وهذا من لطف الله تعالى الذي يعطيه في مثل هذا الموقف لمحةً، ولا يريد أن يبقى المؤمن في حالة يأس وحزن، وإلاّ فهذا المداد أيضًا كان بسبب توفيق الله، وهذه الكتابة كانت بتوفيقه.
بي عنايات حق وخاصان حق
                             گر ملك باشد سياه استش ورق
(من دون عناية الحقّ والأولياء، فسوف يكون سجلّ الأعمال مسودًّا ولو كان لِمَلَك)

فمصدر كلّ شيء هو الله، فبناء المدرسة منه وبناء المسجد، والتدريس وخدمة الناس.. كلّها صادرة منه.
وخلاصة الأمر، أنّني كنت أريد القول بأنّني طالعت رسالة من رسائل المرحوم العلاّمة جاء فيها: أنّه أرسل إلى المرحوم البروجردي استفتاء حينما عاد من النجف، وكان يتعلّق بمسألة وقفيّة بحسب الظاهر ـ فأنا لا أذكر خصوصياتها ـ ، لكنّ مفاد السؤال كان: أنّ وقفًا جرى وقفه بهذا الشكل، فما هو حكمه؟ هكذا كان الاستفتاء على ما أعتقد! وقد جاء الجواب الذي كتبه أسفل الرسالة كما يلي:
أوّلاً، يجب أن نرى سند الوقف ونطّلع على خصائصه، ولا يمكننا الحكم بناءً على المعطيات التي ذكرتموها. ثمّ ذكر بعدها بأنّ تحديد الحكم في هذا النوع من المسائل ممكن بالرجوع إلى العرف، فلا ينبغي تضييع وقت الفقيه بها!
حسنًا، عندما يتأمّل الإنسان في هذه المسألة، ليرى كيف يمكن لشخص أن يكتب في رسالته بأنّ هذا تضييع لوقت الفقيه! فماذا يعني هذا؟ هذا يعني أنّ السؤال الذي ذكرته... نعم، كان المرحوم العلاّمة في ذلك الوقت يبلغ من العمر بضعًا وثلاثين سنة ـ في حدود الاثنين وثلاثين أو الثلاثة وثلاثين سنة ـ .. فعبارة: "تضييع وقت الفقيه" تكشف عن أنّ هذا الشخص لم يكن رجلاً يريد أن يجمع الناس حوله من هنا وهناك؛ ولو كان شخصًا آخر، لقال له: أنعم به وأكرم! مرحبًا بكم، لقد تفضّلتم علينا، وسبّبتم الأذى لأنفسكم، وأمثال ذلك! لكنّنا نكتشف من خلال هذه العبارة أنّ هذا الرجل كان ذا أصالة وواقعيّة؛ والحاصل أنّه كان يهتمّ بوقته، وأهل الاختصاص يفهمون تمامًا هذه المطالب.
فمن المهمّ جدًّا في تلك الظروف أن يلتفت الإنسان إلى أنّ عمله سوف يوضع في الميزان؛ فيرى أنّ ذلك العمل لن ينفعه، والآخر لا فائدة فيه...! هذا الذي يُقال عنه بأنّه فضل؛ فذاك عدل وهذا فضل.

    

تعاطينا مع الله تعالى قائم على أساس العدل

وهذا هو الذي يعنيه الإمام السجّاد عليه السلام حينما يخاطب الله تعالى: وأنا يا سيّدي عائذٌ بفضلك، أي: أنا لا أريد أن أواجه عدلك، ولا أريد منك أن تُعاملني بعدلك، بل تعامل معي بفضلك! فنحن في قرارة أنفسنا نريد دائمًا أن يتعامل الله معنا بعدله: إلهي، لقد قرأت هذا العدد من الأذكار، فأعطني من الدرجات بمقدار ذلك! هذا هو العدل، أليس الأمر كذلك؟ هو كذلك، ولو بشكل مبطّن، وإن لم نظهره علنًا، لكن عندما نرجع إلى قرارة أنفسنا نجد أنّ الأمر كذلك؛ نقول: إلهي لقد نهضت ليلة الأمس لصلاة الليل، فما الذي جرى؟ ولماذا أفلسنا اليوم؟ ولماذا خسرنا؟ ياللعجب، ما علاقة صلاة الليل بالخسارة؟! عدم الخسارة بحاجة إلى أن تفتح عينيك جيّدًا وتبقى منتبهًا! فما علاقتها بصلاة الليل المسكينة؟ هذا هو العدل! فإذا أدّيت صلاة الليل بالأمس، فإنّك تريد أن تحصل على نتيجتها اليوم؛ هذا هو العدل! إلهي، لقد استيقظت بالأمس في السحر، وذكرتك، وقرأت القرآن لمدّة ساعة! لقد ذكرتك في آناء الليل، فلماذا غضب عليّ فلانٌ في اليوم التالي، مع أنّه كان ينبغي عليه أن يتعامل معي بشكل جيّد؟! هذا يسمى العدل! ليلة الأمس قرأت القرآن، فاليوم ينبغي.. إلهي، بالأمس استيقظت قبل أذان الفجر بساعتين، وأنجزت البرامج والدستورات المكلّف بها، وصمت اليوم؛ فلماذا خرب الوضع بيني وبين زوجتي المكرّمة المجلّلة المطوّلة؟!!!! ماذا تريد؟ هل تتوقع أنّك عندما تصلي صلاة الليل، فإنّه على الجميع أن يقفوا لك، ويذبحوا الخراف لمجيئك؟!! فأحيانًا تكون المسألة كذلك، وأحيانًا ـ بل أكثر الأحيان ـ لا تكون كذلك. ففي بعض الأحيان، تكون هذه هي نتيجتها؛ فعندئذٍ ما الذي يمكن فعله؟ فإن قيل لشخص بأنّ نتيجة صلاة الليل هي هذه، هل سينهض لأدائها؟ من منّا سيفعل ذلك؟! إن قيل لك بأنّك لو صلّيت صلاة الليل وقرأت القرآن في هذه الليلة، فسوف تغضب منك زوجتك غدًا! يا إلهي، نحن لا نريد ذلك! فنبقى نائمين إلى الصباح، حتى لو انقضى وقت صلاة الصبح! أفلن يحصل هذا؟!
نقل المرحوم العلامة عن أحد الأشخاص ـ رحمة الله عليه، فنحن لا علاقة لنا بعباد الله، وهو وحده تعالى يعلم ماذا يفعله بهم ـ ، وقد كان من أصدقائه ورفقائه، ثمّ انفصل عنه، حيث كان يذكره كنايةً في كتبه باسم الزارع، وقد كان يعقد هذا الشخص جلسات خاصّة به بعد ذلك، لكنّ حاله في ذلك الوقت كان جيّدًا؛ فعندما كان على علاقة بالمرحوم العلامة، كان حاله جيدًا، وكنت أعلم بذلك، وإن كنت وقتئذٍ طفلاً، لكنّني كنت أشاهد حالاته وروحياته عن قرب.. يقول: ذهبت مرّة إلى تبريز لزيارة أحد الأصدقاء، وعندما دخلت عليه، رأيته مهمومًا متأذّيًا، فقلت له: ماذا هناك؟ فقال: منذ أسبوع، تركتني زوجتي المصونة، وذهبت إلى منزل والدها ـ ولا يخفى أنّه لم يكن رفيقًا له، بل كان من معارفه، أي أنّه لم يكن من رفقائه السلوكيّين ـ .. قال: فجلست عنده يومين، وبدأت بالحديث معه من هنا وهناك، كي يتغيّر حاله عمّا هو عليه، فقلت له: وماذا لو ذهبَت؟! اتركها، فإن الأمور سوف تُصلح لاحقًا، لكن عليك أن ترى ما هي أصل القضية، ففي النهاية، يجب أن تهتمّ بنفسك وأوضاعك! والحاصل، أنّه بعدما تكلّمت معه بألف كلمة وبيت من البحر الطويل، وجفّ ريقي من كثرة الكلام، إلى أن شربت إبريقًا من الماء، قال: يا حاجّ، إن كان لديك شيء من اللياقة، فاذهب واءت بها.. فنحن نعرف هذا الكلام! قال: نحن نعرف هذا الكلام، فإن كان بإمكانك أن تفعل شيئًا، فاذهب واءت بها! فاكتشفت بأنّني كنت خلال هذين اليومين أتحدّث إليه، وكأنّني أتحدّث إلى الحائط! حيث قال: إن كان بإمكانك أن تفعل شيئًا، وكنت من أهل الكرامات والمكاشفات، فإنّ المهمّ في المسألة هو [أن تذهب وتأتي بها]!!! فالمهمّ في المسألة عند البعض هو شيءٌ آخر ومرتبطٌ بقضايا أخرى!!! وسنصل إن شاء الله تعالى إلى بيان هذه الأمور!!! فما ذكرته لحدّ الآن كان مقدّمة لكي تتهيّؤوا!!! وحتّى يحصل لديكم استعداد للمطالب القادمة!!!
فنحن هكذا؛ فإذا أردنا أن ننظر إلى أنفسنا، سنرى بأنّ جميع سلوكنا هو سلوك عدالة: إلهي، لقد قمنا بهذا الفعل، فأعطنا مقابله هذا الأمر! ولقد تحمّلنا هذا الأمر، فأعطنا هذا الشيء في مقابله، وتحمّلنا ذاك الأذى، فعليك أن تمنحنا هذا الأمر، وأعطينا صدقة بهذا المقدار، فعليك أن تعطينا كذا؛ فإذا أعطيتُ صدقةً، لا ينبغي أن يحصل لديّ وجع في القلب؛ فلماذا حصل لديّ؟! إذًا، ينبغي أن أستعيد الصدقة!! مثل صاحبنا الذي أضاع حماره، فقال: إلهي، إن وجدت لي الحمار، سأصوم لك ثلاثة أيام! لكن بعد ذلك، عرف بأنّه لم يضع حماره فقط، بل تلف الحمل الذي كان عليه أيضًا، فقال: حسنًا، إلهي، كنت قد نذرت لك أن أصوم، لكنّ الظاهر أنّه لم ينفعك ذلك؛ فلم يقتصر الأمر على عدم عودة الحمار فقط، بل إنّ الحمل الذي كان عليه قد ضاع بدوره أيضًا؛ فإن كان الأمر كذلك، فلن أصوم ثلاثة أيّام ـ لأنّ النذر لم يتحقق ـ؛ ليس هذا فحسب، بل سأفطر في الأيّام التي يجب عليّ فيها الصوم ـ بل في خير هذه الأيام؛ أي التاسع عشر والحادي والعشرون والثالث والعشرون ـ ، فأنا لست شخصًا يمكن أن يضحك عليه أحد!!! فعلاوة على أنّني لم أجد الحمار، فقد ذهب حمله أيضاً!!! فهل تتوقّع منّي أن أصوم لك ثلاثين يوماً من شهر رمضان؟ كلاّ، بل سوف أفطر في أفضل أيّامه!!! حسنًا، هذا نوع من الناس، فالله تعالى لديه عبادًا من جميع الأنواع!
إنّ سلوكنا مع الله ـ أيّها الرفقاء ـ هو سلوك عدالة، لا سلوك فضل؛ وهذه مسألة يجب التأمل فيها جيدًا، فأصل المسألة ترجع إلى... كنّا نريد في هذه الليلة إكمال الحديث عن الهرب، فلا أدري لماذا جرّنا الكلام للحديث عن الفقرة الأولى! حسن جدًّا، لا عيب في ذلك؛ فكلّ ما يقع فيه خير!

    

تعاطينا القاصر مع الله تعالى راجع لدنوّ منزلتنا وقصور رؤيتنا

إنّ هذه المسألة ترجع إلى رؤيتنا نحن، وإلى المنزلة التي نمتلكها، وإلى عدم إدراكنا للأمور والأهداف إدراكًا صحيحًا؛ فإذا يذكر الإخوة، كنّا قد تحدّثنا آنفًا ـ والظاهر في السنة السابقة أو التي قبلها ـ عن حقيقة المنزلة التي نتوفّر عليها، بحيث عندما نرى بأنّ الله تعالى هو أصل جميع الحقائق وأصل جميع القيم والكرامات والفضائل، وما يتمنّاه الأشخاص والأولياء والعظماء ـ مهما كانت درجتهم ـ، نكتشف بأنّنا أضعنا منزلتنا الحقيقيّة، ولم نعُد نعلم من الأساس في أيّة وضعية نحن! فما نستحضره من نعم الله تعالى وفضله وعنايته، يبتني تصورّنا له على أنّ ذاك العالم هو مثل هذا العالم؛ فمن باب المثال، حينما نريد الاطّلاع على المتع والنعم [في هذا العالم]، نرى أنّها منحصرة في التفّاح والإجّاص والجوز والبرتقال و..، بالإضافة إلى أنواع من اللذائذ الأخرى، لا أكثر، ولا يمكن لفكرنا وتصورّنا وذهننا أن يصل إلى أكثر من هذه الأمور، وبطبيعة الحال، فإنّنا نتصوّر ـ بناءً على ذلك ـ بأنّ الأمر في ذاك العالم هو هلى نفس هذه الشاكلة، غاية الأمر أنّ وزن الإجّاص هنا مائتان وخمسون غرامًا، بينما هناك كيلو ومائتا غرام، وهنا ـ مثلاً ـ الإجاصّ بعضه حلو وبعضه حامض، بينما هناك حلو كلّه! فهذا غاية ما يُمكننا تصوّره عن الشكل الآخر للنعم التي هناك؛ لأننا نقيس الأمور بهذه الذهنيات والتصوّرات التي نتعامل بحسبها مع هذه الدنيا، لكن مع زيادة بسيطة! فإذ فرضنا وجود شخص في هذا العالم يتملك حظًّا من الجمال، فجماله في ذاك العالم [بحسب تصوّرنا] سيكون بنفس هذه الكيفيّة، لكن مع زيادة بسيطة! ولنضرب مثالاً بأجمل إنسان موجود على الأرض ـ وينبغي العلم أنّ الجمال وعدم الجمال أمر نسبيّ ومرتبط بذوق كلّ شخص؛ فأحدهم يقول هذا أجمل والآخر يقول ذاك أجمل! ـ ، فإذا افترضنا أنّ الجميع اتّفقوا على جمال شخص واحد ـ رجل جميل أو امرأة جميلة ـ ، فإنّ الإنسان حينما يتأمّل، يرى بأنّ هذا الرجل ولو كان لديه حسن يوسف ـ حيث جعل النساء يقطّعن أيديهنّ بدلاً من تقطيع البرتقال ـ ، إلاّ أنّ هؤلاء النسوة التفتن في الأخير إلى الأمر، وداوين جراحهنّ، وذهبن، وانتهى الأمر! فلم يحصل شيء غير هذا! فالتي وقعت في حبّه هي زليخا فقط، وأمّا الأخريات، فلم يكنّ كذلك، بل ذهبن وعشن حياتهنّ الطبيعيّة؛ صحيح أنّه كان بإمكاننا [والقائل هم النسوة] أن نعيش بنحو أفضل، لكن إذا لم يحصل ذلك، فسنعيش حياتنا الطبيعيّة! هذا غاية ما يُمكن قوله عن أجمل شخص في الدنيا، والذي يضربون به الأمثال؛ فيقولون: حُسن يوسف، حُسن يوسف! وأمّا ما ينقله بعض العظماء عن الجمال الذي يراه الإنسان في ذاك العالم، فلو أنّ أحدهم في هذا العالم وقعت عينه على ذاك الجمال، فلن يعود له أيّ ميل ورغبة ـ بشكل مطلق ـ بأيّ موجود آخر! فأين يوسف من ذلك! بل ولو كان ألف مرّة أجمل من يوسف!
حسنًا، فالله تعالى قد احتفظ بهذه الأمور لذلك العالم، نعم، اللهمّ إلاّ في مورد بعض الأشخاص؛ وقد ذكرت لكم بأنّ المرحوم العلاّمة تحدّث في إحدى الليالي عن هذه المسألة، وأنّ هذه المكاشفات والمشاهدات قد تحصل للإنسان، وبأنّه ينبغي على الإنسان أن يكون حائزًا على القابليّة والسعة اللازمتين لكي يكون قادرًا على عدم الالتفات إليها، فلا يتخلّى عن هدفه، ولا تكون تلك اللذّة النفسانية ـ التي تحصل من خلال رؤية ذلك الجمال ومشاهدته ـ مانعًا من الوصول إلى ذلك المقصد الأسمى، غير أنّ ذلك ليس بالأمر الهيّن، فلا تتصوّروا حصوله بكلّ سهولة، بل هو بحاجة إلى جهد كبير!
قال لي أحد الأشخاص ـ وقد نقل لي ذلك بنفسه ـ : في ذلك اليوم، رأيت وجهًا جميلاً، ففُتنت به! وحين كان المرحوم العلامة يتحدّث بذلك الكلام، قال في ضمن ذلك: "أحيانًا تقع عين أحدهم على إنسان عادي؛ كأن يذهب إلى المستشفى لعيادة صديق مريض، فتقع عينه على بعض المشاهد، فينسى نفسه! ومع ذلك يأتي هذا الشخص ويدّعي بأنّه يُمكنه التخلّي عن الحور العين وغيرها!! هل هذا صحيح؟" فطأطأت رأسي وقلت: صحيح، صحيح!

    

علوّ مقام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم والأولياء

حسنًا، هذا باب من تلك الأبواب! وأمّا ما سمعناه من العظماء عن تلك الأمور والتجلّيات الخاصّة التي يفيضها الله على عباده الخاصّين، فهي بنحوٍ لو أفيضت على أحد الأشخاص، فإنّ ذلك الشخص لن ينظر إلى مثل هذا الجمال ـ ولو كان لحور العين ـ ما دام هو باقيًا وما دام الزمان موجودًا؛ فهي ليست شيئًا أمامه! ولن يلتفت إليها ولن ينظر إليها من الأساس! بل هي التي ينبغي لها أن تسعى وراءه! فما هي حقيقة هذه الأمور؟ وما هو هذا النوع من الجمال والنعم والإفاضة، بحيث لا يمكن تصوّره أو الحديث عنه؟ حينئذٍ، نرى بأنّ العظماء والعرفاء والأولياء ـ مع كلّ هذه الأجواء والحالات التي يعيشونها ـ يأتون، ويجلسون معنا، ويتحدّثون إلينا، ويقضون أوقاتهم معنا! هل تتصوّرون ذلك؟!
يقول الخواجة حافظ: من كه ملول گشتمى از انفاس فرشتگان (أنا الذي صرت ملولاً من أنفاس الملائكة)[2] ؛ يعني: أنا لا أريد أن أراها، ولا أريد أن أنظر وألتفت إليها، وأنا أعيش فعلاً مثل هذه الحالة! وهو يشير إلى حالة النبيّ، وإن كان يعيش هو أيضًا مثل هذه الحالة، لكنّه يشير إلى حال النبيّ عندما كان في غار حراء مختليًا بربّه، وكان يعتزل هناك أربعين يومًا فأربعين يومًا، وكان في ذلك الغار هو والله فقط، وكان يوصل الليل بالنهار والنهار بالليل بذلك.. فحينما يقول الخواجة حافظ ذلك، فإنّه يعني أنّ مثل هذا الشخص صار يملّ من نَفَس الملائكة، ويريد أن ينمحي حصرًا في الذات الإلهيّة، ولا يريد التنازل حتّى إلى مرتبة الأسماء والصفات مع جمالها العجيب ـ بحيث لو وُزّعت ذرّة من ذلك الجمال على جميع موجودات عالم الدنيا، لصار كلّ واحد منها يوسف بن يعقوب ـ ؛ إذ يحصل له الملل بهذا التنازل. ويبقى أنّنا نستمع إلى هذا الكلام فقط، وقد يكون سماعنا عنه لأوّل مرّة، لكنّ هذه الأمور موجودة فعلاً! فالنبيّ الأكرم عندما كان في غار حراء، لم يكن قادرًا على الحديث حتّى إلى الملائكة! ففي حالاته الخاصّة، كان حديثه حتّى إلى الملائكة يهبط به للأسفل، ويُنزله عن موقع الذات إلى مراتب الأسماء والصفات؛ فمن الذي يرضى بمثل هذا الأمر؟! من يرضى بذلك؟ كأن أن يكون لدى الإنسان أجمل امرأة في العالم، ومع ذلك يأتي شخص ويقول له: دعك من هذه المرأة وتعال إلى امرأة أخرى قبيحة ـ وليس المراد أن تكون قبيحة المنظر، بل يعني أنّ جمالها عادي ـ ، واجلس إليها؛ فهل يمكنه القيام بذلك؟ وهل ستكون لديه الرغبة بذلك؟ وهل سيرضى بهذا الأمر؟
لقد كانت لدى النبيّ في علاقته بالذات الإلهية مثل هذه الحالة، حيث كان يعتبر التحدّث حتى إلى جبرائيل منزلاً له عن تلك المرتبة! ولم يكن باستطاعته القبول بذلك، فكان يقول لجبرائيل: انتظر حتّى أنزل قليلاً، وبعد ذلك تحدث إليّ، ولا تحدّثني وأنا هناك؛ ففي تلك المرتبة، لا شأن لك بي، ولا تتبعني، ولا تقترب منّي؛ والحال أنّ جبرائيل هو من يُفاض من خلاله علمُ جميع ما سوى الله، وبواسطته يوحى إلى جميع الأنبياء، وهو الذي يفيض العلم على جميع الموجودات.. فجبرائيل هذا يقول له النبيّ: لا تقترب! ابتعد! ولا تتقدّم!

    

صعوبة التوفيق بين الحالات الخاصّة التي يعيشها الوليّ وبين مخالطته للناس

حينئذٍ، يؤمر هذا النبي من قبل الله أن يترك ما هو عليه ويأتي إلى الناس، وأن يواجه أبا سفيان وأبا جهل، فيقول الله له: واجه الكفار والمشركين، واقرأ هذه الآية لهذا، وهذه لذاك، واذهب إلى الطائف، واهد الناس هناك، ثمّ اذهب وحارب في أحد وفي بدر! فكيف يمكن للإنسان أن يتصوّر ذلك من الأساس؟! إلهي، ما هو نظامك؟ وكيف تمشي أمورك؟ فلو أنّك لم تُذقني هذه الأمور، ولم تعطني وتطعمني من ذاك الطعام من الأوّل! لكنّك بعد أن أذقتني إيّاها، لماذا تتعامل معي بهذا الشكل؟ وكأنّك تريد أن تجبر كلّ تلك الأمور التي منحتنيها! هذا هو لسان حال النبي.. فالآن وقد وفسحت لي مكانًا إلى جانبك، وجعلتني جليسًا لك في ذاتك، ومنحتني من تلك الإفاضات والنفحات التي لم تمنحها حتى لكبار ملائكتك المقرّبين، وأذقت قلبي وضميري منها، تأتي في هذه الحال لتقول لي: اذهب إلى أبي سفيان لينطق بالشهادتين! أنعم به وأكرم! فأبو سفيان يمتلك ألف صنم في داخله غير تلك الموجودة في الكعبة؛ فيا ليت أصنامه اقتصرت على تلك الموجودة في الخارج فقط! وأبو جهل كان لديه أصنام أكثر من عشرة أضعاف ما كان موجودًا هنا وهناك؛ فماذا سيفعل الرسول بكلّ هذه الأصنام؟ فتلك الأصنام [الخارجيّة] رماها أمير المؤمنين وحطّمها، وأمّا ذاك الصنم المغروس في النفس، وتلك الأصنام التي في الداخل، وذاك الكبرياء، وتلك الأنانيّة وحبّ الرئاسةذ، وتلك العظمة، وتلك المسائل الموجودة في الداخل.. هي التي يواجهها النبي! وأمّا ذلك الصنم الموجود في الأعلى، فيُلقي به من فوق ويحطّمه؛ مثلما فعله النبيّ إبراهيم عليه السلام عندما حطّم الأصنام وانتهى الأمر! فهذه تنتهي، لكنّ الأخرى الموجودة في الداخل لا تنتهي؛ فهي التي تُشعل معركة بدر ومعركة أحد.. نفس هذه الموجودة في الداخل، انظروا إلى الدنيا، وانظروا إلى كلّ هذه الحروب والرئاسات والأنانيات ووالنزاعات والمخطّطات! فهذا التعيس يريد النوم الآن، فيضع المخطّطات للغد.. هذا الذي في الداخل هو الذي يحرّكه، ولا يدعه ينام! هو الذي يخطّط له: افعل هذا غدًا، وافعل كذا بعد غد..
وعلى النبيّ أن يأتي إلى هؤلاء واحدًا واحدًا، وينزع هذه الأصنام من نفوسهم، ويستخرجها من بواطنهم، وأمّا الأصنام الخارجيّة، فقد حطّمها في اليوم الأول وانتهى الأمر، لكن وصلت النوبة الآن إلى هذه، وعليه أن يستخرجها واحدة واحدة؛ هذا إن كان بإمكانِها الخروج، فقد تطبق السماء على الأرض دون أن تخرج هذه الأصنام!! ثمّ هناك بعد ذلك مسألة الغدير والأمور التي حصلت بعدها؛ فهذه المؤامرات والمخطّطات والجلسات التي عُقدت بعد حادثة الغدير كلّها كانت موجودة في الداخل، لكنّ النبيّ لم يستطع أن يستخرجها، لا لعدم قدرته على ذلك، بل لأنّه كان يُؤدّي التكليف الملقى على عاتقه فقط؛ فكان يقول: بإمكانك أن تستخرج هذا الصنم، ولا تقل ليس بإمكاني ذلك وتضع إحدى رجليك على الأخرى! لقد بيّن لك الطريق، ووضّح لك السبيل؛ فيمكنك من خلال ذلك أن تخرج هذا الصنم، وتخلّص بذلك نفسك، وتُريحها! وإلاّ لو كان ذلك غير ممكن بالنسبة إليك، لكانت شريعته مختصة بمجموعة خاصّة من الناس؛ والحال أنّها للجميع.

    

طريق الله مفتوح للجميع لكنّه مشروط بالرغبة والاختيار

فعندما يذهب النبيّ إلى مكّة، ويُعلن للجميع بأنّ منزل أبي سفيان هذا ـ الذي كان رأس الفتنة ـ هو مأمنٌ لجميع المشركين، ماذا يعني ذلك؟ يعني: يا أبا سفيان، أنت لا تختلف بالنسبة لي عن سلمان! فإن جئت، صرت سلمانًا بدورك، وإن جئتَ، صرتَ أبا ذرّ، وصرت مقدادًا! فنفس أبي سفيان يصير هو المقداد! فإن كنت تريد ذلك، أريك كيف تتخلّص من أصنامك واحدًا بعد الآخر، وأُخرج ما في قلبك حتّى تصير سلمانًا بكلّ سهولة! أمّا هو، فيقول: لا، بل أريد أن أُبقي هذه الأصنام الموجودة في داخلي كما هي، وأستأنس بها! وأريد أن ألتذّ بهذه الأصنام الموجودة في داخلي، وآنس بها من الصباح إلى المساء؛ فيقول له النبيّ: حسنًا، كما تريد! لقد أخبرتك، وقلت لك أنّه بإمكانك أن تصير سلمانًا، ويمكنك أن تصير مقدادًا وعمّارًا! فمن قال بأنّ هؤلاء لم يكونوا في أوّل الأمر مثل أبي سفيان؟ من قال؟ هل خرج عمّار من بطن أمّه كما هو؟ نعم، في ذلك الوقت [الطفولة] كان لديه نوع من أنواع الطهارة الذاتية، والتي لا تُسمّى عصمةً! فهل إنّ هؤلاء لم يرتكبوا في حياتهم ذنبًا أبدًا؟ من المحتّم أنّهم ارتكبوا ذنوبًا كسائر الأشخاص، لكن مع اختلاف في الشدّة والضعف؛ فهل أنّهم لم يكذبوا في حياتهم، ولم يفعلوا حرامًا ولو مرّة واحدة؟ بل كانوا يفعلون، لكنّهم كانوا يتوبون، وإلاّ لمن وضع الله التوبة؟ فيبقى الكلام حول: هل يريد الإنسان ذلك، أم لا؟ وهنا يأتي الاختيار؛ فإن أراد الإنسان ذلك، فقد بيّن له النبيّ الطريق، وبيّن له الأئمةُ والأولياء والعظماء الطريقَ: هيّا، توكّل على الله، وأخرج [كلّ تلك الأصنام]! فطريق الإخراج موجود، والإنسان يعلم بذلك ومطّلع عليه؛ فقد درس كلّ ذلك، لكنّه لا يعمل! هذه هي المصيبة! {بَلِ الإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصيرَة * وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذيرَه‏}، فكلّ شخص يعرف جيّدًا أين تكمن نقطة ضعفه!
ذكرنا في الليلة السابقة ـ أو التي قبلها أو قبل عدة ليالي ـ بأنّ الإنسان حينما يعلم بوجود مسألة بينه وبين رفيقه، ويعرف بأن هذه المسألة يجب أن تحلّ، ويبقى جالسًا حتى يأتي الطرف الآخر ويحلّها؛ فما الذي يعنيه هذا؟ هذا يعني أنّه لا يُريد أن يُخرج ذلك الصنم الموجود في داخله؛ ولهذا يظلّ جالسًا حتّى يُطرق باب المنزل أو يرنّ الهاتف؛ فيأتيه الخبر بأنّ فلانًا يريد أن يأتي إلى منزله.. يا لسوء الحظّ! فذاك أخرج صنمه، أمّا أنت فأبقيته! من الذي فاز؟ هو الذي فاز!
نعم، قد تحصل لك مسألة أخرى، فيكون الأمر مختلفًا، لكن عندما يكون من المفروض عليك أن تتحرّك، تحرّك بسرعة! فعندما واجهتك هذه المسألة... وقد أشرنا سابقًا ـ ولا أذكر متى كان ذلك ـ أنّ الله تعالى قد يُهيّئ أحيانًا مثل هذه القضايا للإنسان؛ فإذا فهم الإنسان أنّ المسألة هي كذلك، عليه أن يقول: كأنّ هذه المسألة متعلّقة بي أنا!
كان المرحوم العلاّمة يقول: "عندما كنّا في محضر العظماء؛ مثل السّيد الحداد رضوان الله عليه ـ وهذه عين كلماته ـ كنّا نقصر نظرنا على فمه"؛ فقد كان المرحوم الحدّاد يعرض المطالب بشكل لطيف جدًا، وكان يبيّنها بالكناية والإشارة؛ وبالتالي على الإنسان أن يركّز جيدًا في كلامه حتّى يعرف ما الذي يريد أن يقوله، وما هو الموضع الذي يريد أن يُشير إليه.. يقول المرحوم العلاّمة: "كنّا نعتبر أنّ كلّ كلمة يقولها السيد الحدّاد ـ حتّى لو كان مخاطبه شخصًا آخر ـ موجّهة إلينا نحن، وأنّنا نحن المخاطبون بها، وكنّا نفكّر في كيفيّة انطباق كلامه علينا، ثمّ نكتشف بعد ذلك بأنّه ينطبق فعلاً على المسألة الفلانيّة، فكنّا نسرع في إصلاحها؛ لقد كنّا نأخذ تلك الأمور التي ينقلها وليّ الله ونطبّقها على أنفسنا، ونعمل بها!"؛ أفهل ينبغي أن يأتي وليّ الله وينظر إليك ويقول: "أنت الذي تلبس قميصًا أصفر مثلاً وتنظر إليّ، لقد ارتكبت بالأمس هذا الفعل!"؟ هكذا ينبغي أن يكون الأمر؟ لا، بل يتكلّم وينظر إلى شخص آخر، وينظر إلى هنا وهناك.. وبحسب قول السيد الحدّاد:
داند وخر را همى راند خموش
                             بر رخت خندد براى روى پوش
(إنّه يعلم ما يجري، ولكنّه يسوق حماره بصمت، ويضحك أمامك ليحجب وجهَه عنك بِبَسمته)

أنت الذي عليك أن تنتبه جيّدًا، لكي لا يضيع منك المطلب؛ فعليك أن تأخذ بكلامه، ولِيَضحك هو، ولِِيَبتسم وليُبيّن المسألة بطريقته! فالإنسان الشاطر ـ على حدّ قول المرحوم العلاّمة ـ هو الذي يأخذ المسألة وهي معلّقة في الهواء! وأمّا الآن، فترى بأنّ الإنسان يصرّح لأحدهم بالمسألة، فيقول: لست أنا هو المقصود! ولهذا، ينبغي فهم المسألة وهي معلّقة في الهواء! حسنًا:
مجلس تمام گشت وبآخر رسيد
                             وما همچنان در اول وصف تو ماند ايم
(انقضى المجلس ووصل إلى نهايته، ولكنّنا ما زلنا في بيان أوّل أوصافك)

ينبغي الالتجاء إلى فضل الله تعالى، ولا ينبغي... وإذا وفقنا غدًا إن شاء الله لإتمام هذا المطلب فَبِها ونعمت، وإلاّ فكلّ ما يأتي ـ على كلّ حال ـ خير! صدّقوني، ففي بعض الأحيان، عندما آتي وأجلس هنا، أقول لنفسي: بماذا أتحدث؟ ثمّ أقول: فلأتكلّم بأيّ شيء.. فكل ما يأتي خير!

    

خطورة التعامل مع الله تعالى على أساس المعاملة التجاريّة

وخلاصة القول، لا ينبغي أن نتعاطى مع الله على أساس المعاملة التجاريّة، وذلك بأن نقول لله تعالى: إلهي، تعامل معنا بالعدل! نحن نؤدّي هذا العمل، فعليك في المقابل أن تفعل أنت كذا! ونحن نخطو هذه الخطوة، فعليك أن تمنحنا أنت هذا اللطف بدلاً عنها، ونحن ننفق هذا المال، فعليك في قباله أن تكون معنا! حينئذٍ سيقول الله تعالى لنا: إن كان الأمر كذلك، فلا بأس، سنرى ما الذي يُمكنكم فعله! ولهذا، ينبغي أن ننظر إلى أنفسنا بأنّنا صفر [أمام الله تعالى]، وتكون نظرتنا هذه نظرة واقعيّة وليست اعتباريّة؛ والمراد من ذلك أنّ الرفقاء قد تعارفوا على بعض الأمور، من بينها أنّهم يقولون: نحن نوكل أعمالنا إلى الله تعالى! لا، ليس هكذا، فهذا أمر اعتباري، بل علينا أن نعلم من داخلنا بأنّنا في أنفسنا صفر! لا أن نقول هكذا: إلهي أنت كبير وعظيم، فامنحنا من فضلك، ونحن لم نفعل شيئًا! عندها سوف يقول لنا الله تعالى: لا! بل خذ ما تستحقّه فقط!! فعلينا واقعًا أن نضع هذه الأمور جانبًا، ونضع المعاملة التجاريّة مع الله جانبًا، ونضع التعامل مع الله وفقًا للعدالة جانبًا! وأن نأتي بما أمرنا به الإمام السجّاد عليه السلام وأمرنا به أمير المؤمنين، وأن نتعلّم كيف كان هؤلاء يتعاملون مع الله، وكيف كانوا يخاطبونه.. علينا أن نتعلّم ذلك منهم! إذ لم يبق شيء لم يفعلوه في هذه الدنيا، ومع ذلك نجدهم يقولون: نحن صفر! فبحقّ، عندما ينظر الإنسان إلى أمير المؤمنين وإلى أفعاله وأعماله، يذهل ويبقى مدهوشًا من ذلك؛ فهل بإمكاننا أن نفعل مثله؟ فمع كلّ تلك الأعمال التي قدّمها، نراه يتحدّث مع الله بهذا الشكل! وكذلك الأمر بالنسبة للإمام السجّاد في تعامله مع هذه الدنيا وفي أعماله، وعباداته وأمثال ذلك؛ فأين نحن من ذلك؟!! فنجد بأنّ هؤلاء كانوا بهذا الشكل، ومع ذلك نراهم حين يقفون أمام الله تعالى، يقولون: إلهي، نحن كذا وكذا! هذا مع أنّ ما يقولونه صحيح، فهم لا يمزحون مع الله! يعني كم هم صادقون في تعاطيهم معنا؟ وما هو مقدار صدق الإمام عليه السلام في ارتباطه بنا؟ لا يُمكننا تصوّر صدق أعلى من ذلك! ومع ذلك نجده في تعامله مع الله تعالى أكثر صدقًا من ذلك بألف مرّة! يعني مهما يكن الأئمّة صادقين في المسائل الاجتماعيّة ـ بل هم عين الصدق والصفاء واللطف والكرامة ـ ، فإنّهم حينما يريدون أن يدعون الله تعالى ويطلبون منه حاجاتهم، يكونون صادقين أكثر ممّا هم معنا بألف مرّة، لكنّنا نظنّ بأنّهم يذكرون هذه الأدعية من باب المزاح، وأنّهم أرادوا بها تعليمنا وحسب! لكن، لا! فلماذا هم صادقون مع الله؟ لأنّهم وصلوا إلى تلك الحقيقة الموجودة في تلك الجهة.
نسأل الله تعالى أن يمنحنا فهم هذه المسائل، وأن يرزقنا توفيق فهم السير في طريقه والحركة إليه، وأن يُطلعنا أكثر فأكثر على منزلتنا في مقابل منزلته ونعمه تعالى.
اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد.


[1] ـ "اللهم احملني على عفوك ولا تحملني على عدلك"، نهج البلاغة، ج 2، ص 221.

[2] ـ مصرع من بيت شعري؛ هذا نصّه: من كه ملول گشتمى از نفس فرشتگان*** قال ومقال عالمى مى كشم از براى تو (والمعنى: أنا الذي صرت ملولًا من أنفاس الملائكة، تحمّلت لأجلك كلام الناس جميعاً)؛ راجع: أسرار الملكوت،ج 1، ص 195. المترجم

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی