معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 201 إلى الأخير > شرح حديث عنوان البصري ـ الجلسة 217: الغذاء وأثره على السلوك

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح حديث عنوان البصري المحاضرة 217

الغذاء وأثره على السلوك

ألقيت في التاسع عشر من جمادى الثاني من عام 1435 هجري قمري

ألقاها:
سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه اللـه

 

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلَّى الله على سيِّدنا ونَبيِّنا أبي القاسم محمّد
(اللهمَّ صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد)
وعلى آله الطيِّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائِهم أجمعين

فَقَالَ: أمَّا اللَوَاتِي في الرِّيَاضَةِ: فَإيَّاكَ أنْ تَأكُلَ مَا لَا تَشْتَهِيهِ، فَإنَّهُ يُورِثُ الحَمَاقَةَ وَالبَلَهَ. وَلَا تَأكُلْ إلَّا عِنْدَ الجُوعِ. وَإذَا أكَلْتَ فَكُلْ حَلَالًا وَسَمِّ اللهَ، وَاذْكُرْ حَدِيثَ الرَّسُولِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ: مَا مَلأ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرَّاً مِنْ بَطْنِهِ. فَإنْ كَانَ وَلابُدَّ فَثُلْثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلْثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلْثٌ لِنَفَسِهِ.[1]
تقدّم الكلام في شرح بعض الأمور المتعلقة بهذه الفقرات من الدعاء في الأسبوع الماضي؛ وقلنا بأنَّ الحديث حول هذه الفقرات من الدعاء الشريف قد طال كثيراً، ومن الأفضل أن نبدأ في شرح الفقرات الأخرى؛ لأنَّ الأخوة والأصدقاء قد سمعوا بأنفسهم مسائل بهذا الشأن من المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه في حياته، كما أنَّ كيفيّة سلوكه وتصرفاته وتعامله مع الآخرين، يعكس بحد ذاته الأُسس والأصول التي يتبنّاها الأولياء والعظماء في هذا المجال.

    

الوسطية وعدم الإفراط والتفريط

بالطبع لقد كانت هنالك أمور وتصرفات تصدر من البعض في ذلك الوقت، فكان أولئك الأشخاص يأخذون إمّا جانب الإفراط أو جانب التفريط في تعاملهم مع هذا الموضوع، وذلك بسبب فهمهم الخاطئ لما كان يُطرح من قبل المرحوم العلاّمة. وبما أنَّني كنت على علم أكثر من غيري بما كان يُطرح من قبله وبكيفية تصرفاته، فكنت أُلاحظ الكثير من الإفراط في تصرفات الغير، ولم تكن تصرفاتهم تلك متوافقة مع ما كان عليه اعتقاد ورأي المرحوم العلاّمة.
يطرح الإمام الصادق على عنوان جملة من الأمور فيما يخصّ موضوع التغذية فيقول: أولاّ، لا تأكل ما لم تشعر بالجوع؛ أي لا تأكل ما لم يصل الجوع إلى الحد الذي يتسبب في انشغال فكرك بأمر الطعام. بالطبع ليس المقصود بالطعام هنا هو الوجبات الرسمية؛ الفطور والغداء والعشاء فقط، بل مطلق الطعام وكلّ ما يتناوله الإنسان كغذاء، وهو الأمر الذي أخذ اليوم بُعداً آخر، وهو مغاير لدأب وديدن العظماء، فقد أصبحت عادتنا هذه الأيام تناول طعام الفطور ـ مثلاً ـ عند الصباح بعد نهوضنا من النوم، وبعد ساعتين نأكل ما يُقدّم إلينا من فاكهة أو حلوى في المنزل أو عند زيارتنا لأحد الأشخاص، وبعد ساعة تُقدّم إلينا العصائر المُثلجة فنتناول منها، أو أنَّنا نخرج من المنزل فنرى نوعاً من الغذاء فنتناول منه، كما نأكل قبل الظهر، وهكذا إلى أن يحين وقت النوم، فنكون دائماً في حال تناول الطعام، فيبدو بأنَّنا والحال هذه لن نشعر بالجوع أبداً، وستكون معدتنا مشغولة دائماً بالهضم.
فالإمام عليه السلام لا يتحدّث هنا عن هذا الطرز من تناول الطعام، وقد بينت السبب للإخوة في المجالس السابقة، وقلت بأنَّ ذلك الذكاء وتلك الحالة من الفطنة والتركيز سوف تُسلب من الإنسان عندما تكون المعدة مشغولة بهضم الطعام، وهذا هو واقع الحال شاء الإنسان أم أبى، أمّا ما يتعلق بتناول شيء بسيط كتمرة واحدة على سبيل المثال، فهذا خارج عن الموضوع، بل المقصود هنا هو أن يأكل بعد نهوضه من النوم في الصباح، ثم يأكل في بيت صديقه ما يُقدَّم له من فاكهة أو حلوى؛ أو يأكل ما يجده في منزله من الغذاء، فهذا النمط من تناول الطعام، علاوة على ما له من أضرار على الجسم وجهاز الهضم وما يُسببه من جهد إضافي على الكبد وما شاكل ذلك، فهو يسلب من الإنسان ذلك التوجّه الخاص وذلك الاستعداد الذهني لتلقي المفاهيم؛ وهذا هو الأمر المهم بالنسبة للسالك، وهو لا يمكن أن يتحقق في هكذا ظروف، فقد خلق الله الإنسان على هذه الشاكلة، ولا دخل للإنسان بهذا الأمر.

    

الملاحظ في الدستورات العامة هو الحالة الطبيعية للأشخاص

لذا يُشاهِد الإنسان بأنَّه عندما يصوم في شهر رمضان المبارك ويكف نفسه عن المباحات طوال اليوم، أو عندما يصوم في سائر الأيام الأخرى، يُشاهد وجود تفاوت في مقدار توجّهه إلى الله. ما السبب في حصول هذا التفاوت؟ إنَّ ذلك يعود إلى تحرّر الروح والنفس في هكذا ظروف عن الارتباط والانشغال بالبدن وبعمل الجهاز الهضمي، فهضم الطعام وعمل الجهاز الهضمي لا يكون بمعزل عن الفكر والنفس والروح.
كنت أشاهد ذلك الأمر في سلوك العظماء؛ فقد كان المرحوم الوالد رضوان الله عليه أو المرحوم أستاذه يكتفون بالقليل من الطعام عندما يسافرون إلى مكان ما على سبيل المثال. بالطبع فإنَّ هذا الأمر ينطبق ـ وكما ذكرت مراراً ـ على الأشخاص الذين يتمتعون بحالات صحية طبيعية، ولا يشمل بعض المصابين ببعض الابتلاءات الصحية الاستثنائية؛ فالامتناع عن تناول الطعام لمدّة ساعتين أو ثلاثة لبعض الأشخاص قد يؤدِّي إلى ضعف قواهم، فالأمر لا ينطبق على هذا الصنف من الناس، فقد يختلّ عمل جهاز الهضم وحرق الدهون وبناء الخلايا نتيجة الإصابة ببعض الأمراض، أو بسبب عدم الحركة أو لخلل في عمل الغدد وغيرها، فيُصاب أمثال هؤلاء بالضعف والوهن؛ مثل المصابين بمرض السكّري.
لقد كان المرحوم العلاّمة يُعاني من هكذا مشاكل في أواخر عمره، فكنت أُلاحظ بأنَّه لم يكن يتمكن من النهوض إذا مضت عليه ساعة دون أن يتناول شيئاً من الطعام. وتشرّفت بالذهاب معه مرة إلى زيارة حرم الإمام ليلاً، وفي طريق العودة جلس إلى جانب الطريق وقال لي: يا سيَّد محمّد محسن، لا أستطيع مواصلة السير! فقلت له: هل أصبت بالضعف؟ قال: نعم! فذهبت إلى مكان قريب وجلبت له بعض الحلوى، فتناول منها وبقي جالساً لعدة دقائق حتّى تمكّن من النهوض بعدها، وكذا الأمر فيما يتعلّق بالأمراض الخاصة بالمعدة والأمعاء والإثني عشري أو الأمراض القلبية، فجميع هذه الحالات حالات غير طبيعية لا يشملها حديثنا؛ فتلك ظروف خاصة، لا بدّ للشخص من مراعاتها، وإلاّ فسيمرض وتحصل له مشاكل صحية وسيُعاق عن الحركة كلياً، فنحن لا نتكلم عن هكذا ظروف، بل نتكلم عن كيفية تصرف الشخص الطبيعي السليم والذي يتمتع بظروف صحية طبيعية، فالإفراط والتفريط قد يفعل فعله بالإنسان.
لقد كان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه مخالفاً لموضوع تحديد النسل بدون عذر مقبول، وفي ذلك الوقت كانت إحدى السيدات تُعاني من مرض انزلاق الفقرات، وكان الأطباء قد منعوها من الحمل، لكنها لم تستمع لنصيحة الأطباء في ذلك؛ ظناً منها أن ذلك يخالف دستور العلامة، وحملت وتعرضت إثر ذلك إلى مشاكل صحية خطيرة كادت أن تؤدِّي بها إلى عواقب وخيمة. وعندما سمع المرحوم العلاّمة بذلك قال: ومتى كان كلامي ذلك موجّهاً إلى أمثالكِ؟ فكلامي لا يشمل حالتكِ، أنت التي تعانين من انزلاق في الفقرات، وإذا ما حملتِ، فإنَّ ذلك قد يؤدِّي بكِ إلى الإصابة بإمراض شديدة وخطرة، بل كان خطابي موجّهاً إلى النساء الطبيعيات اللواتي لا يُعانين من أمراض.
تلك الأمور التي طُرحت من قبل العظماء في ذلك الوقت كانت تتعلق بالنساء الطبيعيات اللواتي لا يُعانين من حالة مرضيّة خاصة، أمّا اللواتي يُعانين من بعض الأمراض، فيجب أن يتم الحمل تحت إشراف أطباء متخصصين. فمتى كان ذلك التكليف الذي أمر به العظماء يشمل حالة كهذه؟ فهذا يتنافى بشكل كامل مع القواعد العقلانية للسلوك، إذ السلوك مبنيٌ على أسس وقواعد عقلانية، بل هو يعني أساساً متابعة القواعد العقلية؛ فلينظر الإنسان ليرى ما الذي يحكم به العقل والمنطق في حالة كهذه فيتّبعه.
بالطبع فإنَّه إذا ما كان الأمر يفوق قابلية الإنسان للتشخيص، فذلك أمر آخر، فيُقال عندها دع تشخيصك جانباً، واعمل بما تؤمر به؟ أمّا إن كان الأمر خارجاً عن هذا النطاق، فكيف سيتصرف الإنسان؟
علمت في إحدى الحالات التي حصلت، بأنَّ تشخيص الطبيب حين إجراء العملية الجراحية كان يقضي بضرورة استئصال الرحم، فعارض [الزوج] ذلك قائلاً: لا، بل يجب أن يبقى الرحم؛ لأنَّه في حالة استئصاله، لن تكون المرأة قادرة على الحمل، وهو يخالف ما أمر به السيِّد العلاّمة! ولقد ابتليت المرأة على إثر ذلك بمرض السرطان وماتت. [والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو]: متى كان أمر المرحوم العلاّمة يتعلق بحالة كهذه؟! فذلك من الإفراط. فإعمال كلّ من الإفراط والتفريط في تطبيق أوامر العظماء من قبل السالك، يعتبر عملاً خاطئاً وبعيداً عن المنطق والمعايير العقلانية. بل وحتّى بالنسبة لغير السالكين من الأشخاص العاديين، فكيف بالسالك الذي يجب عليه أن يكون دقيقاً في هكذا موارد، تلك من دقائق وظرائف الأمور التي كنت أشاهدها طوال حياة المرحوم العلاّمة.

    

ضرورة اهتمام الشباب بالتغذية الجيدة

لقد كتب لي المرحوم العلاّمة برنامجاً غذائياً عندما قدمت إلى مدينة قم للدراسة، كان سنِّي عند قدومي إلى قم بمعية أخي الأكبر بحدود السبعة عشر عاماً، فقد كان ذلك بعد عودتي من سفر الحج. فقالت لي والدتي: كيف سيكون برنامجك الغذائي هناك؟ فقلت لها: سأتناول الخبز والبصل في الغداء والعشاء! فصعدت إلى غرفة أبي وقالت له: أتريد أن تبعث أبنك المجنون هذا إلى قم ليكون طعامه الخبز والبصل؟ فناداني المرحوم الوالد قائلاً: ما الذي سمعته عنك من والدتك؟ قلت: سألتني ماذا سيكون طعامك هناك، فقلت لها سأتناول الخبز والبصل.
وكان المرحوم الوالد قد نقل حكاية عن عمه المرحوم آية الله السيِّد محمّد تقي الذي كان يُصلِّي في مسجد عمّار بن ياسر في منطقة الجسر الخشبي في طهران. وكان أحد الأشخاص من المترددين على مسجد القائم من أصدقاء جدِّي قد ذهب لزيارة عمّي في المدرسة الفيضية في إحدى ليالي الشتاء؛ فقال له عمي: إنَّي لست جائعاً الآن، لكن متى ما جعتَ أنت فأخبرني؛ فقال الرجل: أكمل مطالعتك، ومتى ما انتهيت منها، سنتناول العشاء، فقال: حسناً. يقول الرجل: ولقد كنت أتصوّر بأنَّه قد أعدَّ لي مائدة من اللحم المشوي والمرق والحلوى و ... وعندما انتهى من المطالعة، نهض فمدّ سماطاً واستخرج خبزاً من كيس كان هناك فوضعه على السماط، ثم أدخل يده في صندوق كارتوني موضوع فوق أحد الرفوف فاستخرج منه رأس بصل، وبدون أن يُقشّره، وضعه على السماط وضربه بيده ففلقه، وقال: تفضل كُل على اسم الله.
فلما كنت قد سمعت هذه الحكاية من والدي، قلت فليكن برنامجي الغذائي على هذا النحو! قال لي الوالد: أنت الآن في السابعة عشرة من عمرك، ثم إنَّ ما فعله ذلك الشخص كان لليلة واحدة، وكان ذلك الطعام يتلاءم مع مزاجه. ولما كنت أعاني في تلك الفترة من مرض في المعدة وكنت أراجع الطبيب في حينها، لذا فقد أعدَّ لي برنامجاً غذائياً في أيام الأسبوع؛ ففي يوم الأحد سيكون غذائك هكذا ويوم الاثنين كذا وهكذا إلى نهاية الأسبوع. وكنت أتجاوز هذا البرنامج أحياناً، لكي أتمكن من تقليل ساعات النوم، فانكشف أمري لديه، إذ أخبره البعض بذلك؛ فعمد إلى إيجاب ذلك عليّ، وقال: حرام عليك تخطّي هذا البرنامج، فرأيت أنَّ المسألة جادة ولا يمكنني أن أتخطى ذلك البرنامج. لقد كنت أكتفي بتناول قدح من الحليب أو اللبن في الليل، لكي أتمكن من البقاء يقظاً، حيث كنت أنام لمدة ثلاثة ساعات إلى ثلاثة ساعات ونصف في اليوم والليلة.
فكلا الأمرين من الإفراط والتفريط غير صحيح. لقد كنت أفعل ذلك، بينما كان يجب عليّ مراعاة الاحتياط في ذلك الوقت، وها أنا أعاني من ذلك حتّى الوقت الحاضر. وهذا ما كان أوصاني به المرحوم الحدّاد رضوان الله عليه في آخر مرّة زرناه بها في كربلاء.
أنا أُوصي بذلك الأصدقاء وعلى وجه الخصوص الشباب واليافعين والذين هم في مرحلة النمو والرُشد؛ فقد تراود الإنسان بعض الأفكار والأوهام والتخيلات ويتصوّر الإنسان بأنَّه يقوم بعمل جيد، وسيخطو إثر ذلك خطوة إلى الأمام، دون أن يعلم ما الذي يترتب على فعله هذا من عواقب وتبعات وما سيتبع ذلك من ابتلاءات.
كان المرحوم الحدّاد رضوان الله عليه قد قال للعبد: لا ترتكب خطأً بسبب التفريط والإهمال في موضوع التغذية يجعل منك مركباً لبدنك إلى آخر عمرك، ويتخذ منك البدن واسطةً يركب عليها، وهكذا صار الأمر. كانت تلك هي البرامج والتوصيات التي أوصى بها العظماء، ولكنَّني لم أستمع إليها، ولم أعطها الأهميّة اللازمة، لذا استوجب عليّ الآن أن أراعي الاحتياطات اللازمة وما شابه ذلك.
لقد كان ذلك في الوقت الذي كان فيه المرحوم الحدّاد يعيش ظروفاً مختلفة وكان يتمتع بصحة جيدة؛ ومع أنَّ صحة المرحوم الوالد كانت جيدة كذلك، إلاّ أنَّه لم يكن ليصل إلى حال المرحوم الحدّاد، حيث يقول: كان المرحوم الحدّاد يتناول الخبز وورق الفجل في وجبة السحور، أمّا أنا فلم أكن أستطيع الصيام بهذه الكيفية، فكنت أتناول الخبز والفجل معه، ثم يعود إلى المنزل لتناول ما كانت تعدّه الوالدة من طعام ليكون بمثابة سحوره الأساسي، فكان يقول اجلبوا لي طعام السحور، فقد تناولت الخبز والفجل هناك، ولكنَّ ذلك الطعام لا يلاءم حالي، بل يلاءم حال السيِّد الحداد، فلا أعلم لي كيف كان ذلك الطعام يقيته، أمّا أنا فلا يلائمني ذلك. أتلاحظون؟
هذا في الوقت الذي كان لكل منهما سيره وحركته، وكان كل منهما يطوي طريقه، غير أنَّ أحدهما كان يطوي طريقه بواسطة هذا النوع من الطعام، بينما لا يتمكن الآخر من ذلك، فقد قدّر الله لكل شخص سعة وقدرة واستعداداً وخصوصيّة معيّنة؛ فلا يمكن أن يكون الجميع على نمط واحد، فالطفل ذي الخمس سنوات يجب أن يأكل باستمرار، وإلاّ لتوقف عن النمو، أمّا ذو العشرين أو الخمسة والعشرين أو الثلاثين عاماً فسيكون أمره مختلفاً، ولا بدّ من تحديد كمية الطعام بالنسبة له.
فالطفل حديث الولادة يحتاج إلى الحليب كلّ ساعةٍ أو ساعتين، وإلاّ لن يدوم بقاؤه، وهكذا كلّ شخص وما يتناسب مع ظروفه الخاصة به، فبناءً على هذا فالأسس والقواعد التي يطرحها العظماء تكون موجّهة للذين يعيشون حياة طبيعية.

    

عدم تناول اللحم أكثر من مرتين في الأسبوع

ومن جملة ما أوصى به العظماء ـ سواء المرحوم الوالد أو أستاذه وكذلك ما أوصى به المرحوم الشيخ الأنصاري ـ هو عدم تناول اللحم لأكثر من مرتين في الأسبوع. على أنَّ المقصود هو المقدار الذي يُعتدُّ به، لا المقدار القليل منه، فالتناول منه بالمقدار المعتد به يُسبب قسوة القلب وانقباض الروح؛ [بل لا بدّ من تناول] الأطعمة التي تعمل على تلطيف النفس والروح؛ ومنها الأطعمة التي لا تسبب في زيادة كثافة الدم ولا تتسبب في إجهاد الجسم ولا تُتعب الفكر، وتلك أمور مذكورة في محلها في الكتب المختصة بهذا المجال، وعلى الإنسان الالتزام بها. أكرر هنا وأقول بأنَّ هذا الأمر لا ينطبق على أولئك الأشخاص المكلَّفين بمتابعة نظام غذائي خاص، بل على هذا الصنف من الناس الالتزام بما يُوصف لهم، وما ذكرته هنا يتعلّق بالأشخاص الطبيعيين، الأصحّاء، معتدلي المزاج والذين يتمتعون ببنية طبيعية، فليس من المستحسن لهؤلاء أكل اللحم لأكثر من مرتين بالأسبوع.
ويستطيع الإنسان اختبار ذلك بنفسه، وسيُلاحظ التفاوت في الواردات القلبية والنفسية والفكرية، بالإضافة إلى النشاط والانبساط الروحي والنفسي الذي يحصل له في الأسبوع الذي يأكل فيه اللحم مرتين فقط، عن ذلك الأسبوع الذي يتناول فيه الأطعمة الدَّسمة والغنية باللحم يوميّاً، هذا ما أوصى به العظماء الذين طووا هذا الطريق.
في الكثير من الأحيان يقوم العظماء ببيان برنامج التغذية الذي يتوجّب على السالك اتباعه، عند قيامه ببعض الأوراد الخاصة؛ وذلك لما يترتّب على تلك الأوراد من آثار. وسأستعرض هذا الموضوع بشكل سريع نسبياً، فعلى سبيل المثال، يجب أداء الوِرد أو الذكر الفلاني بشرط عدم تناول اللحم، أو حتّى أكثر من ذلك؛ إذ كانوا يشترطون أحياناً ترك الغذاء الحيواني بصورة مطلقة، أي لا بدّ من ترك تناول الألبان أيضاً، وهنالك أوامر أشدّ من ذلك وهي تقتضي عدم لبس الملابس ذات المصدر الحيواني أحياناً، بل وحتّى الفراش وما شاكل ذلك.

    

ضرورة عدم قيام الإنسان بأي برنامج عبادي من تلقاء نفسه

ولا بدّ من مراعاة الدقّة في هذا المجال؛ فلا يمكن لأيّ شخص أن يصدر هكذا تعليمات وبرامج، فالكثير من هذه البرامج تسبب مخاطر وتوجب حصول بعض الاختلال. أريد أن أقول هنا بأنَّ كلا الشخصين ـ الذي يُصدر هذا البرنامج، وذلك الذي يريد العمل به ـ يجب أن يكونا حائزين على شروط الخبرة والاستعداد للتنفيذ، فإن عثر الأصدقاء أو الذين يطالعون الكتب الأخلاقية أو الرسائل الموجّهة من العظماء إلى تلامذتهم ومريديهم والحاوية على هكذا برامج، فإيّاهم والعمل بموجبها، فهو خطر، بل لا بدّ من توفر الشروط المطلوبة لتحقق تلك القضايا، فقد لوحظ بأنَّ الكثير من الأشخاص، ونتيجة لعدم رعاية حد الاعتدال في هذا المجال، قد أُصيبوا بالجنون أو ببعض الابتلاءات الصحية العجيبة؛ والسبب في ذلك كلّه يعود إلى أنَّ الشخص القائم بهذا العمل لا يمتلك المؤهلات اللازمة للقيام به.
سأتحدّث إن شاء الله عن هذا الموضوع في البحوث الآتية من المواضيع الواردة في حديث عنوان البصري الشريف والخاصة بالاشتغال بالأذكار والأوراد؛ وسيتبيّن لنا كيف أنَّ الاشتغال ببعض الأذكار يكون خطيراً للغاية، وقد يُسبب الشذوذ والانحراف وأمور أخرى غير متوقعة، فلا تتصوّروا بأنَّه ما دام الذكر هو ذكر الله و {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[2]، فلا بأس بالإتيان به، ويستطيع كلّ من يريد أن يشتغل بأي ذكر شاء.
كان المرحوم الوالد قد أعطى أحد الأشخاص في زمان حياته برنامجاً سلوكياً، وعندما نقلت إليه ذلك البرنامج قال: ما الذي سيحصل لو كان حال الشخص مُساعداً ويستطيع أن يأتي به بأكثر مما جاء فيه؟ قلت له: لا شيء، ليفعل ما يحلو له [على نحو التحذير والتهديد]، وسيحصل له ما يحصل! فلم يستمع ذلك الشخص لكلامي هذا. فإن كان المرحوم الوالد قد قال له ردّد هذا الذكر أو الورد كذا مرة، كان يقول: ما دام حالي مُساعداً، فلأكرر ذلك بمقدار الضعف أو الضعفين. ولقد نال جزاء عمله هذا! يا عزيزي يجب عليك الإصغاء لما يُقال لك؛ لأنَّ الذي أعطاك البرنامج له اطلاع أكثر منك بهذا الأمر، وإلاّ كان بإمكانه أن يقول لك كرِّر ذلك ألف مرة، فلماذا يقول لك كرِّره ثلاثمائة مرة فقط، أو مائتي مرة، أو أربعمائة مرة أو مائة مرة؟ فهل يريد مضرّتك أو يريد لك النقصان ولا يريد لك الخير؟ كلاّ! ولكن لكل ظرف حسابه الخاص به، فعندما أمتلك اليوم هذه المقومات وهذا الاستعداد وهذه القدرة الخاصة بي، يُقال لي: عليك ألاّ تحمل ثقلاً يزيد على الثلاثة كيلوغرامات، وإلاّ فسيؤدي ذلك إلى حصول جهد إضافي على قلبك؛ لكنك إن قلت: هذا ما يقولونه هم، [أمّا أنا، فإنَّني أرى في نفسي القدرة] لأحمل عشرين كيلوغراماً على سبيل المثال، فسيؤدِّي ذلك إلى سقوطك في وسط الطريق! نعم، يُقال لذلك الذي يمتلك الاستعداد: تستطيع أنت أن ترفع مائة كيلوغراماً، دون أن يلحق بك الضرر! وليس ثلاثة أو عدة كيلوغرامات فقط، بل تستطيع أن ترفع مائة كيلوغراماً؛ لأنَّ لك القدرة على ذلك، ولأنَّه قد طُلب منك فعله إذاً فتلك البرامج تتعلق بحالات خاصة.
لكني أسمع في بعض الأحيان عن حصول البعض من هذه القضايا، أو أنَّني أُسأل أحياناً من قبل بعض الأصدقاء عن ذلك، [وأنا أقول هنا] لا يستطيع الإنسان بأيّ وجه من الوجوه أن يُقدِم على الإتيان بهذه الأعمال من تلقاء نفسه، وأنا أتذكر بأنَّ المرحوم الوالد كان من النادر أن يُعطي هكذا برنامج لأحد في أيام حياته، لا أدري هل تجاوز عدد من أعطاهم ذلك البرنامج الثلاثة أو الأربعة أشخاص، أو لعلّي لم أكن أعلم بذلك، فما أعلمه ـ بحسب ارتباطي بالمرحوم العلامة ـ هو أنَّ العدد قدلم يتجاوز الاثنين أو الثلاثة أو الأربعة أشخاص، وكان ذلك يتضمن حالات خاصة فقط. وكنت أُلاحظه هو يقوم أحياناً بهكذا أعمال وفقاً لظروفه الخاصة، ولم يكن ذلك بشكل دائم، بل نادراً ما يحصل ذلك في مقاطع زمنية معينة، وبالتأكيد فقد كان لزاماً عليه أن يفعل ذلك، فقد كان وضعه في ذلك الزمان يقتضي قيامه بهذا العمل، ولقد كان واضحاً بأنَّ كلّ ذلك كان يجري بأمر وإشراف الولي الكامل والعارف الواصل.
هذا فيما يتعلق بالتغذية، فكيف بالأمور الأخرى التي سنتحدَّث عنها إن حالفنا التوفيق في المجالس القادمة إن شاء الله.
فبناءً على هذا لا يكون من الصواب أن يشرع الإنسان بالأكل منذ نهوضه من النوم صباحاً، بل عليه أن يصبر [بعد تناول الفطور] إلى الظهر، إلاّ إذا اضطرّته الحاجة لتناول طعام خفيف لتلافي حصول الضعف لديه. ويجب القضاء على تلك العادة [الأكل بين الوجبات]؛ لأنَّها لا تسمح بحصول حالة الجوع والاشتهاء الواقعي لتناول الطعام، بل تجعله دائم الاشتغال بالأكل، كما تجعل فكره مشغولاً بهذا الأمر.
والأمر الآخر الذي يجب الالتفات إليه هو: أن لاّ يسير الإنسان في الاتجاه المضاد؛ أي لا يتبع برنامجاً غذائياً قاسياً يسبب له مشاكل في المعدة والجهاز الهضمي، أو يؤدي إلى الابتلاء ببعض الأمراض. إنَّ ما شاهدته في طول مصاحبتي للعظماء هو مراعاة الحالات الصحية الخاصة للأفراد، فلم يكن لبرامجهم التي يوصون بها طابع العمومية في أي وقت من الأوقات؛ نعم بالنسبة للأشخاص الذين يتمتعون بنفس المواصفات وهم في سطح واحد كانت برامج عامة وبكيفية واحدة. أمّا الذين يتّبعون نظاماً غذائياً خاصاً، فقد كان المرحوم العلاّمة وبقية العظماء يتعاملون معهم بشكل خاص.
لذا كانوا يوصون ـ وبشكل عام ـ الأشخاص المقتدرين على الصيام، صيام ثلاثة أيام في الشهر، والأشخاص الأكثر اقتداراً على الصيام يومين أو ثلاثة أيام في الأسبوع، أو أن يصوم يوماً ويفطر يوم، أو يفطر يومين ويصوم يوم، مع مراعاة الشروط اللازمة لتحقيق المطلوب؛ فلا يكثر من الأكل في السحور أو الإفطار، بل يجب أن يكون بالمقدار الذي يجعل الصوم يُعطي ثماره، فليس المطلوب مجرد الصوم، فلا فائدة من الصوم الذي يملأ فيه الصائم معدته [في السحور] بحيث لا يحصل له الاشتهاء لتناول الطعام حتّى موقع الإفطار، وإلا فلن يكون لهكذا صوم أي نتيجة أو تأثير يُذكر.
إنَّ السبب الكامن وراء هكذا توصية هو: لكي لا تمنع المشاغل اليومية الشخص من الوصول إلى الهدف المقصود. فلا بدّ من إيجاد فرص بين الفواصل الزمنية تعمل على عدم الابتعاد كثيراً عن الهدف المطلوب.
كان الحديث يدور حول ضرورة تحقق الاشتهاء قبل تناول الطعام، فالمعيار العام للسالك في هذا المجال هو مراعاة مسألة حصول الاشتهاء للطعام، لا أن ينظر لما موجود أمامه ويقدم على تناوله ويشتهيه فإن رأى برتقال فإنه يشتهيه أو رأى تفاحاً فإنه يشتهيه أو رأى المكسرات والحلوى فيحصل عنده الرغبة في تناولها، فإن هذا يجرّ الإنسان إلى تلك الأمور التي هي زائدة عن حاجته الأصليّة، وهذا مما يحرمه من تحقّق أصل القضية التي يجب أن يكون بصدد الوصول إليها.
فخلاصة كلام الإمام الصادق عليه السلام هي: عليك أن تتناول ما هو مفيد لك، ولا تلتفت إلى زخارف الدنيا، فذلك مما يُسبب الحماقة والبَلَه، فهذا هو معنى الحماقة؛ فالحماقة هي إتعاب الفكر، وإذا تعِبَ الفكر، لن يستطيع عندها تلقي الجذبات والنفحات والواردات التي تأتي من الجانب الربوبي. بل يصل الإنسان نهاره بليله، وليله بنهاره بذهنٍ مُتعَب؛ فلا تكون له القابلية على تلقي تلك الجذبات لا في نهاره ولا ليله.

    

تناول العشاء الخفيف في أول الليل يوجب خفة البدن

لذا يجب على الإنسان أن يُتابع المنهج الذي يتبنّاه العظماء في كيفية التغذية في الليل، فلم يكن العظماء يتناولون الأطعمة الدّسمة في المساء، بل طعامهم في الليل كان خفيفاً، ولم يكونوا يتأخّرون في تناول طعامهم إلى وقت متأخر من الليل، وهذا هو عين ما يقوله الآن [المتخصصون في هذا المجال]؛ فهم يقولون بوجوب تناول طعام العشاء بعد الغروب مباشرةً، ويجب أن يكون مقدار الطعام قليلاً، وألاّ يتأخر موعده عن ساعة بعد غروب الشمس. فذلك مما يُسبب الثقل على الجسم، إذ نظام الجسم من ناحية السلامة الصحية في الليل غيره في النهار؛ فلا ينبغي والحال هذه أن يقوم الإنسان بتحميل جسمه ما يفوق الطاقة التي قرّرها الله له في الليل، فلا بدّ من مراعاة هذه المسائل؛ فإن مضى من الليل ساعة، يجب أن يكون قد تناول طعامه، حيث تتم التوصية من قبل [المتخصصين في هذا المجال] هذه الأيام بألاّ تقلَّ الفاصلة الزمنية بين تناول طعام العشاء والنوم عن الثلاث ساعات؛ وذلك لكي لا يحصل تحميل على الجسم بما يزيد عن طاقته، ولكي يستطيع جهاز الهضم من أداء مهامه، فلا يتبدّل ذلك الغذاء إلى سمٍّ يتعب البدن، فلا يجب أن تؤدِّي هذه الحالة إلى تحوّل ذلك الطعام الذي يُفترض أن يكون تناوله بهدف إمداد الجسم بالطاقة والقوة، إلى سمٍّ يتم خزنه في الكبد ويؤدِّي فيما بعد إلى حصول أمراض وحالات لا تُحمد عقباها.
هذا ما كنت أشاهده من سيرة وتصرّف العظماء، وبالخصوص ما كنت أشاهده من المرحوم السيِّد الحدّاد رضوان الله عليه في ذلك الوقت الذي كنت فيه بكربلاء؛ فقد كانوا يجلبون طعام العشاء بعد ساعة ونصف أو ساعتين من الغروب، وكان طعاماً خفيفاً على المعدة، حيث كنّا نتشرّف بعد ذلك بزيارة الحرم، ثم نعود بعدها لننام. كما كان يحصل أحياناً أن يكون تناولنا لطعام العشاء بعد عودتنا من زيارة الحرم، ولكنَّ الطعام كان من النوع سريع الهضم. وكانوا ينامون لمدة ساعتين من الزمان ثم ينهضون ويأخذون بالحديث مع بعضهم، لم يكونوا متثاقلين. فكيف تتصوّر شخصاً قد تناول طعاماً دسماً في الليل؟ هل يستطيع هذا الشخص أن ينهض ثلاث مرات في الليل؟ كيف يمكن له أن يُقسّم صلاته في الليل إلى ثلاثة أقسام.
عندما أذكر هذا الأمر اليوم، فقد يبعث على إثارة التعجّب في نفوس بعض الإخوة، فيتساءلون: إن كان الشخص ينهض ثلاث مرات في الليل، فمتى سينام إذاً؟! فهل يُعدَّ ذلك نوماً؟! ولكن هذا هو واقع الأمر، فقد كانوا يفعلون ذلك، كما أنَّهم أعطوا هكذا برنامج للآخرين. كانوا ينهضون في الليل وينفذّون البرنامج، وكلّما كنت أستيقظ في الليل أجدهم يتحدّثون إلى بعضهم وبنشاط وحيوية! وكأنه لم يكن هنالك ليل، بل كأنَّهم يتحدّثون في النهار، في الساعة العاشرة أو الحادية عشر صباحاً!
وهكذا كانت سيرة الأئمة عليهم السلام، كما جاء في التواريخ، فقد كانوا يتناولون طعام العشاء في أول الليل وبعد غروب الشمس. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله ينهض ثلاث مرات في الليل من فراشه لأداء صلاة الليل، فهل يمكن لشخص يكون قد نام بمعدة ممتلئة بالطعام أن ينهض؟! فحتى لو رنّ جرس المنبّه، لما نهض من فراشه!
يقول المرحوم العلاّمة: جرى الحديث مع أحد العظماء من تلامذة المرحوم القاضي [حول هذا الموضوع]، فقال: يجب أن تنهض قبل الآذان بمدة لا تقل عن الساعتين لأداء صلاة الليل، فقلت: حسناً، سأقوم بضبط المنبّه لهذا الغرض؛ فقال: وهل تحتاج إلى المنبّه للاستيقاظ من النوم؟!
أمّا بالنسبة لنا، فحتّى وإن رنَّ جرس المنبّه فلن نسمعه، وإذا سمعناه فسنضع يدنا عليه لإسكاته، لماذا ذلك؟! لأنَّنا نكون مشتتي الذهن! كيف حصل تشتت الذهن هذا؟ من المعلوم بأنَّ ذلك الذي تناول طعام العشاء الساعة الحادية عشر أو الثانية عشر ليلاً، سيقوم بإسكات تلك الساعة المسكينة، بضربها بقبضة يده! أمّا ذلك الذي يتناول طعام العشاء أول الليل؛ كأن يكون في الساعة السابعة أو الثامنة، ويكون طعامه خفيفاً، فلا يحتاج والحال هذه إلى المنبّه أساساً، بل سينهض من النوم من تلقاء نفسه.

    

حصول الواردات القلبية في الليل والمراقبة في النهار

كلّ تلك الأمور مما كانت تتضمّنها البرامج التي يُعطيها العظماء لتلامذتهم، والتي أصبحت وبشكل تدريجي من الأمور المنسيّة. هذا في الوقت الذي تحصل فيه أغلب الحالات والواردات القلبية للسالك في الليل، لكننا في غفلة عن هذا الأمر، بل نتصوّر بأنَّها تحصل في النهار فقط. فالنهار مخصّص للمراقبة؛ فعلى الإنسان أن يغلق فمه بالنهار ولا يتكلّم بكلّ ما يحلو له، وعليه أن يكون حذراً في النهار لئلا يرتكب معصية من خلال معاشرته للآخرين، وإلاّ فهل يوجد أحد في الليل لكي يحذر الإنسان إيذائه؟ وأيّ شخصٍ يكون متواجداً في ذلك الوقت حتّى يتكلّم معه؟ فالجميع يغطّون في النوم. أمّا في النهار، فعليه أن يتنازل عن بعض حقوقه للآخرين، وإذا ما ظهر تعدٍّ من أحدهم، فعليه أن لا يردّ بالمثل، فجميع هذه الأمور مما يجب مراعاتها في النهار، وعليه أن يكون مراقباً لتصرفاته عند تعامله مع الآخرين. وفي الليل تحصل الواردات القلبية.
لذا يُكرّر العظماء هذه العبارة: استلم بالليل لكي تصرفه في النهار. فما الذي تعنيه هذه الجملة؟ إنَّها تعني: عليك ألاّ تدع تلك الواردات التي تنزل على قلبك، وتلك المعاني التي ترد على ذهنك في الليل تذهب هدراً، بل عليك التفكير بشأنها، وعليك أن تعقد العزم على العمل بموجبها عندما تريد مغادرة المنزل إلى عملك للتعامل مع الآخرين. فهذا ما يُطلق عليه الصرف أو الإنفاق طبقاً لما حصلت عليه في الليل من نفحات أو معانٍ ظهرت لك فيه، فيجب أن يكون تعاملك مع الناس، وطريقة تكلّمك معهم وعلاقتك مع زوجتك وأبنائك مبنيّاً على هذا الأساس، فعندما ترى بأنَّ الله قد تلطّف عليك ورحمك وشملك بعنايته وجعل لك نصيباً من رحماته وألطافه، فعليك ألاّ تتعامل في الغد مع زوجتك وأبنائك بأسلوب فظٍ غليظ، بل عليك أن تتعامل معهم بلطفٍ وودٍ؛ لأنك أصبحت مظهراً للطف الله في هذا المقام، فعليك أن تطبّق ما فهمته في الليل على تعاملك مع زوجتك وأبنائك وخادمك وشريكك وزميلك في العمل، سواءً كان ذلك في الشارع أو المدرسة أو المستشفى أو مكتبك أو محل عملك.
فلا تقُل: إنَّ الذي حصل قد حصل في الليل، أمّا الآن فأستطيع أن أفعل ما يحلو لي! كلاّ! فالليل والنهار شيء واحد؛ فإن [استثمرت ما حصلت عليه في الليل] وعملت بموجبه، فسيتكرر لك الأمر في الليلة القادمة. فالمراقبة في النهار تبعث على ورود الواردات والنفحات في الليل الذي يليه. أما إذا انعدمت المراقبة في النهار، فلن يجني السالك أيّة نتيجةٍ في الليل؛ وإن اجتهد ما اجتهد، فحتى لو صلّى في تلك الليلة مائة ركعة، فلن يكون لها أيّة فائدة! لماذا؟ لأنَّ باب قلبه كان مُغلقاً في النهار، وما دام باب القلب مُغلقاً، فكيف ستدخل تلك الواردات؟ ما دام باب القلب قد أُغلق بواسطة تلك الجناية التي ارتكبها، أو ذلك الكلام الذي صدر منه، أو تلك القضية التي تسببت في إيذاء الغير، أو ذلك الكلام الذي بعث على تكدّر خاطر الشخص المقابل، وما دام ذلك القلب قد تكدَّر، فسيتكدَّر قلب المسبِب تبعاً لذلك.. فكيف يمكن والحال هذه أن يفتح باب ذلك القلب؟ كيف تفتحه إذاً؟
لا فائدة تُجنى في تلك الليلة التي تنام فيها وباب قلبك مسدود، بل سيتأجل الأمر إلى الليلة القادمة، فهذه الليلة قد مضت على كل حال. هذه القضايا مرتبطة بعضها مع البعض الآخر، وهي تعمل عمل الأواني المستطرقة؛ فإن سكبت الماء في إحداها، فسيصعد الماء في الأخرى، ولن يبقى مقتصراً على هذا الإناء بالذات، فالأواني المستطرقة مرتبطة مع بعضها البعض الآخر.[3] فإن قمت بعمل يؤدِّي إلى إيذاء قلب شخص ما، فاعلم بأنَّ ذلك سيعمل على تكدّر قلبك أنت أيضاً، وإن أطلقت كلاماً تكون له تبعات على شخص آخر، فسيتأثر قلبك لذلك ما دام هناك أثر في قلب ذلك الشخص، فعندما يتكلّم الإنسان بكلام ما، فسوف تكون التبعات المترتبة على ذلك الكلام خارجة عن سيطرته، لذا عليه ألاّ يتكلّم بهكذا كلام منذ البداية، وألاّ يفتح عليه هكذا باب، أمّا إذا أطلق ذلك الكلام، فسوف يصل كلامه إلى أذن شخص آخر، ومنه إلى ثالث ورابع وهكذا سينتشر الكلام، علماً بأنَّ الناس مختلفون عن بعضهم البعض الآخر في سعة الصدر والسعة الوجودية، وفي القدرة على التغاضي والتسامح، لذا سوف يبقى تأثير ذلك الكلام في نفس الشخص المقابل، والله هو الذي يعلم متّى سيخرج ذلك من قلبه، فما دام تأثير هذا الكلام باقٍ في نفس ذلك الشخص، فسيترك أثره في قلب الذي أطلق ذلك الكلام أيضاً. فكان الأحرى بك ألاّ تتكلّم بهكذا كلام منذ البداية وتريح نفسك. [بدلاً من أن تبقى مشغول البال وتلوم نفسك وتقول] لماذا تكلّمت بهذا الكلام؟ فيا لها من مصيبة! ثم تبقى تتابع هذا الأمر، هل وصل الكلام إلى مسامع ذلك الشخص أم لا؟
كان عليك ألاّ تتكلّم به منذ البداية! فلِم كلّ هذا التأكيد على أمر المراقبة؟ ولماذا يُقال: عليك أن تُفكّر في كلامك قبل إطلاقه؟ لأي شيء قالوا ذلك؟

    

ضرورة الاستعداد للأشهر الثلاثة قبل حلولها

شهر رجب على الأبواب، وكما قلت لكم في المجلس السابق، وكما كان العظماء يقولون: على الإنسان أن يقوم بتهيئة نفسه قبل حلول هذا الشهر، لا أن ينتظر حلول الشهر ليقول: عليّ أن أنتبه وأكون يقظاً؛ بل عليه أن يهيئ نفسه قبل ذلك؛ ليكون في حال انتظار قدوم تلك الأشهر المباركة؛ رجب وشعبان ورمضان، والتي يؤكّد عليها العظماء كثيراً، وإذا ما قام الإنسان بتهيئة الأرضية اللازمة، فسيتمكن من استقبال تلك النفحات والواردات، وسيتمكن من إدراك المعاني التي ستُلقى عليه.
كنت أحضر جلسة عصر الجمعة وكان فيها المرحوم العلاّمة، وحصل ورود حال معنوي بشكل ملحوظ، وكان حال الأفراد الحاضرين للجلسة متفاوتاً؛ ففِكر البعض منهم كان مشغولاً ببيته، والآخر بعمله، وهكذا كان كلّ منهم مشغولاً بعالمه، وعند عودتنا إلى المنزل، لم يُصرِّح المرحوم العلاّمة، لكنَّه أشار إلى أنَّه يجري التقدير على أن يكون للحاضرين في الجلسة نصيب من حالٍ معنويٍ معين، غير أنَّه لا يستفيد من ذلك الحال سوى شخصين.. ومن المعلوم كيف كان وضع هذين الشخصين.
فعلى الرغم من أنَّ جميع الحاضرين للجلسة كانوا يستمعون للحديث، وكان البعض منهم ينظر إلى المرحوم العلاّمة، وآخرون مطرقون برؤوسهم، إلاّ أنَّ كلاً منهم كان في عالمه الخاص به.
كنت حاضراً في إحدى الجلسات التي أُقيمت في بيت أحد الأشخاص، وكان المرحوم العلاّمة يتحدّث في تلك الجلسة، ودار حديثه حول موضوع اجتماعي، وكان جميع الحضور ـ إلاّ ما شذَّ وندر منهم ـ يريدون أن يأتي كلام المرحوم العلاّمة متطابقاً مع ما يهوون ويحبون، لقد كان ذلك واضحاً في سيماء وجوههم عندما كنت أنظر إليهم واحداً واحداً، كانوا ينتظرون بأن يأتي الكلام على ما يصبُّ في مصالحهم، أو أنَّهم كانوا يحذرون [بأن يتكلّم بما يمسّ مصالحهم]. لم تعد تلك جلسة إذاً، كان هنالك القليل ممن يكون اهتمامه مركّزاً على ما سيطرحه المرحوم العلاّمة! وإلاّ فالكثير منهم كان يؤوّل الكلام لمصلحته، فتراه يقول للآخرين: أرأيتم كيف كان كلامي هو الصحيح! وها هو كلام السيِّد العلاّمة جاء مؤيّداً لما ذهبتُ إليه؟ وكنت أُلاحظ بعض الأشخاص، وبعد انتهاء الجلسة كانوا ينقلون الكلام الذي سمعوه من المرحوم العلاّمة بشكل مغاير تماماً لذلك الذي طرحه هو. يقولون: أرأيت كيف قال هذا الشيء؟ لكني سمعت نفس ذلك الكلام منه، فكيف لم أستنتج منه ما استنتجته أنت؟ وكيف لم يخطر بذهني الأمر الذي تقوله؟!
ما سبب هذا؟ سببه يعود إلى انعدام الاستعداد الذهني لتلقي المطالب! فالموضوع يُطرح عن طريق لسان وليّ الله، ولكن لعدم وجود الاستعداد الذهني، لا يستطيع ذلك الشخص تلقي هذا الأمر، بل سيتجاوزه ذلك المطلب ويعبر عنه، بل سيفهم منه خلاف المراد! ويقول: أرأيت كيف أنَّ كلامه كان لصالحي؟
ما الذي يعنيه هذا الكلام؟ لقد تكلّم فلان لصالحي! دع عنك الـ "أنا" يا عزيزي! فإن تركت الـ "أنا" فلن يبقَ عندها مصلحتي أو مصلحتك، بل سيكون كلاماً واحداً مطلقاً. نعم سيكون ذلك الكلام مفيداً لك عندما تتخلّى عن هذه الـ "أنا"، فعندها سيكون ذلك الكلام في صالحك؛ عند ذلك سيترك كلام وليّ الله الأثر الذي يجب أن يتركه. فإن تكلم ولي الله لثلاث ساعات، لا لنصف ساعة فقط، فسيكون تفكيرك مركزاً على هذا الأمر وهو: كيف سيكون كلامه داعماً لما تتبنّاه أنت. وعندئذٍ لا فائدة من هكذا نهج، ولا يعتبر ذلك من الاستعداد، فإن استقبل الإنسان شهر رجب وشعبان بهكذا نوع من الاستعداد، فلن يكون فرق بين هذه الأشهر وغيرها من الأشهر.
الاستعداد هو أن يضع الإنسان قلبه على كفه عندما يريد الورود في هذه الأشهر، ويقول: إلهي هذا قلبي بين يديك، فألقِ فيه ما تشاء! وصبَّ فيه ما تريد، صبَّ فيه ما تراه خيراً لي، لا ما أراه أنا لنفسي! فإن كان الشيء الذي أريده أنا فيه الخير والمصلحة وكان مفيداً لي، ولم يكن موجباً لسدّ طريقي.. فأعطني إياه، وسيُعطيك الله ذلك، فالله ليس بخيلاً، فلو كان لدينا سوء ظنٍّ بالله، لما نظر الله إلينا!

    

ضرورة الاتعاظ والاعتبار بمشاكل الآخرين

أسمع البعض يقولون: يحصل لنا حالة من اليأس في بعض الأحيان، فلقد كان فلان من الناس من أصدقائنا، وإذا به يذهب إلى مكان آخر! أو أنَّ فلاناً قضى كلّ تلك السنين لدى المرحوم العلاّمة، وإذا به.. فمن غير المعلوم ألاّ نُبتلى نحن بنفس ما ابتُلوا به من آفات وعاهات! ما الذي يضمن لنا ذلك؟!
ألا يُعتبر هذا استخفافاً بعناية الله وكرمه؟ فهل أنت نفس ذلك الشخص الذي ابتُلي بهذا البلاء؟! فإذا انتشر مرض وبائي بين الناس، لماذا لا تقول دعني أمرض كما مرِض الناس؟! بل تُسارع إلى أخذ لقاح ضد ذلك المرض، لماذا لا تقول عندها: ها قد أُصيب جاري بالمرض ومات، كما أُصيب جاري الآخر كذلك، فليحصل ما يحصل! هل كنت ستفعل ذلك؟! أم أنَّك ستضع قدح الماء الذي بيدك على الأرض وتُسارع إلى التلقيح ضد المرض، أو أخذ العلاج المضاد له. فلماذا لا تنطق بذلك الكلام في هكذا مورد؟ ولماذا لا تقول عند خروجك من منزلك إلى محل العمل: بأنَّ فلاناً قد ذهب هذا اليوم إلى السوق وخسِر، فلن أذهب أنا! أكنت ستفعل ذلك؟! أم أنك ستقول لأذهب إلى عملي، فهو الذي خسِر، فما علاقتي أنا بهذا الموضوع؟
ما هو مصدر هذه الأمور؟ إنَّها من وساوس الشيطان، فالشيطان واقف متربّص، في هكذا موارد لا ينتظر الإنسان الأمر من الشيطان ليقول له اذهب أو لا تذهب! بل عندما يشعر الإنسان بضرورة التلقيح ضد المرض، فلن ينتظر الإذن بذلك من جبرائيل ولا من غيره، ولن ينتظر أمراً يأتيه في المنام، ولن ينتظر أمر ولي الله له: اذهب وقم بالتلقيح ضد المرض! فلماذا لا تسأل ولي الله، أو لماذا لا تنتظر ما سيُلقى عليك في المنام أو ما سيأمرك به جبرائيل وميكائيل وعزرائيل، في مثل هذه الأحوال؟
لأنَّك تجد بنفسك ضرورة هذا الأمر، فلا يسمح لك ذلك بالتأخير وانتظار الأمر من جهة ما. ولكنَّنا، ولعدم امتلاكنا الأيمان بعد، ولكوننا لا نريد أن نؤمن بالله وبهذا المسير، يحصل لنا اليأس، ثم تأتي تلك الحالات التي شاهدناها من الآخرين لتساعد حال اليأس الذي نحن عليه، فترانا نتشبث بهذه المواقف ونقول: كان لفلان من الناس حالات معنوية، وإذا به يترك هذا الطريق!
إن كان فلان قد ذهب، فليذهب، فأنت لست بفلان، فهويتك الشخصية تختلف عنه؛ كما أنَّ اسمك واسم عائلتك واسم أبيك وأمك يختلفون عما هو عليه.
إن كنت قد تسلقت جبلاً برفقة شخص آخر، وقام هذا الشخص بإلقاء نفسه من أعلى الجبل، هل كنت ستلقي بنفسك من الجبل أيضاً؟ أم كنت ستصف هذا الشخص بأنَّه مجنون؟ وتقول لماذا أُلقي بنفسي، فأنا لست مجنوناً؟ وبما أنك أدركت أهمية الأمر، فأنت تقول هنا بأنَّه مجنون، ولماذا أكون مثله؟ فهذه القضية تشبه تلك، بل هي نفس القضية.
عندما يُشاهد الإنسان هكذا حالات، فلماذا تجلب اهتمامه؟ لماذا لا تجلب اهتمامه تلك البشارة التي بَشّر بها الأولياء، وذلك الوعد الذي وعد به العظماء؟ لماذا لا ينصبّ اهتمام الإنسان على موضوع حركتهم ووصولهم ودعوتهم للآخرين لطيّ هذا الطريق؟ أكانوا يهدفون إلى إلهاء وإشغال الآخرين بدعوتهم تلك؟ ما الذي سيجنونه من ذلك؟ ما الذي جناه المرحوم العلاّمة من تأليف كتاب الروح المجرّد؟
قلت للمرحوم العلاّمة يوماً: لقد سمّيتُ كتابكم هذا "لائحة السلوك"، فضحك وقال: هذا الاسم ليس بعيداً عما يتضمّنه الكتاب! لنرى ما الذي جناه المرحوم العلاّمة من تأليفه لهذا الكتاب في واقع الحال؟ وما الفائدة التي عادت عليه من ذلك؟ لقد كان له أستاذ، وكان يطوي الطريق تحت إشراف أستاذه، وقد وصل إلى مقصده وهو مستمر في عروجه، لقد ألّف هذا الكتاب قبل وفاته بثلاث سنوات لي ولكم، أتلاحظون؟ كان يريد أن يقول لنا: لقد ذهبنا ووصلنا، فتفضلوا خذوا هذا الكتاب، ستجدون فيه ما تحتاجون من برنامج وتعليمات؛ فلا تقولوا يوم القيامة بأنَّني لم أدلّكم على الطريق! ولا تقولوا بأنَّني أكلت من تلك المائدة وحدي! ولا تقولوا: لقد حرمتنا من تلك المائدة! فقد مددت هذه المائدة للجميع.
ما دام الأمر كذلك، فلا ينبغي للإنسان أن يدع اليأس يستولي عليه، ويقطع أمله من رحمة الله. بل عليه أن يعلم بأنَّ رحمة الله هي الغالبة، وأنها وسعت كلّ شيء، غير أنَّنا نسدُّ الطريق على أنفسنا بأيدينا، فعندما يطرق سمعك أمر ما، فبدلاً من أن تؤمن به وتتقبّله، تذهب إلى فلان وتقول له وبشكل ما بأنَّ هذه القضية كاذبة لا صحة لها! فأنت بعملك هذا تقوم بسدّ الطريق على نفسك بنفسك. فلا تقل والحال هذه: إنَّ فلاناً كان تلميذاً عند المرحوم العلاّمة كلّ تلك المدة ثم [ترك]، وفلان كان هكذا ثم حصل له ما حصل! فأنت بعملك هذا تسدَّ طريقك بيدك وبلسانك وبطريقة تفكيرك تلك. إن كان وضع فلان قد انتهى إلى هذا الحال، فقد قيل لفلان في ذلك الوقت نفس هذا الكلام، ولم يعتنِ به، ولو كان قد اعتنى به وأخذه مأخذ الجد، لما وصل حاله إلى ما وصل إليه؟ فأيّ شكوىً، وأيّ يأسٍ، وأي قطع أملٍ، وأيّ حرمانٍ، وأيّ فقرٍ ومسكنةٍ تلك التي يُبتلى بها الإنسان؟ ثم يلقي اللوم والتقصير على الله والملائكة وعالم المدبرات، ويقول: لقد آل مصير فلان إلى ذلك الحال، ولعلي سأكون مثله!
إنَّ ما حصل لم يحصل عن طريق الصدفة، فلماذا تُحمِّل الله السبب في ذلك؟ فقد قيل لك لا ترتكب معصية، ولكنَّك ارتكبت تلك الجناية؛ فلا بدّ لك من أن تحصد نتيجتها! فلماذا تُلقي باللوم على الله والملائكة؟ لقد قيل لك: لا تفعل ذلك العمل!
استشارني أحد الأشخاص بقضية، فقلت له: لا أراها في صالحك، ولدّي قلق من هذه الناحية! فلم يستمع إلى النصيحة، وحصل له بلاء. ثم جاءني وقال: لقد قمت بذلك العمل، وحصل كذا، فما العمل الآن؟ قلت له: ليس لدي ما أقوله، فلقد عملتَ على اقتلاع عينك من محلّها وعميت، فما الذي أستطيع فعله والحال هذه، فأنا لا أستطيع أن أعيدها إلى مكانها، وقد قلت لك منذ البداية: لا تفعل ذلك! لا شك بأنَّ الله سيفتح أبواب أخرى، ولكن كان عليك ألاّ تفعل ذلك من البداية. فليس الأمر بالشكل الذي يمكن للإنسان أن يفعل ما يحلو له، ثم يتوقع بعدها أن لا يبتلى بشيء، بل تبقى أموره على ما هي عليه؛ كلاّ، لا يكون الأمر على هذه الشاكلة، بل سيترتّب على ما يفعله المرء تبعات أخرى قد لا تزول إلاّ بصعوبة، فقد جعل الله لهذا العالم نظاماً دقيقاً يسير بموجبه، فلا عشوائية في هذا العالم. نعم، لو قيل لك افعل هذا الأمر، وفعلته ثم ابتليت ببلاء جرّاء ذلك، فلك حينئذٍ أن تعتب وتقول: لقد فعلت ما قيل لي وابتليت بهذا البلاء.

    

المراقبة أساس السلوك والأولياء وصلوا بها

على الإنسان أن يكون مُراقباً لنفسه ويقظاً، وعاملاً بما أوصى به العظماء، وعندها سينال النتيجة المتوخاة، فلا تختلف كريات دم أولئك الذين طووا هذا الطريق ووصلوا إلى المقصد عن غيرهم من الناس، بل هي واحدة عند الجميع، فقد كان هؤلاء الأشخاص أشخاصاً عاديين كبقية الناس، فلا تتصوّروا بأنَّهم لم يكونوا يخطؤون في حياتهم أبداً، كلا بل كانوا يخطؤون. ولقد نقلت في أحد المجالس السابقة حكاية عن المرحوم السيِّد الحدّاد رضوان الله عليه. وما الضير في ذلك؟ فهو من البشر، والبشر قابل للخطأ؛ فهو يخطأ ما دام ناقصاً، ثم يتبدّل نقصه بالكمال تدريجياً، حتّى يصل إلى الكمال. وهذا هو حال الجميع، فهل يُفترض بالجميع أن يكونوا كالمعصومين الأربعة عشر منذ بداية أمرهم؟ وهل يُفترض أن يكون الأولياء جزء من الأربعة عشر المعصومين من الأول؟ كلاّ، فالمعصومون هم أربعة عشر لا غير. أمّا الآخرون فهم من الأفراد العاديين، عندما يخطؤون، كانوا يُعاقبون على خطإهم؛ وعندما يسيرون بشكل صحيح، كانوا يجنون ثمار عملهم. كان المرحوم العلاّمة الطباطبائي يقول: كلّما كانت مراقبتي في النهار شديدة، كانت مشاهداتي في الليل أكثر تجرّداً ونورانيةً. وهذا الأمر ينطبق على الجميع، فكلّنا على هذا المنوال.
فإن ارتكبنا في يوم من الأيام معصية، أو أخطأنا خطأً، أو قمنا بعمل ما كان ينبغي القيام به، فسيترك كلّ ذلك أثره علينا؛ فلماذا نتكلّم بما لا يجب التكلّم به؟ ولماذا نتفوّه بذلك الكلام الذي إذا ما وصل إلى مسامع الشخص المعني فسوف يكون له ردة فعل مضادة عليه؟ فلماذا نتفوّه بهذا الكلام؟ ولماذا نقوم بذلك العمل؟
وهكذا كان العظماء، كانوا يقومون بمراقبة أفعالهم وتصرفاتهم، كما نفعل نحن الآن. كانت لهم نفوس، فالنفس تقول هذا الشيء أحياناً، وذلك الشيء في أحيان أخرى. وكانوا يغضّون النظر ويتجاوزون عن بعض الأمور في حياتهم اليومية، فالقضايا التي ذكرها المرحوم العلاّمة في كتابه والمتعلّقة بتلك المسائل التي حصلت في طهران بعد ارتحال والده، وما قام به من إغماض وعفو، فكلّ تلك القضايا قد ذكرها لنا لنستفيد منها نحن ونتّعظ بها، فقد قام بكلّ تلك الأعمال وترقّى تدريجياً، وتبدّل طرز تفكيره خلال تلك السنوات، فليس الأمر بالشكل الذي يكون فيه طرز تفكيره عندما كان في الخامسة عشر من عمره هو نفسه عندما كان عمره سبعين سنةً أو عندما فارق الحياة، كلاّ، فطريقة تفكير الإنسان تتغيّر ألف مرة، وتصبح أكثر نضجاً؛ فألف تغيّر يطرأ على الإنسان قبل وصوله لمرحلة الكمال، هذه هي القاعدة.
نحن لسنا بالمعصومين الأربعة عشر، فلأولئك حسابهم ومسائلهم الخاصة بهم، بل نحن أشخاص عاديون، فإن عملنا وفقاً للبرامج التي بين أيدينا بشكل كامل، فسوف ننال الدرجة الفعلية اللاحقة، وإلاّ سنفقد تلك الفعلية، فإن كان مقرراً لنا استقبال واردة قلبية معينة، فسيحول تقاعسنا عن العمل دون ورودها، فهذه قاعدة لا تقبل التخلّف. نسأل الله أن يمنَّ علينا بالتوفيق لإدراك الأسس والمبادئ التي يتبنّاها العظماء، والعمل بموجبها، إن شاء الله.

    

إنصاف الناس من جملة المراقبة

تذكرت الآن هذه القضية؛ لقد ارتكب أحد الأشخاص في سابق الأيام ذنباً، وجرت مؤاخذته على ذلك العمل، فالتفت إليّ عندما التقيت به في مجلس قائلاً: أنت على علم بالموضوع، فهل كان الأمر على هذه الكيفية المذكورة؟ فتأملت ورأيت أنَّ جزءً مما حصل في تلك القضية لم يكن من تقصيره، فصحيح هو مقصّر ومخطئ في استمرارية ذلك الأمر، ولقد أحاط به ذنبه، ولكنَّه لا يتحمّل الجزء الآخر مما حصل. فقلت يجب أن أقول هنا بأنَّه ليس لهذا الشخص تقصير فيما يتعلّق بثلث ما جرى أو ربعه، أما ما تبقّى، فنعم. ثم فكرّت في نفسي، فقلت: إن قلت هذا الكلام، فربما سيقلّ الأثر المترتب على ارتكاب تلك الجناية ـ إنَّ هذه القضية تعود إلى ما يقرب من عشرين سنة ـ ثم راجعت نفسي فقلت: ليكن ما يكن، فأمر زيادة ذلك الأثر أو نقصانه لا يعنيني بشيء، بل عليّ أن أقدّم شهادتي الآن فيما يخص هذا الجزء من القضية الواقعة؛ فأقول بأنَّ هذا الشخص غير مقصر بالنسبة لهذا الجزء من القضية، أمَّا ما سواه، فهو يعلم ذلك، فقلت: أشهد بأنَّه لم يكن مُقصراً فيما يتعلق بهذا الجزء من القضية، ولقد كنت على علم بهذا الموضوع، فلم يكن الأمر على هذه الصورة؛ وهذا ما أدّى إلى التقليل من حدّة ذلك الأمر.
فليقلَّ إذاً! فذلك ليس من شأني، فأنا لا استطيع أن أتجاوز الحق، لا أستطيع أن أسمح بتحطيم ذلك الشخص وسحقه؛ لمجرد ارتكابه ذنباً. وعندما قدّمت هذه الشهادة، تبدّل الجوّ بصورة أساسية؛ كما تبدّلت نظرة ذلك الشخص لي، حيث كان موقفه تجاهي سلبياً، وكان لا بدّ لي من قول الحق، وإن كان لصالح شخص أنا مختلف معه، فلا بدَّ للإنسان من أن يقول الحق.
ما هو معنى المراقبة؟ هذا هو معنى المراقبة، فلو لم أشهد تلك الليلة بما أعلم، وقلت دعه وشأنه، أو قلت لا أعلم أو نسيت، لكنت كأنس بن مالك عندما قال له أمير المؤمنين: ألم تكن موجوداً حينها؟ قال: كبرت سنّي ونسيت يا علي، فلا أتذكّر! فقال له أمير المؤمنين: أنت لا تتذكّر؟! يا لك من كاذب، لم يقل ذلك أمير المؤمنين، بل أنا الذي أقول هذا، لقد قال له شيئاً آخر، وأنا بدوري أضيف عليه هذه العبارة، فأنا أستأذن أمير المؤمنين هنا لأقول لهذا الرجل: بدلاً من أن تدافع عن الحق، تأتي هنا وبكل وقاحة وعدم حياء لتقول غلبت عليّ الشيخوخة. فقال له أمير المؤمنين: فما دمت قد كبرت وها أنت الآن تكذب، فلتعمى عينيك، وليسلطنَّ الله عليك البرص بحيث لا تستطيع تغطيته.[4]
فلو كنتُ قلتُ هذا الكلام في ذلك المجلس، بأنهم ما داموا يريدون أن يوبّخوه فدعهم يوبّخوه، ولألزم الصمت! أو أنَّني قلت: أنا لا أتذكر شيئاً من هذا الذي تقول.
إنَّ ما أطرحه هو نموذج مما يجري علينا، وإلاّ فحياتنا اليومية من الصباح حتّى المساء هي هكذا؛ لذا نقول يجب أن يكون الشخص مُراقباً لحاله من الصباح إلى المساء.
كتبت في أحد الكتب التي ألفتها بأنَّ هذا النوع من الجنايات والفجائع قد ارتكب بعد وفاة المرحوم العلاّمة، فيأتي شخص ليقول بأنَّ كل ما كُتب هناك هو كذب محض!
أرني المورد الذي جاء فيه الكذب، أيّها السيِّد؟ فهل إلصاق تهمة الكذب يكون بهذه البساطة؟! وهل يستطيع الإنسان بهذه السهولة أن يقول بأنَّ هذا الكلام هو كلام كاذب؟!
لقد كتبت ذلك لأجلك أيّها المسكين! لكي لا تذهب هباءً تلك الصلاة التي تصليها، ولكي لا تنقلب عليك وبالاً مجالس الوعظ التي تقيمها وأنت تضع العمامة على رأسك! كتبت ذلك لأجلك لكي لا تذهب هدراً تلك السنوات التي قضيتها لدى المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه! وإلاّ فقد مضى ذلك الزمان وانقضى. فإن كان ما كتبت كذباً، [فأنا أتحمل تبعات ذلك الكذب]، وإن كان صدقاً فهو صدق إذاً. أتلاحظون؟
لو أنَّني قلت في ذلك المجلس: لا لم يكن الأمر بهذا الشكل، وأنا لا أتذكر، فما الذي كان سيحصل؟ ستزداد حدّة لوم وتوبيخ ذلك الشخص، ولكن ماذا عنّي؟ من سيكون الخاسر في ذلك؟ الخاسر هو أنا! لا تتصوّروا بأنَّ نظير ذلك لن يحصل، بل قد يحصل ذلك للجميع. فقد حصل لي ذلك الأمر في ذلك اليوم، وفي اليوم التالي والتالي؛ وسيحصل لكم أنتم أيضاً؛ فإن لم يكن قد حصل لحد الآن، فسيحصل لكم في الغد. فلا تتصوَّروا بأنَّ حياتنا تمضي دون أن نتعرض لهكذا امتحانات! كلاّ، بل سيضع الله في طريقنا هكذا اختبارات؛ وهذا هو الذي يعمل على حركة الإنسان ورقيّه.
يبدو بأنَّني كنت قد تحدّثت عن هذا الموضوع في شهر رمضان من السنة السابقة؛ [وقلت في حينها] بأنَّ حركة الإنسان وتقدّمه لا يحصل بدون هذه الفرص! فالذي لا تحصل له هكذا فرصة لكي يتصرّف فيها بخلاف رغبته وهوى نفسه، لا يمكن أن تحصل له الحركة؛ أي: لا بدَّ من توفر هكذا أجواء لغرض الحركة والسير، وستتوفر لنا، بل سيضعونها في برنامجنا ويقولون: لننظر كيف ستتصرّف؟! [فنقول] حسناً، لننظر كيف تكون الأمور! دعنا من هذا الأمر في الوقت الحاضر! ونأخذ بالتردّد والتهرّب من ذلك الموقف، ماذا ستكون النتيجة حينئذٍ؟ ستكون النتيجة عدم النجاح في الامتحان، وسننال صفراً كبيراً يضعون خطي شارحة على طرفيه لكي لا نتمكن من وضع الرقم اثنين على يساره فيصبح العدد عشرين. فها أنت قد فشلت في الامتحان الأول؛ لنرى كيف ستكون نتيجتك في الامتحان الثاني والثالث.
على الإنسان أن يكون حَذِراً ويَقِظاً؛ ليتمكّن من الاستفادة من هذه الفرص التي منحها الله لعبادة، من أجل التقرّب إليه والوصول إلى التجرّد. وبناء على قول المرحوم العلاّمة: على الإنسان أن يكون بانتظار سماع جرس الانطلاق، فيكون متأهباً للانطلاق مباشرة.
هنالك مواضيع تتعلّق بالأشهر الثلاث، رجب وشعبان ورمضان، سأعمل على تذكير الأخوة بشأنها في المجلس القادم إن شاء الله.
نسأل الله أن يوفّقنا جميعاً لكي نتمكن من إدراك مبادئ وقواعد سلوك الطريق، وأن يمنَّ علينا بالتوفيق للعمل بموجبها أكثر فأكثر.
اللهمَّ صلِّ على محمّد وآلِ محمّد


[1] ـ إحدى فقرات حديث عنوان البصري الشريف للإمام الصادق عليه السلام.

[2] ـ سورة الرعد (13)، جزء من الآية 28.

[3] ـ نظرية الأواني المستطرق نظرية معروفة في علم الفيزياء وقد أقيم الدليل على صحتها، وهي تنص على أنك إذا وضعت سائلاً ما في مجموعة أوانٍ متصلة ومتوازية ببعضها ومختلفة في السعة والشكل فإن المستوى العلوي للسائل سيكون متساوي في الأواني جميعها ، على الرغم من اختلافها في الشكل والحجم. هذا بسبب أن الضغط الواقع عليها من أعلى متساوي [المترجم]

[4] ـ جاء في الغدير، ج 1، ص 192: قال أبو محمد ابن قتيبة في المعارف ص 251 : أنس بن مالك كان بوجهه برص وذكر قوم: إن عليا رضي الله عنه سأله عن قول رسول الله: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. فقال: كبرت سني ونسيت، فقال علي: إن كنت كاذبا فضربك الله بيضاء لا تواريها العمامة. [المترجم]

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی