معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > أعياد و مناسبات إسلامية > عيد الغدير لعام 1436 هـ ق: ما هي رسالة الغدير إلى العالم؟

____________________________________________________

محاضرة عيد الغدير لعام 1436 هـ ق:

ما هي رسالة الغدير إلى العالم؟

 

ألقاها:

سماحة آية الله السيد محمد محسن الطهراني حفظه الله

صبيحة يوم عيد الغدير من عام 1436 هـ ق

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمّد لله ربِّ العالمين
والصلاة والسلام على سيِّدنا ونَبيِّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائِهم أجمعين

قال الله الحكيم في كتابه الكريم: الَّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ والْإِنْجيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ويَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والْأَغْلالَ الَّتي‏ كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذينَ آمَنُوا بِهِ وعَزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ واتَّبَعُوا النُّورَ الَّذي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [1]؛ صلّوا على محمّد وآل محمّد؛ اللهمّ صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّد.
يبين الله لنا في هذه الآية صفات المؤمنين الحقيقيِّين الذين آمنوا برسول الله، والذين استقاموا على إيمانهم، فيقول الله هنا بأنَّ المؤمنين هم أولئك الذين اتّبعوا النبي الذي أرسلتُه إليهم، ذلك النبي الأمّيّ الذي لم يتلقّى تعليمه في مدرسة من المدارس، والذي ذكرت اسمه في التوراة والإنجيل، وهو النبي الذي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وعن كلّ عملٍ قبيح، ذلك النبي الذي أحلّ لهم الطيبات وحرّم عليهم الخبائث، والذي أزاح عنهم الثقل والضيق وحرّرهم من الأغلال التي كانت في أعناقهم الواحد تلو الآخر؛ فهؤلاء المؤمنون الذين آمنوا بالرسول وعزّروه وأعانوه واتبعوا النور الذي أُنزل معه، هم المفلحون.

    

اختلاف الناس في تفسير رسالة الغدير وحقيقة الولاية

هذا اليوم هو يوم عيد الغدير، وهو اليوم الذي تمّ فيه تنصيب أمير المؤمنين للولاية بشكل علني؛ فما الذي نعرفه عن الولاية؟ وما الذي عرفناه عن فحوى تلك الرسالة التي وجّهت إلينا في عيد الغدير؟ لقد تمّ تفسير هذه الرسالة بتفاسير مختلفة؛ فأمّا أهل السنّة، فقد قالوا بأنَّ ما حصل في ذلك اليوم كان عبارة عن حادثة تأريخية ــ هذا إن لم يقوموا بإنكارها وما فعل البعض منهم ــ أوصى خلالها النبي الناسَ بأهل بيته، فقال لهم: أوصيكم بأهل بيتي خيراً، إن أنا رحلت عن هذه الدنيا، فهم أقربائي؛ فهذه ابنتي، وهذا صهري، وهؤلاء أسباطي؛ فوصيّة النبي وكلامه في ذلك اليوم لم تتعدَّ هذا الحدّ، ولم تتجاوز هذا المقدار.
غير أنَّ هنالك من أهل السنّة من لم ترضَ نفسه بهذا النوع من التفسير، فارتقى مرتبةً أسمى وقال: كيف يمكن لنبيٍ بهذا الخصوصيات وبهذه الفضائل والمكارم الأخلاقية [التي يعرفها منه الجميع] أن يقوم بجمع عشرات الآلاف من الناس في تلك الصحراء ليقوم بإبلاغهم ذلك الأمر؟! فهذا مما لا يمكن حتّى لرجل عادي أن يقوم به، فما بالك برسول الله؟! بل أراد رسول الله ــ بعمله ذاك ــ أن يبلّغ الأمة بضرورة الرجوع إلى هكذا رجل في أمورهم الدينية، وسؤاله عنها.
وهذا ما كان يحصل بالفعل، فقد كان الخلفاء يرجعون إلى أمير المؤمنين فيما كان يستعصي عليهم من مشاكل وشدائد الأمور والقضايا التي تتعلق بالقضاء بين الناس والتي كانوا يقضون ببعضها بغير الحق، فكان أمير المؤمنين يسعفهم في تلك المواقف؛ ولقد سُمع كثيراً كيف كان الخليفة الأول والثاني يثنون على أمير المؤمنين ويعظّمونه؛ فلم يكن لهم بدّ من ذلك، إذ لا يوجد من يتمكّن من حلّ المشاكل التي كانوا يواجهونها غيره؛ حيث كان يحصل مثل هذا الشيء في مختلف المجالات سواء الفقهية منها أو العلمية، فقد كانت الوفود التي تمثّل الأديان المختلفة تأتي من أماكن متفرّقة من العالم ليجروا مناظرات، ولم يكن من رجلٍ في الميدان يتمكن من الإجابة على أسئلتهم سوى أمير المؤمنين، وكان هذا الأمر يجري على مرأىً ومسمعٍ من جميع الناس.
فقد كان يأتي من يسأل عن خليفة رسول الله، فكانوا يدّلونه على الخليفة الأول، فيسأله عن مسائل له، فكان الخليفة الأول يعجز عن الإجابة، فيأتي أمير المؤمنين هنا لنجدته ومن دون أن يحاول أن يُثبت [أحقيته بالخلافة] أو يحاول أن يدّعي لنفسه شيئاً، بل كان يوضّح ما يلزم توضيحه، ثم يطرق برأسه إلى الأرض وينصرف إلى بيته ومن دون أن يكون له شأن بأحدٍ من الناس؛ فلا بدّ والحال هذه من أن يحظى هكذا رجل بإجلال واحترام الآخرين وتواضعهم وتذلّلهم له وخضوعهم تجاهه.
حسناً.. هذا هو أحد التفاسير الذي فسّر به القوم ما قام به رسول الله في يوم الغدير؛ وها هو هذا التفسير يُطرح اليوم من قبل البعض أيضاً؛ فهناك الكثير ممن يقول بأنَّ هدف رسول الله مما قاله في يوم الغدير هو ضرورة رجوع الناس إلى أمير المؤمنين في مسائلهم الدينية، المتمثّلة في التكاليف الشرعية المترتبة عليهم، والتعاليم الأخلاقية وتربية وإعداد النفس وتزكيتها، وفيما يخص مصيرهم الأخروي؛ وهو تفسير صحيح إلى حدّ ما؛ فيمكننا أن نقبل مثل هكذا تفسير إن لم يؤدِّ إلى إلغاء ما سواه بالطبع، بل على أنّه تبيان لجزء من الواقع، لا تمامه.
وبصورة عامّة، فلا بدّ من التعامل مع الأمور وتقديم التوضيحات الخاصة بشأنها بشكل منطقي؛ فإن طُرح أمر ما، أو فُهمت واقعة ما بشكل من الأشكال، حتّى وإن كان ذلك الفهم غير صحيح، فلا يقتضي الجوّ العلمي والمنطقي أن يُردَّ على الأمر بقسوة وبإحراج المقابل والتضيِّيق عليه، بل يجب أن يتم تقديم الإجابة العلمية والمنطقية اللازمة على ما يتم طرحه من مواضيع.
إنَّ الدين الإسلامي والمذهب الشيعي هو دين ومذهب المنطق، لا مذهب الغلظة في القول والفعل وتشنيج الأجواء، بل تعتبر تلك التصرفات تصرّفات بعيدة من المذهب وغريبة عن نهج عظماء الدين.
حسناً.. وقد فسّر البعض رسالة واقعة الغدير بلزوم انتقال الخلافة والحكومة بعد النبي إلى أمير المؤمنين، ولا شأن لهذا الأمر بالمسائل العلمية والدينية ورجوع الناس في مسائلهم الشرعية إليه، كما ولا شأن له بموضوع تربية وإعداد النفوس وتزكيتها وتكاملها وما يريد الناس معرفته فيما يخص ما يصلحهم أو يفسدهم، بل كلّ ما في الأمر هو أن تنتقل الحكومة إلى أمير المؤمنين بعد ارتحال رسول الله، وأن تبقى أوامر رسول الله ونواهيه سارية المفعول؛ فهذا هو مفاد رسالة عيد الغدير برأيهم، أي: كما أنَّ رسول الله كان هو حاكم المجتمع ورئيسه في وقته، وهو الذي كان يأمر بالقيام بعمل ما أو تركه، وهو الذي كان يرسل بالرسائل إلى الأماكن المختلفة وكان يدعو الملوك إلى متابعة طريق الحقّ، وهو الذي كان يأمر بالخروج إلى القتال أو الصلح، وبصورة عامّة فكما كان زمام أمور المسلمين ومجتمعهم بيده (وهو ما نشاهد نظيره في مجتمعات اليوم)، فستنتقل جميع هذه المسئوليات إلى أمير المؤمنين عليه السلام؛ وهذا هو المعنى الدارج والرائج والمتعارف كما نشاهده بأنفسنا.
فنحن وعندما نراجع ما حصل يوم الغدير ونسمع من رسول الله قوله في ذلك اليوم: من كنت مولاه، فهذا عليٌّ مولاه، فسيتبادر هذا المعنى إلى أذهاننا وهو: إنَّني كنت أنا الآمر الناهي، وكنت الماسك بزمام أمور المجتمع، وها أنا ذا أُسلّم هذه المسئوليات من الآن فصاعداً إلى ابن عمّي وصهري علي بن أبي طالب.
نعم، لا شكّ بأنّ البعض من الناس قد أدرك مغزى كلام رسول الله بشكل أفضل وأعمق مما أدركه الآخرون، فهم يقولون: إنَّ تنصيب أمير المؤمنين ليس تنصيباً عادياً، فهو ليس من قبيل ما نشاهده اليوم من تنصيب الوزير معاوناً له، أو تعيّين رئيس الجمهورية وزراء له؛ وذلك أنّه في مثل هذه الأمثلة، يكون الرجل المعيَّن للمنصب وحتّى الأمس لا يتعدّى كونه رجلاً عادياً يمشي في الشارع شأنه شأن أيّ أحدٍ آخر من الناس، ولربما لا يردّ عليه أحدهم السلام إن سلّم عليه، أمّا اليوم وبعد أن عُيّن في هذا المنصب الجديد، فسترى الناس تنحني أمامه بمقدار التسعين درجة وقد يركعون ويسجدون له كذلك؛ فهذا النوع من التنصيب هو تنصيب اعتباري قد يكون مبنيّاً على أسس، وقد لا يكون مبنيّاً على شيء!
أمّا في حادثة الغدير، فلم يجرِ الأمر بهذه الكيفية، بل جرى ما جرى في حادثة الغدير بناءً على ملاكات ثابتة؛ فصحيح أنَّ تنصيب أمير المؤمنين كان قد تمّ بواسطة رسول الله، غير أنَّ هذا الأمر قد جرى وفقاً لملاكٍ معيّن، وهو الملاك المتمثّل بحقيقة الارتباط مع الله؛ فكما كان رسول الله مرتبطاً بالله، فهكذا كان الأمر مع أمير المؤمنين، ولقد تمّ هذا التنصيب وفقاً لذلك الارتباط، أي أنَّ تنصيب أمير المؤمنين قد تمّ من قبل الله، ولقد كان النبي مأموراً بتبليغ ما أمره الله به، وكما جاء في الآية الشريفة: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ[2]؛ [فالآية تقول:] إنَّك مأمور من قبل الله بالقيام بهذا التبليغ، فأنت لم تأتِ به من تلقاء نفسك، بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك، فالله هو الذي قال لك: عليك القيام بهذا العمل، وهو الذي أمرك بتبليغ هذه الرسالة إلى الناس.

    

الإيمان بالولاية يساوي الإيمان بالرسالة

هذه مجموعة من التفاسير المختلفة التي فُسّرت بها هذه الحادثة؛ ولكن ما هي حقيقة الأمر؟ وما الذي كان يريد رسول الله إبلاغه للناس في واقع الحال؟ وكم هي من قضية مهمة تلك القضية التي يصل فيها الحزم إلى الحدّ الذي يجعل الله يهدّد رسوله بإبطال كافة أعماله التي قام بها خلال ثلاثة وعشرين سنة إن لم يقم بذلك العمل؟ نعم فالآية تصرّح بذلك وتقول: ستصبح كافة الأعمال التي قمت بها خلال الثلاثة والعشرين سنة وكافّة المتاعب والمشقّات التي لاقيتها فيها هباءً منثوراً وستُمحى من الوجود؛ [فالآية تقول:] وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته، أيّ كأنَّك لم تقمّ بأي عمل أبداً! فما هو هذا الموضوع الذي يخاطب الله رسوله بشأنه بمثل هذا الخطاب ويأمره بتنفيذه باستعمال مثل هذه العبارات الغليظة والشديدة؟
إنَّ أهل السنّة وإخواننا من عامّة المسلمين لم يلتزموا بمضمون هذه الآية الشريفة، فهم لم يتخلّوا عن عنادهم وإغماض أعينهم عن رؤية الحق ــ وهو مما اعترف به الكثير منهم ــ فلم يقبلوا ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، وقاموا بحمل ما حصل في يوم الغدير على أمورٍ أخرى من قبيل توصية الرسول الناس بأهل بيته، وهم يقولون: ها نحن ملتزمون بما أوصى به النبي، فنحن نحبّ أهل البيت ونحترمهم ونبجّلهم، وهم صادقون فيما يقولون؛ فغير المعاندين منهم يحترمون أهل بيت النبي، فلا يوجد من النواصب والجاحدين للحقّ والمعادين لأهل البيت والمعاندين لهم إلاّ القليل منهم، فنرى الآخرين منهم يسمّون أبناءهم بأسماء الأئمة، ونراهم يقيمون مجالس الأفراح بمناسبة ولادة الأئمة في الكثير من البلدان الإسلامية والعربية منها، ويقومون بتوزيع الحلوى في هذه المناسبات، وهم يتوسلون بأهل البيت وينذرون لهم النذور.
فكلّ هذا صحيح وهذا الأمر متعارف ورائج بينهم؛ ولكن كلامنا معهم في هذا وهو: أنَّهم لم يقبلوا ولاية أمير المؤمنين وما أراد رسول الله إبلاغه لهم؛ فهم وبعدم التزامهم بما أوصى به رسول الله بتلك الكلمات الغلاظ الشداد، يكونون قد رفضوا رسالة النبي بأكملها؛ لماذا؟ لأنَّ إبلاغ هذه القضية للناس تكون مساوية لتبليغ الرسول لرسالته، وعدم إبلاغها يساوي عدم تبليغه لها؛ [فالله يقول لنبيه هنا:] إن أبلغت الناس هذا النداء، فتكون قد أنجزت مهمتك خلال الثلاثة وعشرين سنة الماضية، وإلاّ فستذهب كل جهودك خلال تلك الفترة هباءً منثوراً.
ومن هنا، فمن لم يقبل حادثة يوم الغدير على حقيقتها وعلى نفس المبنى والهدف الذي أمر الله رسوله بتبليغه، فهو بمثابة من لم يؤمن بالنبي نفسه، وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى أية محاسبة للتحقّق من صحته، كما أنَّه ليس بتلك الأحجية التي تحتاج إلى الاستعانة بالرمل والاسطرلاب لحلّها؛ فلقد أبلغ رسول الله الناس بأنَّ ولاية أمير المؤمنين معادلة لرسالته.

    

مناقشة القائلين أن حقيقة الولاية هي الحكم والزعامة السياسية

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل إنَّ المقصود من حادثة الغدير هو موضوع تولي زمام أمر الحكومة فقط؟ أي أنَّ ما أراد النبي صلّى الله عليه وآله أن يقوله هو: إنَّك الخليفة من بعدي يا علي، فعليك أن تتولّى مقاليد الحكومة والأمر والنهي من بعدي وأن تفعل كذا وكذا؟! إن كان الأمر كذلك، فما المانع من أن يتولّى رجل آخر من الصالحين هذا الأمر؟ فنحن لا نقول هنا بجواز تولّي هذا الأمر من قبل أحد المعاندين من مثل أولئك الذين فعلوا ما فعلوا من أجل أن يستتبّ لهم أمر الخلافة، والذين وصل بهم الحدّ إلى تقطيع جسد بنت رسول الله بين الباب والجدار! بل نقول ما المانع من أن يتولاّه أحد الصحابة كسعد بن عبادة على سبيل المثال، فيتولّى زمام الأمور وهو ممن يحترم أمير المؤمنين، بل ويُقدّمه لصلاة الجماعة ويقتدي به، ويأخذ أمور دينه منه، فيرجع إليه في المسائل الشرعية من قبيل هل إنَّ المتنجِّس يُنجِّس أم لا؟ أو إن شكّ أحدهم في أمر ما حين الإحرام، فهل يتسبّب ذلك الشك في خلل في إحرامه؟ وما هو حكم المسألة؟ وكم هو مقدار الكفارة المترتبة عليه؟ وما شابه ذلك من قضايا.
ألا نفعل مثل هذا الشيء في الوقت الحاضر؟ فها هو كلّ واحد من الناس يقتني رسالة أحد مراجع التقليد ويضعها على الرّف ليرجع إليها من أجل معرفة حكم المسائل التي يواجهها في حياته؛ فهل أصبح المرجع حاكماً والحال هذه؟! فلا يمكن أن يكون هنالك عشرة أو مائة من الحكّام، بل يوجد واحد منهم ولا غير؛ فلكلّ واحد من الناس مرجع يقلّده ويرجع إليه في أموره؛ وها نحن نرى أحدهم يرجّح أحد المراجع على غيره، بينما يعتقد الآخر بأعلميّة غيره من المراجع ومن دون أن يكون هنالك أيّ نزاع بين الناس؛ فقد يكون هنالك شريكان [يشتركان في مشروع تجاريٍّ واحدٍ] وكلّ واحد منهما يقلّد مرجعاً غير الذي يقلّده الآخر، وهو يعتقد بأعلميّة المرجع الذي يقلّده، ومع هذا فنراهم يتوافقان فيما بينهما على ما قد يحصل من خلاف، وذلك لأنَّهما إن لم يتوافقا، فسيتسبّب ذلك في خسارتهما معاً، فلا بدّ لهما من أن يضعا موضع الخلاف في تلك المواضيع الحسّاسة جانباً؛ وأيّة مسألة هي أشدّ حساسيّة من هذه المسألة، أتلاحظون؟
وهذا ممّا كان يحصل نظير له في ذلك الزمان؛ فما المانع من أن يتولّى زمام الحكم أحد المهاجرين أو الأنصار؛ فعلينا أن نتفحّص الأمر لنرى ما هو العامل الذي جعل الناس تفسّر [رسالة عيد الغدير] بتفاسير مختلفة؟ وما الذي أوصلهم إلى هذه الاستنتاجات؟ فهذا مما يجب التحقيق بشأنه؛ فهل تمّ تحليل حادثة الغدير بالشكل الذي يتناسب مع أهميتها؟ وما هي الرسالة التي بعثت بها إلى الآخرين؟
فلو أنَّنا أخذنا زماننا الحاضر بنظر الاعتبار، فلماذا نذهب بعيداً؟ فهل يوجد إمام الزمان ــ أرواحنا له الفداء ــ الآن بيننا أم لا؟ نعم إنَّه موجود بيننا؛ فهل نراه؟ لا، إنَّنا لا نراه؛ فهل نكون قد أصبحنا كفّاراً أو من المرتدّين أو من عديمي الدين بعدم تمكّننا من رؤيته؟ لا، وذلك لعدم امتلاكنا الأهلية لحد الآن لرؤيته، وقد أخفاه الله عن أنظارنا إلى أن يحين الوقت الملائم لذلك، حيث سيظهر وسيعمل ما يتناسب مع شأن إمامته وولايته.
فما دام الأمر كذلك، فلنفرض الآن بأنَّ وضع أمير المؤمنين في ذلك الزمان كان كوضع إمام الزمان في وقتنا الحاضر، بل إنَّ مقام أمير المؤمنين هو أعلى من مقام إمام الزمان، فهو أبو إمام الزمان؛ فليجلس أمير المؤمنين في بيته وكما هو الحال مع إمام الزمان في زمان الغيبة؛ حيث يستطيع الناس الاستمرار بحياتهم العادية، فيقومون بتأدية صلاتهم وصيامهم وبدفع خمسهم وزكاتهم وتأدية حجّهم وبقية أعمالهم، ألا يحصل مثل هذا الشيء في الوقت الحاضر؟ فما الذي كان سيحصل لو سارت الأمور على نفس هذا المنوال [بعد ارتحال] رسول الله؟! فكان بإمكان رسول الله أن يأمر عليّاً بالجلوس في بيته، ولا يقوم بإتلاف وقته بالأمر والنهي والحرب والصلح وإرسال الرسائل إلى هذا وذاك، بل يجلس في بيته لتربية وإعداد الناس، كما كان الإمام الباقر أو الإمام الصادق عليما السلام يفعلان؟
فهل تولّى الإمام الباقر عليه السلام مقاليد السلطة؟ وهل كان الإمام الصادق عليه السلام قد تولاّها؟ ففي ظلّ أية حكومة كانا يعيشان؟ ألم يكونا يعيشان في حكومة الكفر؟ فهل كانت حكومة المنصور الدوانيقي حكومة إسلامية عادلة؟! وهل كانت حكومة هارون الرشيد أو المأمون حكومة إسلامية؟! أم أنَّ أولئك الحكّام قد كانوا من أئمة الكفر والظلم؟ وفي نفس هذا الوقت فقد كان الأئمة يعيشون بينهم. ماذا عن الإمام الرضا عليه السلام؟ تحت ظلِّ أية حكومة كان الإمام الرضا يعيش؟ ولقد أمضى الإمام موسى بن جعفر السنوات الثمانية الأخيرة من عمره في سجن هؤلاء الحكّام، وكان يُنقل من سجنٍ إلى سجن؛ لقد قال البعض بأنَّ الفترة التي قضّاها الإمام في السجن كانت اثنا عشر عاماً، وقال آخرون بأقلّ من ذلك، وأقلّ ما قيل في هذا المجال هو: إنَّها كانت ثمانية سنوات، وإن قال البعض بأنَّها كانت ستة سنوات.
فهل يعتبر من ألقى بموسى بن جعفر في السجن حاكماً إسلامياً؟ فهل يمكن لكم أن تسمّوه بحاكم إسلامي؟ وإن كان يصلّي ويُقيم الجمعة ويعتلي المنبر [ويخطب بالناس]، ثمّ يأتي المدينة ويجلس أمام قبر النبي ويضع يده عليه ويقول: يا بن عمّ؛ فلقد كانوا يعتبرون أنفسهم من أبناء عمومة النبي! ومع كل هذا فنراه يقوم بإلقاء موسى بن جعفر في السجن، فيسجنه في البصرة في بادئ الأمر، ثم ينقله من سجنٍ إلى سجنٍ حتّى استقر به المطاف في سجنه الأخير الذي عانى فيه ما عانى إلى الدرجة التي جعلته يطلب من الله أن يتوفّاه في ذلك السجن!! أفيعتبر أولئك من الحكّام المسلمين؟!
وهكذا يكون عليه الوضع هذه الأيام؛ فما المشكلة المتولدة من استمرار نفس ذلك الحال في الوقت الحاضر؟ فها نحن نصلّي ونصوم ونحجّ ونقوم بتأدية بقية أعمالنا؛ فمع كون إمام الزمان في الغيبة، فكلّ واحد من الناس يعمل بموجب تكليفه ومن دون حصول أيّة مشكلة، فها هو أحدهم يرى المرجع الفلاني هو الأعلم فيقوم بتقليده، بينما يرى آخر بأنَّ فلاناً من المراجع هو الأعلم فيقلّده؛ فما الذي دعا رسول الله لأن يقوم بتبليغ تلك الرسالة التي تلقاها من ربّه ويقول لهم: يا أيَّها الناس، إنَّ الأمر في غاية الجدية، فمن أنكره، فسيكون قد أنكر رسالتي.
حسناً ... إنّ هذا هو عين الوضع الذي نعيشه الآن، فهل يوجد إمام الزمان بيننا الآن حتّى نقول: اليوم عيد الغدير وعلينا مبايعته؟ إنَّ إمام الزمان لا يتواجد بيننا اليوم وهو غائب عن الأنظار؛ فماذا عن أعمالنا التي نقوم بها؟ فهل هي باطلة بأجمعها؟ وهل سنكون كلّنا من الكفّار ويكون أمرنا قد حسم، ولا نستطيع أن نجني من أعمارنا أيّة ثمرة؟! فإن كان الأمر كذلك، فما هو تقصيرنا في ذلك؟!
عندما كان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه مشغولاً بتأليف كتابه المعروف في تلك الأيام السابقة، تكلّمت معه يوماً بشان موضوع وجوب صلاة الجمعة، ولقد كان رأيي ومنذ ذلك الحين بالوجوب العيني التعيِّيني لصلاة الجمعة، وبكونها غير مختصّة بزمان النبي، أو زمان الأئمة أو بإقامة الحكومة الإسلامية؛ فيجب إقامتها إن توفرت شروطها، حتّى مع وجود الحكّام والسلاطين الظلمة وفي أيّ مكان من العالم.
فلو كان هنالك جمع من المسلمين يعيشون في أستراليا هذه الأيام، فعليهم إقامة صلاة الجمعة، إذ لا يُشترط إقامتها في البلدان الإسلامية فقط، أو حيث يكون الحاكم حاكماً مسلماً والحكومة القائمة حكومة إسلامية؛ كلاّ، لا يشترط ذلك، بل إنَّ وجوب صلاة الجمعة هو وجوب عيني تعيِّيني إن توفرت شروطها اللازمة، وذلك بأن يكون عدد المصلين سبعة أفراد، بل وحتّى إن بلغ العدد خمسة أفراد فبإمكانهم إقامة الصلاة إن وجد بينهم من يستطيع أداء الخطبة وتقديم النصح والتحدّث عن أحد المواضيع الأخلاقية؛ فيتوجّب عليهم إقامة صلاة الجمعة بدلاً عن صلاة الظهر في مثل هذه الحالة.
فهذا ما كنت أراه في عهد المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه؛ وأتذكر بأنَّني كنت قد تكلّمت معه بشأن الموضوع ــ لقد شرحت هذا الموضوع في أحد هوامشي على رسالة وجوب صلاة الجمعة ويستطيع الإخوة الرجوع إليه ــ وقلت: ما هو ذنب المسلمين الذين يولدون ويكبرون في هذا الزمان، في أنَّهم قد ولدوا في هذا الزمان ولم يولدوا في عهد الأئمة؟ فقد يولد أحدهم في عهد الإمام الرضا، وهو يعيش في المدينة إلى جنب الإمام ويستطيع الاتصال بالإمام وسؤاله عمّا يريد، بينما يولد الآخر بعد ألف وأربعمائة عام من ذلك، فأيّ تقصير له في ذلك؟ ولماذا يُحرم مثل هؤلاء الناس من تلك المواهب التي كان يتمتّع بها المسلمون الذين كانوا يعيشون في عهد الأئمة عليهم السلام؟ هذا في الوقت الذي لا دخل للإنسان في الزمان الذي يُولد فيه؛ فجميع هذه الأمور خاضعة لتقدير الله؛ فلماذا لا نستطيع نيل تلك العناية التي شملت حال أصحاب الأئمة عليهم السلام ومن كان يعيش في زمانهم؟ هذا هو الأمر الذي يجب أن نعرف حقيقته.
فلو فرضنا بأنَّنا قد توجّهنا بهذا السؤال إلى رسول الله وقلنا له: لو أنَّكم قد عشتم في زماننا هذا، وفي نفس الظروف التي نعيشها، وبالشكل الذي لا تستطيعون فيه عمل شيء غير الاهتمام بنفسك لا أكثر، فكيف كنتم ستتعاملون مع مسألة الولاية ومع القضية التي طرحتموها في عيد الغدير؟
وهذا هو السؤال الذي يشمل حالنا جميعاً؛ ألسنا نعيش نفس الظروف التي كان يعيشها الناس في زمان ما بعد النبي؟ غير أنَّ الفرق الوحيد بين الزمانين هو: أنَّ أمير المؤمنين قد أصبح جليس بيته بذلك الشكل الذي واجهه، حيث ألقوا بالحبل حول عنقه وجرّوه إلى المسجد من أجل البيعة ــ الأمر الذي لم يحصل مثله هذه الأيام والحمد لله ــ ثمّ أخذ أمير المؤمنين يطرق على المهاجرين والأنصار أبوابهم باباً باباً ويذهب إلى هذا وذاك ويقول له: ألم تكن حاضراً في يوم الغدير؟ ألم تسمع من رسول الله ماذا قال في ذلك اليوم؟ فكانوا يجيبونه: لقد حصل ما حصل يا عليّ، ولا نريد أن نجلب لنا المشاكل، أفلا ترى أيّ نوع من الناس قد أحاط بهم، وها هم قد شهروا سيوفهم؟ فأنت ترى كلّ ذلك بنفسك يا عليّ؟!
فهل يختلف زماننا هذا عن ذلك الزمان؟ إنَّ ما حصل في ذلك الزمان هو: أنَّ أمير المؤمنين قد اعتزل الناس في بيته، وانحازت الناس إلى الطرف المقابل، حيث امتلأت صفوف صلاة الجماعة؛ نعم، لقد كانت الصلاة تقام جماعةً، ولكن من كان يؤمُّ تلك الجماعة؟ لقد كان أبو بكرٍ هو من يؤمّ الجماعة؟ فتبدّلت تلك الصلاة التي كانت تُقام بإمامة رسول الله، بصلاة تُؤدّى بإمامة أبي بكرٍ؛ ولقد أخذ أمير المؤمنين بعد مدة ــ ولأمور ومصالح أخرى ــ بحضور مسجد المدينة والاقتداء بهم؛ فلم يترك أمير المؤمنين جماعة المسلمين، بل حضر المسجد واقتدى بهم.
إنَّنا لا شأن لنا بأولئك الذين تخلّوا عن أمير المؤمنين وذهبوا إلى حال سبيلهم واتّبعوا من كان يجب أن يتّبعوه، ولكن ماذا عن أولئك الذين تابعوه، فهل سيشملهم ما قاله رسول الله؟ فالسلطة ليست بيد أمير المؤمنين في ذلك الوقت وهو لا يمتلك الولاية [بحسب تفسيركم للولاية]؛ فهل يعني هذا بأنَّ مصير هذه المجموعة من الناس سيكون الإهمال، وسوف لن يكون لهم أي نصيب وسواء عليهم أتردّدوا على بيت أمير المؤمنين، أم لم يتردّدوا عليه؟ فهل كان الأمر بهذا الشكل فعلاً؟ أم أنَّه كان بشكل آخر؟
إن كان أمير المؤمنين قد أُجبر على أن يكون جليس البيت في ذلك الوقت، فإنَّما كان جسده هو الذي حُبس في البيت، أمّا روحه ونفسه وولايته وباطنه ومشيئته وقدرته ورعايته لحال الآخرين، وكونه هو واسطة الفيض بين الله وخلقه، وكونه هو المربّي والمزكّي للنفوس، وكونه المطّلع على نفوس جميع العباد وهو القادر على التشخيص الصحيح والدقيق لما يصلحها أو يفسدها، فكلّ ذلك ثابت ومحفوظ في محلّه.

    

مناقشة القائلين بأنّ حقيقة الولاية هي بيان الأحكام الشرعية فقط

عندما قال رسول الله في يوم الغدير: من كنت مولاه، فهذا عليّ مولاه، فهو قد عني بقوله: يا أيّها الناس، ما الذي عرفتموه عنِّي خلال هذه الثلاثة والعشرين عاماً؟ فهل تقتصر رسالتي على توضيح بعض المسائل لكم؟ فهل هذه هي رسالتي حقّاً؟ إن كان الأمر كذلك، فكان بإمكان أي رجل يهوديّ أو نصرانيّ من أن يطّلع على عدد من الكتب ويدرس لعدة سنوات، ثمّ يأتي ويطرح عليكم نفس ما طرحته أنا عليكم!
أنا أعرف الكثير بالاسم والعلامات من أولئك الذين لا يؤمنون بالله أو بالنبي أو الإسلام، وهم من عملاء الأجانب؛ حيث انتموا إلى المدارس العلمية الدينية وأصبحوا من الطراز الأول من علماء الدين؛ ثمّ عُلم فيما بعد كيف أنَّهم كانوا عملاء تابعين لبلد ما! وكيف كانوا أدوات بيد ذلك البلد! وبمن كانوا يرتبطون! فمن يستطيع معرفة باطن ذلك الذي يضع العمامة على رأسه؟ نعم، من يستطيع معرفة ذلك؟ فقد كان الآخرون يرجعون إليهم في الاستفسار عمّا كان يستعصي عليهم من مسائل؛ وكانت الدروس التي يُلقونها من النادر أن يوجد مثلها من حيث العمق والشمولية؛ لا أذكر اسماً لأحدهم هنا، فأنا لا أريد الخوض في هذا المجال؛ فكيف للآخرين أن يعرفوا حقيقتهم؟ [لقد بقيت حقيقة هؤلاء الناس خافية على الآخرين] حتّى حصلت حادثةٌ مّا جعلت الناس يتعجّبون عندما عرفوا بمَ كانوا يرتبطون.
إذن لم يأت رسول الله من أجل طرح بعض المواضيع على الناس فقط؛ [فلسان حال النبي يقول:] هل عرفتم منِّي خلال هذه الثلاثة والعشرين سنة سوى كوني حاكماً عليكم؟ فهنالك الكثير ممن يقوم بمثل هذا الأمر، بل وتجد الناس راضية عن طريق إدارتهم للبلاد وهم يمجّدونهم؛ نعم يوجد مثل هذا الشيء في الكثير من دول العالم، ولو سُئل مواطنوهم عنهم، لقالوا لا يمكن إدارة البلاد بأحسن مما يقوم به هؤلاء الحكّام؛ والحقّ ما يقولون.
هنالك بعض الدول تكون هيئاتهم القضائية تجلس منتظرة عسى أن يأتي رجل ليقيم دعوى قضائية على آخر! نعم، يوجد مثل هذا الشيء، وأنا على علم بعدم وجود مشتكٍ يراجع محاكمهم؛ فالمواطنون مشغولون كلّ بعمله، وهم لا يتجاوزون القوانين السارية، لهذا لا يمكن أن يحصل خلافٌ بينهم؛ على أنَّ المواطنين يعلمون جيداً بأنَّهم سيواجهون قانوناً صارماً إن تخطّوا الحدود المرسومة لهم؛ فلا يتجاوز القانون إلاّ من كان في عقله مرض؛ وإلاّ فإنّ الذي يعرف عواقب المخالفة وخطورتها، لا يمكن أن يرتكب ذلك؛ ولهذا نرى كيف تجري الأمور في تلك البلدان.
فلو أراد الله أن يقول لهؤلاء الناس: سأرسل لكم نبيّاً يكون له حقّ الأمر والنهي عليكم، لقالوا: لدينا مثل هذا الشيء بالفعل، فهل تستطيع أن تجلب لنا حكومة تكون أفضل من حكومتنا الحالية؟ فالناس ملتزمة بالقوانين وهم يعملون بموجبها، وإن واجه الناسَ أمرٌ جديدٌ، فسيتمّ تشريع قانون خاصّ يتمّ إلحاقه بالقانون الأساسي، فها هي حياتهم تجري بصورة طبيعية ولم يحصل ما ينغّصها عليهم.
فما هو ذلك الموضوع الذي أراد رسول الله طرحه على الناس عندما قال لهم: ما الذي جنيتموه خلال هذه الثلاثة والعشرين عاماً؟ وما هو ذلك الأمر الذي أردت طرحه عليكم، والذي أدركه عدد قليل منكم، ولم يدركه أغلبكم؟ نعم ماذا كان ذلك الأمر؟ إنَّه موضوع التربية وإعداد النفوس؛ فأنا لم آت خلال تلك الثلاثة والعشرين سنة من أجل أن أعلمكم الأحكام الشرعية، فهذا مما يمكن لغيري أن يفعله أيضاً؛ ولم آتِ من أجل تولّي زمام السلطة والحكومة عليكم! فها هي الكثير من الحكومات [العادلة] موجودة في العالم هذا اليوم، وها هم مواطنوهم راضون عنهم.
لقد حكم عمر بن عبد العزيز بالشكل الذي كان الناس يلطمون رؤوسهم عند تشيعهم لجنازته؛ فعلى الرغم من كون عمر بن عبد العزيز غاصبًا للولاية والخلافة أيضاً، غير أنَّنا إن قارناه ببقيّة حكّام بني أميّة وبني مروان وبني العباس، ورأينا [كيفية عدله] في حكمه بين الناس، الأمر الذي جعل الدموع تنهمر من أعين الناس عند تشيِّيعهم لجنازته انهمار مطر الربيع ، [ولسان حالهم يقول:] ألف رحمة عليه مقابل أولئك الحكام الظالمين، كانوا يبكون عليه، وتهطل دموعهم كما يهطل المطر أثناء تشييعهم لجنازته، مع أنّ عمر بن عبد العزيز هذا كان غاصباً للخلافة والولاية. هل التفتّم؟
لقد جاء في التاريخ أفرادٌ كثيرون كانوا عادلين في حكمهم، وكانوا محلاًّ لرضا الناس، وكان الناس يحزنون لذهابهم ويبكون لفقدهم؛ وذلك أنّ هذا الأمر يكفي فيه أن يكون هذا الحاكم صادقاً إلى حدٍّ ما، وعنده مقدار من الضمير والوجدان، والعدالة والفهم، وأمّا باقي الأمور فيسهل تدبيرها، فهذا ما يريده الناس لا أكثر، يريدون إحقاق الحقوق، وإقامة العدل ورفع الظلم، ولا علاقة لهم بأنّ هذا الحاكم هل يقيم الصلاة أم لا ، ولا يهتمّون بمحافظته على أداء صلاة الليل، فلسان حالهم يقول: هذا لا علاقة لي به، وإنّما الذي يهمّني هو المحافظة على الحدود، بحيث لا يتعدّى أحد على حدود الآخر وحقوقه، فهذا كافٍ.. نحن نريد أن يلتزم الجميع حتّى أنت أيّها الحاكم بالقانون.. هذا ما نريده لا أكثر.

    

حقيقة الولاية هي الهداية وتربية النفوس وسوق الإنسان إلى كماله

إنّ ما كان يعمل من أجله النبيّ صلّى الله عليه وآله خلال هذه الثلاثة والعشرين سنة، والأمر الذي من أجله أرسل الله نبيّه هو عبارة عن مسألة تربية النفوس وتزكيتها، والأخذ بيد الأفراد إلى آخر مراتب الكمال! هذه كانت رسالة النبي خلال الثلاثة والعشرين سنة، فالنبي لم يأتِ ليقول للناس: افعلوا كذا، ثم يتنحّى جانباً ويتركهم وشأنهم، بل كان النبي يأمر الأفراد بأداء التكليف، ثمّ كان يسألهم أن: هل أدّيتم هذا العمل أم لا؟ وهل عملتم بالدستور الذي أعطيتكم إيّاه أم لا؟ وهل ذهبتم وأدّيتم ما أمرتكم به بخصوص القضيّة الفلانيّة أم لا؟
هذه كانت رسالة النبيّ صلّى الله عليه وآله، وهذا كان دوره، فالنبي بواسطة إشرافه الباطني، والارتباط الواقعي والحقيقي بينه وبين الله سبحانه كان يوصل النفوس بواسطة هذه الأوامر والأعمال إلى مراتب الكمال والفعلية.. هذا كان دوره وعمله ووظيفته. نعم، ينضوي تحت هذا الدور الأساسي الحكومة والأمر والنهي ، ومسائل الحرب والسلم والقتال والمواجهة... جميع هذه الأمور وأمثالها تدور حول ذلك المحور الأساسي وتندرج تحته. وأداء هذا الدور بهذا النحو لا يمكن أن يقوم به إلاّ شخصٌ قلبه متّصل بعالم الملكوت، ويتلقّى الإلهام من عالم الملكوت، وأمّا غيره فلا يقدر على ذلك.
إنّ هذا النحو من الإجراء وأداء هذا الدور لا يمكن أن يقوم به سوى رسول الله صلّى الله عليه وآله، وذلك الشخص الذي هو بهذا الشكل وله تلك الخصوصيّات، لا أيّ شخصٍ ينصبه النبي، فالنبي قد نصب أفراداً كثيرين لقيادة الجيش والسرايا، وكان المسلمون يسألونه أن: يا رسول الله، إلى أيّ حدٍّ يجب أن نطيع هذا القائد الذي نصبته؟ فكان يجيبهم: أطيعوه ما دام أمره لا يخالف أمر الله تعالى وأحكامه، وإلاّ إن خالف حكم الله فلا طاعة له، هذا أمر رسول الله لهم بعينه. ولكنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله لم يقل مثل ذلك بحقّ أمير المؤمنين عليه السلام، فهو لم يقل: أيّها الناس، اتّبعوا علياً طالما لم يكن ذلك مخالفاً لمرضاة الله عزّ وجلّ، وأطيعوه طالما لم يعصِ الله! كلاّ، لم يقل ذلك بل قال: "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار"، يعني أنّ كلّ عمل يقوم به عليّ طوال حياته، وكل كلام يقوله، وكل قيام له وكلّ قعود وكلّ فكرٍ وكل سكوت وكل حديث، وكل حالٍ من أحواله حقٌّ ويجب عليكم أن تتبعوه فيه، فإذا شهر سيفه، فاشهروا سيوفكم، وإن أغمد سيفه، فليس لكم أن تعترضوا عليه قائلين: لماذا أغمدت سيفك ولم تقاتل فلاناً؟ لماذا قتلت فلاناً ولم تقتل فلاناً؟ لا ينبغي أن نسأل علياً بـ "لماذا " !
لا يصحّ لنا أن نسأله: لماذا لم تقتل عمرو بن العاص في حرب صفّين، فتحسم بذلك الحرب لصالحك؟! وعندما استولى جيش معاوية على شريعة الماء، ثمّ استطعتَ أن تدفعهم عنها وتسيطر عليها، لماذا لم تعاملهم بالمثل وتقطع عنهم الماء؟! هل التفتّم ؟! فالأمر ليس سهلاً دائماً! فاتّباع عليّ لا يكون بعمل الحلوى وتناولها فقط! كلاّ ، بل في تلك الظروف الحساسة، وفي ذلك الموضع المصيري، هناك يجب أن نتّبع عليّاً ونطيع أمره، وأمّا الجلوس في البيت وادّعاء مشايعة علي فليس بالأمر الصعب! فالالتزام بالصلاة والصيام والحج ليس صعباً، ويمكننا أن نفعله دون مشقّة كبيرة، ولكن المهمّ هو أن نطيع عليّاً في تلك المواقف الصعبة، ونفعل ما يأمرنا به دون زيادة ولا نقصان.
إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد جاء في هذه السنوات الثلاثة والعشرين لأجل هذا الأمر.. لكي يقول لنا: إنّ الله أمرني أن أخرجكم من [التعلّق] بالعلل والأسباب الطبيعية، وأن أصحّح نظرتكم تجاه هذه العلل والأسباب الطبيعيّة، وأن أخرج نفسكم من تلك الأهواء والأميال المانعة لها من التكامل والترقّي، وأن أغيّر نظرتكم للأمور، وأبدّل تمايلاتكم، وأن آخذ بنفوسكم من عالم الحيوانية إلى عالم الإنسانيّة، فهذه مسؤوليتي وهذا دوري ووظيفتي، فمن منكم يتقدّم ويمضي في هذا الطريق معي؟

    

الفرق بين الحكومات العادلة الدنيوية وحكومة رسول الله صلّى الله عليه و آله

وهذا ما تشير إليه الآية الشريفة التي تلوناها في مطلع كلامنا، حيث تقول إنّ المؤمنين هم الذين يتّبعون هذا النبي الذي له هذه المواصفات، ومن ضمن الأمور التي ذكرتها أنّه {يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والْأَغْلالَ الَّتي کانَتْ عَلَيْهِمْ } ، فالنبيّ يأتي ليخلّصنا من هذه الأغلال التي كبّلنا أنفسنا بها، هذا هو دور النبيّ، فهل تستطيع الحكومات العادية الموجودة في الدنيا أن تفعل ذلك؟! حتّى تلك الحكومات التي تفتخر بأنّها حكومات عادلة، والناس يمدحونها، أيّ واحدة منها تتحمّل مثل هذه المسؤولية، وتؤدّي هذا الدور؟! إنّ هذه الحكومات لا علاقة لها إذا كان هذا الشخص يصلّي في بيته أم لا، وهل يرتكب العمل الخاطئ الفلاني في بيته أم لا، لا علاقة لها بهذا، بل هي تقول: المهمّ ألاّ ترتكب هذا الخطأ في الشارع، ووظيفتي أنا أن أمنعك من ارتكاب الأعمال الخاطئة التي يرفضها المجتمع في الملأ وأمام الناس، وأمّا لو كان هذا العمل يعتبر حقّاً له مع أنّه خطأ فأنا (الحكومة) لا أتدخّل ولا أمنع منه حتّى لو ارتكب ذلك أمام الناس!
و من هذا القبيل تلك المظاهرات التي تحصل في الكثير من هذه الدول.. تلك المظاهرات المخالفة للعفّة، والمليئة بالمفاسد، وتجد أنّ الحكومة تعتبر هذا من الحقوق الأولية للناس، ولذا لا تتدخّل ولا تمنع منها، وتقول: لا بأس، دعهم يتظاهرون كما يحلو لهم، طالما أنّهم لا يتعرّضون لأحد، ولا يسرقون ولا يخرّبون ولا يحرقون المحلاّت والسيارات، بل هم يقولون: هذا حقّنا ونحن نريد أن نبيّن حقّنا بهذه الطريقة؛ فلا علاقة لأحد بهم! ولذا يسمحون لهم أن يخرجوا بهذه الطريقة أمام الناس.. أمام الطفل الصغير والشيخ الكبير. يقولون: هذا لا يعنينا ، فهم لم يتجاوزوا الخطوط الحمراء الخاصّة بنا، إذ هذه الأمور لا تمثّل خطوطاً حمراء عندنا، بل خطوطنا الحمراء هي التعدّي على الآخرين، فإذا حاول أحدهم التعدّي على حقوق الآخرين، فإنّ الشرطة تمنعه، ولكن لا علاقة لهم به هو نفسه ماذا يفعل بنفسه، فله أن يفعل بنفسه ما يشاء ولا علاقة لنا به، إن شاء أن يعدم نفسه فليفعل، ونحن إذا علمنا أنّه انتحر ستأتي الشرطة وتفتح باب بيته وتأخذه ليدفن في المقبرة، هذا هو دورنا لا أكثر.
ولكنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله لا يقول ذلك، بل يقول: ليس لك أن تقتل نفسك، وإن فعلت ذلك، فإنّ الله سيعقبك يوم القيامة بشدّة، فنحن نهتمّ بك أنت نفسك، ونتدخّل بذلك، كما أنّنا نتدخّل بالمسائل المتعلّقة بزوجتك وعيالك، ونتدخّل بعلاقاتك الاجتماعية، وبكلامك، وبعملك، وبطريقة تفكيك أيضاً! فمن مِن هذه الحكومات يقوم بذلك، بأن تقول: لا يسمح لك أن تفكّر تفكيراً خاطئاً تجاه رفيقك، فإن فعلت فسوف يعاقبك الله؟! كلاّ، لا أحد منهم يقول ذلك، بل يقولون: فكّر كيفما شئت، بل يسمح لك أن تتكلّم وتقول ما تشاء، طالما أنّك لا تسبّ أحداً ولا تشتمه (لأن ذلك يعدّ من حقوق الآخرين) ، فطالما أنّك لا تفعل ذلك فقل كلّ ما يحلو لك، تعال واكتب كلاماً ضد الله وضدّ السيد المسيح عليه السلام في الجريدة، فلن يمنعك أحدٌ ولك الحريّة في فعل ذلك، فأنت حتّى الآن داخل في حدود الحريّة المسموحة.
إنّما المهم عندهم ألا يكون هناك تعرّضٌ جسديٌّ على الآخرين، فإن التزمتَ بذلك، فافعل ما شئت!
هذا هو حال الحكومات التي يعتبرها الناس عادلة، ويرضونها عنها، وأمّا النبيّ فهو يقول: إنّ مثل هذه الحكومة تمثّل واحداً بالألف بل واحداً بالمليار من المسؤولية التي على عاتقي أنا، وأما الباقي فإنّه يتمثّل بالأمور والمسائل المتعلّقة بالتربية والتزكية. نعم، من أجل تحقيق ذلك لا بدّ أن يكون هناك أمانٌ وعدالة في المجتمع.. يجب ألا يكون هناك سارقٌ في المجتمع، ويجب ألاّ يكون أحدٌ من المسؤولين سارقاً، ويجب ألاّ يسمح لهم بالتعدّي على حقوق الآخرين، فهذه الأمور وأمثالها تندرج تحت تلك المسؤولية، ولكنّ 99.99% منها يرجع إلى الأمور والمسائل الخاصّة بنفس الفرد وتربيته، فالمهم عندي هو أنّه خلال هذه السبعين سنة التي أعطانا الله إياها في هذه الدنيا، هل يصل الإنسان إلى النتيجة المطلوبة في ظلّ هذه الحكومة أم لا؟ أنا مسؤول عن هذا الأمر وهذا الهدف.
أمّا الحكومات الأخرى، فلا علاقة لها بهذا الهدف، فلسان حالهم يقول: إن أعطاك الله سبعين سنة من العمر، فلا علاقة لي، وإن أعطاك سبعمائة سنة فلا علاقة لي بهذا الأمر ولا يهمّني، بينما النبيّ يقول: أنا لي علاقة، وهذا الأمر يهمّني؛ فهذه السبعون سنة التي أعطاك الله إياها ماذا فعلت بها؟ وأنت الذي أعطاك الله خمسين سنة، ماذا فعلت في مقابل هذه السنوات وماذا حقّقت؟ إذا نظرتم إلى جميع خطب أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، وإلى خطب رسول الله صلّى الله عليه وآله في مكّة والمدينة، فسوف تجدون أنّها جميعاً تتحدّث عن التقوى والآخرة؛ فلمَ ذلك؟ ومن أجل ماذا؟ لأنّ هذه هي مسؤوليته! إنّ مسؤولية النبيّ هي أن يقود الناس نحو التكامل والترقّي، ويوصلهم إلى درجات الكمال.

    

لا يقدر أن يؤدّي دور النبي إلا من كان مثله وعلى نهجه

حسناً، إذا ارتحل النبي من هذه الدنيا، فمن سيقوم بهذا الدور ومن سيتحمّل هذه المسؤولية؟ إنّ النبي يقول: من ذا الذي يمكنه أن يتحمّل هذه المسؤولية من بعدي؟ هل يمكن لعمر وأبي بكر أن يتحمّلا هذه المسؤولية؟! كلاّ، بل إنّ هذين قد ضربا ابنتي وقتلاها! أم هل يقدر خالد بن الوليد على أداء هذا الدور؟! أم عبد الرحمن بن عوف؟ أم يقدر أبو حنيفة على ذلك؟! أبو حنيفة الذي جاؤوا إليه بشخص متهم بسرقة شيء من النخل، فأفتاهم بقطع يده، فأخذوه ليقطعوا يده، فاعترض عليه أحد جلسائه، بأن حكم مثل هذا الشخص ليس القطع، فاعترف أبو حنيفة بأنه مخطئ، فقال له ذاك: إذن، أرسل بسرعة من يخبر هؤلاء الجنود لكيلا يقطعوا يد هذا المسكين، فأجابه أبو حنيفة: لا داعي لذلك، فلتقطع يده، فهي كلمة قد خرجت منّا ولا داعي للتراجع عنها!
هذا حال مفتي أهل السنّة! وهذا الفرد هو الذي قال عنه البعض: إنّه من مفاخر الإسلام! هذا الإنسان لو وصلت الحكومة إليه، فماذا سيفعل؟ وما الذي سيحصل؟ هل التفتّم ؟
إنّ النبيّ يقول للناس: أنا لم آتِ لكي أكون حاكماً عليكم.. ليس هذا هدفي، بل أنا جئتُ لكي أهيء لكم الظروف والأجواء، وأضعكم في موقعيّةٍ بحيث تستفيدون من هذه السبعين سنة التي منحكم الله إياها، وتصلون إلى النتيجة المتوخّاة منها.. هذه هي وظيفتي وهذا هو هدفي، والميدان حاضرٌ ، والسفرة ممدودة، فإن شئتم فتفضّلوا واستفيدوا، وأمّا إذا رفضتم ولم ترغبوا بذلك فكما يقول الشاعر:
گر گدا کاهل بود تقصیر صاحب خانه نیست
[يقول: إن كان المستجدي عديم الهمّة فليس الذنب ذنب صاحب البيت، فصاحب البيت كريم ويعطي ما يُطلب، ولكن المشكلة في المستعطي أنّه لا يأخذ ما يقدّم له].
وظيفة النبيّ هذه يجب أن توكل من بعده إلى شخصٍ يكون له نفس تلك الرتبة وتلك المكانة وتلك الأجواء وذلك الإدراك والمعرفة، وهذا لا يمكن أن يكون سوى أمير المؤمنين عليه السلام! فمن غيره يمكنه ذلك ؟! من يمكنه أن يجلس مكان النبي ويقرأ النفوس؟ من يقدر أن يجلس مكان النبيّ ويكون عنده اطّلاع تامّ على المصالح الواقعية لكلّ فردٍ من الأفراد فيقول له: افعل كذا ولا تفعل كذا؟
ذكرتُ لكم سابقاً أنّه ذات مرّة كلّفني السيد العلامة رضوان الله عليه بأداء أمرٍ، ولكنّني قصرت فيه، ثمّ تبين لي بعد ذلك أنّه كان هناك مسألة واقعية خلف هذه القضيّة، وأنّ حلّ هذه المسألة منوطٌ بأداء هذا العمل الذي كان قد أمرني به، وبالتالي بقيت هذه المسألة بغير حلّ حتّى تأتي فرصة أخرى، فمن الذي يستطيع أن يتابع مثل هذا الأمر ويرشد إليه سوى شخصٍ لديه إشرافٌ على النفوس واقعاً؟ من يقدر على ذلك؟ هل نقدر نحن على ذلك؟ إنّ غاية ما يمكننا أن نفعله هو أن نحلّل ونفكّر، ثمّ نقترح عملاً معيناً، ومن الممكن أن يتبيّن أنّ تشخيصنا كان خاطئاً فنعتذر؛ فنحن بالنتيجة لسنا معصومين، ولا إشكال في ذلك، إذ إنّ الإنسان ينبغي له أن يعمل طبقاً لما يراه وطبقاً لما يعرفه ويدركه وطبقاً للوظيفة التي يشخّصها، وهو مكلّف بذلك، ولكنّ الكلام في أنّه هل ينتهي الأمر بذلك؟ إن كان كذلك، فلماذا جئت إلى هنا، قم واذهب إلى مكان آخر، فهناك ألف مكان آخر، وجميعهم يصلّي ويصوم ويذهب إلى الحجّ ويؤدّي الزكاة ويعملون بالأحكام.
فما هو الاختلاف إذن بين مدرسة الأولياء وبين غيرهم؟ هل يرجع الأمر إلى إقامة المجالس ونصب الزينة وما شابه ذلك؟ الآخرون يعملون ذلك أيضاً، بل ربما يعملونه بشكل أفضل، وبطريقة أكثر جذّابية وأكثر لفتاً للنظر، هل التفتّم؟
عندما جاؤوا إلى السيّد العلامة رحمه الله، وقالوا له: إنّ عدد الأفراد قد صار كثيراً، فأذنوا لنا ببناء طابق إضافي حتّى يتّسع المكان للحاضرين... لو قيل هذا الكلام للأشخاص الآخرين، فماذا سيفعلون؟ سيبنون عشرة طوابق بدلاً من الواحدة، ويقولون: لا بدّ من بناء طبقات أخرى، فالناس يأتون ويشاركون في مجالس أهل البيت عليهم السلام، فلماذا نكتفي بطابق واحد؟ الأفضل أن نبني برجاً ذا مائة طابق، وكلّما استطعنا أن نهيّء مكاناً أكبر، فهو أفضل!
ولكن ماذا عن العلاّمة الطهراني رضوان الله عليه، بماذا أجابهم؟ قال لهم: (المكان المتوفّر هو بهذا الحجم فقط، فمن شاء أن يجد مكاناً فليحضر باكراً!)، ههنا يكمن الفرق! فهذا الرجل لا تهمّه الدعايات والإعلانات والراديو والتلفزيون، بل هو يقول: أنا قد أعددت نفسي [لمساعدتك]، وأما أنت الذي لا تريد أن تستيقظ نصف ساعة أبكر من نومك لتستفيد، فمن الأفضل ألاّ تأتي إلى المجلس. هذه هي فحوى كلامه، والرسالة التي يحملها، فكل من يرغب فليتفضّل.. بسم الله، فليأتِ وسوف يأخذ حظّه وفيضه، سواء كنت أنا حاضراً أم لا، وسيصل إلى ما ينبغي أن يصل إليه، وسينال ذلك الهدف الذي يتطلّع إليه. وأمّا ذلك الشخص الذي يقوم متثاقلاً قبل طلوع الشمس بقليل، ثم يستحمّ ويفكّر أين نذهب الآن؟ ثم يأخذ استخارة بمسبحته، ثم يقول: حسناً، دعنا نذهب إلى منزل العلاّمة الطهرانيّ، فهناك مجلس عزاء يقام هناك، فمثل هذا سيكون نصيبه بهذا المقدار القليل لا أكثر.
لقد جاء رسول الله صلّى الله عليه وآله لمدّة ثلاث وعشرين سنة من أجل هذا الأمر.. لكي يرتقي بالنفوس، ويوم الغدير هو لأجل هذا الأمر أيضاً، فعندما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: "من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه"، فإنّ معنى كلامه هو: هل رأيتم تلك الولاية التي كانت لي عليكم؛ حتّى أنّني لو أمرتكم بأن تلقوا بأنفسكم من فوق السطح إلى الأرض، فيجب عليكم أن تنفّذوا ذلك فوراً ودون تأمّل أو تردّد ودون تفكير حتّى، ولو قلت لك: اقتل ابنك الآن، فيجب عليك أن تقتله فوراً، ولو قلت لك: طلّق زوجتك، فيجب أن تطلّقها دون أي تأخير، وإن قلت لك: خذ هذه زوجة لك، فيجب أن تنفّذ فوراً، وإذا قلت للمرأة: عليك أن تنفصلي عن زوجك، فيجب عليها أن تنفّذ ذلك فوراً ... هذه الولاية التي كانت لي عليكم... فنفس الولاية التي كانت لله على إبراهيم عليه السلام وأمره بموجبها أن يذبح ابنه، نفس هذه الولاية موجودة عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، دون أدنى فرق، بل إنّ ولاية النبيّ أعلى من ذلك... هذه الولاية التي لي عليكم، والتي إن قبلتموها وتصرّفتم طبقاً للآية الشريفة: { فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه}، يعني آمنوا به وساعدوه، ومعنى أن يساعدوه هو الإقدام والامتثال، وأن يكون الإنسان حاضراً ولسان حاله يقول: أنا معك، ومتابع لأمرك مهما كان، ولا يوجد حدّ ولا خطّ أحمر أقف عنده في ذلك، فإن قلت: قوموا، قمنا، وإن قلت: اقعدوا، قعدنا، وإن قلت: اذهبوا وقاتلوا في صفين، نذهب ونقاتل، وعندما نصل إلى معاوية، ونرفع السيف لنقتله إن قلتَ لنا حينئذٍ: توقّفوا وأغمدوا سيوفكم، فإنّنا سنتوقّف ونغمد سيفنا... السيف فوق رأس معاوية، ولم يبقَ إلا أن يهبط على رأسه، فإذا بالأمر قد جاء من عليّ أن: توقّف ولا تضرب!
يا عليّ، أمهلنا لحظات قليلة لنحسم الأمر.. ليت رسولك قد وصل بعد ثانية واحدة، كنت قتلت هذا المحتال وارتحنا من شرّه!
كلاّ، انتظر لترى ما أقوله أنا لك، فمن هو معاوية هذا الذي تهتمّ لأمره إلى هذا الحدّ؟! ما هو حجم معاوية هذا في عالم الخلقة حتّى تهتمّ به إلى هذا الحدّ؟! عليك أن تهتمّ بي أنا لا بمعاوية! لماذا خلطت رغبتك النفسية مع أمري أنا؟ فإن كنت تقاتل معاوية حتّى الآن امتثالاً لأمري، فأنا الآن أقول لك: لا تقتله، فما علاقتك بالأمر؟ إن كان المهم هو أمري، فأنا أقول: لا تقتل يزيداً الآن، إن كنت تريد أمري أنا، فأنا أقول لك: افعل هذا الأمر. وأمّا إن كنت متّبعاً لهواك وأميالك، فذلك مطلبٌ آخر. وإن كان مختلطاً بنسبة 30% و70% فتلك حالة أخرى، وإن كانت النسبة 50% و50% فهي حالة أخرى ومطلب آخر، وأمّا لو كان اتّباعك هو 100% لي، فأنت مصداق للآية الشريفة.
فهذا الذي يتّبع علياً مائة بالمائة هو مصداق لقوله تعالى: {واتبعوا النور الذي أنزل معه}، فنحن قد أنزلنا معه نوراً، وهؤلاء المؤمنون يستفيدون من هذا النور ويتّبعونه، فحيثما قال لهم: اذهبوا، يذهبون، وحيثما قال لهم: لا تذهبوا، فلا يذهبون، ولا يغلّبون مصالحهم الشخصية ولا مصالح الناس، ولا يتحرّكون بناء على التفكير المصلحي، ولا بسبب التأثر بالأجواء المحيطة، بل يضع الحقّ أمام عينه، ويتذكّر أنّ هناك غداً سيأتي علينا...ما أكثر العبر في التاريخ، فلماذا لا نتعظّ ونعتبر منها ؟!
يقول تعالى: { ... واتبعوا النور الذي أنزل معه} ، فهم عندما يرون النور، يتّبعونه، فهؤلاء ما حالهم؟ يقول تعالى: { أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ها ! هؤلاء هم المفلحون والناجون والفائزون! متى قال أمير المؤمنين عليه السلام هذه الكلمة؟ قالها عندما ضربه ابن ملجم على رأسه! قال: فزت وربّ الكعبة! يعني الآن وصلت إلى الفلاح والفوز، والآن أدّيتُ مسؤوليتي، فماذا يعني ذلك؟ يعني أنّني طوال المدّة الماضية لم أكن أنا المحور، بل هو (يعني الله عزّ وجل) ، فأنا لم أكن أعمل طبقاً لرغباتي ومشيئتي بل كنت أنفّذ مشيئته هو، إذ لو كنتُ أعمل لنفسي، لكنت قتلت عمرو بن العاصّ، ولو كنت أعمل لنفسي، لما سقيت الحرّ بن يزيد الرياحي وجيشه عندما جاء عطشاناً ، ولكنت تركتهم حتّى يموتوا جميعاً من العطش بعد ساعتين، لو كان الأمر لنا لفعلنا ذلك، ولكن الأمر ليس لي، وأنا لا أعمل لأجل نفسي؛ ولذلك أنا أسقيهم الماء، بل إنّني آخذ قربة الماء وأسقي من أنهكه العطش منهم بيدي، يعني أنا بيدي أوجد كربلاء! هذا ما يعنيه ذلك التصرّف!
إذن، من الذي أوجد كربلاء؟ الذي أوجدها نفس الإمام الحسين عليه السلام! ومن الذي أوجد صفّين؟ إنّه أمير المؤمنين عليه السلام! ومن الذي أوجد واقعة النهروان؟ هو نفسه، إنّه هو الذي يدير جميع الأمور، ولكنّنا نحن نعيش في أفكارنا وأوهامنا بعيداً عن الحقيقة!
من الذي أوصل عليّاً الأصغر إلى تلك المرتبة التي يغبطه عليها الأنبياء؟ إنّه الإمام الحسين عليه السلام نفسه! ومن الذي أوصل عليّاً الأكبر إلى ذلك المقام بحيث صار الأوّلون والآخرون يتوسّلون به؟ إنّه الإمام الحسين عليه السلام نفسه! هل ترون؟ هو من وراء جميع الأمور!
فإذن واقعة الغدير تعني إجراء ولاية الله عزّ وجلّ في الناس بواسطة أحد الظهورات، وذلك الظهور هو أمير المؤمنين عليه السلام، هذا هو معنى الغدير! وهذا الأمر ثابتٌ سواءٌ استلم الحكومة أم لا، وسواء صار هو الحاكم بدلاً من أبي بكر والباقين، كما حصل فعلاً لمدّة 4 سنوات ستّة أشهر تقريباً، حيث توّلى أمير المؤمنين عليه السلام الحكم وصار هو الحاكم، ولكنّه قضى هذه المدّة في الحروب ووأد الفتن وأمثال ذلك، حيث اندلعت الفتن من كلّ مكان، فهذا ينادي من هنا، وهذه عائشة زوجة النبيّ تولّت قيادة الجيوش وألّبت الناس ضدّ أمير المؤمنين... إنّك امرأة يا عائشة فما لك ولهذه الأمور، كان عليكِ أن تقرّي في بيتك... ومن جهة أخرى نجد طلحة والزبير يأتون إلى أمير المؤمنين عليه السلام بعد تولّيه الحكم مباشرة ليطالبوه قائلين: يا علي أعطنا حقّنا! فقد صبرنا كلّ هذه المدّة، ولم نبايع غيرك، والآن أنت قد استلمت الحكم، فأعطنا نصيبنا! إلاّ أنّ أمير المؤمنين يجيب عليهم قائلاً: ما هو هدفكم من هذا الصبر، ولأيّ شيء فعلتم كلّ ما فعلتم؟ هل كان ذلك من أجل أن تنالوا نصيباً من الحكومة؟! إن كان الأمر كذلك، فانتظروا حتّى أُضرب بالسيف على رأسي وأستشهد، فاذهبوا إلى من يأتي بعدي، وتقاسموا الغنائم معه!
أما أنا فهذا حالي كما ترون، هذه هي حقيقة عليّ، فالكلام الذي يصدر منّي ليس كلامي أنا بل كلام شخصٍ آخر، وعملي عمل شخصٍ آخر، وتفكيري وكلّ أموري كذلك، فأنا لا أعمل لصالح نفسي، فعن أيّ غنائمٍ تتحدّثون؟ أيّها المساكين، لقد كنتم معي حتّى الآن، فابقوا معي من الآن فصاعداً أيضاً، تعالوا وألقوا بحملكم عندي [واستفيدوا منّي للوصول إلى كمالكم الحقيقي]، فما هي هذه الغنائم التي تتحدّثون عنها وما قيمتها؟ أين ذهب عقلكم؟

    

العاقل يطلب من علي أن يأخذ بيده إلى الكمال لا الرئاسة والأموال

إنّ الإنسان العاقل لا يأخذ دواء بدون أن يكون مريضاً، فبدلاً من هذه الترّهات التي تطرحونها، كان عليكم عندما رأيتم أنّني قد تولّيت الحكم، أن تأتوا إليّ وتقولوا: يا عليّ، [إيّاك أن تسلّمنا ولايةً أو حكومة فتبعدنا عنك، وتحرمنا من الاستفادة منك...]، (رغم أنّه حتّى هذا الكلام غلطٌ، ومثل هذا الكلام لا ينبغي أن يقال لعليّ، ولكن هذا هو الحدّ الأدنى، وأقلّ درجة محتملة، وإلاّ فهذا الكلام لا يليق بأمير المؤمنين عليه السلام؛ [لأنّ أمير المؤمنين عليه السلام لا يفرق عنده القرب والبعد،] فلقد أراد عمر أن يولّي سلمان رضوان الله عليه على المدائن، فقال له: من أنت حتّى تولّيني على المدائن؟! فأنا لي سيّدٌ أطيع أمره، فإن قال لي سيّدي أن أفعل ذلك، فعلتُ، وإلاّ فلا، فقال له: حسناً، اذهب واسأله، فذهب إلى أمير المؤمنين عليه السلام وسأله، فقال له: اذهب، ولا عليك منه، وأنا سأكون معك أينما ذهبت! نعم، لقد صار سلمان حاكماً على المدائن في زمان خلافة عمر، ولكنّه قال لعمر: أنا لا آخذ أمري منك، فأنا لي سيّد هو الآمر الناهي علي، فإن قال لي اذهب سأذهب وإلاّ فلن أعتني بكلامك!) هل التفتّم؟ ... حسناً.. كان عليكما (يا طلحة والزبير) عندما رأيتما أمير المؤمنين عليه السلام قد تولّى الحكم أن تقولا: ما لنا وللرئاسة، وما لنا وللحكم، وكان عليكما أن تذهبا إليه وتسعيا لتحصيل الكمال الذي كنتما تبحثان عنه طوال عمركما، لا أن تأتيا وتطالبا بالحكم والرئاسة! فما أبعدنا عن الحقائق! وما أجهلنا بالواقع والمطالب الحقّة! وإلى أيّ حد لم ندرك حقيقة المسألة؟!
فهذا الشخص كان عليه أن يفرّ فراراً من السلطة والأموال وأمثال ذلك، فيمسك أمير المؤمنين عليه بتلابيبه ويقول له: تعال، إلى أين تذهب، عليك أن تتحمّل المسؤولية الفلانية! ولكنّه بدلاً من ذلك تراه يأتي مطالباً أمير المؤمنين أن: أعطني حقّي من الغنائم وحكومة المكان الفلاني!
من أين ينشأ الاختلاف إلى هذه الدرجة؟! إنّه ينشأ من عدم فهمنا لحقيقة المسألة، وعدم إدراكنا للمغزى والهدف، أمّا أولئك الذين قد فهموا المسألة فإنهم سيُقيمون احتفالًا بسبب جلوس أمير المؤمنين عليه السلام [وعدم تولّيه للحكومة]، فلسان حالهم يقول: ما هو شغلنا ببقيّة الناس، لقد جلس أمير المؤمنين في بيته، فما شأني أنا بذلك؟! وما حصل قد حصل فماذا نفعل، فبجلوس عليٍّ في منزله حصلت لنا فرصة لأن نذهب إلى عليّ ونجلس معه ونتحدّث إليه، ونبثّ إليه همومنا ونسامره ونمازحه ونؤانسه، أليس كذلك؟ هذا هو معنى عدم تولّي عليّ للحكومة!
لقد جاء النبي ليقول هذه المسألة وهي: إنّ اليوم ليس يوم تولية عليّ الحكومة، ولا اليوم الذي أريد أن أنصب عليّاً عليكم لكي يقوم بتوضيح المسائل الفقهية لكم؛ بل أريد أن أنصب عليّاً عليكم اليوم بعنوان كونه مربّيا لكم، بعنوان كونه مزكّيًا لكم، بعنوانه الشخص الذي يقوم بنزع هذه الأغلال عنكم.. غلّ الأطماع، غلّ الحسد، غلّ الحقد، والأغلال التي تحصل بسبب الشهوات، شهوة الدنيا وشهوة الرئاسة وغيرها، فانظروا ما يقومون به اليوم في الدنيا من أجل الرئاسة من شق للبطون واستخراج للأكباد وتمزيقها إربًا ... أجل، نصبته من أجل أن ينزع عنكم هذه الأغلال، إلى أين أنتم ذاهبون؟! هل أعطيتكم أمرًا وتكليفًا بأن تقوموا بالأمر الفلاني؟! فبما أنني لم آمركم، فلماذا توقعون أنفسكم في الكُلْفة، أهكذا نفعل؟! فبدل أن نسأل الله أن يجد لنا شخصًا يرفع عنّا أحمالنا... فما الذي يريده الأعمى؟ يريد أن يعطيه الله عينان يبصر بهما... ونحن نريد شخصًا يتحمّل عنا المسؤوليّة الملقاة على عاتقنا، ألم يقل أستاذ المرحوم الوالد: يا سيّد محمّد حسين! كلّ مكان تذهب إليه في الدنيا فأنا معك وإلى جانبك. ألم يقل له: إن أردت الذهاب إلى إيران، فأنا بجانبك، وإن أردت الذهاب إلى المشرق، فأنا معك، وإن ذهبت إلى المغرب، فأنا معك فلماذا تريد البقاء في العراق، وظيفتك وتكليفك هو أن تذهب إلى إيران، وقد أثْبَتَ له ذلك من الناحية العمليّة لا أنه قال له ذلك فقط، ألم يقل لذلك الشخص الآخر الذي كان متعهدًا بأخذ مسؤولية عدّة أشخاص وجاء إلى منزله: ضع حملك هنا. وقال له عندما قال له: بأنّ بعض تلامذتي يسألونني أسئلة فأتحير في إجابتها. فأجابه: هل أنت مجبور على أن تتعهّد بهذه المسؤولية؟! ألقِ بأحمالك عند من يكون قادراً على حملها.
ماهي هذه المسألة؟ هذه هي قضيّة الغدير فقد جاء النبي ليقول للناس: يا أيها الناس صلاحكم وعتقكم في اتّباع عليّ، لا أن يكون مجرّد حاكمٍ عليكم، أو يكون مجرّد شخص يوصل لكم الحكم الشرعي، أو لأجل أن يجلس بينكم ويجيء ويذهب، لا ليس هذا.
لذا عندما نرى ما يفهمه العلّامة رضوان الله عليه فهو يقول: حتّى عندما كنتُ في النجف أتيت إلى هنا ساعيًا إلى أن أبدّل النظام الاجتماعي إلى نظام إلهي، لأن يكون نظامنا كلّه لأجل ذلك. الآن فهمنا ما يعنيه، وقد كان هو أيضًا يوضّح ذلك ويقول: لابدّ أن يكون [الحاكم] شخصًا متّصلًا، شخصًا يأخذ الحقائق عبر نافذة قلبه، شخصًا قد انتقل من الجزئية إلى الكليّة، فمثل هذا الشخص هو من ينبغي أن يأخذ المسائل على عهدته، وأن يكون زمام الأمور بيده؛ يعني لابدّ أن يكون وليّاً إلهياً، لا يأخذ المطالب والقضايا والخصوصيات وينظر إليها من خلال متابعة التقارير وهذه المسائل، ولا أن يأخذها من هنا وهناك؛ بل يجب أن ينظر إليها ويطّلع عليها من خلال الرجوع إلى قلبه، ويأخذها من هناك، بينما الآخرون يطرح عليهم مطلب معيّن بأنحاء وأشكال مختلفة، فبعد أن ينكشف له الأمر يتعجّب كيف ظهرت المسألة بذلك النحو.

    

توضيح قول الإمام الحسين عليه السلام : لم تخرجني في دولة أئمة الكفر

ألم يقل سيّد الشهداء عليه السلام في دعاء يوم عرفة في تلك الفقرات التي تحدّث فيها عن كيفيّة تكوّنه، وسيره ـ فقد كان دعاءً عجيبًا ـ حيث يقول فيه: (فلم أزل ظاعنا من صلبٍ إلى رحم في تقادم من الأيام الماضية، والقرون الخالية، لم تخرجني لرأفتك بي، ولطفك لي، وإحسانك إليَّ، في دولة أئمّة الكفر، الذين نقضوا عهدك، وكذّبوا رسلك، ولكنّك أخرجتني للذي سبق لي من الهدى الذي يسرتني وفيه أنشأتني[3]؟! فما هو المعنى المراد من عبارة سيّد الشهداء عليه السلام؟ ألم يكن سيّد الشهداء تحت حكومة أئمة الكفر؟! فإذا غضضنا الطرف عن تلك السنوات التي كان فيها في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، ولكن من سنّ الطفولة إلى زمان شهادته لم يكن في حكومة الإسلام إلا في تلك الأربع سنوات والأشهر الستة التي قضاها في حكومة أمير المؤمنين عليه السلام؛ ولكن أين قضى باقي السنوات؟ ألم تكن حكومة عمر وعثمان وأبي بكر؟! ألم يقضها في حكومة معاوية؟! ها .. وعندما هلك معاوية أتى يزيد وقام بما قام به في كربلاء، فما هو المقصود من كلام سيّد الشهداء؟! وكذلك بالنسبة لباقي الأئمة فمَن منهم لم يكن في حكومة أئمة الكفر؟! ففي أيّ زمان كانوا؟! سواءً الإمام السجّاد أو الباقر أو الصادق أو الرضا عليهم السلام، فجميعهم إلى الإمام الحجّة بقيّة الله ألم يكونوا تحت حكومة أئمة الكفر؟! إذاً ما هو معنى كلام سيّد الشهداء عليه السلام هذا؟
أو حتّى نفس إمام الزمان عليه السلام، فأين هي الحكومة العادلة الآن باعتقادكم حتى يعيش فيها الإمام؟! أين هو الآن؟ فإن كان يعيش في المدينة فحكومة المدينة معروفة [بعدم العدالة]، أو يعيش في غيرها فأي حكومة إسلاميّة يعيش فيها؟! الإمام الآن غائب وبالتالي ليس هو الحاكم، إذاً ما هو معنى كلام الإمام عليه السلام؟ إنّه يريد أن يقول: إنني لم أنمو وأتكامل في حكومةٍ يكون فيها زمام أموري بيد أئمة الكفر، ولم يحرفوني إلى جهة الظلمة والضلالة. وقد كان الأمر كذلك واقعًا، فقد تكامل وتربّى الإمام عليه السلام في حضن والده، وحضن جدّه عليهم السلام، وكذلك في زمان حكومة أخيه الإمام المجتبى عليهما السلام كان تحت ولاية أخيه، ووصل إلى الكمال [في أثنائها] وبعد شهادة الإمام المجتبى انتقلت إليه الإمامة، وقضى سيّد الشهداء عليه السلام مدّة عشر سنوات من إمامته تحت حكومة معاوية، ألم يكن معاوية من أئمة الكفر؟! ألم يكن هارون من أئمة الكفر؟! ألم يكن المأمون وبني مروان وبني أميّة من أئمة الكفر؟! هل كانوا أئمة نورٍ وعدلٍ؟! لقد كان كلّ واحد منهم أسوء من الآخر، وكان الوالي في تلك الحكومة يحتسي الخمر إلى درجة أنّه يأتي للمسجد، فيُصلّي الصبح أربع ركعات أو خمس بدلاً من ركعتين!! وكانت حكومةٌ يتفأّل الخليفة فيها بالقرآن، فتأتي آية: ﴿وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنيدٍ﴾ (سورة إبراهيم، ذيل الآية 15)، فيأخذ القرآن، ويُعلّقه، ويرميه بالسهام، ويُمزّقه قطعة قطعةً، ثمّ يقول:
أتوعِد كل جبّارٍ عنيد
                              فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربّك يوم حشر
                             فقل يا ربّ مزّقني الوليد
[4]
أفهل كان الأئمّة يعيشون تحت ظلّ حكومة عادلة؟
وعليه، فماذا يُريد الإمام أن يقول هنا؟ يريد أن يقول: يا إلهي، الحمد لك لأنّك قد وضعتني تحت ولاية إمام معصوم.. هذه هي حقيقة المسألة! وإلاّ فالحكّام والأئمّة الذين كانوا في زمانه لم يكونوا معصومين، فقد كان هناك أبو بكر وعمر وعثمان ونظائرهم كمعاوية وبني مروان وبني أمّية وبني العبّاس؛ ولا يُمكننا التمسّك بمسألة أنّ سيّد الشهداء عليه السلام قضى بعض السنوات في فترة طفولته مع الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله سلّم، وإلاّ لو كان الأمر كذلك، فماذا عن بقيّة عمره؟ وماذا عن بقيّة الأئمّة عليهم السلام؟ لأنّ هذه المسألة لا تُعبّر فقط عن لسان حال الإمام الحسين عليه السلام، بل تختصّ بالجميع، وترتبط بكافّة الناس.
وبناءً عليه، فإنّ معنى ذلك الكلام هو: يا إلهي، لقد وضعتني في أجواء الغدير، حتّى توصلني هذه الأجواءُ إلى الكمال، وقد فَعَلَت، ثمّ إنّ هذه الأجواء قد انتقلت بعينها إلى عصر الإمام المجتبى، وبعد ذلك إلى عصر الإمام السجّاد، إلى أن وصلت إلى عصر مولانا بقيّة الله أرواحنا له الفداء، حيث توجد هذه الأجواء بنفسها فيه.
وعليه، فإنّ هذه المسألة متحقّقة في عصرنا الراهن أيضًا، لكنّها تختلف من حيث الظاهر من مكان لآخر؛ وهذا لا يهمّ.. لماذا؟ لأنّ ولاية الإمام عليه السلام حاضرة هنا الآن؛ فتلك الولاية التي كانت حبيسة المنزل لمدّة خمسة وعشرين سنة موجودة بعينها الآن في زمان الغيبة، من دون أدنى فارق؛ وكذلك الأمر بالنسبة لتلك الولاية التي كانت مسجونة طيلة ثمانية سنوات، فإنّها عينها! وإلاّ، فهل يعني ذلك أنّ موسى بن جعفر حينما كان في السجن، لم تكن له ولاية، ولم يكن مطّلعًا على أيّ شيء؟! وعندما كان الإمام الهادي والإمام العسكري محبوسين ومحاصرين في سامرّاء، هل كان ذلك يعني أنّ المسألة انتهت بالنسبة إليهما، أم بالعكس، حيث لم يكن لديهما أدنى فارق؛ فسواءً كانا يعيشان بين الناس، أو كانا هناك محاصرين، فإنّ الأمر لديهما سيّان؟!
وتحضرني الآن مسألة أريد أن أذكرها للإخوان؛ وهي أنّه يُقال بأنّ الإمام العسكري عليه السلام لم يُؤدّ الحجّ؛ وهو كلام مضحك حقًّا! من أين لنا أن نقول بأنّه عليه السلام لم يحجّ؟ أجل، صحيح أنّه كان محاصرًا، فليكن ذلك، ولكن هل حصار الإمام عليه السلام يُشكّل له مانعًا من الحجّ؟ مع أنّنا نعلم بأنّ مبعوثي الإمام العسكري عليه السلام كانوا يذهبون إلى هنا وهناك بواسطة طيّ الأرض، وكان خادمه يوصل الرسائل والمسائل ويقوم بمجموعة من الأعمال، ويذهب إلى هنا وهناك، وآثار هذه الأمور موجودة فعلاً، فكيف يُمكن للإمام العسكري ألاّ يكون قد أدّى الحجّ؟! وعلاوةً على ذلك، توجد لدينا روايات نُقل فيها مطلب عن الإمام العسكري حينما كان في مكّة، ومن المسلّم أنّه إذا كان عليه السلام قد ذهب إلى مكّة، فإنّه قد ذهب إلى هناك لأجل الحجّ، لا لأجل التجارة والنزهة. فلاحظوا كم هي قليلة معلوماتنا عن هذه المسألة! وأنّ علمنا منحصر في مسألة: بما أنّ الإمام العسكري عليه السلام كان محاصرًا طيلة حياته ـ حيث شرعوا في ذلك منذ عصر الإمام الهادي ـ ، فإذن هو لم يذهب إلى مكّة! فهذا هو مبلغ فهمنا، وإدراكنا لا يتجاوز هذا المستوى، ولا يتعدّى هذا المطلب.

    

رسالة الغدير إلى العالم اليوم

ومن هنا، علينا أن نعلم بأنّ هذه المسألة تحتوي على رسالة، وأنّ قضيّة الغدير تتضمّن مثل هذه الرسالة؛ وهي: يا أيّها الناس، لقد أتيت بأمير المؤمنين، ونصّبته في مكاني لأجل تربيتكم، ولكي تبلغوا كمالكم المنشود، وتُحقّقوا فعليّاتكم، وتوصلوا كافّة استعداداتكم إلى مرحلة الفعليّة، وحتّى لا تضيع هذه السنوات السبعون أو الستّون التي منحها الله تعالى لكم هباءً منثورًا؛ وأنا أذكر لكم هذه الأمور حتّى تعلموا إلى من ينبغي عليكم الرجوع، وما هي المسألة التي يتوجّب عليكم الاهتمام بها، ومن هو الشخص الذين ينبغي عليكم التسليم له.
فلا فرق بالنسبة إليكم بين أن يتسلّم عليّ زمام الحكم، أو يبقى جليس بيته، ولا يهمّكم أن يأتي ابنه ويعقد مع معاوية صلحًا، أو يُشهر سيفه، بل المهمّ هو أن تكونوا مع عليّ في أيّ مكان كان فيه، وكذلك مع الإمام الحسن صلوات الله عليه؛ فإذا صالح، فالمسألة منتهية، وإذا حارب، فلتقوموا معه؛ وهكذا بالنسبة للإمام السجّاد، فقد جاء عليه السلام، وبايع يزيد، وبايع الإمام الكافر! [إلاّ أن البعض لم يتقبّل ذلك، ويقول:] (لماذا يبايعه الإمام؟! فعليكم ألاّ تصدّقوا ذلك.. أفهل يُمكن للإمام أن يبايعه؟!) أجل! لقد بايعه، والتاريخ يشهد بذلك!
ونرى أيضًا بأنّ الإمام الصادق يأتي ويقول للمنصور الدوانيقي: السلام عليك يا أمير المؤمنين! إذ لا خيار له عن التقيّة، لكنّك تجدنا نقول: (ما هو الدافع لكي يُخاطب المنصورَ بأمير المؤمنين؟ نحن لا نعترف بهذه القضيّة، ولا علم لنا بصحّتها، وأين هو سندها؟) لا يا سيّدي، إنّ هذه القضيّة موجودة فعلاً! فمن يا تراه يكون المنصور؟! ومن يا تراه يكون هارون؟! وأساسًا، لماذا ينبغي على الشيعي أن يطرح احتمالات أخرى في مقابل المعصومين الأربعة عشر؟! وما هو السبب الذي يدفعه لأن يذهب بفكره إلى مواضع أخرى، ويتوهّم أشياء أخرى؟! لاحظوا.. هذه هي رسالة الغدير!
ولهذا، يقول مولانا... وحقيقةً، كنت أفكّر البارحة ليلاً في أنّه هل يوجد لدينا عالم شيعي استطاع أن يُفسّر حادثة الغدير كما فعل مولانا؟! يقول رضوان الله عليه:
زين سبب پيغمبر با اجتهاد
                             نام خود وآنِ على مولى نهاد
كيست مولى آنكه آزادت كند
                             بند رقيّت ز پايت بگسلد
[5]
(والمعنى: لهذا السبب سمّى النبي المجتهد نفسَه وعليّاً بالمولى، هل تعلم من هو الوليّ؟ هو الذي سيحرّرك ويفك قيد الرقّيّة من رجلك).
فهذا هو الذي فهم الغدير، وهذا هو الذي استوعب رسالة الغدير.
يقول تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتي‏ كانَتْ عَلَيْهِم‏﴾ (سورة الأعراف، مقطع من الآية 157)؛ فقد جاء الرسول لكي يكسر الأغلال التي تُحيط بأعناقنا، ثمّ قال للناس: يا أيّها الناس، كما كسرت أنا هذه الأغلال، فإنّ الذي يقدر على ذلك من بعدي هو هذا [أي عليّ عليه السلام]، وليس أبا بكر، ولا عمر، ولا ذلك العالم، ولا أبو حنيفة، ولا الشافعي، ولا غيرهم؛ فهؤلاء لا يقدرون على فعل ذلك، كما أنّ هذا العمل ليس أيضًا من شأن علماء الظاهر، ولا من شأن الذين ينقلون المطالب من هذا الكتاب إلى ذلك الكتاب، فيحوّلون المسودة إلى مبيضة والمبيضة إلى مسودة، بل هو من شأن هذا، ومن شأن الذين وضعوا أنفسهم في ذلك المسار واتّبعوا سبيله، ومن شأن وليّ الله الذي يُشخّص بدقّة موضع الألم، ويعلم أين يضع المرهم؛ فهو يُدرك ذلك، ويُدرك أين هو الألم؛ لا سيّما تلك الآلام التي لا تكون واضحةً.
فتلك الآلام والأمراض المستعصية لا تُظهر نفسها مرّةً واحدةً، وحينما تشعر بالألم في معدتك، يكون الورم السرطاني قد حلّ سابقًا بمعدتك شيئًا فشيئًا، ثمّ استولى على كلّ الموضع، لكنّ ولي الله يأتي منذ البداية، وحينما تُريد أوّل خليّة خبيثة أن تعتدي، وتبدأ في إنتاج الخليّة الأولى في الإثنا عشري، فيقول لك: تتبّع تلك الخليّة، وقم بهذا العمل! لا أنّه يتدخّل حينما تكون تلك الخليّة قد انتشرت، واستولت على كلّ الموضع، وفات الأوان. وذلك خلافًا للبقيّة، فتمرّ ستّون سنة من عمرك وأنت ترى ماذا يقول هذا اليوم، وماذا يقول ذاك غدًا، وماذا يقول الثالث بعد غد، ثمّ يمرّ اليوم، وتنتظر للأسبوع القادم؛ وهكذا، إلى أن يأتيك عزرائيل في السنة اللاحقة ليقول لك: تفضّل! ماذا استفدت من عمرك؟ وعلى أيّ شيء عثرت؟ هل التفتّم؟ هذه هي حقيقة المسألة! وهذا هو المطلب الذي ينبغي تبليغه!

    

مسؤولية طلاب العلم هي إبلاغ رسالة الغدير إلى جميع الناس

فاليوم هو اليوم الذي سيلبس فيه إخوانُنا لباس الملائكة، ويُتوجّون بتيجان الملائكة؛ وأنا أقول لهم بجدّ: هنيئًا لكم! وحقًّا إنّي أقول لكم: إنّه ليس بمقدوركم أن تحصلوا على سعادة أكثر من هذه، حيث إنّكم وضعتم أنفسكم في موضع تشعرون فيه ـ شئتم أم أبيتم ـ بأنّكم تعيشون في تلك الأجواء وعلى ذلك الطريق.
ففي الأزمنة السابقة.. في أيّام الشاه، كان المرحوم العلاّمة يعقد بعض المجالس، ويقوم بتعميم بعض طلاب العلم، فكان يأتي بنفسه، ويقف في ذلك المنزل الواقع في "پيچ شمران"[6]، لكن في ذلك الوقت، لم تكن هناك للأسف وسائل مناسبة للتسجيل والتقاط الصور، ولا زلت إلى الآن أتذكّر تلك الكلمات، وبأيّة بهجة كان يُدير تلك المجالس؛ فكانت البهجة والسرور والانبساط بادية على وجهه حينما كان يُريد أن يضع العمامة على رأس أحدهم؛ فكأنّه كان مطّلعًا بحقّ على حقيقة رسالة النبيّ، فكان يضع العمامة على رؤوس الطلبة على الخصوص في عيد الغدير وعيد ولادة إمام الزمان عليه السلام، حيث إنّ هذا العيد شهد ولادة الإمام الحيّ، كما أنّ عيد الغدير هو يوم تنصيب الولاية؛ فحينما كان الرفقاء والأصدقاء يُوفّقون للبس العمامة في هذين اليومين، كنت أشاهد فيه حالةً من البهجة والسرور.
فلا يقتصر الأمر على أنّه كان يأتي، وينظر إليهم يلبسون العمامة، ثمّ يهنّئهم، ويُبارك لهم ذلك.. لا! لقد كان ينظر إليهم بجميع أرجاء وجوده، ويرى التوفيق الذي حظي به هؤلاء، والآفاق التي ستُفتح لهم الآن، والمكانة التي سيحتلّونها؛ فكان يشعر بذلك، فتحصل له بسبب هذا الشعور حالةٌ من الوجد، وتتغيّر حالته، ويحمرّ وجهه؛ ولا زالت عبارة «هنيئًا» التي كان يُجريها على لسانه تتردّد في مسامعي، حيث كان يقول: هنيئًا للسيّد فلان (ويذكر اسمه)، أو هنيئًا للسيّد فلان الذي سيرتدي العمامة اليوم.. حسنًا، فقد كان هؤلاء [الأولياء] يُدركون بأنّ المسألة هي بهذا النحو.
وأنا اليوم أقول لإخواني بأنّ إبلاغ هذه المسألة، وتبليغ رسالة الغدير تقع على عاتقكم أنتم؛ فعلى العالم أن يطّلع على رسالة الغدير؛ لأنّهم غافلون عن هذه الرسالة، وقد فُسّرت هذه الرسالة، ولا زالت تُفسّر بنحوٍ آخر، والناس يفهمونها بشكل مغاير، بل حتّى نحن كذلك! وينبغي إيصال رسالة الغدير إلى كلّ مكان؛ فهي رسالة الحرّية، ورسالة التحرّر من كلّ شيء يُقيّد الأيدي والأرجل، وهي الرسالة التي تدعو إليها الرواية التي تُشاهدونها هنا.
فيوم الغدير هو اليوم الذي يأمرنا فيه الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن نستخدم عقولنا، ونستفيد من هذه الأدمغة التي منحها الله تعالى لنا، وبألاّ نسمح ببقائها جامدةً في الصندوق حتّى يُصيبها الصدأ؛ فرسالة الغدير هي أن: استخدموا عقولكم ولو قليلاً، وانظروا لماذا نصبت عليًّا، ولم أنصب غيره؛ فمع وجود كلّ هؤلاء الأناس الجيّدين بين أصحابي (ولا علاقة لنا الآن بالبقيّة)، لماذا اخترت من بينهم عليًّا؟ فهل أدركنا ذلك؟ وهل التفتنا إلى هذه المسألة؟ فهذه الرسالة تأمرنا بألاّ نهتمّ بالشائعات، وهي رسالة تأمرنا في يوم الغدير بأن نتبع فطرتنا وننتفع من أعمارنا؛ لأنّ الله تعالى لم يمنحنا عمرين اثنين.
وهي رسالة تأمرنا بالإنسانيّة، والتركيز على المشتركات، وهي رسالة تدعونا إلى أن نجمع كلّ الناس على سفرة واحدة، وهي رسالة يمثّلها تصرّف أمير المؤمنين عليه السلام عندما جاءه رجل يهودي في مسجد المدينة، فقال له: السلام عليك يا أخا اليهود! هذه هي رسالة الغدير، جميع هذه الأمور هي رسائل الغدير، وهذه هي رسالة الإسلام، وهذه الرسالة يجب أن تصل إلى الدنيا.
في هذه الرسالة عندما جاء رجلٌ نصرانيّ، فيعاملوا معه بقسوة، فيقول: الآن علمنا ما حقيقة الأمر! فيأتي أمير المؤمنين عليه السلام فيحيّيه ويعانقه ويسلم عليه، ويجلسان معاً، فيسأله النصراني عن مسائله، فيجيبه أمير المؤمنين عليه السلام، فيقول النصراني: إن كان هناك وصيٌّ وخليفة لرسول الله، فهو هذا!
هذه هي رسالة الغدير، وهذا ما يجب أن نوصله للدنيا، هذا هو الإسلام، وهذا هو التشيّع.. يجب علينا أن نُفهم الدنيا أنّ مظهر هذه المدرسة ورمزها[7] بقي حتّى آخر لحظة من عمره الشريف، وحتّى لحظة شهادته كان يسعى ويحاول أن يَهدي ولو رجلاً واحدًا وينقذه، فبدنه مليء بالكثير من الجراحات، ولكنه وحتّى رمقه الأخير يحاول جاهداً أن يأخذ بيد الأفراد الموجودين في ذلك الطرف ويشدّهم إليه فيكون هذا سبباً في هدايتهم..
هذه جميعها رسالة الغدير، وهذه الرسالة يجب أن تصل إلى دنيا اليوم، هذه الدنيا الظمآنة.. هذه الدنيا التي لم تتذوّق طعم هذه المطالب بعد، فيجب أن تصل هذه المطالب إلى سمعها، وهذه هي وظيفة أولئك الأشخاص الذين وفّقهم الله لفهم هذه المطالب، فهؤلاء هم الذين ينبغي أن يوصلوا هذه المطالب إلى أسماع الدنيا، وأمّا الآخرون فهم في أجواءٍ أخرى، والآخرون عندهم تصوّرات أخرى وفهم آخر.
إنّ الذين وفّقهم الله لفهم هذه المباني الراقية، تقع على عاتقهم وظيفة ومسؤولية.. وظيفة صعبة جدّاً، ووظيفة ثقيلة جداً!
نسأل الله المتعال أن يوفّقنا أن نتحرّك في ذلك المسير وفي ذلك الطريق الذي فتحه رسول الله من خلال هذه الحقائق التي كشفها للناس في هذا اليوم، وأن يرزقنا فهمها والثبات عليها.
في هذا اليوم يستحبّ للمؤمنين إذا التقوا مع بعضهم أن يتصافحوا ... انتبهوا فهذه مطالب واقعية، ويجب أن ننظر ما هو السرّ المختفي وراءها ... يستحبّ أن يتصافحوا ويقولوا: الحمد الله الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية أمير المؤمنين والأئمّة المعصومين عليهم السلام. أجل، يجب أن نشكر الله ونحمده على أن هيّأ لنا الأرضية لفهم هذه المطالب بواسطة أوليائه، و{لئن شكرتم لأزيدنّكم}.
اللهمّ كن لوليّك الحجّة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كلّ ساعة وليّاً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً حتّى تسكنه أرضك طوعاً وتمتّعه فيها طويلاً.
اللهمّ إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك.
من أجل تسهيل ظهور المهدي الموعود، ومنجي العالم حضرة بقيّة الله أرواحنا لمقدمه الفداء، صلوّا على محمّد وآل محمّد ثلاثاً.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.


[1] ـ سورة الأعراف (7)، الآية 157.

[2] ـ سورة المائدة (5)، جزء من الآية 67.

[3] ـ جزء من دعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة.

[4] ـ مروج الذهب، ج 3، ص 228.

[5] ـ المثنوي المعنوي، الكتاب السادس.

[6] ـ مفترق طرق يقع في مدينة طهران. (المترجم)

[7] ـ أي سيّد الشهداء عليه السلام (المترجم)

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی