معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 201 إلى الأخير > شرح حديث عنوان البصري ـ الجلسة 218 ـ كيفيّة الاستفادة من الطعام في السير والسلوك

_______________________________________________________________

هو العليم

سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري المحاضرة 218

كيفيّة الاستفادة من الطعام في السير والسلوك

ألقيت في الليلة الثانية من شهر شعبان من عام 1435 هجري قمري بمدينة قمّ المقدّسة

 

 

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلَّى الله على سيِّدنا ونَبيِّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيِّبين الطاهرين واللعنة على أعدائِهم أجمعين

فَقَالَ: أمَّا اللَوَاتِي في الرِّيَاضَةِ: فَإيَّاكَ أنْ تَأكُلَ مَا لا تَشْتَهِيهِ، فَإنَّهُ يُورِثُ الحَمَاقَةَ وَالبَلَهَ. وَلا تَأكُلْ إلاّ عِنْدَ الجُوعِ. وَإذَا أكَلْتَ فَكُلْ حَلالاً وَسَمِّ اللهَ، وَاذْكُرْ حَدِيثَ الرَّسُولِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ: مَا مَلأ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرَّا مِنْ بَطْنِهِ. فَإنْ كَانَ وَلابُدَّ فَثُلْثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلْثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلْثٌ لِنَفَسِهِ.[1]

    

الملاك في التغذية هو الاستفادة من الطعام بنحو يعين على طيّ الطريق من دون إفراط ولا تفريط

يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصري بشأن التغذية: لا تأكل ما لم تكن مُشتهيًا للطعام الذي تريد تناوله، وما لم تحصل لك الرغبة بالأكل. بالطبع، فإنَّ المقصود من الرغبة هنا هي تلك الرغبة الواقعيّة لا الرغبة المجازيّة المتمثّلة بحصول التوق لتناول الطعام لمجرّد وقوع النظر عليه؛ فهذه رغبة مجازيّة. فلا تأكل ما لم تشعر بحاجة جسمك لذلك الطعام، ولغرض سدَّ الجوع، وإلاّ، فإنّ ذلك سيُسبّب لك الحماقة والبَلَه والبلادة؛ فالبَلَه يعني حالة البلادة والغباء. فإن شعرت بالجوع، فكُل، وإن أكلت، فكُل حلالاً وسمِّ الله وَاذْكُرْ حَدِيثَ الرَّسُولِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ: «مَا مَلأ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرَّا مِنْ بَطْنِهِ، فَإنْ كَانَ وَلابُدَّ فَثُلْثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلْثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلْثٌ لِنَفَسِهِ».
لقد تقدَّم الحديث عن هذا الموضوع وشرحت للإخوة تلك الأمور التي يجب على السالك مراعاتها بشأن التغذية؛ وقلت بأنَّ الملاك في موضوع التغذية هو الاستفادة من المأكولات والمشروبات من أجل تحقيق الهدف المرجوّ؛ وهذا هو أحد تلك الأمور المهمّة التي يجب الالتفات إليها، فلا ينبغي السعي لنيل أيّ شيء لمجرّد حصول الرغبة تجاه ذلك الشيء؛ فهذا يؤدِّي بالنتيجة إلى انصراف الذهن والنفس وبشكل تدريجي عن تلك الأمور المعنويّة باتّجاه المسائل الماديّة. وكنت قد قلت للإخوة بأنَّ بعض الأشخاص قاموا بطرح الموضوع بشكل مغاير، فجعلوا من الاشتغال بالمسائل المادّية والطعام وما شابه ذلك هو الأساس الذي يبعث على حركة الإنسان، وهو العامل الذي يُغيِّر حال الإنسان ويعرج به ويُوصله إلى تلك الدرجات العُليا!
لا يوجد شكّ بشأن بطلان هذا المنهج، فلم يصل أيّ أحد إلى مقصده عن طريق المأكولاتِّ [وصرف توجهه إليها]، ولم يتمكّن أحد من صعود سلّم الترقّي بواسطة المشروبات، فالله تعالى هيّأ هذا الوعاء للإنسان لكي يُساعده على الحركة وطيّ الطريق، وكلٌّ من جانبي الإفراط والتفريط مرفوض في هذا المجال؛ فقد يحاول الإنسان عدم الاستفادة من تلك النِعم الإلهية واتّباع الزهد الخارج عن العرف والعقل؛ كما هو الحال مع بعض الأشخاص ذوي المستوى المتدنّي من التفكير، فلو وضعت في جيب أحدهم مليون تومانًا على سبيل المثال، تجده عندما يريد أن يشتري سلعةً ما من المتجر، فإنّه يشتري الأرخص والأوضع؛ فهذا النوع من التصرّف يدلّ على انحطاط مستوى تفكير ذلك الشخص، فما دام الإنسان يمتلك النقود الكافية، فلماذا لا يشتري السلعة الجيّدة؟! نعم، لو كان لا يمتلك المال الكافي لشراء السلعة الجيّدة، فسيكون غير مُلام على ذلك.
كنت قد بيّنت للإخوة منهج العظماء في هذا المجال وقلت: كان العظماء يختارون الشيء الأصلح والأحسن والأكثر معقوليّة؛ فالسلوك بشكل عامّ مبنيٌّ على أساس التعقّل؛ أي أن ينظر الإنسان ما هو حكم العقل؟ وما هو رأيه بشأن كلّ أمر؟ هذا هو معنى السلوك؛ أي متابعة هذا الأمر، فلا ينبغي على الإنسان أن يفرض ذوقه الشخصي ويُجريه على المبادئ الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والحياة اليوميّة الإسلاميّة؛ فترى أحدهم إذا أعجبه أمرًا ما، يلجأ إلى الروايات والدين والتراث لعلّه يجد فيها ما يدعم رأيه؛ وإن كره أمرًا، فهو يبحث في تلك الآثار عسى أن يجد فيها ما يؤيِّد الأمر الذي ذهب إليه؛ فكلّ هذا عبارة عن إبداء وجهات نظر شخصيّة بموجب الذوق الشخصي.
لقد كان منهج الأئمّة عليهم السلام والطريق الذي يسير عليه أهل المعرفة وأولياء الله يبتني على أساس اختيار الأصلح والأحسن؛ ولهذا اختلفت مناهجهم باختلاف الأزمنة والأعصار؛ فتجد بأنّ هذا المنهج يكون بكيفية معيّنة في أحد الأزمنة، بينما يكون بكيفيّة أخرى في زمان آخر، على أنَّ قصّة الإمام الصادق عليه السلام مع سفيان الثوري معروفة. وهكذا الحال مع سائر الأئمّة الأطهار عليهم السلام وسائر العظماء؛ فلقد كانت حالاتهم وأسلوب معيشتهم على هذا النحو.

    

على الإنسان العملُ في كلّ حالة بموجب تكليفه الشرعي والعقلي

ولذا، يجب الانتباه إلى مسألة أنّ الإنسان ـ كما يقول الإمام عليه السلام ـ ينبغي عليه أن يكون من ناحية التغذية في وضعيّة تُساعده على طيّ الطريق الذي يسلكه؛ فعلى سبيل المثال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يصوم هذين الشهرين بأجمعهما: شهر رجب الذي مضى، وشهر شعبان الذي نحن فيه؛ وهكذا كان يفعل العظماء وفقًا للحال الذي كانوا عليه؛ وحينئذ، إن قال شخص: لا بدّ لي من أن أصوم هذين الشهرين وأوصلهما بشهر رمضان ـ على الرغم ممّا يمكن أن يكون لذلك من ضرر وتأثير سلبي عليه ـ فسيكون ذلك ناشئًا من النفس والتلذّذات النفسانيّة، حيث يقول: أنعم به وأكرم! لقد أوصلت هذين الشهرين بشهر رمضان وصمت ثلاثة أشهر! لكن لن يكون لهكذا صيام أيّة فائدة أو نتيجة.
لقد حاولت بدوري أن أُؤدّي دور الصائمين في بداية شهر رجب ـ ولكن شتّان بيني وبينهم ـ فصمت اليوم الأول والثاني؛ وفي اليوم الثالث، نزل عليّ بعض الأصدقاء من الأطباء كنزول الصاعقة من السماء وقالوا: لا ينبغي لك الصوم، فقلت في نفسي: لقد حاولت تمثيل هذا الدور، وإذا بهم يمنعونني! قالوا: عليك تناول السوائل بالشكل الذي ...؛ فقلت: حسنًا، لقد جاء اليوم الذي جعل الله فيه تلك النصائح التي كنت أوجّهها للإخوة من نصيبي هذه المرّة.. تفضّل الآن! فعليك الإفطار، ولا تفكّر بعد ذلك بتمثيل دور الصائمين! حسنًا، على أنّ عدد الأيام التي من الممكن أن يصومها الإنسان يجب أن تكون وفقًا لميزان معيّن.. هل التفتّم؟
فإن قلت: لا يا سيّدي، سأصوم خفية دون أن يعلم أحد بذلك، سوف أقول نعم، [وأفعل ما يحلو لي] فمن يا ترى سوف يعلم بذلك؟! فما إن تفعل ذلك، حتّى يقطع الله الطريق عليك ويقول لك: ألم يكن مقرّرًا أن يكون عملك وفقًا للتكليف المفروض عليك؟ أليس من المقرّر بأن تعمل بموجب التكليف الشرعي والعقلي؟ فلماذا تريد أن تصوم بشكل سريّ هنا؟ إنّ هذه الأمور في غاية الأهميّة، وتحمل بين طيّاتها دقائق وطرائف الطريق، والتي من خلالها يتمكّن الإنسان من معرفة أيّ المسائل هو إلهي، وأيّها نفسانيّ؛ فترى أحدهم يصوم، غير أنَّ صيامه هذا يكون صيامًا نفسانيًّا؛ وتراه يقرأ القرآن، ولكنّ قراءته للقرآن هي قراءة نفسانيّة؛ فعندما يُقال لك: لا تصم، لا ينبغي عليك الصيام.
كان الأطباء قد أبلغوا المرحوم العلاّمة ـ رضوان الله عليه ـ بضرورة عدم الصيام؛ فلم يكن يصوم في السنوات الأخيرة من عمره، غير أنَّه لم يكن يتناول الطعام، بل كان يشرب السوائل فقط. وعندما كان يحين موعد الإفطار، كان يجلس على مائدة الإفطار ويقول: حسنًا، أنا لا أصوم، لكنّني إذا لم أُفطر ولم أتسحّر أيضًا، سأصبح كافرًا مطلقًا! فإن كنت لا أصوم، فعلى الأقل عليّ المشاركة في تناول طعام الإفطار والسحور.
وفي هذه الحالة قد يقول الإنسان: يا للعجب! وكيف يمكن لوليّ إلهي أن لا يصوم في أواخر عمره؟ وما هي حقيقة هذا الأمر؟!
ـ لا، لم يكن يصوم، ولا يُفترض به أن يصوم، بل ومن الذي أوجب عليه الصيام؟
فإن كان الله هو الذي أوجب عليه الصيام، فهو الذي يقول له: لا تصم في هذه الحالة! [يقول الله:] ألست أنا الذي أوجب الصوم؟ فلو كنتَ أنت الذي أوجبته، فلك أن تصوم، ولتصم ما شئت أن تصوم! فلتصم أربعة وعشرين ساعة أو ثمانية وأربعين ساعة ولتصم بالمقدار الذي يحلو لك! وليُصبك ما يصيبك! أمّا عندما أكون أنا الذي فرض الصوم وأوجبه، وأنا الذي أقف وراء هذه المسألة، فعليك أن تعمل وفقًا لرأيي وإرادتي ومشيئتي وضمن حدود أمري ونهيي.
فإن قلتُ اليوم: صم، فعليك أن تقول: سمعًا وطاعةً؛ وإن قلتُ لك في الغد: أفطر، فقل: سمعًا وطاعةً؛ ولا تتصرّف كما تصرّف بعض الناس من أهل المدينة عندما أخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنَّهم سيتحرّكون إلى مكّة ووعدهم بفتحها؛ وبعد ذهابهم، حصل ما حصل وانتهى الأمر بصلح الحديبيّة؛ وعندما أمرهم الرسول بالعودة إلى المدينة، قالوا: ألم تعِدنا بفتح مكّة؟ فقال النبيّ: لقد قلت لكم سنفتح مكّة، ولكن هل قلت لكم بأنَّنا سنفتحها هذا العام؟[2]

    

بعض النكات التربويّة المستفادة من قصّة صُلح الحديبيّة

كان بإمكان النبيّ أن يقول للناس بأنَّنا سوف لن ندخل مكّة هذا العام، فلماذا لم يقل لهم ذلك؟ هل كان بإمكانه أن يقول ذلك، أم لا؟ نعم، كان بإمكانه فعل ذلك، وهو يعلم بهذا الأمر أكثر من غيره، حيث كان يعلم بأنَّهم سيصلون أطراف مكّة، ثم يعودون.. حسنًا، قل لهم ذلك منذ البداية، لكي يرتاح بالهم! قل لهم: ستذهبون حتّى أطراف مكة، ثمّ لن تحصل أيّة حرب، وستُعقد بيننا وبينهم معاهدة صلح، وسنعود إلى المدينة، وسيتمّ فتح مكّة في السنة القادمة وليس في هذه السنة. لو كان النبيّ قد فعل ذلك، فلن يكون لأيٍّ منهم ميزة أو فضل؛ لأنّهم سيكونون على علم بأنَّهم سيقطعون كلّ هذه المسافة، وسوف لن يحصل أيّ شيء، ثم يعودون. وهذا هو السبب الكامن وراء عدم إخبار أولياء الله بتفاصيل القضايا التي يطرحونها؛ فلو أخبروا بها منذ البداية، فلن يعُد لها أيّة فائدة ولن تُثمر الثمرة المطلوبة، حيث سيكون ذلك الشخص عالمًا بحقيقة الأمر وبالنتيجة التي ستؤول إليه... لكنّهم يلتزمون الصمت في هكذا موارد، بل ويتظاهرون بعكس ما يعلمون، فيقولون: اذهب وافعل كذا وكذا، في الوقت الذي يعلمون فيه حقيقة ما سيحصل.
لقد كان المسلمون قد وعدوا عوائلهم بفتح مكّة وتحطيم الأصنام وفعل كذا وكذا، والعودة إلى المدينة بالغنائم من الذهب والأموال التي سيحصلون عليها من كفّار قريش؛ وإذا بهم يرجعون بخفيّ حنين مطأطئين رؤوسهم للأسفل، فيأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحلق رؤوسهم لأجل الخروج من الإحرام والرجوع. فاستجاب بعض المسلمين لأمر النبي؛ [بينما اعترض البعض الآخر قائلين:] إنَّ من يحلق رأسه هو ذلك الذي أدّى مناسك الحج، فكيف نحلق رؤوسنا ونحن لم نحجّ؟ فإن قيل لنا عند عودتنا: «إنَّكم لم تصلوا إلى مكّة، فأين هو فتح مكّة وإخراج قريش منها الذي وعدتم به؟ ومتى قمتم بالطواف والسعي؟ فما معنى حلق الرأس إذًا؟» فبماذا سنجيب الناس؟ هل سنقول لهم: لقد قطعنا كلّ هذه المسافة ورجعنا بخفيّ حنين؟! فكلّ ما قمنا به هو أنَّنا عقدنا معاهدة صلح مع قريش ثمّ عدنا! سلّمنا أنّه ينبغي علينا العودة، لكن لماذا يكون علينا أن نحلق رؤوسنا؟ إذ سيُقال لنا: أنتم لم تصلوا مكّة ولم تقوموا بالطواف والسعي، فما معنى الحلق إذًا؟
انتبهوا جيدًا، فهذه مسائل في غاية الأهميّة! فهنا يُظهر الفقيه حقيقته، وما هو شعوره تجاه تكاليف الأشخاص وتكاليف مقلديه؛ فهل سيتنصّل من مسؤوليته أم سيعمل على أن يضع قدم المقلِّد في نفس ذلك الطريق الذي وضع فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدمه؛ فالتفاوت كبير جدًّا بين هذين الشعورين: بين الشعور الذي يتمّ بموجبه تمرير الأمور بسرعة والعمل على حلّ مشاكل الأفراد بأيّ نحوٍ كان، وبين الشعور القاضي بإراءة ذلك الطريق الذي سلكه رسول الله والأئمّة والأنبياء، والذي يتضمّن سعادة الناس وتترتّب عليه الثمار والنتائج [العظيمة]؛ فلماذا لا يتمّ إرشادهم إلى هذا الطريق؟ وهنا تتبدّل رؤية الإنسان للأمور، وتصبح رؤيته أكثر دقّة، ويتّضح مقدار الأهميّة التي نوليها لهداية الناس ورشدهم وتعاليهم! هذا فيما إن كان [مثل هذا الفقيه] يُدرك هذا الأمر، وأمّا إن كان لا يُدركه، فالمسألة أصعب، وهي خارجة عن محلّ البحث من الأساس.
جاء عدد من الأشخاص إلى رسول الله وقالوا له: كيف نحلق رؤوسنا ونحن لم نحجّ؟! فلم يُجبهم رسول الله بشيء. [فلسان حالهم يقول:] لقد وعدنا نساءنا وأطفالنا وأصدقاءنا بأنَّنا سنفتح مكّة ونُحطّم جميع الأصنام ونؤدّي الطواف والسعي ونعود فاتحين غانمين ونقول لبعضنا: انظروا، ها قد حلقنا رؤوسنا! فنحن الذين قتلنا ودمّرنا [وقضينا] على أبي سفيان وأصحابه وأخرجناهم من مكة؛ وها قد عدنا بهذا الوضع الذي ترونه! لكن ما الذي يعنيه هذا؟ إنَّها النفس! فكلّ هذا الذي يريدونه مربوط بالمسائل النفسانيّة. [فهم يريدون أن يقولوا عند عودتهم:] نحن الذين فعلنا ذلك، وانظروا كيف حلقنا رؤوسنا؛ فنحن من فعل كلّ ذلك وها قد عدنا!
هذا في الوقت الذي يوجد فيه أشخاص يقولون: ما دام رسول الله صلى الله عليه وآله قد أمرنا بالحلق، فسنحلق رؤوسنا؛ ولو كان رسول الله قد أمرنا بالحلق قبل خروجنا من المدينة ، لحلقنا في نفس ذلك الحين.
بينما ترى جمع آخر يكون موقفهم بشكل آخر، فلو أنَّ رسول الله كان قد أمرهم بالحلق والعودة إلى المدينة، لقالوا: كيف يكون ذلك ونحن لم نصل إلى مكّة بعد؟ [فلسان حال رسول الله هنا يقول]: أنا الذي آمركم بالحلق؛ فأنت لا تعلم بأنَّ الآثار المترتّبة على هذا الحلق الذي أمرتُ به ستكون أكبر بمائة مرّة من تلك الآثار المترتّبة على ذهابك إلى مكّة، وأداء مناسك العمرة والحجّ والوقوف في عرفات والمشعر الحرام والذبح ورمي الجمرات والطواف وغيرها، وسيكون هذا التأثير عليك ـ والذي سيعمل على تقريبك من الله وإخراجك من التوغّل في التخيّلات والأوهام والمسائل الاعتبارية ـ أكبر من التأثير المترتّب على ذهابك للحجّ. فذلك الذهاب هو أمر شكلي وظاهري ليس إلاّ، فيُقال عندها بأنَّ هذا الشخص قد ذهب إلى مكّة وأنجز المناسك في عرفات والمشعر وأصبح حاجًّا، وهو يتفاخر بذلك أمام الآخرين! إن كان لهكذا ذهابٍ آثارًا تترتّب عليه، فالسيارة والهودج والحمار والحصان يذهبون إلى جميع الأماكن أيضًا، لكن ما هو مقدار التأثير الذي تركه الحجّ على الإنسان؟ فالكلام هو عن هذا التأثير.
عندما تنظر إلى بعض الأشخاص العائدين من الحجّ، فكأنَّهم أمضوا ذلك الوقت في بيوتهم؛ فأقصى ما فعلوه هو أنّهم استقلّوا إحدى الوسائل النقليّة وقاموا بجولة سياحيّة، بينما ترى آثارًا لا بأس بها في وجوه أشخاص آخرين؛ فكلاهما طوى نفس المسير وكلاهما استقلّ الطائرة في سفره، ووصلا معًا وأحرما معًا؛ ولكن شتّان بين هذا وذاك! ففي أيّ جوٍّ كان يعيش هذا، وفي أيّ حال كان يعيش ذاك!
وخلاصة الأمر، لم يحلق أولئك الأصحاب رؤوسهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: رَحِمَ الله المحَلِّقين؛ وحينما يقول رسول الله: رَحِمَ الله، فإنّ ذلك يعني نزول تلك الرحمة؛ فبمجرد قول الرسول: رَحِمَ الله المحَلِّقين، فقد نزلت الرحمة وحلّت على رؤوس المحَلِّقين، ولم تشمل تلك الرحمة المقصّرين لشعورهم وأظافرهم الذين جاؤوا عند رسول الله وطلبوا منه أن يدعو لهم، ولكن إذا كانت الرحمة لم تنزل، فما الذي يمكن فعله؟! فأعاد رسول الله دعاءه وقال: رَحِمَ الله المحَلِّقين، فلم تشمل تلك الرحمة المقصّرين بعد، بل استقرت على رؤوس المحَلِّقين مرّة أخرى؛ فما الذي يعنيه استقرار هذه الرحمة؟ يعني انفتاح تلك المسائل النفسيّة وانكشاف الواقع وانشراح الصدر وزيادة القرب والعشق وازدياد الرغبة والاهتمام بالطريق الذي يطويه الإنسان، وحصول المزيد من التوفيق الذي سيشمل بعد ذلك حال مثل هؤلاء الأشخاص.. هذه هي الرحمة التي يجلبها رسول الله بدعائه لتستقرّ على رؤوسهم. ثمّ أعاد أولئك الكرّة للمرّة الثالثة، فرأوا أيضًا مقدار الخسارة والشقاوة التي حلّت بهم. حسنًا، اذهب واحلق رأسك يا شقيّ! فما دام رسول الله قد أمرك بالحلق، فاحلق رأسك إذًا! فأنت لم تُطع الرسول، وقمت بالتقصير بدل الحلق، ثمّ تأتي وتُمسك بخناق الرسول لكي يدعو لك! حسنًا، تفضّل على بركة الله!
يوجد هنالك الكثير من الأشخاص ممّن يأتي ويطلب برنامجًا للسلوك، أو يسأل عن أمر معيّن، أوما شاكل ذلك، فأقول له: لقد كتبتُ عن هذه المسألة في الكتاب الفلاني، فخذ ذلك الكتاب واقرأه، فيقول: ألا يمكنك يا سيّدي أن تُشيرعليّ بشيءٍ ما الآن؟
ـ أتريد أن تتلاعب بي؟ بمن تريد أن تتلاعب؟ فإن كنت تريد برنامجًا للسلوك، فها هو حيث قلت لك، وإن كنت تريد أن تتحدّث وتجلس عدّة دقائق لكي تشرب الشاي وما شابه ذلك، فذلك أمر آخر؛ فعندها يمكن الحديث بشكل آخر. وأمّا إن كنت تريد العثور على ما تطلب، فستجده هناك؛ ألست تبحث عن ضالّتك؟ اذهب إلى هناك!
فهذا الشخص لم يحلق واكتفى بالتقصير وها هو يقول: ادع لي يا رسول الله. فعند المرة الثالثة أو الرابعة ـ لا أتذكّر في الثالثة أو الرابعة ـ قال رسول الله: والمقصّرين،[3] لكي يُساعد قلوبهم أيضًا، وتنالهم شيء من الرحمة؛ فهكذا يكون الأمر يا عزيزي، فإن قيل لك: عليك أن تقوم بهذا العمل، فعليك فعله؛ وإن قيل لك: لا تفعل، فلا تفعل، وانتهى الأمر!

    

بعض تعليمات المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه بشأن التغذية

لقد أصدر العظماء تعليمات فيما يتعلّق بالصيام وكيفيّة التغذية، وقاموا بتوضيح هذه المسائل، كما كانت لي إشارات في ضمن كلامي بشأن هذا الموضوع.
فمتى ما أحسستم بأنَّ هناك ثقلاً في أوضاعكم الروحيّة والعباديّة، وأنَّ السبب في ذلك قد يكون عائدًا إلى مسألة التغذية، فيُمكنكم التقليل شيئًا من الطعام حتّى يعود إليكم ذلك النشاط وتلك الخفّة التي كانت لديكم في السابق؛ وقد كان الكثير من العظماء يأمرون تلامذتهم بالإتيان بالأربعينيّات؛ كترك تناول أيّ طعام يكون مصدره حيوانيًّا على سبيل المثال، أو الامتناع عن تناول اللحوم، أو القيام بتناول الطعام على وجبتين أو وجبة واحدة في اليوم؛ نعم، كان هنالك من أمثال هذه البرامج.
ولكنَّني لم أكن أشاهد هكذا تعليمات تصدر عن المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه؛ وإن كان قد أعطى هكذا برنامج لأحد الأشخاص، فلا علم لي بذلك، ولكن بشكل عامّ، فإنّ التعليمات التي كان يعطيها للأشخاص تتمثّل في ضرورة عدم تناول اللحم لأكثر من مرّتين في الأسبوع؛ وليس المراد من تناول اللحم هنا ذلك المقدار القليل من اللحم بالطبع؛ لأنّه لا ضرر في ذلك حتّى وإن تمّ تناوله يوميًا، بل المقصود هو ذلك المقدار المُعتدّ به؛ فتناوله لأكثر من مرّتين في الأسبوع قد يكون له تأثير سلبي على الحالة الروحانيّة للنفس ورقّتها، لا سيّما إن كان ذلك اللحم من اللحوم الحمراء؛ فهو يختلف عن غيره من اللحوم. فكما تمّ الانتباه إلى هذه المسائل من الناحية الظاهريّة والطبيّة، فقد تمّ الاهتمام بها أيضًا من الناحية الروحيّة والسلوكيّة؛ وكأنَّ الموضوعين متلازمان ويسيران في نفس الاتّجاه.
فمن بين المطالب التي تضمّنها كلام الإمام الصادق عليه السلام قوله: حينما تريد أن تأكل فكُلْ حلالاً؛ أي: عليك أن تأخذ بعين الاعتبار أن يكون طعامك محلّلاً، لكن أحيانًا، قد لا يكون الإنسان ملتفتًا لأمر ما، فهذه مسألة أخرى؛ كأن يكون المال مشتبهًا [بالحرام]، وقد رأيت ذلك في سيرة العظماء، حيث يحدث أحيانًا أن يكون المال مشتبهًا، ولا يكون للإنسان اطّلاع على حقيقة الأمر، فيستخدم ذلك المال، ثمّ يقوم بعد ذلك بإعطاء صدقة بمقدار ذلك المال إلى أحد الفقراء أو ما شابه ذلك، فيتخلّص من هذا المحذور. وأمّا إذا كان للإنسان اطّلاع على الأمر، فالواجب عليه اجتناب ذلك المال بشكل كلّي، والتعامل مع المال المشتبه به بهذه الطريقة.
ويجري التأكيد على كيفية تغذية المرأة الحامل على وجه الخصوص، حيث عليها مراعاة الدقّة البالغة في هذا المجال؛ فلا ينبغي لها تناول أيّ طعام كان، ولا التردّد على أيّ مكان؛ لأنّ كلّ هذه المسائل تترك أثرها على الجنين، وقد ورد ذلك في الروايات أيضًا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرضاع، حيث تمّ التأكيد على أن تكون المرضعة امرأة مؤمنة، صالحة، عفيفة، ملتزمة وغير متهتّكة؛ إذ لكلّ هذه الأمور تأثير كبير وجادّ على الحالة الروحيّة للطفل، وعلى السلوك المستقبلي له والميل والشوق الذي سيكون لديه بالنسبة للأمور المختلفة في المستقبل.
ولذا، لا بدَّ من الاهتمام الكبير بهذا الشأن، وبالخصوص في زماننا الحالي حيث ضعف اهتمام أكثر الناس بالمسائل الدينيّة وأصبحوا أناس غير ملتزمين. لقد كان الناس في الأزمنة السابقة أكثر التزامًا، وكانوا يعيرون اهتمامًا لمسائل الحلال والحرام في معاملاتهم التجارية؛ ولكنَّ الوضع قد تبدَّل اليوم، وقلّ اهتمام الناس بهذا الأمر؛ وبالطبع، فإنَّني لا أقول بأنَّ هذا الأمر قد انتفى بالكليّة، ولكنَّه أصبح أقلّ بكثير ممّا كان عليه في السابق؛ فنحن نعيش في برهةٍ زمنيّةٍ سيّئة جدًا، حيث قلَّ اهتمام الناس بهذه الأمور كثيرًا؛ وهذا مما يبعث حقيقةً على القلق.
إذ ضعف ذلك الاهتمام بالمسائل الدينيّة والشرعيّة، وضعُف اعتقاد الناس بالحقائق الدينيّة؛ وفي المقابل، ازداد توجّههم نحو الأمور المادّية بنفس تلك النسبة. حسنًا، فعلى كلّ حال، لا بدَّ للإنسان من مراعاة هذه المسائل، ولا ينبغي له التصرّف بدون مبالاة وبأيّ نحوٍ كان؛ فهذا النحو من الاعتقاد غير صحيح؛ لأنّ كلّ شيء في العالم هو مبني على أساس دقيق؛ ولهذا، نرى الإمام عليه السلام يقول: وكُل حلالاً، فهو عليه السلام يؤكّد على ضرورة مراعاة أن يكون طعام الإنسان من النوع الحلال ومماّ يرتضيه الله؛ ولقد تحدّثت بشأن هذا الموضوع سابقًا.

    

تأثير التسمية وعدمها في ملكوت الطعام، وكذلك حلّيته و عدمها

والأمر الثاني الذي يؤكِّد عليه الإمام عليه السلام في هذه الفقرة من الحديث هو: وسمِّ الله؛ أي حينما تريد أن تتناول الطعام، عليك أن نقول: "بسم الله الرحمن الرحيم"، وهذا أمر دقيق آخر، ويدلّ على أنَّ الإنسان يجب أن يكون متوجِّهًا إلى الله في جميع الأحوال؛ بمعنى أنّه يجب أن يقترن الشروع بتناول الطعام بذكر الله؛ فلماذا ينبغي التسمية عند الذبح أو تناول الطعام؟ وأيّ أثر تتركه هذه التسمية؟ إنَّ ذكر الله يعمل على إخراج ذلك الفعل من حالته المادّية والشهوانيّة والحيوانيّة إلى الحالة الروحانيّة؛ فقد يتصوّر الكثيرون بأنَّ ذكر الله يجري في بعض الأوقات فقط، وأنّ السير والسلوك يتمثّل في قيام الليل وحسب، وذلك بأن ينهض الإنسان في الليل لأداء صلاة الليل، ثم ليفعل في الصباح ما شاء له أن يفعل! أو أنَّ عليه أداء الصلوات الخمسة في أوقاتها وانتهى الأمر.. فهذا هو المقصود من العبادة! أو أن ينشغل بذكر من الأذكار، ثمّ ليحصل ما يحصل! فهذا تصوّر غير صحيح، بل يجب أن تكون حركة السالك مقترنة مع الشعور بحضور الله في جميع الأحوال؛ أي أن يرى السالك الله حاضرًا في جميع الأحوال. فعليه التسمية عندما يريد الذهاب إلى منزل صديقه، وعليه التسمية عندما يريد أن يستقبل شخصًا في منزله، وعليه التسمية عند تناوله للطعام... أي: عليه أن يكون ذاكرًا لله في جميع أحواله، وألاّ يقتصر ذلك على بعض الموارد وبعض الأوقات.
فعندما يقوم الإنسان بالتسمية عند تناول الطعام، سيتّخذ ذلك الطعام شكلاً يُصبح معه مفيدًا له؛ والأمر يختلف كثيرًا عمّا إذا جلس الإنسان على المائدة وبدأ بتناول الطعام من دون تسمية؛ فليس من المعلوم ـ والحال هذه ـ أن يكون هذا الطعام داخلاً في إطار سير الإنسان وحركته؛ وذلك لعدم ذكر الله عليه. وكذلك الحال فيما يخصّ التعليمات الواردة بشأن التسمية عند الذبح؛ فما هو التأثير الذي سيكون لتلك التسمية على ذلك الحيوان؟ فهل هي مجرّد مسألة عادية وأمر ظاهري؟ أم أنَّ ذلك الحيوان سيسمع تلك التسمية، فيحصل له تغيّر في حاله، ويصير مستسلمًا للذبح ويقول: ها أنا أسلك ذلك الطريق الذي خُلقت من أجله؛ فهدفي هو الوصول إلى ذلك المقصد، وها أنا ذا أصل إليه! فيبعث ذلك على حصول حالة السكون والاطمئنان في نفسه وروحه؛ فكم هو التفاوت بين هذه الحالة وحالته فيما إن تمّ ذبحه من دون التسمية! بل حتّى حينما يُريد الإنسان الصيد، فإنّه يؤمر أيضًا بالتسمية عند التصويب؛ فلا تتصوّروا أنّ الحيوان لا يسمع تلك التسمية، بل إنّها تصله في مثاله على الرغم من بُعد المسافة بين الطرفين، فيتأثّر مثاله بتلك التسمية.
ولهذا، فإنّ هذه المسألة مهمّة؛ فتلك التسمية التي يذكرها الشخص ستجعله وذلك الحيوان وذلك الغذاء الذي يريد تناوله في مسير واحد باتّجاه الهدف المقصود؛ فهل تتصوَّر بأنَّ ذلك الأرز أو الخبز أو المرق أو اللبن أو تلك الخضروات لا تُدرك تلك التسمية التي ذكرتها؟ بل تُدركها، حيث يكون لها تأثير في ملكوتها ومثالها.
وهكذا أيضًا حينما يأكل الإنسان من مال مسروق أو مغصوب، حيث يترك ذلك المال أثره عليه؛ فالخبز خبزٌ، والأرز أرزٌ؛ فما هو الفرق بين كونه مغصوبًا أو كونه غير مغصوب ومن مصدر حلال؟ وما الفرق بين الخبز المسروق عن غيره؟ فكلاهما من الحنطة، فلا فرق بينهما [من الناحية الظاهريّة]! بينما تلاحظ فجأةً حصول حالة من الكدورة لديك عند تناولك لنوع من الطعام، في الوقت الذي تحصل لك حالة من الانبساط والنشاط عند تناولك لنوعٍ آخر منه! فكلا الطعامين كانا من الأرز والخضروات وغيرها؛ فلماذا حصل هذا؟ إنَّ ذلك يعود إلى مثال هذا الطعام؛ فكلا الطعامين متشابهان من الناحية الظاهريّة، بل لعلّ الثاني يكون أطيب مذاقًا.. يقول البعض: إنَّ المال المسروق أطيب مذاقًا!! غير أنَّ ذلك التلذّذ الإضافي الذي يحصل عليه الإنسان هنا يجرّه نحو الحيوانيّة والشهوانيّة، ويُقرّبه منهما.
كنت قد قرأت مقالاً في الماضي البعيد عن إحدى الدول الظالمة [والفاسدة]، ويتحدّث هذا المقال عن أحد الأعمال التي يقومون بها هناك؛ ويتمثّل في إطعام مجموعة من جنود القوّات الخاصّة بطعام مسروق فقط؛ وهذا عجيب جدًّا، حيث يبدو أنَّهم أدركوا بدورهم تأثير مثل هذه الأمور؛ فلم يكونوا يطعموهم طعامًا حلالاً، وكانوا يراقبون تأثير هكذا نوع من الطعام على سلوكهم وتصرّفاتهم؛ فكانوا يلاحظون كيف أنَّ حالة هؤلاء الجنود تتبدّل مع تناولهم لهذا الطعام. ولا يخفى أنّ هذا البلد كان من البلدان المسيحيّة، والعجيب أنّهم كانوا يقومون بتدريب الجنود على القيام بتلك الأعمال التي ورد فيها تحذير ونهي في الديانة المسيحيّة؛ كالظلم والجور والغصب والسرقة وأكل لحوم الحيوانات المفترسة.. ويُقال أنَّ ذلك البرنامج قد ترك آثارًا سلبيّة للغاية على كيفيّة تصرّف هؤلاء الجنود، فكانوا ينشؤون ويكبرون وفقًا لما أريد لهم ومن أجل استخدامهم للوصول لبعض الأهداف الخاصّة.. فهذه المسألة تنطبق على نفس ما نتحدّث عنه.
لقد كان التأثير الملكوتي والمثالي لذلك الطعام يترك بصمته السيّئة على الحالة الروحيّة لأولئك الأشخاص، ويعمل على تبديلهم إلى حيوانات مفترسة بعد ستّة أشهر أو سنة من ذلك؛ فتتبدّل بذلك أحوالهم النفسيّة والفكريّة بشكل كامل؛ والعجيب أنّك كنت ترى أحدَهم بالأمس يُساعد المرأة العجوز ويحمل أمتعتها ويوصلها إلى المكان الذي تقصده، وإذا به اليوم يضربها ويُلقي بها جانبًا؛ إنّه نفس الشخص، فما الذي جرى له خلال هذه السنة؟! وكيف تغيّر في مدّة سنة من الزمان؟! فقد كان بالأمس يعطف على الطفل الصغير ويحمله ويُبعده عن مصدر الخطر، وإذا به اليوم يُطلق النار على رأس ذلك الطفل البريء ذي الثلاث سنوات، ممّا يُؤدِّي إلى تناثر مخّه من رأسه، وهو مسرور ومبتهج بما قام به! نعم، يوجد الكثير من هذه النماذج في العالم؛ فتراهم يتلذّذون ويبتهجون بفعل تلك الأعمال التي يشمئزّ منها الإنسان ولا يستطيع تحمّلها، بل ويعتبر أحدُهم مشاهدةَ هذه المناظر من الأمور التي تجلب له أعلى درجات اللذّة؛ على أنَّ [طبيعة الطعام] لا يكون السبب الوحيد في ذلك، بل هنالك أسباب مساعدة أخرى، كالسلوك غير اللائق، والمعاصي والذنوب التي يرتكبها الإنسان؛ فتتعاضد جميع هذه الأمور لتُخرج الإنسان من تلك الفطرة والشاكلة الأولى التي جعله الله عليها، والتي تكون مليئةً بالرحمة والعطف وحبّ الآخرين والعدل ومقارعة الظلم والاشمزاز من الكذب والفساد وحبّ الأمن وأمور [الخير الأخرى]، وتحوّله إلى شخص يستسيغ الكذب والظلم ويأنس بهما؛ فهو لا يبالي من قوله الكذب، وتراه يكذب بشكل علني ومفضوح من دون أن يخجل من ذلك؛ وكأنَّه لم يرتكب أمرًا شائنًا.. فأي نوع من من أنواع الطعام تتناول يا هذا؟! وأيّ الأعمال تقوم بها؟! وما الذي حصل لك بحيث تَبَدّل حالُك ووصل إلى ما وصل إليه الآن؟!
لذا، نرى الإمام الصادق عليه السلام يقول: عليك أن تكون حذرًا من تناول الطعام المشتبه في حِليّته، وعليك أن تُسمِّ الله عند تناول الطعام، وعليك مراعاة هذه المسائل والأمور. لقد أنهيت هذه الليلة الشرح المتعلّق بهذه الفقرة من الحديث، على الرغم من وجود مسائل أخرى [تتعلّق بالموضوع] كنت قد أشرت إلى بعضها في مواضع مختلفة من كلامي، وسيجري الحديث عنها في المستقبل. لقد رأيت أنَّ إطالة الحديث عن هذا الموضوع قد يُصبح مُملاًّ ويمنعنا من الخوض في بقيّة المواضيع؛ وقد عرضت عليكم سيرة العظماء ومنهجهم وما سمعته منهم، أو ما توّصلت إليه شخصيًّا بشأن هذا الموضوع ؛ كما أنّ الأخوة ـ وبحمد الله ـ من أهل المعرفة والخبرة الكافية في هذا المجال، وقد سمعوا الكثير من المطالب حول ذلك؛ وعليه، سنبدأ اعتبارًا من المجلس القادم بشرح الفقرة الأخرى التي يقول فيها الإمام عليه السلام: «وَأَمَّا اللَوَاتِي في الْحِلْمِ: فَمَنْ قَالَ لَكَ: إنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْرًا فَقُلْ: إنْ قُلْتَ عَشْرًا لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً» حيث سنتحدّث عن بعض القضايا الأخلاقيّة والاجتماعيّة ومجموعة من المسائل الأخرى إن شاء الله.

    

شهر شعبان بوّابة للدخول إلى شهر رمضان المبارك

نحن الآن في شهر شعبان، وهو الشهر الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «شعبان شهري»؛[4] كما ورد ذلك في بعض الآثار والأحاديث المنقولة عنه صلى الله عليه وآله. ولهذا الشهر خصوصيّة، وهي أنَّ بهاء وعظمة الفيوضات الإلهيّة تكون مقترنة بنوع من النشاط والسرور والفرح والانبساط؛ وهو ما لم يكن موجودًا في شهر رجب، كما أنّه سيكون في شهر رمضان بشكل آخر؛ لأنّ شهر رمضان هو شهر الرحمة، حيث يستطيع الإنسان أن يلمس هذه المسألة بنفسه، كما يغلب على شهر رجب الجانب التوحيدي. وأمّا بالنسبة لشهر شعبان، ففي نفس الوقت الذي يكون الجانب الروحاني فيه شديدًا، فإنّه يكون مقرونًا بحالة من انبساط الروح وانشراح الصدر والبشاشة؛ ويكون شهر شعبان على هذا النحو لتعلّقه بنفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، حيث نُقل عن بعض العظماء أيضًا حصول هكذا حال لهم في شهر شعبان، إذ كانوا يشعرون بشكل كامل بتعلّق هذا الشهر بنفس رسول الله.
لذا، نجد أنّ جميع الأدعية والمناسبات الواردة في هذا الشهر تنحو نفس هذا المنحى؛ نظير ما نُشاهده في المناجاة الشعبانيّة على سبيل المثال، والتي هي مناجاة عجيبة للغاية؛ فهي ليست تلك المناجاة التي تأخذ الإنسان إلى جوٍّ من الحزن والغمّ، بل تُتيح للإنسان أن يُناجي ربّه ويعرض أحواله عليه و...، وفي نفس الوقت، يشعر بأنّ الأبواب قد فُتحت بوجهه وأنّه حصل على إذن الدخول، أن:
تعال وادخل! لماذا أنت جالس؟ تحرّك من مكانك الذي أنت فيه وتعال؛ فالأبواب مشرعة أمامك، لم كلّ هذا التأخير؟ لم كلّ هذا الكسل؟ لماذا لا تجلس على هذه المائدة وتتناول منها؟
ولهذا، من المهمّ جدًّا بالنسبة للإنسان أن يلتفت إلى أنَّ الله تعالى قد جعل شهر شعبان بوّابةً للورود إلى شهر رمضان؛ وهذا سرٌّ من الأسرار، حيث لم يأت شهر رمضان بعد شهر رجب مباشرة، بل يأتي أوّلاً شهر رجب ليترك آثاره التوحيديّة على الإنسان، ثمّ يحصل له انشراح صدر في هذا الشهر [شهر شعبان]، ومن ثمّ يتمّ الورود في تلك الرحمة الخاصة النازلة في شهر رمضان. إنَّ هذا الترتيب الذي جعله الله هنا يعكس الأطوار المختلفة لظهوره، وكيف أنَّه تعالى يجذب الإنسان ويسحبه من خلال هذه الأشكال المختلفة من الظهور، ويبدّل حاله وأفكاره ورغباته، ويزرع الشوق في نفسه، حيث أنّ الشوق والرغبة الشديدة والاشتياق للحركة نحو الله تعالى يزداد في شهر شعبان؛ وهذا من خصوصيّات هذا الشهر. ولذا، ترى العظماء يؤكِّدون بشكل كبير على المراقبة في هذا الشهر، وكانوا يقولون: عليكم بالمراقبة كثيرًا، إيّاكم وأن تُضيِّعوا شهر شعبان من أيديكم؛ فهو عبارة عن ظهور خاصّ.

    

أهمّية إحياء ليلة النصف من شعبان

ويبدو أنّه بوسعنا القول بأنَّ شهر شعبان هو مقدّمة لتلك الفائدة التي ستُجنى في شهر رمضان، لا سيّما وأنَّ ولادة بقية الله الحجّة بن الحسن الإمام المهدي أرواحنا لتراب مقدمه الفداء كانت في ليلة النصف منه، والتي يُعدّ إحياؤها من الأمور المؤكّدة، حيث لم أشاهد طوال عمري الذي قضّيته مع المرحوم الوالد رضوان الله عليه أنَّه كان ينام في تلك الليلة، وإذا ما أراد أن يأخذ قسطًا من الراحة، فقد كان ينام بمقدار نصف ساعة أو ساعة ليكون مستيقظًا طوال تلك الليلة. كما كان يوصي أصدقاءه بإحيائها، وكان يقرأ دعاء كميل في هذه الليلة بنفسه، حتّى إنّني كنت أستمع إلى صوت قراءته، حيث كان يحفظ هذا الدعاء عن ظهر قلب، وكان يداوم على قراءته في ليالي الجمعة بعد عودته من النجف، لكنّه توقّف عن ذلك بعد بضعة سنوات. ولا زلت أتذكّر، بل وكأنّي أسمع الآن صوته عند قراءته لدعاء كميل في مجلس يضمّ جمع من بعض الخواصّ من أصدقائه الذين كانوا يأتون من هنا وهناك للاجتماع في منزله. نعم، فكم كان صوته عذب عند القراءة، غير أنَّ ممّا يؤسف له هو عدم امتلاكنا لجهاز تسجيلٍ للصوت في ذلك الوقت لنقوم بتسجيل صوته.
وخلاصة الأمر، فإنَّه يمكن الحصول على الكثير في هذه الليلة، وقد سمعت من المرحوم العلاّمة ومن أساتذته بأنَّ هنالك الكثير من الأمور المهمّة في ليلة النصف من شعبان، وأهمّ ما فيها هو أنَّ ظهور الولاية الكليّة الإلهية للإمام الحيّ تحصل في مثل هذه الليلة؛ وبذلك تجري وتسري البركات على جميع العوالم بواسطة نفسه القدسيّة.
ولذا، من المناسب أن يقوم الإخوة بإحياء ليلة النصف من شعبان في منازلهم إمّا بشكل منفرد أو على شكل جماعات مكوّنة من شخصين أو ثلاثة أو أكثر، فلا بأس في ذلك. ونحن نترقّب منهم بأن يأتوننا بأخبار ما سيحصلون عليه؛ فلا يجدر بهم الذهاب خفية وعلى حدّ قولهم: لقد شرب كأس الخمر ومسح فمه وكأنَّ أمرًا لم يحصل!
عندما كان رسول الله صلى الله عليه وآله يأتي إلى المسجد في الصباح، كان يقول: «أيّكم يأتيني بالمبشّرات»؛ أي: إن حصلت لأحدكم واردة قلبية أو قضيّة معينة أو شهود أمرٍ ما أو انكشاف مطلب معيّن عند قيامه في الليل للتهجّد، فليبيّنه لنا.
وحاصل الأمر أنّ هذه الليلة هي ليلة غاية في الأهميّة، وعلى الإنسان اغتنامها وعدم تضييعها بالكلام العادي والأمور المتعارفة؛ فإن حصل حديث، فلا بأس بذلك، ولكن ليكن الحديث في إطار هذه المسائل؛ لأنّ الحديث العادي ـ كحصول هزّة أرضية في مكان ما أو حرب أو صلح في مكان آخر ـ لا يُفيدنا في شيء؛ فلقد سمعنا عن مثل هذه الأمور، وجرّبناها بأنفسنا، وقضينا فيها مدّة من العمر، ورأينا حاصل ذلك.. لا يا عزيزي! عليك أن تسلك ذلك الطريق الذي سلكه القاصدون للحقيقة، وأمّا تلك الأمور، فلا توصل الإنسان لأيّ مكان، كما لا حدّ ولا نهاية لها؛ وهي دائمًا تجري على هذا المنوال. فالذي يصرف وقته ـ من أمثالي ـ في تتبّع هذه الأمور يكون قد خُدِع، وأمّا إذا كان الإنسان يريد أن يكسب في عمره شيئًا، فعليه سلوك طريق آخر، حيث يكون من المناسب جدًّا في هذه الليلة قراءةُ أشعار العظماء، بل هذا هو الوقت المناسب لقراءتها؛ كأشعار حافظ الشيرازي ومولانا جلال الدين الرومي والفيض الكاشاني والحاج الميرزا حبيب وابن الفارض وأمثال ذلك؛ وحاصل الأمر، أنّ هذا هو المحيط المناسب لشمول عباد الله بتلك الرحمة الإلهيّة وتنزّلها عليهم.
نسأل الله تعالى أن يوفّقنا لطيّ ذلك الطريق الذي وفّق أولياءه وخواصّ باب رحمته لطيّه، وأن يُفيض علينا من رحمته ونعمه وفيوضاته الخاصّة، وأن يجعلنا من الشاكرين والعارفين بقدر نعمة الولاية التي منَّ الله علينا بها، وأن يُنيلنا من كلّ ما يكون موردًا لرضاه ببركة مواليد شهر شعبان المبارك، لاسيّما حضرة بقية الله في الأرض.
اللهمَّ صلِّ على محمّد وآلِ محمّد


[1] ـ إحدى فقرات حديث عنوان البصري الشريف للإمام الصادق عليه السلام.

[2] ـ راجع: مستدرك الوسائل، ج 9، ص 312. المترجم

[3] ـ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَ الْمُقَصِّرِينَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَ الْمُقَصِّرِينَ فَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلّم: وَ الْمُقَصِّرِينَ فِي الرَّابِعَةِ؛ فَالْحَلْقُ أَفْضَلُ وَ التَّقْصِيرُ يُجْزِئُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ} فَبَدَأَ بِالْحَلْقِ وَ هُوَ أَفْضَلُ. (مستدرك‏ الوسائل، ج 10، ص 13). المترجم

[4] ـ مصباح المتهجّد، ص 825.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی