معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 101 إلى 200 > شرح حديث عنوان البصري ـ الجلسة 160: رياضة النفس، وبعض مصاديقها

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح حديث عنوان البصري المحاضرة 160

رياضة النفس وبعض مصاديقها

ألقيت في 24 شوال المكرم 1429 هـ

ألقاها:
سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه اللـه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيِّدنا ونَبيِّنا أبي القاسم محمّد
(اللهمَّ صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد)
وعلى آله الطيِّبين الطاهرين واللعنة على أعدائِهم أجمعين

قال الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصري: «أمَّا اللَوَاتِي في الرِّيَاضَةِ: فَإيَّاكَ أنْ تَأكُلَ مَا لَا تَشْتَهِيهِ، فَإنَّهُ يُورِثُ الحَمَاقَةَ وَ البَلَه»?

    

استحباب صلاة الليل يعود إلى الرياضة النفسية

تقدَّم في المجالس السابقة بأنَّ دائرة الرياضة التي يذكرها الإمام هي أوسع من مجال المأكولات والمشروبات، بل يمكن القول بأنَّ الرياضة النفسانيّة هي الأصل والأساس في سير وسلوك الإنسان، وهي ما يُعبِّر عنه العظماء في كتبهم وأحاديثهم بالمراقبة، وهي عبارة عن الرياضة الشرعية الموصى بالإتيان بها، والواصلة إلينا عن طريق الشريعة المقدّسة، لا تلك الرياضة المبتدعة من قبل البعض، غير أنَّ بعض الناس ـ وسوف يتم الحديث عن هذا الموضوع بتفصيل أكثر لاحقاً ـ يلتزم بهذه الرياضة الشرعية بينما يُعرض البعض الآخر عنها.
فصلاة الليل ـ على سبيل المثال ـ هي نوع من الرياضة الشرعية؛ لأنَّ الرغبة والشوق لأداء هذه العبادة لا يتحقق لدى الإنسان ما لم يصل إلى درجة من الصفاء والنورانيّة والتعقّل وإدراك المنافع والمصالح المترتّبة عليها، لذا تراه يهجر النوم لأجلها، فنتيجة للتعب الذي يُرهق الجسم، يحتاج الإنسان إلى أخذ قسط من الراحة؛ وهذا ما تقتضيه طبيعته التي خُلق عليها.
فنهوض الإنسان من الفراش قبل ساعة أو ساعة ونصف من أذان الصبح، وبالخصوص في فصل الشتاء، وذلك في الوقت الذي لم تكن فيه وسائل التدفئة الموجودة اليوم متوفرة آنذاك؛ فتوفّر هذه الوسائل اليوم يجعل الإنسان لا يميّز بين الشتاء والصيف إلاّ في الشارع. وأنا أتذكر جيداً شدة البرودة في فصل الشتاء في ذلك الوقت. فقيام الإنسان للتهجد قبل ساعة من أذان الصبح يعتبر أمراً شاقاً لا يستطيع جميع الناس تحمّله.
لذا نرى بعض الناس يعترف صراحةً بعدم امتلاكه المزاج المساعد على أداء صلاة الليل، بينما نرى البعض الآخر يسعى للبحث عن دليل شرعي يدل على عدم لزوم تلك العبادة المؤكَّدة، والتي وردت نصوص شديدة بشأنها؛ كالحديث العجيب عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام الذي يقول فيه: ليس منّا من لم يصلِّ صلاة اللّيل[1]. فلمّا كان أولئك الناس لا يمتلكون الجرأة والشجاعة لإخبار الآخرين بكسلهم وتواكلهم عن أداء صلاة الليل؛ لئلاّ يقول عنهم الناس بأنَّهم يأمرون الآخرين بالصلاة وهم لا يأتون بها، تراهم يتذرعون بعدم وجود الوقت الكافي لديهم؛ فهم يتذرعون بأنَّ عليهم القراءة والتحضير للدروس، وأنهم محلّ لمراجعات الناس، وعليهم قضاء حوائج الآخرين، وأمثال ذلك من الذرائع التي يوهمون الناس بها، ويخدعون بها أنفسهم ويحاولون خداع الله بها. غير أنَّهم من الممكن أن يخدعوا الناس ولكنَّ الله لا يمكن أن يُخدع. فلماذا لا تعترف يا هذا بكسلك؟ ولماذا لا تصارح الناس بعدم تمكنّك من القيام بالصلاة؟ ولماذا لا تقول لهم بأنَّك لا تريد أن تصلي صلاة الليل؟
سمعت من أحدهم بأنَّه كان برفقة أحد علماء الدين المعروفين ـ لقد توفي الآن ـ في مكان ما، وكان يقول بأنَّني إن لم أقم بإيقاظ هذا العالم لأداء صلاة الصبح، لفاتته الصلاة أداءً؛ فهل يُتوقع من مثل هذا الرجل أن ينهض لأداء صلاة الليل؟!
فصلاة الليل هي مثال على الرياضة الشرعية، فليس معنى الرياضة التي يُوصى بها هي أن يترك المرء أسرته ليعيش في كهفٍ يتعبّد فيه لوحده؛ فهذه لا تُسمّى رياضة، بل هي ضرب من الجنون، يستثنى من ذلك بالطبع بعض الحالات الخاصة والتي تكون وفقاً لبرنامج محدّد؛ حيث يعتزل السالك في مكان منفرد لفترة محددة في الشهر أو السنة، وذلك بمقتضى السير الروحي لذلك السالك والذي يتطلب هكذا عزلة.

    

العزلة من الرياضة النفسية

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يعتزل بين الحين والآخر في غار حراء، فكان يعتزل عدة مرات في السنة، وكان يعتزل بمفرده قبل ولادة أمير المؤمنين، ثم أخذ يصطحب أمير المؤمنين معه عندما كان طفلاً؛ حيث يقول أمير المؤمنين عن ذلك: «وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَلَا يَرَاهُ غَيْرِي وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ (صلى الله عليه وآله) فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ»[2]. فكان أمير المؤمنين يقول: كنت أسمع تحدّث الملائكة مع رسول الله، وكنت أدرك كيف أنَّ الشيطان قد يأس من إغواء الخلق بعد بعثة النبي برسالته. ألا يعتبر ترك النبي لعائلته والاعتزال في غار حراء من الرياضة؟ وسيأتي الحديث عن موضوع الاعتزال لاحقاً.. ألم يمضِ رسول الله أسابيع في الغار بعيداً عن الناس؟ فالمسافة بين غار حراء ومكة ليست بالقصيرة، ولم يكن متصلاً بمكة كما هو عليه اليوم!
[وكانت خديجة سلام الله عليها تجلب الماء والطعام لرسول الله]، لقد كانت امرأةً عجيبةً حقاً ولها حق في أعناقنا جميعاً، ويُستفاد من العبارات التي كان يستخدمها رسول الله بحقها أنَّها كانت سنداً ومأوىً له؛ فقد وقفت جميع وجودها في خدمة النبي، ووهبته جميع أموالها بعد زواجها منه، فقالت له: هذا كلّ ما أملك فاصرفه لأجل نشر الرسالة بما تراه مناسباً، هذا أول شيء فعلته، ثمّ إنَّها وبفعل ما كانت تتمتع به من شخصية ومكانة مرموقة كانت تزيل الكثير من المشاكل والعوائق عن طريق النبي؛ حتّى إنَّها كانت تحمي رسول الله عندما كان يتعرّض لأذى المشركين، فكانت تجعل من جسدها الشريف درعاً يحميه مما كان يُرمى به من أحجار، ولقد كان رسول الله يذكرها بخير طوال حياته، وكان يذبح الشاة ويتصدّق بلحمها عنها، حتى أن بعض زوجاته حسدتها على ذلك، ومن المعلوم أيّ نساء النبي أقصد، إنَّها تلك التي يمتدحونها في الكتب ويسمّونها بأمّ المؤمنين عائشة. فكانت تقول له: بلغتَ الستين من العمر ولا تزال تذكرها [وقد أبدلك الله بها خيراً][3]؟ فقال لها النبي: كيف يمكن لي أن أترك ذكرها؟! وأين أنت منها، فأنت لم تلتحقي بي إلاّ في وقت الرخاء! فهل تعلمين في أيّ الظروف كانت قد وقفت إلى جانبي؟ لقد وقفت بجنبي عندما تألّبت جميع قريش ضدّي، وعندما وقف الكلّ بوجهي؛ فوهبتني في تلك الظروف جميع ما تملك، وجعلت من نفسها درعاً لدفع الأذى عنّي، إلى ما ذلك من الأعمال التي قامت بها، ولقد عاشت معي ثلاث سنوات في شعب أبي طالب ـ فأين يوجد مثلها الآن ـ وتريدين منّي بعد كل هذا أن أنسى ذكرها.
إنَّ لخديجة في أعناقنا حقاً، وأؤكِّد على الإخوة الذين يتشرّفون بالذهاب إلى مكة أن يذهبوا إلى شعب أبي طالب من أجل قراءة الفاتحة إلى روح تلك السيدة التي يعتبر الإسلام مديناً لجهودها وتضحياتها، وهي بحكم الأم لجميع العالم الإسلامي حتّى يوم القيامة؛ فيجب الذهاب إلى هناك والاستمداد من روحها، فروح تلك السيدة سعيدة، وهي مستغنية عن الفاتحة التي نقرأها، بل نحن الذين نستفيد من قراءة تلك الفاتحة.

    

كيفيّة إقامة مجالس الفاتحة

يجب قراءة الفاتحة لروح الميت ويجب الابتعاد عن استعمال مصطلح مجلس التكريم، بل يجب أن يكون الهدف من عقد المجلس هو طلب الرحمة والمغفرة لروح المتوفى؛ فما معنى التكريم؟! فقد توفي الشخص وغادر الدنيا و لا يستطيع الآن أن يؤدِّي ذكر لا إله إلاّ الله ولا إقامة الصلاة ولا الذهاب إلى الحج ولا إلى زيارة مراقد الأئمة ولا قراءة القرآن، فبما أنَّه قد انقطع عن الدنيا، ينبغي أن يُقام له مجلس فاتحة، يجتمع فيه الناس لطلب الرحمة والمغفرة له، ولقراءة القرآن وإهداء ثوابه لروحه، كما ينبغي ذكر مصيبة سيِّد الشهداء وإهداء ثوابها لروحه، وعلى خطيب المجلس أن يحثّ الناس على التهيؤ لسفر الآخرة ويجب أن يكون خطابه بشكل ينبّه الناس ويوقظهم من غفلتهم، ويجب أن تكون المواضيع التي يطرحها من النوع الذي يجعل الناس تتهيأ لحياتها الأخرى، لا أن يكون كلامه باعثاً على التوجّه للدنيا؛ من قبيل ذكر الخدمات والأعمال التي قام بها المتوفى في حياته، فتلك أعمال قد قام بإنجازها في حياته وانتهت، فماذا عن وضعه الآن؟ لقد اجتمعت عليه العقارب والأفاعي الآن! فعليك أن تعمل على توفير ما يحتاجه في ذلك، وما يفيده في هذا الحال، وعليك أن تفكر بحاله إذ وقف على رأسه منكر ونكير يحاسبانه الآن على ما قام بفعله وعمّا قصّر عن أدائه عندما كان في الدنيا، فعليك قراءة الفاتحة له عسى أن تُخفف عنه العذاب، وعليك بقراءة القرآن لكي يعمل على جلب رحمة الله له، فما معنى تسمية تلك المجالس بمجالس التكريم؟

    

كيفية زيارة قبور الأولياء والصالحين

نعم، يجب الذهاب إلى شعب أبي طالب والاستمداد من تلك النفس المقدّسة والملكوتيّة لسيِّدة الإسلام، أي علينا أن نجعلها شفيعة لنا إلى الله، وأن نستشعر الذّل والضعف والمسكنة في أنفسنا أمام هذه السيِّدة، هكذا يجب الذهاب لزيارة قبر السيِّدة خديجة، لا أن يقف أحدنا ليقرأ الفاتحة وهو يتصوَّر بأنَّ ثواب تلك الفاتحة التي قرأها لن يكون مفيداً لخديجة وحدها، بل سيصل ثوابها إلى أحفادها وذريتها إلى يوم القيامة، علينا أن نرفع من مستوى فهمنا وإدراكنا في هكذا مواقف؛ ويجب علينا أن نستشعر قدسيّة المكان الذي نقف فيه، وعند ذهابنا لزيارة مراقد العظماء وأولياء الله، يجب ألا نحسب حساباً للفاتحة التي نقرأها، كما علينا خلع أحذيتنا قبل الوصول إلى مراقدهم.
تشرفت قبل عدة أيام بزيارة الحرم المطهّر للسيِّدة المعصومة، ثم ذهبت بعد ذلك لزيارة مقبرة "شيخان" المجاورة للحرم؛ فقبّلت باب المقبرة لوجود أولياء إلهيين مدفونين فيها، وتقدَّمت لزيارة مرقد الشيخ الميرزا جواد الملكي التبريزي أعلى الله مقامه، فخلعت حذائي قبل الوصول إلى قبره بعدة أمتار، وجلست على الأرض؛ وكان الناس ينظرون إليَّ متعجبين ومتسائلين في أنفسهم: لماذا يتصرّف هذا الرجل بهذا الشكل، فيقوم بخلع حذائه ثم يجلس على الأرض، ألا يبعث ذلك على اتساخ عباءته؟!
عندما نزلت من السيارة قاصداً المجيء إلى هذا المجلس اليوم، لم أكن مرتدياً للعباءة، فقد بقيت عباءتي في السيارة، فقلت لأحد الأخوة الذين كانوا معي: ناولني عباءتي لألبسها، وإلاّ فسوف يتطاير من ذهني خمسون بالمائة من تلك المواضيع التي أنوي طرحها، أما إذا خلعت قبائي فسوف تصبح معلوماتي صفراً، فيجب علي ارتداء القباء والعباءة لكي يتقبّل الآخرون منِّي ما أقول.. لا شك أني أقول ذلك مازحاً؛ فمستوى وعي الإخوة أسمى من هذا، وهم لا يلتفتون إلى هذه الأشياء.
فلا بدّ لنا عندما نريد زيارة قبور أولياء الله من أن نخلع أحذيتنا ونجلس على الأرض؛ وعلينا أن نعلم بأنَّ قراءتنا لسورة الحمد وسورة من القرآن لا يكون بقصد رفع العذاب عنهم، ولا طلب المغفرة الإلهية لهم، فقد شملهم الغفران والرحمة الإلهية فعلاً.
بعد ارتحال المرحوم الحدّاد كان المرحوم العلاّمة يتلقى رسائل تعزية بهذه المناسبة، وكانت إحدى هذه الرسائل تتضمن عبارة: ارتحال المرحوم الحدّاد غفر الله له. فالتفت المرحوم العلاّمة إليَّ قائلاً: أيّ رسالة هذه التي بعث بها هذا الرجل، ألا تعتبر إهانةً لوليٍّ إلهي. بالطبع فإنَّ الرجل لم يكن متعمّداً ذلك، بل لم يكن من ذوي الدراية، فلا يعدُّ مقصراً؛ غير أنَّ ذكر ذلك كان من باب التنبيه على ضرورة مراعاة الأدب تجاه أولياء الله، فلا ينبغي لمن يريد أن يعزّي بفقدان وليٍّ إلهي أن يذكر عبارة غفر الله له، ماذا يغفر الله له؟ فهو في مقام لا يمكن لعقولنا أن تناله؛ بل يجب ذكر هذه العبارات بشأن أولئك العظماء مثل: رضوان الله عليه، أو قدَّس الله سرَّه، أو أعلى الله مقامه، أو نوَّر الله مضجعه.
إنَّ الحضور عند قبور أولياء الله يجب أن يكون بقصد الاستمداد وطلب الحاجة وإظهار الخشوع والخضوع تجاههم؛ فهل تقوم بقراءة سورة الحمد وسورة أخرى لإهدائها إلى روح الإمام عندما تذهب لزيارته؟! أم يجب أن يكون الهدف من حضورك عند قبره وقراءة الزيارة هو تقريب نفسك من ساحته المقدّسة، فعندما تقول السلام عليك فهذا يعني أنَّني وبتلفظي لهذه الكلمات أعمل على تقريب نفسي منك يا سيدي، فأنت في مقام شامخ ورفيع لا تصل إليه أيدينا، فأنقذني مما أنا فيه واهدني وقرّبني منك؛ فقد جئتك من ذلك المكان البعيد لكي أعرض على حضرتك ذلي وفقري ومسكنتي. وهكذا يجب أن يكون حال الإنسان عند حضوره لزيارة قبور الأولياء والعرفاء بالله وبأمر الله.
فالسيِّدة خديجة سلام الله عليها ليست بتلك الدرجة التي يُطلب لها الغفران عند زيارتها، بل يجب الوقوف عند قبرها المطهر والاستمداد من نفسها المقدّسة من أجل تخليص النفس من التعلّق بالدنيا والوصول إلى مقام القرب والمعرفة والتوحيد والولاية، والورود في هذا الصراط وهذه المدرسة والاستفاضة والاستنارة من جذبات ونفحات ذلك العالم وتلك النفوس الطاهرة. هكذا يجب أن يكون وقوفنا عند ذلك القبر، وعند قبور سائر الأولياء كقبر علي بن جعفر وقبر المرحوم الأنصاري رضوان الله عليهم، وكذلك عند قبر السيِّد عبد العظيم الحسني والذي ورد فيه الحديث عن الإمام الهادي: «من زار عبد العظيم بالرّي، كمن زار الحسين بكربلاء»[4]. فيجب الذهاب إلى هناك والاستمداد من النفس القدسيّة للسيِّد عبد العظيم لغرض تصحيح المسير وتصفية النفس وتزكيتها والارتقاء من عالم المادة والورود في عالم الولاية. لا أن نذهب لقراءة سورة الحمد وسورة أخرى ونقوم بإهدائها إلى روح السيِّد لنرجع بعد ذلك مسرورين من أنَّنا قد أدينا الزيارة، فلا فائدة في هكذا زيارة؛ لا أقول ليس فيها فائدة مطلقاً، بل أريد أن أقول بأنَّ فائدتها محدودة؛ كأن تكون بمقدار اثنين في المائة. لا ينبغي الذهاب إلى الزيارة على هذا النحو، بل على الزائر أن يعرف ما الذي يفعله عند ذهابه إلى هذه الأماكن.
عندما كان المرحوم الحدّاد ـ رضوان الله عليه ـ يتشرّف بزيارة قبور أولياء الله كان يذهب على الكيفية التي ذكرتها، وعندما كان يتشرّف بزيارة الأئمة كان يذهب في حال من التذلّل والاستكانة والمسكنة، وقد نقل لي شاهد عيان بأنَّه عندما كان يذهب من كربلاء بقصد التشرّف بزيارة الكاظمين كان يمسح رأسه بضريح الإمام موسى بن جعفر؛ وكان يستخرج الغبار المتجمّع على الضريح بإصبعه الصغرى ويمسحه على رأسه.
نعم، تلك هي الشخصية التي ينعتونها اليوم بأنَّها أحد العرفاء الكذّابين؛ والغريب أن ذلك يحصل وبدون أن يعترض عليه أحد. فلو أنَّ كلاماً من هذا القبيل وجّه إلى شخصيّة ما، لانطبقت السماوات على الأرض، ولأدَّى ذلك إلى إيصال القضية إلى المحكمة.
لكنّك تجد البعض ينعت المرحوم الحدّاد في كتابه بعنوان أحد العرفاء الكذّابين، دون أن يقوم أحد بالاعتراض على ذلك، ولا غرابة؛ فهكذا تجري الأمور دائماً!
يجب الحضور بهكذا حال من التذلّل عند قبور أولياء الله، وبدرجة أعلى عند قبور المعصومين الأربعة عشر. بل وحتّى عند الحضور عند قبور سائر الأنبياء مثل نبي الله هود وصالح المدفونين في مقبرة وادي السلام في النجف، وهي مقبرة عجيبة حقاً؛ فقد كانوا من العرفاء بالله وإن لم يكونوا على ديننا؛ فمقام المعرفة الإلهية لا يتغيّر شيئاً باختلاف الديانة، فعلى من يزور قبر أحد الأنبياء أن يصلّى ركعتين بعنوان صلاة الهدية لا بعنوان صلاة الزيارة، لأنَّ صلاة الزيارة تتعلّق بالمعصومين الأربعة عشر فقط، وعليه أن يجعل من صلاة الهدية تلك وسيلة لنيل شفاعة ذلك الولي المدفون في هذا المكان ووسيلة لتأثير تلك الأنفاس المفاضة من العوالم العليا على ملكوت الزائر ومثاله، مما يؤدِّي إلى رشده وترقيه، فيُلاحظ الزائر حصول تغيّر في حاله، فما هو سبب حصول هذا التغيّر؟ إنَّه بسبب ذلك الفيض الذي تم التزوّد به من هناك، فلماذا لم يتغيّر حاله قبل ساعة من ذلك؟ ولماذا تشعر بحصول تغيّر في حالك عند زيارتك لقبر أحد العظماء؟ ذلك بسبب ما تم إفاضته عليك من قبله، فلماذا لم تكن هذه الحال لديك قبل خمس دقائق من زيارتك؟ إنَّك وبذهابك لزيارة قبر وليّ الله وجعل نفسك تحت اختياره، سوف تلمس بنفسك التغيّر الذي حصل لك، أما إذا ذهبت وأنت بحال آخر، كأن تقول في نفسك لأذهب لقراءة سورة الفاتحة له، فلن يكون لك نفس ذلك الحال، وهذه واحدة من المسائل المهمة التي يجب الالتفات إليها في هذا المجال.
كان رسول الله يعتزل في غار حراء عندما كانت السيِّدة خديجة على قيد الحياة، وكانت السيِّدة خديجة تجلب له ما يحتاج إليه من طعام ومن مستلزمات الحياة اليومية الأخرى بين يوم وآخر؛ فكان النبي مأموراً بالتواجد في الغار دون مغادرته، أليس هذا هو معنى الاعتزال والابتعاد عن العائلة وعن الناس؟ لقد كان رسول الله مأموراً بالابتعاد عن السيِّدة خديجة لمدة أربعين يوماً قبل حملها بالسيِّدة فاطمة الزهراء، فالابتعاد عن المجتمع والعائلة والمحيط الذي يعيش فيه المرء هو نوع من الرياضة الشرعية إذاً، فهذا المحيط يُشغل الإنسان عن العمل بتكاليفه الإلهية.

    

ضرورة العمل بما يؤمر الإنسان به دون الالتفات إلى شيء آخر

وهنالك الكثير مما يجب التحدّث عنه فيما يتعلّق بتأثير المحيط الذي يعيش فيه المرء على سلوكه، وسيتم الحديث عن هذا الموضوع في المجالس القادمة إن شاء الله، ولا بدّ من الحديث عنه؛ لأنَّه موضوع في غاية الأهميّة. كما ستتم الإجابة على ما يُستشكَل به على أولياء الله والعرفاء من أنَّهم يعتزلون المجتمع ولا يعلمون شيئاً ممّا يُعاني منه الناس، بل يتركونهم وحالهم ويعتزلون في زاوية من الزوايا، وما شابه ذلك من الهراء. وهنالك أمور مطروحة من قبل العظماء في هذا المجال سأقوم بنقلها إلى الأخوة، وهي تدور حول محور العمل بموجب التكليف الإلهي؛ أي الإنسان يكون مكلّفاً ـ وفي كافة الظروف ـ بالقيام بواجبه كائناً ما يكون ذلك الواجب؛ فإن طُلب منه القيام فعليه القيام، وإن طُلب منه القعود فعليه القعود، وإن طُلب منه التكلّم فعليه التكلّم، وإن طُلب منه السكوت فعليه السكوت؛ فإن كان مُكلّفاً بالسكوت وقام بالتكلّم، فيكون قد ارتكب ذنباً بذلك، وإن كان مُكلّفاً بالتكلّم وسكت بدل ذلك، فيكون قد عمل محرّماً بسكوته هذا.
ففي عهد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، بما أن التكليف كان يقتضي القعود وترك القتال والانصياع لأمر الإمام بالقبول بالصلح، فإن لم يكن مزاج أحدهم ونمط تفكيره يسمح له بتحمّل ما تقوم به حكومة معاوية من جور وظلم، وخالف أمر الإمام في هكذا ظرف وأراد القيام بوجه تلك الحكومة، فيكون هذا الشخص قد ارتكب عملاً محرّماً، ويُحسب هذا القيام على أنَّه قيام بوجه المعصوم! كما أنّه عندما يجب عليه المسارعة إلى نصرة الإمام وعدم تركه وحيداً بين الأعداء، ويجب عليه الامتثال في الدفاع عن الإمام وعائلته وسفك دمه بين يديه، إن قام في هكذا ظرف بترجيح العافية على الجهاد في سبيل الله والمصلحة الدنيوية على رضوان الله، وكان همّه استمرار حياته الدنيوية والعيش مع زوجته وأبنائه وكسب الأموال والممتلكات والجاه والتفكير بحفظ النفس.. فسيكون هذا التصرّف بمثابة القيام بوجه الإمام أيضاً، وسيُكبُّ صاحبه على وجهه في نار جهنم؛ لأنَّ هذا الظرف هو ظرف القيام، بينما لم يكن ذلك الوقت وقت القيام، بل كان يُحرَّم فيه القيام، أمّا هذا الوقت فهو وقت القيام ويُحرَّم فيه القعود، فيجب في جميع الأحوال انتظار أمر الإمام عليه السلام لا غير؛ فإن أمر بالتكلّم، فعليك السمع والطاعة، وإن أمر بالسكوت فعليك السمع والطاعة أيضاً، وكذا الحال في الأمر بالقيام أو القعود. ولقد عانى أئمتنا ما عانوا خلال فترة حياتهم من هذا النوع من التمرّد من قبل أصحابهم الذين كانوا يأمرونهم بالسكوت، فيحسبون أنفسهم أشد حرصاً من الإمام ويأخذون بالتكلّم هنا وهناك، فيضيفون بتصرّفاتهم تلك المزيد من المصائب والمشقات على الإمام، إلى الحدّ الذي قال فيه الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: ودّدت لو أن بدني يقطّع بالمقاريض ليكفّ أصحابي ألسنتهم عن الكلام[5]. ما الذي يدعوك للبحث والجدال يا هذا، فإن كنت تفعل ذلك لأجل نصرة الدين، فها هو المتوكّل بأمر الدين يدعوك للسكوت، وإن كان ذلك لأجل أغراضك النفسية، فما هو سبب تواجدك هنا؟ ولماذا تنسب نفسك إلى الإمام موسى بن جعفر وتقول بأنَّك من تلامذته؟ ولماذا تدّعي الدفاع عن الولاية وعن المذهب؟ لماذا لا تقول بأنَّك تفعل ذلك من أجل أغراضك النفسية؟ وأنَّه لا علاقة لك بالإمام، لكي يعلم الناس والحكومة عندها كيف سيتعاملون معك. فأنت تنسب نفسك إلى الإمام، وتحسب الحكومة كلامك على أنَّه يعكس رأي الإمام، فيقومون بالتضييق عليه نتيجة لذلك، فالإمام يوضّح هذا الأمر هنا ويقول: إن كنتُ أنا وليّ الأمر، فها أنا آمرك بالصمت والجلوس في مكانك.
فكم يكون هشام بن الحكم قد أدمى قلب الإمام موسى بن جعفر؟ ولقد كان الإمام الصادق يُقرِّب هشام هذا ويُجلسه إلى جنبه؛ لما كان يقوم به من الجدال والمناظرة مع المخالفين، وكان الإمام يقول له أنت مُسدّد بروح القدس في دفاعك عن المذهب وعن الولاية في قبال أولئك المخالفين، وإذا بالأمر يصل بهشام هذا إلى الدرجة التي يُدمي فيها قلب الإمام موسى بن جعفر؛ لِم تفعل ذلك؟ ألست شيعياً؟ ولأجل نصرة منْ أنت تفعل ذلك؟ إن كنت في معرض نصرة موسى بن جعفر، فها هو موسى بن جعفر يأمرك بالصمت!

    

الباطل ليس منحصراً في الأمور المحرمة فقط

هنا يتوجب على كل واحد منّا أن يتعمّق في التفكير، وأن يزن تصرفاته بمقياس الحق والباطل، لكي يستطيع التميِّيز بين أعماله؛ ليعلم أيّها في سبيل نيل رضا الله كانت، وأيّها النفساني منها. وبمقدور الجميع فعل ذلك، ولا ضير على من كان عاجزاً عن التميِّيز، فالله يتجاوز عن خطئه، غير أنَّ عليه إنجاز ذلك المقدار الذي بإمكانه عمله، وعليه عدم الإغماض ودسّ الرأس في الرمل. فجميعنا يستطيع فعل ذلك ونعرف كيف علينا التصرف في المواقف المختلفة، غير أنَّ النفس الأمّارة، كما توسوس للإنسان في القضايا الأخرى، كذلك تتدخّل هنا أيضاً؛ فوسوسة النفس الأمّارة لا تقتصر على سرقة أموال الناس وتسلّق جدران بيوتهم ونهب ممتلكاتهم، بل تتجاوزها إلى هذه الأمور أيضاً، فتراها توسوس له بضرورة فعل ذلك بهدف نصرة الإسلام والولاية والإمام عليه السلام، في حين يكون الهدف الحقيقي الكامن وراء القيام بهذا العمل هو إرضاء رغبات النفس، فترى أحدهم ينفعل إذا ما تم تفنيد كلامه، لماذا ينفعل؟ لقد انفعل لأنَّ كلامه هو تم تفنيده! فلو أنَّ نفس هذا الكلام وبدون أيّة زيادة أو نقصان بواو أو ياء طرح من قبل شخص آخر، وتم تفنيده بواسطة أحدهم، فهل كنت ستنفعل أيضاً؟ ـ أرأيتم كيف أنَّنا نستطيع اختبار أنفسنا بأنفسنا ـ طبعاً لا! لن تنفعل، بل كنت ستقول: لقد أخطأ في تصرفه هذا. [أمّا إن كان الأمر يتعلق بكلامك الذي طرحته أنت] فستنفعل وتقوم بنشر مقالة للردّ عليه، ولن تقول بأنَّ هذا ردٌّ على الاعتراض على كلامي أنا، بل ستقول هذا ردٌّ على من تعرّض للكلام الذي نُشر نُصرةً الدين، فهكذا مقالة تعتبر وبدون أدنى شك مقالة شيطانية. [فلو لم يكن الأمر نفسانياً] لما أبديت ردة فعل؛ فإن أراد أحدهم أن يُفنِّد ما كتبت، فليُفنده.

    

أهمية كتب المرحوم العلامة وضرورة مطالعتها

كتب المرحوم العلاّمة كتابه الموسوم بوظيفة الفرد المسلم في إحياء حكومة الإسلام، الكتاب عبارة عن محاضرات ألقاها سماحته، ثم قام بعض تلامذته بكتابتها مع إجراء بعض التغيِّير في العبارات. ويستطيع من يقرأ الكتاب أن يعرف بأنَّه عبارة عن مجموعة محاضرات وليس كتاباً مؤلّفاً، لكنَّ الكتاب لم يُنشر لأسباب معينة، فكثر اللغط في ذلك، وأخذ البعض يقول بأنَّه قد تم الإشكال على محتويات الكتاب، كما أنَّ الناشر نفسه كان يتّصل بي تلفونياً باستمرار ويقول: اعمل على تغيِّير رأي والدك بشأن نشر هذا الكتاب. فقلت له: إنَّ هذا الذي تقوله واضح حتّى لشابٍ بعمر الخمسة عشر سنة، فكيف إن كان الأمر يتعلق بشخصية كشخصية السيِّد العلاّمة ، فهو ليس من النوع الذي يحتاج إلى توضيحٍ منِّي لكي يقوم بتغيِّير وجهة نظره؛ ومن القبيح أن أذهب إليه وأقول له بأنَّ في هذا الكتاب بعض العيوب ونقاط الضعف وعليك العدول عن نشره؛ فهذا ليس من الصواب.
والحاصل أن الكتاب طبع، لكنَّه لم يُنشر. وبعد مضي فترة، كنت ذاهباً مع المرحوم العلاّمة إلى مكان ما، فالتفت إليّ وبدون مقدماتٍ قائلاً: ما هي وجهة نظرك فيما يتعلق بمحتويات ذلك الكتاب؟ فقلت: إنَّكم تعلمون جيداً يا سيدي بأنَّ محتويات هذا الكتاب سوف تتسبّب وبدون أدنى شك بحصول عاصفةٍ؛ لأنَّها تتعارض مع أذواق الكثير من الناس، ولكن ما أريد أن أقوله هو: هل يجب عليكم مراعاة استحسان واستساغة الآخرين؟ فقال: هذا هو عين الصواب. أنا أكتب ما يقتضيه الواجب عليّ، وإلاّ فمن أين للناس أن يستطيعوا معرفة الحقيقة؟ وكيف سيستطيعون التميِّيز بين العمل الصائب والخاطئ؟ فالأمور تُطرح الآن على الناس بشكل مغاير للواقع.
فلو لم يقم رجلٌ كالعلاّمة الطهراني بطرح حقيقة الولاية والإسلام ومذهب التشيّع ومباني هذه المدرسة على عموم الناس، فمن أين يتأتّى لهم معرفة ذلك؟ فهل سيجدون ذلك مكتوباً على الجدران؟ أم أنَّ ملكاً من السماء سيأتي ويخبرهم بها؟ فهل حصلتم على هذا المقدار من إدراك الحقائق من بطون أمهاتكم؛ بحيث جعلكم تحضرون هذا المجلس؟! أنا أطرح عليكم الآن هذا السؤال؟ ماذا قرأت وماذا سمعت بحيث صرت تشعر بأنَّ لك قابلية إدراك تختلف عمّا يمتلكه الآخرون؟ وما هو مصدر هذه العلوم؟ إن لم يأتِ رجل كالعلاّمة الطهراني ويكتب هذه المواضيع بأسلوب سلس ويضعها تحت تصرّفنا.. فلا زلت، وحتّى هذه اللحظة التي يبلغ عمري فيها اثنان وخمسون عاماً لا أنام ليلاً ما لم أطالع شيئاً من مؤلفاته ـ بالطبع فقد يحصل أحياناً أن أغفل عن ذلك ـ فأنا أضع أحد مؤلفاته جنب سريري، ولا أنام حتّى أقرأ صفحة أو صفحتين منه، وقد يحصل أن أقرأ مقطعاً واحداً فقط؛ ثم أفكّر فيما قرأت، فلا أضع الكتاب جانباً بدون التفكير في محتوى ما قرأت؛ وقد يستغرق هذا التفكير مدة نصف ساعة إلى أن يأخذني النوم، هذه هي عادتي اليومية، فها أنا اليوم وبعد مرور اثنين وخمسين سنة من عمري أرى نفسي بحاجة إلى تلك المواضيع التي دوّنها في مؤلفاته، وأنا أشهد بذلك وأُقسم بالله العظيم عليه، وأنا صادق فيما أقول ولا أجامل في ذلك، فأنا لست من أهل المجاملة والتواضع، وأخلاقي لا تسمح به.
لقد صرّح المرحوم العلاّمة بنفسه على ضرورة مطالعة هذه الكتب، فقد سألني يوماً عن أحد المواضيع المذكورة في كتاب معرفة المعاد، فقلت: لا أعرف أين ذُكر ذلك. فقال: يا سيَّد محسن، لأجل مَن أكتب هذه المؤلّفات؟ فقلت: سأقرأ ذلك هذا اليوم وبكلّ تأكيد، ثم أردفت قائلاً: إنَّني قد قرأت كتاب معرفة المعاد يا سيِّدي، ولكنَّ تركيزي كان على الحكايات المذكورة فيه، فتستطيعون أن تسألونني عن أيّة قصّة فيه، فأقوم بنقلها لكم. ثم شرعت في المطالعة، فوجدت العجب. إنَّ مؤلفاته عبارة عن بحر من العلوم والمعارف، فإن لم يكن المرحوم العلاّمة قد ذكر كلّ ذلك، فمن أين لي الحصول على هذا المستوى من التفكير والتعقل الذي أتعامل بموجبه مع ما يهمني من قضايا، فجميعنا مطّلع على مستوى المعرفة في المحيط الذي نعيش فيه!
ثم التفت إليَّ المرحوم العلاّمة قائلاً: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ[6] أي إنَّ مستوى معرفتهم لا يتجاوز ذلك الحد، فهذا المستوى لا يرتفع عن السنتيمتر الواحد، وأشار بيده إلى صِغَرِ مقدار معرفتهم. لذا تراهم يقولون: إنَّ هذا الأمر خاطئ وذلك صواب، ولا يجب أن يُطرح مثل هذا الموضوع، وإنَّ طرْح هكذا موضوع يمسّ مكانة زيد أو عمر من الناس. هل هذا هو الدين الذي جاء به رسول الله؟!
لكنَّ الإنسان يجب أن يتكلّم ويكتب بالصواب والحق والصدق، وألاّ يكذب ولا يقوم بتوجيه التهم مثل ذلك الذي قام بتأليف كتاب، وعدَّ السيِّد الحداد من العرفاء الكذّابين في كتابه ذلك، تلك الشخصيّة الإلهية التي كنت أرى بعيني كيف أنَّ المرحوم آية الله السيِّد مصطفى الخميني نجل قائد الثورة والذي كان رجلاً قديراً وكنت أحبّه كثيراً وكذلك كان شعوره نحوي، وكان يتمتع بصفاء النفس، وكان عالماً، ويمكن معرفة ذلك من مؤلفاته وتقريراته للدروس، لقد كنت أشاهد بنفسي مجيء هذا العالم من النجف إلى كربلاء أسبوعياً، حيث كان يجلس متربعاً مقابل السيِّد الحداد في حال من السكوت، وكان يوجّه سؤالاً في بعض الأحيان ويُصغي بكلّ وجوده إلى إجابة المرحوم الحدّاد، بالشكل الذي يصبح كلّ وجوده إذناً صاغية. لقد شاهدت ذلك بنفسي لمرات متعددة، على أنَّ عدد المرات التي كنَّا نزور فيها كربلاء كانت محدودة في ذلك الوقت. فهل تفطّن مؤلف الكتاب إلى أنَّ المرحوم الحدّاد كان من الكذّابين في الوقت الذي لم يتفطّن له السيِّد مصطفى الخميني؟
أو لم يتفطّن المرحوم آية الله العظمى السيِّد هادي الميلاني، والذي كان قد دعا المرحوم الحدّاد و المرحوم العلامة تلك الليلة في مدرسته وكنت حاضراً آنذاك، إذ كنت في الثالثة عشر من عمري، وأنا أتذكّر جيداً كيف كان يجلس بأدب وخضوع وتواضع في مقابل المرحوم الحدّاد، أفلم يتفطّن مرجع التقليد هذا إلى أنَّ المرحوم الحدّاد كان من العرفاء الكذّابين، وتفطَّن له ذلك المؤلف؟ كم يجب أن يكون ذلك الرجل غبياً وعديماً للحياء عندما يتّهم هؤلاء العظماء بمثل هذه التهم؟!
كما أنَّ قائد الثورة الحالي ـ سلَّمه الله ـ كان قد قال لي شخصياً: كما أنَّ والدك كان قد ألَّف كتاباً باسم الروح المجرد في أحوال أستاذه، فعليك تأليف كتاب مشابه في أحوال والدك. ألم يُدرك قائد الثورة بأنَّهم كانوا من الكذّابين، وأدركه ذلك الرجل؟
فما التفسير لذلك؟ إنَّه من تسويلات النفس! فيا هذا إن لم تكن قد فهمت المراد من كلماتهم، فلماذا تصفهم بالعرفاء الكذابين؟ فهل تعتقد بأنَّنا نعيش في زمان ما قبل أربعمائة أو ألف سنة؟ لا يا هذا! فالناس تقرأ اليوم ما يُنشر وتستطيع تشخيص الحق من الباطل؛ وهم يضحكون على ذقنك مما كتبت.
كما أنَّ مرجع التقليد المرحوم آية الله الحاج الملا علي الهمداني كان قد حضر مجلس المرحوم الحدّاد في همدان، وكان يسأل المرحوم الحدّاد بكلّ تواضع وخضوع وكان يحترمه ويُجلّه. ألم يُدرك مرجع التقليد هذا ما أدركته أنت؟! فلم يُدرك ذلك الأمر إلاّ هذا المؤلف الذي اطّلع على جميع أسرار الملك والملكوت، فجلس في صدر مجلس القضاء وبدأ برتق الأمور وفتقها، فهو يرفع أحدهم إلى الأعلى ويُنزِل الآخر إلى قعر البئر!! إنَّ الله لبالمرصاد، وسيُحاسبنا على كلّ شيء في يوم القيامة، بل ويفعل ذلك في هذه الدنيا، فيعمل على فضيحة أولئك الذين يتجرؤون على أولياء الله، فسيفضحهم فضيحة منكرة وسترون ذلك، ولقد حصل شيء من ذلك بالفعل.
وبعد فترة جاء ذلك الرجل الذي كان يعترض على نشر كتاب وظيفة الفرد المسلم، جالباً معه مجلةً، وكان المرحوم العلاّمة في طهران حينها، فقال لي: انظر إلى ما كُتب في هذه المجلة، أرأيت كيف أنَّني كنت مُصيباً في رأيي. فنظرت في المجلّة فوجدت أنَّ أحدهم قد كتب عدة أسطر في نقد الكتاب بأسلوب استهزائي. فقلت لذلك الرجل: أولاً، إنَّ كاتب المقالة قد كشف عن حقيقة شخصيته من خلال ما كتب، ثمّ إنَّه ليس مطلوب منك أن تشفق على سمعة الكتاب، ولا أن تهتمّ بما يُنشر من أمثال هذا الهراء بشأنه، بحيث جئت وكأنَّك قد جلبت معك وثيقة رسمية. فقال: أريد منك أن تعرضها على السيِّد العلاّمة. فأخذتها إلى المرحوم العلاّمة وكان يجلس في غرفة أخرى ـ في الوقت الذي كان هذا الرجل يتواجد في غرفة الاستقبال ـ فما إن قرأها المرحوم العلاّمة حتّى ارتفع صوته بالضحك بحيث وصل صوته إلى الغرف المجاورة، فقال: هذا ليس بالشيء الذي يستحق الذكر، فلقد كنت أتوقع ما هو أكثر من ذلك بكثير. فقلت لذلك الرجل: هل سمعت قهقهته؟ فهذا هو الرّد على ما جلبت! فاذهب واجلب شيئاً آخر في الغد! فهل يُتوقع من كاتب المقالة أن يقوم بنحر خروف لمؤلّف الكتاب أو أن يقوم بنصب قوس الابتهاج بالنصر له؟
كيف تمت مواجهة النبي عند قيامه بنشر الرسالة؟ هل قوبل بالابتهاج والاحتفال ونحر الأضاحي وفدائه بالأنفس؟ أم أنَّه قوبل بصبّ القمامة فوق رأسه وإفراغ محتويات كرش البعير عليه، فكلّ ما تمت مواجهة المرحوم العلاّمة به كان عبارة عن نشر مقالة ضدّه، فشكراً لك وها أنت قد أفرغت ما في جعبتك وانتهى الأمر، فهو لم يُواجه بما تمت مواجهة النبي به من إلقاء القمامة ومحتويات كرش البعير على رأسه، ولم يُدموا أقدامه ولم يشقّوا جبينه بالحجر، فكلّ هذا كانوا قد فعلوه مع النبي، فقد كانوا يأمرون أطفالهم بضرب النبي بالحجارة، ولم يكونوا يفعلون ذلك بأنفسهم إذ كانوا يهابون من أبي طالب والحمزة. نعم هكذا كانوا يؤذون النبي.
لقد ابتعدنا هذا اليوم في حديثنا عن موضوعنا الرئيسي، إلاّ أنَّ ذلك مما لا بأس به، فلا بدَّ من طرح هذه المواضيع، ولا بدَّ لنا من أن نعرف ما الذي يدور حولنا.
فأمر الله للنبي بالاعتزال في غار حراء لمدة أربعين يوماً هو نوع من أنواع الرياضة الشرعية. ونحن عندما نقرأ سيرة العرفاء الإلهيين نجد أنَّهم كانوا يعتزلون لمدة أربعين يوماً، لكننا نجد البعض يعترض عليهم بالقول: لا يوجد في الإسلام مثل هذه الرياضة. فإن كان النبي يقوم بذلك، فلماذا لا يستطيعون هم القيام به؟ فلماذا اعتزل النبي لمدة أربعين يوماً؟ ولماذا كان النبي يأتي إلى غار حراء لسنوات متعددة وكان يعتزل الناس وعائلته فيه؟ فما المانع من أن يقوم العرفاء بذلك؟
نعم لا بدَّ للسالك وبموجب برنامج خاص وتوصية من الأستاذ ـ لا أن يفعل ذلك من تلقاء نفسه ـ أن يكون له وقت يختلي فيه بنفسه في بعض الأحيان، على أنَّ ذلك يجب أن يكون تحت ظروف خاصة وبأمر من الأستاذ. ويُطلق على هذه الرياضة في كلمات العرفاء باسم المراقبة، فالمراقبة هي أن يعمل الإنسان على أن تكون أعماله وأقواله وتصرفاته في جميع الأوقات ومختلف الظروف وفقاً لما يرتضيه الله. والاطمئنان بأنَّ ذلك العمل يحظى برضا الله، إمّا أن يكون مبنياً على العلم واليقين أو على الظنَّ القريب من العلم والذي يشكل حجة شرعية للمرء في حالة التوقّف والشك. فيُقال لمن يتصرّف بهذه الكيفية بأنَّه مُراقب لنفسه.

    

بذل المال من الرياضة النفسية وكيف ينبغي المراقبة في بذل المال؟

فالمراقبة لازمة في جميع الأحوال وفي كافة القضايا التي يتعامل معها، كالإنفاق، والتحدّث مع الآخرين، والمساعدة التي يقدمها للغير، فلا يجوز تقديم المساعدة المالية في كافة الظروف، بل هنالك ظروف تحتم على الإنسان الإعراض عن تقديم المساعدة.
جاءني أحدهم يوماً وقال لي: إنَّ سكان الحي الذي أقطنه ينوُّون بناء حسينية، وطلبوا مني تقديم مساعدة مالية، فهل تأذن لي بإعطائهم مقدار من سهم الإمام من الخمس؟ فقلت له: كلاّ، لا أسمح بذلك، إن شئت المساعدة، فتستطيع الدفع من أموالك الخاصة، فلم يتبرع لهم بأيّ مبلغ. [يريد هنا أن يكون مصداقاً للمثل القائل:] روغن ريخته را نذر امام‌زاده كرده. (ترجمة المثل: قدّم الزيت الذي سُكب على الأرض نذراً للمقام). فإن كنت ترى نفسك ذا مكانة في الحي الذي تقطن فيه، وتريد الحفاظ على هذه الوجاهة، فلماذا لا تنفق من أموالك الخاصة؟ ولماذا تريد أن يكون ذلك عن طريق صرف أموال الإمام؟
فأمر الإنفاق يدخل ضمن باب المراقبة أيضاً، فإن كنت مقتدراً ماديّاً، فيمكنك والحال هذه الإنفاق على الآخرين، وإلاّ فاحتفظ بأموالك لمصارفك الشخصية، فلكل مالٍ موارد صرفه الخاصة به، ولا يجوز لك أن تصرفه في المجالات الأخرى، وإن كان ذلك المبلغ صغيراً، فإن قمت بالإنفاق في غير مورده فستتعرّض للمسائلة، ولن تكون ذمتك بريئة يوم الحساب، ولا يوجد مسوّغ للانفاق حياءً؛ بل يجب أن يكون الإنفاق وفقاً للتكليف الإلهي وحكم العقل، لا بناءً على الحياء أو الاحراج أو المجاملة. فإن قام بذلك فيكون قد خسر أمواله في الدنيا وسيتعرّض للحساب في الآخرة نتيجة لما قام به، وسيُقال له: ما دمت قد أنفقت هذه الأموال مجاملةً، فلماذا لم تنفقها من أموالك الخاصة؟ على أنَّه حتّى لو أنفقها من أمواله الخاصة في هكذا موارد سيُعرَّض المرء إلى المؤاخذة أيضاً. [فإن كانت لديك أموال فائضة] فلماذا لا تنفقها على الفقراء بدلاً من أن تنفقها مجاملة؟
فهل تعلم أنَّ من الصلاح بناء حسينية في هذا المكان؟ وهل تعلم من هم أعضاء الهيئة المشرفة على إدارتها؟ وأي المواضيع سيتم طرحها فيها؟ وأيّ الخطباء سيتم دعوتهم للخطابة فيها؟ وكيف ستكون نشاطاتها في الدعوة إلى الله؟ وما إلى ذلك من الأسئلة؟ فمجرد كون اسم البناء الذي سيتم تشييده مسجداً أو حسينيةً لا يكون بحد ذاته كافياً لجعل المرء يشارك في نفقات إنشائه.
هنالك مسجد بني في طهران في عهد شاه إيران، وها أنا أقول قاطعاً بعدم جواز الصلاة فيه وذلك لكون جميع الأموال التي تم بها بناء المسجد كانت تدفع بدافع الحياء أو الإحراج. أنا أقول ذلك لكوني على اطلاع بهذا الأمر. كما تم إخراج إمام الجماعة السابق والذي كان رجلاً مسناً، ثم جاؤوا برسالة من هنا وهناك تفيد أنَّ المصلحة تقتضي بأن يتولى فلان من الناس إمامة الجماعة. ولا يزال حال المسجد على ما هو عليه حتّى اليوم، فعلى الرغم من كون جميع هذه الأمور باطلة، إلاّ إنَّه يتم العمل بها.
فعلى من يريد المشاركة في نفقات بناء هذا المسجد أو الحسينية ـ وإن كان ذلك من أمواله الخاصة ـ أن يعرف أيّ الناس سيتولّى إمامة الجماعة؟ وأيّ نوع من المواضيع سيتم طرحها هناك؟ فهل سيتم الحديث عن أمور دنيوية بصبغة إلهية وإسلامية، أم سيتم الحديث عمّا يرتضيه الله؟ وهل سيتم دعوة الناس فيه إلى الله أو إلى الدنيا؟ ومنْ سيكون المشرف على الأعمال التي تنجز في هذا المسجد؟ وأيّ مجموعة ستتولّى إدارته؟ فيجب على المتبرّع أن يعلم كلّ ذلك، وإلاّ فيكون قد خسر أمواله، ومن جهة أخرى سيُحاسب على ما فعل، وسيتعرّض إلى المسائلة [وسيُقال له: لماذا لم تنفقها في مجالات أخرى] بدلاً من إنفاقها في هذا المجال الذي يتم فيه الاعلان عن أسماء المتبرعين عن طريق مكبرات الصوت. فيجب علينا أن ننتبه لهذه الأمور، وعلينا أن نعيد النظر في أعمالنا وتصرّفاتنا.
ومن الأشياء التي أصبحت شائعة هذه الأيام هي أنَّه إذا ما أُريد جمع مبلغ من المال بعنوان تبرعات، يُصار إلى الإعلان عن أسماء المتبرعين ومقدار ما تبرعوا به من مال! لماذا يتم الإعلان عن ذلك ونشره؟ ولماذا تجرونّ الناس إلى الرياء؟ ولماذا تُحرجون الناس؟ إنَّ هذه التصرفات محرّمة شرعاً وأكل هذه الأموال حرام.
وكذلك ما يحصل عند تقديم الهدايا في مناسبات الأعراس أو الولادة مثلاً، حيث يُعلن عن نوع الهدية واسم من قام بتقديمها! لمِ يتم الإعلان عن ذلك؟! فهل هدفك من ذلك هو أن يُنشر هذا الأمر في وسائل الإعلام والصحف؟ وكذا الأمر فيما يتعلق بهدية الزواج التي يُطلق عليها في إيران اسم (باتختي)[7]، وهو اسم يتلاءم مع مسماه. على أنَّه ليس لدينا خبرة في هذا المجال وعلينا أن نرفع من خبرتنا فيه.
كنَّا جالسين برفقة عدد من الإخوة في المدينة المنوّرة قبل عدة سنوات، ودار الحديث عن الزواج المتعدّد ـ لا يستعجل عليّ الأخوة فسأتحدّث عن موضوع الزواج في المجالس القادمة إن شاء الله ـ فقال أحد الأصدقاء لآخر: ألا تخشى أن يصل الحديث إلى مسامع أمّ زوجتك عند عودتنا إلى طهران؟ فأجابه ذلك الصديق حفظه الله، وكان رجلاً مزّاحاً وحاضر البديهة، قائلاً: أنا أحبّ أمّ زوجتي إلى الدرجة التي جعلتني أتمنّى أن يرزقني الله عشرة من أمثالها.
فلا بأس من تقديم الهدية وذلك بوضعها في مغلّف وكتابة الاسم عليه، فتجلسون وتتحدّثون وتتلاطفون مع بعضكم البعض وتتناولون الحلوى ـ بالطبع فإنَّ الموضوع متعلّق بالنساء ـ بدون أن يتم الإعلان عن اسم مقدّم الهدية أو مقدار الهدية« فعندما يتم الإعلان بأنَّ السيّدة الفلانية قد قدّمت هدية ثمينة تبلغ قيمتها كذا، فإنَّ لهذا الأمر مردودان سلبيان؛ يعود أحدهما على من قامت بتقديم هدية ذات قيمة أقل من تلك الهدية، إذ إنَّها ستشعر في نفسها بالخجل من هديتها ذات القيمة الأقل، ويعود الضرر الآخر على تلك المسكينة التي تلقت هذا المدح والثناء، فستشعر بنوع من التفاخر والتعالي، وإن قامت باستعمال كلمات للتواضع والمجاملة، [فلو كانت صادقة] لما سمحت بهذا المدح والثناء.

    

ماهي الآداب التي يجب مراعاتها على المائدة؟ وما هي أهميتها؟

لماذا لا يتم مراعاة الآداب الإسلامية، ولماذا لا يتم احترام عزّة نفس المؤمن والتي تمّ التأكيد عليها كثيراً في الدين الإسلامي. لقد كان النبي يؤكد بشدة على هذا الأمر، فلم يحصل مرةً أن جلس رسول الله على مائدة وقام بالثناء على طبيعة الأطعمة التي قُدمت فيها، بل كان يقول: الحمد لله، ويدعو بزيادة البركة ويغادر. لماذا لم يمتدح الرسول هذه المائدة أو تلك؟ لأنَّه إن قام بامتداح مائدة معينة ثم جاءت النوبة إلى رجل آخر ولم يستطع تهيئة مائدة كتلك التي هيأها الأول سواءً كان ذلك من حيث كمية الطعام أم نوعه، [ولم يحصل على الثناءٍ الذي حصل عليه الأول، فسيتعرّض للإحراج والخجل]. فإمّا أن يقوم الرسول بمدح الجميع بنفس الدرجة من المدح والثناء، أو أن لا يرى الأمر مستحقاً للثناء أصلاً، فيقوم بدلاً من ذلك بالدعاء بزيادة النعمة والبركة، فقد كان النبي يدعو بزيادة البركة ومنح الصحة والسلامة، وزيادة الإيمان، وحلول البركة على المنزل ثم يُغادر البيت، فلا مبرر لما يقوم به البعض من الدعاء لربّ وربّة البيت وحتى لقطّة المنزل، فهذا ليس من الإسلام في شيء.
بل علينا حفظ الدعاء المأثور عن الإمام زين العابدين عليه السلام والموجود في كتاب بحار الأنوار ـ على الإخوة الفضلاء البحث عنه في الأبواب الخاصة بالدعاء والمعاشرة ـ وقراءته بعد المائدة[8]، أو أن يدعو الإنسان بزيادة البركة ومنح الصحة والسلامة وزيادة الإيمان، أمّا ما عدا ذلك من الدعاء لصاحب المنزل وأمه وزوجته بكذا وكذا، فكلّ ذلك من الأمور التي لم ترد في السنّة؛ نعم، لا بدَّ للمرء من تقديم الشكر لصاحب الدعوة، إلاّ أنَّ ذلك يجب أن يكون في إطار الحدود المنطقية، فعلى الإنسان أن يرى بأنَّ مصدر جميع تلك النِعم هو الله، وعلينا أن نعلم بأنَّ رسول الله والأئمة عليهم السلام لم يقوموا بما يقوم به الناس اليوم، إذاً فالالتزام بالسنن هو من التأدّب بالآداب الإسلامية.
لم يحصل أن قام النبي بامتداح مائدة ما، فالمائدة لا تستحق المدح والثناء، بل هي إحدى نِعم الله؛ فعلى المدعو أن يتناول طعامه وينصرف، ومنذ أن سمعت هذه الآداب من المرحوم العلاّمة ـ في مرحلة الصبى ـ ولهذا اليوم، لم يحصل أن قمت مرّة بالاعتذار من ضيفٍ عن نوع الطعام الذي تم تقديمه، سواءً كان الضيف بدعوة منّي أو بدون دعوة مسبقة، فعند حلول ضيفٍ علينا، أقوم بتقديم ما تم إعداده من طعام وبدون إظهار الاعتذار عن عدم تناسب نوعية الطعام مع مقام الضيف أو عدم التهيّؤ المسبق بسبب عدم العلم بقدومه، فلا مبرر لهكذا نوع من الاعتذار. ألا نضع على موائدنا اليومية الخبز والجبن؛ فهل يجب أن يكون الطعام الموضوع على المائدة دائماً من النوع الكذائي حتّى يتناسب مع مقام الضيف؟! ولو أنَّ أحدهم يقول لي ذلك، فسأعتبر ذلك إهانة لي، فهل مدى تقديري واحترامي يُقاس بنوع الطعام الذي يُقدّم لي من حساء اللحم والباذنجان؟! فهل هذا الطعام يتناسب مع قدري وذلك لا يتناسب؟! لا أريد أن أسمع من الإخوة مثل هذا الكلام من الآن فصاعداً؛ فعندما يحلّ عليك ضيفٌ، عليك تقديم ما تم إعداده من طعام في مطبخ البيت؛ وكما فعل أمير المؤمنين. فهذه هي الآداب الإسلامية، فهي تدعو الناس للسير في طريق التوحيد سواء كان ذلك في مجال التعاملات الاجتماعية أو الشخصية، وسواء منها ما يتعلق بالحياة اليومية المختلفة أم المأكولات.
سنرى في المجالس القادمة كيف أنَّ الإمام الصادق يعلّمنا ضرورة افتتاح الطعام باسم الله واختتامه بحمد الله، وكلّ ما عدا ذلك يعتبر مخالفاً للآداب الإسلامية.
فبناءً على هذا يكون معنى المراقبة هو تنظيم السالك لجميع أموره وأحواله طبقاً للأوامر والنواهي الشرعية ووفقاً لما أمر أو أوصى به العظماء. أمّا إن لم يرد الالتزام بها، فسوف تتسع الهوَّة بينه وبين مسير الحق بمرور الزمان وستكبر الزاوية، وتتحوّل من زاوية حادّة إلى زاوية منفرجة، ثم يتحوّل مسيره إلى مسير معاكس لمسير الحق.
ذكرت هذه الحكاية قبل فترة في إحدى المناسبات، وهي أنه قام أحدهم بتوجيه دعوة للإفطار بعد الثورة ـ وقد ذكر الرجل هذا الأمر في أحد المجالس وكان يفتخر بما فعله، فقلت له هذا عمل غير صحيح أبداً، وقلت له: لقد أخطأت بعملك هذا ـ وكان منزله يتألّف من أربعة طوابق، فخصّص الطابق الرابع لطبقة خاصة من الناس، ولا أذكر مزيداً من التفاصيل، والطابق الثالث والثاني لطبقات أخرى من المجتمع كما جعل الطابق الأول للعمال والخدم والسائقين. هل هذا النوع من الدعوة للإفطار يحظى برضا الله؟! أم يجب أن تكون مائدة الإفطار مثل تلك الموائد التي كان الإمام الرضا عليه السلام يقيمها، فكان يُجلس عليها الغلمان بما فيهم متولّي أمور الاسطبل أولاً، ثم يجلس الآخرون بحيث يختلطون مع الغلمان! وليعلم الذين يسمعون هذا الكلام بأنَّهم لا يستطيعون أن يخدعوا الله عندما يدعون لمائدة مشتركة ثم يقومون بتخصيص مكان منها لجلوس أصحاب النفوذ، والقسم الباقي للآخرين، إنَّ الله لا يرضى بهذا العمل، بل لا بدَّ من أن يجلس الجميع بشكل مختلط؛ فما هو الضير في أن يجلس فلان من الناس في مكان ويجلس أحد السائقين إلى جنبه؟!

    

بعض الآداب الإسلامية في مجالس المؤمنين

قال المرحوم العلاّمة: مجالسنا وبحمد لله هي تلك المجالس التي يجلس فيها جميع طبقات الناس بشكل مختلط، فتجد في هذا الجانب من المجلس طالب العلوم الدينية والمجتهد والكاسب والمهندس والطبيب، فهم يجلسون جنب بعضهم البعض الآخر، وكذلك الحال فيمن يجلس في وسط المجلس أو آخره.
والحال أننا نجد بعض مجالس العزاء تصنّف بحسب طبقات المجتمع، فيتم تخصيص جانب من المجلس لجلوس طبقة خاصة من الناس؛ وعندما يحين وقت اللطم على الصدور، يبقى هؤلاء جالسين في محلّهم، بينما ينهض الآخرون للطم الصدور؛ فيبدو وكأنَّ الإمام الحسين هو إمام الفئة التي نهضت للطم الصدور فقط ـ وهو إمامهم حقاً ـ فإن كان لطم الصدور لازماً، فعلى الجميع فعل ذلك، وإن كان النهوض للطم الصدور لازماً، فعلى الجميع النهوض، وإن كان الجلوس لازماً، فعلى الجميع الجلوس، فلا وجود للتميِّيز بين الناس في هكذا موارد. ثم يأتي دور تصوير المجلس فتدور الكاميرا على رؤوس الحاضرين واحداً واحداً، دون تجاوز أيّ منهم، من أجل عرضها في التلفاز حتّى يرى المشاهدون مشاركة هؤلاء الناس في مجلس العزاء.
يجب أن تتبدّل كلّ هذه الرسوم والتقاليد، فمجلس الإمام الحسين عام لجميع الناس، فعندما يجلس شخص ذا مكانة اجتماعية، يأتي آخر من عامة الناس فيجلس إلى جنبه؛ فهذا لا يختلف عن ذاك فكلاهما من بني آدم، لماذا لا تكون مجالسنا بهذا الشكل؟ وأيهما الذي يحظى بقبول رضا الإمام الحسين أكثر من غيره؟ وأيّهما تشمله عناية مقام الولاية بشكل أكبر؟ وأيّهما يدعو إلى جلب المزيد من الأنوار والبركات؟ فذلك بديهي ولا يحتاج إلى إجابة، فنحن نبتعد بتصرفاتنا تلك عمّا يوجب رضا الله.
لقد تعبت، وقد منَّ الله عليّ بتوفيق الحضور إلى هذا المجلس، وإلاّ فإنَّني كنت قد أخبرت الأخ الدكتور باحتمال عدم تمكّني من الحديث لشعوري بألم في البلعوم منذ صباح هذا اليوم؛ إذ إنَّني أعاني من مرض سابق في البلعوم ويبدو أنَّه قد أعاد الكرّة، فقرّرت التوكّل على الله، وقمت بشرب قليل من الماء الفاتر، وتغرغرت ببعض السوائل، فشعرت بالتحسن بعض الشيء، فحضرت المجلس ولله الحمد، و تمكنت وبالاستمداد من أنفاس الإخوة من الحديث عن هذه المواضيع؛ وتلقيت شحنةً مقوّية، فأنا عندما أحضر هذه المجالس، أستفيد شخصياً، وأكون بذلك مصداقاً للمثل القائل: إن سلّم عليك القروي، فاعلم بأنَّ سلامه لم يكن لأداء السلام بحدّ ذاته، بل هو يريد منه أن يكون مقدّمة لمصلحة شخصيّة يريد الوصول إليها. فحضوري هنا هو من أجل فائدتي الشخصية في الواقع، فأنا أحضر للتحدّث والتسامر والابتهاج مع الإخوة، فهذا هو الهدف الرئيسي لهذه المجالس، ثم يُجري الله على لساني ما فيه المصلحة من ذكر حديث أو كلمة لأحد العظماء أو بيان لطريق نحو الهدف المطلوب، فلم يكن في مخيلتي ـ وبأيّ شكل من الأشكال ـ أن أذكر أي موضوع من تلك المواضيع التي ذكرتها هذا اليوم، بل كنت أهدف إلى ذكر مواضيع أخرى؛ والتي سأتحدّث عنها بمشيئة الله لولا البداء في المجالس القادمة.
نسأل الله أن يوفقنا للسير في ذلك الطريق الذي يرتضيه، وأن يُخرج من قلوبنا حبّ الدنيا وزخارفها، تلك الدنيا التي لا تساوي حتّى فلساً واحداً، وسندرك هذه الحقيقة عندما نرحل إلى العالم الآخر، بل وأدركنا ذلك الآن ونحن في هذه الدنيا، ولكنَّه ولكي ندرك ذلك بشكل أفضل، فعندما نستقر جميعنا ـ إن شاء الله ـ في ذلك العالم، ويكون مستقرّنا مع أمير المؤمنين ـ نحن جميعاً بمشيئة الله ـ سنعرف عندها تفاهة الدنيا، وكم هي جوفاء، وسندرك تفاهة ما كنّا نتنافس عليه، ها أنا أخبركم الآن بما هو موجود في ذلك العالم، فتقبّلوا مني بالفعل ما أقول وسوف نرى ذلك إن شاء الله رأي العين ـ أنا أمزح مع الإخوة ـ بل سيتّضح لنا ذلك بحق اليقين وعين اليقين، فاتضاح ذلك لنا سيقلب حياتنا الدنيا رأساً على عقب، وسيجعلنا نُمضي أعمارنا بطريقة أخرى، وسيجعل مسيرنا وحالنا بشكل آخر.
كما نسأل الله ألاّ يبتلينا بما ابتلى به الآخرين، وأن يديم ظلَّ إمام الزمان على رؤوسنا، وأن يجعلنا من المنتظرين الحقيقيّن لإمام الزمان ـ هذا هو الدعاء الذي كان المرحوم العلاّمة يدعو به دائماً ـ وألاّ يحرمنا من زيارته في الدنيا وشفاعته في الآخرة.
اللهمَّ صلِّ على محمّد وآلِ محمّد


[1] ـ جاء في وسائل الشيعة، ج 5، ص 280: وفي كتاب (المقنع) قال: قال أبو عبد الله عليه السلام ليس منّا من لم يصلّ صلاة الليل. وجاء في بحار الأنوار، ج 75، ص 380: قال الإمام أبو محمّدٍ الحسنُ العسكريّ عليه السّلام: إنّ الوصولَ إلى اللهِ عزّ و جلّ سفرٌ لا يُدرَكُ إلّا بِامْتِطاءِ الليل.?

[2] ـ نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح، ص 300.

[3] ـ راجع المعجم الكبير للطبراني، ج 23، ص 13.

[4] ـ جاء في وسائل الشيعة، ج 14، ص 575: «محمد بن علي بن الحسين في (ثواب الأعمال) عن علي بن أحمد، عن حمزة بن القاسم العلوي، عن محمد بن يحيى، عمن دخل على أبي الحسن علي بن محمد الهادي عليهما السلام من أهل الري قال: دخلت على أبي الحسن العسكري عليه السلام فقال لي: أين كنت؟ فقلت: زرت الحسين عليه السلام فقال: أما إنَّك لو زرت قبر عبد العظيم عندكم لكنت كمن زار الحسين بن علي عليهما السلام»

[5] ـ بحار الانوار، ج 15 كتاب العشرة ص 137: عن الكافي، بسنده عن الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام أنَّه قال: وَدِدتُ وَ اللهِ إنِّي افتَدَيْتُ خَصلَتَينِ في الشِّيَعَةِ لَنَا بِبَعْضِ لَحمِ سَاعِدي: النَّزَقَ، وَ قِلَّةَ الكِتْمَان?.

[6] ـ سورة النجم (53)، جزء من الآية 30.

[7] ـ كلمة باتختي تُترجم بالعربية بـ " أمام السرير أو جنب قائمة السرير"، وهي عبارة عن وعاء يوضع إلى جنب سرير العروس حيث تقوم النساء القادمات للتهنئة بوضع هداياهنّ فيه. [المترجم]

[8] ـ جاء في بحار الأنوار، ج 16، ص 241: وكان صلى الله عليه وآله إذا وضعت المائدة بين يديه قال: بسم الله اللهم اجعلها نعمة مشكورة تصل بها نعمة الجنة. وجاء في الصفحة التالية: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما أكل رسول الله صلى الله عليه وآله متكئا منذ بعثه الله عز وجل نبياً حتى قبضه الله إليه، متواضعا لله عز وجل، وكان صلى الله عليه وآله إذا وضع يده في الطعام قال: بسم الله بارك لنا فيما رزقتنا وعليك خلفه .

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی