معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 201 إلى الأخير > شرح حديث عنوان البصري ـ الجلسة 222 – القاعدة الأساسية في العلاقات الاجتماعية

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح حديث عنوان البصري المحاضرة 222

القاعدة الأساسية في العلاقات الاجتماعية

ألقيت في 7 ذي القعدة 1436 هجري قمري

ألقاها:
سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه اللـه

 

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين

"وأمّا اللّواتي في الحلم، فمن قال لك: إن قلتَ واحدةً سمعت عشرًا فقل: إن قلتَ عشرًا لم تسمع واحدةً، ومن شتمك فقل له: إن كنت صادقًا فيما تقول فأسأل الله أن يغفر لي، وإن كنت كاذبًا فيما تقول فاللهَ أسألُ أن يغفر لك، ومن وعدك بالخنا فعده بالنصيحة والرعاء"
يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان: إنّ المسائل والأمور التي على الإنسان أن يراعيها فيما يخص موضوع الحلم هي:
أولاً : إن قال لك شخص: إن قلت واحدةً فسأرد عليك بعشرة؛ فقل له: إن قلت عشرًا فلن تسمع منّي حتى واحدة ؛ وثانياً: إن شتمك شخص أو سبّك، فقل له: إن كنتَ صادقاً فأسأل اللهَ أن يغفر لي، وذلك حيث أن كلامَك صحيح وواقعي، وإن كنت كاذباً فأسل الله أن يغفر لك (هذا الكلام عجيب جدًّا فالإمام عليه السلام هنا يتكلم عن مسائل أساسيّة جدًا ، وحياتية ، وتفتح لك أبوابًا) ؛ وثالثاً: من توعّدك بأسلوب خشن وعاملك بقسوة وتوعدك بالخنى (فالخنى هنا بمعنى القسوة المعاملة الخشنة ) فعِده في جوابك له وردّاً على تهديده وخطئه، بالنصح والموعظة والرعاية.

    

جميع مطالب هذه الفقرة تدور حول محور واحد: نبذ الأنانية في العلاقات الاجتماعية

إنّ جميع هذه المطالب التي يذكرها الإمام عليه السلام هنا تدور حول مسألة واحدة وموضوع واحد، وهو مسألة الأنانيّة والتعامل من منطلق نفساني في المحاورات، والعلاقات الاجتماعيّة، وهي تكشف عن المعيار الذي ينبغي بناء تلك العلاقات عليه؛ فما هو المعيار فيها؟ يعني أين ينبغي على الإنسان أن يكون شديدًا وأين ينبغي عليه أن يكون لطيفاً وهادئاً؟ أين ينبغي على الإنسان أن يتكلم بشدّة وأين عليه أن يتكلم بلين وهدوء؟ فعلى كل حال ما هو الملاك في المسألة؟ هل ينبغي على الإنسان أن يكون خطابه لطيفاً دائمًا؟ أم لا، إذ الحالات مختلفة ولكلّ حالة تكليفها الخاص بها؟
سنبيّن الآن للرفقاء بعض المطالب حول هذه المسألة بحسب ما تسمح به الظروف والأحوال، وإن كان العبد الفقير يفكّر بهذه المسألة منذ مدّة وهي أنّ هذه الجلسات (أي جلسات حديث عنوان البصري) قد طالت كثيرًا، فإن أردنا أن نطيل الكلام حول هذه المطالب فقد تكون مملّة حقيقةً، فمثلاً بالنسبة لهذه الفقرة قد جال في ذهني سريعاً بعض المطالب التي عليّ أن أتحدّث عنها فوجدت أنّ الأمر سيمتدّ لمدّة سنة كاملة حتى نتكلّم عن هذه الفقرات الثلاث إن أردنا أن نكمل على هذا النحو [من التفصيل]؛ ولكن بالنظر إلى المسائل التي طُرحت على الرفقاء إلى الآن والمسائل التي يعرفونها بحمد الله؛ فلا حاجة لأن نطيل كثيرًا في هذه القضايا ولا أن نتوسّع في المطلب، نعم، قد يكون من المفيد أن نشير إلى بعض تلك النقاط التي مرّت. وأمّا إذا بقيت مسألة بعد ذلك أو شيء ما يستحقّ العرض فسنبيّنه للرفقاء والأصدقاء من خلال الكتابة إن شاء الله وإن وُفِّقنا لذلك. على كلّ حال، سنبيّن للرفقاء ما هو ضروريّ للمحاورات ولازم للعلاقات الاجتماعيّة وسنحترز بعض الشيء عن الحشو و الزوائد.

    

المبنى الأساس في العلاقات الاجتماعية

إنّ المسائل التي ذُكرت هنا مسائل مهمّة جدًا؛ لأنّها تعالج مسألة العلاقات الاجتماعية، سواء في محيط المنزل والأسرة أم في المحيط الاجتماعي، فلهذا بيّن الإمام عليه السلام هذا المطلب هنا تحت عنوان كونه أصلاً ضرورياً في التعامل مع الأشخاص، وكلّ ما بيّنه الإمام هنا ـ كما تقدّم ـ فإنّه يدور حول محور واحد وهو أنّه هل على الإنسان في علاقاته أن ينظر إلى المسائل من وجهة نظر نفسانيّة أم من وجهة نظر واقعيّة؟ هذه خلاصة المطلب بجملة واحدة.
عندما يقول لك شخص: "إن قلت لي واحدةً سمعت عشراً" فما هو أساس ومنبع هذا الكلام؟ ما الذي يجعله يقول هذا الكلام؟ وماذا ينبغي على الإنسان أن يَرُدَّ عليه؟ إنّ الإنسان عندما يسمع هذا الكلام يفهم مباشرة ما هو المنطلق الذي ينطلق منه هذا الشخص الذي يقول هذا الكلام.

    

كيف يبني أهل الدنيا علاقاتهم وتصرفاتهم الاجتماعية؟

إنّ ما نراه من التعاملات بين جميع الأشخاص، وما نسمعه في المحاورات والمحاضرات هو أنه إن كان الأمر له علاقة بنفس الشخص ويمسّ شخصيته، [فإنّه يهتمّ كثيراً]، و أمّا إن لم يكن له علاقة به ولا ربط لشخصه به فإنه يمرّ عليه مرور الكرام ويتعدّاه مباشرة، فحتّى لو كان الشخص يقول كفرًا، فإنّه لا يعتني به مادام لا يمسّ شخصه، فلسان حاله يقول:(لماذا أزعج نفسي بأمر لن يعود عليّ منه أي فائدة؟!)، فحتى لو قال كفراً فسيمضي عنه! أجل حتّى لو وصلت المسألة للكفر بالله فإنّه لا يتدخل! وسأبيّن لكم إن شاء الله بعض أمثلة هذه المسألة ومواردها.
ترى أنّه عندما يأتي شخص لشخص آخر ويقول له: (إنّ فلانًا قد كتب في كتابه هذا الكلام)، تراه يقول: (ما دخلي أنا بذلك؛ بل أنت كيف تتحمّل الخوض في هذا الكلام؟!) مثلاً يكتب حول... الآن لا شغل لنا حول ماذا، لو أنّه كتب حول أي شيء، فلن تتغيّر ردّة فعل هذا الشخص؛ فهو لا علاقة له بما كتب، بل ينظر إلى موقعيّته الشخصيّة، وينظر هل هناك خطر من هذه القضية على مكانته ، أم لا؟! وهل هناك مصلحة تعود عليه من هذا الكلام أم لا؟! وهل هناك ضرر سيعود عليه أم لا؟ إنّه ينظر إلى موقعيّته لا إلى نفس المطلب، فالمطلب ليس مهمّاً، وهذه المسألة سواء كانت كتابة في كتاب أم قولاً في محاضرة، أم كلاماً قيل في أحد الأماكن، فإنّه يقول: لا علاقة لي بذلك.
فمثلًا لو أنّ الشخص الفلاني في المكانة الفلانيّة قال كلامًا ما، وكان كلامه غلطاً فادحاً، فإنّك ترى هذا الشخص يقول: (إن "أنا" أردت أن أجيب على هذا الكلام ، وأردت "أنا" أن أقول هذا فإنّهم سيلتفتون إليّ "أنا" وسيسلّط الضوء عليّ "أنا"، والكلام سيكون عليّ "أنا" ، والآثار سيكون مردودها عليّ "أنا" ، والمواجهة والصدام ستكون معي "أنا"، لأني أنا الذي تكلمت؛ لذلك لا شغل لي به.. دعه يقول ما يشاء، دع فلاناً يتكلم بالكلام الباطل.. دع فلاناً يقول الكلام المخالف للتاريخ.. دع فلانًا يقول الكلام المخالف للعقيدة، ودعه يقول المطلب المخالف للمباني، فما علاقتي أنا بذلك! فلماذا توجع رأسك بالحديث عن ذلك الكلام! دعك منه و لا تتدخّل!)
انظر! فالكلام هنا منبعه هو هذه المسألة وهي أنه إلى أيّ حد ستتصادم هذه المسألة مع هذا الشخص، وما الآثار التي ستترتّب عليه هو جرّاء هذه المواجهة. هذا هو التعامل النفساني، فالمسألة ليست مبنيّة على أمرٍ واقعيّ، يعني ليس من المهمّ عنده هل الكلام الذي قيل غلطٌ أم صواب؟ بل المهم هو كم سيعود عليّ شخصيّاً من هذا التعامل و ما تأثيره عليّ؟! ما هو تأثيره عليّ "أنا" ؟
أو لا يكون الأمر كذلك، بل يكون الأمر على نحو آخر وهو أن هذه المسألة تتصادم في جانبٍ من جوانبها وطرف من أطرافها مع هذا الشخص [السامع]، مثلاً فلان الفلاني قال مسألةً ما، وهذه المسألة تتصادم معه "هو" أو مع المجموعة التي "هو " فيها، فحتّى إن لم تكن تتصادم معه هو نفسه وإنما تتصادم مع المجموعة التي هو فيها، والمجموعة التي ينتمي إليها، أو أنّها تتصادم مع تلك المنظّمة التي هو في ضمنها، أو تلك المؤسسة التي هو فيها ، فحتّى لو لم يكن لشخصه علاقة بالمسألة؛ ولكن من حيث أنه يرى أن شخصه مع تلك المجموعة فهو يرى أنّ له علاقة بالموضوع، وهذا المتكلّم الآن يتحدّث عن المؤسسة التي "هو" فيها ويجعلها محلًا للانتقاد، ويُشكِل على النظام الذي هو فيه، هكذا ينظر إلى المسألة ولا ينظر إلى "ما قيل"؛ فلو أنّ ذلك الشخص يخرج من ذلك النظام أو المؤسسة مثلًا ويذهب لمكان آخر، فستراه لا لا يعتني بالمسألة أصلاً، وسيقول: ما علاقتي أنا! دعهم يتكلّمون!
نحن هنا لا يهمّنا هل الكلام الذي قيل عنه أو عن الجهة التي ينتمي إليها صحيحٌ أم غير صحيح؛ فلا علاقة لنا بصحّة الكلام وخطئه أصلًا، وليس بحثنا في هذه النقطة، بل كلامنا هو عن تلك الحالة التي هو عليها، وهذه المسألة مسألة مهمّة جدًّا، يعني أريد أن أقول بأنّ تسعين بالمائة من مشاكلنا تعود لهذه المسألة، تسعون بالمائة من مشكلاتنا ترجع لهذه المسألة!!

    

من نماذج النفسانية: التعصّب للشخص ولو كان ولياً إلهياً

لقد وضع الإمام عليه السلام يده هنا على أهم قضيّة، وطرح هنا أهمّ المسائل. إنّكم الآن حاضرون هنا فأريد أن أسألكم سؤالًا: نلاحظ أنّه لو قال شخص شيئًا عن المرحوم العلّامة الطهراني، فسوف نغضب كلّنا لذلك، ولكن هل يفكّر أحدنا بأنه قد يكون كلامه صحيحاً، لعلّه يكون مطلبًا صحيحًا؟ لا، فإننا قبل أن نفكّر بصحّة المطلب نقول: بما أنّ المطلب هو نقدٌ للمرحوم العلّامة فعلينا أن نقف في مواجهته، لماذا؟ لأنّه إن لم نواجهه، فإنّ الإشكال و السؤال سيطالنا نحن، وحتّى لا نكون "نحن" محلاً للإشكال، علينا أن نواجه ونردّ! فهذا يصير نفسانيًا، [أقول ذلك] بكل سهولة و صراحة! لنبدأ بمحاكمة أنفسنا أولاً. نعم هو المرحوم العلّامة، فليكن كذلك، فنحن ليس عندنا إلا أربعة عشر معصوم فقط، فقط أربعة عشر معصوم... وههنا يوجد في نفس هذه القضيّة مطالبٌ أخرى لا يسع المجال لبيانها الآن.
يجب أن يُطرح المرحوم العلّامة بالنسبة لنا بعنوان كونه حقّاً وواقعًا لا بعنوان كونه شخصًا؛ يعني هل لأنّه هو صاحب هذه المدرسة فلا يجب أن يتكلّم عليه أحد؟! هذا غلط وليس بصحيح، أنا ابنه [وأقول هذا الكلام].
بالنسبة للمطالب العلميّة [المنقولة عنه رحمه الله]، فهي على أنحاء مختلفة، فكثير من المسائل لها حيثيّة ظاهريّة، وبعضها له حيثيّة باطنيّة، وإنّما تكليفنا نحن هو الدفاع عن هذا المذهب.
فمثلاً كتابه أو الرسالة التي ألّفها حول صلاة الجمعة، عندما نظرت فيها قلت: من الحيف والخسارة ألاّ يُضاف عليها بعض المطالب وتُبيّن ببعض التوضيحات وأمثال ذلك؛ فتجاسرت بإضافة بعض المطالب وكتبتُ بعض التعليقات والتوضيحات، فجاءني الرفقاء الذين حقّقوا الكتاب وراجعوا التعليقات ونظروا فيها قائلين لي: يا سيّد هل نُبقي الكلام الذي كتبتَه في الحاشية على ما هو عليه!!؟ ألا يحتاج إلى تعديل بعض التعابير والعبارات؟![1] فقلت: إنّ طرف حسابنا هو الإمام الصادق عليه السلام، وهو من سيحاسبنا، فعلينا أن نعطيه يوم القيامة جوابًا، فالحقير في عين كونه معتقداً بأنّه لم يكن للمرحوم العلّامة مثيل في زمانه من الناحيّة العلميّة ـ وليس حديثي الآن عن العلم بالمسائل الباطنية، بل هو حول المسائل الظاهريّة ـ فلم يكن يضاهيه شخص في المسائل الفقهيّة والأصوليّة والفلسفيّة، والآن أيضًا أعتقد نفس الاعتقاد، فأنا حتّى الآن أعتقد بهذا الاعتقاد، بأنه هو أعلم علماء عصره في الزمن السابق وحتّى الآن، ومع ذلك فقد كنت أتباحث معه و أناقشه كما يتباحث طالبان في الحوزة، كما ذكرت لكم فقد تباحثتُ معه في إحدى المسائل الفلسفيّة لسنين، وتباحثت معه كما يتباحث طالبان مع بعضهما، فأقول له: الأمر الفلاني كذا، والمسألة الفلانية جوابها كذا، فيقول لي: يا سيّد ما هو لون هذه؟ فأقول: أبيض. فإن قال لي هذا لونه أحمر، أقول له: يا سيّد إمّا أن تغيّر اللون الذي تراه عيني فأصير أراه أحمرًا وإلاّ فإنّي حتّى الآن مادامت هذه العين عندي بهذه القرنيّة وهذه الشبكيّة وهذا البؤبؤ والعصب فإني سأرى هذه الورقة بيضاء؛ نعم إن تُغيّر ما لديّ فحسنٌ جداً :
"گر تو نمى پسندی تغيير ده قضا را"[2] [يقول: إن كان حالنا لا يعجبك فغيّر القضاء!!]
اعمل شيئاً حتى أرى الأبيض أحمراً فلا مانع عندي ولن أقول شيئًا حينئذٍ.
وبالأخير في ذلك المجلس الأخير الذي رآني فيه رحمة الله عليه ـ قبل وفاته بشهرين عندما تشّرفنا بالذهاب إلى مشهد، وكان هواء مشهد مازال بارداً، فكان قد وضع كرسيّاً في غرفته ـ جلسنا هناك وكانت تلك الليلة ليلةً عجيبةً، كانت عجيبةً جدّاً بالنسبة لي مع المواضيع التي طُرحت فيها، فكنت أتساءل متعجّباً في نفسي: يا ترى، ما هو الشيء الذي سيحدث حتّى صار يطرح معي هذه المسائل؟ فمن المسائل التي قالها لي: يا سيّد محسن أردتُ أن أقول لك هذا الكلام، بالنسبة لهذه القضيّة التي تحدثنا حولها في هذه المدّة ولم نصل فيها إلى نتيجة فقد كان الحقّ فيها معك، ولكن "من يسمع ليس كمن يشاهد ويتذوّق"، فقلت له: نعم يا سيّدي الكريم أوافقك في ذلك، فأنا أتفق معك في هذه الفقرة [من يسمع ليس كمن يشاهد]. وخلاصة الأمر أنّ المشكلة قد حُلّت، وما أراد أن يقوله لي هو هذه المسألة: إنّ عليك أن تصل بنفسك إلى تلك المراتب، وعلى الإنسان أن يشاهد ذلك، والمسألة لاتنتهي بالكلام، فالحديث عنها لا يكفي، وكلامه صحيح، وكذلك هو الأمر، فالمسألة كما قال.
فهذا هو أحد النماذج، وإن كان كلامنا الفارغ جعلناه إلى جانب كلامه؛ ولكن لا مشكلة في ذلك، فالشخص الذي نتعامل معه ينظر إلى الأمرين معًا، هل التفتّم؟ ولم يكن عندي أيّ مطلب لا يجوز السؤال عنه، ولم أندم إلى الآن كأن أقول: [ليتني لم أسأل عن هذه المسألة] ، لماذا كان الأمر على هذا النحو؟ بسبب ما علّمني إياه هو نفسه، فأنا عندما اعتقدت بالمرحوم الوالد إنّما اعتقدت به على هذه الكيفيّة، ولم أطمر رأسي في التراب وأقلْ: إنّ كلّ ما تقوله حق وصحيح ولا يوجد غيره.

    

كلام الولي الإلهي حجّة عندما يكون ولياً لا قبل ذلك

لقد قلت للرفقاء في الجلسات السابقة التي تكلّمت فيها عن المسائل التي تُطرح هنا وهناك مّما كان ينسب للمرحوم الوالد في بعض الكتابات والكلمات وأمثال ذلك، قلنا هناك: نحن عندما نتكلّم عن أحد العرفاء الإلهيين أو وليّ من أولياء الله فإننا نتكلّم عنه مع ملاحظة هذا العنوان، وهو كونه وليّاً أو عارفاً، فوليّ الله بعنوان ولايته يكون موردًا لتحلِيلنا و تفسيرنا وتوضيحنا لا وليّ الله بلحاظ جسميّته، فجسمه بالنسبة لنا ليس مهمّاً، فسواء كان وزن وليّ الله سبعين كيلو غراماً أم تسعين، فلا أهميّة لذلك، ولا دخل له بهذه القضية، فمثلًا أنت عندما تذهب إلى الطبيب وتعرض نفسك عليه وتقول له: أنا مريض، فهل تسأله عن وزنه وتقول له: يا سيّد ضع الميزان حتى أعرف كم وزنك؟! فإن كان وزنك مائة وعشرة كيلو غرامات فسآخذ وصفتك وأصرفها من الصيدلية، وأمّا إن كان وزنك سبعين كيلو، فلن أعتنيَ بوصفتك و أوامرك! هل تفعل أنت ذلك؟! نحن لا شغل لنا بوزن الطبيب وهيكله، ولا يعنينا سواء كان سبعين أم ستين، فهذا شأنه، أمّا ما يهمنا فهو علمه، وقدرته على التشخيص، والشهادة التي يحملها، والمدرك والمستند الذي حصل عليه، ويهمنا تبحّره في العلوم. أو مثلًا هل تسأله يا سيّد هل عندك زوجة واحدة أو عدّة زوجات؟! فإنه سيقول لك حينئذٍ: ما دخلك بي يا وقح! جئت إلى هنا لأنّ قلبك يؤلمك، فتعال حتّى أعطيك الدواء ووصفة العلاج والإبرة حتى تتعافى! ما دخلك سواء كان عندي زوجة واحدة أم عشر زوجات؟!
و كذا الأمر في ما نحن فيه، إذ المهم في وليّ الله عندما يُعَنوَن بهذا العنوان هو نفس هذا العنوان لا وزنه هل هو تسعون كيلو أم ستون أم سبعون، بل ما يهمنا به هو هذا العنوان، وذلك بأن نعرف هل تحقّقت فيه هذه الحالة وحصّل ذلك العنوان أم لا؟ فإذا تحقّق بهذا العنوان، فحينها ينبغي على الإنسان أن ينظر إلى مطالبه وحركاته وسكناته وتصرفاته، ويرى لأيّ شيء صدرت منه هذه الأمور؟ وبأيّ كيفيّة؟ وينبغي أن ينظر هل يمكن الاقتداء بتصرّفاته هذه أم أنّها صدرت لأمرٍ خاصّ به فلا يصحّ الاقتداء؟ إذ قد يقوم وليّ الله بعمل لا يجب على غيره أن يقوم به! أجل، لا يجب على غيره أن يقوم به؛ لأنه أمر مختصّ به هو، إذ لو كان من المفروض أن نقوم بكلّ عمل يقوم به وليّ الله، فإننا سنكون نحن أولياء الله! وسنكون نحن العرفاء! فهناك أمور تختصّ به هو، لماذا هي مختصّة به؟! لأنّه هو الذي عنده إشراف، و لأنّ عنده إشرافًا هو يقول هذا الكلام ويتصرّف بهذا الشكل.

    

الوليّ الإلهي عنده إشراف تام على الحقائق؛ ولذا كان أمره حجّة

فعندما بعث الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام خبرًا لعليّ بن يقطين ـ في قصته المعروفة[3] ـ أن عليك أن تتوضّأ كوضوء أهل السنّة، حينئذٍ صار ذلك الوضوء واجباً عليه، وليس له أن يخالف، فإذا توضّأ عليّ بن يقطين بعد هذه الرسالة كوضوء الشيعة فإنّ وضوءه سيكون باطلًا، و صلاته ستكون باطلة أيضاً، فالإمام عليه السلام قال: يجب أن يكون وضوؤك من اليوم فما بعده بهذه الكيفية، [فإن قلتَ:] لماذا أتوضّأ بهذه الكيفيّة؟ [فسيقال لك:] لماذا تتدخّل أنت بهذا الأمر الذي لا دخل لك به؟ فالإمام قال: يجب أن تتوضّأ مثل وضوء أهل السنة .. بل لو أمرك الإمام بأن لا تتوضأ أصلًا، فعليك ألاّ تتوضّأ، وإن توضّأت فوضوؤك باطل.
إنّ كلام الإمام حقٌ، وكلام الإمام تشريعٌ، وكلام الإمام حجّة، وكلّ ما سواه باطل، فلو أنّ عليّ بن يقطين أتى وقال: كلا، فصحيحٌ أنّ الإمام أمرني بذلك ولكن يمكن لي ألاّ أمتثل، فأنا أعلم بأنّ أمره بسبب التقيّة، ولأجل المداراة [للقوم]، فليس أمراً جاداً ، ولذا لن أمتثل وسأتوضأ بوضوء الشيعة، لو فعل ذلك فإنّ وضوءه سيكون باطلًا، وكلّ صلواته التي يصلّيها به باطلة؛ مع أنّ وظيفتنا نحن هي أن نتوضّأ طبقًا لوضوء الشيعة، ولا يجوز لنا أن نتوضّأ طبقًا لوضوء أهل السنة، وإن توضّأنا مثلهم فإن وضوءنا سيكون باطلًا، فكيف يمكن ذلك؟ أن يكون عملٌ واحدٌ في حالة واحدة باطلًا بالنسبة لشخص ومبرئ للذمة لشخص آخر؟! لأن كلّ شخص له تكليفه الخاصّ به، فذاك الشخص تكليفه أن يعمل بكلام الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، وإن تخطّاه إلى غيره كان باطلًا، والصلاة التي صلّاها به عليه أن يقضيها، فعلي بن يقطين بعد أن وصلت إليه رسالة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام بأنّه يجب عليك أن تتوضأ طبقًا لوضوء أهل السنة فلو أنّه قال: لا، لا إشكال بأن لا أتوضأ! فإنّ الله سيعاقبه عقابًا شديدًا، وسيضربه ضربة على رأسه لن يستطيع أن يحرك رأسه منها بعد ذلك! ويقول له: أتخالف أمري؟!
هذه المسألة تأتي في مسألة حجيّة وليّ الله، فأحد تطبيقات هذه المسألة يأتي هناك، فعندما يأمر أحد أولياء الله ممّن لهم هذه الخصوصيّات فأمره واجب الاتّباع، ولا مجال للمخالفة، هذا إذا كان الآمر له هذه المواصفات من الولاية والمعرفة والشهود، لا أن يأتي كلّ من هبّ ودبّ فيقوم بإلقاء بعض الخطب أو يكتب بعض الكلمات فنطلق عليه "وليّ الله" أو "العارف" ، ما هذه الترّهات؟! بل يجب أن يكون له هذا العنوان، فعندما يوجد هذا العنوان فإنّ هذا سيكون حينئذٍ حجّة، فهل لي أنا أن آتي الآن وأقول: بما أنّ موسى بن جعفر قال لعليّ بن يقطين: توضّأ بهذه الكيفيّة، فآتي أنا أيضًا وأقول لفلان من الناس توضّأ أنت بهذه الكيفيّة؟ كلاّ، لا يحقّ لي ذلك، فإن ذلك الأمر من خصائص موسى بن جعفر لا أنا و أمثالي، فأنا عالمٌ ظاهري، عالم عادي، من العلماء المتعارفين، ويوجد أمثالي عشرة آلاف شخص، وأمّا موسى بن جعفر فهو فردٌ واحد؛ ولأنّه واحدٌ لا مثيل له فإنّ حسابه يغاير البقيّة، وكلامه يختلف عن كلام البقيّة، والتعامل معه يختلف عن التعامل مع البقيّة، أين أنا منه! يوجد من أمثالي عشرة آلاف واحد، فإنّنا أناس عاديّون يأتون ويذهبون وأنا وأمثالي كلّنا في رتبةٍ واحدة، ولا يوجد تفاوت بيننا.
ولأجل ذلك فإنّ كلام موسى بن جعفر كلامٌ خالد (و ههنا بعض المسائل من الممكن أن نبيّنها لاحقاً في هذه التوضيحات التي نكتبها [حول حجية أفعال أولياء الله])... أجل، هذا الكلام يصير كلامًا خالداً وأبديًّا؛ يعني كما أنّ رسول الله قد شرَّع الوضوء بهذه الكيفية، فقد شرَع لنا رسول الله ـ ولا يوجد عندنا أحد أعلى من رسول الله حتى نأتي به مثلًا ـ الوضوءَ بهذه الكيفية وهي: أن نغسل وجهنا أولاً ثم يدينا من الأعلى إلى الأسفل، لا كما يفعل السُنّة من الأسفل إلى الأعلى ـ كأنّه نهر يجري من الأسفل إلى الأعلى ـ ثم نمسح الرجلين والرأس بهذه الكيفيّة، فعندما شرع رسول الله هذا التشريع جاء موسى بن جعفر مع كل ذلك وقال: بالنسبة لهذا الشخص وبناءً للمصلحة التي أنا أراها وبناء للتشخيص الذي أنا مشرف عليه ومطلع عليه، وبناءً لذلك الإدراك الذي أراه، آمرك بالمخالفة؛ إذاً بناء على هذا لو أنّ رسول الله كان في ذلك الزمان فما الذي كان سيقوله لعليّ بن يقطين؟ هل سيقول له: عليك أن تعمل بهذا الوضوء [الذي أمرك به موسى بن جعفر] أم لا؟ لا يمكن أن يقول له: لا تفعل. فعندما يكون رسول الله واقفًا إلى جنب عليّ بن يقطين وتصله رسالة موسى بن جعفر أن اعمل بهذا النحو، فإنّ رسول الله سيقول له: (لقد كان حكمك من السابق حتّى الآن هو ذاك؛ ولكن من الآن فصاعدًا فسيكون حكمك هو هذا، وإن خالفت ذلك فسيكون وضوءك باطلاً، وصلاتك باطلة، فإن تُبتَ بعد ذلك فسيتوجّب عليك أن تقضي صلواتك السابقة، يجب أن تقضيها كلّها).أمّا أنا فلا أستطيع أن أصدر هكذا أمر، هذا الكلام إنّما يتأتى من موسى بن جعفر لا منّي أنا.
نعم، هناك ملاكات عندنا وعلينا أن نعمل طبقًا لهذه الملاكات، ولا إشكال في ذلك أيضاً، والعمل طبقًا لها مُجزئٌ شرعًا، أمّا أن يأتي الشخص من عند نفسه ويطرح هكذا أمور ومسائل بهذه الدرجة فلا، ولذا نرى بأنّ المسألة في كثير من الأحيان تكون من هذا القبيل، ففي تلك الحالات التي يختلف بها العلماء تكون المسألة من هذا القبيل، فمثلًا عندما يختلفون بأنّه هل نعمل بهذا الدليل أم بذاك في حالات الاختلاف[4]؟ فإنّ المسألة ترجع إلى مسألة شهوديّة لاحظها الإمام عليه السلام، ونحن نتخيّل بأنها مسألة عامّة وحكم عام، والحال أنها حكم في مورد خاص وفي حالة خاصّة ولشخص خاصّ.
من الشخص الذي يحسّ بذلك ويشعر به؟ إنه وليّ الله، نحن لا نستطيع أن نحسّ بذلك، نحن لا يتأتى منّا هذا الأمر، ولي الله هو من يفهم هذا الأمر، فإنّه يقول لنا: إنّ الإمام قال هنا كذا بسبب الأمر الفلاني، وعندما يفهم وليّ الله المسألة فإنّ حكمه هنا يكون مثل الإمام؛ لأنه قد فَهِم، ولكنّه مادام لم يفهم فلا!
أمّا نحن فلا نفهم هذه الخبايا ولا ندركها، نحن لا نستطيع أن ندرك علّة كلام الإمام وفعل المعصوم؛ نعم الإمام عليه السلام هنا [في قصّة علي بن يقطين] تكلّم بهذا الكلام لأجل التقيّة؛ ولكن هل جميع الموارد التي تكلم فيها الإمام هي أيضاً موراد تقيّة أم لا؟ في بعض الحالات قد لا يكون هناك تقيّة ونحن نظنّ بأنّ هناك تقيّة، ونتوهّم ذلك؛ ففي كثيرٍ من موارد التعارض نرى البعض يقولون: هذا من التقية، و هو محمول على التقية!! والحال أنها ليست موردًا للتقيّة؛ نعم هناك بعض الموارد تكون موردًا للتقيّة، بعضها فقط، لا أنّه في كل مورد نقول: " هنا تقيّة " فهذا لا يصحّ.
الإمام هو وحده الذي يستطيع تحديد المورد الذي يفترض العمل فيه خلافاً للحكم الواقع؛ لذا نرى بأنَّ الإمام وبعدما أمر علي بن يقطين بذلك، قد أرسل إليه رسالة أخرى بعد مدّة يأمره فيها بالعودة إلى طريقة وضوئه السابقة، فالإمام هو الذي يأمر بشيء، وهو نفسه الذي يأمره بالعودة إلى ما كان عليه. من هنا نحن مكلّفون بالعمل بموجب ما أمر به الإمام، فإن لم نفعل، فسنكون قد أتينا بعمل باطل؛ وستكون كافّة أعمالنا باطلة، لأنَّها جرت خلافاً لما أُمرنا به.
بالطبع فإنَّ هذا الموضوع هو موضوع متشعّب ويمكن التوسّع في الحديث بشأنه، و سيتم الحديث عنه عندما أقوم إن شاء الله بإكمال ما بدأ به الإخوة من تحرير المجالس الخاصة بالحديث عن موضوع حجّيّة أفعال الوليّ الإلهيّ. فقد بذل الإخوة جهداً في ذلك، وسأقوم بإضافة بعض المواضيع الأخرى إليه؛ ونأمل بعون الله أن أتمكّن من أداء ذلك عاجلاً، لكي يتم طباعة ونشر الكتاب. وفّق الله الإخوة والأصدقاء وجزاهم خيراً؛ فقد قاموا بكلّ ما تقتضيه الحميّة للدين والمذهب والاهتمام بالمباني، فقاموا بطرح مواضيع وإشكالات جيّدة استجابةً لما كنتُ قد طلبته من الإخوة بطرح الإشكالات التي يرونها، فمن الطبيعي بأنَّه كلّما جرى التوسّع بالموضوع وإنضاجه بشكل أكبر، كلّما خرج بشكل أفضل وأكثر فائدة ممّا لو كان قد تمّ عرضه بشكلٍ مختصر، الأمر الذي قد يبعث على بروز ألف تساؤل حوله، ولذا فقد بذل الإخوة جهداً في هذا المجال، فقاموا بطرح أسئلة جيدة بشأن الموضوع، وسأقوم في القريب العاجل بالبدء بتأليف الكتاب إن حالفني التوفيق الإلهي.

    

لزوم مراعاة المراحل المختلفة التي يمرّ بها الولي في تلقّي كلامه

وأمّا بالنسبة [لكيفية التعاطي مع ما ينسب] للعارف والوليّ الإلهيّ، فينبغي أن نسأل أولاً: ألا يمرّ هذا العارف بأطوار وأدوار مختلفة في حياته؟ فهل كان ومنذ ولادته حتّى آخر عمره وليّاً إلهيّاً؟ فوليّ الله الذي نتحدّث عنه و نرتّب الآثار على هذه المرتبة التي وصلها، هو ذلك الوليّ الذي وصل فعلاً إلى هكذا مكانة وهو إنّما يصلها في سنٍّ معيّن وحالٍ معيّنة ويكون أمر ولايته محرز لدينا، حينئذٍ سيكون كلامه وتعامله وتصرّفاته مختلفةً ومتفاوةً، كما بيّنا ذلك سابقاً. أمّا إن كان هذا الولي قد طرح أمراً ما عندما كان في الثلاثين من عمره، ولم يكن قد حاز ذلك العنوان حينها، فلا يمكن أن نرتّب تلك الآثار عليها، بل قد يكون ذلك الأمر الذي طرحه غير خالٍ من الإشكالات والمآخذ. فهل من الصحيح القول بأنَّه لما كان الرجل وليّاً إلهياً، فإذن كلّ ما كان يقوله وهو في سنّ الخامسة والعشرين صحيحٌ؟! كلاّ، فهذا كلام غير سليم، إذ قد يوجد إلى ما شاء الله من الأخطاء في كلامه، فالمكانة التي يُعطيها الإنسان لأحد الأولياء، إنَّما تكون صحيحة وفي محلّها فقط في حالة ثبوت تحقّق الولي بهذا العنوان بالنسبة للمكلّف.
فموضوع الولاية الإلهية، وكون الرجل قد أصبح ولياً إلهياً ليس اسماً يُثبت في هوية الأحوال المدنية والتي تصدر للمولود عند ولادته، حيث يبقى هذا الاسم حتّى آخر عمره دون أن يتبدّل، فاسم المرحوم العلاّمة مثلاً هو السيِّد محمّد الحسين، وهكذا هو مُثبت في هويته، ولقد بقي هكذا حتّى ارتحاله عن الدنيا؛ فلم يتبدّل إلى السيِّد محمّد حسن أو السيِّد محمّد علي، فكون أحدهم هو ابن فلان وفلانة من الناس لا يمكن أن يتغيّر بتغيّر الزمان؛ فهذه ليست من الأمور التي يمكن أن تتبدّل بتبدّل الزمان.
أمّا مدركات الإنسان وحاله ومكانته ونفسه، فهي في حال تبدّل مستمر؛ فإن كان أحدهم قد قال شيئاً أو أفتى أو حكم بأمرٍ في برهةٍ من الزمن، فقد تتبدَّل فتواه أو حكمه في زمن لاحق؛ فهذا مما يحصل كثيراً. ولقد قال هو [المرحوم العلاّمة] بنفسه: لقد كنت أقوم بالعمل الفلاني سابقاً ـ الأمر يتعلّق ببعض المسائل الاجتماعية بالطبع ـ وعليكم ألاّ تقوموا به، فوضع الإنسان وحاله ومدركاته وخصوصياته تتبدّل مع مرور الزمان.
فهل من الصواب والحال هذه أن نقوم باستصحاب قهقرائي إلى سنّ الخامسة عشر فنسرّي الحكم إلى كلّ ما كان يفعله هذا الوليّ الذي أمامنا؟ فنأتي ونقول: إنَّ كلّ ما كان يقوله أو يفعله هذا الرجل صحيحٌ ومعصومٌ من الخطأ؟ كلاّ، لا يمكن أن يكون الأمر كذلك. أتلاحظون؟ فما هو السبب الكامن وراء ما يحصل؟ إنَّه بسبب ما قمنا بمنحه نحن من مكانة وهالة خاصّة لذلك الكيان والنظام، وبسبب ذلك الجوّ الخاص الحاكم الذي يحيط به، و هذا خطأ، حتّى أنّني قد سمعته هو نفسه يكرر ذلك مراراً فيقول: عليكم التركيز على ما أقول، لا على كوني موجودًا الآن بينكم وألقي عليكم هذا الكلام؛ عليكم النظر إلى ما أطرحه من مواضيع ومباني، عليكم التركيز على محتوى ما أقول؛ فأنا موجود الآن بينكم وسأرحل عنكم في الغد، فما الذي ستفعلونه عندها، هل ستتركون كلّ هذه المباني تذهب أدراج الرياح؟!
وهذا ما حصل بالفعل، فقد ذهب وذهبوا ولم يتمكّن من البقاء والاستمرار في السير على نهجه منهم سوى أولئك الذين كانوا يركّزون على ما كان يطرحه من مواضيع، لا على قامته وشخصيته ومكانته ولا على حالالته وهيبته، بل كانوا يركّزون على ما كان يتحدّث به، وعلى الكلام الذي كان يتفوّه به و المباني و التوصيات التي كان يعطيها.
عندما كان المرحوم العلاّمة يتحدّث، كنت أشاهد بنفسي كيف أنَّ البعض كان ينظر إليه ويبكي بحرقة؛ ولقد كنت أضحك عليه في قلبي؛ فهذا المسكين الذي يستمع إلى هذه المواضيع حالياً ويبكي... ولقد كان يبكي حقاً، فقد كانت الدموع تجري من عينيه، ولم يكن بكاءه بكاءً كاذباً، لم يكن قد وضع في عينيه عصارة البصل، لكي تحتقن عيناه وتخرج منها الدموع، بل كنت أرى الدموع تسيل من عينيه، غير أنَّ تلك الدموع لم تكن دموع حقيقة بل كانت ناجمة عن الأحاسيس، فسبب بكائه هو ما كان يراه من هذه الهيئة المهيبة و شخصية هذا الرجل العظيم الذي يتكلّم الآن، فهو يقول في نفسه: أيّ سيِّد هذا؟! ما أعظم هذا الرجل! غير أنَّه كان واضحاً بأنَّ المسكين كان أجوفاً، وغير ممتلئ، ولا حقيقة لهذا البكاء، نعم، لقد كان ذلك واضحاً، ولقد شاهدنا بأنفسنا كيف كانت عاقبة الأمر.
ألم يكن أولئك الذين عاصروا النبي صلّى الله عليه وآله كذلك أيضاً؛ ألم يكونوا يبكون؟ بلى لقد كانوا يبكون، بل كانوا يبكون بحرقة أكبر. لم تكن هنالك كاميرات في ذلك الوقت لكي تقوم بتصوير المنظر، وإلاّ لشاهدتم بأنفسكم كيف أنَّ عشرين أو ثلاثين من أولئك المائة رجل الجالسين حول النبي وهم يستمعون لكلامه كانوا يبكون، وأولئك هم الذين بايعوا أبا بكر بعد وفاة النبي؛ نعم، هم ذاتهم الذين كانوا قد فعلوا ذلك.

    

في مدرسة التشيّع و العرفان: الملاك هو الحقّ لا الأشخاص والتعصب

وهكذا هو واقع الحال في الوقت الحاضر، والسبب الكامن وراء كلّ الذي يحصل هو: أنَّنا نبني علاقاتنا وثقافتنا على أساس مكانة الأفراد والجوّ الحاكم هناك، لا على أساس المحتوى؛ وهذا هو ما يريد الإمام الصادق أن يحذّرنا منه.. هذا مضمون كلامه عليه السلام. إنّ الموقف الذي يتخذه الناس مبني على انتمائه لكيانٍ أو مدرسة أو تيّار معيّن، ولذا ترى أنّهم ما داموا على هذا الانتماء، يتصدون لمن يخالف هذا الكيان بأشدّ ما يمكن، [وهذا الأمر ينطبق علينا نحن أيضاً] فما دمنا ننتمي إلى هذه المدرسة، وهي مدرسة العرفان، وهي المدرسة التي تنتسب إلى المرحوم العلاّمة، ترانا نتصدّى لمن يتعرّض لها بكلام ، فأنت "لأنّك تنتمي لهذه المدرسة"، تتصدّى و تدافع حتّى وإن كان هذا الكلام كلاماً صحيحاً.. نفعل ذلك لأنّنا ننتمي لهذه المدرسة! فترانا نتصدّى و ندافع بشدّة ونذهب لنبحث في هذا الكتاب عسى أن نجد فيه ما يدعم رأينا، فنردَّ عليه الواحدة بعشرة لكي لا يفكّر بالتعرّض لهذه المدرسة مرّة أخرى. [إنّ هذا نفس ذلك الخطأ الذي ارتكبه أولئك في زمن النبي]، فسواء حصل هذا الأمر في مكان آخر أو في هذه المدرسة، فإن النتيجة ستبقى واحدة؛ إذ لا تفاوت بينه وبين ما يجري في مكان آخر، فما يختلف في الأمر هو اختلاف التسمية واختلاف الجوّ الحاكم ليس إلاّ، فذلك يتمّ تحت عنوان متابعة السنّة وأبي بكر وعمر، وهذا تحت عنوان التشيّع والعرفان والسلوك؛ إلا أنّ الباطن واحد، وكلّ ذلك ناشئ عن الأنانيّة.
في أيّام المرحوم العلاّمة، عندما كان أحدهم يتكلّم عن المرحوم العلاّمة كلاماً ما، فقد كنت أتمعّن في كلامه لمعرفة صحّته من سقمه.. هذا من ناحيتي، وهكذا كنت أفعل، ولعل أحدهم يأتي ليقول لي: يا سيّد أنت متحرّر ومن أهل التنوّر و الحداثة، وهذه المدرسة مبنيّة على التقليد!
كلاّ يا عزيزي ليس الأمر كما تقول! فهذا الكلام مما لا يمكن لي أن أقبله، وهو واحد من تلك الأمور التي كنت أصرّ على رفضها؛ فأنا كنت و ما زلت أصرّ على خطأ ما يقوله البعض من أنّ من يريد الانتماء إلى هذه المدرسة فعليه أن يخفض رأسه ولا يعترض على شيء ــ ولقد خفض البعض رأسه في بعض المواقف، فأدّى ذلك إلى وصول الأمر إلى ما وصل إليه الآن ــ و نظير ذلك ما يقال بأنّه هنا في هذه المدرسة على الإنسان أن يُغمض عينيه، وأن يكون مجرد أُذن.. فعليه أن يغمض عينيه ويغلق فمه، ولا يفتح غير أذنه. لا يا هذا، ولماذا يجب أن يكون الأمر بهذا الشكل؟ بل عليك أن تفتح جميع جوارحك، عليك أن تفتح أذنك وعينيك معاً، فعلى أيّ أساس عليك أن تفعل كلّ ما يُطلب منك؟!

    

عدم رعاية مراتب الأشخاص ورفعهم فوق مكانتهم يؤدّي إلى الخسران

عندما تفقد المفاهيم مصاديقها الصحيحة، فسيصل الأمر إلى هذا الحدّ، وذلك أنّ لمفهوم الولاية مصداقه الخاصّ به، ولمفهوم الإمامة مصداقها الخاصّ بها، فبناءً على ذلك المفهوم سيتمّ تشخيص المصداق الخاصّ به، وعلى ضوء هذا المصداق، سيتم تشخيص التكليف المترتب عليه؛ فلا يمكن للمريض الذي يراجع طبيباً عمومياً أن يطلب منه إجراء عملية جراحية لقلبه، بل يمكن له مراجعته بشأن بعض الآلام التي يعاني منها كالصداع مثلاً، فيقوم الطبيب بفحصه وتشخيص مرضه وتحديد العلاج المناسب له؛ فيقوم المريض واعتماداً على خبرة الطبيب بالاستفادة من العلاج؛ أمّا بشأن ذلك الطبيب المتخصّص، فستكون ثقة المريض به أكبر، لذا فهو يحمّله مسئولية أكبر؛ وهكذا يكون الأمر كلّما ازداد تخصّص الطبيب.
هل حصل لك أن ذهبت يوماً لطبيب عامّ في عيادته ــ ومع كونه طبيبًا جيدًا ــ لتشتكي إليه الألم الذي تعاني منه في كليتك أو قلبك، وتطلب منه أن يمسك بمبضع الجراحة ويجري لك عملية جراحية في عيادته؟ لا يمكن لك أن تفعل ذلك، كما إنَّ الطبيب لا يفعل ذلك بدوره؛ لأنَّه عاقل ويتّبع المنطق في تصرفاته، ولو فعل ذلك، فسيعرّض نفسه للمؤاخذة القانونية؛ فقد تمّ تخويله هذا الحدّ من المسئولية لا أكثر، وذلك بأن يقوم بوصف قائمة الدواء للمريض لا أكثر؛ فإن تجاوز هذا الحدّ، فستتمّ معاقبته من قبل المؤسسة الصحية، وسيُقال له: ما دمت غير مؤهلٍ للقيام بإجراء عملية جراحية، فلماذا أجريت تلك العملية وفتحت قلب المريض؟ وهكذا سيكون مُداناً، وسيعاقب بعقوبةٍ كبيرةٍ.
إنَّ للإمامة والولاية مفهومها ومصداقها الخاصّ بها، فإن قمنا بتحميل ما يترتّب على هذا العنوان على مصاديق أخرى، فسوف لن يستقرّ حجر على حجر؛ فإن جئتُ وتصرفتُ كتصرّف الإمام موسى بن جعفر أو ألقيت خطاباً كذلك الذي يلقيه الإمام موسى بن جعفر، فما الذي سيحصل عندها؟! [من الواضح أنّه ليس لي ذلك؛] فأنا رجل عاديّ ليس إلاّ، وما أنا سوى طالب للعلوم الدينية، ولا يتأتى منّي سوى ذلك المقدار الذي يتناسب مع قابليتي المحدودة، و على الأفراد الذين يتلقّون منّي الكلام أن يتعاملوا معه على أساس ذلك أيضاً، فإن تجاوزوه، فسيتعرّضون للمسائلة وسيُقال لهم: لِمَ فعلتم ذلك؟ و على أيّ أساس؟ فإن أجاب أحدهم وقال: إنَّ هذا طالب للعلوم الدينية وهو يلبس العمامة؛ فسيُقال له: وإن كان يلبس العمامة ــ فلقد كان جميع الرجال يلبسون العمامة سابقاً ــ فهل يخوّله ذلك أن يقوم بأيّ عمل شاء؟ وهل يستطيع من درَس العلوم الدينية لعدة سنوات أن يتفوّه بأيّ كلام شاء أو إصدار أيّ حكمٍ أراد: كتلك الأحكام المتعلقة بأرواح وأعراض الناس أو تلك المرتبطة بالمصير الأخروي لهم؟! أ وَ هل يستطيع الإنسان والحال هذه القيام بأيّ عمل أراد؟
بناءً على ما تم ذكره، إن كان هنالك أمرٌ يترتب على عنوان إمامة المعصوم وولايته ، فإنَّ ذلك خاصّ بالإمام وحده ولا يشاركه فيه أحد؛ وعلينا أن نعرف قدر أنفسنا ونعلم حدود تكاليفنا؛ والعمل ضمن هذا النطاق. وهذا الأمر ينطبق علينا في نفس الوقت الذي ينطبق فيه على من يستمع إلى أوامرنا؛ فلو أنَّ الآخرين عملوا بكلّ ما يقال لهم [بدون رعاية للحدود]، فسيكونون مسئولين عن ذلك يوم القيامة.
سيتعجّب الرجل في ذلك اليوم عندما يعلم بأنَّ الله كان قد قدّر له أن يعيش سبعين عاماً، وإذا به يرحل عن الدنيا في سنّ العشرين أو الثلاثين، وأنّه قد خسر أربعين سنة من عمره، وكان بإمكانه أن يبلغ درجة عالية من الكمال في هذه المدّة؛ فسيقول: لقد عملت بما قاله الآخرون! حينئذٍ سيأتيه الجواب: كان بإمكانك ألاّ تستمع لهم؛ فلقد خسرت خسارةً لا جبران لها؛ فكان بإمكانك أن تفتح عينيك وأذنيك وأن تستفيد من خلايا المخ التي وضعتُها لك في رأسك لكي تستثمرها، لا أن تحجّرها بالجبس والإسمنت وتستجيب لكلّ ما تُأمر به؛ فانظر الآن بنفسك لترى بأنَّه كان قد قُدِّر لك أن تعيش في هذه الدنيا لأربعين سنة أخرى، فقد كنّا قد قدّرنا لك أن تعيش لسبعين عاماً، غير أنَّك أنت الذي اختزلتها إلى خمسة وعشرين عاماً، فخسرت خمسة وأربعين سنة من عمرك في هذه الحالة، وهي مدة كافية لإيصالك إلى الكمال. فلمّا كنت أنت الذي فعلت ذلك بنفسك، فلا نصيب لك هنا، فالطم رأسك الآن. فيقول حينها:
لقد كنت أعتقد بأنَّ الأمر كان بشكل آخر.
لم تكن مجبوراً على ما كنت تقوم به. فهلّا سألت أحداً؟ هلاّ استشرت خبيراً؟ هلاّ تشاورت بالأمر مع أحد العظماء.
لا لم أفعل ذلك، بل أطرقت برأسي إلى الأرض، وعملت بما قيل لي.
إن كنت قد أطرقت برأسك إلى الأرض حينها، فأطرق برأسك الآن أيضاً واذهب إلى المكان المخصّص لك.
فيُدخل إلى الدرجات الدنيا من الجنة، حيث سيقول عندها:
ولكنّني أريد مقاماً أرفع.
سامحنا، لا نستطيع إعطائك مقاماً أرفع من هذا؛ إنّنا لن نُدخلك النار، ولكنَّنا سنخصّص لك مكاناً في هذه المراتب الواطئة وسنجلب لك ما يسدّ رمقك من التفّاح والكمثرى والخوخ لكي لا تشعر بالجوع. أمّا ما يتعلق بما هو أرفع من هذا وهو: {وَ لَدَيْنا مَزيدٌ}[5] ، فلا نصيب لك منه يا عزيزي؛ فهو خاصّ بأولئك الذين استثمروا عقولهم ولم يعملوا على تحجيرها.. تلك المنازل خاصّة بهم.
حسناً، إنّ ما تحدّثتُ عنه هذه الليلة كان شرحاً موجزاً وهو عبارة عن مقدمة لشرح هذه الفقرة، فإن حالفني التوفيق فسأستعرض أموراً أخرى متعلّقة بهذه الفقرة في المجالس القادمة. حيث يدور البحث في جميع هذه الفقرات حول كيفية تصرفاتنا وتعاملاتنا؛ فهل يجب أن تكون نفسانيةً أم يجب أن تخرج عن إطار النفس؟
نسأل الله أن يمنَّ علينا بالعمل وفقاً لتعليمات الدين المبين وما أمر به أولياءُ الله، وأن يخرجنا من ظلمات الجهل المحيطة بنا، فعندما يلاحظ المرء ما يجري حوله وما يُنشر في هذه الصحف والمجلات والكلام الذي يجري تداوله في الأوساط، فهل يتبادر إلى ذهنه شيء سوى هذه الفقرات من الحديث الشريف؟! إنّ مرجع كلّ هذه الأمور التي تجري هو هذا الذي أشار إليه الإمام.
عندما قال رضوان الله عليه: (على السالك أن ينظر في حديث عنوان البصري باستمرار)، لم يكن ذلك منه اعتباطاً، يا أعزائي، بل كان المرحوم القاضي يعلم شيئاً آخر. ولقد قال المرحوم العلاّمة: لقد كتبت هذا الحديث (ولازالت تلك الكتابة موجودة، حيث كُتبت في دفتر صغير كان يضعه في جيبه، ولقد رأيته بنفسي) وأنا أقرأه مرة في الأسبوع. [فما السرّ في ذلك؟] فقراءته لمرة واحدة أو لمرتين تكفي، بل سيحفظه الإنسان بتكرار قراءته؛ فلماذا يجب تكرار القراءة؟!
[ليس الأمر كذلك، بل] لا بدّ من تكرار النظر إليه، فلا يستطيع الإنسان أن يقول: ما دمت أحفظه، فلماذا أكرر قراءته؛ فهنالك أثر يتحقّق في النظر إلى الكتابة، وهذا الأثر لا يحصل بمجرد الحفظ. لماذا يُؤمر عند قراءة القرآن بفتح المصحف والنظر إليه؟ لأنَّ هنالك آثاراً تترتب على النظر إلى المصحف، ولا تتحقّق هذه الآثار فيما لو كانت القراءة عن ظهر قلب، فعندما نقوم بقراءة سورة يس صباحاً على سبيل المثال، فعلينا قراءتها بالنظر إلى المصحف إذ سيكون لذلك تأثير آخر... بالطبع إن لم يكن هنالك مصحف، فسيكون الأمر مختلف والحال هذه... أجل إنّ قراءة القرآن بفتح المصحف والنظر إليه، و كذا قراءة الروايات الواردة عن المعصومين والتي هي عبارة عمّا جاء في الكتب من كلام المعصوم، وقراءة مؤلفات أولياء الله، سيكون لها أثرها الخاص بها.

    

الذكي الفطن هو من يلتزم بكلام الإمام الصادق عليه السلام ويترك النفسانيات

نسأل الله أن يوفقنا لفهم وإدراك الحقائق والخروج من ظلمات الجهل؛ فجميع تلك المشاكل ناجمة عن جهل الإنسان فهو لا يعلم ولا يفهم فيضرّ نفسه، غير أنَّه يحسب نفسه فطنًا ذكيّاً؛ ولذا فهو يقوم بالمراوغة يميناً وشمالاً، ولكنّ هذا ليس بذكاءً، فالذكي هو ذلك الذي قيل له شيء [جارح مثلاً]، فهو يطرق برأسه ويتجاوز ولا يُجادل ولا يردّ؛ لا ذلك الذي يقول: (سأكيل لك الواحدة بعشرة، فلا تعتقد بأنَّك أمام رجل عاجز؛ فانتظر حتّى أصفّي حسابي معك، لتعلم حينها منْ مِنَ الناس تقابل) ؛ فهذا ليس بالفطن، بل هو متخلّف عن الركب؛ و إنّما السابق هو ذلك الذي إن سمع كلاماً، أطرق برأسه إلى الأرض وقال: قل ما شئت أن تقول (بالطبع سنتحدّث عن الموضوع بالتفصيل، فردّة الفعل تتفاوت في المواقف المختلفة)، فذلك هو الفطن وهو السبّاق في هذا الميدان.
ذهبت يوماً بمعيّة المرحوم العلاّمة إلى بيت المرحوم المطهّري رحمه الله، فلقد كان رجلاّ طيّباً وذا نيّة سليمة وكان صادقاً.. نعم، لقد كان المرحوم المطهري رجلاّ صادقاً، كان ذا نفسٍ صادقةٍ؛ ولعلّ مصلحته كانت تقتضي بعدم استمرار بقائه في الدنيا لأكثر من ذلك... ذهبنا إلى منزله وكان بمعيّتنا رجلان آخران، وكان لأحدهما علاقة سابقة بالمرحوم المطهري وكان يتردّد على منزله، وكان هذا الرجل من تلامذة المرحوم العلاّمة في ذلك الوقت؛ أمّا الآخر فلم تكن تربطه علاقة بالمرحوم المطهري، وكان الأوّل منهما يرى لنفسه مكانةً، وكانت له مجالس و ذهاب و إياب مع الشيخ المطهّري، وكان كلا الرجلين قد ارتكبا خطأً معيناً، ولم يكن ذلك الخطأ بالخطأ الجسيم في نظري؛ ولكنَّه وعلى أيّة حال فإنَّ الأستاذ عندما يريد تأديب تلميذه، فهو إنَّما يفعل ذلك من أجل تقويمه، وعلى التلميذ أن يتقبّل هذا التأديب، ولا يقف بوجه أستاذه ويردّ عليه.
وعندما تكلّم الرجلان وقالا: كنَّا قد ذهبنا إلى المكان الفلاني و ...، قاطعهما المرحوم العلاّمة قائلاً: لقد كان ذهابكما ذلك خطأً ويجب عدم تكراره، وقد حصل هذا أمام الشيخ المطهري؛ فطأطأ أحدهما برأسه إلى الأرض ولم يردّ بشيء؛ ولقد أعجبني موقفه هذا؛ أمّا الآخر فقال: (لقد خانتني الذاكرة بشأن تأريخ الحادثة، فلم أكن أعلم بأنَّه كان يتوجّب عليّ عدم الذهاب في ذلك التأريخ)، فألقى باللوم على ذاكرته، فماذا كانت النتيجة؟ لقد كانت النتيجة أن انفصل عن المرحوم العلاّمة وترك هذه المدرسة.
أتردّ على أستاذك؟ وتريد أن تتمسك بغرورك! فيا عبد الله، من هو الذي عرّفك على الشيخ المطهري؟ ألم يكن هو الذي فعل ذلك، ولولا ذلك، لما كان الشيخ المطهري ليفتح لك باب بيته ولما كان سيستقبلك! فهل تريد أن تستغلّ هذا الاحترام وتلك الوجاهة التي حصلت لك لدى الشيخ المطهري والتي جاءت عن طريق العلاّمة الطهراني، وتنسبها إلى نفسك؟! أتلاحظون؟
عند ذلك ، لم ينطق المرحوم العلاّمة بشيء؛ فلقد قام بما كان يجب عليه القيام به، وتكلّم بما كان عليه أن يتكلّم به، وقام من ناحيته بتوضيح الأمر، فإن كنتَ لا تريد الاستجابة، فلا تستجب! فلا شأن لنا بك بعد هذا. وهذه الحادثة هي التي أوقعت به، ولقد جرّت من ورائها مسائل أخرى.
ما هو السبب الكامن وراء كلّ ذلك؟ إنَّه الجهل؛ فهو [أي العلاّمة الطهراني رضوان الله عليه] يريد أن يُنقذك ويُخرجك من هذا المأزق الذي وقعت فيه، فهذه الحادثة التي حصلت كانت بمثابة المائدة التي أُعدّت لك ودُعيت للجلوس عليها، فلماذا تتراجع عنها؟ ولماذا لا تجلس على هذه المائدة؟ لقد دعيت إليها، فإن كنت ترفض هذه الدعوة، فرافقتك السلامة، ولا حرج عليك في ذلك، فاذهب بأمان الله، ولا تتوقّع أن يُفرش لك بساط أحمر هنا، ولا تتوقع أن يُنصب لك قوس من أقواس النصر... إن استجبت لهذا المقدار من التكليف، فقد استجبت [و أنت المستفيد]، وإلاّ فقد خسرت.
هذه هي ظلمات الجهل التي يشير إليها قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ}[6]. فهذه الظلمات المشار إليها في الآية الكريمة هي ظلمات الجهل؛ فالله يخرج الذين آمنوا من الظلمة إلى النور؛ فهو يوصل لهم الحقائق، ويزيد من إدراكهم لكي يتمكّنوا من الوصول إلى تلك الدرجات الرفيعة.
اللهمَّ صلِّ عَلى محمَّد وآلِ محمَّد


[1] ـ لقد علّق سماحة السيد محمّد محسن على رسالة والده في صلاة الجمعة، وفي بعض المواضع ناقش والده مناقشة علميّة بدون مجاملة و اعترض على رأيه في بعضها، وسماحته يشير إلى ذلك.[المترجم]

[2] ـ غزليات حافظ الشيرازي: الغزل رقم 5، وهو شطر من البيت التالي: در كوى نيكنامان ما را گذر ندادند گر تو نمى‏ پسندی تغيير ده قضا را وترجمته: " و لقد منعونا من ورود زقاق الصالحین حسني الصیت‏ ... فإن كان حالنا لا يعجبك فغيّر القضاء!!"

[3] ـ يشير سماحته إلى ما رواه الشيخ المفيد في الإرشاد ج2، ص 227 أنّه روى محمد بن إسماعيل ، عن محمد بن الفضل قال : اختلفت الرواية من بين أصحابنا في مسح الرجلين في الوضوء ، أهو من الأصابع إلى الكعبين ، أم من الكعبين إلى الأصابع ؟ فكتب علي بن يقطين إلى أبي الحسن موسى عليه السلام : جعلت فداك ، إن أصحابنا قد اختلفوا في مسح الرجلين ، فإن رأيت أن تكتب إلي بخطك ما يكون عملي بحسبه، فعلت إن شاء الله . فكتب إليه أبو الحسن عليه السلام : "فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء ، والذي آمرك به في ذلك أن تتمضمض ثلاثا ، وتستنشق ثلاثا ، وتغسل وجهك ثلاثا ، وتخلل شعر لحيتك وتغسل يدك إلى المرفقين ثلاثا، وتمسح رأسك كله ، وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما ، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثا ، ولا تخالف ذلك إلى غيره ". فلما وصل الكتاب إلى علي بن يقطين ، تعجب مما رسم له فيه مما جميع العصابة على خلافه ، ثم قال : مولاي أعلم بما قال ، وأنا ممتثلٌ أمره ، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحدّ ، ويخالف ما عليه جميع الشيعة امتثالاً لأمر أبي الحسن عليه السلام . وسُعيَ بعلي بن يقطين إلى الرشيد وقيل له : إنه رافضي مخالف لك ، فقال الرشيد لبعض خاصته : قد كثر عندي القول في علي بن يقطين ، والقذف له بخلافنا ، وميله إلى الرفض ، ولست أرى في خدمته لي تقصيراً ، وقد امتحنته مراراً ، فما ظهرت منه على ما يقذف به ، وأحب أن أستبرئ أمره من حيث لا يشعر بذلك فيتحرز مني . فقيل له: إنّ الرافضة يا أمير المؤمنين تخالف الجماعة في الوضوء فتخفّفه، ولا ترى غسل الرجلين، فامتحنه من حيث لا يعلم بالوقوف على وضوئه . فقال: أجل، إن هذا الوجه يظهر به أمره. ثمّ تركه مدة وناطه بشيء من الشغل في الدار حتى دخل وقت الصلاة ، وكان علي بن يقطين يخلو في حجرة في الدار لوضوئه وصلاته ، فلما دخل وقت الصلاة وقف الرشيد من وراء حائط الحجرة بحيث يرى علي بن يقطين ولا يراه هو ، فدعا بالماء للوضوء ، فتمضمض ثلاثا ، واستنشق ثلاثا ، وغسل وجهه، وخلل شعر لحيته ، وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا ، ومسح رأسه وأذنيه ، وغسل رجليه ، والرشيد ينظر إليه ، فلما رآه قد فعل ذلك لم يملك نفسه حتى أشرف عليه بحيث يراه ، ثم ناداه : كذب يا علي بن يقطين من زعم أنك من الرافضة . وصلحت حاله عنده. وورد عليه كتاب أبي الحسن عليه السلام : " ابتدئ من الآن يا علي بن يقطين ، توضّأ كما أمر الله ، اغسل وجهك مرّة فريضةً وأخرى إسباغا ، واغسل يديك من المرفقين كذلك ، وامسح بمقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك ، فقد زال ما كان يخاف عليك ، والسلام "

[4] ـ كأن سماحة السيد يتكلم هنا عن مسألة اختلاف العلماء في الحكم والفتوى عندما يَرِد عندهم روايات متعارضة في موضوع واحد، فلا يعرف العالم العادي والمتعارف سبب الاختلاف بينهما ؛ ففي كثير من الأحيان يكون سبب الاختلاف هو ملاحظة الإمام لأمر باطني، فيختلف حكمه بناء لذلك. [المترجم]

[5] ـ سورة ق (50)، جزء من الآية 35.

[6] ـ سورة البقرة (2)، جزء من الآية 257.

d
      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی