معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1436 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1436 هـ ـ الجلسة 8: كيف نتعامل مع أعمالنا الصالحة؟

هو العليم

شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1436 هـ

الجلسة 8:
كيف نتعامل مع أعمالنا الصالحة؟

ألقيت في الليلة الرابعة عشرة من شهر رمضان المبارك لعام 1436 هجري قمري.

ألقاها:
سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه اللـه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم
بسمِ الله الرحمنِ الرحيم
وصلَّى الله على سيِّدنا ونَبيِّنا أبي القاسم محمّدٍ
(اللهمَّ صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد)
وعلى أهل بيته الطاهرين واللعنة على أعدائِهم أجمعينَ

يقول الإمام السجّاد عليه السلام: (هَبْنِي بَفَضْلِكَ وَتَصَدَّقْ عَلَيَّ بِعَفْوِكَ.)
يخاطب الإمام عليه السلام الله تعالى قائلاً: إلهي ما دام هذا هو حالي، فهبني بفضلك، أي تعامل معي بفضلك. فهذا ما أنا عليه، فأنا لا أمتلك لنفسي شيئاً، ولا وجود ولا همّة لي؛ فلقد كنتَ، وها أنت الآن، وسوف تكون كلّ شيء بالنسبة لي، فبناءً على هذا، عاملني بفضلك؛ لأنَّه ليس من شأن مقام عظمتك وكبريائك أن تتعامل مع الضعيف العاجز والذي لا يمتلك لنفسه شيئاً ولا وجوداً ليستعرضه أمامك.. ليس من شأنك أن تتعامل معه بالعنف والقسوة. لقد كان هذا هو خلاصة حال الإمام السجّاد عليه السلام الذي عرضه على الله.

    

تذكير بالفارق بين علماء الظاهر و علماء الباطن

ولقد تقدَّم الحديث عن الفرق بين علماء الظاهر وعلماء الباطن، وكيفية رؤيتهم وتقييمهم للأمور؛ فعالِم الظاهر هو ... بالطبع الحديث يدور هنا عن أهل الصلاح منهم، فلا شأن لنا بمن يرتكب المعاصي وأنواع الأعمال غير اللائقة، فعالِم الظاهر المقصود هو ذلك العالم الذي يرشد الناس إلى طريق الهداية، وهو في ذات الوقت من الصادقين ومن الذين يؤدّون صلاتهم في أوائل أوقاتها، وهو يتعامل مع الآخرين بالعدل والإنصاف، ويقوم بالإتيان بجميع التكاليف الملقاة على عاتقه؛ فهو يمتلك مثل هذه الصفات الأخلاقية. ولسنا بصدد الحديث عن عالم الظاهر الذي يستبطن ألف وجه، ويُغطّي نفسه بألف غطاء؛ ويتظاهر أمام الناس بشكل في الوقت الذي يكون فيه باطنه بشكل آخر، وله تلك الصفات السيئة التي ذكرها العظماء في كتبهم، والتي يعلمها الإخوة جيداً، ولقد ذكرت شيئاً منها في الجزء الأول من كتاب أسرار الملكوت، وخاصة فيما يتعلّق بالأمور الواردة في الرواية عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام[1] ، والتي هي رواية عجيبة حقاً.

    

من بلغته مطالب الأولياء لا يعتبر من العوامّ

فمع وصول هذه الأمور عن الأئمة والعظماء إلى أيدينا، فلا يمكن أن نكون والحال هذه من صنف عوامّ الناس، ولذا علينا الانتباه إلى هذا الأمر، فعوام الناس هم أولئك الذين لم يطّلعوا على هذه الأمور ولم تطرق مسامعهم، ولم تنكشف لهم خفاياها ولم يطّلعوا على حقائقها؛ فهم يبنون قراراتهم على ما تدركه عقولهم وعلى الشائعات والدعايات وما يقوله هذا وذاك وما يُنشر في الصحف والمجلات والراديو والتلفزيون؛ فتكون قدرة الإدراك والتشخيص السليم للمسائل قد سُلبت منهم؛ فأولئك هم عوام الناس، وهم معذورون على ذلك ولا شأن لأحدٍ بهم، فهم يُعدّون من المستضعفين، أمّا ذلك الذي كان يستطيع تتبّع الأمور و التحقّق منها، ولم يفعل ذلك؛ ومن كان يستطيع ألاّ يدسَّ رأسه في الرمال فقام بدسِّ رأسه فيها؛ ومن كان يستطيع الوصول إلى الحقيقة، ولم يبذل جهداً للوصول إليها؛ ومن كان يستطيع الاستمداد من تلك المواهب التي منحها الله إيّاه ــ حسب الدرجة التي هو فيها ــ ولم يستمدّ منها، فلا يُعدُّ هكذا رجلٌ وبهذا المقدار رجلاً عاميّاً.
جاءني أحدهم يوماً قائلاً: يُقال عن فلان بأنَّه قد قام بعمل ما؛ فقلت له: وهل صدّقت أنت هذا الكلام؟ ففكّر قليلاً، ثم قال: يبدو بأنًّ الناقل ليس من أولئك الذين لا يتحقّقون مما يسمعون قبل نقله للآخرين؛ فقلت له: لو أنَّ ما قاله هذا الرجل كان متعلّقاً بزوجتك، أكنت ستصدّقه؟ فتأمّل قليلاً، ثم قال: لا، بل كنت سأتحقّق من الموضوع؛ فقلت له: ولماذا لم تقم بذلك عندما كان الأمر يتعلّق برفيقك؟
هنا يكون المحكّ الذي يؤاخذ الله المرء عليه؛ فلو كان ما سمعه الرجل يتعلّق بزوجته أو ابنه أو أحد أقاربه أو المحسوبين عليه، فهل كان سيتعامل مع الموضوع بنفس الكيفية التي تعامل معها عندما كان الأمر يتعلّق بفردٍ آخر؟ وذلك بغضّ النظر عن كون هذا الآخر صديقًا له أو بعيدًا عنه بمراتب البعد المختلفة.
لو راجعنا أنفسنا فسوف نرى أنّ الجواب هو: كلاّ، فنحن لا نتعامل بنفس الطريقة! فمن أين حصل لك هذا الشعور المتفاوت في الحكم والذي تحسّه في نفسك؟ ألم يكن ذلك إلاّ بسبب تلك الظاهرة الإلهية التي أودعها الله في وجودك، والتي هي عبارة عن قدرة التميِّيز بين الحقّ والباطل، وبين الصدق والكذب؟ والتي جعلتك لا تتقبّل أيّ كلامٍ تسمعه أو أيّ أمرٍ تواجهه! وجعلتك لا تصغي لأيّ حديثٍ أو تقدِم على أيّ فعلٍ [إلاّ بعد التحقّق من صلاحه]؛ فمن الذي أودع فيك ذلك؟ إنَّ الله هو الذي أودع فيك هذا، وسيُحاسبك على ضوء ما أودع فيك ويحتجّ عليك به.
فما دام الأمر كذلك، فلِماذا لم تستفِدْ من تلك الظاهرة والموهبة الإلهيّة عند مواجهتك لقضية ما، وعند إدلائك برأيك في الانتخابات؟! ههنا سوف لن يجد الإنسان جواباً. فلِمَ لم تستفد من تلك الموهبة الإلهية؟ فهل يُفترض أن يكون كلّ واحد من الناس مجتهداً لكي يتخذ موقفاً بشأن تلك القضية؟ كلاّ، بل يستطيع كلّ واحد منّا تحديد موقفه من ذلك الموضوع وبذلك المقدار الذي يتناسب مع سعته، إذ لا يُفترض أن يكون جميع الناس من المجتهدين، وأين يمكن العثور على المجتهد؟!! ليس من الضروري أن يكون الجميع من المجتهدين أو الفلاسفة ــ هذا بحسب الظاهر ــ كما إنَّه ليس من الضروري أن يكون الجميع من العرفاء بالله لكي يتمكّنوا من الحكم الصحيح في هذه الموارد؛ لا يا عزيزي! لا يحتاج الأمر إلى ذلك!
فلو أنَّنا قد استثمرنا ما منحنا الله إيّاه، لحصل تفاوت كبير في أحوالنا وحياتنا وبصيرتنا وعلاقتنا مع الآخرين وعلاقاتنا الاجتماعية والشخصية وفيما يتعلق بقيامنا بتكاليفنا وأحكامنا الشرعية. نعم، لحصل كلّ ذلك لو أنَّنا كنَّا قد استثمرنا ذلك المقدار الذي وهبنا الله إيّاه لا أكثر؛ والله لا يطلب منَّا أكثر من ذلك: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها} [2].

    

الله يحاسب الإنسان على قدر فهمه و علمه

نعم، لو أنَّ الإنسان قد استثمر ذلك الاستعداد وتلك القدرة والموهبة الإلهية التي منحه الله إيّاها، ولكنّه ومع ذلك ارتكب خطأً، فلا ضير عليه حينئذٍ أبداً وسوف لن يؤاخذ ولو بمقدار رأس الإبرة، بل وسيُثيبه الله على ذلك ويمنحه المقام والدرجة التي تتلاءم مع ما قام به... إن حالفنا التوفيق الإلهي ووصلنا إلى شرح الفقرات الآتية من الدعاء والتي تتحدّث عن هذا الموضوع وهو موضوع الحُسن والقُبح الفعلي والفاعلي، فسأُبيّن هذا الأمر هناك؛ فعندما ألقيت نظرة الآن على الفقرات التالية، وجدت بأنَّ هذا هو المقطع المناسب للحديث عن هذا الموضوع.
فالله يُحمِّل المرء مسئوليّةً تتناسب مع ما منحه من قابلية الإدراك وقدرة التشخيص والفهم. فلا يستطيع الإنسان التنصّل عن مسئوليته بدعوى عدم كونه من طلاب العلم المعمّمين، فيستطيع بذلك أن يفعل ما يحلو له؛ أفهل العمامة والعباءة والقباء من مستلزمات العمل؟ وهل يشترط بالمرء أن يكون من أهل العلم، ومجتهداً ومن أهل الخبرة حتماً، حتّى يترتب عليه التكليف؟! كلاّ، فالعقل والفطرة والوجدان والمخ هو ليس في العمامة؛ بل يوجد تحت العمامة لا في داخلها، هذا إن كان له وجود بالفعل!! أتلاحظون؟!
فالمعمّم يضع العمامة على رأسه في وقت من الأوقات، ويضعها جانباً في وقت آخر؛ وهو يضع العباءة على كتفيه مرّة، ويخلعها مرّة أخرى؛ شأنه في ذلك شأن من يعمل في سائر الحِرف الأخرى، كمن يعمل في سلك الطب حيث يرتدي الملابس البيضاء؛ فهذه الملابس البيضاء هي من جنس الكتّان أو القطن؛ والتي يستطيع أيّ فرد شرائها من السوق ولبسها، فهل كلّ من لبسها قد صار طبيباً؟ وسواء كان من النوع الجاهل الذي يوصي المصاب بوجع الرأس بتناول الأقراص الخاصة بالتهاب الزائدة الدودية، أو كان طبيباً حاذقاً يستطيع التشخيص الصحيح للمرض ومعالجته، كلاهما سواء من ناحية اللباس، لأنّ ذلك لا يتعدَّى كونه لباساً ظاهريّاً يلبسه الإنسان مرّة ويخلعه أخرى. أمّا ما يمتلكه جميع الناس فهو ذلك الاستعداد العقلي والذي له قابلية الترقّي والتكامل والوصول إلى مرحلة الفعلية؛ فذلك هو الميزان الذي جعل الله تكليفَ كافة الناس على أساسه، وكلّ بحسب سعته والمرتبة التي تحقّق بها بالطبع.
من الطبيعي أن يكون توقّع الإنسان من ذلك الشخص المقرّب منه أكثر بكثير مما يتوقّعه من الفرد البعيد عنه؛ فهذا القريب يكون مطّلعاً على أسرار وخفايا الإنسان ومسائله الشخصية أكثر من غيره، فهو يعلم ما الذي عليه فعله؛ ولهذا السبب يتعرّض للمؤاخذة أكثر من غيره. فحسنات الأبرار، سيئات المقرّبين؛ إذ إنَّ المقرّبين مطّلعون على الأسرار وما يجري في العوالم العلوية، ولديهم إحاطة أكبر بأسرارها، لذا يكون توقّع المحبوب وتوقّع الله منهم شيئاً آخر.

    

كيف ينظر العارف إلى أعماله الصالحة؟

هذا فيما يتعلّق بالعالِم الظاهري، أمّا العالِم الباطني وهو العارف بالله والوليّ الإلهيّ، فهو يُحلِّل الأمر وينظر إليه من منظار آخر. فالعالِم الظاهري يقول: إلهي لقد وهبتنا عمراً، فشكراً على ذلك؛ ولقد منحتنا قوّةً ونشاطاً، وها نحن ممتنين لك على ما منحتنا، ولقد وهبتنا الاستعداد والقابلية للكمال، وها نحن نسجد لك سجدة شكرٍ على ذلك، وخلاصة الأمر فلقد وهبتنا كلّ ما من شأنه أن يساعدنا على الترقّي وإيصالنا إلى الكمال، ونحن نشكرك على ما مننت به علينا؛ على أنَّنا وفي قبال ذلك قد أدّينا التكاليف الملقاة على عاتقنا، فقد صلّينا وصمنا وحججنا وأدّينا جميع تكاليفنا العباديّة وواجباتنا الاجتماعية، ولم نكذب ولم نغتب أحداّ ولم نوجّه التهم الكاذبة إلى الآخرين (وهم صادقون فيما يقولون، فلم يقم أحدهم بشيء من تلك الأعمال الشنيعة)، وها قد حان وقت الرحيل عن الدنيا، فما الذي يتوقّعه مثل هذا من الله؟ إنّه يقول: إنَّ الدنيا مبنيّة على المعاملة والأخذ والعطاء؛ فلقد وهبتنا كلّ تلك النعم ووهبتنا الاستعداد والقوة والظروف المناسبة والهمّة والتوفيق؛ وفي مقابل ذلك فقد قمنا من ناحيتنا بتكاليفنا؛ فقد حصل التعادل بيننا بذلك؛ فنريد منك الوفاء بما وعدتنا، فأنت الذي وعدت بإثابة من يعمل صالحاً في يوم القيامة. هؤلاء الناس يرحلون عن الدنيا على هذا الحال، وهو ليس بالحال المشين، فما هو العيب في هكذا نوع من التفكير؟!
نقل لي أحد الإخوة هذه الحكاية فقال: كنّا في مكان ما، وكان معنا أحد المؤمنين الصالحين، لقد كان رجلاً طاهراً نقياً ، ولقد قال هذا الأخ بأنَّ المرحوم الشيخ الأنصاري كان يقول: دخلت المسجد يوماً فوجدت رجلاً يصلّي وقد اصطفّ خلفه صفّان من الملائكة يقتدون به في صلاته، فعلمت بأنَّ هذا الرجل كان قد أذّن لصلاته وأقام لها؛ فلقد جاء في الرواية بأنَّ من يؤذِّن لصلاته يقف خلفه صفٌّ من الملائكة، ومن يأتي بالإقامة مع الآذان، يقف خلفه صفٌّ آخر منهم [3]، فهذا هو الرجل الذي نحن بصدد الحديث عنه، وهو رجل مسنّ يعيش في إحدى المدن وهو من أهل الحال .
يقول ذلك الأخ: لقد كان الحديث يدور حول الرحيل عن الدنيا وما ينتظرنا هناك؛ فقال ذلك الرجل المسنّ: ولماذا يجب علينا أن نخاف؟ فلقد أدّينا صلاتنا وصيامنا وحجّنا، وحبّ عليّ موجود في قلوبنا، وكان يقول ذلك بجديّة تامّة ونشاط. نعم، لقد كان مؤمناً، وفّقه الله فهو من أهل الإيمان وسيُعطيه الله ما يريد. لقد كان يقول: وأنا من محبّي علي. أمّا نحن فلا نستطيع أن ندّعي هذا الأمر الأخير الذي قاله! بل نقول: مهما يكن ذلك الذي ندّعيه، فقد يكون ادّعائنا صادقاً وقد يكون كاذباً، فعلى أيّة حال نحن ندّعي محبّة عبادك الصالحين يا ربّ وإن كان ذلك من باب المجاز؛ ولا نستطيع أن ندّعي ذلك حقيقةً، إذ لو ادّعينا ذلك حقيقةً، فسيستوقفنا الله تعالى ويكشف حقيقة أمرنا؛ فهو خبير بتمييز الحقيقة من المجاز و تمييز الادّعاء من الواقع؛ فلا أعتقد بأنَّ هنالك من يستطيع القيام بذلك مثل الله! أجل سيقوم بكشف أمرنا قائلاً: هل أنت من المحبين؟! أَفلا يُفترض أن يكون هنالك تقاطع واشتراك بين المحبّ والمحبوب؛ فأيٌّ من [صفاتك وتصرفاتك] يشبه ما لدى محبوبك؟!
شير را بچه همى ماند بدو
                             تو به پيغمبر به چه مانى بگو [4]
[يقول: إنَّ شبل الأسد يشبه الأسد، فقل لي: أيّ شبه لك أنت بالنبيّ.]

لذا سنقوم نحن بإغلاق هذا الطريق ـ أعني طريق احتجاج الله علينا و فضح حقيقة أمرنا ـ فنقول له: نحن لا ندّعي الصدق في كوننا من المحبين حتى تستوقفنا وتحاسبنا بهذه الطريقة، بل نحن نقول ذلك مجازاً، نحن نعترف بذلك وأنت تقبل منّا هذا، فهذا ما هو واضح للعيان وها نحن نلمسه، فلا تستطيع مؤاخذتنا عليه؛ ثمّ إنَّك أنت الإله القادر على تبديل المجاز بالحقيقة، وها نحن نُسرّ إليك معرفتنا بهذا الأمر يا إلهي.. إذ لو كان ادعاؤنا واقعياً، فهو واقعي وليس بحاجة إلى تبديل، فهذا لا يتطلّب جهداً؛ غير أنَّ فضل الله يتمثّل في تبديل المجاز إلى حقيقة؛ [يقول سماحته بلهجة المزاح:] فلا بدّ من وجود فرق بين الله وبيننا نحن، وهو فرق يسير جداً أليس كذلك؟! أجل إنّ هذا الأمر [أي تبديل المجاز إلى حقيقة] هو خاصّ به وحده، و هو وحده القادر عليه.
نعم، لقد كان ذلك الرجل المسنّ يقول: أنا من محبّي عليّ، وها أنا أؤدِّي صلاتي وصيامي وحجّي، فلماذا عليَّ أن أخاف؟ إنَّه صادق فيما يقول، نعم، هو صادق في عالمه الذي يعيشه، فهو قد قام بأعمال صالحة، وها هو يغادر الدنيا وهو محبّ لعليّ، وحاله المعنوي حال جيد.

    

العارف يدعو تلاميذه إلى أعلى المراتب ولا يرضى لهم بأدناها

أمّا العرفاء، فهم لا يجعلوننا نتوقّف عند هذا الحدّ، بل تراهم يقولون: نعم، صحيح ما تقول، فأنت رجل مؤمنٌ وصالح وسيمنحك الله الدرجة اللائقة بك في الجنة، فهذا صحيح في محلّه، غير أنَّ الله يقول: إنَّني قد ادّخرت لكم مسائل أخرى؛ يقول تعالى :{وَ لَدَيْنا مَزيدٌ}[5] إنّها تلك المسائل التي لا وعاها عقل ولا رأتها عين ولا سمعت بها أذن، فهل ما ادّخرته لخواصّ عبادي في تلك الدار يتمثّل فيما يطلبه عبدي المؤمن منِّي فقط؟ وهي الأمور التي يُصرّ عليها، وها هو يرحل عن الدنيا بهذا الحال؟ أم أنَّ هنالك أمورًا أخرى؟ فما هي تلك الأمور؟
يقول العرفاء: دع عنّك صلاتك التي صلّيتها، وصيامك الذي صمته، وحجّك الذي أدّيته؛ فمن منَّا قد أدّى الحج على وجهه الصحيح؛ فدع كلّ ذلك جانباً، وقم ومنذ البداية بتسليم أمرك إليه، فهل كنت تمتلك شيئاً عند خروجك من بطن أمّك؟! {وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً}[6] ؛ فهل كان لنا فهم وعقل وإدراك عند خروجنا من بطون أمهاتنا؟ فلو أنَّهم كانوا يضعون السمّ في فمنا بدلاً من الحليب، لكنّا قد شربناه ومتنا! لم يكن لنا أيّ اختيار، ولم نكن نتمكّن من تحريك أيدينا ودفع الضرر عن أنفسنا.
وبيدِ منْ كانت إرادتنا عندما كبرنا قليلاً؟ لقد كانت بيد الأب والأم؛ فلقد كانوا يأخذوننا إلى أيّ مكان يشاءون، وكانوا يعطوننا أيّ لقاح يريدون، ومن دون أن يكون لنا أيّ رأي في ذلك. فهل كان ذلك اللقاح صحيحاً ومناسباً لنا أم لم يكن، وهل كان لقاحاً سليماً أم فاسداً؟ كلّ ذلك هو مما لم يكن لنا به علم، فكنّا نذهب معهم فيعطينا الطبيب إبرة اللقاح أو يجعلنا نشرب لقاح الشلل. أترون كيف أنَّه لم يكن لنا علم بذلك؟ كما كانوا يُطعموننا و يسقونا أيّ طعام أو شراب شاءوا، ولقد كانوا يصطحبوننا إلى أيّ مكان أرادوا، فربما اصطحبونا معهم إلى مكانٍ وبيئةٍ ليست صالحة، فربما كانت تلك البيئة بيئة معصيةٍ...
على الآباء والأمهات أن ينتبهوا لهذا الأمر كثيراً، فهم يتحمّلون مسئوليّة كبيرة؛ فلو أنَّ الابن قد أوقف والديه يوم القيامة وقال لهم: (أنا أعترف بارتكابي للمعصية وعدم سماعي النصيحة وعملي بما لا يرضي الله وإتلاف عمري في القضايا الفارغة والتافهة، كما أعترف بأنَّني كنت عبداً عاصياً، فأنا أعترف بكلّ ذلك، ولكن ألم يكن لتلك الأعمال التي عرّضتموني لها في أيام طفولتي، والتي لم تكن في مصلحتي وكانت مخالفة لرضا الله، ألم يكن لها تأثير في تحقّق ما صِرت إليه؟ فلو لم يحصل ما حصل، فلربما لم يكن مصيري قد آل إلى هذا الوضع الذي أنا عليه) ، فأيّ جواب يستطيع الوالدان تقديمه له في هذه الحالة؟ فهم مسئولون عمّا حصل له.
قد يحصل بأن يقوم الوالدان بما عليهما من واجب التربية والتدبير ويقومان بتوفير كلّ ما فيه صلاح أبنائهم، غير أنَّ البيئة والمجتمع الذي يعيش فيه الابن، والصديق الذي يرافقه هي التي تعمل على انحرافه عن الطريق الصحيح، فهذا أمر آخر، و حينئذٍ سوف لن يكون الوالدان مقصّرين، لأنّ هيمنة المجتمع هي التي فعلت فعلها، والصديق هو الذي عمل على إخراجه من جادّة الصواب، وما إلى ذلك من أمور كان لها دورها في ما حصل، وقد يكون الزواج هو الذي يعمل على ذلك في بعض الأحيان؛ و حينئذٍ فسيكون هذا أمراً آخر، إذ أنّ الوالدين قد قاما بما عليهما القيام به.
أمّا إن كانا قد تساهلا وتكاهلا في أمر تربية الابن ولم يقوما بواجبهما على النحو المطلوب، فلا يستطيعان والحال هذه التنصّل عن مسئوليتهما وإلقاء اللوم على المجتمع والصديق؛ إذ لو كانت التربية قد تمّت بشكلها الصحيح والمحكم، ألا يمكن القول بأنَّ الولد كان سيقاوم وسيظهر الحزم فيما يواجهه من مسائل، وسوف لن يُبتلى ببلاء كهذا؟ فهذا سؤال يطرح نفسه. وخلاصة الأمر، فإن كان الله هو المولى، فلا يمكن تمرير هكذا أمور عليه.
أجل.. ما الذي كنَّا نمتلكه؟ لم نكن نمتلك شيئاً، ثم كبرنا تدريجياً، فلننظر إلى دعاء سيِّد الشهداء عليه السلام في يوم عرفه ولنرى كيف أنَّ الإمام عليه السلام قد فصّل جميع مراحل تكوّننا وخلقنا ومجيئنا إلى الدنيا وعيشنا فيها ووضعها بين أيدينا، ولم يُبقِ للإنسان شيئاً لكي يستعرضه أمام الله ويقول: ها أنا ذا يا إلهي! بل سلب الإنسانَ كلّ ما يملك وخلع عنه سلاحه كليّاً ولم يُبقِ له شيئاً؛ فيقول الإنسان عندها: ها أنا ذا يا إلهي على هذا الحال الذي أنا عليه، فما الذي تفعله بي؟ وكيف ستتعامل مع عبدك هذا؟
يقول العارف: دعْ نفسك وَتعال[7] . اعبر عن نفسك وعن وجودك، فليس لك وجود.

ما نبوديم و تقاضامان نبود
                             لطف تو ناگفت ى ما مى شنود [8]
[يقول: لم يكن لنا وجود، ولا كان ذلك الطلب منَّا، إلاّ أنّ لطفك كان يسمع ما لم نكن قد نطقنا به بعد.]

فمن نكون نحن؟ وأين كنَّا؟ فلم تكن لنا أيّة إرادة؛ ولم يكن لنا وجود لكي نأتي ونتكلّم أو نسمع أو نرى أو نعمل شيئاً أو نتوسّل. أتلاحظون؟! فيقول العارف هنا: أنت وبدلاً من أن تخفّف من حملك ــ بالطبع فهذا المقام هو مقام العشق، فإن حالفني التوفيق، فسأتحدّث عنه في الليالي القادمة ــ تأتي هنا لتقول: إلهي لقد صلّيت هذه الصلاة وأنا لا أعلم فيما إن كنتُ قد صليتها بشكلها الصحيح أم لا؟ وكم منها كان لك، وكم كان فكري مشغولاً بمسائل أخرى في الجزء الآخر منها؟ فتكون بذلك مشوّش الفكر بشكل دائم؛ أو أن تقول: لقد صمت حتّى الغروب يا إلهي، وأنا لا أدري إن كان صيامي على الوجه الذي ترتضيه، أم لا؟ فتكون في حال من التشويش والاضطراب المستمر؛ وكذا الأمر بالنسبة إلى الحج، فأنت تقول: لا أدري إن كانت كتفي اليسرى باتجاه الكعبة، أو أن أحدًا قد اصطدم بي وحرفني عنها؛ ولا أدري إن كان سعيِّي بين الصفا والمروة قد وقع على الوجه الصحيح، أم أنَّني قد استدرت من مكان أبعد؛ ولا أدري إن كان حالي أثناء الطواف وفي عرفات والمشعر ومنى كان على ما أمرت به، أم لا؟ فهكذا هو حال من كان يريد أن يؤدِّي الأحكام على ما يجب أن تكون عليه، فسيكون في حال من التشويش، فهو لا يريد أن يتلف وقته، ولا يمكن له أن يكون لا أُبالياً. وهكذا يجب أن يكون الأمر.

    

كيف ينظر العارف إلى المشقّات التي يتحمّلها الإنسان في الحج؟

فبدلاً من كلّ هذا التشويش والترديد، أرِح نفسك، وضع عنك كلّ هذه الأحمال وقل: أنا لا شيء، وأنا لا أفهم شيئاً بتاتاً؛ فلا تحسب لي حساباً يا ربِّ. فلا وجود لي لكي تكون لي إرادة الذهاب إلى الحج؛ فمن هو الذي ألقى في ذهني فكرة الذهاب إلى الحج؟ إنَّه أنت؛ فالذهاب إلى الحج كان منك أنت ولا نصيب لي منه؛ ومن الذي منحني تلك الهمّة للذهاب إلى الحج؟ أنت الذي منحتني إيّاها، أم أنَّني قد جئت بها من منزل خالتي؟ أنت الذي منحتني إيّاها؛ فهذه منك أيضاً، ومن الذي منحي المال اللازم للذهاب؟ فانا لا أمتلك مطبعة لطباعة النقود، ثم لو أنَّني كنت امتلك هكذا مطبعة، لكانت تلك النقود، نقوداً مزوّرة ــ أرأيتم كيف يقومون بتزوير النقود ــ على أنَّني لو كنت قد فعلت ذلك، لكان عليّ جلب تلك المطبعة من مكان ما، فليس بمقدوري القيام بالطباعة بدون جهاز، بل لا بدّ من استيراد الجهاز من مكان ما، ولا بدّ من دفع الرسوم الجمركية؛ أو قد يتم إدخاله بدون رسوم... فمهما يكن الأمر، وحتّى ولو أردت الحصول على نقود مزوّرة، فلا بدّ لها من أن تطوي مراحل حتى تصبح النقود جاهزة بين يديّ، فالأمر لا يشبه شراء الخيار واللبن الخاثر ولا صنع الطعام البسيط، بل لا بدّ من طيّ مراحل متعدّدة لكي يتحقّق الأمر في النهاية.
فما هو مصدر تلك الأموال؟ إنّها جاءت ممن كانت له حاجة جاء هنا لينجزها، أو من جرّاء معاملة تجارية أو من شخصٍ جاء ليشتري شيئاً ما، أو من مريضٍ جاء إلى العيادة للمداواة، أو من أيّ مصدرٍ آخر؛ فلو لم تشأ ذلك يا ربّ، أفكانت تلك النقود لتصل إلى يديّ؟ كلاّ، ما كانت لتصل، فعندما يكون هنالك محلاّن متجاوران لبيع الأقمشة في طريقك، وكنت تنوي شراء قطعة قماش، فتراك تتردّد في الذهاب إلى أيّهما للشراء منه، فكلاهما يمتلكان النوع الذي تريد شراءه، فتقول في نفسك: لا تفاوت بين الاثنين، ثم تصمّم على الذهاب إلى أحدهما، فما هو الشيء الذي صرف ذهنك عن الذهاب إلى أحدهما وجعلك تذهب إلى الآخر؟ ما الذي حصل؟ فلا يوجد أي سبب ظاهري، فكلاهما يمتلكان نفس النوع من القماش الذي تريد شراءه، وكلاهما غريبان عنك، فلا تربطك بأحدهما صداقة أو صلة قربى. فمن الذي غيّر قرارك أو جرّ قدمك إلى أحدهما دون الآخر؟ فلم تكن أنت صاحب القرار، فمن الذي جعلك تفعل ذلك فتقوم بشراء القماش وتضع هذا المقدار من المال على المنضدة؟ من الذي فعل ذلك؟ إنَّه هو الذي فعل ذلك.
وهكذا يكون الحال في كلّ قضيةٍ، ففي كلّ واحدة منها أنت تقول: إلهي أنت الذي قمت بذلك، فما الذي يبقى لنا والحال هذه؟ لا شيء. فيقول الله هنا: أرِح نفسك منذ البداية ولا تدع القلق والتشويش يأخذ طريقه إلى نفسك لتقول: لا أدري كيف تمّ ذلك الأمر في هذا المورد وكيف تم في ذاك؟ بل قل ومنذ البداية: إلهي ليس لي وجود من نفسي، فأنت الذي ألقيت الإرادة والطلب والعشق في نفسي، وأنت الذي قمت بتهيئة جميع اللوازم لي. نعم، أنت الذي قمت بكلّ ذلك. من الذي يقول هذا؟ إنَّه الوليّ الإلهي، فالعارف يقول: عندما تذهب إلى مكة، فاذهب وأنت على هذا الحال. ألم تقرؤوا كلمات الإمام السجّاد عليه السلام حين التلبية؟ ألم تطّلعوا على حالاته وحالات الإمام موسى بن جعفر عليهم السلام في الحج؟

    

نموذج من إفادات العلامة الطهراني حول الحج

في تلك السنة التي تشرفت فيها للمرّة الأولى بالذهاب إلى الحج مع المرحوم الوالد حيث كان عمري فيها سبعة عشر عاماً والتي ذكرها السيِّد العلاّمة في كتاب الروح المجرّد وكنت فيها بمعيّة أخي الذي يكبرني بسنتين، لقد كان ذلك سفراً عجيباً؛ فكيف كانت مقدمات السفر قد ترتبت، إذ لم يكن عمري ولا عمر أخي قد بلغ العشرين عاماً وقتها، ولم يكن النظام السابق ليسمح بالذهاب إلى الحج لمن لم يبلغ العشرين من عمره؛ فلم يكونوا ليسمحوا لنا بالذهاب بشكل معتاد، فسلكنا طريقاً آخر في ذهابنا؛ ولقد كان سفراً عجيباً، حيث عُلِم بعدها أيّة مصالحٍ كانت كامنة في هذا الأمر، ولقد كانت مشيئة الله تقتضي أن يتم الأمر بهذا الشكل.
وفي الليلة الأولى التي أمضيناها في المدينة المنوّرة، كنّا ثلاثتنا، والدي وأخي وأنا، نسكن غرفة مستقلّة، ولقد كانت غرفة صغيرة جداً [فاقترح الأصدقاء استبدالها]؛ فقال المرحوم العلاّمة: لا، هي كافية لنا، ولا حاجة لنا بغيرها؛ فسكنّا في تلك الغرفة. ولقد كان المرحوم العلاّمة يختلط ويرتبط بالجميع ويجلس ويتحدّث معهم في أوقات تناول الطعام وفي وقت الصلاة.
وفي أحد الجلسات قال أحدهم للسيّد العلامة: (قبل أن تأتي إلى هنا يا سيّدي، كان هنالك حديث يدور بيننا ــ ويبدو بأنَّ أحد العلماء كان هناك أيضاً ــ فقلتُ لهم: أيّها الإخوة نحن وبمجيئنا إلى هذا المكان نكون قد تركنا كلّ ما يتعلّق بحياتنا اليومية من مالٍ وعيالٍ وديارٍ وراء ظهورنا ــ وعلى الرغم من أنَّ البعض كانوا قد اصطحبوا زوجاتهم معهم، غير أنَّهم ومع ذلك قد تركوا أبناءهم في إيران، وكان الكثير منهم وحيدين ــ كما تركنا عملنا وصرفنا أموالنا حيث سنبقى هنا شهراً كاملاً. ومن الطبيعي أن يتوقّع الإنسان حصوله على مكسب بابتعاده عن عائلته وبتحمّله للمشاكل وصرفه للأموال وما شابه ذلك. فبناءً على هذا علينا أن ننجز أعمال حجّنا بأحسن وجه، ونصرف أموالنا وإلى آخر درهمٍ منها ــ أنا الذي أقول هذا، فالمسكين لم يقله ــ بأدقّ شكل لكي لا نكون قد خسرناها، فلو لم ينجز حجّه وطوافه بالشكل الصحيح، فستكون الأموال التي صرفها قد ذهبت هباءً، فيجب علينا أن نُتمَّ حجنا بالشكل الذي نكون فيه قد استفدنا من أموالنا بأحسنٍ وجهٍ، وتُؤخذ هذه الأموال بنظر الاعتبار ونُجزى عليها في تلك الدار؛ فيجب أن يكون حجّنا وأعمالنا قد تمت بالشكل الذي نكون قد استفدنا فيه من هذه الأموال بأحسن ما يكون).
مع الرجوع إلى ما طرحناه على الإخوة في هذه الليالي، فقد أمسى واضحاً للجميع الآن أيّ حجٍّ هذا الذي يتحدّث عنه؟ إنَّه حجّ معاملة! وما الضير في ذلك؟ فهم لم يذهبوا إلى تايلندا أو اسرائيل أو كاليفورنيا أو لوس أنجلس، بل قد ذهبوا إلى مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة، فمن حقّهم أن يخاطبوا الله بهذا الشكل. على أنَّنا يجب أن نكون منصفين فلا نحمّل الله منّة ذهابنا إلى هناك ونقول: لقد ذهبنا إلى تايلندا أو لوس أنجلس من أجلك أنت؛ فيبدو بأنَّ لدى الناس هذا المقدار من الإنصاف في عدم تحميل الله منّة هذه الأسفار. فها نحن نذهب إلى ألف مكان في العالم ولا نقوم بتحميل هذا الله المظلوم المسكين المنّة، ولكن ما أن نذهب إلى مكّة أو المدينة، إلاّ ونقوم بتحميله منّة ذهابنا فنقول: ها قد ذهبنا إلى المدينة يا إلهي، فليكن ذلك معلوماً لديك، فقد أتينا المدينة وذهبنا بعد ذلك إلى مكّة؛ فقد جئنا وفقاً لما أمرت به، و دافعنا هو أنّنا لو لم نفعل ذلك لآخذنا الله يوم القيامة و حاسبنا حساباً شديداً على ذلك، فنحن مجبورون على ذلك، فلا بدَّ لنا من الاحتياط لأنفسنا ونحسب لذلك اليوم حسابه.
فهذا النوع من الحج هو حجّ معاملة وحجّ أخذ وعطاء، والعجيب في ذلك أنَّ جميع الحاضرين من وعّاظ ومسئول القافلة وبقية الحجّاج كانوا متفقين على هذا الكلام، أريد أن أقول هنا بأنَّ الجميع كان يعيش نفس هذا الجوّ من التفكير.
فعندما انتهى هذا الرجل من كلامه؛ ولقد أجاد الكلام حقاً، وتمكّن من أداء دوره بشكل جيد وأعطى الموضوع حقّه، وحصل له نوع من الانكسار ورقة القلب؛ ولعل ذلك كان بسبب تلك الأموال الجسيمة التي صرفها والتي بلغت بعظمتها الأفلاك من أجل أداء هذا الحج! ولعل كلّ درهم مما صُرف يعادل عنده مائة ألف دينار! ولكن يبدو بأنَّه لم يكن إصفهانياً [9]، غير أنَّه كان هنالك من هو إصفهانيّ بين الحجاج المتواجدين! ([يقول سماحة السيد ممازحاً:] وأذكر أنّي في إحدى رحلاتي إلى العمرة سمعت أحد الاصفهانيِّين يقول لآخر: إنَّ الأموال التي صرفتَها للإتيان إلى هنا ليست بالقليلة، فعليك الإتيان بعمرة في كلّ يوم لكي لا يذهب ما أنفقته هدراً؛ فإنَّ هذه الأموال التي أنفقتها، يعادل كلّ يوم منها عمرة، فعليك الاستفادة القصوى منها وعدم تضيّيعها).
وخلاصة الأمر، فقد أجاد هذا الرجل ببيان ما كان يريد بيانه بحيث كان يرقّ لكلامه حتّى ذلك القلب القاسي، ومع كونه كان قد اصطحب زوجته معه، فهو يتكلّم بهذا الشكل، فكيف بحال أولئك المساكين الذي ابتعدوا عن زوجاتهم وأبنائهم لعدّة أيام، فيجب البكاء على حالهم دماً بدلاً من الدموع.
حينئذٍ تأمّل المرحوم العلاّمة بما قالوا، وقال [في نفسه:] كيف أتكلّم مع هؤلاء الناس؟
انظروا إلى العارف والولي الإلهي، فهو لا يدع الإنسان ليتوقف عند حدّ محدود؛ فلقد كان بإمكانه إجابتهم بالشكل الذي يستميل فيه قلوبهم، ويُسرّهم به، ولكنّ العارف دائماً يريد الوصول لأعلى ما يمكن الوصول إليه، ولذا فهو يدعو أتباعه إلى الجلوس إلى تلك المائدة التي يجلس عليها ويقول لهم: تعالوا أنتم وتناولوا من هذه المائدة أيضاً، فأين أنتم ذاهبون؟ إلى أين تذهبون؟ ففي الأماكن الأخرى يدعونكم إلى التعامل مع الأمر تعاملاً ماديّاً مبنيّاً على الحساب الرياضي؛ فهم يقولون لكم: بما أنَّكم قد أنفقتم هذا المبلغ من المال، [فعليكم استيفاء حظكم منه]، وعليكم الإكثار من الطواف، وعليكم الإتيان بعمرة في كلّ يوم، فلا يتعدّى الأمر أن تستأجروا سيارة بخمسة ريالات لكي توصلكم إلى مسجد التنعيم لكي تقوموا بالإحرام والطواف. وقوموا بتكرار هذا الأمر يومياً (و هنا ينبغي تنبيه الإخوة على هذا الأمر، وهو: أنَّ الإحرام لمرّتين في شهر واحد، مكروه كراهيّة شديدة؛ وهو باطل إن وقع ضمن مدة عشرة أيّام، فيجب ألاّ تقلّ الفاصلة الزمنية بين الإحرامين عن عشرة أيّام إلاّ إن وقع كلّ منهما في شهر منفصل، فيكون أحد الإحرامين لشهر معين، والإحرام الآخر للشهر الذي يليه، غير أنَّنا نرى الناس تفعل ذلك هذه الأيّام، وهو أمر ليس بصحيح. هذا بالنسبة للإحرام خلال عشرة أيام، و أمّا إن تمّ الإحرام الثاني قبل انقضاء الشهر الذي تمّ فيه الإحرام الأول، فهو مكروه كراهيّة شديدة).
أجل.. إنّ هذه المدرسة هي المدرسة التي تدعو أتباعها إلى الوصول إلى أعلى ما يمكن الوصول إليه، وهي المدرسة التي تخاطب الإنسان قائلة له: ما دام لك هكذا إله، وما دام مثل هذا الطريق مفتوحاً أمامك، فتعال واختر أعلى ما يمكن الوصول إليه، فلماذا ترتضي لنفسك الانغمار في تلك المراتب الدنيا؟!
وهكذا فقد بدأ المرحوم العلاّمة حديثه (ولا أدري إن كنت قد نقلت للإخوة هذه الحكاية سابقاً أم لا؟ أتصوّر بأنَّني قد نقلتها سابقاً) قائلاً: أيّها الإخوة، تعالوا لنحسب الأمور حساباً بسيطاً لنرى كيف يمكن الإجابة على تساؤلكم، فشرع بالحديث قائلاً: أمّا ما يتعلّق من أمر ابتعادنا عن أهلنا وعيالنا وديارنا، فأقول لكم: كم من المرّات حصل لكم أن سافرتم لأغراض التجارة والسياحة والترويح عن النفس، وابتعدّتم في أسفاركم تلك عن الأهل والعيال؟ لقد حصل من ذلك إلى ما شاء الله أن يحصل! (كان الحاضرون مّمن يسافر إلى هذا البلد أو ذاك لأغراض التجارة أو السياحة) فتلاحظون بأنَّنا لم نقم بتحميل الله منّة في تلك الأسفار التي نسافر فيها إلى البلدان المختلفة من أجل شراء السلع والبضائع أو من أجل السياحة والترويح عن النفس أو من أجل كسب العلم، ونبتعد في تلك الأسفار عن الأهل والعيال، فلم يحصل مرّة أن قلنا: يا إلهي ها قد ذهبتُ إلى اليابان من أجل شراء تلك البضائع، ولقد ابتعدت في سفري هذا عن أهلي وعيالي؛ فاعذرني يا ربِّ، فليس لي حيلة أخرى. [لو قال ذلك] لقال له الله: ومن قال لك أن تذهب، لا تذهب وابق مكانك واكتف بما تكسبه هنا من الرزق، فليس مطلوباً منك أن تذهب هناك، ولكنَّنا وبما أنَّنا نرغب في هذا الأمر، فنحن لا نحمّل الله منّة في ذلك، أمّا عندما يتعلّق الأمر بالذهاب إلى مكّة فترانا نحمّله على الله. ففي الحالة الأولى نكون نحن الراغبون في السفر إلى ذلك البلد لجلب الجهاز أو البضاعة المعينة، لذا فنحن لا نحمّله على الله، فالله يعلم بأنَّنا لم نفعل ذلك من أجله، بل كان ذلك من أجل كسب المال. فهو يقول: لا تحمّلني منّة ذلك؟
ثم أردف قائلاً: وها نحن نقول: لقد أنفقنا كذا مبلغ من المال! فكم نكون قد أنفقنا في حياتنا اليومية من تلك الأموال وفي موارد غير ضرورية، فلو أردنا حساب نسبة ما ننفقه في سفر الحج إلى ما ننفقه في تلك الموارد لما بلغت النسبة الواحد في المائة؛ فلماذا نقوم وعند ذهابنا إلى مكّة بوضع قائمةٍ من الطلبات ونقول: ها نحن يا إلهي قد ابتعدنا عن أهلنا وعيالنا وديارنا ومجتمعنا؛ وقمنا بتعطيل محلات أعمالنا ومكاتبنا (على أنَّ الكثير منهم لم يعطّلوها، بل أوكلوا أمرها إلى أحد عمّالهم) وقد أنفقنا كذا من المال، فإنّ الله تعالى سيقول لنا هنا: ها أنت قد أنفقت مائة ضعفٍ منها في مجالات أخرى ولم تحمّلنا منّتها، ثم جئت إلى مكّة وأنفقت في سفرك هذا درهمين وأتيت لتقول: إلهي، لقد أنفقت كذا مبلغ من المال، ولقد ابتعدّت عن أهلي وعيالي وكذا وكذا.
وبعد أن تكلّم المرحوم العلاّمة لمدة ربع ساعة أو عشرين دقيقة أو نصف ساعة، استسلم الجميع واعترفوا قائلين: يا للعجب! لا يمكن مقارنة هذا بما أنفقناه طيلة أعمارنا المديدة في الموارد المختلفة وفي أسفارنا هنا وهناك. و هنا أردف رضوان الله عليه قائلاً: ما دام الأمر بهذا الشكل، فتعالوا نعرض واقع حالنا على الله ونقول: إلهي، نحن لا شيء، ونحن واهون، ولم ننفق أيّ مالٍ ولم نبتعد عن أهلنا وعيالنا، ولم نقم بتعطيل محلاتنا أو مكاتبنا، ولم نقم بأيّ عملٍ شاقٍ يستحقّ الذكر في هذا المقام، بل جئنا يا إلهي بيد خالية؛ وإن كنَّا قد أنفقنا أموالنا، فأنت الذي مننت علينا بها، وإن كنَّا قد قدمنا إلى الحج، فأنت الذي وهبتنا الإرادة للقدوم. ثم قال: ألا تعتبرون قدومكم هذا على أنَّه من توفيق الله لكم؟ قالوا: نعم. قال: كم من شركائكم وزملائكم في العمل والتجارة والحِرف منْ كان متمكّناً من المجيء ولم يأتِ؟ قالوا: يوجد الكثير منهم وإلى ما شاء الله؛ فكم من الناس الأثرياء والذين يتمتعون بالصحة والسلامة والذين يسافرون ألف مرّةٍ إلى هذا البلد أو ذاك ويأكلون ويتمتعون، أمّا عندما يصل الأمر إلى هذه الفريضة الإلهيّة المهمّة للغاية والضرورية والحياتية، تراهم يُعرضون عنها ويقولون: لسنا مستعدّين أن ندفع أموالنا إلى كذا و أمثال ذلك من الأعذار ... كم من الناس مَنْ هم على هذه الشاكلة؟! قالوا: يوجد الكثير منهم وإلى ما شاء الله.
فقال سماحته: ألم يكن بمقدور الله أن يسلب عنكم توفيق القدوم لأداء الفريضة ويجعلكم تلازمون مدنكم وبيوتكم مثلهم؟ فلو اقتضت المشيئة الإلهية ذلك، فما الذي كنتم ستفعلونه؟ كان أحدكم سيقول: ليس لي المزاج المناسب للسفر إلى مكّة هذا العام، فلنرى هل يمكنني الذهاب العام القادم أم لا؟ فحالي لا يساعدني على الذهاب هذا العام، هذا في الوقت الذي لم يكن فيه مريضاً أو معانياً من أيّة مشكلةٍ أخرى، مِن الممكن أن يحصل ذلك أم لا؟ قالوا: بلى من الممكن أن يحصل.
فقال: ألا تعتقدون بأنَّ هنالك يداً غيبيةً هي التي دفعتكم لترك بيوتكم وحياتكم اليومية وعملكم، وأوجدت لديكم الشوق إلى هذا السفر؛ اخرج من مدينتك لمدّة شهر وتعال لكي ترى أشياء أخرى؛ فلقد أمضيت عمراً في التردّد بين محل العمل والشارع وشمال المدينة وجنوبها والتعامل مع مختلف أصناف الناس ومع المصارف والصكوك والحسابات، فاخرج من هذا الجوّ لمدة شهرٍ لتخوض هذه التجربة الجديدة وترى بنفسك، فاخلع عنك لمدة شهرٍ هذا القشر وهذا اللباس الذي كنت ترتديه، وأبدله بلباس آخر؛ واخرج من هذه الأجواء المحيطة بك ومن تلك التصوّرات والأوهام التي أنت فيها، فسوف لن تموت بدونها.. تعال يا هذا تعال، وكن مطمئناً من أنَّك ستعود إلى ديارك سالماً معافى، وسوف لن تموت. تعال وانظر لترى ما الذي يجري هناك.. تعال وألق نظرة واحدة على الكعبة لترى هل هي مختلفة عن شوارع طهران وعماراتها أم لا؟ وألق نظرة على جبلي الصفا والمروة لترى حينها هل تختلف عن تلك المتنزهات التي كنت تتنزّه وتمارس الرياضة فيها صباحاً ومساءً، أم لا تختلف عنها؟ وألق نظرة واحدة على صحراء عرفات وجبلها وعلى ليلة المشعر لترى هل هي مختلفة عن تلك الليالي التي كنت تتجوّل فيها بسيارتك في شمال طهران أم لا؟ ما هو الفرق الذي ستلاحظه؟ ألقِ نظرةً على الجوّ الحاكم في منى، لترى هل يختلف عن جولاتك التي كنت تقضيها في الشمال وفي بحر مازندران أم لا؟ لترى بنفسك أيّ فرق ستلاحظ؟ وقم بمقارنة شعورك في كلتا الحالتين، لترى كم هو الفارق وما هو مقدار الامتياز بين الحالتين؛ عسى أن يبعث ذلك على حصول انتفاضة و انقلاب في نفسك، وعسى أن تكسب منه شيئاً. لا تبقَ أسير ذلك الجوّ دائماً؛ ولا تبقَ أسير أجواء المتنزهات وشمال طهران، بل تعال لترى هذا المكان، تعال لترى جبل عرفة، تعال لترى صحراء المشعر وليلتها، تعال وشاهد بنفسك رمي الشيطان ورمي الجمرات، تعال وشاهد ليالي المبيت في منى؛ فلعلّ هنالك مسائل أخرى، لم تكن لتعلم عنها شيئاً!
لم يفعل الله ذلك اعتباطاً عندما جلب إبراهيم من فلسطين إلى هذه الجبال، ثمّ أعاده إلى مكانه، فلماذا فعل ذلك؟ ولم يفعل ذلك اعتباطاً عندما كان يجعل الإمام الحسن المجتبى عليه السلام يأتي من المدينة المنوّرة لخمسٍ وعشرين مرّة مشياً على الأقدام؛ ولم يفعل ذلك اعتباطاً مع الإمام الحسين عليه السلام عندما جعله يأتي لأكثر من عشرين مرّة ماشياً على قدميه أحياناً وراكباً أحياناً أخرى؛ ولم يفعل ذلك اعتباطاً عندما جعل الإمام موسى بن جعفر عليه السلام يطوي هذه الصحاري مشياً على الأقدام، فماذا يوجد هناك؟! فهذا إمام، وهو حقيقة عالم الوجود وشرفه؛ فلماذا يجري الأمر معه بهذا الشكل؟! فلماذا يذهب مشياً على الأقدام؟! لماذا يطوي موسى بن جعفر هذه الصحاري ماشياً على قدميه؟ فهو شرف عالم الوجود! وهو وليّ جميع عالم الوجود! ولماذا يذهب الإمام الحسن؟ فهو وليّ عالم الإمكان! فما الذي يشعرون به؟
طبعاً نحن لا ندّعي أنَّ بإمكاننا أن نمتلك نفس ذلك الشعور، فهذا من المحالات؛ فأين هو شعورنا من شعورهم؟ ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: يا عزيزي، عندما تتأمّل وترى بأنَّ الإمام الحسن والإمام الحسين والإمام موسى بن جعفر صلوات الله عليهم يتصرّفون بهذا الشكل، فهل يمكن لك والحال هذه أن تصدر تلك الفتوى التي تجيز لمن كان مستطيعاً للحج بأن ينفق أمواله ليلة الأول من شوّال لكي تسقط الاستطاعة عنه؟!! أيمكنك أن تصدر فتوىً كهذه لو كنت تعلم حقيقة الأمر؟! لا شكَ بأنَّه لو كان يدرك أقل القليل من تلك الحقائق، لما كانت له الجرأة على إصدار هكذا فتوى ولو طال به العمر ليبلغ مقدار عمر نوح.
فذاك الذي يذهب إلى الحج بالشكل الذي ذكرناه، وهو يعيش ذلك الجوّ، يقول: إلهي، أنا لا شيء، أنا عدمٌ، أنا لا أمتلك أيّ شيء على الإطلاق. ألم تسمعوا دعاء الإمام السجّاد الذي نقله الأصمعي في منتصف الليل في المسجد الحرام عندما كان يناجي الله وهو متعلّق بأستار الكعبة؟! [10] لقد أدرك واقع الأمر وعلم حقيقته، غير أنَّ الإمام يريد إيصال هذا الخير للآخرين، فهو يقول: لقد علمتُ أنا شيئاً، فتعال أنت لتتعرّف عليه أنت أيضاً؛ ها أنا أخبرك حقيقة الأمر، فلا تظلّ تكرّر القول بأنَّ أدعيتنا هذه ليست جادّة وهي من باب التمثيل، ومتى كانت لائقة بنا؛ بل هذا هو واقع الأمر الذي نضعه الآن بين يديك، فافهم واعمل بموجبه.
فهذا هو ما يطرحه علينا الأئمة، وهذه هي معاناة الأئمة والأولياء والعرفاء معنا، وهي أنَّهم كلّما قالوا لنا شيئاً، قلنا: إنَّ هذا الأمر لا ينطبق عليهم، فأين هم من هذا الكلام؟ إذ كيف يمكن أن يقول الإمام كلامًا كهذا، فيقول: أنا لا شيء، وأنا عدم؛ فهل يمكن أن يكون ذلك؟!
أخرج من أذنك تلك القطنة يا هذا، واستبدل ذلك الجبس والاسمنت الموجود في مخّك بخلايا حيّة لكي تستطيع أن تفهم كلام الإمام عليه السلام ودعائه ومناجاته التي يناجي بها ربّه.
لذا فقد قال لهم المرحوم العلاّمة: أيّها الإخوة، دعونا نعيد النظر في تقييمنا للأمر فلنقلْ: إلهي، نحن لا نمتلك شيئاً، ولم نقم بأيّ إنفاق... ولم يتوغّل سماحته بالموضوع ليقول بأنَّه لا وجود لنا بالمرّة، فلقد رأى بأنَّه لو قال ذلك لما تمكّنوا من استيعاب الأمر، ولقالوا: من هذا الذي نسأله؟ فها قد جئنا لنسأله سؤالاً، وإذا به يُشكّك في أصل وجودنا؛ فدعنا نعود إلى أولئك الذين كنّا نتبعهم، فهم أفضل لنا، فلقد كانوا يقولون لنا: لقد أنفقتم من أموالكم وبذلتم جهداً ولكم أن تُحمّلوا الله المنّة على ذلك؛ فأولئك خير لنا. أجل.. لم يفعل المرحوم العلاّمة ذلك، بل راعى قدرتهم و سِعَتهم وقام بخفض مستوى المطلب قليلاً وقال: تعالوا لنخاطب الله قائلين: إلهي، نحن لم ننفق من أموالنا شيئاً، ولم نبتعد عن أهلنا وعيالنا ولم نترك أعمالنا أبداً، بل جئناك عراةً بدون لباس وبدون أيّة خاطرة أو توقع أو حكم مسبق، بل جئناك على ما نحن عليه، فهل تقبلنا أم لا؟ نعم، نحن لم ننفق أيّ شيء؛ فلو كنَّا فقراء لا نمتلك شيئاً وجئنا مشياً على الأقدام، أكنَّا سنقول لله: ها قد أنفقنا من أموالنا؛ كلاّ، بل كنَّا سنقول لقد جئنا مشياً وبواسطة خطّ الحافلة رقم 11[11] ... عندما كانت هنالك حافلات لنقل الركاب، كان يوجد خط إلى جانب بقيّة الخطوط العاملة، ألا وهو الخط 11، فنحن قد جئنا إلى مكّة مستقلّين الخط 11، وهذا ما نحن عليه الآن أيضاً، فالمال الذي أنفقناه لم يكن منَّا، بل قد جاء مصدر آخر؛ فهو الخط 11 إذاً، غير أنَّ الأمر أصبح أيسر هذه الأيّام، فبدلاً من استقلال الخط 11، فقد أقلتكم طائرة حديثة وأوصلتكم إلى هذا المكان.
لقد كان الماضون يقطعون الطريق في أربعة أو خمسة أشهر، وكانوا يأتون بواسطة القافلة ويستخدمون الهودج في ذهابهم إلى مكّة؛ أمّا الآن فها نحن نصل في ظرف ساعتين من الزمان، ونستخدم لطائرة من طراز البوينج الأمريكية الصنع، ونحجز لنا مقعداً في طابقها الأعلى الخاص برجال الأعمال، لأنَّنا متمكنون من ذلك.
لو منح الله الإنسان قدرة الفهم الصحيح، فيكون قد منحه بذلك كلّ شيء. فعلينا أن نطلب من الله أن يمنحنا قابلية الفهم الصحيح للأمور، وعلينا أن نطلب منه المعرفة والدراية والتوفيق. فخطوة واحدة نخطوها بتعقّل، هي أفضل من ألف خطوة نطويها بدون تعقّل وبناءً على ضربة الحظ. فتلك الخطوة المبنية على التعقّل لها تأثيرها على نفس وسرّ وجميع مراتب الإنسان.
أجل، عندما تحدّث سماحته بهذا الكلام، تبدّل كلّ الجوّ الذي كان حاكماً على المجلس.. لقد رأوا أمراً عجيباً، فقبال أيّ شخصيةٍ يجلسون الآن، إنَّهم يواجهون رجلاً يتكلّم معهم من أفق آخر، وكلامة يختلف عمّا يتكلّم به الآخرون؛ فالمفهوم الذي يتكلّم به يتغاير تماماً مع ما يتكلّم به الآخرون، إنّ جوهر كلامه مختلف، فأيّة طريقة هذه؟ إنَّها طريقة العرفاء، فالعارف يقوم بإرجاع كلّ شيء من الأساس إلى صاحبه الأصلي، فيقول: إلهي، ما دمنا قد وردنا الدنيا بهذا الشكل: {وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً}[12] ؛ فمن هو الذي أخرجنا من بطون أمهاتنا؟ إنَّه هو، فهو الذي أخرجنا ونحن لا نعلم شيئاً ولا ندرك شيئاً مما يحيط بنا؛ فمنحنا الإدراك والفهم والتعلّق بالأشياء ومنحنا بقية الصفات، وهو الذي عرّفنا بكل الأمور؛ فما دام الأمر كذلك، فلماذا لا نعود إلى الوراء؟ ولماذا لا نعيد هذه الأمانة إلى صاحبها الأصلي؟ لماذا ترانا لا نفعل ذلك؟ لأنَّنا اعتدنا التعامل مع الكثرة؛ فلقد استولت علينا هذه الكثرة وهذا التعلق والانشغال بالدنيا بالشكل الذي حجب عقولنا عن الوصول إلى الحقيقة.
افرضوا أن عندنا طفلاً بعمر سنة واحدة، فإذا بهذا الطفل يستيقظ من النوم صباحاً ليجد نفسه قادراً على القراءة والكتابة؛ فيبدأ بالقراءة وحلّ المسائل الرياضية؛ وهذا سيكون مدعاةً للتساؤل؛ إذ هل درس هذا الطفل في مكان ما؟ وهل بذل جهداً في التعلّم؟ إنّنا لو رأينا مثل هذا الطفل قد أصبح قادراً على كلّ هذه الأمور، فما الذي كنَّا سنقوله عنه؟ لا شكّ بأنَّنا كنَّا سنعزي ذلك إلى التوفيق الإلهي، فهل يوجد هنالك احتمال آخر؟ فالطفل ذو السنة الواحدة كان نائماً في بيت أهله، وإذا به يستيقظ صباحاً ليمسك القلم بيده ويبدأ بالكتابة، هل يمكن أن يتمّ ذلك؟ لا يمكن أن يحصل ذلك بكلّ تأكيد، فلو حصل شيء كهذا، فما الذي كنَّا سنقوله؟ لا شك بأنَّنا كنَّا سنقول بأنَّ هذا قد حصل من باب الإعجاز، فالذي حصل هو أمر غير طبيعي وخارق للعادة. وهنا نتساءل: لماذا ننظر إلى ما حصل لهذا الطفل ذي السنة الواحدة على أنَّه أمر غير طبيعي، بينما لا نراه كذلك لذلك الذي حصل له هذا الأمر بعد مرور خمسين عاماً؟ لماذا؟ فلقد حصل هذا الأمر في ليلة واحدة، وحصل ذاك خلال فترة خمسين سنة؛ ولكن حقيقة الأمر أنّ كلاهما أمر واحد؛ إذ ما هو التفاوت بينهما؟
وهذا هو عين ما قاله السيِّد الحداد ــ ولقد ذكر المرحوم العلاّمة هذه القضية في كتاب الروح المجرد ــ عندما قال: أتعجّب كيف يعتبر الناس ذهاب أحدهم إلى حافة البئرٍ، فيجد البئر جافّة، فيدعو الله، فتمتلئ البئر ماءً ليتوضأ منه؛ فهم يعتبرون ذلك معجزة، بينما لا يرون فتحهم لصنبور الماء وجريان الماء منه معجزة! والله وبالله العظيم إنَّ كلا الأمرين واحد، غير أنَّنا نحن الذين وقعنا في الخطأ في التفريق بين الأمرين؛ فإن كان أحد الأمرين معجزةً، فسيكون كلاهما معجزة؛ وإن لم يكن الثاني معجزةً، فسوف لن يكون الأول معجزةً أيضاً، بل هو أمر طبيعي، فلو كان البئر، بئراً ارتوازياً، أكنتم ستنظرون إلى ما حصل على أنَّه معجزة؟ فالماء يتدفّق إلى السطح دون الحاجة إلى الدعاء، ألا يحصل هذا في آبار النفط؟ فهل يحتاج تدفّق النفط لأن ندعو الله ونقول: إلهي ارفع لنا هذا النفط إلى السطح! كلاّ، لا يحتاج الأمر ذلك، بل عليك الاحتياط والوقوف جانباً عند فتح البئر النفطية لكي لا ينزل النفط على رأسك ولا يقذفك تيّار النفط المتدفّق جانباً. إنّنا لا نرى ما حصل هنا معجزةً؛ فلماذا لا نرى تلك الطاقة المضغوطة والكامنة في البئر النفطية، وتلك الموجودة في البئر الارتوازية، لماذا لا نراها معجزة؟ لماذا؟ لأنَّنا قد تعوّدنا على التعامل مع الأمور المادية، فلما كنَّا قد اعتدنا ذلك، لذا فنحن لا نراها معجزة. أمّا إن كانت البئر جافّة، ودعونا الله وقلنا: إلهي ليس لدينا نفط، وها قد اختلّت معيشتنا اليومية، وأفلست دولتنا، فاجعل يا إلهي هذا النفط يتدفّق، لكي نستطيع بيعه، وتعود هذه النقود إلى خزينة البلد فنرى بأنَّ النفط قد تدفّق إلى الأعلى وتمكنَّا من استخراجه والاستفادة منه؛ فسنقول عندها: ها قد حصلت المعجزة! لماذا لا نعتبر ما كان يحصل عندما كان النفط يتدفق تلقائياً معجزة أيضاً؟! لماذا؟ فمن الذي جعل النفط يتدفّق إلى الأعلى؟ ومن الذي جعل الماء يتدفّق إلى السطح مرّة واحدة؟
لماذا لا نعتبر تدفّق الماء تلقائياً معجزةً وأمراً غير طبيعي؟ أمّا عندما يأتي رجلٌ صالحٌ ويقوم بالدعاء ويتدفّق على إثر دعائه الماء، فعندها سنعتبر هذا الأمر قد حصل بمعجزة؟ ففي هذه الحالة ترانا نقول: كم لهذا الرجل من مكانة وكم هو من المقرّبين؟! فها قد دعا الله، فاستجاب له وجعل الماء يتدّفق إلى السطح. إنَّ ما عمله هذا الرجل لا يختلف شيئاً عمّا تعمله مضخة الماء؛ فبدلاً من الدعاء قم بتوصيل سلكي المضخة بمصدرٍ كهربائي، لتبدأ المضخة بالعمل وتسحب الماء إلى السطح؛ فلا يحتاج الأمر والحال هذه إلى دعاءٍ أو ثناءٍ أو قراءة أحد الأدعية الخمسة عشر؛ سوف لن يحتاج الأمر شيئاً من هذ، غير أنَّ عليك أن تعرف وتستشعر في نفسك عندما ترى تدفق الماء، بأنَّه هو الذي أخرج الماء إلى السطح، هذا هو هدف العرفاء.
إنّ هدف العارف هو: ألاّ يحصل لديك تفاوت بين الحالة التي تقوم فيها بتشغيل المضخة وترى فيها جريان الماء، عن تلك الحالة التي تدعو فيها الله وتقول: إلهي، أنا لا أمتلك ماءً لكي أشرب أو أتوضأ منه، فاجعل الماء يتدفقْ، فيتدفّقَ الماء؛ وألاّ يخطر بذهنك شيئاً آخر. ففي المرّة الأولى وعندما تقوم بتشغيل المضخة، فسوف يجري الماء [وسيكون الأمر طبيعياً في نظرك]، أمّا في المرّة الثانية فتقول: لقد شملتني عناية ولطف الله، فلله الحمد. لا يا أيّها السيِّد، فلم تكن محلّ عناية الله، بل تلك المضخة هي التي كانت مورد عناية الله، لا أنت؛ فتلك المضخة أقرب إلى الله منك، فأنت تتخيّل نفسك من المقربين؛ فالفعل هو فعل الله، فلماذا تُدخل نفسك في الوسط وترى لك دوراً في حصوله؟ فعندما قمت بالدعاء، أكان من الممكن ألاّ يستجيب الله دعاءك؟ بلى، لقد كان من الممكن ألاّ تحصل الاستجابة؛ فلماذا حصلت الاستجابة؟ لأنَّه هو الذي أراد ذلك، فلماذا تجعل لنفسك دوراً فيما حصل إذاً؟
يقول العارف: يجب أن يكون الأمر واحداً لديك، فسواء تمّت الاستجابة لدعائك أم لم تتمّ؛ فلا تحسب لنفسك حساباً في هذا الوسط؛ وعليك أن ترى المصدر واحدًا في كلتا الحالتين؛ فلا يجب أن يحصل تبدّل في نفسك وفي حالك.. هذا هو كلام العرفاء في هذا المجال.
أعتقد بكفاية هذا القدر من الحديث عن هذا الموضوع. وسنبدأ بالحديث إن شاء الله عن الفقرات الأخرى من الدعاء. نسأل الله أن يمنَّ علينا بالتوفيق لكي نتمكّن من فهم وإدراك هذه الحقائق. وأن يتولى الله بنفسه الأخذ بأيدينا وإيصالنا إلى المقصد النهائي وإلى الوقوف على حقيقة هذه الأمور.
الّلهمَّ صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّدٍ


[1] ـ أسرار الملكوت، ج 1، ص 56.

[2] ـ سورة البقرة (2)، جزء من الآية 286.

[3] ـ جاء في وسائل الشيعة، ج 5، ص 382 : عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السَّلام ): "مَنْ صَلَّى بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ صَلَّى خَلْفَهُ صَفَّانِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَنْ صَلَّى بِإِقَامَةٍ بِغَيْرِ أَذَانٍ صَلَّى خَلْفَهُ صَفٌّ وَاحِدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ". قُلْتُ لَهُ: وكَمْ مِقْدَارُ كُلِّ صَفٍّ؟ فَقَالَ: "أَقَلُّهُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَكْثَرُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ"

[4] ـ المثنوي المعنوي، ج 2، ص 284.

[5] ـ سورة ق (50)، جزء من الآية 35.

[6] ـ سورة النحل (16)، جزء من الآية 78.

[7] ـ رسالة السير والسلوك المنسوبة إلى بحر العلوم، ص 124.

[8] ـ المثنوي المعنوي، ج 1، ص 29.

[9] ـ المشهور بين الإيرانيِّين بأنَّ الاصفهانيِّين منهم معروفون بالحِرص والتدقيق في صرف المال، وكان ما ذكره سماحة السيِّد من باب المزاح. [المترجم]

[10] ـ إشارة إلى ما جاء في مناقب آل أبي طالب، لابن شهرآشوب، ج 3، ص 290 (المطبعة الحيدرية) أنّه روى الأصمعي : كنت أطوف حول الكعبة ليلة فإذا شاب ظريف الشمائل وعليه ذؤابتان وهو متعلق بأستار الكعبة ويقول : نامت العيون ، وعلت النجوم ، وأنت الملك الحي القيوم ، غلقت الملوك أبوابها ، وأقامت عليها حراسها ، وبابك مفتوح للسائلين، جئتك لتنظر إلي برحمتك يا أرحم الراحمين . ثم أنشأ يقول:
يا من يجيب دعا المضطر في الظلم                              يا كاشف الضر والبلوى مع السقم
قد نام وفدك حول البيت قاطبة                              وأنت وحدك يا قيوم لم تنم
أدعوك رب دعاء قد أمرت به                              فارحم بكائي بحق البيت والحرم
إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف                              فمن يجود على العاصين بالنعم

قال : فاقتفيته فإذا هو زين العابدين (عليه السلام) .

[11] ـ هذه كناية و ملاطفة من سماحة السيِّد وهي تشير إلى أولئك الذين لم يكونوا يمتلكون المال الكافي لاستقلال حافلة نقل الركاب، فكانوا يستخدمون الرجلين (المشي) للوصول إلى المكان المقصود. [المترجم]

[12] ـ سورة النحل (16)، جزء من الآية 78.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی