معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1436 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1436 هـ ـ الجلسة 3 ـ عمق التوحيد في كلام الإمام السجّاد عليه السلام

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1436 هـ

المحاضرة الثالثة:
عمق التوحيد
في كلام الإمام السجّاد عليه السلام

ألقيت في الليلة السابعة من شهر رمضان المبارك لعام 1436 هجري قمري

ألقاها:

سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه اللـه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى اللـه على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين

«وَمَا أَنَا يَا رَبِّ ومَا خَطَرِي هَبْنِي بِفَضْلِكَ وتَصَدَّقْ عَلَيَّ بِعَفْوِكَ أَيْ رَبِّ جَلِّلْنِي بِسَتْرِكَ واعْفُ عَنْ تَوْبِيخِي بِكَرَمِ وَجْهِكَ فَلَوِ اطَّلَعَ الْيَوْمَ عَلَى ذَنْبِي غَيْرُكَ مَا فَعَلْتُهُ ولَوْ خِفْتُ تَعْجِيلَ الْعُقُوبَةِ لاجْتَنَبْتُهُ لا لأَنَّكَ أَهْوَنُ النَّاظِرِينَ وأَخَفُّ الْمُطَّلِعِينَ بَلْ لأَنَّكَ يَا رَبِّ خَيْرُ السَّاتِرِينَ وأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وأَكْرَمُ الأَكْرَمِينَ»
إلهي، ليس لي مكانة كي تُعاقبني وتُعذّبني، وأنا لست شيئًا، وليس لي أيّ اعتبار حتى يُتصوّر بأنه قد حصل تعذيب فلان، وأنّ شخصيّة مهمّة جرت معاقبتها؛ كما هو الحال الجاري بين الناس وبين العوامّ وأعمالهم، حيث يقولون بأنّ فلانًا قد ظفر بخصمه وتغلّب عليه وكسره.. أو يقولون: نحن بمقدورنا أن نتغلّب في المكان الفلانيّ، وبإمكاننا أن نهزم الدولة الفلانيّة.. صحيح؟
يقول الإمام السجّاد عليه السلام: نحن لسنا شيئًا أساسًا، ولا نُعتبر شيئًا في حساب الله تعالى، فنحن لا يُحسب لنا حساب حتّى تأتي يا ربّ وتقول: لقد عذّبت فلانًا! فلسنا شيئًا أصلاً.
يعني أنّ الإمام عليه السلام قد دخل في هذا الكلام من باب غيرة الله تعالى، وقال له: إلهي، هل تقتضي غيرتك وربوبيّتك وعظمتك وجلالك وبهاؤك ومقام كبريائك أن تجعل لنا شأنًا وحسابًا حتّى تريد أن تعذّبنا؟ فأين نحن منك؟! فنحن لسنا شيئًا حتّى تُريد أن تعذّبنا مع ما لك من كبرياء، أو أن يخطر ببالك مثلاً أنّك تغلّبت علينا وهزمتنا!!

    

على الإنسان أن يرى توفيق الهداية من اللـه تعالى ولا ينسبه لنفسه

انظروا أيّة ثقافة يريد الإسلام أن يعلّمنا، وأيّة نماذج يضعها بين أيدينا؛ فهذا هو الإمام السجّاد، ووظيفة الإمام عليه السلام تكمن في أن يعلّمنا هذا، ويقول لنا: يجب أن تكونوا هكذا، وينبغي أن تكونوا بهذا الشكل، وعليكم أن تساووا أنفسكم بسائر أفراد نوعكم، وأن تعتبروا أنفسكم بمستوى واحد مع الآخرين، وإذا كنتم قد وُفّقتم للانضواء تحت الولاية والدخول في التشيّع واتّباع أهل البيت عليهم السلام، فعليكم أن لا تغترّوا بذلك وتروا أنفسكم أعلى من اليهود والنصارى وغيرهم، وانتبهوا، فهنا أمران! فتارة يقول الإنسان: أحمدك يا إلهي على أن وفّقتني وبيّنت لي الطريق وهديتني، فأنت يا ربّ الذي هديتني.. {وَمَا بِكُم مِن نِعمَةٍ فَمِنَ اللهِ}؛[1] أفلم يكن بمقدور هؤلاء أن يتشيّعوا لو أراد الله تعالى ذلك؟! نعم، كان بمقدورهم أن يتشيّعوا ويصيروا من أتباع أهل البيت؛ وفي هذه الحالة، إذا كنّا قد وُفّقنا نحن لذلك، وتبيّنت لنا هذه المسائل، وانفتح فكرنا، وصار لدينا وعي بحقائق التشيّع، واتّضحت لنا المطالب، فبحساب من نضع ذلك؟ هل نضعه بحسابنا نحن أم بحساب الله تعالى؟ فإذا وضعناه بحسابنا نحن، فيا ويلاه! فمن الذي هدانا نحن؟ وهل تحقّق ذلك عن طريقنا نحن، أم أنّ هناك واسطة وصلتنا وبيّنت لنا الطريق؟ فمن منّا أتى وحده؟ فلو لم تأت تلك الواسطة، فهل كان بوسعنا أن نعثر على الطريق لوحدنا؟ لا، لم يكن الأمر كذلك.
ولعلّ تسعة وتسعين بالمائة من الأشخاص الذين تمكّنوا من الوصول إلى محضر العظماء ـ بحسب معرفتي واطّلاعي على خصوصيّاتهم ـ أو مائة بالمائة، فلماذا نترك واحدًا بالمائة؟ بل بنسبة مائة بالمائة منهم عندما كانوا يبيّنون كيفيّة حصول هذا التوفيق لهم، كانوا بأجمعهم متّفقين على أنّ حادثة معيّنة ومنعطفًا خاصًّا وقع لهم في حياتهم وأوصلهم إلى هنا، ولم أسمع ولو من شخص واحد أنّه قال: لقد ذهبت وحقّقت بنفسي هنا وهناك إلى أن وصلت فجأةً إلى هنا! فهذا غير ممكن أبدًا! فكلّ شخص أتى في ذلك الزمان ـ بل في كلّ زمان، إذ لا يفرق الأمر من زمان لآخر ـ عندما ننظر إلى خصوصيّاته، نرى أنّ هناك واسطة أو واسطتين أو أكثر انضمّت إلى بعضها الآخر إلى أن استطاع ذلك الشخص الوصول إلى هذا التوفيق وهذه المسألة.
وأنا أعلنها وسط هذا الجمع: إذا كان بينكم من أتى من تلقاء نفسه وبدون أيّة واسطة وحصول أيّة مسألة غيبيّة، أي أنّه أتى بنفسه وبنفسه فقط، فليقل ذلك! فنحن لم نر ذلك في زمان المرحوم العلاّمة، ففي النهاية، نجده قد أتى من خلال واسطة أو واسطتين أو أكثر؛ فهناك أكثر من واسطة حتّى وفّق الإنسان للوصول إلى هذا الأمر، وإلا لكان في مكان آخر.. فإمّا أنّه رأى رؤيا أو مكاشفة أو أنه توسّل بالأئمّة فأرشدوه، أو أنّه سمع كلامًا في مجلس.
سألت أحد الأصدقاء: كيف تعرّفت على السيّد؟ فقال: أنا لم أكن قد سمعت باسم والدك أساسًا، ولكن كان لديّ سؤال، وقد ذهبت إلى أكثر من واحد من العلماء ، لكنّ أحدًا لم يستطع أن يجيب عنه، فأتيت إلى قمّ، وذهبت عند السيّد الفلانيّ (لا أذكر اسمه)، حيث أخبروني بأنّ له اطّلاعًا على الأمور ويستطيع الإجابة عن المسائل الاعتقاديّة، فلم أحصل منه على جواب، واكتشفت بأنّه عالق أكثر منّي! وذهبت إلى شخص آخر، فوجدت بأنّ هذه المسائل لم تنحلّ عنده أيضًا، فقلت: هذا هو حال الأشخاص الذين أرشدوني إليهم في قمّ.. الوداع! وذهبت إلى مكان آخر. وفي أحد الأيّام، كنت في مجلس، ودار الحديث فيه عن بعض الأمور، فقلت: عندي أسئلة لم أجد أحدًا له جواب مقنع عليها؛ نعم، هناك كلام كثير حولها، وسمعت كلامًا كثيرًا، لكنّني لم أجد من يقنعني ويجعلني أطمئنّ بحقيقة المسألة! وكان في المجلس شخص، فقال: لقد سمعت بأنّ هناك شخصًا في مشهد يُسمّى العلاّمة الطهرانيّ، فلا أرى ضررًا عليك إن ذهبت وزرته، فقد ذهبتَ إلى كلّ مكان، فلا بأس أن تذهب لزيارة الإمام الرضا، ثمّ تأتيه وتسأله!
قال: فذهبت إلى هناك، والحال أنّي لم أكن قد رأيت العلاّمة من قبل، فذهبت عند الإمام الرضا وقلت له: أيّها الإمام الرضا، دلّني على الطريق، فليس لدينا مكان آخر نذهب إليه! فماذا لدينا غير الأئمّة؟ أنت دلّني على الطريق.. يقول: أتيت وقرأت زيارة أمين الله من جهة رأس الضريح، فرأيت سيّدًا جالسًا هناك، فما إن رآني حتّى أشار إليّ: تعال إلى هنا! وقال لي: غدًا يوجد مجلس في المنزل بين الطلوعين، فتعال إلى هناك! فمن الذي فعل هذا؟! وكان الرجل هو العلاّمة الطهراني! قال: ذهبت إلى هناك، وبعد المجلس، أعطاني موعدًا بعد الظهر، فذهبت إليه، وقبل أن يتطرّق إلى الحديث عن أجوبتي، أخذتها منه بأجمعها وانتهى الأمر! أي أنّه لم يتكلّم ويتحدّث بشيء.. وجميعهم [جميع الذين أتوا إليه] كانوا كذلك.
فهل كان بإمكانه أن يصل إلى هنا لوحده؟ وإذا كان قد أتى إلى هنا بهذه الطريقة، فما هو التصوّر الذي ينبغي أن يكون لديه؟ وكيف يجب عليه أن يفكّر؟ وهل ينبغي أن يرى نفسه أفضل من الآخرين، أم لا؟ بل عليه أن يرى أنّه صار موضعًا للطف الله تعالى، وهذا لا إشكال فيه، وذلك بأن يقول الإنسان: إلهي، لقد مننت عليّ! لقد تفضّلت عليّ ورحمتني! لقد جعلتني موضع عنايتك دون الآخرين، نعم، صحيح، هذا فعلك أنت، لا أنا.
ذكرت للإخوة قبل عدّة ليالي بأنّه كان هناك شخص من رفقاء المرحوم العلاّمة يقول: «إنّني أرى في نفسي القابليّة للوصول إلى مقام الفناء!»، وقد وصل فعلاً!! لكننّي لن أقول إلى أين وصل، فقد وصل إلى مكان، بحيث إنّني أخجل أن أذكر العبارات التي كان يطلقها على أستاذه! لماذا؟ لأنّه وقع في هذا الاشتباه ونسب الأمر إلى نفسه! يا عزيزي، ما معنى الاستعداد والقابليّة؟ وما معنى القدرة والإمكانيّة؟ تفضّل! لقد رأينا ما حصل في آخر عمرك يا عزيزي.. أخجل أن أذكر لكم العبارات التي كان يذكرها.. عبارات لا يذكرها حتّى أبناء الشوارع!! هل التفتّم؟ والأمر هو كذلك الآن، ولم تختلف المسألة أبدًا؛ فدائمًا ما كانت مثل هذه الأمور موجودة ولا تزال، لكن علينا أن ننتبه ونستجير بالله من ذلك، فعندما يوفقنا الله لأمر، علينا أن لا ننسب هذا التوفيق إلى أنفسنا.
ونادرًا ما رأيت أحدًا يتحدّث بمثل العبارات التي كان المرحوم العلاّمة والمرحوم الحدّاد (رضوان الله عليهما) يُخاطبان بها تلامذتهما، حيث كانا يقولان لهم: عليكم أن تروا أنفسكم أقلّ من الأشخاص المتواجدين هنا! فكانا يُردّدان هذه العبارات على الدوام.. حسنًا، فهما يعلمان أين تكمن المشكلة، ويعلمان كيف يسقط الإنسان، ومن أين يأتيه الشيطان؛ كأن يقول له: أنت هنا منذ عشر سنوات، وأمّا هذا الكتكوت الصغير، فقد أتى منذ يومين فقط، ويريد أن يُعلّمك ما الذي ينبغي عليك فعله! أنت هنا منذ خمسة عشر سنة.. منذ عشر سنوات!

    

السالك الحقيقيّ هو الذي لا يحسب لنفسه أيّ حساب

منذ مدّة، تحدّثت عن بعض المسائل المتعلّقة بالحجّ والعمرة والزيارات، فاستخرجها الإخوة، ودوّنوها على الورق، ثمّ قلت بعد ذلك: كلّ من يريد الذهاب إلى مكّة فليقرأ هذه الأوراق، وحتّى لو أراد أحد أن يأتي إليّ ويسألني، فأنا ليس عندي مطالب أخرى غير هذه لأقولها له، وبحسب عبارة المرحوم العلّامة عندما ذهب إليه أحدهم وقال له: انصحني، أجابه قائلاً: اذهب واقرأ كتبي! والحقّ هو هذا، فالكتب التي دوّنها متخلّيًا لأجلها عن نومه بعد الظهر، ونومه في الليل، كما أنّه كان يظلّ مستيقظًا بين الطلوعين، بينما كنّا نحن نائمين، فنراه منهمكًا في الكتابة، بل حتّى عندما كان مريضًا في المستشفى، كان يكتب.. فلمن كتب هذه المطالب إذن؟!
أتى شخص عندي وقال: أريد أن أذهب مع زوجتي إلى مكّة، فقلت له: الأمر الذي تريده منّي موجود في ذلك الكتيّب، فلم يرضه ذلك، وقال بأن السيّد لم يقبلني، وقد ساواني بسائر الناس! يا عزيزي، ماذا أفعل لك؟! هل ينبغي أن نذبح لقدومك الغنم، وننصب لك قوس النصر، أو نفرش لك السجّاد الأحمر؟! أو أن نأتي إليك بلباس الإحرام؟! والحاصل أنّه لم يعجبه هذا الأمر، وبعد ذلك انفصل وابتعد! يا ليته قرّر الذهاب إلى مكّة منذ ثلاثين سنة [حتّى يبتعد وينفصل منذ ذاك الوقت] فقد تأخّر كثيرًا!! هل التفتّم؟ فلماذا حصل ذلك؟ لأنّ الإشكال يكمن هنا، فقد أضعنا الوجهة، ونحن نظنّ بأنّنا ذوو شأن، ونعتقد بأنّه ينبغي أن يكون لنا حساب مختلف عن الناس، والحال أنّ الأمر ليس كذلك.
هناك عبارة للإمام السجّاد عليه السلام يقول فيها: إلهي بمقدار ما تقرّبني منك وترفعني إليك وتعلي شأني، فذلّلني في نفسي بهذا المقدار.[2] وواقعًا، من حقّ هذه العبارة أن تكتب وتعلّق أمام ناظرينا دائمًا.. ومع وجود مثل هذه العبارة، لا داعي للنصيحة بعد ذلك، يعني: تكفي الإنسان عبارة الإمام السجّاد هذه لكي يضع قدمه في الطريق ويمضي، بخلاف أن يقول المرء: لقد ساواني السيّد بالآخرين! فما هذا الكلام؟! وما هذه المسائل؟!
إنّ الشخص الذكيّ هو الذي يفعل الأمور التي تريح وليّ الله وتجعل أموره أسهل وأبسط. [وأنا لا أتحدّث عن نفسي]، فنحن لسنا شيئًا، بل إنّ كلامنا يرتبط بالعظماء والأساتذة وكلماتهم، وناظرٌ لما كُتب في الروح المجرّد والذي ينبغي أن يُقرأ كلّ سطر منه بدقّة.
في الزمان السابق، عندما كنّا في مشهد، كانت تُعقد العديد من الجلسات هنا وهناك، وكانت تُعقد في شهر رمضان جلسة في كلّ ليلة، فكان العلاّمة يشارك فيها، ويتحدث فيها أحيانًا، بل في أغلب الأوقات كان يتحدّث فيها، حيث كانت تشتمل على قراءة القرآن ودعاء الافتتاح و...، وأذكر أنّه في يوم من الأيّام، كان الوقت شتاء، وكانت منازل بعض الأشخاص بعيدة، فجرى الكلام عن أنّه إذا أريد إقامة الجلسة في هذا المنزل، فإنّه بعيد جدًّا، والجلسة تُقام في ليلة شتويّة، والمرحوم العلاّمة يريد أن يحضرها و... وكنت أجلس جانبًا، وأكتفي بالاستماع إلى الكلام الدائر بين الأصدقاء والإخوة، وإلى ماذا سيصير الأمر، فقال ذاك الشخص الذي كان من المفترض أن تكون الجلسة في منزله وكان منزله بعيدًا خارج المدينة: ينبغي عليّ أن آتي يوميًّا لحضور هذه الجلسة، لكن عندما تصل النوبة إلى منزلي، يُقال لي: منزلك بعيد وموجب للمشقّة! أنا لم أقل شيئًا حينها، بل كنت مطرقًا رأسي فقط، لكن قلت في نفسي: عجبًا! لماذا لم ندرك المطلب بعد؟! يا عزيزي، ليس الكلام في أنّه: لماذا لا يأتي الآخرون إلى منزلي، بل الكلام هو أنّ هذا الرجل العظيم إذا أراد أن يذهب إلى هناك، فطبعًا قد تحصل مشاكل، حيث كان هناك جليد وبرد قارس في الليل، فالكلام ليس عن حضور الآخرين، فلو كان منزلك في نيشابور أو سرخس، لذهبنا إليه، لكنّ الكلام بالنسبة إلى هذا الشخص وهذا الرجل العظيم!
فإذا كنّا نعتبر أنفسنا ضمن مجموعة واحدة ـ ولينتبه الرفقاء لهذه المسألة ـ ، فلا فرق بين منزلي ومنزلك، سواءً كان المرحوم العلاّمة موجودًا أم لا! فما المشكلة في ذلك؟! بل حتّى لو كان المجلس طوال شهر رمضان في منزل فلان! أفهل ينبغي حتمًا أن يقام المجلس في منزلي أنا؟! حتّى يُقال: سنعقد الجلسة في مجلس فلان! فأشعر بأنّني أنا أيضًا لي شأن! هل التفتّم؟
فلو كنّا نعتبر أنفسنا مجموعة واحدة في جمع واحد، وكان كلّ واحد منّا يرى أنّه بمثابة حبّة من حبّات هذه المسبحة، وليس بمثابة منارتها؛[3] فلو كانت هذه النظرة موجودة لدينا، لما كان هناك معنى لهذا الكلام أساسًا! فلو كنّا نعيش هذه الأجواء، ولم ينعقد أيّ مجلس في منزلنا، لرأينا أنّ الفيوضات والبركات التي ستحلّ في منزلنا هي أكثر بألف مرّة من ذاك المجلس! فهناك لا يعود مجال لحساب الظاهر، بل يكون التجلّي للباطن، والتجلّي للحقّ والحقيقة، كما أنّ أولئك [الأولياء] لديهم علم بالباطن، فلسنا بحاجة إلى بيان وقول، ولعلّ الأستاذ في مثل هذه الحالة هو الذي يقول: فلنذهب إلى منزل فلان! فهو يعلم، وليس مثلنا نحن! وهذا الأمر يختلف كثيرًا، حيث تكون المسألة هنا شيئًا آخر؛ فالأمر يختلف كثيرًا عندما يحصل شيء ضمن ظروف وشروط خاصة؛ نعم، من الممكن أن تحصل المسألة بتلك الشروط؛ بأن يأتي وليّ الله ويأتي الأستاذ دون أن يعترض على شيء، بل يضحك ويتكلّم ويفعل.. لكنّ المسألة تختلف كثيرًا [عمّا إذا كانت الزيارة منه مباشرة]؛ فهؤلاء لديهم رموز وأسرار ينبغي على السالك أن يقف عليها، كي يتمكّن من التقدّم بشكل سريع وعميق ولطيف ومن دون وجود موانع.
وهذه الحالة هي التي يشير إليها الإمام عليه السلام بقوله: «وما أنا يا ربّ وما خطري»؛ أي: من أكون أنا حتّى تجعل لي حسابًا يا ربّ! أتريد أن تجعل لي حسابًا فعلاً؟!
وعلى كلّ شخص ـ مهما كانت الوضعيّة التي هو فيها والمسؤوليّة المعطاة له ـ أن يعيش هذه الحالة؛ فعندما يُعطى الإنسان مسؤوليّة، تجده في الأيّام الأولى لا يرى نفسَه مختلفًا عن الآخرين، ثمّ يمضي أسبوع أوّل وثان ويتعرّف على الآخرين ويصير لديه أمر ونهي، وفي نفس الوقت الذي يتعرف فيه على بعض الشخصيّات، يبدأ بالتخطيط، وإعطاء الأوامر والنواهي، ثمّ يرى أنّ الآخرين صاروا يتحدّثون عنه ويقولون: لقد صار فلان مسؤولاً بالقسم الفلانيّ وتحمّل المسؤوليّة الفلانيّة، أو أنّ أهله في المنزل يباركون له ويقولون: لقد تحمّلت مسؤوليّة وحصلت على جاه ومقام! ومن جهة أخرى، يقول مع نفسه: إنّ ما أقوم به إنّما أقوم به لأجل الله، فأنا لا أقوم بعمل محرّم (كأن أتسلّق جدار أحد من الناس)، بل أقوم بتبليغ دين الله. لكن، بالموازاة مع حصول هذه المسائل، فإنّ هناك قضيّة أخرى تتشكّل في داخله، وهناك مسألة أخرى تتبلور في نفسه، لكنّه غافل عنها؛ فما هي هذه المسألة؟

    

خفاء التعلّقات عن الإنسان وخطرها على سيره وسلوكه

إنّها التعلّق الذي حصل للنفس بالنسبة إلى هذه الأمور؛ فهذه هي المسألة التي ليس له أيّ خبر عنها؛ إذ إنّها تحصل شيئًا فشيئًا عنده. هل شاهدتم سابقًا تلك البذرة التي نزرعها في الأرض؟ فإنّها تخرج في البداية صغيرة؛ مثل بذرة التفاح عندما تتفتّح، فإنّها تنمو شيئًا فشيئًا، إلى أن تجدها في السنوات اللاحقة قد صارت شجرة لها عدّة أمتار! فتجد بأنّ هذا التعلّق يتشكّل في نفسه بالموازاة مع تلك الأمور، وهو الذي يُسقط الإنسان.
فقد يأتي وقتٌ يُقال فيه للإنسان: شكرًا لك، فقد أنجزت المهمّة التي تمّ تكليفك بها، وكنت متابعًا لعملك خلال تلك المدّة، فشكرًا لك على ذلك، وها نحن نريد تسليم هذه المسؤوليّة لغيرك! فسترى كيف سيصفرّ وجهه حينها وينفعل.. فما الذي حصل؟ فأنت الذي كنت تقول [عندما تمّ تسليمك المهمة]: هنالك من يستطيع القيام بهذه المهمّة [أفضل منّي، فكلّفوا غيري بها]؛ فلماذا تنفعل؟! وعليك الحذر لكي لا تصاب بالسكتة القلبية! ألم تكن أنت القائل: سلّموها لغيري؟ فها قد سلّمناها لغيرك!
كان أحد عباد الله يصرّ عليّ مرارًا من أجل تسليم المهمّة المكلّف بها إلى غيره، فقلت له في إحدى الليالي: حسنًا، لقد استجبت لطلبكم، فسلّموا تلك المسؤوليّة لفلان، فتركنا بعد يومين وذهب ولم نره حتّى هذا اليوم! [لماذا يحصل هذا] فأنت الذي كنت تطلب ذلك! ألم يكن ذلك طلبك؟! وبما أنَّ طبيعتي هي الاستماع والاستجابة لما يُطلب منّي، فقد استجبت لطلبك؛ وكان ذلك بعد أن تكرّر الطلب منه لعدّة مرّات وبإصرار، حيث لم أفعل ذلك من الطلب الأوّل.. فما هو السبب في ذلك؟ إنَّ السبب يعود إلى أنَّ تلك الشجرة آخذة بالنمو إلى جانب هذه المسؤولية باستمرار؛ ويحصل هذا في الوقت الذي لا نعلم فيه بأنَّ هذا البرعم الذي ينمو الآن سيعمل على وضع خاتمة لأمرنا في يوم من الأيّام.
فما هو طريق الحلّ؟ وكيف يمكن اتّخاذ الإجراء المضادّ في مثل هذه الحالة؟ الحلّ هو: أن ينظر الإنسان لنفسه في كلّ يوم على أنَّه مبتدئ، ويحتفظ لنفسه بذلك الحال الذي كان عليه في اليوم الأوّل الذي تمّ قبوله فيه [كتلميذ]؛ على أنَّ هنالك حلول أخرى تتضمّن الكيفيّة التي يجب عليه أن يتصرّف بموجبها لكي يحتفظ بذلك الحال. فالنفس لا تهدأ أبدًا؛ كما أنَّ ذلك المبجّل [الشيطان] يقوم بواجبه على الوجه الأكمل، ولا يمكن أن تنطلي عليه أيّة حيلة؛ فلا يمكن خداعه، وإن أغلقت بوجهه أحد الأبواب، فسيقوم بالالتفاف والدخول من باب أخرى؛ فترى الرجل يقول: إنَّ الناس قد ألفتني خلال هذه المدّة، فإن ذهبت فسوف تختلّ الأمور.. فلتختلّ الأمور إذًا، وليتعطّل كلّ شيء! أفهل يُفترض أن تسير الأمور بالشكل الصحيح دائمًا؟ فذلك الذي بيده مقدّرات الأمور هو الذي يعلم ما الذي عليه أن يفعل، وكيف سيُديرها.
فعلى الإنسان أن يحتفظ لنفسه بذلك الحال باستمرار، ولعلّكم تتذكّرون حكاية أياز مع السلطان محمود؛ فعندما قيل للسلطان بأنّ أياز يدخل أحد المنازل ويُغلق عليه الباب، ولا يُعلم ما الذي يفعله هناك، ذهب السلطان إلى ذلك البيت ووجد أياز قد ارتدى لباسه الذي كان يلبسه عندما كان راعٍ للماشية، وهو يُلقّن نفسه ويقول: أنت ذلك الراعي الذي ... إنَّ هذه الحكاية مذكورة في كتاب المثنوي، والذي هو عبارة عن بحر من العلوم والمعارف؛ فلِمَ نقوم بحرمان أنفسنا من ذلك الفيض ونغمرها في الجهل والتعصّب، ونحرمها من ذلك الفيض الإلهي؛ فليطالع الإنسان هذا الكتاب ليرى ما فيه.
كنت أتكلّم مع أحدهم يومًا، فقلت له: إنّ هؤلاء السادة الذين يدأبون على انتقاد مولانا الرومي وينعتونه بشتّى النعوت لمّا كانوا بحمد الله عبارة عن بحر من المعارف.. تلك المعارف التي اكتسبوها بعد ذلك العمر الذي بلغ السبعين أو الثمانين عامًا ــ وليزده الله إلى التسعين أو المائة عام ــ ليتحدّثوا عمّا جاء في صفحة واحدة من تلك المواضيع التي تناولها مولانا الرومي، لكي نقوم بوضعهما جنبًا إلى جنب، حتّى يتبيّن لنا مقدار التفاوت بين ما يفيض به بحر علومكم الموّاج يا أيّها السادة ممّا طرحه مولانا في هذا المجال، ولنرى عندها فيما إن كان هنالك فرق طفيف أو لا!!!
يجب علينا الالتفات إلى هذا الموضوع والعمل على تحقيقه في أنفسنا، فهو من المواضيع الأساسيّة في هذا الطريق. ولقد كرّرت هذا الأمر على مسامع الإخوة مرارًا وهو: إنَّ تصوّرنا عن طريق الله والسير والسلوك هو أنّه يتمثّل بصلاة الليل والإتيان بالذكر اليونسيّ والسجود والأذكار والأوراد وما شابه ذلك، ولا يوجد هنالك شيء آخر وراء ذلك، غير أنَّ هذا التصوّر غير صحيح، بل طريق الله عبارة عن العبوديّة والتسليم في قبال رضا الله والعمل بالتكاليف الشرعيّة؛ فذلك أمر أساسيّ، وهو في نفس الوقت يضمّ بين طيّاته كلّ شيء، وتندرج تحته سائر الأمور.

    

حركة الإنسان في طريق اللـه متوقّفة على العمل بما علِم

في إحدى السنوات الماضية عندما كانت جلسة عنوان البصري عموميّة، أتذكّر بأنَّني تحدّثت مرّة بحدود الساعتين، وبعد انتهاء المجلس، جاءني أحدهم وقال لي: أريد منكم أن تنصحوني نصيحة خاصّة يا سيّد، فقد جئت [من مكان آخر]؛ فقلت له: هل كنت نائمًا خلال تلك الساعتين؟ قال: لا! فقلت له: لقد طرحت في تلكما الساعتين من النصائح ما يعادل ما يمكن طرحه في عدّة جلسات، فاذهب واعمل بموجب ما قلت؛ فهذه هي نصيحتي.
حضر مجموعة من العلماء لدى المرحوم القاضي رضوان الله عليه في النجف وقالوا له: لقد جئنا نطلب منك برنامج عمل سلوكيّ، ولقد كان ذلك من باب التصنّع والمجاملة... كنت في محضر المرحوم العلاّمة يومًا، فجاءت مجموعة من طهران إلى مدينة مشهد، وحضروا إلى منزل المرحوم العلاّمة حيث كان هنالك مجلس للعزاء، وقد حصل ذلك في الماضي البعيد، وكان بينهم أفراد من أعضاء الحكومة وآخرون من أهل العلم؛ ولقد كان أحد أهل العلم يكرّر على المرحوم العلاّمة بأنَّ هذا الرجل هو الدكتور فلان وكيل وزير، فقلت في نفسي: لقد فهمنا ذلك منذ البداية! وقد كان مجيئهم للاستماع إلى نصيحة أو برنامج عمل؛ فسمعت المرحوم العلاّمة يقرأ هذه الآية: {وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً}[4]، ولم يتكلّم بشيء آخر عدا هذه الآية، ولا أدري إن كانوا قد استوعبوا فحوى الكلام أم لم يستوعبوه.. أتلاحظون؟ فتلك هي آية من آيات القرآن، ونحن لم نأت بشيء من عند أنفسنا؛ أفهل نحن من العاملين بمضمون هذه الآية حقًّا؟ وهل نحن بالشكل الذي لا نقوم فيه بالإقدام على عمل ما، ما لم نكن على يقين من صحّته؟ فلا نقوم إلاّ بذلك العمل الذي نكون فيه على يقين واطمئنان؟
كنت أقف في أحد شوارع طهران قبل عدّة سنوات منتظرًا مرور سيّارة أجرة لكي أستقلّها، فتوقّف أحدهم لإيصالي، فتعجّبت وقلت: كيف يمكن أن يرأف بحالنا هذه الأيّام أحد[5]؟! لقد كان الماضون يرأفون علينا أكثر، فلا أدري ما الذي حصل بحيث لا يرأف بحالنا هذه الأيّام أحد؟! فركبت السيّارة، وبعد طيّ مقدار من الطريق، علمت بأنَّ لديه بدوره ما يقوله؛ فتكلّم وقال: ما الذي عليّ فعله وأمثال ذلك[6]؟ فقلت له: أريد أن أسألك سؤالاً وهو: أمام مَن ستقف يوم القيامة؟ فهل ستقف أمامي أنا وأمثالي، أم أمام غيرنا؟ فإن كنت ستقف أمامي، فلا ضير عليك وافعل ما شئت أن تفعل! وأمّا إن كنت ستقف أمام غيرنا، فاعلم بأنَّ من ستقف أمامه لا يمكن أن يُخدع. فقال: ولكن هنالك من يقول كذا ويفعل كذا و... فقلت له بلهجة صريحة: يبدو أنَّك لا تريد أن تفهم ما أقول ــ ولقد كنت أتمازح معه أيضًا ــ فعندما تريد القيام بكذا عمل، وكان تعاملك مع فلان من الناس بدلاً من فلان، أكنت ستقوم به أم لا؟ فرأيت بأنَّه سكت فجأةً، فقلت له: هل فهمت الآن ما أقول؟ قال: نعم، فهمت الموضوع!
{وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.. فعندما يريد الإنسان القيام بعمل ما، فعليه أن يكون مطمئنًّا من أنَّ عمله وتصرّفه هذا موافق لرضا الله، وعليه أن يقيس ذلك بما بين يديه من قواعد ومباني؛ فافرض بأنَّك تريد أن تحكم على رجل معيّن بشأن قضيّة ما، فانظر في نفسك لترى هل كنت ستتّخذ نفس هذا الحكم فيما إن كان ذلك الرجل هو أحد أقاربك أو عشيرتك أو أصدقائك؟ من المقطوع به أنّك لن تتّخذ نفس الحكم، فعليك إذن أن تعرف أين تكمن المشكلة، لكي تتمكّن من حلّها.
نعم، لقد جاءوا إلى المرحوم القاضي وطلبوا منه نصيحةً، فنظر إليهم، فوجدهم ليسوا من المؤهّلين لذلك، وسوف لن يقوموا بالأعمال التي يوصَوْن بها؛ فقال في نفسه: سأُجيبهم بشكل ما، فما دمتم لستم بمؤهّلين، فلماذا تقومون بإتلاف وقتي؟ فترى بعضهم يأتي ويُقسم عليّ لتخصيص وقت له للمقابلة، ويقول: كلّما أرسلت لكم رسالة، لم تجيبوا عليها، فحدّدوا لي وقت للمقابلة. وعندما يحضر ويتكلّم [يُعلم من خلال كلامه الحال الذي هو عليه]. فقال لهم المرحوم القاضي: هل عملتم بما تعلمون، لكي تطلبوا المزيد؟ أم لم تعملوا به بعد؟ فأنتم من أهل العلم والفضل وقرأتم الكثير من الكتب والروايات، ولكم دراية بأسلوب ومباني الأئمّة؛ فقالوا: لا، لم نعمل به! فقال لهم: فاعملوا بموجب ما تعلمون، ومتى ما قمتم بذلك، وبقي لكم شيء من المجهول، فتعالوا إليَّ عندها لرفدكم بالمزيد.
إنّ سبب ذلك كلّه هو عدم اطّلاعنا على الطريق، فلا نمتلك عنه إلاّ مجرّد تصوّرات وتوهّمات، ورسمنا في أذهاننا مجموعة من الأمور، وصنعنا قالبًا معيّنًا أطلقنا عليه اسم السلوك والعرفان، بحيث صرنا نعتقد أنّ كلّ من دخل إلى هذه الأجواء، صار بمقدوره أن يتحرّك ويسلك.. كلاّ يا عزيزي! إنّ كلّ خطوة خطوناها في السلوك بشكل صحيح تتقدّم بنا إلى الأمام، وكلّ خطوةٍ خطوناها بشكل مخالف تترتّب عليها آثار وتبعات ينبغي علينا تحمّلُها؛ فكلّ خطوة نخطوها وكلّ كلمة نتفوّه بها وكلّ عمل نقوم به هو عبارة عن خطوة في طريق السلوك. أفهل من الضروريّ أن تنزل عليك آية قرآنيّة لتقول لك: افعل هذا أو لا تفعله؟! أو يأتي الرسول ويجلس بجانبك ويقول لك: افعل ذلك؟! يكفي أن تشعر من نفسك بأنّ هذا العمل صحيح حتّى تندفع للقيام به، أو تمتنع عنه حينما تحسّ بأنّه قد يكون خاطئًا وبأنّه ينبغي عليك الاحتياط فيه. وأمّا أن تقول: «ستتعدّل الأمور إن شاء الله، وسنتحلّ المسائل إن شاء الله، وستمشي الأمور إن شاء الله!»، فإنّه لا فائدة فيه، وسيكون ذلك عبارة عن مسير " إن شاء اللهيٌّ "! وسيمضي طريق الإنسان ومساره بهذا النحو، وتتشكّل النفس بهذه الكيفيّة.
وفي الأخير، سيُصبح ذلك مماثلاً لما يقوم به سائر الناس: «إذا لم ينجح هذا، سنقوم بذاك، وإذا لم ينجح ذاك، سنقوم بالآخر و...»؛ فلا حساب هناك، ولا ميزان هناك، ولا تُنجز الأعمال وفقًا للعقل والدراية، بل تُؤدّى على أساس الشعارات والأهواء والسمعة؛ مع أنّ الإنسان ينبغي عليه أن يتقصّى الأمور، ويرى هل المسألة صحيحة وموافقة للحقّ ليتّبعها، فلا يهمّه من يقولها؛ لأنّه قد يكون قالها اعتمادًا على مبادئه وأفكاره الشخصيّة، ونحن غير مكلّفين بقبول الكلام من أيٍّ كان؛ فنحن لنا عقول أيضًا، ولنا فكر، ونتوفّر على نفس المصادر التي يتوفّر عليها الآخرون؛ فما هو الفرق بيننا إذن؟!
وعلاوة على ذلك، فإنّ الوحي والنبوّة قد خُتما برسول الله، فلا يوجد شيء بعده، كما أنّ الإمامة خُتمت بإمام الزمان عليه السلام، وهو أمر معلوم؛ وحينئذٍ، بأيّ شيء يفترق بقيّة الناس عن بعضهم البعض؟! وما معنى أن نُنحّي عقولنا وفهمنا واستنباطنا جانبًا؟! معناه أن نُخرج أنفسنا عن دائرة الإنسانيّة والبشريّة، ونضعها في دائرة الدوابّ! فالدابّة ذات الأربعة قوائم هي التي يضربها الراعي بالعصا، ويصرخ في وجهها ليخيفها، فتذهب يمينًا ويسارًا، وأمّا الإنسان، فله رجلان لا أربعة قوائم، وعليه أن يعمل وفقًا لتلك الواقعيّة التي وضعه الله تعالى فيها.

    

سهولة منهج العارف في السلوك إلى اللـه

حسنًا، يقول الإمام عليه السلام: إذا كان الأمر كذلك، «هبني بفضلك»؛ أي: يا إلهي، اعف عنّي بفضلك، وامنحني من فضلك؛ فنحن لا شيء، كما أنّه لن ينقص منك شيء؛ فلو أنّك عاقبتنا، سنكون تحت مُلكك ومملكتك، ولو تفضّلت علينا ورحمتنا، سنظلّ أيضًا تحت مُلكك ومملكتك؛ فلماذا لا تمنحنا من فضلك إذن؟! أفليس العقوبة والتفضّل كلاهما منك؟ أوليس الجلال والجمال كلاهما من صفاتك؟ وهما ظهوران لوجودك؟ فلا يصحّ أن نقول بأنّ ما يصدر منك هو الجمال فقط، وأمّا الجلال فهو خارج عن حيطة وجودك؛ لأنّه لا يُمكن تصوّر وجود غير وجودك، وليس هناك من وجود غير وجودك البحت والبسيط حتّى يكون هو المسؤول عن هذا النوع من الإفاضة وتنزّل الصفة، فلا تكون لهذه الإفاضة أيّة علاقة بك.. كلاّ، فجميع الأشياء تتحقّق بيديك! فمن باب المثال، هذه هي يدي، وأنا أستطيع بهذه اليد أن أصفع يتيمًا، كما يُمكنني أيضًا أن أمسح بها على رأسه؛ فهي يد واحدة، لا أنّ اليد التي أصفع بها غير اليد التي أمسح بها.. انظروا، فبهذه اليد، أستطيع أن ألاطف يتيمًا وأمسح على رأسه، وأحنّ على طفل وأُفرحه، كما يُمكنني بواسطتها أيضًا أن أضرب به الحائط وأُحزنه وأسبّب له الأذى وأبكيه؛ فكلتا المسألتين نابعتان من أصل واحد، غاية الأمر أنّ ذلك يرجع للإرادة التي تعلّقت بها كلّ واحدة منهما: إرادة الجلال أم إرادة الجمال، إرادة العقوبة أم إرادة اللطف والعناية. فإذا كان الأمر بهذا النحو، فإنّ الإمام السجّاد يقول: إلهي، إذا كانت هذه اليد يدك، ولا يفرق الأمر لديك [سواءً عاقبت بها أم تلطّفت]، فلماذا لا تتلطّف بها عليّ؟! والله تعالى تُعجبه مثل هذه الاستدلالات، ويقول: إنّ عبدي هذا يقول حقًّا، كما أنّه من ناحية أخرى قد اعترف بأنّه لا يُساوي أيّ شيء!!! فنحن لسنا بشيء حتّى تأتي وتُعاقبنا وتقول للملائكة: لقد عاقبت فلانًا! ونحن نقول منذ البداية: لسنا بشيء!
جاؤوا عند الشيخ أبي الحسن الخرقاني (رضوان الله عليه) وقالوا له: إنّ القطب الفلاني يقول: إذا كان الشيخ أبو الحسن قطرة، فنحن بحر، وإذا كان حبّةً، فنحن قنطار! فقال لهم: اذهبوا عنده، وقولوا له: أضف تلك الحبّة إلى قنطارك، وتلك القطرة إلى بحرك، فأنا لا أساوي حتّى قطرة أو حبّة صغيرة، فأرح نفسك! فهكذا هم العرفاء، يُريحون الناس، ويُسهّلون الأمور، ويحلّون المشاكل بسرعة. وأمّا غير العرفاء ـ وليست هناك من حاجة للتسمية ـ ، فجميعهم سيقولون: ماذا قال؟ آتني بقلم ودواة وورقة حتّى أكتب له جوابًا يُذكّره بأيّام رضاعته! وسأكتب ضدّه مقالة في الجريدة، وأطبع كتابًا في الردّ عليه، وسأصعد المنبر وأفعل وأفعل! ماذا هناك يا عزيزي؟! فالعارف يقول بكلّ بساطة: أنا لا أُساوي حتّى قطرة أو حبّة صغيرة، وانتهى الأمر! وحينئذٍ، هل سيبقى لك ما تقوله له؟! لقد قال لك بنفسه: أنا لست بشيء، فلا نزاع بيننا من الأساس!
لقد تعلّموا من الإمام السجّاد عليه السلام.. هؤلاء العرفاء قد تعلّموا من الإمام السجّاد عليه السلام.. تعلّموا أن يقولوا: «وما أنا يا ربّ وما خطري»؟!.. تعلّموا أن يقولوا: يا عزيزي، نحن لا نساوي حتّى حبّة صغيرة، فأنت قد احترمتنا أكثر من اللازم ورفعت قدرنا فوق الحدّ عندما قلت: «إن کنت قطرة، فأنا بحر!»؛ وذلك أنّنا لسنا قطرةً حتّى! بل نحن صفر ولا شيء! فليس للماهيّة وجود من نفسها، والقالب لا يملك وجودًا من ذاته، بل الوجود هو الذي يمنح الموجوديّة للماهيّة والقالب؛ وبالتالي، فالماهيّة لا تملك من عند نفسها شيئًا، بل هي عدم محض، فليست حبّة صغيرة ولا قطرة ولا أيّ شيء بل هي صفرٌ صفرٌ صفرٌ.

    

الإمام السجّاد عليه السلام يُعلّمنا عمق التوحيد

وههنا، يقول الإمام السجّاد عليه السلام: يا ربّ، بعد أن تبيّن أنّني صفر، ومن جهة أخرى، أنت تريد أن تحقّق صفات جمالك وجلالك في هذه الدنيا بيد قدرتك التي لا يستعصي عليها شيء، فلماذا لا تجعلها جمالاً؟ ففي النهاية، كلّ الأمور بيدك، وأنت تريد أن تنزّل إرادتك في هذا العالم، فاجعلها تنزل بالجمال، واجعلها تتنزّل بالفضل والعفو والرحمة والتجاوز! والحقّ أنّ الإنسان مهما فكّر في هذه العبارات الواردة في دعاء أبي حمزة، فإنّه لا يصل إلى عمقها وحقيقتها! وأنا مهما فكّرت، فإنّني لا أَصِل أيضًا، وأنا أقول ذلك جادًّا دون مبالغة.. وحقيقةً، فإنّني أجلس في بعض الأحيان وأتأمّل، ولا أعني في شهر رمضان فقط، بل حتّى في غير شهر رمضان؛ فأجلس وأتفكّر في عبارةٍ من عبارات هذا الدعاء الشريف، وأقول في نفسي: أصلاً، هل يمكن أن يأتي الإنسان بعبارة أفضل من هذه العبارة التي قالها الإمام السجّاد عليه السلام لبيان هذا الأمر وهذه المسألة؟! إنّ عبارته عليه السلام تحوي كلّ شيء!
والعجيب أنّ الإمام السجّاد عليه السلام حينما يقول: «يا ربّ إنّني لست حتّى حبّة صغيرة، ولست حتّى قطرة»، فإنّه يقول هذا الكلام مع أنّ عالم الوجود بأجمعه خاضع لإرادته عليه السلام ومتحرّكٌ بأمره! فكيف يمكن لنا أن نفهم هذه القضيّة؟! على الإنسان أن يجلس ويفكّر في هذه القضية ويتأمّل فيها، ثمّ يجلس بعد ذلك ويقيس ذلك على حاله هو.
فقائل هذه العبارات ليس إنسانًا عاديًا حتّى نقول: إنّه يلقي الكلام على عواهنه ولا يدري ما يقول، بل المتكلّم هو الإمام السجّاد عليه السلام، يعني حبل الله بين الله وخلقه، والعروة الوثقى، والواسطة والوسيلة، والذي يمثّل حقيقة الولاية التي توجد جميع عوالم الوجود وتديرها وتدبّرها وتحرّكها وتتوسّط في نزول الفيض الإلهيّ إليها! مثل هذا الشخص يقول مثل هذا الكلام؛ فإن كان هو يقول ذلك، فعلينا أن نأتي ونقيس ذلك ونطبّقه على أنفسنا؛ فمن نحن؟ وماذا نمثّل؟ فهذا صاحب الولاية، وبيده كلّ شيء في العالم، والعالم متعلّق بأنفاسه الطاهرة، وحياة جميع ذرّات العالم وبقاؤها وحركتها وسكونها ووجودها وماهيّتها.. كلّ ذلك معتمد عليه ومستمدّ منه، وهو يأتي أمام الله تعالى ليقول: يا ربّ أنا لا شيء.. لست حتّى ذرّة! فهو يعلّمنا بذلك أن: ما وضعك أنت؟ وما هو محلّك من الإعراب؟! فمع أنّني أنا هو صاحب الولاية، وأنا الإمام، وأنا الذي تقوم السماء والأرض بوجودي، أقول هذا الكلام، وأقوله صادقًا، وأعتقد به، بينما أنت الذي لا تمثّل شيئًا ذا خطر تأتي وتثير زوبعة في هذا العالم، فتأخذ هذا وتضرب ذاك، وتحبس الثالث، ثمّ ترفع صوتك بالأمر والنهي؛ فما الخبر يا عزيزي؟! تعال وانزل قليلاً لنمشي سويًّا في هذا الطريق.
عند ذلك، يأتي الإنسان ويطابق هذه العبارة مع نفسه، ويجعل نفسه متوافقة معها، ويزن نفسه بها، ويطبّقها على نفسه، ويقارن حاله مع هذا الكلام الصادر من الإمام السجّاد عليه السلام ويسأل نفسه: ما هو محلّي من هذه القضيّة؟ فهذا إمام، ولا شكّ في إمامته، وهو صاحب الولاية الكليّة، والعالم بأجمعه يتحرّك بإرادته، وجميع العوالم ممّا سوى الله ـ من أعلاها إلى أدناها ـ كلّها تسير بأمره وبإرادته، ومع ذلك فهو يقول: يا ربّ أنا لا شيء! إنّه يعلّمنا التوحيد، ويريد أن يفهّمنا أنّ الإنسان الموحّد هو هذا؛ فمع أنّ الله تعالى قد طوى في وجوده كلّ هذه الآثار والظهورات والآيات والقدرات والعلوم وجميع الحركات والسكنات، إلاّ أنّه يظلّ لا شيء، والله تعالى هو الذي جعل له كلّ ذلك؛ أي أنّ كلّ شيء يرجع إلى الله تعالى: فالولاية في الحقيقة لله، وآثاره في الحقيقة آثار الله، وظهور ولايته تعني ظهور الله. فإيّاك أن تظنّ أنّ قلع باب خيبر كان من عليّ عليه السلام! وإيّاك أن ترى أنّ ردّ الشمس من عليّ! وإيّاك أن تحسب أنّ شقّ القمر إلى نصفين كان من قِبَل النبيّ صلّى الله عليه وآله! ولا تظنّ أن قدرته على تغيير العالم أجمع يرجع إلى إرادته هو! إنّ هذه جميعًا ترجع إلى إرادة الله، إلاّ أنّ ظهورها وبروزها من خلال هذا الشخص؛ فهو مجرّد واسطة ومرآة. فلو أنّكم وضعتم ساترًا أمام الشمس، فإنّ المرآة ستصير مظلمة.. أليس كذلك؟ ولو كانت هناك مرآة موضوعة في مقابل الشمس، فإنّ الشمس سوف تسطع بنورها عليها فتعكسه المرآة وتنير ما حولها، فيحسب الناظر أنّ المرآة هي مصدر النور ويقول: يا للعجب، انظر كيف أنارت هذه المرآة كلّ شيء حولها! ولكنّ كشف الحقيقة سهلٌ؛ إذ يكفي أن تأتي بقطعة من القماش وتضعها بين الشمس والمرآة بحيث تحجب نور الشمس عن المرآة، فإذا بالمرآة قد صارت مظلمة، كما أضحت الغرفة مظلمة أيضًا؛ وهكذا أضحى كلّ شيء مظلمًا وانتهى الأمر! لكن ما إن ترفع الحجاب فجأةً بين الشمس والمرآة حتّى يعمّ النور كلّ مكان!
إنّ الإمام مرآة، ولكنّه مرآة تعكس صورة الشمس كما ينبغي، أمّا نحن، فمرآتنا قد اعتراها الصدأ؛ ولذا، فهي مظلمة ولا تستطيع أن تعكس نور الشمس، فلا بدّ من إزالة هذا الصدأ أوّلاً كما قال الشاعر:
آيينه شو ووصال پری طلعتان طلب
                             جاروب زن خانه پس ميهمان طلب

(يقول: كن مرآةً ثمّ ابحث عن جمال الوجوه الملائكيّة، واكنس بيتك ثمّ ابحث عن الضيف‏)
نسأل الله تعالى أن يمنّ علينا برحمته الواسعة، وأن يجعل لنا جميعًا نصيبًا من تلك البركات والفيوضات التي خصّ بها أولياءه وخاصّته من أهل المعرفة والواصلين إلى مقام القرب والتجرّد؛ فذلك لا ينقص من فضله شيئًا، وبالنسبة لله تعالى، ما الفرق بين أن يصنع عارفًا واحدًا أو مليون عارف أو مائة مليون عارف؟! فلو كان عندنا عارف واحد أو مائة مليون عارف ووليّ إلهيّ، فهل يؤثّر ذلك على الله؟ وهل يزيده شيئا؟ كلاّ، إنّ ذلك لا يزيده ولا حبّة من خردل؛ وذلك لأنّ كلّ ما هناك فهو منه، فهو يُظهر ويبرز ما يشاء، وإن شاء ألاّ يفعل، فإنّه لا يفعل، وذلك لا يزيده شيئًا ولا ينقصه شيئًا؛ فإن كان الأمر كذلك، فنحن أيضًا نقول نفس كلام الإمام السجّاد عليه السلام، فهو الذي علّمنا، ولو شاء ألاّ يُعلّمنا، لما علّمنا، ولكنّه فعل ذلك؛ ولهذا، نحن بدورنا نقول لك: يا ربّ من نحن؟ وما خطرنا حتّى تحرمنا من نعمك؟! فلو حرمتنا، فما الذي ستكسبه؟ هل سيزيدك ذلك شيئًا؟ بالطبع لا؛ ولذا نسألك أن تمنّ علينا بلطفك وعناياتك الخاصّة.
اللّهمّ صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّد


[1] ـ سورة النحل، صدر الآية 53.

[2] ـ إشارة إلى هذه الفقرة من دعاء مكارم الأخلاق: «ولا تَرْفَعْنِي فِي النَّاسِ دَرَجَةً إِلاّ حطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَها وَلا تُحْدِثْ لِي عِزًّا ظاهِرًا إِلاّ أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً باطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِها». (الصحيفة السجاديّة، ص 92)

[3] ـ منارة المسبحة هي القطعة التي تقع في رأسها وتُشكّل ملتقى طرفي الخيط الذي يضمّ جميع حبّاتها. المترجم

[4] ـ سورة الإسراء (17)، الآية 36.

[5] ـ أي أنّ كثيرًا من الناس لا يحترمون أهل العلم لبعض الأسباب. المترجم

[6] ـ وكأنّ السائق يتحجّج بعدم التزامه ببعض المسائل الدينيّة بكون بعض العلماء لا يلتزمون بدورهم بها. المترجم

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی