معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 201 إلى الأخير > شرح حديث عنوان البصري ـ الجلسة 215: السلوك بين الاهتمام بالكليات والجزئيات

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح حديث عنوان البصري المحاضرة 215

السلوك بين الاهتمام بالكليات والجزئيات

ألقيت في ليلة السادس من جمادى الأولى لعام 1435 هجري قمري

ألقاها:
سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه اللـه

 

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلَّى الله على سيِّدنا ونَبيِّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيِّبين الطاهرين واللعنة على أعدائِهم أجمعين

كان الحديث في شرحنا لحديث عنوان البصري يدور حول كيفيّة التغذية، ووصل بنا الأمر إلى بيان أنَّ الاهتمام والتركيز على هذا الموضوع يجب ألاّ يصل إلى الحدّ الذي يبعث على حصول الوسوسة، وإلاّ فإنَّ هذه الوسوسة تعتبر بحدّ ذاتها مانعاً ورادعاً للإنسان من مواصلة الحركة والسير في هذا الطريق.

    

أساس السلوك هو التوجه إلى الحقيقة الكلية الإلهية والانصراف عن الجزئيات

وبشكل عام، فإنَّ ما ينبغي التركيز عليه في موضوع السير والسلوك هو التوجّه نحو الحقيقة الكلّية الإلهيّة والسير في هذا الاتّجاه، والانصراف عن الأمور الجزئية إلى مرتبة السعة و الكلّية، فكلّما شغل الإنسان نفسه بالخوض في هذه الأمور الجزئية، كلّما أدَّى ذلك إلى سدّ الطريق بوجهه.
إنّ كان الأصدقاء يتذكّرون، فإنَّني كنت قد ضربت مثالاً في السابق عن شخص يريد السفر من مدينة إلى أخرى؛ فسيجد ذلك الشخص علامات منصوبة عند تقاطع الطرق مكتوب عليها أسماء الشوارع التي أمامه، لكي يستفاد منها في معرفة الاتّجاه الذي يجب عليه الأخذ به للوصول إلى هدفه المنشود؛ فإذا ما قام هذا الشخص ـ وبدلاً من أن يكون نظره إلى تلك اللوحات بهدف الاستدلال بها على الطريق الذي يريده ـ بصرف وقته في التفرّج عليها لمعرفة المادّة المصنوعة منها هل هي من الخشب، أم الألمنيوم، أم الحديد، أم البلاستيك، أم المطاط؟ أو للتحقّق من نوع طلائها، هل هو طلاء من نوع خاصّ؟ وهل هو من النوع الفسفوري الذي يعكس أشعة الضوء الساقطة عليه؟ فإنْ صَرَفَ وقته بهذا الشكل، فسيرى بأنَّه قد أضاع ساعة أو ساعتين من وقته في التفرّج على اللوحة، مما أدّى إلى عدم وصوله إلى هدفه المقصود في الوقت المُحدّد. هذا مثال بسيط وواضح للتخلّف عن الوصول إلى المقصد وإضاعة الوقت في تتبّع المسائل الهامشيّة.

    

من صرف اهتمامه إلى الجزئيات وقف عندها

على المرء أن يستفيد من جميع الإمكانيات المتوفرة في عالم المادة، من أجل استكمال نواقص روحه ونفسه، وعليه استثمارها في طيِّه للطريق نحو تلك الحقيقة و تلك المرتبة ذات الكليّة و السعة[1]. فإن أراد أن يجعل من هذه الأمور الجزئية أصلاً يبني حياته على أساسه، فسيبقى راكداً في ذلك المستوى ولن يترقّى إلى الدرجات العليا؛ لأنَّ أساس حركة السالك مبنيٌّ على عدم التعلّق بالأسباب الماديّة، بل على التحرّر منها ورميها جانباً؛ على أنَّ ذلك لا يعني بأن يتحوّل إلى إنسان غير مسئول ولا أُبالي، فهذا بمثابة من يريد أن يتحاشى السقوط من السطح فيبتعد كثيرا حتّى يسقط من الطرف الآخر ، فمن الخطأ أيضاً أن يفعل الإنسان ما يحلو له و يترك كلّ الضوابط و الموازين جانباً، و يتصرّف كما قال الشاعر:
هيچ آدابى و ترتيبى مجو
                             هر چه مى خواهد دل تنگت بگو
(يقول: فلا تلتزم بنظم الأمر، ولا تراعِ الآداب المتداولة، وقل كلّ ما يحلو لصدرك الضيِّق أن يقول)

فذلك هو قانون الغاب والهرج والمرج، و هذا أيضاً خطأ، بل يجب الرعاية الكاملة للموازين، والعمل بموجب التكاليف والالتزام بها.
كان المرحوم السيّد العلامّة رضوان الله عليه في الزمان السابق ... (لقد خطر على ذهني هذا المثال فرأيت أنَّ من المُستحسن أن أطرحه على الأصدقاء، لأنَّه من الضروري أن يطّلعوا على هكذا أمور؛ بل يمكن القول بأنَّها من الأمور الأساسيّة والحياتيّة للسالك في طيِّه للطريق) ... لقد كان المرحوم العلاّمة وبحسب الظروف و الموقعية يُبيِّن بعض الأمور في مجالسه لتلامذته وأصدقائه؛ وهي بحمد الله مواضيع كثيرة، بل أكثر مما نحتاجه في مسيرنا؛ ولقد قام مجموعة من الأصدقاء وفقهم الله بفرز وترتيب هذه المواضيع. فبعضها مكتوبة على ورق والبعض الآخر قمت بتسجيلها بنفسي ـ بواسطة مسجِّل الصوت العائد لي ـ حيث تقرّر أن يتمّ كتابة محتوياتها على الورق؛ كما أنَّ هنالك مواضيع كانت تُطرح من قبله، ويقوم الأشخاص المتواجدين في ذلك المجلس بكتابتها في مذكراتهم والتي سأقوم بمراجعتها شخصيّاً لاحتمال وجود الخطأ فيها؛ فقد يسمع الإنسان أمراً ما خطأً ويقوم بنقله وفقاً لما فهمه. فعندما يتمّ نقل موضوع عن أحد العظماء، فلا بدّ من مراعاة منتهى الدقّة والحسّاسيّة في نقل ذلك الموضوع؛ فذلك أمر مهمّ للغاية.
أتتذكرون ماذا قلت لكم في المجلس السابق من مجالس شرح حديث عنوان البصري؟ كم هو من خطأٍ فاحشٍ ذلك الذي ارتكبه البعض عندما نسبوا إلى المرحوم العلاّمة مواضيعاً لا صحّة لها بالمرّة؛ فالأمر في غاية الأهميّة.

    

لزوم رعاية الدقة عند النقل عن الأعاظم ونسبة شيء إليهم

يجب على الإنسان مراعاة الدقّة حتّى عند نقل خبر عن شخص عادي، فعندما تنقل خبراً يتعلّق بأحد إخوتك المؤمنين، ويحصل عند النقل زيادة أو نقصان في الخبر، فإنَّ ذلك قد يتسبّب في تشويه سمعته والإساءة إليه. فإنْ كان الأمر يتعلّق بأحد أقربائك أو المحسوبين عليك، فستتضاعف دقّتك في نقل الخبر الذي سمعته، لأنَّ نتائجه ستنعكس عليك في نهاية المطاف. أتلاحظون كيف تزداد حساسيّة ودقّة الموضوع كلّما ازدادت الخصوصيّة، فكيف إن كان الأمر يتعلق بنقل موضوع عن وليٍّ إلهي؟ سيكون الأمر عندئذٍ في غاية الجديّة.
فيجب مراعاة منتهى الجِدّيّة في نقل موضوع عن شخص له مكانة اجتماعيّة ومعنويّة لدى أفراد المجتمع ويمتّع بشأنٍ خاصّ بينهم، فهؤلاء يحسبون لما يُنقل عن ذلك العظيم ألف حسابٍ ويعملون على تطبيق ما يسمعونه منه ويطبّقون أفكارهم مع تلك الأفكار والمفاهيم التي تُلقى إليهم. وهكذا تزداد حسّاسيّة الأمر كلّما صعدنا إلى الأعلى، فعندما يصل الأمر إلى الإمام فستكون حجّيّة كلامه حجّيّة إلهيّة. صحيح أنَّ حجّيّة كلام وليّ الله هي حجّيّة إلهيّة كذلك، غير أنَّ الأمر سيكون عندئذٍ في درجة أعلى وأعمق وأدقّ. فكيف إن كان الأمر يتعلّق بالقرآن؟ أتلاحظون كيف تزداد دقّة الأمر وكيف يزداد الاهتمام بهذا الأمر؟
فبناءً على هذا، عندما يتمّ نقل كلام عن وليّ إلهيّ، لا بدّ من التحقيق في جوانب الموضوع لنرى هل سُمِع ذلك الكلام بصورته الواقعيّة؟ ومتى كان ذلك؟ في أيّ زمان؟ تحت ظلّ أيّة ظروف؟ ما الأمر الذي اقتضى طرح ذلك الكلام؟ فقد يبيّن الإنسان موضوعاً واحداً في عشرة مجالس، بعشرة أشكالٍ مختلفة بناءً على مستوى الحاضرين في ذلك المجلس ومقدار استيعابهم لما يُطرح، بل قد تكون بعض المواضيع خصوصية وينطبق عليها ما جاء في الحديث أنّ «المجالس بالأمانة»[2] .
أنا أقوم أحياناً بنقل موضوعٍ لعددٍ من الأشخاص في مجلسٍ خصوصي، فإذا بي أرى أنَّ هذا الموضوع قد نُشر بين الآخرين. فيا عزيزي، لقد كان المجلس الذي ذكرت فيه المطلب خصوصيّاً، و إنْ كنتَ ستذهب و تنشر كلّ ما أقوله لك، فلن أخبرك بشيء بعد الآن! لأنّه ليس من الصلاح أن يصل هذا الأمر إلى الجميع، وليس من الصلاح نشر المرء كلّ ما يعلم. فهل يجب على الإنسان الإفصاح عن كلّ شيء؟ الجواب بالسلب قطعاً، فقد أخبرني المرحوم العلاّمة بمسائل، ليس لي الجرأة على نقلها حتّى هذا الوقت، فمتى سيحين وقت الإفصاح عنها؟ الله أعلم!
فهذا الموضوع في غاية الأهمّية؛ و هو أنّه قد يقوم شخصٌ بنسبة موضوع إلى وليّ الله، ويحتمل أنّه قد نقله بصورة خاطئة. هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى يمكن أنّه لم يراعِ في هذا النقل المقام الذي كان فيه ذلك العظيم في ذلك الوقت والظروف الحافّة؛ فمثلا لقد بيَّنت في المجلس السابق بأنَّ المرحوم العلاّمة في سنِّ الخامسة والعشرين حاله تختلف عنه في سنِّ السبعين، أفيكون له نفس المقام في كلتا الحالتين؟! إنَّ ذلك لأمر مُضحك حقاً!
هل تكون درجة ومقام المرحوم العلاّمة في سنِّ الثلاثين هي نفسها في سنِّ الستين أو السبعين؟ لقد سمعت أموراً كثيرة منه في أّيام شبابه أو بعد تقدّمه بالسنَّ قليلا، غير أنَّه قام بتبديل وجهة نظره تجاهها في أواخر عمره. وما الضير في ذلك؟! فهل نحن أئمة؟ أم أنَّنا معصومون؟ فقد أطرح الآن أمراً، ومن الممكن أن يكون ذلك الأمر خاطئاً، فأقوم بتصحيحه بعد سنتين وأقول كان هنالك خطأ في هذا الجزء من الموضوع الذي كنت قد طرحته، وها أنا أُصححه الآن؛ فلا يوجد في ذلك أيّ ضير، بل أنا أفتخر بذلك، فهل أنا معصوم؟ وهل من الصحيح أن أُخطئ بأمرٍ ما ثمّ أبقى مُصرَّاً على خطئي إلى آخر عمري؟ لا يفعل ذلك إلاّ الشخص الأبله والجاهل.
فمن يتوقّع منِّي عدم الخطأ؟ هل يتوقّع جبرائيل ذلك؟ أم يتوقّعه رسول الله صلى الله عليه وآله؟ أم الإمام عليه السلام؟ كلاّ، فهم يقولون أنت إنسان عادي، عليك أن تطرح ما تفهمه، فإن علمت خطأ ما ذهبت إليه، فعليك تصحيحه. فأنت إنسان عادي، لست كإمام الزمان؛ ولو مضى عليك ألف سنة لما وصلت إلى درجتنا! فلمّا كنتَ كذلك، فقل ما تراه صحيحاً، وليس عليك ضير في ذلك؛ ومتى ما علمت أنّ ما كنت قد طرحته خطأ، فاعترف بخطئك وتراجع، فذلك أمر طبيعي. فأين هي المشكلة في ذلك؟
وحينئذٍ لن يُسجَّل ذلك كذنب في صحيفتنا، ولا سنُعاقب عليه في الدنيا ولا سنسأل عنه في الآخرة؛ بل سنُثاب عليه، ويُقال لنا: أحسنتم، لأنّكم قمتم بتصحيح الكلام الذي أخطأتم فيه. وكما كنت قد ذكرت للأصدقاء مراراً فإنَّ الأثر المترتّب على تصحيح الخطأ سيكون من نصيب نفس الإنسان أوّلا، بل إنّ الله قد يبتلي الإنسان بارتكاب خطأ، لكي يقوم ذلك الشخص بتصحيح خطئه من أجل أن ينال مرتبة أو نصيباً.. فعندها فقط يمكن أن يحصل على تلك الفائدة المنظورة. هل التفتّم لما أقول؟
أجل سيتمّ مراجعة تلك المواضيع، وسيتمّ نشرها لتكون في متناول الأصدقاء إن شاء الله. وأنا عندما أقرأ الكثير من تلك المواضيع أتعجّب لما أجد فيها من مسائل كان قد أشار إليها المرحوم العلاّمة؛ فبعد هذا العمر الذي بلغ الثامنة والخمسين، أنا أذهل لقراءتها، وكأنِّي لم أكن قد سمعتها من قبل.
لم يكن في قصدي أن أتحدّث عن هذا الموضوع، ولكن بما أنَّ الحديث قد وصل إلى هنا، وبما أنَّ الموضوع في غاية الدقّة، [فسأواصل الحديث عنه] لأنَّه من المواضيع الحيويّة جداً، فعلى الأصدقاء الالتفات إلى ذلك.

    

مثال واقعي على الاهتمام بالجزئيات في غير محلها

لقد كان المرحوم العلاّمة يتحدّث لمختلف الأشخاص، ومنهم أولئك الوافدين من أماكن بعيدة، كإصفهان وشيراز وتبريز وأروميه، وأولئك القادمين من خارج إيران. حسناً، كم هي عدد المرات التي يزور فيها هؤلاء الأشخاص المرحوم العلاّمة؟ فقد يزوره أحد الأشخاص ثلاث مرات في السنة، وقد يزوره الآخر مرة واحدة في السنة؛ وربما تصادفت تلك الزيارة مع حديثٍ للمرحوم العلاّمة، فما الأمر الذي يُفترض بذلك الشخص فعله عندئذٍ؟
عليه أن يصرف جميع اهتمامه وذهنه وجميع حواسّه نحو ذلك الكلام الذي يصدر عنه؛ وعليه أن يلتقط ذلك الأمر الذي يُشير إليه المرحوم العلاّمة، ويكون حريصاً على ألاّ يفوته منه شيء. غير أنَّني كنت أرى البعض وبدلاً من الاستماع إلى حديثه تكون أنظارهم وأفكارهم متوجّهةً إلى ذلك الإناء الذي وضعت فيه الفاكهة أمام المرحوم العلاّمة، حيث بقي في ذلك الإناء قطعة من الكُمثرى؛ فكلّ تفكيره يكون متمركزاً على تلك القطعة، بحيث إنَّه إذا ما انتهى المجلس فسيُسارع إليها ليأكلها! ما الذي يعكسه هذا التصرّف؟ إنَّ ذلك يعني بأنَّ هذا الشخص يعيش في عالم من الخيال والوهم. عليك يا هذا أن تصرف انتباهك إلى ما يطرحه ذلك السيِّد، وإلاّ فالكمثرى والتفاح موجود في كلّ مكان، كما أنَّ فُضالة الماء الباقية في قعر الإناء يمكن الحصول عليها في كلّ مكان.

    

الاهتمام بالتبرك بولي الله بدون التوجه إلى نصائحه واتباعها لا يفيد

فعندما أشرب من هذا الماء الآن، ما الذي يعنيك أنت من بقاء بقيّة منه أم لا؟ فأنت تقول دع السيِّد يُكمل مجلس شرح حديث عنوان البصري هذا ويذهب، لأقوم بشرب فُضالة الماء تلك. إنَّ كلّ ذلك يعكس مقدار الانغماس في عالم الظاهر، فبدلاً من أن تُركِّز على ما أقول، وعَمّنْ أنقل هذا الكلام، وما تلك المواضيع التي قدَّر الله لنا أن نسمعها في هذه الليلة؟ بدلاً من كلّ ذلك، تكون عيناك متمركزة على هذا القدح من الماء لترى كم أشرب منه، وهل تبقى منه بقيّة أم لا؟ أتلاحظون؟!
جميع هذه التصرفات تصرفات خاطئة. على أنَّني لا أقول بأنَّ ذلك فعل سيء، والسعي وراءه أمر سيء، ولكنَّني أقول بأنَّ ذلك لا يرفدنا بالمطلوب؛ فبدلاً من أن تهتمّ بما يُطرح من أجل أن تقوم بتصحيح مسار حياتك على أساسه، ها أنت تبحث عن كيفية شراء ذلك الفراش الذي كان ينام عليه السيِّد العلامة، لتنام عليه. أو أن تضع تلك الوسادة التي كان ينام عليها تحت رأسك. فكلّ ذلك عبارة عن استبدال الذهب بالخرزة، واستبدال الجواهر الثمينة بالنحاس والبرونز. نعم، لو كان السيِّد العلامة أو أحد أولياء الله قد أعطاك تلك الوسادة التي كان ينام عليها أو ذلك الغطاء الذي كان يتغطّى به، فقل عندئذٍ الحمد لله وشكراً له، سأضع تلك الوسادة تحت رأسي عند النوم.
لم نكن في ذلك الوقت، وفي زمان المرحوم العلاّمة نشغل أنفسنا بالتفكير بهكذا مسائل؛ فلا يحصل الإنسان على الترقِّي من جراء اقتناء هذه الوسائل. فالوسادة والغطاء لا ترفد الإنسان بشيء، بل تعمل على نزوله من ذلك الأوج الذي يُفترض الوصول إليه إلى درجات سفلى ليستقرّ عند حدّ فُضالة الماء والكُمثرى والتفاح والشاي؛ فلو صاحب أمثالُ هؤلاء الأشخاص الوليَّ الإلهي لمدة مائة سنة، لما تقدّم خطوة واحدة إلى الأمام.
نعم، لو قال لك وليّ الله بنفسه: خذ هذا الخاتم واجعله في إصبعك أو خذ هذه العباءة فالبسها، فهذا أمر جيّد جداً. فقد كان يعطي عباءته لفلان من الناس في بعض الأحيان، وكان يعطيها لشخص آخر في أحيان أخرى.
جاء شخصٌ إلى المرحوم العلاّمة وقال له: أريد أن تعطيني عباءةً من عباءات السيِّد الحدّاد التي كان يلبسها لسنوات عديدة (وقد توفي هذا الشخص رحمه الله)، فأعطاه عباءةً سوداء شتائية كان السيِّد الحدّاد قد أهداها إيّاه، ولقد كنت أرى السيّد العلامة يلبسها في الصلاة وغيرها، كما إنَّه لم يكن يلبسها في بعض الأحيان. فذهب المرحوم العلاّمة وجاءه بتلك العباءة وقال له: تفضّل. فكم ساعدته هذه العباءة في طريقه وفي تكامله؟
لقد كان هذا الشخص واحداً من أولئك الذين سعوا في إثارة الفتنة والنميمة في فترة ما بعد المرحوم العلاّمة؛ وكان له دور بارز ومؤثر فيها. فما هو مقدار انتفاعك بهذه العباءة؟ كم أضافت إلى مقدار تعقّلك وفهمك؟ وكم ساعدت على تصحيح أفكارك؟ فلقد رأينا ذلك بأنفسنا! نسأل الله أن يتجاوز عن أخطائه، إن شاء الله. فلماذا ندعو عليه؛ ليُسامحه الله فالله أرحم الراحمين، ولا ينقص منه العطاء شيئاً.

    

الفائزون مع أولياء الله هم من صبوا اهتمامهم على تحصيل الملاكات والمبادئ منهم

ولكن الأمر المهمّ هو: إنَّ الذين فازوا في عهد المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه واستوفوا نصيبهم هم أولئك الذين لم يكونوا ليعيروا لهذه المواضيع اهتماماً، بل كانوا يصبّون اهتمامهم على ما يصدر من المرحوم العلاّمة من حديث، وعلى استحصال الملاك والمبادئ؛ فقد كانوا يجلسون في إحدى زوايا المجلس ليروا ما الذي سيطرحه المرحوم العلاّمة، فيحفظونه ويعملون بموجبه. أتلاحظون؟
أمّا الذين كانوا يسعون وراء تلك الأمور الظاهرية، فلقد كانت تلك المسائل تحبسهم عند حدّها... أنا لا أقول وكما ذكرت آنفاً بأنَّ تلك الأمور غير مفيدة، فلا مانع من شرب سُؤر ولي الله أو لبس عباءته، بل إنَّ ذلك أمر مستحسن جداً، ولكن يجب ألا يكون ذلك كلّ شيء؛ وذلك بأن يقوم ذلك الشخص بتعليق تلك العباءة ويقول للآخرين: أترون تلك العباءة، لقد أخذتها من وليّ الله، ولقد كان السيِّد الحدّاد يُصلي بها لسنوات متعددة. وإن جاء شخص آخر، قال له: أترى تلك العباءة، لقد أخذتها من السيِّد العلاّمة. [وهكذا يعرضها على كلّ من يدخل بيته].
لقد سمعت بأنَّ أحد عباد الله من الذين يسكنون أحد البلدان قد وضع عمامة للسيِّد الحدّاد ـ لا ادري إن كانت خضراء أم سوداء ـ كان قد منحه إيّاها المرحوم العلاّمة على أحد الرفوف؛ وكان يقول للواردين عليه: إنَّ المرحوم العلاّمة قد أعطاني تلك العمامة، وكان ذلك الشخص محلّاً لتردّد الأفراد، فقد كان يُقيم المجالس في بيته. عندما أُخبرت بذلك، قلت للأشخاص الذين كانوا معي كلاماً لا أستطيع أن أقوله الآن فهذا ليس محل ذكره، قلت لهم: إن كان انتساب هذه العمامة إلى السيِّد العلاّمة تبعث على استحصال الشرف، فيمكن على ضوء ذلك ترتيب أثرٍ على أمور كثيرة! دعنا من ذكرها الآن.
أنا أعلم بنفسي من الآخرين ، فأنا أعلم بمقدار قربي أو بعدي عن الله، وأنا أعلم بما يحول بيني وبين مقام القرب؛ فلا أحتاج مع ذلك إلى عرض عمامة أو رداء أبي على الآخرين. فكم هو مقدار ما تجنيه من امتلاكك لها؛ وهل سيضعونها في قبرك؟ وحتّى لو وضعوها في قبرك فسوف لن تفيدك بشيء، وسوف لن تغيِّر من مآل أمرك.
إنّ الملائكة لا تنظر إلى لباسك، بل تنظر إلى عقلك ودينك ومقدار فهمك وعملك؛ فهل يمكن خداع منكر ونكير؟ فيقول لهم الشخص انظروا ها أنا مُكفَّن بملابس وليّ الله؛ فسيأتيه الجواب: وما علاقة لباس وليّ الله بك؟! فهذا اللباس كان يلبسه وليّ الله فما علاقة ذلك بك أنت؟! لقد تصرفت تصرفاً غير مبرر عندما استعملته ككفن! ويقول الآخر: هذه عباءة وليّ الله وضعتها تحت رأسي لأنام عليها. فيُقال له: العباءة عباءة وليّ الله فما علاقة الأمر بك.
أتتفطنون لما أقول؟ إنَّ الأمور التي أنا بصدد طرحها الآن هي أمور في غاية الدقّة، وتحمل في طياتها النكات الأساسية اللازمة لطيّ هذا الطريق. فنرى كيف يُضيِّع الإنسان تلك الفرصة التي منحها الله له في برهة من الزمان؛ وبدلاً من أن يقوم باستثمارها تراه يشغل نفسه بأمور أقل فائدة له. ولقد رأيت الكثير من ذلك طول حياتي خصوصاً فيما يتعلق بأشخاص كانوا قريبين من العظماء. أعرف شخصاً كان يأخذ ملابس أستاذه ويلبسها، وهو ذلك الشخص الذي قال عنه المرحوم العلاّمة بأنَّه طُرِد من قبل أستاذه في أواخر عمر أستاذه، وذهب إلى جهنّم. هل يوجد مثال أوضح من هذا؟ والعجيب هو أنَّني في ذلك الوقت الذي كنت فيه شاباً في السابعة عشر من عمري، عندما كنت أسمع منه هذه الأمور، كنت أتعجّب منها ولم أكن أستسيغها، ولم أكن أتقبّلها، ولم أكن أفهم لماذا تجري الأمور بهذه الكيفية.

    

تطبيق قاعدة الاهتمام بالكليّة والأصل على مسألة التغذية

من جملة الأمور التي يجب أن يهتمّ بها الإنسان ويراعي الدقّة بشأنها موضوع الغذاء، فلا بدَّ للإنسان من الغذاء لأجل ديمومة حياته؛ ولا بدّ له أن يعرف أيّ شيء مفيد له وأيّ شيء مضرّ ، وعليه الاهتمام بكيفية المحافظة على نفسه وصحته وسلامته و أن يهتمّ بالبيئة التي يعيش فيها؛ فهو مكلّف بهذا الأمر، بل يعتبر ذلك من الواجبات الشرعية؛ غير أنَّه لا ينبغي أن يكون كلّ اهتمام الإنسان منصبّاً على مسالة التغذية، بحيث يتمركز سيره وسلوكه على هذه المسألة، فتراه مثلاً يفكّر بأنَّ ذلك الخبز الذي يأكله يؤثّر في سلوكه! كلاّ، فالأمر ليس كذلك، وليس مطلوباً من المرء التحقيق بشأن الرز الذي يأكله، ما هو مصدره؟ أين تمّت زراعته؟ كيف تمّت السقاية؟ من كان الزارع؟ في أيّ معمل تمّت معالجته؟ كلّ ذلك ليس مطلوباً؛ وإلاّ ستكون المسألة هنا من سنخ ذلك الموضوع الذي كنَّا نتحدّث عنه، ولكن في بُعدٍ آخر.
إنَّ ما أُوصينا به هو السعي لاستحصال اللقمة الحلال، بمعنى رعاية الموازين الشرعية في استحصالها، بأن لا يكون هنالك غش في المعاملة، وأن يكون الإنسان صادقاً ونزيهاً في عمله. لقد كنت أرى بعض أصدقاء وتلامذة المرحوم العلاّمة في ذلك الوقت يكتمون عن شركائهم بعض الأمور في معاملاتهم ولا يُبدونها لهم. فهل هذا التصرّف صحيح؟! فلِمَ كان المرحوم العلاّمة يطرح تلك المواضيع ويتحدّث في مجالس ليالي الثلاثاء؟! ولِمَ كان يُقيم مجالس عصر الجمعة؟! وعندما ألتقي في الوقت الحاضر ببعض أولئك الأشخاص أحياناً وأنظر في أحوالهم، فإنّني أتأسّف عليهم، و أقول في نفسي: من الحيف أنَّهم لم يهتمّوا بتلك الأمور كما ينبغي. ثمّ ترى هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يتصرفون بهذا الشكل الخاطئ في أعمالهم وشركاتهم و مع شركائهم، تراهم يتسابقون في شرب فُضالة الشاي المتبقية في كوب السيِّد العلاّمة! ما الفائدة من هذا العمل؛ فأنت وبدلاً من شُرب تلك الفُضالة، كان عليك تصحيح أسلوب تعاملك مع الآخرين في العمل؛ فإن قمت بتصحيح أسلوبك في العمل، ستجني الفائدة المرجوّة، وإلاّ ففُضالة الشاي سوف لن تنفعك بشيء؛ بل وحتّى إن شربت فُضالة شاي إمام الزمان عليه السلام، فسوف لن تُفيدك بشيء ما دمت لا تلتزم بتعليماته. نعم إن التزمت بتعليمات إمام الزمان، ثم شربت فُضالة شايه فسيكون ذلك نوراً على نور؛ فالأمر المهمّ هنا هو السير وفقاً لتلك المبادئ والالتزام بها.

    

التدقيق في مسألة الغذاء بين الإفراط والتفريط

لذا نرى البعض لا يُعير أيّ اهتمام لمصدر المال الذي يقتات عليه، ولا لكيفيّة الحصول عليه، بينما نرى البعض الآخر يُكثر من الوسوسة بهذا الشأن فتراه يُكثر التدقيق والغور فيه، و هذا خطأ أيضاً؛ فتلك الوسوسة تسبّب تلك الآفة التي تجعل الإنسان لا يتمكّن من الحركة وإن داوَمَ على السير والسلوك مدّة ثمانمائة سنة أو ألف عام، على أنَّ موضوع الغذاء سوف لن يكون إلاّ البداية، حيث ستعقبه الوسوسة بشأن أمور أخرى، فهذا الوسواس يبدأ بالاستيلاء على قلب الإنسان ونفسه، فيسد جميع النوافذ ليترسّخ في النفس رسوخاً، فالأمر يبدأ أوّلاً بالغذاء ثم ينتهي بأمور أخرى.

    

الوسوسة أكبر عائق أمام طريق السالك

لقد جاء أحد أصدقاء المرحوم العلاّمة إلى منزله يوماً وكان ذلك في يوم عاشوراء أو في يوم عرفة ـ إمّا أن يكون المرحوم العلاّمة هو الذي نقل لي هذه القضيّة، أو أنَّني كنت حاضراً آنذاك؛ ولكنَّني لم أحضر مراسم يوم عرفة تلك الأيام، لذا يبدو بأنَّه هو الذي نقل لي ذلك ـ فذهب ذلك الشخص إلى حمّام المنزل لأداء الغُسل، وفي أثناء غُسله فتح الباب منادياً الأشخاص الحاضرين هناك: يا فلان ويا فلان، هل إنَّ هذا الماء "كُر"؟
يا هذا، أنت تغتسل في منزلٍ لأحد العرفاء، فتأتي وسط الغُسل لتشكّ في كون الماء كُرّاً أم لا، و تبدأ بالوسوسة بأنّه إن لم يكن كراً فكيف سأغتسل و ماذا سأفعل ؟!
انظروا، عندما تستولي الوسوسة على شخص، فإنَّها تستولي عليه حتّى في منزل أحد العرفاء وأولياء الله! لقد كان يصيح: هل إنَّ الماء كُرٌّ؟ وكان المرحوم العلاّمة يضحك ويقول لذلك المسكين مازحاً: كلاّ، إنَّه ليس كُرّاً، فافعل ما تريد! فإن لم يكن الماء كُرّاً، فما الذي ستفعله؟
أترى كيف تستولي الوسوسة على نفس الإنسان؟ فأنت تعيش في حال من الوسوسة والشك حتّى في منزل وليّ الله! ألا يغتسل وليّ الله بنفس هذا الماء؟ ألا يتوضّأ به؟! هكذا تفعل الوسوسة فعلها في دين الشخص، وتجعله في حال من التشويش والاضطراب!
وقف أحد الأشخاص أمام جمع من الناس ليقول لهم: ماذا سيكون تكليف الشخص الذي يرى بأنَّ أحد مراجع التقليد أعلم من أستاذه الذي يتتلمذ لديه؟ فقلت له: يذهب إلى ذلك المرجع ويتخلّى عن أستاذه بعد أن يُقبِّل يده ويودّعه ويقول له: ما دامت أعلميتك دون مستوى ذلك المرجع، فهو يستطيع أن يطلعني على تكاليفي ويريني طريقي بشكل أفضل.
أترون إلى أيّ حدٍّ قد استولت الوسوسة على ذلك المسكين! على أنَّني كنت قد أجبته بأسلوب فنّي، فقلت له: ما هو ميزان الأعلميّة بنظرك؟ هل هي بكثرة ما يحفظه الشخص من معلومات وعدد الكتب التي بحوزته؟ فإن كان الأمر كذلك، فمن الطبيعي أنَّ يكون ذلك الذي يبلغ من العمر مائة سنة قد قرأ كتباً أكثر، أمّا إذا كان الميزان هو الوصول إلى حاقّ الأمر، فذلك شيء آخر ولا يمكن تشخيص المصداق وفقاً لذلك الميزان.

    

ضرورة الحزم وترك الوسوسة للاستفادة من السير والسلوك

فعلى الإنسان أن يكون حازماً في عزيمته على طيّ الطريق وفي تمسّكه بدينه، ومتخلّصاً من الشكّ والتردد لكي يتمكّن من التقدّم إلى الأمام. مثله كمثل ذلك المريض الذي يراجع طبيباً ثم يعتريه الشك وتظهر عليه الوسوسة بشأن قائمة الدواء التي كتبها له الطبيب، فيبقى واقفاً متردّداً أيذهب إلى الصيدلية لشراء ذلك الدواء أم ينصرف عن شرائه؛ فيبقى على هذه الحال حتّى يستفحل عليه المرض ويُقعده. أو أنَّ الصيدلية تغلق أبوابها الساعة العاشرة مساءً، بينما يكون الشخص جالساً في منزله وهو متردّد أيذهب إلى الصيدلية أم لا؛ وعندما يتّخذ قراره في الذهاب، تكون الصيدليّة قد أغلقت أبوابها؟ ما الذي يعنيه هكذا تصرّف؟ إنَّه ناجم عن الوسوسة ورعاية الاحتياط في غير محلِّه؛ وذلك بأن يُعطي لأمر ما موضوعيّة، في الوقت الذي يكون فيه ذلك الأمر وسيلة لتحقيق الغرض المطلوب. فيكون مصير الشخص التوقّف وعدم الرقي.
[ومن أمثال هذا النوع من الوسوسة أن يبقى الشخص في حال من الشك والتردد فيقول:] هل إنَّ أستاذي هو الأعلم أم المرجِع الفلاني؟ هل إنَّ المرجِع القائل بأداء الصلاة بتلك الكيفية يكون الصائب، أم ذلك القائل بخلافه؟ هل إنَّ القائل بأداء الحج بتلك الكيفية هو الصائب، أم ذلك القائل بأدائه بكيفية أخرى؟
اتّصل بي شخصٌ قبل عامين قائلاً: كنتُ في حال الطواف، فاصطدم بي شخص وجعلني أدور إلى الخلف، فما الذي أفعله؟ قلت له: إنَّ طوافك صحيح؛ فقال: ولكنَّ الجميع يقولون ببطلان هذا الطواف؛ قلت له: فطوافك باطل؛ [قال: ولكنك قلت الآن بأنّه صحيح] قلت له: أنت الذي تقول ذلك؛ فإن كنت تسألني عن هذا الموضوع، فلماذا تقول ولكنَّ الجميع يقولون خلاف ذلك، وإن كنت تريد رأي الآخرين، فلماذا تسألني عن هذا الموضوع؟ فقال: وما الذي أفعله والحال هذه؟ فقلت له: استمع إلى ما يقوله الآخرون، وأعد الطواف مرّة أخرى! فأنا أقول لك: لو أنَّك [أُجبرت] على الدوران حول نفسك ستة مرات في الطواف، فلا ضير في ذلك؛ هذا هو رأيي، فإن كان للآخرين رأي آخر، فاستمع إليه؛ فلا إصرار من جانبي وتستطيع أن تعمل بموجبه.
انظروا كيف تفعل الوسوسة فعلها في دين الإنسان، لقد كان ذلك فيما يتعلّق بالحج؛ وكذلك الأمر بشأن الصلاة، فهو يقول إنَّك تستطيع أداء صلاة المغرب في أول وقتها بمجرد استتار قرص الشمس تحت الأفق، و الآخر يقول: لا بد من الصبر و تأخير الصلاة ربع ساعة أو عشرين دقيقة لكي تزول الحمرة [المشرقية]؛ أتلاحظون ذلك؟

    

الوسوسة أدت إلى ترك تلاميذ المرحوم القاضي لفتواه والرجوع إلى غيره

إنَّ المرحوم القاضي لم يكن شخصاً عاديّاً، فقد كان جميع العلماء يسكتون عندما يدخل إلى المجالس التي كانت تُقام في النجف؛ وكانت أُبَّهته وجلاله تسيطر وتهيمن على جوّ المجلس بحيث تخمد لها الأنفاس، كان بين تلامذة المرحوم القاضي أشخاص يُقلِّدون شخصاً آخر في ذات الوقت الذي كانوا فيه تحت تربية و إشراف المرحوم القاضي. تستطيعون أن تتصوّروا الموقف، فكيف كان مقام المرحوم القاضي وكيف كان حال تلامذته. لقد كان تلامذة المرحوم القاضي يقولون له عندما تحين صلاة المغرب: أخِّر الصلاة لربع ساعة لكي نستطيع الاقتداء بك، ونستفيض من محضرك، فنحن نُقلِّد السيِّد أبو الحسن الأصفهاني! فما شاء الله على هذا الشعور و الإدراك! و مع ذلك فقد كان رضوان الله عليه يصبر ولا يتكلّم بشيء، بل كان يضحك ويستجيب لهم ويبقى جالساً على سجادة الصلاة لربع ساعة أو عشرين دقيقة لكي يستفيض هؤلاء السادة من تلك الصلاة!
كان هذا الموضوع واحداً من تلك الإشكالات المهمّة التي كان يطرحها المرحوم الوالد في أحد لقاءاته مع العلاّمة الطباطبائي رضوان الله عليه؛ فقد كان يقول: كيف يمكن لأحد الأفراد الحضور لدى شخص وتسليم مصيره الأخروي إليه ـ فهذا هو معنى التتلمذ لدى شخص ـ ويقوم في ذات الوقت بتوضيح التكليف لأستاذه، فيقول له مثلاً: اصبر حتّى يتحقق الأمر الكذائي؛ كيف يمكن التوفيق بين هذين الأمرين؟ خصوصاً وأنَّ الأستاذ قد تقبّل صيانة دين الشخص وضمان سعادته الأخروية. فهل يوجد أمر أكثر أهميّة للإنسان من ذلك؟ لقد ضمن الأستاذ تلك السعادة إلى الدرجة التي يقول فيها: لو أنَّني لم أفِ بعهدي، فلك أن تعترض عليّ يوم القيامة، و تستوقفني في موقف الحساب. ولكن ورغم كلّ ذلك تجد في قلبه الشك! إنَّ هذا الشك منبعث عن تلك الوسوسة التي تمنعه من أن يكون حازماً في موقفه؛ [فهذا حاله بغضّ النظر عن أستاذه من هو؛] فسواء لو تتلمذ هذا الشخص على يدي المرحوم القاضي أو المرحوم الحدّاد أو المرحوم العلاّمة رضوان الله عليهم، فحاله سيظلّ هكذا على ما هو عليه؛ نعم ما يتغيَّر فيه هو شكله الظاهري فقط، فلون شعره كان في بادئ الأمر أسود ـ أو لم يكن الشعر قد نبت على عارضيه بعد ـ ثم تحوَّل لون شعره إلى الأبيض تدريجيّاً. فجميع شعره أصبح الآن أبيضاً وانحنى ظهره واستولى عليه العجز وأخذ يتّكأ على العصا، ولكن فهمه لم يزل على حاله الأول لم يتغيَّر أبداً، فإذا ما تباحثت معه واختبرت أفكاره لوجدتها على ما كانت عليه.
لقد حصل لي التوفيق قبل فترة بزيارة العتبات؛ فدعانا شخص محترم في النجف وقال: هنالك أشخاص يرغبون باللقاء بكم؛ فذهبت ووجدت هناك شيخاً كبير السنّ.. كان نورانيّاً ولديه صفاء، فعندما نظرت إليه قلت إنَّ نورانيّته وصفائه في محلّه والوضع ليس سيئاً حتّى الآن، ولكن علينا أن ننظر ما الذي يريد أن يقوله. وعندما شرع في الكلام ـ لا أراكم الله ذلك اليوم ـ كنت على وشك أن أضرب على رأسي، واويلاه!؛ فكان كلّ حديثه هو: لقد التقيت بفلان، وذهبت لرؤية فلان، وكان لي الموقف الكذائي مع فلان؛ وفي أواخر حديثه بلغ به المطاف إلى حدٍ قلت له معها: شكراً لك، هذا يكفي فقد استفدنا بما فيه الكفاية، ثم خرجت، وكان الأشخاص من الأصدقاء الموجودين هناك قد وضعوا أيديهم على بطونهم وكانوا على وشك أن يقعوا على الأرض من شدّة الضحك.
انظروا إلى هذا الشخص الذي بلغ من العمر التسعين سنة، كم هو مقدار فهمه وإدراكه؟ وكم كان قد تفتّح ذهنه؟ لم يحصل له الرقي أبداً، كلّ ما كان لديه هو: إنَّ فلان قد رأى في المنام أنّ الحدث الفلاني سيحصل، أو إنَّ شخصاً آخر قد رأى مكاشفة بشأن ما سيحصل؛ فاعترض عليه أحد الأصدقاء الموجودين هناك قائلاً: ولكنَّ تلك المكاشفة لا تتطابق مع واقع الأمر. فقال: لا، لقد أخبروكم بخلاف الواقع. فقلت له: ولكنَّني أعيش في إيران، فهل أُخبرت بخلاف الواقع أيضاً؟ أنا شاهد على ذلك بنفسي، فماذا تقول؟
فهذا الشخص يؤدّي جميع صلواته في أوقاتها، ويأتي بالنوافل، ولم تكن صلاة الليل لتفوته؛ وكان يُصلي كلّما وجد وقتاً لذلك؛ فقد كانوا يرونه يُصلّي في الصحن وفي الشارع وفي كلّ مكان؛ فما الذي جناه من صلاته تلك؟ فهل يصل الإنسان إلى مرامه بالصلاة فقط؟! فصلّ ما شئت أن تصلِّ! فليس في ذلك بأس؛ ولكن عليك أن تعرف لِمَن تُصلّي؟ ومقابل من أنت واقف؟ و ما هي العلاقة و الارتباط الذي يحصل بينك وبين ربك عندما تُكبِّر؟ أم أنَّ الأمر يقف عند حدّ التكبير؟ فما الفرق حينئذٍ بين تكبيرك وتكبير الطفل ذي الثلاث سنوات الذي يراك تُكبِّر فيقف ليُقلِّدك؟ لا يوجد أيّ فرق.
كان ابني الثالث الأصغر قد ذهب مع أمّه عندما ذهبتْ إلى مكة لأداء العمرة، وكان سنّه ثلاث سنوات؛ وعندما رجع لاحظت أنه عندما كان يراني أُكبِّر للصلاة ، كان يضع إحدى يديه فوق الأخرى على هيئة التكفير، فقلت لأمه: جزاك الله خيراً! أخذتِ ابني معك وحوَّلتيه إلى المذهب السنِّي، لا شُلَّت يداكِ! [يضحك سماحته والحاضرون]. حسناً فما الفرق بين هذا التكبير وذاك؟ لا يوجد أيّ فرق بينهما أبداً، فكلاهما من باب التقليد.
[انظروا إلى التفاوت بين هذه الصلاة] وتلك التي يأمر بها العظماء حينما يقولون: إن أردت أداء الصلاة فاجلس [على سجادتك] خمسة دقائق وخذ بالتفكير: أين هو الله؟ هل هو أمامك، أم خلفك، هل هو إلى الأعلى أو الأسفل منك؟ وكيف سيكون ارتباطك به؟ في أيّ رتبة من اهتماماتك ستضعه؟ فعندما تبدأ بالتفكير للحظات، سيتبين لك بأنَّ الله ليس إلى الأعلى ولا الأسفل ولا اليمين ولا اليسار ولا أمامك ولا خلفك؛ بل هو حاضر في نفس وجودك في هذا الحال الذي تريد فيه تعظيمه. على أنَّ الأمر ليس بهذه البساطة، بل يتطلّب بذل الكثير من الجهد والسعي.
فيجب أن تكون الحركة بهذا الاتجاه، ونحن نرى بأنَّ العظماء يوجّهوننا للحركة بذلك الاتجاه؛ وحينئذٍ تأخذ النفس بقطع علاقتها بالأمور الجزئية وبكافة التعلّقات، وتبدأ النفس بالعبور عن تلك المسائل الهامشيّة، وعن الأنانيّة وعن البحث عن المناصب الدنيوية والرغبة في التصدِّر، حتّى تصل إلى مرتبة السعة والإطلاق والكلية[3].

    

لا ينبغي التحقيق في مسألة الطعام أكثر من الحد الشرعي

لذا نرى العظماء يقولون وباستمرار: عندما تريد تناول الطعام فلا تشغل نفسك بالوسوسة، فترى البعض على سبيل المثال يسأل: هل إنَّ الشخص الذي نحن ذاهبين لتناول الطعام في بيته يؤدّي الخمس؟ أو ما هي طبيعة الطعام الذي سنتناوله [من حيث الحليّة أو الطهارة]؟
فقلت: لا داعي لهكذا سؤال، ولماذا يسأل الإنسان هكذا سؤال؟ عليك حمل الموضوع على الصحة.
فقال: أنا أحتمل أن يكون في هذا الطعام إشكال؛ فهذه العائلة كذا و كذا...
فأجبته: لنفرض أنّك تحتمل ذلك، ولكن هل يعني ذلك أنّ تكليفك أن تسأل حينئذٍ؟! من الذي كلفك بذلك؟ و من الذي طلب منك أن تحقّق في أمر هذه الأسرة لتتأكّد؟! نعم، لو كان الأمر ثابتاً ومُسلّماً لديك، فلذلك حكم آخر، فالأمر مختلف هناك وله حكمه الخاص به. أمّا في حالة عدم ثبوت هذا الأمر، فلِمَ هذا التحقيق والتفحّص؟ فهذا هو عين التعثّر و الوقوف في المسير، وعين الاصطدام بالعقبة وعدم التمكن من مغادرة ذلك المقام.
وسيكون الأمر على العكس فيما إذا تجاوز الإنسان هذا الموضوع؛ فلا تعلمون كم من الأمور يكون قد عبرها بتجاوزه هذا؛ فهو بعمله هذا لم يعبر تلك القضية فقط، بل إنَّ نفسه تكون قد أزاحت عنها الكثير من الحُجب. فصحيح أنَّ ما حصل هي قضية واحدة، ولكنَّ الأثر الذي تتركه على النفس هو أثر عميق سيُعينه في أمور كثيرة ستحصل لاحقاً.

    

من أمثلة الوسوسة التحقيق الزائد في أمر إمام الجماعة

[ومن الأمثلة الأخرى للوسوسة هو موضوع الاقتداء في صلاة الجماعة] فترى الشخص يقول: لا بدّ من التحقيق في أمر عدالة الإمام، هل هو عادل؟ وما هو عمله؟ وأين يعمل؟ لقد رأيت بنفسي شخص يسأل المأمومين: هل لإمام الجماعة هذا عمل آخر غير إمامة الجماعة؟ وهل هو يعمل في دائرة معينة؟ هل ينتمي إلى مؤسسة ما؟ وأمثال ذلك. وعندما يعلم بأنَّه يعمل في مكانٍ ما، تراه يقول: يا للعجب! إذاً سأُصلي فُرادى.
يا عزيزي، إذا ما رأيت شخصاً ظاهر الصلاح يؤمّ الجماعة، فصلِّ خلفه، فلماذا تتوجّه إلى عبد الله بدلاً من التوجّه إلى الله؟ عليك أن تصرف جميع تفكيرك وتوجّهك إلى الله أثناء الصلاة؛ فلماذا تشغل ذهنك ونفسك بـ: من يكون هذا الشخص وما هو عمله؟ وهل هو عادل؟ وأمثال ذلك؟ حتّى إذا ما أحرزت كلّ ذلك تقول: حسناً، أستطيع الائتمام به الآن وتكبِّر تكبيرة الإحرام. إنَّ صلاتك في هكذا حال تكون لهذا الشخص لا إلى الله! أتلاحظون! فهذه الصلاة ليست إلى الله، بل لهذا الشخص. لماذا؟ لأنَّك قد أحرزت راحتك الفكرية فعندما أصبح كلّ شيء بنظرك صحيحا، تقول عندها: لا بأس بالائتمام به الآن؛ وبالتالي فتلك الصلاة ستكون لهذا الشخص، لذا تقول الملائكة إنَّنا لا نرفع هذه الصلاة إلى الأعلى لأنَّها لا تستطيع الارتفاع ولو لسنتمترين، فكيف نستطيع رفعها إلى عرش الله! فليس لهذه الصلاة أيّة قيمة.
لذا ترى العظماء يقولون: إذا ما رأيت شخصاً قد تقدَّم للصلاة، واصطفَّ الناس خلفه، فليس عليك التحقيق في أمره، بل عليك الائتمام به والتوجِّه إلى الله؛ أما إمام الجماعة فهو عبارة عن وسيلة وواسطة لتصحيح ظاهر الصلاة. هذا هو معنى صلاة الجماعة.. فإن صلّيت هكذا صلاة، ستلاحظ عندها حصول بعض التغيّر لديك، حيث يبدو بأنَّ هنالك باباً سيُفتح لك. أتلاحظون؟
وهذا الأمر ينطبق على موضوع الغذاء أيضاً، فلا ينبغي للإنسان أن يشغل فكره بنوع وطبيعة الغذاء الذي سيتناوله، كلّ ما في الأمر هو أن يكون ذلك الغذاء مفيداً للإنسان. فإن لم يكن سمّاً، فليكن ما يكون. أمّا التدقيق في الأمور الأخرى المتعلّقة بالغذاء فهذا لم يكن من دأب وديدن العظماء. على أنَّ للعظماء تأكيداً على بعض الأمور، كالفرق بين الغذاء الذي يتمّ تحضيره خارج المنزل عن ذلك الذي يتم إعداده في المنزل، وهو ما كنت أنوي الحديث عنه هذه الليلة؛ إلاّ أنَّ أموراً مهمةً أخرى قد انجرّ الحديث إليها مما أدّت إلى تغيِّر مجرى الحديث. وسنتحدَّث عنها في المجالس المقبلة إن شاء الله. كما أنَّ الأمور المتعلّقة بالغذاء والتي تحدَّث عنها الأئمة عليهم السلام وما يتعلّق بمراعاة الدقة في هذا المجال ثابت في محلّه؛ ولكن الحديث عن مقدار تلك الدقة التي يجب مراعاتها؛ فهل يجب أن يُنظر إلى الغذاء على أنَّه واسطة ووسيلة، أم أنَّ أساس المسير يتمركز على كيفية استحصال اللقمة وينحصر فيه؟ وذلك بأنَّ الغذاء لا بدَّ وأن يكون من المصدر الفلاني وبهذه الكيفية الخاصة.
كنت قد ذكرت في أحد المجالس بأنَّنا كنَّا مدعوين في أحد الأماكن في قمّ، وعندما جلب الشخص المائدة قال: تناولوا هذا الغذاء بكامل الطمأنينة، فأنا أقوم بجلب الدجاج حيّاً وأذبحه هنا؛ فطريقة الذبح موافقة للطريقة الشرعيّة بكل تأكيد ولا مكان للشكّ والشبهة فيها. وكان يلفظ حاء الذبح بالشكل الذي تخرج فيه من عمق فمه بل وأعمق من ذلك! فكلّ اهتمام هذا الشخص كان متركّزاً على هذا الموضوع، هل إنَّ الدجاج الذي يُباع في السواق قد تم ّ ذبحة وفقاً للطريقة الشرعية أم لا؟
ـ إنَّه يُباع في أسواق المسلمين أيها السيِّد، والجميع يستفيد منه.
فالخوض في هذه الأمور يحدّ من ترقي الفكر، لذا نرى هكذا أشخاص يتّخذون موقفاً مضادّاً عندما يتمّ البحث عن موضوع أرقى من مستوى الفكر العادي. كلّ ذلك بسبب توقّفه عند هذه الأمور الهامشيّة، فلا يستطيع تحمّل ما هو أعلى من هذا المستوى، فهو قد توقّف عند قطع الأوداج الأربعة والتسمية عند الذبح، ولم يترقَ فكره عن هذا الحدّ، ولم يستطع التعالي والعبور عن هذه الأمور الثانوية.
ـ فيا عزيزي، عندما يُطلق على هذا السوق اسم سوق المسلمين، فهو سوق المسلمين إذاً، فاشترِ اللحم من القصاب ولا تدع مجالاً للوسوسة فهم يذكرون اسم الله عند الذبح.
لكنّه يقول: كلاّ، بل يجب أن أذهب وأرى وأسمع بنفسي.
إنّ هذا هو التوقف عند الحضيض بدلاً من العروج إلى ذلك الأفق؛ فهو بذلك يكون قد حبس نفسه عند هذه المسائل الظاهرية.
أعتقد بأنَّ الأصدقاء سيعذرونني إن شاء الله في التوقف هنا ؛ لأنَّه لا الوقت ولا حالي يسمح لي بإدامة الحديث، وسنستعرض في المجلس القادم المواضيع التي سمعناها ووصلتنا من العظماء بهذا الشأن إن شاء الله.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد


[1] ـ المراد من الكلية و السعة هنا اصطلاح خاص غير المعنى المتعارف، و هو اصطلاح استعمله الحكماء و العرفاء للإشارة إلى مرتبة من مراتب الوجود ذات سعة كبيرة بحيث أن كمالات المراتب التي دونها جميعاً تكون منطوية فيها، و هي مع ذلك ذات بساطة و ووحدة. (المترجم)

[2] ـ وسائل الشيعة، ج8، ص 471 الطبعة الإسلامية.

[3] ـ يشير سماحته إلى رتبة الوجود السِّعي والإطلاقي التي تقدمت الإشارة إليها، و هي رتبة تجتمع فيها الكمالات مع بساطتها. المترجم

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی