معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 101 إلى 200 > شرح حديث عنوان البصري ـ الجلسة 159 ـ الرياضة ورجوع الإنسان لحالته الأولى

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح حديث عنوان البصري المحاضرة 159

الرياضة ورجوع الإنسان لحالته الأولى

ألقيت في10 شوّال المکرّم 1429 هـ

سماحة آية الله

السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد للـه ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيبّين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين

تقدّم في الجلسة الماضية أنّ الإمام الصادق عليه السلام كان يقول لعنوان: «وأمّا الثلاثة التي في رياضة النفس فإيّاك أن تأكل ما لا تشتهيه»، وقد أشرنا ـ كما يذكر الرفقاء ـ أنّ بحث الرياضة هو بحث عامّ، وإن كان الإمام الصادق عليه السلام قد تعرّض هنا للمأكولات والمشروبات اللذين لا يشكّلان سوى دائرة صغيرة منها، ولكنّ الرياضة في مفهومها العامّ هي التي يريدها الإمام عليه السلام، حيث بإمكاننا أن نعثر في طيّات هذه العبارات على مجموعة من المسائل المرتبطة بالرياضة من حيث مفهومها العامّ والشامل. وبداية، نشير باختصار إلى ما كنّا قد ذكرناه فيما سبق لكي يتسنّى لنا الدخول في هذه المسألة الحسّاسة في السير والسلوك، والتي تحظى بأهمّية أيضًا على المستويين الشخصي والاجتماعي.

    

علّة الحاجة للرياضة الروحيّة

ما تحصّل ممّا سبق ويُشكّل مقدّمة لما سيأتي هو: أنّ ضرورة الرياضة تنشأ من كون الإنسان قد تنزّل من عالم التجرّد والانبساط إلى عالم الكثرات والشهوات والمادة، فتشكّلت نفسُه وتأثّرت بها، فظهرت علاماتها على وجناته وأحواله؛ فحين ننظر إلى وجه طفل صغير رضيع، كم نلحظ فيه من النورانيّة؟ ومن الصفاء وعدم التعلّق؟ ومن الإحساس بالمحبّة للجميع والصدق والإخلاص...؟ فكلّ ذلك هو من لوازم ذلك العالم من التجرّد والفناء والتوحيد، وعندما يولد الأطفال، فإنّنا نشعر بالأنس بهم؛ لماذا؟ لأنّهم لا تعلّق لهم، فإن أراد هذا أن يحتضنه لا يرفض، وإن أراد ذاك لا يرفض أيضًا، وسواءً وضعوه على الأرض أو على السرير، فإنّه لا يمانع؛ وهذا أمر جميل بالنسبة للإنسان .. ونذكر كلّ هذا بعنوان مدخل. أمّا إذا كبر الإنسان، فتراه إن دخل مجلسًا ولم يقفوا له، تأذّى، وإن لم يعظّموه، تأذّى، وإن خُصّص له مقعد أدنى شأنًا ممّا يستحقّ، تأذّى؛ فحينما كان طفلاً، لم يكن يتأذّى، ولكنّنا نجده الآن يتأذّى؛ فمن أين نشأ هذا التفاوت وما سببه؟ لماذا كنّا نأنس بهذا الإنسان عندما كان طفلاً؟ لأنّه لم يكن لديه هذه الإحساسات، ولم يكن يتأذّى ولا ينتصر لنفسه، ونحن نشعر بذلك؛ ولو كان للطفل حين ولادته تلك الحالات التي تبرز في سنّ الأربعين والخمسين والتي تتضاعف كلّما تقدّم به العمر، لما كنّا نأنس به. فحالات التوغّل في الكثرات والأهواء النفسانيّة والانغماس في الرغبات الدنيويّة تزداد كلّما تقدّم العمر؛ على عكس قوى البدن التي تزداد في التحلّل مع تقدّم السنّ. فتلك الأنانيّة التي يمتلكها شخص يبلغ التسعين، وهو مقعد ولا يستطيع المشي ويتّكئ على من حوله أثناءه.. وتلك الكدورة النفسانيّة والظلمة الشيطانيّة البادية على وجناته والتي يصحبها دائمًا لا يمتلكها الطفل ذو السنوات العشر أبدًا؛ والحال أنّ حركته الجسديّة أقوى من حركة هذا في الركض والمشي والأعمال الظاهريّة.. هذه هي حالة الشاب ذي العشرين سنة، غير أنّه يخلو من تلك الكدورة؛ فما السبب في ذلك؟ السبب في ذلك أنّ التوجّه إلى ذلك العالم يؤدّي إلى اتّصاف الإنسان بصفات تخالف تلك التي يتّصف بها من يتوجّه إلى هذا العالم؛ ففي التوجّه إلى ذلك العالم، هناك الصفاء والتوحيد والصدق والإخلاص.. ولا وجود هناك للأنانيّة، ولا وجود لـ "أنا" و"أنت"، ولا تفاضل هناك على أساس الميول والاعتبارات الشهوانيّة؛ فذلك العالم هو عالم البهاء والنور والوحدة، وعالم الاستقامة وانتفاء النفاق، والجلوس على سفرة واحدة، وعدم التمييز بين الصغير والكبير. لكن ما إن نأت إلى هذا العالم، حتّى تواجهنا أضداد ذلك؛ فلا خبر عن الصدق ولا عن الإخلاص. ولو كان جميع من في هذا العالم من أهل الصدق والإخلاص، لما كنّا نشهد فيه كلّ هذه النزاعات وأنواع التهم.. فأين ذلك من الصدق والإخلاص والصفاء؟ فهنا الشيطان والدنيا والنفس والإبعاد والإعدام والإبادة، وهناك الجذب وإظهار المحبّة.. هنا محوريّة الذات، وهناك محوريّة الله.. هنا الحدود والحواجز، وهناك رفع الحدود والحواجز وإزالة الماهيّات.

    

ليس هناك حدود قوميّة أو ثقافيّة أو ترابيّة بين المسلمين

لقد كان المرحوم العلاّمة يقول: كلّ هذه الحدود التي بين الدول الإسلاميّة لا معنى لها.. لا معنى لوضع الحدود بين الدول الإسلاميّة، فالحدود هي بين الكفر والإسلام، وليس لدينا حدود ترابيّة؛ فلم يكن في تاريخنا حدود، ولم تظهر هذه الحدود إلاّ منذ مائة أو مائة وخمسين عامًا.. نعم، كانوا يجعلون بوّابة ليضبطوا حركة الداخلين، ولم يكن هناك من حدود! وعليه، فإنّ الحدّ بين الناس هو عبارة عن اعتقادهم، ولا حدّ على أساس القوميّة واللون والثقافة، والحدّ هو بين الإيمان والإسلام وغيرهما، وأمّا اختلاف الشعوب والقبائل، فلا يؤدّي إلى اختلاف الحدود؛ ولذا كان المرحوم العلاّمة يقول: ما هو شائع الآن من التعبير بالإيرانيّ والأجنبيّ هو تعبير خاطئ، فالمسلم مسلم، وهذا التعبير موجود حتّى في البلدان الإسلاميّة؛ فمثلاً في البلدان العربيّة يسمّون غير العرب بالأجانب كما نرى في المطارات، حيث يجعلون لهذا مدخلاً ولذاك مدخلاً آخر؛ والحال أنّه لا وجود للأجنبيّ فيما بين المسلمين أنفسهم، سواءّ كانوا من الفرس أو من الترك أو من الديلم أو من العرب أو من الإنكليز أو الهنود أو الصينين.. فكلّهم يعدّون مواطنين ما داموا مسلمين. وإن كانوا على غير الإسلام، فهم أجانب ولو كانوا يعيشون في داخل الوطن الإسلاميّ؛ فالحدّ في الإسلام هو الإسلام نفسه، لا القبيلة. وفي هذا الزمان، نرى أنّ بعض الدول الأوروبيّة قد رفعت بينها الحدود، وقد أحسنت إذ قامت بذلك، فهذا العمل الذي كان يُتوقّع منّا نحن هم الذين أقدموا عليه؛ وكم كان جميلاً أن نقوم بذلك في بلداننا الإسلاميّة! فلا معنى لأن يكون هناك حدّ بين إيران وباكستان، ولا معنى لأن يكون هناك حدود بين إيران والعراق، وبين سوريا والحجاز والدول الإسلاميّة الأخرى.. فكلّها وطن واحد. لقد كانوا هم الأذكياء حيث عملوا على ما يرون أنّه يعزّز وحدتهم أمام الإسلام.. لقد اتّحدوا كي يقفوا أمام الإسلام ومدرسة التوحيد، فقد اتّحدت تلك الدول الأوروبيّة المتقاربة ووحّدت عملاتها وفتحت الحدود أمام الداخلين والخارجين، فصار الذي ينتقل من بلد إلى آخر كأنّه ينتقل من مدينة إلى أخرى؛ ويجب أن تكون الحال كذلك في البلدان الإسلاميّة، ولا بدّ أن يشعر الناس في أعماقهم بذلك في هذه البلدان؛ فيروا أنّهم شعب واحد مع من يشاركهم في الدين والعقيدة، ولكنّهم لا يسمحون لنا بالوصول إلى هذا الأمر؛ فلم يكونوا يسمحون لنا بذلك على طول تاريخنا، والآن هم كذلك لا يجيزون، غير أنّهم عملوا هم به في بلدانهم.
رحم الله المرحوم الوالد فقد كان يحمل فكرًا عجيبًا، وأنا الآن أتأمّل في تلك الأفكار أحيانًا، وبغضّ النظر عن البعد العرفاني في شخصيّته؛ فذاك شيء آخر.. أتدرون متى كان يتحدّث بهذه الأفكار؟! منذ سنة 1342 هجري شمسي التي صادفت تقريبًا انطلاقة الثورة الإسلاميّة، وقد كنت حينها طفلاً ربّما في الصفّ الأول أو الثاني الابتدائي، ولا زلت أذكر هذه الكلمات حينما كنت أشارك في مجالسه التي كانت تُعقد يوم الجمعة أو غيره؛ أي ربّما مضى على هذه المجالس خمس وأربعون سنة، وحينما أتأمّل تلك الطروحات، فإنّي أُذهل أمام تنوّره الفكريّ؛ فكم كان فكره في ذلك الزمان متفتّحًا وناصعًا، وكم كان دقيقًا في ملاحظاته! ولا أدري إن كنتم تذكرون، فقد تحدّثت معكم يومًا عن مسألة عموميّة الدين والعقيدة والثورة وشموليّتها؛ فالذي كان يطرح هذه العقيدة من تعميم فكرة الحكومة الإسلاميّة بين جميع أفراد الناس هو المرحوم الوالد، فقد كان يقول في ذلك الزمان: عندما نطرح مباني التغيير والتحوّل الثقافيّ والسياسيّ والدينيّ ـ والذي لا يزال يطرح حتّى الآن ـ يجب أن لا يكون اهتمامنا منصبًّا على صنف واحد وفئة خاصّة من الناس، وينبغي ألاّ تكون الدعوة خاصّة برجال الدين؛ لأنّ رجال الدين هم فئة واحدة من المجتمع؛ وإلاّ أفهل سائر الناس يرجعون إلى أصل آخر؟! ومن أب آخر غير أبي البشر ومن غير هذا التراب؟! يجب ألاّ تكون الدعوة إلى الذات! يجب ألاّ تكون الدعوة بنحو يُشعر الناس بأنّ فئة خاصّة من الناس تريد أن تبرز وتظهر وتتسلّط على مصير الناس! بل لا بدّ أن تكون الدعوة إلى الله، وإذا كانت الدعوة إلى الله فكلّ الذين يلبّونها هم سواسية؛ فإن كان الملبّي لهذه الدعوة عالمًا، فمرحبًا به، وإن كان جاهلاً، فمرحبًا به، وإن كان معمّمًا، فلا بأس في ذلك، وإن كان غير معمّم، فلا مشكلة في الأمر؛ فسواءٌ كان الملبّي للدعوة رجلاً أو امرأة... محجّبة كانت أو غير محجّبة.. فكافّة أصناف الناس إذا لبّوا وجاؤوا، فمرحبًا بهم، وكلّ من جاء متوجّهًا إلى الله، ولا بهدف التغيير السياسيّ... فبين الأمرين فرق كبير.. التفتوا، فالأمر يختلف اختلافًا كبيرًا! إنّ الدعوة في الحكومة الإسلاميّة هي إلى الله، ولا أدري متى لجأنا إلى استعراض منهج أمير المؤمنين عليه السلام في حرب صفّين والنتائج التي يُمكن أن تُستفاد من أسلوبه: هل في الجلسة السابقة أم التي قبلها؟ والآن سنبيّنها بنحو آخر أيضًا؛ فالدعوة في الحكومة الإسلاميّة عامّة: أيّها الناس هلمّوا إلى الله جميعًا! لا إلينا نحن! الرجال.. النساء.. المسلمون.. وحتى غير المسلمين، أنت يا من تريد أن تتوجّه إلى الله فلتأت إلى الله! أيّها اليهوديّ الذي يعيش في هذا البلد! أيّها النصرانيّ الذي يعيش في هذا البلد! أيّها الهندوسيّ والمجوسيّ! نحن أيضًا ندعوك إلى الله، ولا ندعوك إلى أنفسنا! فالأمر يختلف! أنت أيّها الهندوسيّ الذي لا يرضى بالإسلام! وأنت أيّها النصرانيّ الذي لا يرضى بالإسلام! أنت تعترف بالله، وترضى بهذه الحقيقة وهذا المبدأ! هيّا إلى هذا المبدأ وتحرّك نحوه وأعنّا على الوصول إلى ذلك الهدف؛ فنحن نسير إليه، لا أنّا نريد أن نتسلّط عليك ونقول لك بعد ذلك: أعنّا! فهذه دعوة إلى النفس، وليست دعوة إلى الله! نحن ندعوك إلى الله؛ فإن كنّا نسير إلى الله، فأعنّا، وإلاّ إذا لم نكن نمشي نحو الله، فلا ينبغي عليك أن تعيننا، وعليك أن تتنحّى جانبًا.. لماذا؟ لأنّ أساس الإسلام ومدرسته هو الله، والإسلام يتحرّك على أساس الله، والإسلام يتقدّم على أساس محور التوحيد؛ ومن هنا، فلا تمييز بين من يأتي إلى هذه الدعوة، وكلّ من يتقدّم هو منّا، وكلّ من يتأخّر مهما كان شأنه ليس منّا.

    

الحكومة الإسلاميّة الحقيقيّة تتكّئ على محوريّة الله تعالى وعبادته

ولكن ما نراه اليوم في دول العالم هو أنّ الدعوات ترجع إلى النفس؛ فهم يقولون مثلاً: تعال وشارك في هذه المسألة لنصل نحن إلى مبتغانا وننتصر، ولا شغل لنا بدينك، سواءً كنت نصرانيًّا أو يهوديًّا، فالمهمّ أن تعطينا صوتك وكن بعد ذلك ما شئت.. فما هو المحور الذي تدور حوله الأفكار في هذه الدول؟ انتخبنا لنصل نحن إلى ذلك الهدف، سواءً صلّيت أو لم تصلّ؛ فهذا شأنك! صمتَ أو لم تصم، فالأمر لك! تعال وانتخبنا لنصل إلى الكرسيّ، فالصلاة والصوم هي أمر بينك وبين الله، ولا علاقة لنا نحن بذلك! وأمّا مدرسة أمير المؤمنين، ففيها دعوة لليهوديّ والنصرانيّ أيضًا، ولكنّها دعوة إلى الله؛ أي: تعال إلى هذه الحكومة وانظر إلى الله، لا إلى "الأنا" و" الأنت".. فماذا كانت حكومة أبي بكر؟ هل كانت حكومة الله؟! وماذا كانت حكومة بني أميّة؟ هل كانت حكومة الله؟ فتلك الحكومة التي لا تتورّع عن قتل ابن رسول الله في سبيل الوصول إلى الحكم؛ هل هي حكومة الله؟ والحكومة التي لا تتورّع عن قتل ابنة رسول الله هي حكومة الله؟ وهل تكون سببًا لافتخار الإسلام؟! ألم يتحدّث بعضهم عن الافتخار بتلك الحكومة؟! نحن نريد أن نجلس على منبر رسول الله ـ ذلك المنبر ذي الدرجات الثلاث فقط لا العشر والخمسة عشر درجة؛ لأنّ المنبر هو ثلاث درجات فقط ـ ولو اقتضى الأمر أن نقطّع بضعة رسول الله إربًا إربًا، فلا يهمّنا.. فما المشكلة في ذلك؟! ولو اقتضى الأمر أن نربط الحبل في عنق صهر رسول الله ونجرّه جرًّا إلى المسجد! واقعًا هل نصدّق ما جرى على أمير المؤمنين عليه السلام؟! أنتم أيّها الحاضرون هل تصدّقون ما جرى على أمير المؤمنين؟ معاوية يقول: كالجمل المخشوش؛ أي كالجمل الذي يسيرون به إلى الذبح، وقد أجابه أمير المؤمنين عليه السلام: «أردت أن تذمّني فمدحتني»[1].. هذا ما حصل، وهذا هو عين فعل معاوية حيث قال: أنا لا بدّ أن أصل إلى الحكم، ولا شغل لي بعملكم أنتم، وإن لم أصلْ قتلتكم؛ فجاء إلى العراق ومكر واشترى قادة جيش الإمام الحسن عليه السلام، واستعمل التهديد والإغراء، ووعد [زوجة الإمام الحسن عليه السلام] بالزواج من ابنه... فبقي الجيش من دون قادة فتشتّت أفراده، ولم يبق للإمام الحسن أي مفرّ من الاستسلام، ثمّ بعد ذلك وضع وثيقة الصلح تحت قدميه وقال: كلّ ما اتفقت عليه مع الحسن بن علي فهو تحت قدميّ ولا قيمة له.. لقد أردت أن أتأمّر عليكم، وقد وصلت إلى مبتغاي، فسواءً صلّيتم أو لم تُصلّوا، وسواءً صمتم أو لم تصوموا.. لا شأن لي بذلك، فافعلوا ما شئتم![2]
هذه هي حكومة السياسيّين وأهل السياسة، وأمّا حكومة أمير المؤمنين، فهي حكومةٌ إذا رأى فيها عليه السلام بأنّ مسجد الكوفة خال من المصلّين، فإنّه يأتي بنفسه إلى باب دارك ويقول لك: اذهب لحال سبيلك، إنّما أنشأتُ لك هذه الحكومة لكي يمتلأ هذا المسجد بالمصلّين، ولكي ينتشر فيها الصيام بين الناس، ويزدهر فيها الحجّ ويتحرّك الحجيج إلى البيت.. إنّما رضيت بالحكومة ليتحقّق الإقبال على مظاهر الإسلام، وليس لي اهتمامٌ بعدد الناس الذين سيأتون ويجتمعون حولي، فأنا لست ممّن يهتمّ بهذه المسائل. وعليه، فإنّ الدعوة في الإسلام هي دعوة إلى الله لا إلى الذات، وشتّان بين الدعوتين، حيث نجد بأنّ هناك اختلاف بينهما في المعايير والمسائل والمظاهر والخطط؛ فهنا الصدق وإبراز الصفاء والخلوص والإعلان عن حقيقة الاستعدادت المتوفّرة: هذه هي قدراتي وخصوصيّاتي ومعلوماتي، وهذه هي سلبيّاتي، وتلك هي إيجابيّاتي؛ فمن أرادني فلينتخبني!
وأمّا هناك، فالكذب والتهمة، وتلميع الإيجابيّات، واختلاق الحسنات، واصطناع القيم الكاذبة، من أجل ماذا؟ من أجل الوصول إلى الكرسيّ؛ فماذا يصنعون الآن في سائر الدول؟ وماذا يصنع السياسيّون؟ هل يذكرون للناس سلبيّاتهم ونقاط ضعفهم ومخالفاتهم، أم لا؟ بل حتّى لو صنعوا ذلك، فإنّهم يبثّون بين الناس المئات ممّن يروّج الأكاذيب والوعود، حتّى إذا انقضت الانتخابات مرّوا كأن لم تكن هناك وعود.. هذا هو الفرق بين الدعوة إلى الله والدعوة إلى الذات، وبين الدعوة إلى التوحيد والدعوة إلى عبادة الكثرات وعبادة الشهوات ومحوريّة الدنيا وأصالة الرئاسة، بينما نجد في الطرف الآخر الدعوةُ إلى عبادة الله ومحوريّته؛ وهذا هو الفارق بين الدعوتين.

    

صفات الأطفال التي يُحبّها النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم

ففي بداية نشوء الأطفال، نجدهم يمتازون بتلك الحالات؛ ولذا ترانا نأنس بهم ونحبّهم، وأظنّ أنّني نقلت لكم هذه الرواية عن رسول الله حول الأطفال، وقد كان المرحوم الحدّاد رضوان الله عليه كثيرًا ما يتحدّث بها: «إنّي أحبّ من الصبيان أربع» (أو خمس لأنّ الروايات تختلف في ذلك)[3]:

    

1ـ البكاء علامة على الرحمة وصفاء الباطن

الأوّل: أنّهم يبكون: فالأطفال كثيرًا ما يبكون، وهو علامة الرأفة والرحمة وصفاء الباطن، حيث تحصل للإنسان هذه المسألة في حالتين على السواء: في حالة الحزن، وفي حالة الشوق والعشق. وأمّا قساة القلوب، فلا يبكون، وحتّى لو التقى بأعزّ الناس على قلبه، فإنّه ينظر إليه من دون أيّ تفاعل، حيث تجد في قلبه نوعًا من الغلظة؛ نعم، هناك بعض الأفراد لا يبكون في مثل هذه الأحوال لشدّة صفائهم، وطبعًا هؤلاء قليلون جدًّا، وهذا استثناء، وليس الأمر مطلقًا، ولكنّ الذين لا يبكون عمومًا هم من القساة، وحتّى في عباداتهم لا يبكون، وفي مواقف البكاء لا يتأثّرون، وفي العزاء لا يبكون، وفي الحالات الروحيّة لا يبكون. فالنبيّ يقول بأنّ الأطفال يبكون؛ لماذا؟ لأنّهم أصحاب صفاء؛ فصفاء الطفل ورحمته ورأفته تقتضي أن يبكي سواء تألّم أو لم يتألّم، وهم في موارد مختلفة يبكون؛ وهذه الحالة من الرأفة والرحمة هي التي تستوجب استجلاب الفيض، ولمولانا في هذا الموضوع مطالب مهمّة... هذا الأوّل.

    

2ـ يبنون ويخربون (عدم التعلّق)

الثاني: أنّهم يبنون ويخرِبون، يبنون البيوت بالطين والحجارة لاهين، فيصنعون لها الأبواب والشبابيك والأدراج، ويجعلون لبيوتها سقفًا وسراديب، ويزرعون حولها الأشجار، ويزيّنونها بما يشتهون.. عاملين من الصباح حتّى الظهر، حتّى إذا حلّ وقت الظهر، يركلونها بأقدامهم! فلنذهب الآن لتناول طعام الغداء وإلاّ فاتتنا الفرصة لذلك!!! فتراهم يخطّون بقلم البطلان على كلّ ذلك الجهد والتعب الذي بذلوه من الصباح إلى المساء بركلة قدم واحدة ويذهبون!! فتجدهم فرحين ومسروين حين البناء، كما تراهم أيضًا فرحين عند الهدم، بل ربّما كان سرورهم بالهدم أكثر!!! نعم؛ فلعلّ الهدم يبعث عندهم على شعور بالفرح أشدّ..! يبنون ويخربون، لماذا؟ لأنّهم بغير تعلّق، فالطفل لا يتعلّق بما يبني، وكلّ نظره هو إلى العمل الذي يقوم به الآن، لا إلى النتيجة التي ستترتّب عليه؛ وهذه المسألة دقيقة جدًّا، وعلينا أن نلتفت إليها في أعمالنا؛ أي: عندما نقوم بعمل معيّن، علينا أن نفكّر في ذلك الحين في نفس العمل الذي نقوم به فقط؛ فمن باب المثال: أنا الآن أتحدّث إلى الرفقاء والأصدقاء ـ وقد صار هذا الميكروفون بمثابة اللعبة!!! ـ فإذا نظرتُ إلى كيفيّة التسجيل وهل سيكون جيّدًا أم رديئًا، فلن يكون لعملي أيّة قيمة، وستضيع كلّ الجهود التي بذلتها طيلة هذا الوقت وتذهب أدراج الرياح! ولكن، إن لم أفكّر بذلك، بل فكّرت بأنّني أقوم بتكليفي ولا ربط لي بسائر الأمور، سواء خرب الميكروفون أو تعطّلت هذه الكاميرا المنصوبة أمامي أو انقطع التيّار الكهربائي أو وقع السقف علينا لينتهي أمرنا جميعًا وتتخلّصوا من هذا الضجيج الذي أسبّبه لكم...!!! بمعنى أن أفكّر فقط بأنّ تكليفي ينحصر بإيصال هذه المطالب إلى آذان الرفقاء، وأمّا سائر الأمور، فلا علاقة لي بها؛ لأنّ المهمّ عندي هو الوفاء بوعد المرحوم الوالد بإيصال هذه المطالب حيث قال: ها قد ذكرنا لكم الحقائق وعليكم بنشرها! فأفكّر في هذه الساعة الواحدة بأنّني أدّيت هذا العمل من دون الاهتمام ببقيّة الأمور.. فأفكّر بذلك لا غير.
وانتبهوا فالمسألة دقيقة جدًّا، حيث علينا أن نرى ماذا يريد الرسول من قوله: يبنون ويخربون؟ وما هو الأمر المهمّ الذي يسعى النبيّ صلّى الله عليه وآله تعليمه إيّانا كبرنامج تربويّ وسلوكيّ؛ فما هي حالة الأطفال حينما يبنون وحينما يهدمون؟ إنّهم يعيشون اللحظة التي هم فيها فعلاً، ولا ينظرون إلى ماضيهم وماذا فعلوا بالأمس، كما لا ينظرون إلى مستقبلهم وماذا سيترك هذا العمل من آثار وتبعات ومصالح ومضارّ ومنافع على المستقبل؟ الآن هو مسرور ولا يهمّه ماذا سيحدث بعد ذلك؛ ففي تلك اللحظة هو سعيد ومسرور ويرى بأنّه يقوم بفعل معيّن وأنّه يُظهر شيئًا ما على منصّة الوجود.. وأنّ هذا هو عمله وفعله! ونحن علينا أن نكون كذلك، وعلى كلّ عامل أن يكون كذلك؛ كأن يقوم بالتبليغ أو التجارة أو بخدمة الناس أو السياسة والحكومة.. فأمير المؤمنين عليه السلام كان في حكومته تمامًا كهؤلاء الأطفال الذين يبنون ويخربون، فكان يتحدّث من على المنبر فينصح الناس، ويرغّبهم ويحثّهم على قتال معاوية واقتلاع جرثومة الفساد تلك، ولكنّ الشيء الوحيد الذي كان يشغل باله ومصبًّا لاهتمامه هي تلك اللحظة الفعليّة التي يقوم فيها بذلك العمل، ولم يكن ليخطر على باله أنّ عمله هذا سيصل إلى نتيجة أم لا؛ أي أنّنا لو كنّا ذهبنا إلى أمير المؤمنين عليه السلام في ذاك الزمان واستقصينا عن حقيقة عمله، فدنونا منه بعد أن نزل عن المنبر فجلس جانبًا، وقلنا له: لدينا بعض الأسئلة:
                             ـ لقد شاهدناكم تتحدّثون عن هذه المسائل لمدّة ساعة واحدة، وترغّبون الناس وتشجّعونهم وتُحرّضونهم على السير إلى الشام؛ فهل تتوقّعون النجاح في هذه الحرب؟
                             ـ لقال عليه السلام: إنّنا نذهب إليهم لنرجع بعد ثمانية عشر شهرًا مهزومين، هذا ما سيقوله عليه السلام فيما لو سئل؛ نعم، لم يكن ليقوله لأيّ سائل، بل هو يخبر السائل الذي من أهل السرّ بعد أن يشرط عليه ألاّ يخبر أحدًا.
                             ـ يا أمير المؤمنين أنت حيث تعلم أنّنا سنهزم بعد ثمانية عشر شهرًا لنرجع بعد تقديم كلّ هؤلاء الشهداء، فلمَ كلّ هذه التحريض؟
                             ـ إنّها الوظيفة الشرعيّة.. وظيفتي هي محاربة الفساد، وإسقاط الخليفة الظالم عن منبر التبليغ وعرش السلطنة، وإقامة المعروف والنهي عن المنكر .. فأنا أؤدّي هذه الوظيفة وأعلم أنّي لن أصل إلى نتيجة، وسيأتي رجل اسمه عمرو بن العاص ويُدبّر خدعة، وسيقع في حبالها عدّة من المنافقين في جيشي هذا، ويُؤدّي ذلك إلى خسارتي وعودتي من صفّين بغير نتيجة، وكلّ ذلك مسطور في الكتاب.. لا تنبس ببنت شفة! وتعال أنت معي لتؤدّي وظيفتك مثلي، وخذ السيف بيدك، واحمل درعك بيدك الأخرى، وامتط جوادك، وامض إلى ذلك الميدان! فإن قتلت، فأنت شهيد، وإن بقيت، فقد قمت بتكليفك، وعُدت فنلت رضوان الله.
هذا هو منهج أمير المؤمنين عليه السلام وهذه هي حكومته؛ فلننظر إلى أنفسنا أين نحن منه؟ يبنون ويخربون.. كلّ واحد منّا لا بدّ أن يكون كذلك، وكلّ إنسان عليه ـ في كلّ عمل يقوم به ـ أن يسلب عن نفسه الاختيار في أثناء تأديته لذلك العمل... لقد ذكرت هذا المطلب قبل أوانه حيث كنت أنوي أن أشير إليه في نهاية المطاف، وهو يحتاج إلى شيء من التوضيح، وهو ما سنقوم به إن شاء الله في المحاضرة القادمة.

    

3ـ اللعب بالتراب (عدم التعيّن)

هذا هو الأمر الثاني، والثالث:يقول رسول الله: وبالتراب يلعبون، فالأطفال يلعبون بالتراب ويأنسون به، وأمّا نحن، فهل نرى التراب من الأساس مع ما عليه حياتنا الآن؟ بل لا تقع حتّى أعيننا عليه، إلاّ إذا ذهبنا إلى الحقول والصحاري؛ فأيدينا لا تصل إليه، ولا علاقة لنا به، بينما نرى الأطفال على صلة وطيدة به، ويشعرون بالقرابة بينهم وبينه، وحتّى لو وضعنا بين أيديهم الأواني الثمينة، لأهملوها واتّجهوا نحو التراب والطين يلهون به، لماذا؟ إنّه بسبب ما بينهم وبين التراب من التجانس، حيث أنّ التراب لا تعيّن له، وإلاّ لماذا أُمرنا أن نسجد على التراب وليس على المعدن أو الخشب؟ لأنّه وحده الذي لا تعيّن له ولا قيمة ولا حدود دون غيره من الموادّ؛ فلو أنّ أحدهم وضع أمامه ألماسًا وسجد عليه، لكانت صلاته باطلة. فالله تعالى لا تعيّن له، وكذا محلّ سجود العبد يجب أن يكون بغير تعيّن؛ ولذا قالوا: لا بدّ أن تكون سجّادة الصلاة بيضاء بسيطة غير ملوّنه ولا مزخرفة، فهذه النقوش التي عليها تُشتّت أذهانكم وحواسّكم، وجميع هذه الأمور باطلة، حيث ينبغي أن يكون محلّ السجود أبيضًا ولا تُرى فيه إلاّ التربة؛ لأنّه لا يمكن أن تكون السجّادة مزخرفة ولا تجذب الذهن نحوها؛ فيكون الإنسان بذلك قد خسر بنفس المقدار.. فلماذا أُمرنا بذلك؟ كي لا تتّجه القلوب نحو المظاهر ونحو الصوارف عن التوحيد.
ومن هنا، ينبغي ألاّ يكون المحراب مزيّنًا بالفسيفساء؛ لأنّها تأخذ بلبّ المصلّي المسكين فلا يستفيد شيئًا من صلاته.. أفهل كان شيء من ذلك في الإسلام؟! وهل أمر النبيّ بتزيين محرابه بالنقوش المشبّكة؟ أم الإمام الصادق؟ هل هذه هي مظاهر حضارة الإسلام و مدنيّته؟ أم أنّ حضارة الإسلام هي في وقوفك أمام محراب من الطين والتراب لا يشدّك نحو مظاهر الدنيا، ولا يصرفك عن التوجّه إلى المبدأ، ولا يمنع روحك عن الارتقاء نحو التجرّد أو الهويّ نحو الكثرات... «عريش كعريش موسى»،[4] سقف كسقف موسى؛ فعندما يظهر صاحب الزمان عليه السلام، سيكون لديه الكثير الكثير من الأعمال ليقوم بها..! العمل الأوّل الذي سيقوم به هو أنّه سيهدم جميع هذه المساجد، ورواية ذلك موجودة عن الإمام الباقر عليه السلام،[5] ولا أدري كيف سيهدمها الإمام!! بالمتفجّرات أم بسائر وسائل الهدم والتخريب، أم بغير ذلك!! ها هو المسجد الذي كنت تصلّي فيه منذ خمسين عامًا؛ انظر إليه الآن كيف سننسفه في الهواء أو ندكّه على الأرض!!! كنت يومًا أسير في أحد شوارع قمّ، فرأيت جماعة من الناس ينصبون مئذنة لمسجد، وقد حُملت بالرافعات الضخمة، وإمام المسجد واقف ينظر بفرح وسرور، فقلت في نفسي: اصبر قليلاً حتّى يأتي صاحب الزمان فيقول لك: لقد كنت مسرورًا ببنائها ورفعها بتلك الآلات، فانظر الآن كيف سننزلها على الأرض! فإذا كان الأمر بهذا الشكل، فما هي حقيقة كلّ تلك الصلوات والعبادات التي تقام هنا؟ وما معنى كلّ تلك الأموال التي تُصرف في هذه الأمور؟ وهل ينبغي أن تصرف الأموال لبناء المآذن، أم تعطى إلى الفقراء؟ وتصرف في الأمور الخيريّة والمستشفيات وتعبيد الطرق وزراعة الأشجار وفي العمران والبناء؟ فهذه الأمور ينبغي أن تكون على أفضل ما يُرام وأجمل هيئة في البلاد، وأمّا المنارات، فلماذا ترفع؟ ولماذا تبنى القباب؟ هل أمر بذلك النبيّ أم صاحب الزمان؟ كلّ ذلك خلاف الشرع، وأمّا عمران البلاد، والزراعة، ومظاهر الجمال، وحفظ سلامة البيئة، فإنّ ذلك كلّه من واجبات الحكومة الإسلاميّة التي ينبغي تأمينها على أفضل حال؛ فلماذا يجب أن يُحرم الناس من لذّة النظر إلى الأشجار والأزهار والحدائق وجمال العمران؟ ولماذا يجب أن تكون الشوارع ضيّقة مزدحمة، ولماذا يقوم الآخرون بذلك ولا نقوم به نحن؟ لا بدّ من الاهتمام بكلّ ذلك بدلاً من تلك الأعمال المخالفة للشريعة.
فعندما يقف الإنسان للصلاة، لا بدّ أن يكون توجّهه إلى الله فقط.. كان المرحوم العلاّمة يقول: لو كان بإمكاني أن أحمل المعول وأحطّم محراب مسجد "القائم"[6] من أعلاه لأسفله، لفعلت.. هكذا كان هؤلاء، أمّا نحن، ففي كلّ يوم نزيد من هذه التعيّنات والتعقيدات؛ وهو انحراف عن الجادّة وليس استقامة.
وبالتراب يلعبون، لماذا يلعبون بالتراب؟ لأنّ التراب لا تعيّن له، {مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فيها نُعيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى‏}[7] فمن هذه الأرض وهذا التراب خلقناكم، وفي هذا التراب سنعيدكم، ومنه سنبعثكم؛ وفي ذلك إشارة إلى أنّ على الإنسان ألاّ يتوجّه نحو الزخارف والزينة، والأمر يتفاوت بحسب حالات الإنسان؛ فتارةً، يكون الإنسان باحثًا عن عمل متقن وجيّد، فلا يقتصر عند ذلك على الأقلّ كلفة، بل عليه أن يبحث عن العمل المتقن ولو كانت قيمته أرفع وسعره أكثر؛ فهذا شيء، ولكن هناك شيء آخر وهو طلب الزينة والزخارف، فإنّه عمل خاطئ ولا ينبغي القيام به.. هذا هو الأمر الثالث.

    

4ـ النزاع من غير حقد

الأمر الرابع الذي يحبّه رسول الله من الصبيان هو: ومن غير حقد يتخاصمون، فيضرب بعضهم بعضًا ولكن بدون حقد، وبعد مرور وقت يسير، تجدهم على صلح وصفاء؛ فلا نزاعهم كان عن قصد وعمد وتدبير، ولا صلحهم كان كذلك. أمّا نحن، فلسنا بهذا الشكل، فنحن حتّى لو لم نتنازع، إلاّ أنّك تجدنا في باطننا نتنازع ويهجم بعضنا على بعض، ونتّخذ المواقف اتّجاه بعضنا؛ فهذا عمل خاطئ، والحقد ليس عملاً صحيحًا، فكم هو قبيح أن يتمنّى المرء سوءًا لأخيه! فقد يختلف المؤمن مع أخيه المؤمن في شيء، وقد يكون لهذا ذوقه وفكره، ولذاك ذوقه وفهمه، ولكن لمَ الحقد؟ كما لو كان هذا يحبّ نوعًا من الطعام وذاك يرغب بنوع آخر؛ فهل هذا سبب لأن يتنازعا؟ هذا يحبّ "مرق اللحم" وذاك يحبّ "الأرزّ"، والأمر نفسه في العقيدة؛ فلهذا عقيدتُه وهو يحبّ فلانًا، ولذاك عقيدته وهو يحبّ آخر، وعقيدة كلّ منهما عن وعي ودراسة؛ فما دامت عقيدته كذلك، فلماذا أنا أحقد عليه؟ ولماذا أتمنّى له السوء؟ ولماذا أتتبّع الأمر في نفسي؟ كلّ ذلك ليس سوى موانع توقف الإنسان عن الحركة؛ فمن كان في نفسه حقد على رفيقه أو أيّ إنسان آخر، فلن يترتّب على عبادته أيّ أثر في تكامله وارتقائه، لماذا؟ لأنّ النفس قد توقّفت في هذه المرتبة من الهوى، وليس لتلك العبادة القوّة اللازمة للارتقاء بهذه النفس نحو الأعلى؛ فالحقد على الناس والمؤمنين هو كحبل مطاطيّ تربطه بالشيء، فما إن يتحرّك الشيء حتّى يعود به إلى حيث انطلق.. ومن غير حقد يتخاصمون، هل صارت واضحة؟

    

الرياضات الشرعيّة هي الوسيلة لرجوع الإنسان إلى حالته الأولى وحركته نحو الله تعالى

هذه المسألة التي حدّثتكم عنها هي عبارة عن حقيقة كانت تُرافقنا حال ورودنا إلى الدنيا، ولكن للأسف، ومع مرور الزمان وعلى أثر نموّ الفكر وتطوّر الفهم الناتجين عن التقدّم في العمر، فإنّ هذا التعلّق يتبدّل من المبدأ والماضي إلى المستقبل وما يخصّنا منه؛ وكلّما تضاعف سنّ الإنسان في هذه الدنيا، فإنّه يخسر شيئًا فشيئًا تلك الآثار التي كان يحملها عند وروده إليها. ولا يخفى أنّ الناس يتفاوتون في هذه الحالة؛ فبعضهم يتخلّى عنها مبكّرًا، وبعضهم متأخّرًا، وبعضهم قد لا يتخلّى عنها أبدًا، وهم الأقلّون عددًا؛ فنحن نلاحظ في علاقاتنا مع الناس أنّهم يتفاوتون في سخائهم وصفائهم وصدقهم وأنانيتهم ومنزلتهم وسعيهم وراء مصالحهم ودفعهم للمضارّ التي تواجههم؛ فلا نجد اثنين من الناس في مستوى واحد في ذلك، حيث تجد بعضهم سرعان ما يعفو ويصفح، وبعضهم يعفو ولكن متأخّرًا، وبعضهم يحتاج للتنبيه، وبعضهم لا يحتاج، وبعضهم لا فائدة منه حتّى مع التنبيه... فالناس متفاوتو المراتب والدرجات، وكلّما توغّل الإنسان في هذه الدنيا، كلّما اتّسعت الهوّة بينه وبين ذلك المبدأ وتلك الحالة التي رافقت مجيئه للدنيا. وللوصول إلى المبدأ والرجوع إليه والسير إلى الله والحركة في طريق التكامل، على الإنسان أن يزيل هذا البعد والتنافر في كلّ مورد من موارده؛ وما لم يقم بذلك، فلن يحصل على أيّة نتيجة، وهذا هو أصل المسألة وأساسها! أي لا بدّ من الرجوع إلى تلك الحالة التي كنّا عليها لحظة خروجنا من بطون أمّهاتنا، وإلى تلك الخصوصيّات التي كنّا نحملها عند ولادتنا، ولكن الفرق أنّها كانت آنذاك في مرتبة الاستعداد وعدم النضج، وكانت بدون كسب، وأمّا الآن، فلا بدّ من الرجوع إليها ولكن مع كسب، ومن خلال الرياضات الشرعيّة والتغيير النفساني المستند إلى مباني الشرع، لا أن يقوم الإنسان بكلّ ما يحلو له في سبيل ذلك، بل لا بدّ أن تتحقّق هذه التغيّرات على أساس الشرع حتّى الوصول إلى نقطة: {إنّا إليه راجعون}؛ أي أنّ تلك الخصائص التي كانت لدينا في الطفولة والمتعيّنة خارجًا في هذه الدنيا من حيثيّة {إنّا لله} هي الآن تحصل لنا مرّة أخرى عند الرجوع إلى الله والرجوع لذلك المبدأ، لكن بواسطة الكسب والفعليّة؛ وهذه هي الغاية من خلق الإنسان! فغاية خلق الإنسان ومقصده هو أن يُعيد ـ من خلال الرياضات الشرعيّة ـ إظهار تلك الصفات والأسماء الإلهيّة المودعة في نفسه والتي أحضرها معه إلى هذه الدنيا بنحو الاستعداد ومن غير نضج ولا تكامل؛ فيصير بذلك إنسانًا كاملاً.
وعليه، فللرجوع من عالم التوهّم والتخيّل والاعتباريّات، وللخروج من النفس والتلذّذات النفسيّة والشهوات والرئاسات ومن كلّ ما يوجب بعُدنا عن تلك العطايا الإلهية، لا بدّ لنا من الرياضة؛ وهذا ما يريده الإمام الصادق عليه السلام في حديثه إلى عنوان. فالرياضة التي خصّها الإمام بالذكر في هذه الفقرة بقسم المأكولات هي عبارة عن حركة الإنسان وتحوّله وتبدّله الذي يُعدّ كمقدّمة ضروريّة للعبور من النفسانيّات والوصول إلى تلك النقطة من التكامل؛ ومن لم يقم بهذه الرياضات، فلو عاش تسعين عامًا ـ بل تسعين ألف عام ـ في هذه الدنيا، لما رجع إلى تلك الصفات الأولى قيد أنملة؛ فلا بدّ للرجوع إليها من الرياضة، ولا بدّ من إيجاد التغيير والتحوّل! فالصلاة وحدها لا تكفي، والصوم لا يكفي، وأداء العبادات بنحو ظاهري لا يكفي؛ ولا يعني ذلك ألاّ نقوم بها، بل إنّ الصلاة الظاهريّة هي التي لا تكفي؛ نعم، الصلاة تؤدّي إلى عبور الإنسان إذا أُقيمت بشرطها وشروطها، والصوم يحرّك الإنسان إذا تمّ أداؤه وفقًا لشروطه؛ ولذا عندما يصوم الإنسان ويلتزم بالامتناع عن بعض الصوارف في شهر رمضان، فإنّه يلمس آثاره، وحتّى في الصلاة يمكن أن نلمس ذلك؛ فلو أنّكم صليّتم على سجّادة بيضاء، ستكتشفون كم ستختلف آثار هذه الصلاة عمّا لو كانت على سجّادة مزركشة؟ ما هو السبب في ذلك مع أنّ كليهما صلاة؟! لأنّ هذه الصلاة خالية عن التوجّه إلى الدنيا، فتكون لها آثار خاصّة، وتلك الصلاة فيها زينة وأشكال ونقوش، فتكون لها آثار أخرى، وتلك الصلاة التي تكون أمام محراب مزخرف بالنقوش المشبّكة والأشكال التي تصرف ذهن الإنسان لها آثارها الخاصّة، وتلك الصلاة التي يتوجّه فيها الإنسان إلى المبدأ بغير صارف لها آثار أخرى. اذهبوا الآن إلى مسجد الكوفة وقارنوا بين المحرابين اللذين بُنيا لأمير المؤمنين، حيث أنّ أحدهما مزيّن ومزخرف بالذهب والزجاج، وأمّا الآخر فهو عبارة عن مجرّد أحجار؛ فمن يصلّي في هذا يجد آثارًا تختلف عمّن يصلّي في ذاك.. صحيح أنّ أمير المؤمنين صلّى في ذاك أكثر، غير أنّ هذا المكان يتأثّر بما أُحدث فيه من الزينة.

    

وجوب مراعاة الأمور المعنويّة في بناء المساجد والأضرحة

رحم الله المرحوم السيّد الحدّاد، عندما جاء إلى إيران قام بزيارة همدان ـ وكان قد زارها لمرّتين إحداهما قصيرة والأخرى أطول ـ وكنت في رفقته حيث كان عمري لا يتجاوز ثلاثة عشر عامًا، وقد ذهبنا لزيارة قبر بابا طاهر العارف الكبير رضوان الله عليه، وكان معنا المرحوم الشيخ بيات وبعض الرفقاء الهمدانيّين، حيث لم يكن قبر بابا طاهر في ذاك الزمان كما هو الآن؛ فقد كان في غرفة قديمة على مرتفع من الأرض، وُوضع فوقه قطعة من الصخر، وكان يحيط به التراب حتّى أنّا جلسنا على التراب، ولم يكن مفروشًا، وكانت فوقه قبّة مصنوعة من الطين، ولم يكن جميل المظهر، بحيث لم يكن ليُقصد إلاّ لما يحيط به من أجواء معنويّة؛ وقد ذهبنا إلى ذلك المكان وهو على تلك الحال وكان عجيبًا جدًّا بحقّ! فأنا رغم طفولتي آنذاك، لا أنسى ذلك الإحساس وتلك الأجواء التي كانت تُسيطر على المرحوم الحدّاد والمرحوم العلاّمة رضوان الله عليهما وبقيّة الرفقاء والأصدقاء، وأمّا الآن، فهو مرمّم، حيث رُمّم في عهد الشاه؛ لا حبًّا بالعرفاء وأولياء الله تعالى، ولكن اهتمامًا بالتراث القومي الإيراني وأمثال هذه التوهّمات التي عمدوا إلى إشغالنا بها، كما عملنا نحن أنفسنا على التلهّي بها.. هذه لنا وهذه لكم!! هذا من إيران وهذا من أفغانستان! يا عزيزي، كلّ هؤلاء أصلُهم من الأرض وسوف يرجعون إليها {منها خلقناكم}؛ ففخر عالم الكائنات رسول الله والأئمّة كانوا جميعُهم من العرب، ولم يكن أحد منهم من إيران ولا من أفغانستان ولا من تركيا ولا من أميركا ولا من أستراليا، ولكن نحن نقول: فلان من إيران وفلان من غير إيران؛ افرضوا أنّهم من إيران أو من غيرها، فما الفرق في المسألة؟ على الإنسان أن ينظر إلى المعنى والواقع.. ما هذا الكلام؟ كلّنا سواسيّة، وكلّنا نحمل نفس الخصائص والأبدان، فما هذا الكلام الذي ورّطنا أنفسنا باللهو به، مع أنّه ليس إلاّ اعتبار؟!! فقد جاؤوا في ذاك الزمان ورمّموا ضريحه باعتباره من الآثار القوميّة؛ لأنّ بابا طاهر كان إيرانيًا! والآن إذا ذهبتم إلى قبره ـ ويجب أن تذهبوا؛ فقبور الأولياء لا بدّ أن تُزار، والآن يمكن أن تستفيضوا منها أيضًا ـ فالفرق واضح، أين هو الآن ممّا كان عليه آنذاك؟ فقد تمّ إحداث مكان لدخول الناس اللاأباليّين، وورودهم على قبور أولياء الله بأحذيتهم بغير رقيب...! نحن كلّما ذهبنا إلى ذلك المكان، خلعنا أحذيتنا خارجًا وقدمنا إليه حفاة، وكذا نفعل عندما نزور حافظ الشيرازيّ؛ فمتى ما ذهبتم إلى الزيارة، انزعوا أحذيتكم، واصعدوا إلى فوق بأقدام حافية، واجلسوا هناك لقراءة الفاتحة! لا أن نسير هكذا مثل الحمار لا نلتفت إلى من دفن في هذا المكان! هذا عارف.. وليّ الله.. شيعيّ من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام! أهكذا ندخل بأحذيتنا، ثمّ نشرع بالتقاط الصور، فنقف هنا ثمّ نقف هناك! ما كلّ ذلك؟ فترانا عند الذهاب إلى زيارة أمير المؤمنين عليه السلام والإمام الرضا عليه السلام، نخلع أحذيتنا خارجًا؛ لماذا؟ لأنّ هناك ذهبًا وفضّة!! أمّا حينما نذهب إلى أئمّة البقيع، فقد رأيت العلماء بعينيّ يردون إلى قبورهم منتعلين، لماذا؟ ألعدم وجود الذهب هناك؟! أم لعدم وجود الفضّة؟! لأنّ أئمّة البقيع بغير ذهب ولا فضّة ندخل بأحذيتنا، أمّا حرم الإمام الرضا، فلا؛ لأنّ هناك الذهب والفضّة والمرايا والقباب... ما شاء الله! انظر إلى هذه المرايا وهذه القبّة وهذا الذهب! فما إن تقع عينك على تلك الأبّهة حتّى تخلع بغير إرادة منك حتّى الجوارب!!! فهل نكون بذلك قد زرنا الإمام الرضا عليه السلام؟ لا، لقد زرنا الذهب والفضّة والحديد والأبواب وليس نفس الإمام الرضا! ولذلك كان الإمام الرضا غريبًا؛ فليست غربة أئمّة البقيع عليهم السلام بأنّهم بغير إضاءة، فهذا ليس مهمًّا، فلو فرضنا أنّه لا إضاءة هناك، فما المشكلة؟ فالشمس موجودة والقمر موجود! ومن قال بضرورتها؟! نعم، لا بدّ من البناء ومن مجيء الزوّار وتأمين الحماية لهم من عوامل الحرّ والبرد، ولكن لا داعي لكلّ هذه الزخارف والمنمّقات؛ فما كلّ هذه النفقات؟ فهل أمر بذلك الإمام الرضا عليه السلام؟ فما هو الأحسن: أن تُنفق كلّ هذه الأموال في ذلك، أم أن تُعطى للناس والفقراء والمساكين والزوّار ولكلّ الناس؟ لا بدّ من بناء أضرحة أئمّة البقيع عليهم السلام لاستقبال الزوار وحمايتهم، ولكن هل يجب أن تبنى بهذا النحو الباعث على جذب انتباه الزائر وتشتيت ذهنه، ولنعمل بذلك على التفاخر على سائر أبنية الدنيا؟ أفهل هذا هو غرضنا؟ فلو كان الأمر كذلك، فهناك الكثير من الأبنية في الدنيا المرتبطة بالديانات الأخرى أعظم وأعلى، بحيث لا يوجد شبيه لها في دولة من دول المسلمين؛ فهل يكونون بذلك أرفع منّا؟ وهل الحضارة والتمدّن تكون بالبناء؟! لو كان التمدّن ببناء قصر الحمراء في إسبانيا ومسجد في الأندلس، فهناك الكثير من الأماكن الآن التي تفوق مبانينا؛ فهل هم خير منّا لذلك؟ ومن الذي بنى هذه المباني في تاريخ الإسلام؟ لم يبنها إلاّ نصارى أو يهود أو أرمن بعد إسلامهم، أو بنوها وهم على أديانهم؛ فمن الذي قال أنّ تلك المباني التي شيّدت قد بناها المسلمون؟ فما الفرق في ذلك، سواءً كان البنّاء أو المصمّم مسلمًا أو نصرانيًّا؟! فليس في ذلك فخرًا! لماذا كلّ ذلك؟ ما ذلك إلاّ لأنّا ضللنا الطريق، وأصبحنا نسير في طريق آخر! فالأئمّة يشدّوننا نحو طريق، ونحن نسير في طريق آخر، ونحن نستفيد من هذه المظاهر لطيّ طريق الله، والحال أنّها لا توصلنا إلى الله.
وعليه، لا بدّ لتجاوز هذه المسائل أن يعمد الإنسان إلى الرياضة، ويعمل على تغيير نفسه وتبديلها ليتمكّن من الاستمرار في حركته نحو مبدئه.
حسن جدًّا! فقد انقضى الوقت، ولم يعُد حالي يسمح لي بالاستمرار، وحتّى قبل أن آتي، كنت أشعر بعدم القدرة، فقلت: نأتي إلى الرفقاء؛ فإن تجدّد لي حال تحدّثت، وإلاّ جلست وقلت لأحد الحاضرين: تفضّل بالحديث، فلا فرق؛ لأنّ جميعنا سواسية، فيتحدّث أحد، وأنا أجلس وأتّعظ من كلام الرفقاء والمسائل التي يطرحونها؛ فالجميع ـ ولله الحمد ـ من أهل المعنى والمعرفة والفهم.

    

يا أيّها اللاشيء لا تسعَ إلى اللاشيء!

نسأل الله أن يُرشدنا إلى تكليفنا، ويفتح عقولنا وأفهامنا، ويُوضّح لنا الفوارق بين الحقيقة والمجاز؛ فكلّما اتّضحت هذا الفوارق، صار مسيرنا نحو التجرّد أكثر يسرًا؛ فبدلاً من أن نجلس ونضرب على رؤوسنا حسرةً، نتحرّك ونتقدّم بكلّ يُسر، وبدلاً من أن نكثر من التساؤلات: يا سيّد ماذا نصنع؟ يا سيّد ماذا نفعل؟ نسير بكلّ سلام.. لماذا؟ لأنّ الطريق واضح.. وبدلاً من أن نشتكي من فلان وفلان، نمشي بغير شكاية من أحد، حيث تُصبح المسألة واضحةً بنفسها للإنسان، فيقضي وقته في مسائل أهمّ، لا بتلك الأمور التي تُتلف وقته وتُفوّت عليه فرصته وتُقلّل من استعداده؛ لأنّ الإنسان له قدرات محدودة، فلماذا يصرفها في مثل هذه المسائل والأمور التافهة؟ فإذا تنازع طفلان، هل يقوم أحد بتشكيل الجلسات لحلّ نزاعهما؟ أم نقول: دعهما لأمّهما، فليس لدينا وقت لذلك، أعط لكلّ واحد قطعة من الحلوى فتحلّ المشكلة! علينا ألاّ نتلف وقتنا واستعدادنا وقدراتنا وإمكاناتنا التي وهبها الله لنا في مثل هذه الأمور، وعلينا أن نضعها في مواضع أخرى، ولنذر تلك التوافه إلى أهلها.. دع الناس الفارغين يضرب بعضهم بعضًا، ويقول بعضهم لبعض ما يحلو له.. اتركهم وشأنهم! فلماذا تزجّ نفسك أنت في معتركهم لتكون لهم شريكًا في ذلك؟! فلكلّ منّا ما يكفيه، وقد كان المرحوم العلاّمة كثيرًا ما يكرّر هذه الكلمة سواء للعموم أو للخواصّ ويقول: دع الدنيا لأهل الدنيا! يا فلان، لقد ارتفع سعر تلك السلعة! ما شأنك وذلك؟ يا فلان، لقد انخفض سعر تلك السلعة! ما علاقتك بالأمر؟ لقد اندلعت حرب في ذاك البلد! وما موقعك أنت منها؟ لقد تنازع فلان وفلان! كلّ ذلك دنيا! هذا الطرف دنيا وذاك أيضًا هو دنيا! «اليمين والشمال مَضلَّة والطريق الوسطى هي الجادّة»،[8] فمن يسلك اتّجاه اليمين ضالّ، ومن يسلك اتجاه اليسار ضالّ، والنزاعات قائمة بأجمعها على أساس الاعتباريّات والتخيّلات؛ فتجد مثلاً أنّ العمل السيّء الذي تؤاخِذ الناس عليه إذا صدر من أحد معارفك، تقول: لا، دعوه فهو منّا! ما الذي تغيّر في الأمر؟ إنّه نفس العمل.. التفتوا، فكلّ هذه المسائل خارجة عمّا حدّده لنا أولياؤنا العظام؛ ولذا، علينا أن نهتمّ بأعمالنا وواجباتنا، وليحفظ الجميع هذا البيت من الشعر:
دنيا همه هيچ واهل دنيا همه هيچ ( ليست الدنيا بشيء وليس أهلها بشيء)
ولنردّده في كلّ يوم مائة مرّة!!! لا تقولوا السيّد أمرنا بالالتزام بهذا كذكر!!! لقد قال لي المرحوم الوالد يومًا: كيف حالك؟ فقلت له: إنّا من عباد الله المرخّصين!!! فقال: متى نزلت هذه الآية؟! قلت له: الآن... !!! نعم، فقد كان كثيرًا ما يردّد هذا الشعر:
دنيا همه هيچ واهل دنيا همه هيچ
                             ای هيچ ز بهر هيچ بر هيچ مپيچ

( ليست الدنيا بشيء وليس أهلها بشيء، فيا أيّها اللاشيء لا تسعَ إلى اللاشيء من أجل لاشيء)
هل حفظتموه أم لا؟!!!
وفّقكم الله جميعًا.. ونسأله تعالى أن يحفظنا من اتّجاهي اليمين واليسار تحت رعاية الولاية المطلقة وإمداد النفوس الإلهيّة المقدّسة، ويجعلنا مطيعين منقادين لصاحب مقام الولاية عليه السلام.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.



 


[1] ـ يقول عليه السلام في خطاب له لمعاوية: وَقُلْتَ إِنِّي كُنْتُ أُقَادُ كَمَا يُقَادُ الْجَمَلُ الْمَخْشُوشُ حَتَّى أُبَايِعَ، وَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ، وَأَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ، وَمَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَةٍ فِي أَنْ يَكُونَ مَظْلُوماً مَا لَمْ يَكُنْ شَاكّاً فِي دِينِهِ وَلَا مُرْتَاباً بِيَقِينِهِ.. (بحارالأنوار، ج 29، ص 621). المترجم

[2] ـ راجع: بحارالأنوار، ج 44، ص 48. المترجم

[3] ـ يقول صلى الله عليه وآله وسلّم: إنِّي أُحِبُّ مِنَ الصِّبْيَانِ خَمْسَةَ خِصَالٍ: الأوَّلُ أنَّهُمْ البَاكُونَ، الثَّانِي: على التُّرَابِ يَجْتَمِعُونَ، الثَّالِثُ: يَخْتَصِمُونَ مِنْ غَيْرِ حِقْدٍ، الرَّابِعُ: لَا يَدَّخِرُونَ لِغَدٍ، الخَامِسُ: يَعْمُرُونَ ثُمَّ يُخْرِبُون. (كتاب «زهر الربيع» للسيّد نعمة الله الجزائريّ، ص 295، الطبعة الحجريّة؛ نقلاً عن: الروح المجرد، ص 596). المترجم

[4] ـ راجع: الكافي، ج 3، ص 296. المترجم

[5] ـ وجدت رواية بهذا المضمون عن الإمام العسكري عليه السلام: عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْجَعْفَرِيِّ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ أَبِي مُحَمَّدٍ عليه السلام، فَقَالَ: إِذَا خَرَجَ الْقَائِمُ عليه السلام أَمَرَ بِهَدْمِ الْمَنَارِ وَالْمَقَاصِيرِ الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ. (مستدرك‏ الوسائل، ج 3، ص 384). المترجم

[6] ـ وهو المسجد الذي كان يصلي فيه المرحوم العلّامة آية الله السيّد محمد الحسين الحسيني الطهراني.[المترجم]

[7] ـ طه، الآية 55.

[8] ـ من خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام بعد مبايعته: (الكافي، ج 8، ص 68). المترجم

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی