معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1435 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1435 هـ ـ الجلسة 8: دور الشكّ في الإعاقة عن السلوك

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1435 هـ

المحاضرة الثامنة:
دور الشكّ في الإعاقة عن السلوك

ألقيت في الليلة الثالثة عشرة من شهر رمضان المبارك لعام 1435 هجري قمري

ألقاها:
سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه اللـه

 

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين

"وَأَنَا يَا سَيِّدِي‏ عَائِذٌ بِفَضْلِكَ هَارِبٌ مِنْكَ إِلَيْكَ متنجِّزٌ مَا وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ أَحْسَنَ بك ظنًّا"
يا مولاي! أنا ألتجئ إليك بأمل فضلك ورحمتك، وأتعلّق بفضلك وأمدّ يدي نحو فضلك.. هارب منك إليك، وأنا أسرع فرارًا إليك ومنك وإليك ونحوك، وأنا موقن بما وعدت به من العفو والصفح عن خطايا وزلاّت الذين أحسنوا الظنّ بك؛ فلم أتعامل مع ذاك الوعد على أساس أنّه مزاح، بل بنيت حياتي اعتمادًا عليه.

    

الشكّ من أهمّ العوائق التي تعترض السالك في الطريق

حسنًا، تحدّثنا في الليالي السابقة بشكل عامّ عن أنّ الطريق إلى الله والحركة إلى الله ينبغي أن تكون على أساس الاطمئنان واليقين وهدوء الخاطر وسكون القلب؛ فالإنسان لا يتقدّم مع وجود الشكّ، فإن صلّيت ألف ركعة مع الشكّ، لن تتقدّم ولو سنتيمترًا واحدًا؛ وإن صمت ألف يوم وأنت في حالة ترديد، فلن يترك ذلك أثرًا في سيرك وحركتك.
فلو أتى الإمام صاحب الزمان وجلس مكاني هنا وذكر مسألة وقال لك: "عليك باستيعاب هذه المسألة والقيام بهذا العمل"، لكن كان في قلبك ترديد في صحّة هذا الأمر وعدم صحّته، فإن استمعت إلى إمام الزمان مع حالة من الشك والترديد في القلب، فلن يؤثّر كلامه فيك، ولو بمقدار رأس إبرة! بل ستكون قد قمت بعمل رجل آلي؛ فالرجل الآلي عندما يقوم بفعل، على ماذا يحصل من كمال؟! يبرمجونه على أن يصلّي نيابة عنّا أربع ركعات بنيّة صلاة الظهر! وهذا ممكن الحصول؛ فنحن نعيش في آخر الزمان، وكلّ شيء ممكن فيه، حيث قد يأتي زمان يُجوّزون فيه للإنسان بأن يُصلّي الرجل الآلي مكانَه، ويصوم نيابة عنه! فجميع الاحتمالات مطروحة، وعلى كلّ حال، يقال بأنّ الدنيا هي دنيا الاحتمالات! حسنًا، فلننتظر، حتّى نرى ما الذي سيحصل!
ففي هذه الأيّام، يتمّ الحديث عن كلّ شيء؛ نظير: بحث وحدة الأديان، والتعايش بين جميع الناس و...، وهذا يعني أنّ كلّ شيء حسن، فلندع كلّ شيء جانبًا ونرتاح! ولنخترع دينًا جديدًا؛ نأخذ فيه شيئًا من اليهودية وشيئًا من النصرانية وشيئًا من الزردشتية وشيئًا من الشيوعيّة وشيئًا من أهل السنّة فنمزجها جميعًا، فتنحلّ بذلك المسألة، ونصير جميعُنا رفقاء!
حسنًا، فبوجود الشكّ والترديد، لا يمكن للإنسان أن يخطو خطوةً واحدة، بل يمضي حياته فقط هكذا من الصباح إلى المساء، ومن المساء إلى الصباح، من دون أن يتحرّك أبدًا. نعم، قد تعرض على الإنسان بعض التوهّمات والتخيّلات وشيء من التمثّلات، لكن لا يكون لها أيّ تأثير في حركة النفس للعبور عن التوغّل في الكثرات وترك التعلّقات؛ وهذه مسألة مهمّة جدًا.
فإذا فرضنا أنّ الإنسان يقلّد مرجعًا مثلاً، ثمّ يشكّ في أنّه هو الأعلم أم لا؟ فبعضهم يقول: هذا هو الأعلم، وبعضهم الآخر يقول: هو ذاك! وبعضهم يقول: هذا أفضل، وبعضهم: ذاك! فهذا النحو من التقليد لا يجدي الإنسان نفعًا! فعلى الإنسان أن يكون مطمئنًّا، وأن يكون اعتقادُه راسخًا، وأن يصل إلى أسّ الواقع، ويكون قلبه جازمًا بالنسبة إلى العمل الذي يقوم به، حتّى يمكن لعلمه أن يؤثّر في نفسه تأثيرًا ملكوتيًا ومثاليًا وأعلى من ذلك، ويجعله يتحرّك ويخرج عن أفق الأشخاص العاديّين؛ وهذه المسألة ملازمة لليقين، ولا مجال للشكّ فيها أبدًا.
ولهذا، فإنّ أسوأ شيء في نظر الإسلام هو الوسواس؛ فهل شاهدتم سابقًا الأشخاص الذين يُبتلون بالوسواس في الطهارات والنجاسات وأمثال هذه الأمور، والشكّ في الصلاة؟ فقد يحصل ذلك للإنسان أحيانًا في سنين مختلفة وحالات مختلفة. فمن يبتلى بالوسواس والشكّ، إذا صلّى صلاة الصبح مائتي ركعة بدلاً من ركعتين، فلن يفيده شيئًا ولو بمقدار رأس إبرة؛ كأن يُصلّي ويقول: الله أكبر، وهو يفكّر هل الوضوء الذي أتى به صحيح أم لا، وهل وصل الماء إلى ما تحت الظفر؟ ولقد رأيت بعضهم عندما يتوضأ، يكاد أن يقلع أظافره ليوصل الماء إلى ما تحتها، بحيث يحرص على أن تكون المسألة دقيقة جدًّا بدقّة المجهر والميكروسكوب!
إنّ هذا الوضوء حرام من الأساس! وهو محرّم، ولا فائدة فيه أبدًا، بل إنّ مراعاة هذه الطهارة والنجاسة هي حرام من الأساس، وهذا النوع من تحصيل الطهارة حرام، وهذا النوع من الغسل حرام! فكم كان النبيّ يستعمل في وضوئه؟ فحتّى لو أراد الإنسان أن يسبغ وضوءه بشكل تامّ، فكم سيحتاج من الماء؟ ولو كنّا في زمن النبيّ وكان النبيّ يتوضأ، ولو كنّا في زمن الأئمّة، ورأيناهم يتوضّؤون أمامنا، هل كانوا سيتوضّؤون كما نتوضّأ نحن؟! فيفتحون صنبور الماء، ويبقى الماء يجري ويجري، فيأخذونه بهذه الطريقة؟! والله لم يكن كذلك! بل يكتفون بكفّين من الماء للوجه؛ فكم هو يا تُرى حجمُ كفّين من الماء؟ وكم سنتمتر مكعّب من الماء يحتاج ذلك؟ يحتاج إلى بضعة أكفّ من الماء لليُمنى، وبضعة أكفّ لليُسرى، وتنتهي المسألة! وفي الأخير، يغسل الإنسانُ يديه بكفّين من الماء للتنظيف فقط؛ هذا هو الوضوء، ونفس الشيء يُقال بالنسبة للغسل.
إذ يمكن للإنسان أن يغتسل ببضعة أكواب من الماء؛ فليس من المحتّم عليه الدخول تحت شلاّلات نياغارا حتى يكون غسله صحيحًا! كلاّ يا عزيزي، بل تكفيه بضعة كؤوس من الماء، لا أكثر.

    

لا ينبغي للإنسان التدقيق كثيرًا في بعض المسائل كالطهارات والنجاسات

هناك مسألة ذكرتها لكم سابقًا، لكن متى كان ذلك؟ فقبل مدّة من الزمن، قلت لكم بأنّه حصلت مسألة في ذلك السفر الذي تشرّفت فيه بالذهاب إلى مكّة مع المرحوم العلاّمة، وكنت حينئذٍ في السابعة عشرة من عمري، وكان معنا أخي الأكبر الذي يكبرني بسنتين! وأتذكّر جيّدًا أنّ ذلك كان في صبح يوم عرفة؛ ففي تلك الأيّام، لم تكن عرفات بهذا الشكل، بل كانت عبارة عن خيم، وضمن الظروف السابقة، ولم يكن هناك شيء؛ فلم تكن هناك أيّة إمكانيات، بل كانت عرفات في ذلك الوقت عبارة عن صحراء، وأمّا الآن، فهناك عمران، وشقّت فيها الطرق، وفيها خيم جيّدة ذات إمكانيات عالية، وأمّا في ذلك الوقت، فلم يكن هناك شيء من هذه الأمور، بل كانت هناك خيم فقط والباقي صحراء. وكذلك كان المشعر ومنى، حيث ترى الآن البناء في منى، لكن في ذلك الوقت، لم يكن شيء من هذا؛ ولهذا، كان الكثير من الناس يضيعون؛ لأنّه مع مثل تلك الأوضاع، لم تكن هناك أيّة علامة، فكانوا يوصون الحجّاج بعدم الذهاب إلى أبعد ممّا يلي الخيمة، حيث كان احتمال الضياع كبيرًا جدًّا.
ففي صباح عرفة، في اليوم التاسع، رأيت المرحوم العلاّمة قد أتى خارجًا وقال لي: لنذهب ونغتسل غُسل يوم عرفة، فأخذت إبريقًا بلاستيكيًا، وملأته ماءً، وابتعدنا عن الخيم قليلاً، وكنت أصبّ عليه الماء وهو يغتسل، فصببت في البداية الماءَ على رأسه، ثمّ جانبه الأيمن والأيسر؛ فلم يأخذ جميع غُسله أكثر من ثلثي الإبريق، وبقي ثلثه، فاغتسلت به.. فقلت له: يا سيّدي، اذهب أنت وأنا سأغتسل، فقال: أقف بقربك وأحمل لك المنشفة، فقلت له: لا داعي لذلك، بل أنا أكتفي بنفسي. فاغتسل هو بثلثي الإبريق، واغتسلت أنا بثلثه؛ يعني أنّ إبريقًا واحدًا كفى شخصين معًا؛ فو الله، إنّنا لم نحتج إلى الدخول تحت شلاّلات نياغرا، ولم نفتح المنضحة على رأسنا نصف ساعة، ولم يصرف كلّ واحد منّا طُنّين ونصف من الماء، بل كان ذلك هو غُسل يوم عرفة، وبهذا الغُسل صلّينا، وبه قرأنا القرآن والدعاء.
فهذا هو الطريق الذي بيّنه العظماء لنا، وبيّنه لنا الأئمّة، وحقيقةً أنّهم بيّنوه لنا. وهناك مسألة مهمّة جدًّا على الفضلاء والمجتهدين أن يركّزوا عليها في هذا المقام؛ وهي أنّه لا ينبغي علينا أن نُكثر من التدقيق والتفحّص فيما يخصّ الطهارات والنجاسات وأمثال ذلك؛ والسبب في ذلك هو هذا. فلماذا لا ينبغي علينا ذلك؟ إذ من المعلوم أنّ الإنسان مُلزم في بعض المسائل بالاحتياط والتوقّف وإعمال الدقّة؛ فلا ينبغي عليه ـ ما دام مقدورًا له ـ أن يُقدم على ذلك الفعل؛ كمسألة الدماء، الدماء، الدماء؛ فحينما تحصل مسألة فيها دم وضرب وقتل، ويكون هناك قصاص وحكم، فلا بدّ على القاضي أن يحقّق فيها، ويعيد النظر مرارًا، ويطّلع على القرائن والشواهد من هنا وهناك؛ فعلى الإنسان ـ بقدر الإمكان والمستطاع ومادام هناك احتمال في المسألة ـ ألاّ يُقدم على فعل أيّ شيء! فالمسألة متعلّقة بالأموال وأخذها، ومتعلّقة بالأعراض والقضايا المرتبطة بشخصية المؤمن وعرضه؛ فلا يمكن للإنسان أن يتسرّع ويحكم على شخص، ويريق ماء وجهه بمجرّد أنّه سمع من أحدهم أمرًا، بل يجب عليه أن يحقّق ويبحث. وأمّا بالنسبة للطهارات والنجاسات، فإنّنا نرى بأنّ الإسلام يقول فيها ـ بشكل عامّ ـ بالتسامح والتساهل.
فإذا كان هناك لباس تريد أن تصلّي به، فصلِّ به! فهل لدينا في الإسلام أنّك إذا أردت الصلاة، عليك أن تتفحّص الثوب من الأعلى إلى الأسفل لترى هل فيه شيء من النجاسات؟! فتنظر هنا وتنظر هناك وتأتي بالمجهر وتتحقّق وأمثال ذلك حتى ترى ما إذا كان هناك شيء! ما هذا الكلام يا عزيزي؟! ما هذا؟! ليس لدينا شيء من هذه الأمور وهذه المسائل، وما لدينا هو أن تأخذ اللباس وتلبسه وتصلّي فيه، ولا تعطّل نفسك، ولا تضيّع وقتك في الأمور التي تأسر الإنسان من رأسه إلى أخمص قدميه، ولا تُضع وقتك في الأمور التي تمنعك من الوصول إلى المعبود، وبدلاً من إيصالك، فإنّها تعيدك! وبدلاً من أن تحرّكك، تكون مانعةً لك! فأنت إنّما ترتدي لباسك، لأجل أن يكون لديك زيًّا مناسبًا لمخاطبة الله تعالى، وأن تستر نفسك عن غير المحرم، وتنهمك في الصلاة؛ وحينئذٍ، لا يصحّ أن يكون اللباس موجبًا لقطع ارتباطك بالله، حيث تكون في الصلاة، ومع ذلك تشكّ بأنّك لم تلتفت إلى هذه الجهة ولم تر تلك الجهة، ولم تتفّحص جيّدًا، لم تقلب اللباس رأسًا على عقب لترى هل هو طاهر أم لا! فجميع هذه الأمور هي مختلقة وتخلّ بالعلاقة بين الإنسان وبين ربّه.
يا عزيزي، ارتدِ ثوبك وصلِّ صلاتك، ولا تلتفت إلى هذه الأمور.. ارتد سروالك وثوبك وصلِّ! فلا ينبغي على الإنسان أن يقف عند هذه المطالب، ولا ينبغي أن يتوقّف فيها. وقد رأينا بعضهم يقف لأجل الوضوء ستّ ساعات أمام حوض الماء في منزله! كلّ ذلك لكي يتوضأ ويصلّي! أفهل هذا الوضوء الذي تأتي به هو غير الوضوء الذي نزل على النبيّ الأكرم؟! هل اختلف الحال؟ هل نزل عليك جبرائيل بهذا النوع من الوضوء المختلف عن ذاك؟ هل كان يستغرق وضوء النبي ستّ ساعات؟ هل كان الأمر كذلك؟ إذا كان الوضوء يستغرق ستّ ساعات، فلا بد أنّ الغسل سيستغرق ستّين ساعة؛ فيقف الإنسان تحت المنضحة ثلاثة أيّام متوالية!!
هل كان الأمر بهذا الشكل؟ أم بذلك الشكل الذي ذكرته لكم، حيث كان يتوضّأ بتلك الكيفيّة، ويغتسل، ثمّ يقف للصلاة؟ فكان يُبقي على رأسماله للصلاة، ويحتفظ بوقته للصلاة، ويقصر توجّهه على الصلاة، ويترك إعمال الدقّة للصلاة، ويحتفظ بحالاته المعنويّة للصلاة، وأمّا هذه الأمور، فكان ينظر إليها كمقدّمة.
يقول الإمام الصادق عليه السلام: عندما أذهب لتجديد الوضوء، أبلّل ثوبي بالماء، حتّى إذا خرجت ورأيت في ثوبي بللاً، قلتُ: هذا من ذاك الماء الذي نضحته؛ وحينئذٍ، نطرح سؤالاً هنا: هل فكّرتم في هذه المسألة؟ فهذه رواية! وهذا السؤال متوجّه للفضلاء والمتخصّصين: ألا نعتقد بأن الإمام الصادق إمام يعلم الغيب؟ ألا نتعقد بذلك؟ حتمًا نعتقد! وهذا الأمر مفروغ عنه؛ فحينما يخرج الإمام من بيت الخلاء، ألا يعلم هل ترشّحت إليه نجاسة أم لا؟ فإن لم يكن يعلم، فهو ليس إمامًا، وإن كان يعلم، فلماذا قال: أنا أفعل هذا الأمر، لأجل أن أعلم بأنّ هذا الترشّح مرتبط بالبلل السابق؛ وهنا توجد العديد من المسائل الدقيقة التي ينبغي التدقيق بها كثيرًا.

    

كيفيّة الجمع بين اطّلاع الوليّ على الحكم الواقعي وعمله بمقتضى الحكم الظاهري

حسنًا، فالمسألة لا تخرج عن حالتين: إمّا أن نقول بأنّ الإمام لا يعلم، وهو كذب محض من دون شكّ؛ وإمّا أن نقول بأنّ الإمام لديه اطّلاع؛ فإن كان كذلك، فكيف يصلّي بالنجاسة؟! فما هي نتيجة المسألة؟ إمّا هذا أو ذاك! هل فكّرتم في هذا الأمر؟ وما هي نتيجتُه؟ والحال أنّ الرواية مسلّمة، وعلى أساسها يحكم المجتهد، وهناك نظائر لها أيضًا، ولا يقتصر الأمر عليها فقط، كما توجد نظائر أيضًا لهذه المسألة. فما الذي تحكي عنه هذه المسألة؟ إنّها تحكي عن أنّ ذلك الأمر والتكليف المتوجّه إلى الإمام وإلينا ـ إذ لا فرق بيننا وبين الإمام في التكليف ـ منوط بالعلم العادي والظاهري الذي يخصّ النجاسة، لا أنّه مرتبط بالعلم بالواقعي.. وماذا يعني ذلك؟
إذا كان الإخوة يتذكّرون، فقد طرحنا في مسألة حجّية قول الوليّ بعض المسائل؛ منها: كيف يمكن الجمع بين الحكم الواقعي والاطّلاع على الواقع، وبين العلم الظاهري؛ هل تذكرون ماذا قلنا هناك؟ فهذه القضيّة يمكن أن نطرحها هناك.
حسنًا، فمع تلك الوضعيّة التي يوجد فيها الإمام، ومع تلك المنزلة التي يمتلكها، هل هو مطّلع أم لا؟ يعني: إذا أتى شخص إلى الإمام وسأله: يا ابن رسول الله، هل تعلم أنّ لباسك أصابته نجاسة أم لا؟ فماذا سيقول له الإمام؟ إن قال: لا أعلم، فسيقول له: أَفَلَست بإمام؟! ألا تقولون بأنّكم مطّلعون على كلّ شيء؟ والواقع هو هذا! أفلم يصعد الإمام المنبر وخاطب الجميع: سلوني قبل أن تفقدوني؟! حسن جدًّا، فأنا الآن سأذهب وأسأل.. يا ابن رسول الله ـ طبعًا أمير المؤمنين ليس ابنًا للرسول، بل يجب أن نقول: يا أمير المؤمنين، وعلينا الانتباه هنا إلى أنّ وصف أمير المؤمنين مختصّ بشخص واحد فقط في العالم، وهي النفس المطهّرة لعليّ بن أبي طالب فقط، فحتّى إمام الزمان ليس أمير المؤمنين، وإطلاق هذا اللقب عليه حرام؛ لأنّه مختصّ بشخص واحد، وهو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فقط، فلا يمكن إطلاقه على الإمام الحسين، ولا على الإمام الحسن، ولا على الإمام الصادق، بل يجب حصره بأمير المؤمنين ـ يقول: يا أمير المؤمنين، أنت قلت: سلوني قبل أن تفقدوني! فعندما أردت أن تتوضّأ، هل كنت عالمًا بأن ثوبك أصيب بنجاسة أم لا؟ فإمّا أن يقول: أنا أعلم، وإمّا أن يقول: أنا لا أعلم؛ إذ لا خيار ثالث للمسألة؛ لأنها دائرة بين النفي والإثبات، فليس لها شقّ ثالث.. فماذا سيقول الإمام؟ سيقول: أنا أعلم حقيقة الأمر في الواقع، لكنّ حكمي في الظاهر شيء آخر! هذه هي المسألة؛ إذ ليس عند الإمام "لا أعلم"! بل هو يعلم.
والكثير من المسائل هي من هذا القبيل؛ فعندما أراد الإمام أن يذهب إلى مسجد الكوفة في الليلة التاسعة عشر، ألم يكن يعلم؟ لقد كان هو من أيقظ ابن ملجم، وقال له: انهض، فأنا أعلم ما الذي تريد فعله.. ستفعل أمرًا تهتزّ له جميع السماوات والأرض! أفهل كان الإمام لا يعلم؟! كان يعلم! فلماذا ذهب إذًا؟ خصوصًا عندما تعلم بأنّ هذا هو ابن ملجم، بل لا يقتصر الأمر على ذلك، فتقوم أنت بإيقاظه! انهض حتى لا تفوت صلاتك! انهض وأدّ مهمّتك! قم وامض لما كلّفت به! فما هي حقيقة هذا الأمر؟ هي تطابق العلم الواقعي مع الحكم والتكليف الظاهري في مقام الجمع بين الوحدة والكثرة؛ وهذا الفعل هو فعل العارف، ولا يمكن أن يصدر منّا نحن! فهذا العمل لا يصدر منّا نحن، بل هو مختصّ بولي الله و مرتبط بالعارف الذي يُمكنه الجمع بين العلم بالواقع والتكليف الظاهري والحكم الظاهري، حيث أنّ لديه نفسٌ يمكنه بها تدبير هذين الأمرين معًا في آن واحد.
وقد سمعت أنّ بعضهم كتب وذكر بأنّ الإمام الحسين لم يكن يوم عاشوراء مطّلعًا على الكثير من الأمور! وحينما كان يعلم، كان يغيّر مساره!! فهل المسألة عنده كقناة التلفاز، بحيث أنّه ينتقل من قناة إلى أخرى؟! فهل أنّ الإمام الحسين الذي كان يعلم كلّ شيء قبل ساعة، غيّر القناة الآن، فأصبح لا يعلم شيئًا؟! فيسأل: ما اسم هذه الأرض؟ يعني: هل أنّه لم يكن يعلم؟ فإلى ما قبل ساعة كان كلّ شيء مكشوفًا لديه، وكان مطّلعًا على من الذي سيستشهد ومن الذي سيبقى حيًا ومن الذي سيفرّ ومن الذي سيرتكب هذه الفجائع والجرائم! فكان يعلم بكلّ هذه الأمور، لكنّه عندما وصل إلى كربلاء، تغيّرت القناة، حيث ضغطوا على الزرّ، فلم يعُد لديه اطّلاع على أيّ شيء، وصار كأيّ إنسان عادي لا يمكنه أن يشخّص أيّ شيء، بل يكون بحاجة إلى الآخرين في تبيين المسائل وتفسيرها!!
حسنًا، إنّ هذا الكلام مضحك جدًّا؛ بمعنى أنّني أرى بأنّ هذه المسألة بالمزاح أشبه منها بكونها مطلبًا منطقيًّا وعلميًّا وتاريخيًّا! فحقيقة هذا الأمر هو الجمع بين الوحدة والكثرة في العالم؛ فمن جهة، يكون لدى الإمام اطّلاع على أمر غيبي، ومن جهة أخرى، يكون تكليفه هو العمل بمقتضى الأمور الظاهريّة؛ فيجمع بين هذين الأمرين. ولا يخفى حصول هذا الأمر بالنسبة إلينا أحيانًا؛ ففي نفس الوقت الذي يعلم الإنسان بوقوع مسألة من المسائل، نجد بأنّ بعض الظروف والمسائل الهامشيّة تُجبره على القيام ببعض الأمور التي تتعارض مع تلك المسألة الواقعيّة؛ بمعنى أنّه يعجز عن القيام بهذه المسألة، ولا يُمكنه أن يرفع يده عنها؛ أي أنّ القضايا والأحداث والمسائل هي بنحوٍ يجد نفسَه ـ شاء أم أبى ـ منساقًا معها! فما حقيقة هذا الأمر؟ إنّه التقدير الذي يفرض حصول هذه المسألة.
حسنًا، إذا كانت هذه القضية يجب أن تتحقّق، فإمّا أن لا يكون الشخص على علم بها ـ مثلنا نحن، حيث نتّخذ مسارًا محدّدًا، لنصل بعد ذلك إلى مسألة معيّنة ـ أو أن يكون لديه اطّلاع عليها، لكن يبقى أنّ اطّلاعه هذا لن يُغيّر التقدير، لأنّ غاية ما يحدث هو أن تحصل للإنسان نظرة إلى هذا التقدير، دون أن يتغيّر شيء آخر؛ فاطّلاع الإمام على أمر ما لا يؤدّي إلى تغيير التقدير، بل غاية ما يحصل هو أن يرى بأنّ التقدير هو كذا، والظروف الطبيعيّة للوصول إليه هي هذه؛ فيقوم بهذه الخطوات، إلى أن يصل إلى تلك المسألة. وأمّا القول بأنّ الإمام لا يعلم، فهو أشبه بالهراء، ولا يستحقّ الجواب عليه! أفلم يكن الإمام الحسين يعلم بأنّ هنا كربلاء؟ وهل كان من المحتّم أن يأتوا عنده ويقولوا له: هذه الأرض اسمها الغاضريّة ونينوى وشطّ الفرات وغيرها، فيسأل الإمام: ما اسمها الآخر؟ فهو يعلم بأنّ لها اسمًا آخر، وإلاّ لقال: نعم، هي نينوى! لكنّه عندما قال: "هل لها اسم آخر، أم لا؟"، فماذا يعني ذلك؟ يعني أنّه يعلم بشيئ آخر، وإلاّ لقال: صحيح، اسمها نينوى! فعندما يسأل الإمام: هل لها اسم آخر؟ فيقال له: نينوى، ثمّ يسأل عن اسم آخر، فيقال له: شطّ الفرات، ثمّ يسأل عن اسم ثالث، فيقال له: الغاضريّة! فيسأل: أليس لها اسم آخر؟ فيقال له: اسمها كربلاء.. فعندها يقول الإمام: حسنًا، هذه هي! فهو يعلم حقيقة المسألة، غاية الأمر أنّ الظاهر يقتضي أن يسأل هذه الأسئلة، ليفهم الناس، وتتّضح القضيّة، وتتبيّن الأمور التي تُحيط بها.. فلو أراد الإمام أن يجعل كلّ شيء على أساس علمه الباطني، لما ظهر شيء من تلك الأمور؛ لأنّ جميع ذلك واضح لديه! ففي النهاية، ينبغي أن تتّضح للناس الأمور وتتبيّن لهم المسائل! هل التفتّم؟!
وعليه، فإنّ هذا الأمر يكشف عن أنّ جريان التكليف عبارة عن أمر آخر! والحكم إنّما شُرّع على أساس مقتضياته وملاكاته الخاصّة به؛ ففي بعض الحالات، يكون الحكم مبتنيًا على أساس الملاك الواقعي للواقع ونفس الأمر، حيث نرى في هذه الموارد أنّ الصلاة ـ مثلاً ـ يجب أن تُؤدّى في الوقت؛ وحينئذٍ، إن أدّى أحدُهم الصلاةَ خارج الوقت، يكون ملزومًا بالإعادة، وإن لم يكن يعلم! فصحيح أنّه لم يرتكب ذنبًا ولم يكن يعلم، لكنّه يجب أن يعيد. وأمّا في حالات أخرى، فإنّنا نجد بأنّ حقيقة الحكم ليست مبنيّةً على أساس أمر واقعي، بل على ظاهر المسألة؛ فيكون هناك مدخليّة لعلم المكلف (وعدم علمه) بتعلّق الحكم بهذه المسألة؛ نظير ما يحدث في مسألة الطهارات والنجاسات.
فحينما تعتقد بأنّ هذا اللباس طاهر، فتصلّي فيه، وبعد الصلاة، تكتشف بأنّ هذا الثوب كان متنجّسًا، فإنّ صلاتك ستكون صحيحة، ولن تكون بحاجة إلى القضاء.. نعم، بالنسبة إلى الصلوات القادمة، لا بدّ من تغيير الثوب أو تطهيره، وأمّا الصلاة الأولى التي صلّيتها، فهي صحيحة وليست بحاجة إلى إعادة أو تكرار.
إذًا، لدينا مقتضيان للحكم؛ أحدهما ما يقتضيه الواقع ونفس الأمر، والآخر ما يقتضيه الظاهر، وكلاهما في مرتبة واحدة، لا أنّ بينهما تقدّمًا وتأخّرًا؛ إذ لا وجود للتقدّم والتأخّر في المقام، فهما في عرض واحد. حسنًا، فهذا مطلب اجتهادي، وهو مهمّ جدًّا، وينفع في الكثير من الموارد؛ وذلك فيما إذا حصل الإنسان في موارد مختلفة على ذاك الملاك الذي يحقّق الموضوع بالنسبة للحكم، وعرف كيف هو هذا الملاك!

    

دور رفيق السوء والمشير السيء في ابتلاء الإنسان بالشكّ السلبي

إنّ الوسواس بمثابة أكبر خطر على السالك؛ إذ لا خطر في الدنيا يهدّد السالك كخطر الوسواس! فهو يُخرج الإنسان عن طور الوجود، ويقضي على نفسه.. ويا ليت الوسواس يقف عند حدّ الطهارة والنجاسة، بل إنّه يتسلّل شيئًا فشيئًا إلى الفكر، ثمّ يأتي إلى المعتقدات، وبعده إلى اليقينيّات، وبعد ذلك يرى الإنسان أنّ تلك المعتقدات واليقينيّات ـ التي كان يتحرّك على أساسها سابقًا ـ صار الآن يُخطّئها ويتهجّم عليها ويشكّك فيها؛ فعند ذلك، ما الذي ينبغي فعله؟ فإلى الآن، كان لديه يقين واعتقاد بأحد الأشخاص، وكان لديه إيمان بذاك الشخص الذي إلى جانبه، وكان مطمئنًّا إلى ذلك الشخص الذي كان يسلك به الطريق، وأمّا الآن، فصار لديه شكّ به!! وا ويلتاه! فما الذي ينبغي فعله هنا؟ وكيف ستكون عليه المسألة؟
فحينما يُقال بأنّه من اللازم على الإنسان أن يكون حذرًا في اختيار الرفيق، إنّما هو لأجل أن لا يقع في هذه المخاطر! فعلى الإنسان أن يتأمّل جيدًا في اختياره للرفيق، فلا يجعل أيّ شخص رفيقًا له، ولا يتّخذ أيّ شخص جليسًا وسميرًا، ولا يشاور أيّ شخص كيفما كان، ولا يتّخذه مرجعًا وملجأً وملاذًا؛ ففي الكثير من الأحيان، نرى بأنّ نفس هذا الشخص ـ الذي يرجع إليه الإنسان ويشاوره ـ يأتي للإنسان من طرق وجهات مختلفة متوسّلاً ببعض الأعمال الشيطانيّة الخاصّة وبالمكر والخداع، ويسلّط سهامه نحو ثوابت هذا الإنسان الذي يكتشف بعد مرور أسبوعين أنّ تعاطيه مع المسائل صار بشكل مختلف. ولا يخفى أنّه على الإنسان ـ دائمًا ـ أن يكون لديه اطمئنان، وهذا لا شكّ فيه؛ فطريق الله طريق جزم واعتماد واطمئنان، ولا يوجد فيه: طأطئ الرأس وأغمض العين وامش! كما يحصل في مثل هذه الفرق المختلفة، حيث يقولون: "لا ترفع رأسك، وأغمض عينك عن كلّ ما تراه؛ فهذا المكان لا مجال فيه للتحقيق!!!"، فيتمّ منح الناس الوعود الزائفة وأمثال ذلك.. كلاّ، فالمسألة هنا مختلفة تمامًا، ويجب على الإنسان أن يسأل عن كلّ شيء، ويناقش ويتأملّ فيه وينتقده.
لكنّ كلامنا هنا يدور حول هذا اليقين والإيمان والاطمئنان، ونحن نتكلّم عن ذلك الشخص المخالف الذي يأتي، ويتحدّث بأحاديث جميلة، مشفوعةً بالبسمة والحيل الشيطانيّة وبقوله: تفضّلوا إلى المنزل حتّى نكون بخدمتكم، ونقدّم لكم عصيرًا أو كوب شاي، تفضّلوا، تفضّلوا! أنت بالأمس لم تكن تعتني به، فكيف تقول له الآن: تفضّل؟! وبالأمس لم تكن تجيب على سلامه، فهل صرت الآن من عائلته؟! تفضّلوا، فهذا منزلكم.. يا محتال، أتقول له الآن: هذا منزلكم؟! يا لك من كاذب!
بالأمس، كنت تنظر إليه من ثقب الباب، من دون أن تفتح له، وأمّا الآن، فصار: هذا المنزل منزلكم! ما هذا؟ إنّ كلّ كلمة "تفضّلوا" هي عبارة عن سمّ حيّة يدخل في بدننا، ليحوّل ـ بعد ذلك ـ تلك الأجواء اللازمة للحركة ـ بالتدريج ـ إلى فتور وجمود، ثمّ شيئًا فشيئًا إلى انحراف، وبعد ذلك إلى مواجهة، فيأتي هذا الإنسان ويقف ضدّ هذه المسائل! وكيف حصل ذلك؟ بالتدريج.. شيئًا فشيئًا!
لأجل هذا قيل: ينبغي أن يختار الإنسان رفيقه؛ إذ لا يمكن لأيّ شخص كيفما كان أن يكون رفيقًا، ولو كان سببًا في إصابة الإنسان بالفتور في طريقه! حسنًا، فأنت عندما تمنع هذا الرفيق من متابعة طريقه، هل توفّر له بديلاً أفضل وأحسن، أم لا، تتركه وحيدًا، وتقوم بفصله عن هذه الأجواء من دون أن يكون عندك أيّ شخص بديل؟
بعد زمن المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه، ظهرت طائفة دأبهم أن يثبتوا بأنّه لا حاجة إلى رفيق، وأنّ القول بأنّه لا بدّ للإنسان أن يشاور شخصًا، وأن يكون لديه ارتباط بأحد الأشخاص، لا داعي له أبدًا؛ فيكفي أن نأخذ تلك الأوامر والدساتير التي ذكرها العلاّمة، ونعمل بها، لنتقدّم إلى الأمام؛ فيكفي ما قاله العلاّمة فقط! يا عزيزي، أوامر العلاّمة ودساتيره مدوّنة في الكمبيوتر، فلماذا تذهب إليه من الأساس! كان بإمكانك أن تذهب إلى الكمبيوتر، وتضغط زرّ البحث، فيظهر لك الذكر اليونسي! ولا يخفى أنّني لا أعلم أين هو، فلو يحقّق الإخوة، ويقولوا لي أين هو، حتّى نحصل على فائدة!! فتضغط على الزرّ، لترى كم ركعة ينبغي عليك أن تصلّي في الليل: هل عشر ركعات، أم إثنى عشرة ركعة، أم إحدى عشرة ركعة؟ فيأتيك الجواب أنّها إحدى عشرة ركعة، فتقول: حسنًا، لقد تعلّمنا هذه المسألة! ثمّ تضغط على الزرّ مرّة أخرى، فيأتيك أمر: قل هذا الذكر ثلاثمائة مرّة، أو أربعمائة مرة.. والحاصل، أنّ المسألة تنحلّ بالضغط على مفتاح البحث بضعة مرّات؛ فلا داعي للذهاب إلى العلامة الطهراني، بل لم تكن هناك حاجة أساسًا لذلك.
ألا يقولون ذلك الآن؟ يُقال أنّ أحد معلّمي الأخلاق، عندما يذهب الإنسان إليه، فإنّه يتناول القرآن، ويستخير، وبعد ذلك يقول له: اقرأ هذا الذكر كذا مرّة! حسنًا، فلماذا ذهبت إليه؟! بل اجلس في منزلك، وأخرج القرآن، واستخر بنفسك به أو بالسبحة.. فتستخير حول الذكر اليونسي، ليأتيك الجواب: ثلاثمائة مرّة وسط، مائتان وخمسين مرّة جيّدة جدًا، عشر مرّات ممتاز جدًا!! لقد كان يكفيك أن تذكرها عشر مرّات في اليوم وينتهي الأمر! ثمّ تستخير حول صلاة الليل، فيأتيك الجواب: الإتيان بها مكروه، وعدم الإتيان بها واجب!! أنعم به وأكرم!! وتستخير أيضًا حول الورد الفلاني، فيأتيك الجواب: اذكر هذا عشر مرّات، والآخر عشرين مرّة! وبهذه الطريقة تنحلّ المسائل!! فالاستخارة ليست بحاجة إلى الذهاب عند شخص آخر، بل اجلس في منزلك واستخر بنفسك؛ إذ على الإنسان أن يستخير بنفسه، والاستخارة عند الغير إنّما هي بالوكالة؛ فعندما تطلب من شخص أن يستخير لك، فأنت توكله، وهو يقوم وكالةً عنك بطلب الخير من الله تعالى؛ إذ الاستخارة هي بمعنى طلب الخير، وإلاّ، فإنّ أصل الاستخارة هي أن يقوم بها الإنسانُ بنفسه، سواءً بالقرآن أم المسبحة أم بشيء آخر! هل التفتم؟
فالإنسان يمكنه أن يقوم بهذا العمل ولا إشكال فيه؛ وبذلك تنحلّ المسألة، ويصير الطريق إلى الله سهلاً، بل أسهل! لأنّ الإنسان عندما يذهب إلى هناك [عند العظماء]، يُبتلى بأمور: افعل كذا ولا تفعل كذا..

    

ارتباط الإنسان بالطريق يفرض عليه فهم مباني هذا الطريق وتحمّل أعبائه

عندما كنت في مشهد وقبل أن آتي إلى قمّ بأمرٍ من المرحوم العلاّمة، جاء أحد الأشخاص (ولعلّه إن سمع كلامي الآن، لقال في نفسه: لا أعلم ما الذي عليّ أن أفعله لك؛ لأنّك لم تدعني أن أصل إلى والدك؟!!) وكان من الأصدقاء ومن أهل الفضل، وهو الآن مشغول بالتبليغ والعمل (الله يحفظه)، وعلى كلّ حال، فهو إنسان عالم وفاضل جدًّا.. فأتى إلى منزلنا، وطرق الباب، فنزلت إليه، فقال لي: لا أريد الدخول، بل أريد فقط أن أقول لك كلمة واحدة وأذهب! وهي أنّني أريد أن آتي عند والدك، وهذه المرّة.. ـ وكان قد طلب ذلك أكثر من مرّة ـ ، فقلت له: لا تمزح، فهل تُريد أن تعيد ما فعلته في السابق؟ فقال: لا، وحياتك، والنبيّ وكذا! فهذه المرّة تختلف عن سابقاتها.. والحاصل، عندما ألقى كلامه، قلت له: اسمع يا عزيزي، سوف أقول لك شيئًا: احسب المسألة بنفسك؛ فأنت إنسان عالم ومن أهل الفضل ومن السادات، ولك بيان جميل وقريحة عالية.. والحاصل أنّك ناجح ومشهور، ولست بالشخص الهيّن؛ إذ يأتي إليك الناس من هنا وهناك لكي تتحدّث إليهم، وهم يبجّلوك، وترتفع أصواتهم بالصلوات احتفاءً بك ـ و الأمر الآن هو كذلك ـ ، ويعظّمونك، ويكرّمونك، ولك محبّين وأمثال هذه الأمور التي نعلم بها عنك.. فأينما تذهب، يحمّلونك بالبطيخ عن يمينك وبالشمّام عن يسارك ويفعلون كذا وكذا!!! حسنًا، فأنت قد اعتدت على هذه الأوضاع ـ وقد تحدّثت معه بنفس هذه الطريقة التي ذكرتها لكم الآن، حيث كان بيننا مزاح! ـ فقلت له: إذا ذهبت عند أبي، فسيتدخل بك وبزوجتك وأطفالك، وسيتدخل بعملك وأصحابك، وبالمنزل الذي تتّخذه، وسيكون له شغل بمتى تخرج من منزلك، ومتى تعود ظهرًا، ومن أين تحصل على أموالك، وأين تصرفها.. فقال: كفى كفى! في أمان الله، واحتفظ بأبيك لنفسك!
فقلت له: جزاك الله خيرًا، فلا أقلّ أنّك لم تفعل مثل الآخرين، حيث يأتون خمس سنوات أو عشر سنوات ويُتعبون الوالد، وفي النهاية يتركونه ويمشون، بالإضافة إلى مسائل أخرى.. فقد قال منذ البداية: أنا لا أصلح لهذا الأمر، وقال: إن كان أبوك بهذ الشكل، وكان يريد أن يضع رجله على ذيلي، فأنا لا أتحمّل أن يضع أحد رجله على ذيلي! فقلت له: حسن جدًّا، اذهب وعش حياتك يا عزيزي! فما شأنك بوالدي؟ اذهب إلى تلك المجالس واقعد في أعلى درجة.. وقد كانوا حقيقةً يجلسونه في الأعلى! في تلك المجالس التي كانت تُعقد في طهران، وكان هناك ذلك الشخص الذي يُعطي دروسًا في الأخلاق و قد تُوفّي فعلاً، والأخوة يعرفونه.. فكانوا يقولون له: تفضّل إلى الأعلى! فهذه ليالي شهر رمضان، فأنعم علينا بإفاداتك وإفاضاتك! فكانوا يُحمّلونه ذلك البطّيخ والشمّام الذي ذكرناه سابقًا، ويطرونه بالكلام وغيره من المسائل التي كنّا نعلم بها.
فقلت له: هذا هو أبي! فلا تصرف وقتك هنا بلا طائل، بل من أوّل الأمر اذهب إلى تلك الأمكان والأجواء [التي اعتدت عليها]، فلن تتعرّض لأيّة مشكلة، ولن تتسبّب في أيّ وجع للرأس، أو كلام سيّء! إذ الكلام اللاحق مهمّ جدًا!! حيث يأتي الشخص بعد خمس أو عشر سنوات، ويبدأ بالاستشكال: هذا السيّد لديه انحراف هنا! يا عزيزي، هل أنت مجبر على أن تأتي؟ لا تأت من الأوّل! فتراه يأتي، ويظّل هنا مدّة خمس أو عشر سنوات، وفي النهاية يقول: المسألة هي هكذا وهكذا! فذاك الذي يأتي من دون تحقيق، ما يستحقّه هو هذا، بل أكثر من هذا!
ولهذا، كان المرحوم العلاّمة يقول دائمًا: على هؤلاء أن يفهموا الطريق أوّلاً، وأن يأتوا ويروا ويفهموا ويفتحوا أعينهم جيّدًا، لينظروا هل سيُمكنهم المسير أم لا؟ وهل هم أهل لذلك أم لا؟ فلا يتلفوا وقتنا عبثًا، ولا يصرفوا طاقتنا بلا طائل.. وهذه هي عين عبارة المرحوم العلاّمة! حيث كان يقول: لا يصرفوا طاقتنا ولا يتلفوا وقتنا.. فالهيئات كثيرة، فاذهب إلى هناك والطم الصدر.. واذهب إلى هناك وافعل ذلك الشيء، فهل أنت مجبور على هذا الأمر؟
هذا كلّه بسبب وجود حالة من الترديد والشكّ في الإنسان منذ البداية، نعم، قد يكون لديه اطمئنان ببعض المسائل في الأوّل، لكنّ هذا الاطمئنان والاعتقاد لم يستمرّ!
كنت أريد أن أشير الآن إلى مسألة، لكنّني وجدت نفسي متعبًا! وإن شاء الله نتركها لجلسة لاحقة، حيث نتعرّض لتتمّة هذه المسألة.. وعلى كلّ حال، ينبغي على الإنسان أن يكون مستقيمًا في الطريق الذي يريد أن يسلكه، ويجب أن يكون طريق الإنسان لا ريب ولا شكّ فيه! وإلاّ فما هو الإشكال في الذهاب إلى أمكنة وأجواء ومجالس أخرى، وإلى مواضع لا شبهة فيها؟! فمن قال بأنّه يجب أن يكون هناك طريق محدود ومسار محدّد وجلسات خاصّة للمسير نحو الله تعالى؛ فهناك الكثير من الناس، والكثير من عباد الله والعديد من المخلوقات التي تمتلك أفكار مختلفة وأذواق متفاوتة وتشخيصات مختلفة.

    

الصدق في المسير هو مفتاح السلوك

لكن ما ينبغي أن يكون هو: اذهب إلى أيّ مكان تريده، لكن عليك أن تكون صادقًا في ذهابك.. هذه هي المسألة.. صفِّ قلبك، وحينئذٍ، لو وضعت نفسك في فم الأسد، فإنّ الله تعالى سيحفظك! كن صادقًا، ولا تضع رأسك تحت التراب، ولا تغمض عينيك، ولا تخادع؛ ولا تمارس الخداع مع الله، ولا تخدع نفسك، وكن صادقًا بحقّ؛ فإنّ كان الإنسان صادقًا، فإنّ الله سيأخذ بيده أينما كان.
أين كانت آسية زوجة فرعون؟ كانت في منزل فرعون، وفي منزل أسوأ إنسان كان يدّعي الألوهيّة؛ إذ لا يوجد أسوأ من هكذا إنسان! وقد وصلت آسية إلى المراد والهدف المنشود وهي في منزل فرعون! أليس الله موجودًا في منزل فرعون؟ حتمًا موجود؛ فالله موجود في كلّ مكان، وحتّى في منزل فرعون، فالله موجود في المكان الذي يكون فيه قلبك متوجهًا إليه.. هناك يوجد الله! وأمّا إذا كنت في وسط الكعبة، وكان قلبك في مكان آخر، فالله لا يوجد هناك!
ينقل أحد الأشخاص بأنّ أحدهم قال له ( وكان شخصًا موثّقًا) بأنّه في الأيّام التي يُفتح فيها باب الكعبة ـ ولا أدري هل في اليوم الثامن أو التاسع أو غيره ـ ، حيث يأتون، ويغسلون الكعبة وينظّفونها بماء الورد، ويسمحون للبعض أن يدخلها؛ فكان أحدهم يقول: ذهبت مع بعض الأشخاص إلى هناك، وكان هناك شخص، والأفضل أن لا نذكر اسمه؛ إذ المطلوب بيان المسألة، وأنّه من الممكن في وسط الكعبة أن لا يكون هناك الله؛ فلا يكون الله تعالى موجودًا في داخل بيته!
يعني: هل يمكن أن يحصل الإنسان في عمره على فرصة أفضل من هذه؛ بأن يفتح باب الكعبة ويقال له: ادخل؟! من ليس لديه هذه الأمنيّة؟ فنحن لدينا أمنيّة رؤية الكعبة، فما بالك بالذهاب والتمسّح بها! ولقد بقيت أمنيّة تقبيل الحجر الأسود في قلبي مدّة، إلى أن وفّقت في بعض الأسفار السابقة من استلامه وتقبيله؛ فالإنسان يرغب من قلبه أن يقبّل الحجر الأسود، ويمسح بيده على الكعبة، فما بالك فيما إذا فُتح له الباب وقيل له: تفضّل يا سيّدي، واشتغلت بتنظيفها، وتعطيرها بماء الورد مع هؤلاء الأشخاص! والحاصل أنّه كان في أفضل موضع وأفضل فضاء.. يقول: بينما كنّا منهمكين في ذلك العمل، وإذا بذلك السيّد يناديني: تعال إلى هنا! ثمّ يقول: بالنسبة إلى تلك المعاملة التي تحدّثنا عنها والتي ينبغي أن ننجزها، تعال إلى مكتبي بعد عودتي بأسبوع أو أسبوعين إلى إيران لكي نتحدّث عنها!!
ما هذه الكعبة؟ وما هذا الحجّ؟! والحال أنّهما كان شيعيان، في حين أنّنا نسخر من أهل السنّة! فكلاهما كان شيعيًّا وكلاهما... ولندع الحديث عن بقيّة الأمور، فهذه الأمنيّة يحملها مئات الآلاف من الأشخاص وملايين الناس الذين أتوا إلى هنا، والله تعالى تعلّقت إرادتُه بأن تدخلوا أنتم، وتستفيضوا من داخل الكعبة، ولكن انظروا بأيّ فكر وبأي توجّه وبأيّ خلوص يدخل هؤلاء! فهذا ليس خلوصًا بل هذا "خروس"[1].. فهذه زيارة الكعبة، وهي المكان الذي ولدت فيه فاطمة بنت أسد عليًّا عليه السلام، ولم يكن يُفتح الباب في وجه أحد إلى ثلاثة أيّام، وفي مثل هذا الفضاء قام إبراهيم الخليل ببنائه مع ابنه، وطاف حوله جميع الأنبياء، وطاف حوله جميع المعصومين الأربعة عشر، حيث شدّ الإمام المجتبى الرحال إليها خمسًا وعشرين مرة من أجل زيارتها.. وهكذا بالنسبة سائر الأئمة: الإمام الرضا عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام والإمام الباقر عليه السلام والإمام السجّاد علي السلام.. فأين نحن من هذه المسألة؟ وأين نحن من هذا العمل؟ وعليه، فهناك لا يوجد الله؛ والله تعالى موجود في بيت فرعون، وأمّا في وسط الكعبة، فلا وجود له بالنسبة إلى هؤلاء، لكن من الممكن أن يكون موجودًا بالنسبة للآخرين! وأمّا بالنسبة لهؤلاء، فلا وجود لله، بل الوجود هو للتجارة والمال والسفينة والطائرة والقطار والفلفل والكركم وحلوى القطن وأمثال ذلك.
ولهذا، فكلّ شخص وملفّه الخاص، وكلّ شخص يعلم بنفسه؛ فإن كان مع الله، كان الله معه أينما كان، لكن كن مع الله! فإن كنت مع الله، فإنّه سيأخذ بيدك! وأمّا إذا كنت ترى نفسك تذهب في هذا الاتّجاه، وتذهب في الاتّجاه الآخر، فاعلم بأنّ هناك عائقًا ما! فإذا وجد الإنسان نفسه يذهب إلى هنا وهناك، ثمّ يبدأ بعد ذلك بالاستشكال، فليعلم بأنّه ينبغي عليه التدقيق في بعض شؤونه، والتأمّل في بعض أموره.
حسن جدًّا، نكتفي هذا الليلة بهذا المقدار! أليس كذلك؟! ونرجو من الله ـ إن شاء تعالى ـ أن يجعلنا من جملة الذين خصّهم بنعمةِ فهمِ هذه المباني، وأَخَذ بأيديهم، وأن يوصلنا إلى المكان الذي هدى إليه خواصّه وأوردهم فيه.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد


[1] ـ خروس باللغة الفارسيّة معناه: الديك؛ وقد استغلّ سماحته المناسبة بين: (خلوص) و(خروس) للطعن في إخلاص أمثال هؤلاء الأشخاص. المترجم

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی