معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1437 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1437 هـ ـ الجلسة 2 ـ معنى البرهان من الله تعالى

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1437 هـ

الجلسة الثانية:
معنى البرهان من الله تعالى

ألقيت في الليلة الثانية عشرة من شهر رمضان المبارك لعام 1437 هجري قمري

ألقاها:
سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه اللـه

 

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين

فَلَكَ الْحَمْدُ عَلى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، وَعَلى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ، وَيَحْمِلُني وَيُجَرَّئُني عَلى مَعْصِيَتِكَ حِلْمُكَ عَنّي، وَ يَدْعُوني اِلى قِلَّةِ الْحَياءِ سِتْرُكَ عَلَيَّ، وَيُسْرِعُني اِلَى التَّوَثُّبِ عَلى مَحارِمِكَ مَعْرِفَتي بِسعَةِ رَحْمَتِكَ، وَعَظيمِ عَفْوِكَ.

حسن جدًّا، يبيّن هنا حضرة السجّاد عليه السلام الخصوصيّات المختصّة بالعباد واﻷعمال التي يقومون بها وطريقة تصرفّاتهم، ويقول لنا بأيّة كيفيّة نقوم بتصرفّاتنا وبأيّة نيّة وبأيّ قصد ننجز أعمالنا؛ وفي الجهة الأخرى، فإنّ حضرة الإمام يبيّن أيضًا ما هو مرتبط بالله تعالى في مقابل هذه الأعمال والتصرفّات.

    

جرأة الإنسان على ارتكاب الذنوب نابعة من أمنه من سرعة العقاب

إنّ ما هو واضح في هذه الكلمات وفي هذه التعبيرات هو مسألة حلم الله وتحمّله للتصرّفات التي يقوم بها الإنسان، فهو يصبر ولا يبرز سريعًا ردّة فعله تجاه أعمالنا؛ وهذا مطلب مهمّ وموضع للتأمّل.
يقول الإمام هنا أنّ الحمد يختصّ بك، وله ارتباط بحلمك بعد علمك؛ يعني: بعد أن كنت تمتلك العلم بأحوالنا وتمتلك المعرفة بتصرفّاتنا، فإنّ علمك هذا غير مفضٍ إلى أن تنهض هنا وتمضي في سبيل الانتقام، أو تلجأ إلى الاقتصاص بنحو من الأنحاء، وتجعل أعمالنا في معرض العقوبة.
وهكذا أيضًا، فإنّ الحمد يختصّ بمغفرتك وعفوك بعد قدرتك؛ فـ (بعد) هنا لم تأت بمعنى التأخير بل بمعنى الترتّب؛ أي: بعد أن كانت لك القدرة، فإنّك تلجأ للعفو؛ فعفوك نابع من القدرة لا من الضعف؛ ومن هنا، فما يدفعني للتجرّأ على الذنوب وعلى معصيتك هو حلمك؛ فحينما أرى بأنّك حليم، وبأنّك لا تُبدي أيّة ردّة فعل تجاه أعمالنا وتصرّفاتنا، فإنّك ذلك يُؤدّي لأن أشعر بحالة من الخمول، وأتنازل قليلاً عن العزم الجادّ في ترك معاصيك، فأتساهل وأتهاون نوعًا ما تجاه هذه المسألة، بينما لو كنت أعلم بأنّك ستعاقبني بمجرّد أن يصدر منّي ذنب، فلن أرتكبه أبدًا؛ والمسألة في جميع المواضع هي بهذا النحو.
فحينما يكون الإنسان عالمًا بأنّه بمجرّد أن يرتكب مخالفة، فإنّ الشرطة ستأتي إلى منزله للقبض عليه قبل أن يصل إليه، فإنّه لن يُقدم على هذه المخالفة، اللهمّ إلاّ أن يكون مجنونًا! فالذي يتجرّأ على فعل الحرام هو الذي لا يتوقّع العقاب السريع، فتراه يفعل ذلك ويقول: ليس هناك من يهتمّ لأمري!!! وحتّى لو أرادوا التحقيق وإثبات المخالفة، فإنّ الأوان سيكون قد فات!!! اذهب يا عزيزي ولا تحمل أي همّ!! افعل كلّ ما يحلو لك من دون أيّ قلق!!
حسنًا، لكن لو فرضنا أنّنا كنّا في مكان آخر؛ نظير مفترق الطرق حيث يضعون كاميرا المراقبة، وكلّ من يتعدّى الخطّ أو يتجاوز السرعة المسموح بها في الشارع، فإنّ هذه الكاميرا تلتقط له صورة، غير أنّ بعض هذه الصور تذهب إلى الأرشيف وتبقى هناك إلى الأبد! ولعلّ ذلك بسبب أنّ رقم السيّارة يختلف عن بقيّة الأرقام!! لكن في بعض المواضع الأخرى، فإنّ فاتورة الغرامة تصل عادةً إلى المنزل قبل أن يصل صاحب السيّارة إليه! فهناك بعض الدول التي تتعامل بشكل سريع مع مثل هذه القضايا؛ فترى الإنسان يذهب إلى منزله ظهرًا، ليكتشف أنّ الفاتورة سبقته إلى المنزل بساعتين؛ ففي مثل هذه الحالة، لن يتجرّأ الإنسان على ارتكاب المخالفة. إنّ ما يُحرّضنا على فعل الحرام هو أنّنا لا نحتمل السرعة في العقاب والمؤاخذة؛ ولهذا ترانا نرتكب المعصية، فنقول في أنفسنا: لا يوجد هناك من يُتابع الأمر!
وفيما يخصّ الحقّ سبحانه وتعالى، فإنّ المسألة هي بهذا النحو أيضًا؛ فلماذا تجدنا نرتكب المعاصي؟ لأنّنا نفعل ذلك في المرّة الأولى، فنرى بأنّه لم يحدث أيّ شيء، ثمّ نكرّره للمرّة الثانية، فنرى أيضًا بأنّه لم يحصل أيّ شيء، مع أنّنا كنّا نتوقّع أن تُقرع رؤوسُنا بعصا من حديد، وهكذا للمرّة الثالثة... فنقول في أنفسنا: يبدو أنّ الملائكة منشغلة جدًّا، فلا يلتفتون إلينا!!! والظاهر أنّ لهم أعمال كثيرة!! فهذا الذي يُؤدّي إلى أن يقلّ قُبح الذنب والمعصية في نفس الإنسان، وأمّا بالنسبة للأولياء والمعصومين والأنبياء، فلا تقليل لديهم في مسألة قُبح المعصية والذنب؛ لأنّ قبح المعصية هي عبارة عن حالة من الكدورة والظلمة تحصل للنفس، وتُؤدّي ـ شئنا أم أبينا ـ إلى التضعيف من الارتباط القائم بين العبد وربّه، فيصير هذا الاتّصال باهتًا وضعيفًا، ويُصبح ذلك الحبل الواصل بين الإنسان وخالقه أرقّ وأرقّ.

    

الذنوب سبب أساسي في تغيّر حالة اتّصال الإنسان بالله تعالى

فمن المحال أن يصدر ذنب من الإنسان من دون أن يُؤدّي ذلك إلى إحداث تغيّر في حاله! ولا يُمكن أن يقوم الإنسان باغتياب رفيقه (أو غيره)، ثمّ لا يُفضي ذلك إلى تغّير حاله! ومن المحال أن يتواجد الإنسان في مجلس تُذكر فيه الدنيا، ويُغتاب فيه هذا وذاك، ويكون مملوًّا بالقيل والقال، وتُطرح فيه عيوب الناس، فيقوم الإنسان من هذا المجلس، وتكون حالة اتّصاله [بالله تعالى] مساويةً لحالة الاتّصال التي كان يمتلكها قبل ولوجه للمجلس.. فهذا محال، وغير ممكن بتاتًا! ويُمكنكم أن تُجرّبوا ذلك لو شئتم، بل لا حاجة للتجربة أبدًا؛ لأنّه لا ينبغي على الإنسان أن يُجرّب مثل هذه الأمور من الأساس!! هل التفتّم؟! فلا يمكن حصول هذا الأمر أبدًا، ولا يُمكن للإنسان أن يُقدم على أمرٍ ما بغرض هتك عرض امرء مؤمن، والحطّ منه عند الناس، والتنقيص من منزلته ـ ولو كان بعنوان إلهي وباسم التبليغ وأمثال ذلك من الأمور الواهية والخدّاعة التي تندرج في ضمن الحيل الشيطانيّة ـ ، فيظلّ ارتباطه بالله تعالى في تلك الحالة قائمًا.. فهذا محال!
ففي الوقت الذي يكون فيه منهمكًا في هذا الفعل، فإنّ كلّ كلمة تصدر منه يكون الشيطان هو الذي ألقاها عليه، ولو كانت آية قرآنيّة؛ وكلّ عبارة تخطر على باله، تكون من إلهام الشيطان، ولو كانت مقتبسةً من نهج البلاغة؛ لأنّ الشيطان له اطّلاع أيضًا على نهج البلاغة، وعن حفظ؛ فنحن لا نحفظ نهج البلاغة بينما هو يحفظه، بل ويحفظ حتّى القرآن والصحيفة السجّادية، وقرأ مفاتيح الجنان من بدايته إلى نهايته.. فهو يحفظها جميعًا!!! فيأتي بنفسه ويُلقي العبارة الكذائيّة في ذهن الإنسان، ويقول له: اكتبها في هذا الموضع، فهي أفضل لك وتقوّي مطلبك! فتجد بأنّ العبارة مقتبسة من نهج البلاغة لأمير المؤمنين، لكنّ الشيطان هو الذي يأتي بها، ويقول اكتبها هنا، أو من شعر حافظ، لكنّ الشيطان الذي يأتيه بها؛ فهو مطّلع على تمام أشعاره الغزليّة، ويقرأها بشكل جيّد، ويغنّي بها، ويقول له: اكتب هذا البيت أو ذاك، اذكر هذا هنا وذاك هناك.. فيرى فجأةً بأنّه قد حصلت في ذهنه قصّة لم تكن من قبل، ويقول: عجبًا لقد كنت غافلاً عن هذا! من الذي أحضرها إلى ذهنه؟! الشيطان هو الذي أحضرها في ذهنه، لا جبرائيل، فجبرائيل لا يأتي ويساعدك عندما تكتب انطلاقًا من هوى النفس والتوهّمات والاعتبارات والأنانيّات والأماني، فمن الذي يساعدك في هذه الحالة؟! لا تخلو المسألة من أحد أمرين: إمّا أن يكون مصدر هذه المطالب جنود الرحمن، فتترشّح من ذاك المبدأ وتستقرّ في النفوس؛ وإمّا أن يكون مصدرها جنود الشيطان، ولا ثالث لهما. فجبرائيل لا يأتي في هذه الحالة، فمن الذي يأتي؟ حتمًا الشيطان هو الذي يأتي؛ وعليه، فلا ينبغي القول بأنّ هذه العبارة وهذه المقالة وهذا الكتاب هو كتاب جيّد؛ باعتبار أنّه يحتوي على عبارة بسم الله، وفيه شواهد من نهج البلاغة ومن الصحيفة السجّادية، وفيه عبارة من دعاء الافتتاح، بل ينبغي أن نرى مبدأ ومصدر هذه العبارات ما هو؟ هذا هو المهمّ، وإلاّ فهذه الأوراق مليئة بالدعاء من أوّل الكتاب إلى آخره؛ ولذا، فمبدأ ومصدر هذه المطالب هو المهمّ، لا نفس المطالب الواردة هنا، فهذه لا أهمّية لها.

    

معنى "البرهان" في قصّة يوسف عليه السلام ودوره في الردع عن المعصية

وبناء على ذلك، ينبغي أن ننتبه جيدًا، فما أكّد عليه الأنبياء والأولياء وأهل المراقبة، وكانوا يتحفّظون عليه كثيرًا هو قطع الارتباط الذي يحصل أثناء ارتكاب الذنب والمعصية، هذا هو الذي يقال له "برهان"؛ فالذي انكشف للنبيّ يوسف عليه السلام هو هذا الأمر، ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّه﴾[1]‏ ، يعني لو لم ينكشف هذا البرهان لكان قد وقع في المعصية، لكن ماذا كان هذا البرهان؟ هل كان عبارة عن سوط أنزله الله من السماء وشقّ له السقف فخاف يوسف أن يقع على رأسه؟! لم يكن كذلك! هل كان سيفًا أو نارًا؟ لم يكن ذلك! هل هو جهنّم؟ لا، ليس شيء من ذلك! بل كان عبارة عن مشاهدته حالة انقطاع العلاقة بينه وبين الله في حالة ما أقدم على هذا الفعل؛ [قيل له] إن أردت القيام بهذا العمل فإنّ علاقتك بالله سوف تنقطع! هذا هو البرهان من ربّه، وهي حالة من الظلمة! ففي نهاية الأمر، عندما يكون للإنسان علاقة بربّه، فإنّ هذه الحالة سوف تظهر بشكل تلقائي، فالله لا يدع الإنسان وحيدًا، ويقول له: اذهب وافعل ما يحلو لك، كلاّ!
الله الذي جعل في الإنسان هذه الغرائز هو نفسه الذي يأتي في الوقت المناسب ويبيّن للإنسان الأفعال التي توجب انحراف هذه الغرائز، لا أنّه يعطي شيئًا دون الآخر، وإلاّ يصير ذلك ظلمًا؛ فإن أعطى شيئًا ولم يعط الآخر يكون قد ظلم، وإلاّ لصار [الإنسان] مثل الحيوانات، فالحيوانات لا يفهمون هذا الكلام أساسًا، ولا توجّه لهم إلى ذلك.. كلاّ، بل الله الذي أودع في الإنسان الميل والشوق نحو المخالفة ـ فالإنسان لديه هذا الميل نحو المخالفة، ولو لم يكن لديه ذلك لما أتى به ـ هو الذي جعل له في المقابل ما يمكّنه من التغلّب على ما يوجب انحرافه وخسارته؛ لذا، فالإنسان يرى الطرف المقابل أيضًا، لا أنّه يرى طرفًا واحدًا فقط، بل يرى كلا الطرفين. ولو كان الإنسان يرى طرفًا واحدًا فقط دون الطرف الآخر، فلا عقاب على فعله؛ ولذا، نرى أنّ الكثير من الذين يرتكبون المخالفة ـ وهذه مسألة فقهيّة وحقوقيّة وقضائيّة ـ ويكونون مدانين من الناحية الظاهريّة، لا يكونوا قد ارتكبوا معصية في الواقع؛ لأنّ الطرف المقابل للمعصية غير واضح لهم.
فما الذي يفهمه الشابّ ذو الخمسة عشر عامًا أو الستّة عشر عامًا فيما إذا افترضنا أنّ زللاً صدر منه، حتّى يُقارن برجل في الخامسة والثلاثين أو الأربعين من عمره، ويصار إلى معاملتهما معًا نفس المعاملة؟! هذا ليس صحيحًا، حيث تتدخّل هنا أيضًا مكانة الشخص وظروفه. أمّا نحن، فلم نسمع إلاّ بالبلوغ، لكنّ البلوغ في كلّ شيء له معنى وله حساب مختلف؛ فهذا الشابّ المراهق لم يصل بعدُ بالنسبة إلى هذه المسألة إلى مرحلة البلوغ.. لم يصل إلى البلوغ في هذه المسألة. والبنت في الثالثة عشر أو الرابعة عشر لم تصل إلى البلوغ بعد، حتى تحاسب على خطأ صدر منها.. [لكنهم يقولون] كلاّ، بل هي بالغة منذ سن التاسعة والعاشرة، فالجانب الآخر من القضية وهو قبح المعصية غير واضح أساسًا لهؤلاء الأشخاص، فلا يعرفون شيئًا عنه؛ ولذا، هناك فرق كبير بينه وبين شخص في الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين من عمره، وحكمه من ناحية العقاب يختلف عنه، وهذا إنّما هو بسبب تلك المسألة.
وأمّا بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء والمعصومين، فقد اتّضحت لديهم مسألة البرهان وحقيقة المعصية وباطنها؛ فصار واضحًا لديهم أنّ هذا العمل موجب لابتعاد الإنسان عن ربّه؛ وإذا اتّضح هذا، فلن يتوجّه إلى هذا الذنب أساسًا! هذا هو مقام العصمة، فمقام العصمة ليس أن يكون الشخص كالخشبة لا يصدر منه أيّ شيء؛ وكما أنّ الخشبة لا يصدر منها أي فعل، كذلك المعصوم لا قدرة له ولا اختيار ولا إرادة من نفسه، فحتّى لو أراد المعصية، فلن يتمكّن من القيام بها.. كلاّ، المعصوم ليس كذلك! فإنّه يستطيع أن يأتي بكلّ فعل يريده، بل يمكنه الإتيان به أفضل منّا! فعدم ارتكاب المعصية وكفّ النفس هو المهمّ للإنسان والكاشف عن علوّ قدره، لا أن يكون عاجزًا عن القيام بالمعصية أساسًا، فهذا ليس مهمًا، وإلاّ فالحجر معصوم؛ لأنّه لا يمكنه الإتيان بالذنب، والسجّاد معصوم؛ لأنّه لا يقوم بأي فعل؛ يُلفّ أو يُطوى ثمّ يُفرش بعدها، ولا يمكنه الاعتراض على ذلك، ولا إرادة له في ذاته.
أمّا الإمام، فيمكنه القيام بالمعصية كما يمكننا نحن القيام بالمعصية، ولا اختلاف فيما بيننا من هذه الجهة أبدًا؛ نعم، الفرق هو أنّ البرهان واضح عند الإمام ولا يقوم بالمعصية، أمّا نحن، فحتّى لو اتّضح لنا ذلك البرهان، فإنّنا نقوم بالمعصية.. هذا هو الفرق.
إذا قيل للإمام بأنّ هذا العمل يوجب البعد عن الله، سيقول: سمعًا وطاعة، بما أنّه يوجب البعد فلن أقوم به، أمّا نحن، فيُقال لنا بأنّ هذا العمل يوجب البعد، فنجيب: لا تبالي.. لا عليك! فمن ذهب إلى ذلك العالم وشاهد وأتانا بالخبر؟! هذا هو الفرق بيننا وبين الإمام! فمثل الشخص يكون قد وصل إلى مقام العصمة.. نعم، لا شكّ أنّ هذا هو الحدّ الأدنى من العصمة، وأمّا العصمة العالية، فلها مراتب عالية، ولا نتحدّث عنها هنا، فهذه هي المرتبة الأدنى من العصمة في الفعل والعمل والمحرّمات. فلو كنّا نحن في هذه المرتبة، لكنّا كذلك أيضًا، فإذا رتّبنا الأثر على ما يُقال لنا، لا أن نأتي ونستمع فقط إلى دعاء أبي حمزة، ثمّ نذهب ونفعل ما يحلو لنا، بل نرتّب الأثر على ما يُقال لنا ونعمل به.. فإن كنّا كذلك، فسوف نتقدّم شيئًا فشيئًا، وإلاّ إذا أردنا أن نسلّي أنفسنا بما نسمع ويُقال ونأنس بهذه الصحبة فقط، فسوف يكون اليوم والغد وبعد سنة في مستوى واحد! وسيكون على نسق واحد.

    

ضرورة الانتباه إلى كلمات أولياء الله والعمل بها في السير والسلوك

في ذاك الوقت الذي كنّا فيه في خدمة المرحوم العلاّمة، كان يقيم المجالس، وكنت في بعض الأحيان آتي متأخّرًا إلى المجلس، فكان يعاتبني ويقول لماذا جئت متأخرًا؟ لقد تأخّرت خمس دقائق أو عشر دقائق! وفي أحد الأيّام، قال لي: يا سيّد محمد محسن، لماذا تتأخر في المجيء؟ فقلت له: أحتاج إلى أن أخرج وأمشي وكذا.. فقال لي: لقد أقمت هذه المجالس لأجلك، والحال أنّك تتأخر خمس دقائق أو عشر دقائق.. هذا الكلام عجيب جدًا! لقد كان ظنّي في ذلك الوقت بأنّ المجلس يُقام والرفقاء يأتون سواء أتيت أنا أم لا، وإذا أتيت، فسأجلس في زاوية من المجلس، فالعمدة ـ وهم الرفقاء ـ موجودون بحمد الله، يأتون ويستمعون لكلامه، فحتّى لو تأخّرت عشر دقائق فلا إشكال. قال: لقد أقمنا هذه المجالس حتى تأتي أنت وتستمع، ثمّ تأتي وتقول: لا إشكال في أن أتأخّر عشر دقائق أو خمس؟!!!
هذا الكلام دقيق جدًّا! لماذا تفصل نفسك عن هذا الجمع؟ ما نتحدّث به هو للجميع بما فيهم أنت! لا أنّك مستثنى من ذلك، [وتقول] في النهاية: المهمّ أن يكون هناك مجلس وتأتي مجموعة من الأشخاص، ويجتمعوا مع بعضهم البعض.. هل التفتم؟! لكن الآن فقط صرت أفهم كلام العلاّمة؛ يعني: عندما أتأمّل في كلّ كلمة قالها، أتعجّب وأقول: لقد قال هذه الكلمة لي! نعم ذلك بمقدار سهمي! ثم تذكّرت عبارته حيث قال: عندما كنت في خدمة المرحوم السيّد الحدّاد، كنت أعتبر كلّ كلمة يتحدّث بها أنّني أنا المعنيّ بها.. هكذا كان يقول آنذاك، وكنّا نرى ذلك منه حقيقة، في حين أنّ الآخرين كانوا يأتون ويذهبون.. كانوا يأخذون الشاي وكانوا يصلحون بعض الأمور، وكان اهتمامهم بالنافذة أو الساعة.. فكان اهتمامهم في أن يقضوا المجلس ويأنسوا به فقط، فكانوا يقولون: نحن نحضر مجلس السيد الحدّاد، ونقدّم الشاي ونجمع سجّادات الصلاة والتُرب ونرتّب المصاحف، أمّا هو، فكان همّه في الكلام الذي يخرج من فم السيد الحدّاد، بينما كان همّ أولئك في السماور[2] وإعداد الشاي وإقامة المجلس، لكن ما هي نتيجة ذلك؟ النتيجة هي أن ذاك لا يستفيد شيئًا، والذي يستفيد هو الذي ينظر ماذا تعلّمه من أستاذه اليوم؟ ما الذي استفاده من أستاذه ممّا ينفعه.
لكن ما كنّا نشاهده بوضوح ـ سواء في ذلك أنا أو غيري ـ هو أنّنا متساهلون في هذا المطلب، ولا نولي المسألة الأهمّية اللازمة؛ فبمجرّد أن نشعر بأنّنا نجلس مع بعضنا.. ففي النهاية لا بد من تمضية الأيام والليالي والإتيان بالذكر، وعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة.. فهذه الأمور هي التي تشغلنا.. لا، هذا ليس كافيًا، وإن كان جيدًا؛ فلا بدّ أن يكون للإنسان رفيق، لكن يجب أن يستفيد من هذا المجلس، وعليه أن يأخذ نصيبه من هذا المجلس ويمضي. فكما أنّنا كذلك في الأمور الدنيويّة، حيث إننا حينما نرى بأنّ هناك منفعة دنيويّة في مكان معين، نتعامل معها بحرص حتّى لا تفوتنا، وتصير من نصيب شخص آخر، بل يجب أن نفوز نحن بهذه المعاملة.

    

تراخي الإنسان في العمل وتفويت الفُرص

هذا المطلب هو الذي يبيّنه الإمام السجّاد عليه السلام ببيان لطيف وظريف، حيث يقول حضرته بأنّ السبب في تراخينا بالنسبة إلى المعصية هو أنّك يا ربّ حليم ومتسامح؛ فلو كنت تحاسبنا بمجرّد المعصية، لما فعلناها أبدًا.. فإن كانت السياط تنهال على الإنسان بمجرّد انتهائه من المعصية، لما فعلتها أبدًا!
فالله تعالى لا يبيّن لنا ذاك البرهان وتلك الحالة من القطع وحالة الظلمة والكدورة وباطن المعصية.. لا يبيّنها لنا بشكل واضح، وهذا الأمر ناشئ من حلم الباري تعالى، يعني أنّ حلم الله هو الذي يسبّب لنا الجرأة عليه ويحقّق لنا الشوق نحو المعصية، بالإضافة إلى أنّنا نعلم بأنّ الله عفوّ وغفور وهو سيسامحنا، فنحن نعلم بذلك، والواقع هو هذا؛ فعندما يرتكب الإنسان معصية، [يقول في نفسه] إن شاء الله نتوب فيما بعد، لا إشكال في ذلك، الآن نقوم بهذا العمل ثمّ نتوب، فهناك ما يكفي من الوقت، ولدينا فرصة وغير ذلك..
صحيح أنّه لدينا فرصة والله تعالى يسامح،‌ ولا بدّ أن يؤدّي الإنسان حقّ الناس، وصحيح أنّ الله تعالى يعفو ولكنّ هذه الفرصة التي فوّتها كيف تعوّضها؟! فاليوم الذي كان يوم الجمعة له نصيب خاصّ في ملفّك الشخصيّ، وهذا النصيب لن تحصل عليه، وهذا لا يعود، نعم غدًا السبت له نصيب آخر، فكن منتبهًا تمامًا واستجمع قواك حتّى لا تصدر عنك مخالفة، أما اليوم فماذا؟ سلّمنا أنّ الله عفى عنك وقال: ما صنعته يوم الجمعة من المعاصي قد عفوت عنه، ولكن ماذا نصنع بذاك النصيب؟! ذاك النصيب لا يعود، وقد فات، هذا هو المهمّ، هذا هو المهمّ.
يقال أنّ فلانًا عفى الله عنه حين موته وتجاوز عن كلّ سيئاته، جيّدٌ جدًّا، فالله قال أنّه لن يعاقبه، ولكن ماذا عن عمرك هذا كلّه؟ ماذا حصّلت منه؟ هنا تظهر الحسرة على ما فرّط الإنسان وأضاع من الفرص، وهذه لا يمكن أن يصنع لها شيء.
حسنًا، نكتفي بهذا المقدار، ونترك تتمّة المطالب لوقت آخر إن شاء الله.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.


[1] ـ سورة يوسف، صدر الآية 24.

[2] ـ إناء خاصّ لإعداد الشاي (المترجم)

 

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی