معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 101 إلى 200 > شرح حديث عنوان البصري ـ الجلسة 170ـ ماهي حقيقة النورانيّة والظلمانيّة في فعل الإنسان؟

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح حديث عنوان البصري المحاضرة 170

فعل الإنسان
بين الظلمانيّة والنورانيّة

ألقيت في 22 شعبان المعظم 1430 هـ

ألقاها:
سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه اللـه

 

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيِّدنا ونَبيِّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيِّبين الطاهرين واللعنة على أعدائِهم أجمعين إلى يوم الدين

قال الإمام الصادق عليه السلام: «أمَّا اللَوَاتِي في الرِّيَاضَةِ: فَإيَّاكَ أنْ تَأكُلَ مَا لا تَشْتَهِيهِ»‏
إنَّ إحدى الموارد المتعلّقة برياضة النفس هي: ألاّ يقدِم الإنسان على تناول الطعام ما لم يشته ذلك وتكن له رغبة فيه.
«مدتی اين مثنوی تاخير شد»[1] [أي على الرغم من هذا التأخير الحاصل في عقد المجلس]، إلاّ أنَّ ذاكرة الإخوة ـ على ما يبدو ـ هي أفضل من ذاكرتي، فهم يحتفظون في أذهانهم بما يُطرح من مواضيع، ويُعيرونها الكثير من الاهتمام.

    

صورة أفعال الإنسان في عالم المثال الأسفل لا علاقة لها بجانبها الظلماني أو النوراني

لقد وصل بنا الحديث ـ على ما أتذكّر ـ إلى الموضوع المتعلّق بكيفيّة ترك أفعال الإنسان وتصرّفاته أثرها على صورته البرزخيّة، وعلى الجانب الملكوتي للنفس في مستوىً أعلى. ويمكن القول بصورة عامّة بأنَّ هنالك صورة في عالم المثال تكون مطابقة، بل هي عين ما يتحقّق في الخارج في هذا العالم، والتي تُسمى بالمثال الأسفل أو الصورة المثالية الدنيا؛ وهذا يشمل كلّ ما يحصل له تحقّق عيني وجسماني في هذا العالم. والمقصود بهذا العالم، هو عالم التعيّنات الماديّة والمادّة بجميع أشكالها وجميع ماهيّاتها، بما في ذلك تلك الماهيات الشفّافة ذات الأجسام الماديّة المتناهية الصغر كالضوء والأمواج[2] والهواء وما شاكل ذلك؛ فجميع هذه الموجودات هي جزء من عالم المادّة ولا تنتمي إلى عالم المجرّدات؛ إذ عالم المجرّدات يختلف في طبيعته عنها؛ وهذا الأمر يتطابق بشكل كامل مع البراهين الفلسفيّة والأدلّة النقليّة، وهو مُؤيَّد بالمشاهدات والمكاشفات القلبيّة والصوريّة.
فالكيفيّة التي يجلس بها الأصدقاء والحاضرون في هذا المجلس الآن، مع كلّ ما يجري فيها من تغيير في وضع الجلوس في كلّ لحظة ومع كلّ رمشة عين وكلّ حركة أو سكنة تصدر منهم، تكون متواجدة بعينها ويكون لها وجود خارجي في عالم المثال، ولا علاقة لهذا الأمر أبدًا بالجانب المعنوي أو الظلماني لتلك الحقائق الخارجيّة؛ فما نشاهده الآن على هذه الوجوه والأجساد المتواجدة في هذا المكان، وما يحصل منهم من حركات وانتباه، وما يصدر منّي من كلام، و ما يجري من استماع لهذا الكلام من قبل الأصدقاء ـ والذي ليس له في هذه المرتبة أيّ جانب نوراني أو ظلماني، وليس لها علاقة بصفاء النيّة أو تلوّثها ـ، وما نشاهده من هذه الحركات وهذه الأجسام يكون موجودًا بعينه في عالم المثال، بحيث لو كان لأحدهم إشراف وإحاطة بعالم المثال، واستطاع أن يُصوّر مشاهداته المثاليّة لهذا المجلس قبل أسبوع أو شهر من انعقاده ويُلبسها صورة ووجود خارجيّين، فسيكون هذا الشريط المصوَّر لهذه المشاهدات متطابقًا تمامًا مع ما يجري في هذا المجلس منذ بداية انعقاده في الساعة العاشرة والنصف ـ على سبيل المثال ـ وحتّى اختتامه، ولن يختلف قيد شعرة عنه، بل سيتطابق هذا الشريط مع ذلك الذي يتمّ تصويره لهذا المجلس الآن؛ فكلاهما يعكسان حقيقة واحدة. وهذا نظير ما لو أنَّك قمت باستنساخ فيلمٍ أو شريطٍ معيّن؛ فهل سيكون هنالك أيّ فرق بين النسخة والأصل؟ [سوف لن يكون هنالك أي اختلاف] إلاّ إن كان هنالك خلل في الجهاز أو أمر آخر؛ فلا يُفترض أن يكون هنالك اختلاف بين النسختين ولو بمقدار رأس الإبرة. فهذا هو ما يُطلق عليه اسم المثال الأسفل، والذي لا يوجد فيه أيّ ظهور للجانب النوراني أو الظلماني لما يتحقّق في الخارج، حيث إنّ جميع الحقائق الخارجيّة ـ بأي شكل كانت ـ لها صورتها الخاصّة بها في عالم المثال هذا.
فحينما أردتم الخروج من المنزل اليوم ـ وهو يوم الجمعة ـ ، فقد لبستم ملابس خاصّة، ومن المؤكِّد أنَّكم قد اغتسلتم غسل الجمعة؛ لأنّ غسل الجمعة هو من الأهميّة بحيث إنَّ بعض العظماء قد عدَّه من الواجبات.. فهو على هذه الدرجة من الأهميّة!

    

الاستهتار بأوامر الأولياء يُعيق السالك عن الحركة: مثال غُسل الجمعة

نقل لي أحد الأصدقاء حكايةً حصلت معه منذ قديم الأيّام، وهي عجيبة، حيث تعكس كيف أنَّ حقيقة ما عليه الناس تكون واضحة منذ البداية ومنذ الطفولة ومرحلة المراهقة والشباب؛ فهم بتصرّفاتهم في عهد الصباوة يعكسون ما سيكون عليه أسلوب أفكارهم ومستقبلهم وهدفهم ومنهجهم.. رَحِم الله صديقي القدير ورفيق طريقي الشفيق وأحد تلامذة المرحوم الوالد رضوان الله عليه؛ وهو الرجل الذي أدين له بالكثير، ألا وهو المرحوم السيِّد مرتضى المقدّسي رحمة الله عليه الذي كان رجلاً عظيمًا ودقيقًا وعميقًا وذا نفس صافية وشخصًا قد اجتاز مرحلة الاختبار.
قال السيِّد مرتضى: ذهبت أحد أيّام الجمعة إلى منزل المرحوم العلاّمة عندما كنت شابًّا، وكان ذلك في بداية تعرّفي عليه وعندما كان منزله يقع في ساحة الشهداء والتي كان يُطلق عليها اسم ساحة "جالة" والواقعة في منطقة عباس آباد، حيث كنَّا نسكن هناك لمدّة ثلاث أو أربع سنوات؛ لأنَّ عمري كان أقلّ من سنتين عند عودة والدي من النجف، ولا أتذكّر عن عودته شيئًا، غير أنَّني أتذكّر سكننا في هذه المنطقة منذ البداية؛ ولقد بقينا لمدة تقارب الأربع سنوات هناك.. يقول السيِّد مرتضى: قبل مجيئي، قلت مع نفسي: «فلأذهب أوّلاً لأداء غسل الجمعة، ثمّ بعد ذلك أذهب لزيارة المرحوم العلاّمة»، فاغتسلت غسل الجمعة في الحمّام المجاور لمنزله، وكانت السماء تمطر مطرًا خفيفًا، حيث إنّ هذه الحكاية كانت بعد سنة أو سنتين من عودة المرحوم العلاّمة من النجف، وكان عمره حينها بحدود سبعة وثلاثين أو ثمانية وثلاثين عامًا.
يقول السيِّد مرتضى: «ذهبت واغتسلت غسل الجمعة<، حيث كان هناك حمّام عمومي كان والدي يأخذني معه إليه عندما كنت طفلاً لعدم وجود حمّام في المنزل في ذلك الوقت، ويقع هذا الحمّام في الشارع الذي ربّما اسمه "سقاباشي" أو اسم آخر.
يقول: قبل وصولي إلى منزل السيِّد العلاّمة، التقيت بأحد أقاربه والذي كان يحضر مجالسه ـ وهو لا يزال على قيد الحياة ـ حيث كان يمشي في الشارع ويتفرّج على الأشجار؛ لأنّ الفصل كان ربيعًا، وقد اخضرّت الأشجار حديثًا، فكان منتعشًا بذلك الجوّ؛ فقلت له: هيّا لنذهب إلى منزل السيِّد العلاّمة، فقال: سأذهب ولكن دعني أستمتع بهذا الهواء المنعش الآن. قلت له: وهل اغتسلت غُسل الجمعة؟ فقال: سامحك الله، وهل من المعقول أن يقوم أحد بترك هذا الجوّ المنعش وهذه البيئة المخضرّة ويذهب ليغتسل غسل الجمعة؟! اذهب يا عزيزي لحالك! فما إن سمعت منه ذلك حتّى قلت في نفسي: لا يمكنني أن أتّخذ من هذا الشخص رفيقًا لي، فودّعته وقلت: لا يمكن لمثل الإنسان المستهتر أن يصل إلى الهدف المنشود، ولم يصل ولم يصل، ولم يصل أبدًا! فقد تمّت التوصية بغسل الجمعة في جميع الأحوال، سواءً في ضمن هذه الأجواء أو في ضمن أجواء أخرى، وهو غير مختصّ بفصل دون فصل؛ إذ لم تتمّ التوصية به في فصل الشتاء فقط حيث يرتجف الإنسان من شدّة البرد ولا يستطيع أن يسير في الشارع ولو لخطوتين!
فهذه الأمور التي أذكرها هنا هي نكات في غاية الدقّة، وتكشف للإنسان كيف ينبغي عليه تعيين مساره، بحيث إذا استقرّت نفسُه على هذا الأساس، فإنّ الأحداث لا تستطيع أن تجرّه إلى هذا الطرف أو ذاك، ولا تستطيع الرياح الهابّة باتّجاه معيّن أن تجرف ذلك الذي يستقيم نهجُه ومواقفه ومسيره على هذه المبادئ كما تجرف الذبابة والبعوضة.
إنّ غسل الجمعة الذي أمر به رسول الله مستحبّ، بل هو مستحبّ مؤكِّد إلى الحدّ الذي أفتى فيه بعض الفقهاء بما يقرب من الوجوب الاحتياطي. ويمكن للمصلِّي أن يؤدّي صلاته بهذا الغسل بدون الحاجة إلى أن يتوضّأ لها؛ على أنَّه يمكن الصلاة بجميع أنواع الأغسال المستحبة الثابتة الصدور عن المعصوم عليه السلام دون الحاجة إلى وضوء؛ يستثنى من ذلك بالطبع بعض الأغسال كغسل مسّ الميت، والاغسال الخاصة بالنساء، فموضوعها يختلف، بل المقصود من تلك الأغسال هي سائر الأغسال المستحبّة.
ففي الوقت الذي فرض فيه رسول الله غسل الجمعة وسواء كان ذلك في برد الشتاء أو حرّ الصيف أو في فصل الخريف أو عند نزول المطر ـ فقد تمّ التأكيد الشديد عليه في جميع الأحوال، ولا بدّ من الإتيان به ـ نجد عبد الله هذا يُعرض عن هذا الغسل ليقوم بدلاً عن ذلك بالتجوال في الشارع والتفرّج على الأشجار والساحات الخضراء والحشائش والأعشاب؛ فتراه يتفرّج على الأعشاب ويستمتع بالهواء اللطيف ويُرجِّح هذا الفعل على ما أوصى به رسول الله، فيفتتن وينبهر بهذه المناظر ويُجذب إليها بأكثر مما يُجذب إلى المبادئ والعمل بالأوامر؛ ولذا، تراه يتخلّى عن المطالب الحقيقيّة ويذهب بذلك الاتجاه.. فهل يستطيع مثل هذا الشخص أن يضع نفسه في الموقف الذي يُمكنه فيه لجم فم ميوله النفسانيّة بحيث يتمكّن من السيطرة عليها والمحافظة على استقامة نفسه والحيلولة دون ميلها يمينًا أو شمالاً في تلك المواقف التي تُؤدّي للانحراف والاعوجاج؟ لا يمكن له ذلك بالطبع!
ولهذا، يُشاهد تواجد أفراد من هذا القبيل لفترة من الزمن في مجالس العظماء، حتّى إذا ما أصبحت الظروف مواتية لتلك الميول النفسانيّة، تراهم ينحازون جانبًا عن هذا المسير، وبعد أن تمضي عدة سنوات وتتغيَّر مجاري المياه ويصل صوت قرع طبول الفضائح إلى أعلى الأفلاك، يتذكّرون ما كانوا عليه ويفكّرون في مواصلة السير في الطريق الذي كانوا يسلكونه؛ فيظهرون في الساحة مرة أخرى، لتعود بذلك عبارات: «السلام عليكم، وصبّحكم الله بالخير، وأنا مشتاق إليكم يا سيدي»، بالتردّد من جديد.. كيف غبت هذه السنوات العديدة مع ما أنت عليه من الاشتياق؟! إنَّ وراء هذا الغياب سبب كامن، ألا وهو انجراف النفس وانجرارها وراء المغريات التي تجتذبها عادةً، حتّى إن حصل ما حصل وتبدّلت الأمور مع مرور الأيّام بواسطة تقدير المقدِّر وتدبير مُدبِّر العالم، يعود الرجل ويتواجد من جديد؛ ومرّة أخرى، وبعد مرور سنة أو سنتين، يظهر صوت آخر من مكان ما، وتُعاد الكرَّة من جديد، فيسير الرجل بذلك الاتّجاه.
إنّ هذا النوع من الأشخاص لو عمّروا في الدنيا عمر نوحٍ عليه السلام بل لو عمّروا مليون سنة، لما برحوا مكانهم الذي هم فيه؛ فلا يمكن لهم التقدّم في المسير ولو لسنتمترٍ واحدٍ، ولا يمكن أن يُضاف إلى نفوسهم أيّ كمالٍ ولا يحصل لهم أيّ رقيّ أو تجرّد ولا يُضاف إلى معلوماتهم شيئًا ولو بالمقدار اليسير؛ فهم محبوسون في ذلك الإطار المحدود من التفكير، ولا يمكن لهم أن يدفعوا بأنفسهم نحو الحركة؛ لأنَّهم لا يستثمرون عقولهم، ولا يعملون على إنارة ذلك المصباح الذي جعله الله في النفس ليستفيد منه الإنسان في تلك الأيّام التي يُنادى فيها بـ : "وا نفساه". فيظلّون محبوسين في تلك المرتبة من الجهل والتعصّب ومشغولين بممارسة المسائل التافهة التي تشبه لعب الأطفال، ولا يستطيعون الخروج من ذلك السجن؛ وهكذا يمضون أعمارهم حتّى مغادرتهم للدنيا.
{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرينَ أَعْمالاً * الَّذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }[3] فأتعس الناس، وأسوأهم حظًّا وأكثرهم مسكنة وضلالاً وخسرانًا هم أولئك الذين أضاعوا تلك المواهب التي وهبهم الله إيّاها والتي كانوا يستطيعون بواسطتها وضع أقدامهم في المكان الذي عجز جبرائيل عن وضع قدمه فيه، والوصول إلى المرتبة التي يُمكنهم عن طريقها اجتيازُ جميع العوالم الربوبيّة وجعلها وراء ظهورهم؛ فقاموا بإتلاف تلك المواهب عن طريق إتيانهم بالتصرّفات الطفوليّة واللغويّة واللهويّة والعبثيّة، فوصلت بذلك أعمارهم إلى نهايتها، لتكون نتيجتها الخسران الأبدي. فيكفيهم من الحسرة والندامة ما سيشاهدونه عند رحيلهم إلى ذلك العالم من نتيجة ما جنوا على أنفسهم، فهذا يُغني بحدّ ذاته عن عذاب جهنّم.

    

المرتبة الثانية للفعل التي يتحدّد فيها جانبه الظلماني أو النوراني

وعليه، فإنّ حقائق الأشياء تتواجد في مرتبة المثال الأسفل ومرتبة الصورة المثاليّة الدنيا كما هي وبغضّ النظر عن جانبها النورانيّ أو الظلمانيّ؛ وهذه هي المرتبة الأولى مثلما عليه الحال في الكثير من المنامات أو المكاشفات التي نراها ونطّلع بواسطتها على القضايا والحوادث التي وقعت في الماضي أو تلك التي ستقع في المستقبل، والتي نشاهد فيها عين تلك الصورة الخارجيّة؛ فلا علاقة للحدث الذي سيقع بالنورانيّة أو الظلمانيّة، حيث إنّ ما ينكشف للإنسان هو عين تلك القضيّة والواقعة الموجودة في عالم المثال سواءً كان ذلك في المنام أو في اليقظة فيما يُعبَّر عنه بالمكاشفات أو المشاهدات.. فتلك هي المرتبة الأولى.
وأمّا المرتبة الثانية، فهي أكثر رِقّة وعمقًا ودِقةً من سابقتها، وهي المرتبة التي يتحدّد فيها طبيعة ارتباط ما تحقّق في عالم المثال بالمقام الربوبي وبسلسلة العِلل المعدَّة لتحقّق هذه الأشياء في العالم الخارجي، حيث يتمّ تحديد درجة اقتراب ما يحصل في الخارج ـ من جهة حقيقة الوجود وإفاضة نزول الوجود ـ من نور الوجود أو ابتعاده عن الحقيقة الوجوديّة: فهل تحقّق ذلك في الجانب الظلماني لعالم الوجود أم في جانبه الروحاني والنوراني؟ فمع الاحتفاظ بأصل حقيقة الشيء واستناده إلى المبدأ الأول والحقيقة العليا، فهو يتحقّق في الخارج بشكلين؛ فإمّا أن يتحقّق في الخارج بالحقيقة النوريّة ليلتحق بصفّ العليِّين والملائكة والعقول والأنبياء وعالم الأنوار، أو أن يتحقّق في الجانب الظلماني، ليلتحق بصفّ الشياطين والنفوس الخبيثة وعالم الظلمة والكدورة.
على أنَّ تلك الحقائق الخارجيّة لا تسلك من هذه الناحية طريقًا واحدًا ولا تتّبع مسارًا واحدًا باستمرار، بل من الممكن أن تقوم بتغيير صورة ارتباطها بذلك العالم عن طريق التغيّرات والتحوّلات التي قد تحصل لها؛ فمن الممكن أن تكون صورة الاتّصال الأولى نورانيّةً فتتبدّل بعد ذلك إلى صورة ظلمانيّة، أو قد تكون ظلمانيّة في بادئ الأمر ثمّ تتبدّل بعد ذلك إلى صورة نورانيّة. فحال الناس قد يتغيِّر؛ فتراه في ساعة ما على حالٍ معيّن وفي ساعة أخرى على حالٍ آخر، فإن قام بعملٍ ما، فسيكون على حالٍ معيّن، ثمّ إن قام بعمل مناقضٍ للأوّل، فسيتغيّر حاله تبعًا لذلك. وإنّ أولئك الذين حلّ عليهم الشقاء في أواخر أعمارهم وخُتم على قلوبهم وتحتّم عليهم الخلود في نار جهنّم، لم يكونوا ومنذ بداية أمرهم على هذا الحال؛ فقد كان نمط تفكيرهم في السابق يختلف عمّا هو عليه الآن، كما كان تقييمهم للأمور يجري بشكل آخر، وكانت عقولهم تستطيع وزن الحقائق والأحداث بصورة صحيحة، وكانوا يُحسنون القضاء ويضعون الحقّ والباطل كلاًّ في محلّه، وكانت عقولهم قادرة على التمييز بين النور والظلمة وبين العدل والظلم وبين العادل والظالم والجاني وغيره؛ فكانوا يحترزون عن معاشرة الجناة ويميلون إلى معاشرة الصالحين، وكانوا يُجالسون الخيّرين والنورانيّين ويُخالطونهم، ويتجنّبون مخالطة أهل الدنيا والناس الظلمانيّين والقُساة وسفّاكي الدماء والجُناة وعديمي الحياء؛ فكانت عقولهم تُعيِّن لهم خطّ مشيهم وطريقهم ومسيرهم. ولكن نتيجةً للإهمال وترك المراقبة ـ انتبهوا جيدًا لما أقول ـ وعدم الإصغاء والاستماع لنداء العقل وعدم إعطائه الأهمّية المطلوبة، زالت وبالتدريج تلك النورانيّة العقليّة وانتفت قاطعيّة العقل في الحكم على الأشياء المختلفة، واختفى شيئًا فشيئًا ذلك الجزم الخاصّ بالتفريق بين العوامل المختلفة، بل وأخذ الأمر اتّجاهًا معاكسًا؛ فانتفى ذلك الحزم الذي كان يُشاهد في الماضي، وتبدّلت تصرفاتهم؛ فبينما كان الرجل يغضب ويواجه الآخرين وينهض ويترك المجلس إن رأى ظلمًا يُرتكب، فإذا به الآن يبقى جالسًا ويستمع ويكتفي بهزِّ رأسه إعرابًا عن أسفه لما حصل! فما هو السبب في ذلك؟ وما الذي جرى؟ فالظلم هو نفس الظلم ولم يتغيّر شيئًا، وذاتك لم تتغيّر، والجاني هو ذات الجاني! فما الذي جرى بحيث تبدّلت مواقفك تجاه تلك القضية عمّا كانت عليه قبل خمس أو عشر سنوات؟! ولماذا تبدّلت؟ لأنَّ ذلك العقل الذي وهبك الله إيّاه ليكون بمثابة مصباح يُضيء لك طريق الهداية لم تعُد تستجب لندائه ولضرباته وللإنذارات التي يوجّهها لك! وغفلت عن تلك النداءات بسبب انجذابك إلى زخارف الدنيا، فلم تُعطِ الموضوع الأهميّة المطلوبة! فعندما أبلغك الطبيب بإصابتك بمرض السرطان ونصحك بالامتناع عن بعض الأمور، لم تُصغِ لنصيحته، بل قلت: لعلّ الطبيب قد أخطأ في تشخيصه للمرض، ولعلّ التحاليل المختبريّة كانت غير دقيقة، ولعلّ بقيّة الأجهزة كانت عاطلة؛ فهكذا خطأ في التشخيص قد حصل مع الكثيرين من غيري، فلعلَّ حالتي هي واحدة منها! حسنًا، إن كنت لا تُريد سماع النصيحة، فلا يُجبرك أحد على ذلك، وافعل ما تشاء! [فلسان حال] الجهاز يقول: يقتضي واجبي أن أبلغك بإصابتك بالمرض، والأمر متروك إليك في متابعة الموضوع أو إهماله، كما يقول الطبيب: إن واجبي هو أن أصف لك العلاج، وأمّا موضوع الالتزام به أو عدم الالتزام، فهو لا يعنيني بشيء؛ فبما أنَّك راجعتني، فواجبي العقلي والوجداني والفطري يٌحتّم عليَّ إبلاغك بالتشخيص الذي توصّلت إليه للمرض؛ أمّا موضوع التزامك من عدمه فهو خاصّ بك، إن شئت فعلت، وإن لم تشأ فلا تفعل!
فإن أهمل المريض وخالف التوصيات، فسوف يستفحل المرض ويصل الورم السرطاني إلى الجهاز العصبي؛ فعندها، وحين يأخذ المرض بتلابيبه، ترى صوته يرتفع بالصراخ والعويل، ولا يستطيع معرفة طعم الراحة والهدوء.. ما الذي جرى؟! ولماذا لم يرتفع صوتك قبل هذا يا عزيزي؟! لأنَّ الورم السرطاني لم يكن قد وصل إلى المركز العصبي بعد، وأمّا الآن وقد أصبح على وشك الضغط عليه، فقد ارتفع صوتك وأخذت بالجري مسرعًا ـ وأنت لم تُكمل لبس ملابسك بعد ـ نحو هذا الطرف وذاك لمعرفة ما الذي حلَّ بك! آلآن وقد انتهى كلّ شيء! فلو أنَّك قد أجريت عمليّة جراحيّة الآن، فسوف لن تنفعك في شيء، حيث وصل المرض إلى الدم، ولا يفيدك والحال هذه حتّى تبديل دمك. فيبقى الرجل يتردّد بين هذا المكان وذاك حتّى يرحل عن الدنيا بعد شهرين أو ثلاثة، إذ ترتفع الأصوات عندها بنعي حُجّة الإسلام الذي رحل إلى دار البقاء؛ ففي ذلك الوقت الذي يرى فيه عزرائيل، أو في تلك اللحظة التي يُخبره فيها الأطباء بعدم وجود فرصة له للبقاء على قيد الحياة لأكثر من شهرين، سيشعر بأنَّ الدنيا قد اندكّت على رأسه، ويعلم عندها فقط ما الذي جناه على نفسه! وسيعلم بأنَّ عمره قد ذهب هباءً، وبأنَّه لم يستفد من ذلك المصباح وتلك النداءات التي كان يصدرها العقل للعشرات من السنين والتي كانت بمثابة النقر على رأسه لغرض الاستيقاظ من نوم الغفلة، حيث سيتمّ استعراض كلّ هذه الأمور أمام عينيه في هذين الشهرين، وسيتبدّل كل واحد منها إلى أفعى وعقرب تداعب روحه ونفسه وسرَّه بلسعاتها المؤلمة. فكلّ شيء ثابت ومحفوظ في محلّه في عالم الوجود، فلِماذا لم تستفد من تلك النداءات؟ ولِماذا لم تستفد من ذلك التنبيه؟ وما الذي حصل لذلك القلب الذي لم يكن يتمكّن من إيذاء حتّى نملة صغيرة في ذلك الوقت، فإذا به الآن يُضرِّج بريئًا بدمائه من دون أن يرفّ له جفن؟ فأين ذهبت تلك الرحمة وذلك العطف وذلك الوجدان وتلك الفطرة؟ فهذا هو حال الدنيا! فلا تتصوّروا بأنَّ تلك الامتحانات خاصةّ بالماضين فقط، بل هي تحصل الآن وستحصل في المستقبل، وهي تحصل كلّ يوم.. نعم، إنَّها تحصل كلّ يوم.
فتلك الحقيقة النورانيّة [أو الظلمانية] المثاليّة موجودة في كلّ شيء؛ فلكلّ شيء إمّا جانب نورانيّ نتيجة لاتّصاله بمقام التجرّد الربوبي أو جانب ظلماني بسبب ابتعاده عن ذلك المقام، حيث يظهر هذا الأمر ويتّضح للمرء في أشكال وصور مختلفة، ويُعدّ هو الهدف الذي من أجله تمّ تشريع الشرائع الإلهيّة وإرسال الأنبياء وإنزال الكتب؛ أي أن يقوم الإنسان بإخراج جميع ما بحوزته من جانبه الظلماني إلى الجانب النورانيّ.. فكلّ ما جرى هو لأجل تحقيق هذا الهدف.

    

كيفيّة تلبّس الفعل بالجانبين الظلماني أو النوراني

إنَّ مجيئنا إلى هذه الدنيا لم يكن باختيارنا، فقد جيء بنا إلى هذه الدنيا... نعم، يبقى أنّ البحث عن هذا الموضوع هو بحث آخر لا نريد أن نخوض فيه، فلنبحث الموضوع في مستوى أدنى؛ فمجيئنا لم يكن باختيارنا وهذا هو المقدار الثابت والمسلّم به، ومنذ اللحظة التي وردنا فيها هذا العالم، فُتح لنا ملّف خاصّ بوجودنا، وأخذنا نطوي صفحاته الواحدة تلو الأخرى، حيث إنّ لكلّ يومٍ من الأيام ملفّه وصفحته الخاصّة به. فبالنسبة لهذا اليوم الذي هو يوم الجمعة، الثاني والعشرون من شهر شعبان، فقد جعل الله لنا ملفًّا وصحيفةً خاصّة به؛ فكُتب في صحيفة يوم الجمعة الأعمال التي ستقوم بها منذ نهوضك من الفراش وحتّى تخلد إلى النوم والراحة ليلاً؛ فالأعمال التي تُنجز وفقًا لرضا الله تكون نورانيّةً، وتلك المخالفة لرضاه تكون ظلمانيّة؛ بدءًا من حديثك مع الزوجة والأطفال والجيران، وجميع حركاتك وسكناتك. فعند خروجك من المنزل قاصدًا محلّ بيع الخضار، وقيامك بانتقاء الفاكهة الجيّدة وبدون أن يراك صاحب المحلّ، سيكون لهذا الكيلوغرام من التفاح الذي اشتريته جانب ظلماني؛ فعندما لا يكون صاحب المحلّ راضيًا بالانتقاء، فلا يجوز لك الانتقاء؛ وإن أردت الانتقاء، فاذهب إلى محلٍ آخر يُجيز لك ذلك. أمّا إن اشتريت من الأوّل وقمت بالانتقاء عندما يُدير رأسه إلى الجانب الآخر، فسيكون هذا الكيلوغرام الذي اشتريته ظلمانيًّا.. انظروا إلى دقّة المسألة وحساسيّتها!
ولكنَّك إن اشتريت منه ذلك التفاح [بدون أن تقوم بالانتقاء]، فستتحول تلك التفاحة التي تأكلها إلى نور، وستصبح كلّ واحدة منها نور؛ لأنَّ شراءك منه كان وفقًا للشرط الذي اشترطه والذي وافقت عليه. أمّا صاحب المحلّ الذي يشترط عليك مثل هذا الشرط، فهل هو يشترط نفس الشرط على الآخرين أيضًا؟ أم أنَّه يشترطه عليك أنت فقط؟ فإن كان يفعل ذلك مع الجميع، وذلك بأن يقوم بإفراغ ما في الصندوق من فاكهة، ثم يقول: خذوا منه على ما هو عليه كبيره وصغيره، سالمه ومسوّسه، ويقوم بتطبيق ذلك على الجميع، فلا بأس بهذا النوع من التعامل؛ أمّا إن سمح لصديقه بالانتقاء، فسيُصبح جميع ما في السلّة من فاكهة ظلمانيّ بالنسبة له، ونور بالنسبة إليك.. أتُلاحظون؟ فالشيء هو نفس الشيء، فهي ذات التفّاحة أو البرتقالة أو أيّة فاكهة أخرى، ولكنَّها تأخذ جانبين؛ فهي من ناحيتك تلتحق بعالم النور والبهاء والبهجة وستمتلك جميع ما لها من خصائص وآثار، وأمَّا بالنسبة إلى البائع، فكلُّ ما يربحه من بيعه هذا سيسبِّب له النكبة ويجرّ عليه الوبال.
كان أمير المؤمنين راكبًا بغلة، فوصل مسجدًا، فأراد دخول المسجد للصلاة أو لأمر آخر، وكان هنالك رجل واقفًا بباب المسجد؛ فقال له أمير المؤمنين: أمسك البغلة حتّى أدخل المسجد. فقال الرجل في نفسه: هذا أمير المؤمنين وهو يختلف عن غيره، وسوف لن يتعقّبني، فأخذ اللجام أو السرج وهو يقول: وهل سيراني بعد هذا اليوم؟ فخرج أمير المؤمنين ووجد البغلة أو الحصان بدون سرج، فقال لأحد أصحابه خذ هذا المبلغ وهذه الدراهم الثمانية واشتر بها سرجًا لهذه البغلة؛ فذهب الرجل ورأى سرجًا معروضًا للبيع، فاشتراه؛ فعندما نظر إليه أمير المؤمنين قال: هو نفس السرج الذي كان على البغلة، ولقد كنت ناويًا على إعطاء هذه الدراهم الثمانية لذللك الرجل، غير أنَّه لم يشأ أن يأكلها حلالاً، فأعطاه الله تعالى إيّاها عن طريق الحرام[4].
فتلك الدراهم الثمانية التي دفعها أمير المؤمنين لم تكن ظلمانيّة، لأنّه مضطرّ لتهيئة سرج للبغلة أو الحصان؛ وما يأخذه ذلك الرجل هي تلك الدراهم الثمانية عينها، وهو يأخذها من أمير المؤمنين.. من أفضل خلق الله، غير أنَّها أصبحت سببًا في جلب الوبال والتعاسة والجهل له، وستكون لها تبعات أخرى أيضًا.
ولا يخفى أنّ هذا هو ما نلمسه بحسب الظاهر، وأمّا ما يتعلّق بالأولياء والعظماء والأئمّة، فلا نستطيع نحن أن نخوض في مثل هذه المسائل؛ فما ذكرناه هو ما نشعر به وندركه.
فبناءً على هذا، يكون لجميع الأعمال التي نقوم بها جنبتين: جنبة نورانيّة وجنبة ظلمانيّة، وكلّ عمل نقوم به يترك له أثرًا على أنفسنا؛ فإن قام المرء بعمل خير، ترك ذلك العمل أثره الإيجابي على النفس، فما هو هذا الأثر الذي يتركه العمل الذي يقوم به الإنسان؟ إنَّ أثره هو تبدّل النفس ـ من حيث ارتباطها بالمقام الربوبي ـ إمّا إلى عالم من النور والبهاء والبهجة، أو إلى الظلمة والكدورة والقساوة. ويستطيع الإنسان معرفة ذلك بنفسه؛ فعندما يتعامل مع رجل ما، يشعر بالراحة والاطمئنان في نفسه، وعندما يتعامل مع آخر وعلى الرغم من تحقيقه ربحًا في تلك المعاملة التجاريّة، غير أنَّه يقول في قرارة نفسه: لو كنت مكانه لما رضيت بتلك الصفقة، فأنا نفسي لا أحبّ أن يتعامل معي أحد بهذه الطريقة؛ فتبدأ نفسه بملامته، ويشعر بالضيق والكآبة من تلك المعاملة التي قام بها ويثقل عليه ذلك.. فالسبب في ذلك الضيق والثقل يعود إلى ما ذكرنا.
ومعنى ذلك أنّه يشعر بالتقصير ويعترف في نفسه بارتكابه للخطأ، ويحسّ بالضيق والثقل في نفسه ممّا قام به، ويشعر بالخجل تجاه فطرته ووجدانه: فكلّ هذا الشعور ناجم عمّا تسبّبت به تلك المعاملة من إبعاده عن الله؛ وهذا أمر عظيم.
فكلّ اهتمام العظماء وأولياء الله وأساتذة الطريق هي أن يعملوا على أن نضع أقدامنا على ذلك الطريق، وأن نتصرّف بالشكل الذي لا نشعر معه بالضيق والخجل في أنفسنا ممّا نقوم به، وأن يكون عملنا خالصًا شفّافًا لكي تكون ضمائرنا مرتاحة؛ لا أن يكون هدفنا تحسين سمعتنا أمام الآخرين بألف حيلة وخدعة. فمتى ما استطعنا المحافظة على راحة وهدوء ضمائرنا وكسب ثقتها، فيمكن أن يُقال عنَّا حينئذٍ بأنَّنا من أهل المراقبة، وأنّنا مهتمّون بأمرها؛ أمّا إن عجزنا عن إقناع ضمائرنا والمحافظة على راحتها وعجزنا عن مماشاة الفطرة التي أودعها الله فينا عند تعاملنا مع الآخرين، فسنعيش حياةً مظلمة وقاسية وسنكون في جهنّم، حتّى وإن تمكنَّا من إقناع الناس بصحّة نهجنا والاستدلال على ذلك بألف دليل ودليل، وحتّى وإن استطعنا خداعهم وتقبّلوا هم بدورهم منَّا ما نقول.. فهذه قضيّة واقعيّة.
تقول الآية القرآنية:{إِنَّ الَّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ في‏ بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعيراً }[5] إنَّ أموال اليتامى لا تتبدّل إلى نار، فطبيعة أموال اليتيم مشخصّة؛ فهي إمّا نقود أو عقار أو رأسمال تجاري؛ فالنقود نقود، وهي لا تختلف عن غيرها من النقود، والمائة دينار هي مائة دينار سواءً كانت عائدة إلى يتيم أو غيره؛ غير أن ذلك العمل الذي يقوم به الآخر من سرقة أموال اليتيم بالتوسّل بالحيلة والخدعة والنيّة الفاسدة هو نار بحدّ ذاته. فلو انفتحت عين البصيرة والعين الملكوتيّة لأحدهم وصار باب المكاشفة مفتوحًا له، لعرف من النظرة الأولى بأنَّ هذا الرجل يأكل الآن أموال يتيم، ولا حاجة له إلى الاستدلال بدليل أو الذهاب إلى المحكمة ومعرفة حكم القاضي؛ فبمجرّد أن ينظر إلى الرجل، يقول له: أنت تأكل أموال يتيم، وهذا هو اليتيم الذي أكلت أمواله، وها هي النار قد أحاطت بك، فأصبح كلّ وجودك شعلةً من النار.قال لي بعض الإخوة بأنَّهم قد رأوا في مشاهداتهم ومكاشفاتهم البعض ممّن ارتحل عن هذه الدنيا في جهنّم، والعجيب أنَّهم كانوا يقولون في بيانهم لهذا الأمر بأنَّ النار قد استولت عليه بكامل وجوده، وأنَّ تلك النار لم تكن نارًا، بل كانت مرآةً؛ أي أنهَّا كانت تعكس نفس العمل الموجب لها والذي قام به ذلك الرجل، كما أنَّ النار التالية كانت تُري العمل الآخر الذي كان يقوم به، وكانت هذه النيران يختلف بعضها عن البعض الآخر، حيث إنّ أشكال الظلمة التي تحصل للإنسان تختلف عن بعضها البعض.
قال لي أحد الإخوة ـ وكان ذلك في حياة المرحوم العلاّمة ـ رأيت فلانًا من الناس في ظلمة عجيبة، والسبب الموجب لهذه الظلمة هو ما يقوم به الآن من عمل، ولم تكن بسبب عمل سابق كان قد قام به، أو عمل سيقوم به مستقبلاً؛ فلِتلك الظلمة التي هو فيها الآن سببها الخاصّ بها وما أوجبها، ولم تكن مجرّد ظلمة عابرة، كأن تقوم بإطفاء المصباح، فيُظلمّ المكان.. كلاّ، لم تكن كذلك.

    

أفعال الإنسان الظلمانيّة هي الوقود الذي يسعّر بها ناره

فكم هي عجيبة تلك الآية التي تتحدّث عن النار التي أعدَّها الله للكافرين: { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي‏ وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرينَ }[6]. فالوقود هو مصدر إيجاد النار، حيث يُقال للنفط والبنزين والكبريت والبارود والحطب والقطن وقودًا، بخلاف الحجر الذي لا يُسمّى وقودًا؛ لأنَّه غير قابل للاشتعال. وأمَّا حجر جهنّم فهو من الوقود، إذ إنّ مصدره هو قسوة قلوب بني البشر، حيث ستتبدّل تلك القسوة في جهنّم إلى حجر منصهر ومُذاب؛ نظير ما نشاهده في الصور والأفلام عن انفجار البراكين، حيث تسيل منها المواد المنصهرة؛ فتلك الموادّ هي عبارة عن حجر منصهر يتحوّل إلى حجر صلب عند نزوله إلى أسفل الجبل وبرودته، حيث يكون من النوع شديد الصلابة عادةً، غير أنَّه ينزل من الجبل بعد خروجه من البركان على شكل سائل؛ فهو منصهر وحار بالشكل الذي لا يستطيع الرائي أن يعتقد بأنَّه حجرًا، حتّى إذا ما تصلّب، علم عندئذٍ بكونه حجرًا. فهذا لا يعني بأنَّه لم يكن حجرًا منذ البداية، بل هو حجر غير أنَّه كان يعكس جوهره الوجودي في تلك اللحظة ليقول: أنا نارٌ، ولست بحجر عادي.. نعم، أنا نار!
فجميع تلك القسوة التي تصدر من أحدهم في هذه الدنيا والتي ينتج عنها كلّ هذه الجنايات والوحشية، ستتبدّل في جهنّم إلى حجر منصهر، وستكون هي نصيبه في ذلك العالم؛ فكيف لا يكون للإنسان ـ والحال هذه ـ معرفة بها؟! كيف يمكن أن يكون ذلك؟!
فالآية لا تقول بأنَّ الله قد أوقد تلك النار بالحطب والنفط والبنزين ولوازم الاشتعال الأخرى، بل كفى بالناس وقودًا لإيقاد جهنّم وجعلها طريّة!! فحجر جهنّم هو على درجة عالية من الطراوة!!! لكنّها لا تتلاءم مع مزاجي، ولم يوصني بها أحد من الأطباء، وأسأل الله ألاّ يجعلها من نصيب الإخوة، وأن يقسم لنا بدلاً عنها ذلك الرحيق والسلسبيل من يد أمير المؤمنين. وأمّا ذلك الحجر، فهو مختصّ بأولئك الذين اختاورا لهم طريقًا آخرًا في فتن آخر الزمان؛ فنسأل الله ألاّ يجعلها لنا، بل نستطيع أن نقول من هذه الناحية بحمد الله وبالاتّكال على الله والتوسّل بالأئمّة والأولياء [بأنَّ الله سيجّنبنا منها]؛ فبدون التوكّل على الله والتوسّل، سنصبح مثل أولئك، بل وأسوء منهم، وبالاتّكال والالتجاء والتوجّه والاستمداد من القوى الإلهيّة التي منحنا الله إيّاها وقوة العقل التي هي الفيصل بين الحقّ والباطل والتي هي فصل الخطاب، وبهداية مقام الولاية والشمول بلطف الله وبمدد من الملائكة، يمكن الوصول إلى ذلك المكان الذي نسأل الله أن يجعله من نصيبنا جميعًا؛ إن شاء الله.
حسنًا، إنّ ما كان يعمله هؤلاء القوم هو الذي جعل عاقبتهم بهذا الشكل؛ فالعمل الذي يقوم به الإنسان هو مصدر وقود تلك النار، وأمّا من يمسح بيده على رأس اليتيم، فسيقلب الله حياته رأسًا على عقب.. أتلاحظون أين يكمن السرّ في المسألة؟ وعلى العكس منه ذلك الذي يتسبّب في تيتيم طفل، فيا للويل، ويا للويل ويا للويل له! فيا للويل له ثمَّ يا للويل، فحتّى جبرائيل لا يستطيع علاجه لو حاول ذلك! فمن يتسبّب في تيتيم طفل أو ترميل امرأة أو رجل أو ثكل امرأة، فإنّ تأوّه تلك الأم أو ذلك الأب سوف يهدّ أركانه ويُحيل حياته إلى رماد.. فالله بالمرصاد، وهو يحكم بالحقّ.
فجميع ذلك يا عزيزي هو بسبب ارتكاب الحرام.. {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَميعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَميعاً }[7].. فكم هو التفاوت بين الحالتين!
وهذه المسألة تعكس الارتباط الموجود بين الحقائق المختلفة في عالم الوجود، وكيف أنَّ مصير ذلك الرجل الذي يسير الآن في أحد شوارع المدينة كذا الواقعة في البلد كذا في القارّة كذا، والذي تم التعدِّي عليه، مرتبط في عالم الوجود بمصيري أنا الجالس هنا والذي أتحدَّث إليكم الآن، كما أنَّ جميع الحاضرين في هذا المكان مرتبطين ومتّصلين مع بعضهم البعض الآخر. فالعمل الباطل يستولي على النفس، فتفقد النفس ـ نتيجةً لذلك ـ الجانب العقلائي والنورانيّ وبشكل تدريجي، وتحلّ محلّه القسوة وبشكل تدريجي أيضًا، حيث إنّ نفس الإنسان لا تصبح قاسية بين ليلة وضحاها؛ فإن ارتكب أحدهم جناية، فسوف لن يمرَّ عليه الأمر بشكل عادي بحيث ينتابه الضحك والسرور، بل تراه يلوم نفسه ويندم على ما فعل، وهو يقول: ليتني لم أخرج من المنزل هذا اليوم حتّى أبتلى بهذا الأمر.. ألا يحصل لنا هكذا حال عندما نرتكب معصية ما؟ ألا يحصل لنا الندم؟ فلو كان فعلنا صحيحًا، لما كان مدعاة للندم! ولو لم يكن به ضير، فلا مجال للندم حينئذٍ. فإن لم يكن العمل خاطئًا، فسوف لن تترتّب عليه أيّة تبعات، فلِمَ يندم الإنسان إذًا؟ ولو كان عمله مبنيًّا على حُجّةً شرعيةً، فلماذا يندم؟ ولماذا تلومه نفسه على ما فعل؟ لأنَّ ملامة النفس لا تتوافق مع كون العمل مبنيًّا على حجةٍ شرعيةٍ؛ فلو كان عمله متوافقًا مع الحجّة الشرعية، لما لامته نفسه ولما أنَّبه ضميره، لكن عند حلول اليوم التالي، يقوم هذا الرجل بتكرار نفس الجناية، فتلومه نفسه أيضًا، غير أنّ الملامة ستكون أقلّ في هذه المرَّة من سابقتها؛ وهكذا يتكرّر الأمر معه في اليوم الثالث والرابع، حتّى يصبح الأمر طبيعيًّا لديه بشكل تدريجي!
نقرأ في كتب التأريخ كيف أنَّ حكّام المغول الجائرين كانوا يتفرّجون على كيفية ضرب أعناق المئات من الناس أمامهم، وهم مشغولين بشرب كؤوس الخمر الواحد تلو الآخر، ويضحكون بشكل جنوني، بحيث تصل أصوات قهقهتهم المعربدة إلى عنان السماء؛ فكيف يمكن أن يحصل ذلك؟ إنَّ النفس يمكن أن تصل إلى درجة من الشقاء بحيث تتلذّذ من ارتكاب أشنع الأعمال التي يمكن تصوّرها! فلا يقتصر الأمر لديهم على عدم الشعور بالندم والخجل عمّا يفعلونه، بل ويتلذّذون بما يفعلونه بالآخرين! ويمرض أحدهم ويصبح طريح الفراش إن مضى عليه يومان دون أن يفعل ذلك. ومن أجل إعادته إلى وضعه السابق، يأتون لإنهاضه ويقولون له: ها قد وصل قوتك اليومي، فعليك أن ترسل مجموعة من أتباعك إلى كذا ناحية، وتفعل كذا وكذا! لماذا يحصل مثل هذا؟ ولماذا ابتلي بني البشر بهذا البلاء؟ ولماذا ابتلي الإنسان بهذا المرض المهلك؟! لماذا؟ لأنَّه لم يستجب إلى نداء عقله وضميره، ففعلت تلك الجنايات فِعلَها وتركت آثارها الواحدة تلو الأخرى على نفسه، وأزالت الجناية الأولى مقدار من النورانيّة التي كان يمتلكها وحلّت محلّها الظلمة، وجاءت الجناية الثانية، فأزالت مقدارًا آخر؛ وهكذا حتّى أُزيلت النورانيّة من وجوده بالكامل وصارت نفسه نفسًا ظلمانيّة، فأصبح بذلك مصداقًا للآية: {خَتَمَ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ عَلى‏ سَمْعِهِمْ وَ عَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظيمٌ}[8]. فلمّا ختم الله على قلبه، لم تبق فيه بذلك أيّة نافذة للنور، وانقطع توجّه عقله نحو الحقّ؛ فلا يمكن لأذنه والحال هذه أن تستمع لنداء الحقّ، وإن جاءه أحدهم وتكلّم بكلام حقّ أمامه، تراه ينهره بشدّة ويطرده وهو يقول: لا طاقة لي لسماع مثل هذا الكلام! على أنَّ حاله لم يكن على هذه الشاكلة قبل خمس سنوات، بل كان يدعو الآخرين بنفسه للتقصّي عن المسائل.. لِمَ يحصل هذا؟ ولماذا ينتكس الإنسان من مرتبة عالية إلى مرتبةٍ أدنى؟ إنَّ كلّ ذلك هو بسبب التأثير المثالي، حيث يعمل ذلك الأثر المثالي والملكوتي للشقاء والتعاسة على تبديل نفسه من نفسٍ نورانيّةٍ إلى نفسٍ ظلمانيّةٍ؛ فتعمل تلك النفس الظلمانيّة بدورها على تبديل العقل إلى قوة شيطانيّة لا تُجيد سوى المكر والخديعة.
إنَّ الحيوان لا يعرف المكر، وذلك لعدم امتلاكه للعقل، وأمّا الإنسان، فهو يُجيد المكر لامتلاكه العقل؛ فيعمل هذا العقل على تدبير القضيّة وترتيب حلقاتها ووضع كلّ منها في محلّها المناسب.. كيف يحصل كلّ هذا؟ يحصل هذا بسبب أنّ تلك القسوة والتعاسة التي تتّصف بها نفسه تعمد في مقام الظهور إلى رسم هكذا خطّة؛ فتراه عندما يسعى لتحقيق أمر ما، فهو يخطّط له ويرتّب جميع خطواته بالشكل الذي ينتفي معه أيّ مانع يحول بينه وبين تحقيق ذلك الهدف الشيطاني والظلماني؛ فهذا هو دور العقل في هذا المجال، ولكن أيّ عقل هذا؟ إنَّه ذلك العقل الواقع تحت سيطرة الشيطان وهيمنته، لا ذلك العقل المسخّر من قبل القوى الرحمانيّة وملائكة الله، والذي يُسيَّر بواسطتها، وتصله عن طريقها الإشارات والذبذبات الواحدة تلو الأخرى وتعمل على ترتيب خطوات سيره. فمن الطبيعي لمن يصل إلى هكذا مرحلة أن لا يرتكب خطًا أو ذنبًا؛ لأنَّ نفسه كانت منذ البداية نفسًا روحانيّةً ونورانيّةً، ومن الطبيعي والحال هذه أن تتطابق آثارها الخارجيّة معها.
فبناءً على هذا، يجب أن تنتظم جميع أفعال الإنسان في هذا الاتّجاه، حيث من اللازم ملاحظة تحقّق الجانب النورانيّ فيها.

    

مثال على ظلمانيّة الطعام: الطعام الذي تُؤدّيه الزوجة مكرهةً

إنّ الإرشادات التي ذكرها الإمام الصادق عليه السلام بشأن الطعام ـ كما ذكرنا سابقًا ـ تقع في طريق نفس هذا الهدف؛ لأنّ الأكل هو مسألة مهمّة جدًّا، ويجب أن تُنجز جميع الأعمال على هذا الأساس، ويجب أن تكون كافّة تصرّفاتنا مبنيّة على هذا النهج.
ولقد حدّثتكم سابقًا عن أنَّ المرحوم الشيخ الأنصاري كان يقول: يستطيع الإنسان ومن خلال الشاي الذي يشربه في منزل أحدهم أن يعرف فيما إن كانت زوجة صاحب المنزل قد أعدّت ذلك الشاي برغبة ونفس طيّبة أم أنَّها كانت متذمّرة حين إعداده؛ وهذا ممّا لا يستطيع الكثيرون معرفته. فعندما تكون المرأة مستاءة أو تعبة أو لديها مشكلة ما أو لم تكن راغبة في إعداد الشاي، فقيامها بهذا العمل هنا خشيةً من غضب زوجها، وهي تقول في نفسها: «آخ! وهل من المناسب أن يقوم هذا الشخص في هكذا ساعة من الليل بزيارتنا ويتسبّب في إزعاجنا وحرماننا من الراحة، وإن لم أقم بإعداد الشاي له، فسيخبر زوجته بذلك»؛ فتقوم بإعداد الشاي وهي تتذمّر وتتأفّف! فقيامها بإعداد الشاي وهي على هذا الحال يجعل كلّ نفس تتنفّسه وكلّ خطوة تخطوها بمثابة السمّ الذي تصبّه في ذلك الشاي؛ فذلك اللون الأسود الذي يُشاهد للشاي، لم يكن للشاي نفسه، بل هو عبارة عن تلك السموم المصبوبة فيه، وإلاّ فلون الشاي أكثر شفافيّة من هذا، وهو يدلّ على الصفاء والنورانيّة التي أُعدّ بها.
وعلى كلّ حال، فإنّ إحدى الوصايا التي كان المرحوم العلاّمة يوصي بها أصدقائه، ويؤكِّد عليها كثيرًا هي أنَّه كان يقول: لا تُحرجوا زوجاتكم وتُتعبوهنّ في زياراتكم لبعضكم البعض الآخر! فقد يقول أحدهم: لنذهب لتناول طعام العشاء في بيت أحد الإخوة، في الوقت الذي قد تكون زوجته متعبة من خلال اعتنائها بالطفل؛ فتتعرّض الزوجة حينئذٍ للمضايقة، وإن قامت بإعداد الطعام، فستفعل ذلك وهي تعبة، فيترك هذا الأمر أثره السلبي على طبيعة الطعام. فكان المرحوم العلاّمة يقول: عليك أن تقوم بإعداد الطعام بنفسك في هكذا ظرف، كأن تقوم بإعداد البيض، أو بإحضار الخبز والجبن والخضار؛ فإن كنت تريد القيام بعمل، فعليك أن تقوم به بنفسك، فلماذا تُحمّل الآخرين مهمّة القيام به؟! ولماذا تضغط على غيرك؟! فما هو ذنب أمة الله لكي تضعها في مثل هذا الموقف؟ فإن رأيت حالها غير مساعد، فعليك أن تقول لها: اذهبي أنت وارتاحي، وسأقوم أنا بترتيب الأمر. على الإخوة الانتباه إلى أهميّة هذا الموضوع؛ فقد كان المرحوم العلاّمة يؤكِّد عليه كثيرًا، وكان يقول: إنَّ لذلك الطعام الذي يُقدَّم للإنسان، والذي تمّ إعداده من قبل من يكون مكرهًا على إعداده تأثير سلبي على الذكر والحضور القلبي له، ولا يمكنه أن يكون طعامًا مفيدًا للسالك.
ولا يخفى أنّ هنالك المزيد من المواضيع التي كنت أنوي طرحها، يتعلّق بعضها بموضوع الطعام، ويتعلّق بعضها الآخر بمواضيع أخرى، غير أنَّ وقت المجلس قد شارف على الانتهاء؛ ولذا، سأقوم بتأجيل الحديث عمّا تبقّى منها إلى ما بعد شهر رمضان إن شاء الله إن حالفني التوفيق، وإن لم يحصل بداء، وبشرط الحياة.

    

وصايا في كيفيّة الدخول على شهر رمضان المبارك

إنَّ شهر رمضان على الأبواب، ومن المؤكِّد أنَّ للمواضيع المطروحة هنا أهمّية كبيرة في هذا الشهر، حيث بالإمكان الاستفادة منها فيه، كما أنَّها من الأمور المبتلى بها في هذا الشهر الفضيل.
وقد كان العظماء يبدون اهتمامًا شديدًا بشهر رمضان، ويؤكّدون كثيرًا على ضرورة مراعاة [حرمته]، كما يُستفاد من كلامهم بأنَّ مصير الإنسان للسنة القادمة يتحدّد بواسطة هذا الشهر؛ أي بالطريقة التي سيُمضي المرء هذا الشهر؛ إذ إنَّ كلّ ما سيقع له في سنته القادمة، سيكون متوافقًا مع الكيفيّة التي أمضى فيها شهر رمضان، حيث سيتمّ دفعه إلى الأمام؛ ولذا، تراهم يؤكِّدون على هذا الموضوع كلّ ذلك التأكيد.
فمن بين المواضيع التي كانوا يوصون بها هي: الغسل والتوبة قبل دخول شهر رمضان، حيث كانوا يوصون رفقاءهم وأصدقائهم بغسل التوبة والتوجّه إلى الله بطلب العفو والمغفرة عمّا ارتكبوه من الأخطاء والزلاّت، وأن يعلموا بأنّ الله تعالى قد مدَّ هذه المائدة، وفرض على العباد وألزمهم الجلوس عليها.. أتعلمون ماذا يعني الفرض والإلزام؟ فقد يدعو أحدهم صديق له للحضور لتناول الطعام لديه وذلك بالاتّصال به هاتفيًّا أو يرسل إليه رسالة شفويّة، أو رسالة تحريريّة تعبيرًا عن الاحترام لدعوته للحضور في يوم محدّد، لكن في بعض الأحيان، قد يعمد إلى إرسال ممثّل عنه لدعوته، ويقول لممثّله: إن لم يُلبّ الدعوة، فقم بالإلحاح عليه وإحضاره! فيذهب هذا الممثّل ويُصرّ على حضوره، إلاّ أنَّ إصراره لا يجدي نفعًا، فيعود. فيقول له: ارجع إليه من جديد، وقم أنت بتغيير ملابسه بنفسك، واجلبه بالقوّة وإن كان ارتداءه لملابسه غير مكتمل.
فبهكذا أسلوب يدعونا الله لتلبية دعوته في شهر رمضان؛ أي أنَّه يُجلسنا على مائدته بالقوّة سواء كنَّا راضين بذلك أم مكرهين عليه.. فهذا هو معنى الفرض. أمّا الموارد الأخرى التي لا يكون فيها فرض، فهي من قبيل الدعوة إلى صيام شهر رجب أو شعبان، حيث كان رسول الله يصل شهري رجب وشعبان برمضان، ويصوم الأشهر الثلاثة معًا. فالصيام في شهري رجب وشعبان غيره في شهر رمضان، إذ يتمّ فيهما الدعوة إليه بالقول: تفضّلوا ها هي المائدة مُعدّة «ومَوائِدُ المستَطعِمِينَ مُعَدَّةٌ[9]»؛ أي أنّ الله تعالى يُرسل لنا بطاقة دعوة لصيام شهري رجب وشعبان، حيث إنّ دعوة الأنبياء والأئمّة وجميع هذه الروايات الواردة بهذا الشأن هي عبارة عن بطاقة دعوة لنا، فيستطيع الإنسان أن يصوم منهما بما يتناسب مع قابليّته وقدرته ووضعه ومزاجه، كما جُعل المرء في سِعة من أمره، فإن كان لا يُريد الصيام، فهو ليس ملزم عليه.
وأمّا في شهر رمضان، فالأمر مختلف، حيث لا وجود لإرسال بطاقة دعوة وتمنِّي الحضور هنا! بل يتمّ ذلك عن طريق الفرض والإلزام؛ فالإلزام يعني إخراج الفرد من بيته عنوة ووضعه في سيّارة وجلبه وقفل الباب عليه من الداخل وإجلاسه على المائدة، فما الذي سيُمكنه فعله والحال هذه؟ فهذه هي الطريقة التي يدعونا الله بها لصيام شهر رمضان! فموضوع الإلزام في شهر رمضان هو موضوع آخر.
ولهذا، فقد منَّ الله علينا في شهر رمضان، حيث جعل ليلة قدرنا وتحديد مصيرنا المستقبلي في هذا الشهر، ولم يجعله في شهر رجبٍ أو شعبان، ولا في شهر ذي الحجّة أو في شهر محرّم أو صفر، بل جعلها في شهر رمضان، فقال: عليك الصيام حتّى تصل إلى ليلة القدر؛ فلو أنَّ الله كان قد جعل ليلة القدر في الخامس عشر من رجبٍ على سبيل المثال، وهو لم يفرض صيام شهر رجب، فسيصوم بعض الناس ولا يصوم البعض الآخر؛ لأنّ للصيام شروطه الخاصّة به، حيث على الصائم الامتناع وكفَّ النفس وحفظها عن الكثير من الأمور، فيتمّ الشعور بحصول حالة من التجرّد والنورانيّة واللطافة والصفاء في نفسه؛ فلو أنَّ الله قد جعل ليلة القدر هي ليلة الخامس عشر من رجب، وقال: «من شاء أن يصوم فليصم، ومن لم يشأ فلا يصوم»، فلن يصوم الكثير من الناس، وسيقضون ليلة القدر كبقيّة الليالي الأخرى من دون أن تختلف عنها في شيء؛ ولذا، فقد جعل الله ليلة القدر في شهر رمضان، بل وجعلها ليلة الثالث والعشرين منه؛ وهذا يعني بأنَّك قد صمت إثنين وعشرين يومًا لحدّ الآن، فستكون بجلوسك على هذه المائدة في هذه الإثنين والعشرين يومًا قد تخلّيت عن الأخطاء والزلاّت التي ارتكبتها سابقًا؛ فإن كنت تتعامل بخشونة مع الآخرين، فقد تطهّرت منها بعض الشيء خلال هذه الإثنين والعشرين يومًا، وإن كنت تغتاب الآخرين وتمضي أوقاتك باللعب واللهو، فقد حصل لك تغيّر وتبدّل في هذه الإثنين والعشرين يومًا. فلهذه الأسباب، ترى الله يجعل ليلة القدر ليلة الثالث والعشرين من الشهر المبارك؛ وذلك لكي ندرك ليلة القدر ونحن مستعدّين لها، ونكون قد وثّقنا علاقتنا بالله خلال هذه الإثنتين والعشرين يومًا، وأحكمنا ربط أنفسنا بحبل الله المتين، واستحصلنا في أنفسنا ذلك الصفاء النفسي اللازم لاستفاضة لطف الله وكرمه علينا؛ وحينئذ، إن أراد الله أن يُعيِّن مصيرنا للسنة القادمة في مثل هذا الوقت ووفقًا للحال الذي نحن عليه من الصفاء وطبقًا لاختيارنا وسعة قلوبنا ومقدار تقبّلنا، فسيختلف الأمر كثيرًا عمّا إن جرى ذلك بشكل عشوائي وعفوي، وذلك بأن يُمضي المرء أيّامه بشكل عادي، ليقول له الله دفعة واحدة بأنَّ ليلة قدرك ستكون بعد ليلتين! فيكون قد أمضى أيّامه بأيّ نحوٍ كان، وارتكب كلّ ذنب، وجال بصره في كلّ مكان، واستمعت أذنه لأيّ صوت، وجرى على لسانه أيّ كلام، ووطأت قدمه أيّ مكان، وتعلّق قلبه بكلّ شيء، ثم يقول له الله: ستكون الليلة القادمة هي ليلة قدرك؛ فسيكون الأمر هنا نظير ما إن قيل لطالب: سيكون يوم غد هو يوم الاختبار! فمن المؤكّد بأنَّه سيقول: كان يجب عليكم أن تخبروني قبل شهر من الزمان على أقلّ تقدير لكي أستعدَّ له؛ فإخباركم إيّاي بالأمر في هذا الوقت المتأخّر هو مساوق لمنحي شهادة الفشل في الامتحان، وذلك لعدم استعدادي له.

    

حكمة جعل ليلة القدر في الليلة الثالثة والعشرين من شهر رمضان

فبناءً على ما تقدَّم، يكون لجعل ليلة القدر في الثالث والعشرين من شهر رمضان أهمّية كبيرة، حيث إنّها تأتي بعد أن يكون الناس قد صاموا إثنين وعشرين يومًا، فقاموا خلالها بالابتهال وقراءة أدعية أبي حمزة الثمالي ودعاء الافتتاح، وازداد توجّههم نحو الله، وازدادت مراقبتهم لأنفسهم، وسيحصل للصائم الاستعداد والتأهيل شاء أم أبى؛ فمثله هنا يكون كمثل سيّارة تسير في طريق منحدر، حيث لا تحتاج ـ والحال هذه ـ إلى صرف المزيد من الوقود. فيُلاحظ المرء عدم الرغبة لديه في ارتكاب الذنب، ويجد انتفاء تلك النزعة للقيام بالأعمال المنافية للشرع وأعمال العبث واللغو واللهو، بل لا يجد في نفسه المزاج المساعد على القيام بها، ويشعر الإنسان بأنَّ الجوّ قد تبدّل بشكل أساسي، وحاله قد تغيَّر؛ فيكون قد صام هذه الأيّام، ثمّ وصل إلى أيّام جرح أمير المؤمنين وشهادته والإحياء الذي يقوم به الصائم في هذه المناسبات، ويكون قد أمضى لياليه في التوسّل، فحصلت له رقّة قلب، واتّخذ له شفيعًا في هذه الليالي من أجل الوصول إلى المقصد.. فجميع هذه الأمور لم تأت صدفة، بل كلّ شيء يحصل هنا يكون مخطّطًا له بشكل دقيق ومحسوب له الحساب جيّدًا؛ فهل تعتقدون بأنَّ وقوع جرح أمير المؤمنين في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان وشهادته في الحادي والعشرين منه قد حصل صدفة؟ كلاّ، بل خُطِّط لذلك بدقّة وحُسب له حسابه، وتمّ التخطيط لكلّ صفحة وكلّ خطٍّ بل وكلّ نقطة، وذلك بأنَّ يُجرح أمير المؤمنين في ليلة التاسع عشر ويبقى بعدها ليلتين ليُستشهد في ليلة الحادي والعشرين، ثم تحلّ ليلة الثالث والعشرين لتأتي رحمة الله الواسعة لكي تنقذنا ممّا نحن فيه.
وإنّه لعجيب جدًّا أمرُ تلك النفس التي لاقت ما لاقت في هذه الدنيا، وكيف أمضت أيّامها فيها، وكيف دخلت هذه الدنيا وخرجت منها وعلّمتنا بذلك معنى الإنسانيّة! حيث يتعجّب المرء حقًّا عندما يفكّر في أحوال أمير المؤمنين ويغور فيها. ولقد استعرضت للإخوة في مجلس يوم الخامس عشر من شعبان قضيّة واحدة من تلك القضايا التي مرّت على أمير المؤمنين، وعلِم الإخوة ما الأمر، وعرفوا من يكون أمير المؤمنين.. لا أقول بأنَّنا قد تمكنَّا من معرفة أمير المؤمنين، بل يمكن القول بأنَّ زاوية من زوايا حياته قد اتّضحت لنا. ولقد أخبرتكم بأنَّني بقيت مستغرقًا في التفكير لمدّة ساعتين ونصف أو ثلاث ساعات، كنت خلالها أفكّر في واحد من أعماله فقط لإيجاد تفسيرٍ لما قام به؟ وهو ما حصل في معركة صفّين عند مواجهته لذلك الماكر.. أكبر محتال في التاريخ؛ ألا وهو عمرو بن العاص. فيا أيّها الذين لم تصل تلك الأمور إلى مسامعكم لحدّ الآن، أنصتوا جيّدًا، وانظروا كيف كان إمامنا، ومن كان إمامنا، وماذا يقول عنه الآخرون! فالهدف من كلّ ما جرى من تجهيز الجيوش والحرب التي استعرت لمدّة ثمانية عشر شهرًا، كان من أجل اجتثاث جرثومة الفساد أي معاوية بن أبي سفيان؛ وعندما كادت تلك الجهود أن تؤتي ثمارها وبضربة واحدة من أمير المؤمنين، [وإذا به يمتنع عن ضرب عمرو بن العاص في ذلك الموقف المعروف]؛ فهنا لم يكن الأمر مماثلاً لما حصل مع مالك الأشتر عندما طلب مهلة ساعة من أمير المؤمنين لحسم الأمر.
فلقد طلب مالك الأشتر من أمير المؤمنين أن يُمهله ساعة واحدة في الواقعة التي حصلت [في ليلة الهرير، فلسان حال مالك يقول:] لأيّ شيءٍ قد جئنا إلى هنا؟! فما هي إلاّ ساعة واحدة وأصل إلى خيمة معاوية! فقد حاصر معاوية من جهتين، بحيث لا يستطيع معاوية حتّى الفرار، وأُطبقت عليه فكّي الكمّاشة: أولئك من ذاك الجانب، وكان مالك من الجانب الآخر يضرب ويتقدّم؛ وفي هذه اللحظة، يأتيه الأمر من أمير المؤمنين بالتوقّف عن الحرب، فقال مالك: أمهلني ساعة لأنهي الحرب خلالها، فقال له أمير المؤمنين: توقّف عن الحرب! فأرسل مالك إلى أمير المؤمنين ثانية يطلب منه مهلةً، فقال له أمير المؤمنين: إن كنت تريد أن ترى عليًّا حيًّا، فتوقّف عن الحرب! ما الذي يعنيه هذا؟ يعني بأنَّ حياة أمير المؤمنين مقدّمةً على كلّ شيء.. هذا هو معنى الكلام إذًا! هذا فيما يتعلّق بموضوع مالك الأشتر، فماذا عمّا حصل مع أمير المؤمنين نفسه؟
فكلّ ما جرى في صفّين كان من تدبير عمرو بن العاص، حيث كان معاوية يلوذ بعمرو بن العاص في المواقف المختلفة؛ فهو الذي أنجاه من تلك الواقعة وذلك العسر والحرج الذي أوقعه فيه مالك الأشتر، وذلك حين أمر برفع المصاحف على رؤوس الرماح. وقبل حصول تلك الواقعة، سنحت الفرصة لأمير المؤمنين لقتل عمرو بن العاص بضربة سيف واحدة، حيث سينتهي بذلك كلّ شيء، وتصبح الشام جزءًا من الدولة الإسلاميّة، وتستقرّ الحكومة الإسلاميّة في الشام. فلو هلك عمرو بن العاص؛ لانتهى كلّ شيء؛ لأنّه المخطِّط لكلّ ما جرى، وكان بمثابة مدير غرفة العمليّات في جيش معاوية، وكلّ ما حصل كان من تدبيره هو. فعندما رأى أنَّ أمير المؤمنين فوق رأسه، لم يجد مفرًّا له سوى تلك الفعلة الشنيعة التي قام بها، فأدار أمير المؤمنين رأسه عنه، وانقلبت الأمور رأسًا على عقب؛ أي إنَّ تلك الحرب وذلك التعسكُر كاد أن يؤتي ثماره؛ وإذا بكلّ شيء يعود إلى نقطة الصفر في ظرف عشر ثوانٍ، وانتهى بذلك كلّ شيء؛ فما الذي يعنيه عمل أمير المؤمنين هذا؟ حقيقةً.. ما الذي يعنيه؟

    

السرّ في عفو أمير المؤمنين عليه السلام عن عمرو بن العاص

ولقد قلت لكم بأنَّني بقيت أفكّر في هذا الموضوع لمدّة ثلاث ساعات، ولم أصل في تفكيري إلى أيّة نتيجة، فقطعت سلسلة أفكاري وتخلّيت عن التفكير فيه وعن حقيقة الأمر هنا، وعن ما هي تلك العظمة التي نعجز عن إدراكها؛ فكم هو مقدار الكرم الذي يمتلكه أمير المؤمنين! وكم هو من عظيم، بحيث تعمل عظمته على تحطيم عقولنا وفهمنا، ولا تسمح لهذا العقل من إدراكها! أي إنَّنا نتحطّم ونتلاشى ولا نتمكّن من إدراك تلك العظمة؛ فما هي حقيقة ذلك الحياء؟ وما هو الشعور الذي كان ينتابه في ذلك الموقف؟
دعوني أبوح لكم بسرٍّ هنا، ولقد أخبرتكم بعدم تمكّن عقلي من إدراك ما حصل! حيث وصلت إلى هذه النتيجة ولم أتمكّن من الاستمرار؛ ولا شكّ من وجود تفسير أعلى من هذا، ولكنَّنا نعجز عن إدراكه. فالذي توصّلت إليه هو: إنَّ الرجل عندما فعل ما قد فعل فهو إنَّما يقول بفعلته تلك: أنا أطلب منك الحياة يا علي! فكان شعور أمير المؤمنين تجاهه في تلك اللحظة شعورًا أبويًّا؛ فرأى لزامًا عليه أن يُعيد إليه الحياة، ولم يشعر بأنَّ أمامه عدوّ يقوم بهذا الفعل، فعليه أن يضربه ويقطّعه إربًا إربًا..... فلو كنَّا مكان أمير المؤمنين، لفعلنا ذلك: فأنت من ناحية عدّو الله ، ومن ناحية أخرى، أنت ترتكب عملاّ محرّمًا! فهذا مما يُضاعف جرمك، ويجعلك تستحقّ العقاب المضاعف! غير أنَّ ذلك الشعور الذي حصل لأمير المؤمنين في ذلك الموقف، ومشاهدة إظهاره للعجز، وإحساسه بالعطف تجاهه هو الذي حجزه عن ضربه، وإن كان الرجل عدوًّا له؛ وهذا ممّا لا يمكن لنا إدراكه! فلا يمكن إدراك كنه هذه الأمور ببساطة، ولا يمكن فهمها عاجلاً!
يقول المرحوم العلاّمة: عند تأليفي لكتاب معرفة الإمام، ووصولي إلى القضايا والجنايات التي وقعت في فترة الخليفة الثاني عمر، كان من جملة ما وقع هذه القضيّة: فكانوا قد جلبوا امرأة حامل ادّعى زوجها بأنَّها قد زنت؛ وكانت المرأة بريئة وعفيفة، ونفت عن نفسها تهمة الزنا، غير أنَّ الزوج كان يصرّ على اتّهامها؛ فأين هم الشهود؟! فعلى من يتّهم أحدًا أن يجلب الشهود.. ألم تعلم أيّها الخليفة الثاني بلزوم شهادة أربعة شهود؟! وكيف يمكن أن يحصل شيء كهذا في العالم بحيث يتمكّن أربعة أفراد من مشاهدته؟ اللهمّ إلاّ إن جرى ذلك على سبيل الاستعراض وعلى تلٍّ أمام عشرة آلاف كاميرا! فلِمَ يُطلب شهادة أربعة شهود في هكذا حالة؟ إنَّ ذلك يعود إلى مراعاة الشارع المقدّس لجانب الرحمة والعطف تجاه المخطئين والغافلين والجهلة! ألم تشاهد أو تسمع بذلك يا عمر؟ وألم تشاهد بنفسك سيرة النبيّ الأكرم وكيفيّة تعامله في المواقف المختلفة؟ فتقوم بقتلها بهذه البساطة وبمجرد ادّعاء زوجها ذلك، وإن كانت هي تنفي عن نفسها التهمة! فشاهد المتواجدون هناك ما ينوي أولئك فعله، فذهبوا إلى أمير المؤمنين يُخبرونه بعزم القوم على قتل امرأة بريئة هكذا وبهذه السهولة، وأنَّ ذلك يحصل على يد خليفة رسول الله!! وبواسطة حكومة الخليفة الثاني الإسلاميّة! فنهض أمير المؤمنين وارتدى ثيابه وذهب مسرعًا، وعندما وصل، وجد كلّ شيء قد انتهى؛[10] فكيف كان حاله في ذلك الوقت؟ يقول المرحوم العلاّمة الذي هو تلميذ أمير المؤمنين، والذي إن كان لديه فهم أو إدراك لأمر أو وضوح رؤية، فإنّه حصل عليه من هناك.. يقول: لقد بكيت لمدّة أربع ساعات متواصلة عندما قرأت هذه القضيّة في أحد الكتب، وكان منظر سقوط هذه المرأة البريئة على الأرض بعد ضربها من قبل الجلاّد يتراءى أمام عيني؛ ألم يكن لتلك المرأة البريئة أطفال؟ ألم يكن لها أم أو أب؟ نعم، لقد بكيت أربع ساعات.
فهل نستطيع رؤية هكذا بكاء في مكان آخر؟ كلاّ ثم كلاّ، بل إنَّنا نرى الضحك في الأماكن الأخرى.. أتعلمون لماذا كان هذا هو حال المرحوم العلاّمة عندما قرأ تلك القضيّة؟ لأنَّه كان يمتلك نفس ذلك الشعور الذي انتاب أمير المؤمنين عندما وقف على جثّة تلك المرأة.. نعم، نفس ذلك الشعور. فلا بدَّ وأن تسقط امرأة بريئة على الأرض مضرّجة بدمائها بدون جرم ارتكبته.. أتعلمون لِمَ حصل هذا؟ لقد حصل ذلك بسبب افتقاد الخليفة الثاني للنور! فعندما يزني أحدهم، تظهر آثار ظلمة الزنا على وجهه، وأمّا أنت [أيّها الخليفة الثاني]، فإنّك لا تتمكّن من رؤية هذه الظلمة، بخلاف أمير المؤمنين الذي ما إن ينظر إلى وجه تلك المرأة حتّى يقول: لم ترتكب هذه المرأة الزنا، ولم تقم بعمل فاحش، فملامح وجهها تدلّ على براءتها؛ فلماذا يسقط هذا الوجه على الأرض وعلى مرأى من أقاربه؟!
هل تعتقدون أنَّ نبيّ الله حينما جمع ثلاثين ألف مسلم في غدير خمّ وأمرهم بالتوقّف هناك تحت أشعّة الشمس الحارقة لمدّة ثلاثة أيام، وأعطى أمره للمتقدّمين بالعودة، وانتظر وصول المتأخّرين، ونصب أمير المؤمنين للخلافة، قد قام بكلّ ذلك عبثًا؟ حاشا، بل فعله من أجل يومنا هذا، ومن أجل ذلك اليوم الذي قتلت فيه تلك المرأة البريئة؛ فهو يقول للناس: أتعلمون لماذا قتلت هذه البريئة؟ إنَّها قتلت لأنَّكم نحّيتم عليًّا عن مكانه! فاحصدوا نتائج أعمالكم! وقوموا بقتل تلك البريئة، واقتلوا الأطفال، وافعلوا وافعلوا .. ففي ذلك اليوم الذي نصَّبَ فيه النبيّ عليًّا من بعده،كان يرى ما سيحصل في الغد وبعد الغد، وأيّ جناياتٍ ستُرتكب بحقّ الإسلام في عهد الخليفة الأول والثاني والثالث وبقيّة الخلفاء و... ؛ ولذا، فقد أمر بأن يكون الخليفة من بعده عليًّا؛ وذلك لأنَّه هو الذي يستطيع أن يرى النور أو الظلمة عندما ينظر إلى وجه أحدهم، أمّا أنتم، فلا تستطيعون رؤية ذلك؛ فلا بدَّ أن تنتحّوا جانبًا، ليأتي عليّ ويجلس مكانكم؛ فهو يعرف متى يتحتّم عليه أن يضرب، ومتى يعفو، وفي أيّ موضع يتقدّم، وفي أيّها يتوقّف؛ فلا يستطيع تشخيص المصلحة غير عليّ، وذلك الوليّ المتصل به؛ لأنّه يسلك أيضًا نفس ذلك الطريق والنهج. [أمّا نحن فلا نستطيع ذلك] لجهلنا، وخلوّ أيدينا من تلك الحقائق.
وعليه، فإنّ تلقّي أمير المؤمنين للضربة على رأسه، وشهادته، كان من أجل إنقاذنا ممّا نحن فيه إذًا! وسينكشف هذا الأمر لجميع الناس في هذه الدنيا إن شاء الله كما انكشف للعظماء حيث قالوا: سيتبيّن لنا يومًا بأنَّ جميع المصائب التي جرت على أهل البيت من المضايقات التي تعرّضوا لها، وشهادتهم، وفصل رؤوسهم عن أبدانهم، وسحق أجسادهم تحت سنابك الخيل، وأسرهم، قد جرى كلّ ذلك من أجل نجدتنا وإنقاذنا؛ وحينها، سنشعر بأنَّ كلّ وجودنا رهين بوجود صاحب الولاية الإلهيّة الكبرى.. مولانا بقيّة الله الحجّة بن الحسن عليه السلام، وسنعرف عندها بأنَّ كلّ ديننا هو عبارة عن ولايته، وكلّ ما لدينا من نور، وجميع سعينا ودنيانا وآخرتنا تعني وجوده، غير أنَّنا لا نعرف من هذا الأمر سوى وجود إمام زمانٍ وأنَّه صاحب الولاية، وقد أخّر الله حكومته وسيظهر بعد عدّة سنوات.. لا يا هذا! فالولاية أسمى وأعلى ممّا نتصوّر، غير أنّ البعض أصبح يتلاعب بها!

    

زيادة صقل القلب تزيد في النورانيّة

حسنًا، فما الذي يتوجّب علينا فعله في هذا الشهر الكريم؟ إنَّ هذا الأمر واضح، فعلى الإنسان أن يُعِدَّ نفسه بالشكل الذي يتمكّن فيه من صقل قلبه؛ فكلّما ازداد صقله، ازداد مقدار النور الذي سيحصل عليه، وكلّما كان ذلك أكثر، كان أفضل! فإن تمكّنا من حفظ قلبنا من أن تخطر عليه خاطرة باطلة واحدة، كان ذلك أفضل لنا؛ فحتّى تلك الخاطرة الباطلة الواحدة ستكون مضرَّة لنا، فعلينا تجنبها؛ وهذا فيما يخصّ الخاطرة فكيف بالعمل؟! فعلينا تجنّب النيّة الباطلة أيضًا؛ لأنَّ ذلك سيكون مؤثّرًا في تحديد مصيرنا وعاقبتنا ولو كان بمقدار حبّة واحدة! أي أن كلّ ذلك سيؤخذ بالحسبان ويجمع مع بعضه البعض الآخر؛ وحينئذ، لمّا كان هذا الفرد قد حاز هذه المرتبة، وأصبحت مرآته مستعدة لتلقي الأنوار، فإنّنا سنُلقي المزيد من النور في قلبه، حيث سيحصل صاحب المرآة الأكبر على سهم أكبر من النور، وسنعمل على زيادة عدد الفوتونات وشدّة النور، بخلاف صاحب المرآة الأصغر الذي سيكون سهمه من النور أقلّ.
لقد كان من عادة العظماء أن يجعلوا لكلّ يوم من أيّام شهر رمضان مراقبته الخاصّة به؛ فعندما نتناول وجبة السحر، يجب أن نكون منتبهين إلى هذا الأمر وهو: إنَّ لهذا اليوم حسابه الخاصّ به، وهو يختلف عن اليوم الذي قبله واليوم الذي سيأتي بعده، فيجب علينا تجنّب تناول الطعام المشتبه فيه، وعلينا ألاّ نذهب إلى أيّ مكان، ولا نستمع لأيّ صوت، وأن نصون أفكارنا من الخوض في القضايا التي لا تُفيدنا، وأن نحفظ أنفسنا من حالات التشويش والاضطراب؛ فيجب علينا أن نوجد في أنفسنا الاستعداد اللازم لهذا الأمر.
كما أنَّ العظماء كانوا يدأبون على دعوة الآخرين للإفطار في بيوتهم؛ لأنَّ فيه ثواب كبير وهو من السنّة، علاوة على أنَّ اجتماع الإخوة ولقائهم مع بعضهم الآخر هو من الأمور المستحسنة؛ فالدعوة للإفطار عمل جيّد، غير أنَّه يجب أن يكون ـ وكما قلت سابقًا ـ بالشكل الذي لا يُسبّب الحرج للزوجة، ولا يبعث على مضايقتها، وألاّ تكون مكرهة على عمل ذلك؛ فلا مبرر لدعوة عدد كبير من الأفراد، بل يمكن الاقتصار على دعوة شخصين أو ثلاثة، أو أن يصطحب المرء معه واحدًا أو اثنين من رفقائه معه عند عودته للمنزل لغرض الإفطار معه؛ فيكون قد حاز ثواب هذا الأمر وعمل بالسنَّة من جانب، ويكون من جانب آخر قد تخلّص من محذور الإتيان ببعض المسائل الزائدة والتي لم يوصَ بها في السنّة وهي مخلوطة بالأوهام والتخيّلات.
وخلاصة الأمر، فإنّ النبيّ قد جمع كلّ ما يخصّ هذا الأمر في جملة واحدة حين قال: فإنّ الشقيَّ مَنْ حُرِمَ غفرانَ الله في هذا الشهرِ العظيم[11]. فالشقيّ هو من لم يعرف قدر هذا الشهر، ومن حُرِمَ من هذه الرحمة الإلهية.. يقول النبيّ: كم يجب أن يكون هكذا رجل شقيًّا! فما أشقاه ذاك الذي يُؤتى به وهو مكتوف الأيدي والأرجل ويتمّ إجلاسه على المائدة بهذه الكيفيّة، ثمّ يمتنع عن التناول منها ويعتزل جانبًا ويحرم نفسه منها! حتّى أنَّه قد جاء في الرواية أنَّ من مرَّ عليه شهر رمضان ولم يتطهّر فيه ولم يقبل الله توبته، فسيكون محرومًا من رحمة الله، إلاّ أن يشهد عرفة[12]، حيث قد تشمله رحمة الله هناك؛ ومن هنا تُعلم أهمّية هذه المسألة.
نسأل الله أن يوفّقنا ويمنَّ علينا بصيام هذا الشهر.. ذلك الصيام الذي يليق بخواصّ حرم الله، وألاّ نكتفي فيه بالإمساك عن تناول الطعام، بل أن يمنَّ علينا بتلك النِعم والنفحات التي منَّ بها على الأولياء.
إنّ الإخوة على علم بهذا الموضوع، كما ذكره المرحوم العلاّمة في مؤلّفاته، وهو: إنَّ العظماء والأولياء الإلهيِّين كانوا يذهبون لزيارة قبور الأئمّة وأبنائهم وأولياء الله بعد انتهاء شهر رمضان تعبيرًا عن شكرهم لله؛ فما هو الإحساس الذي كان لديهم بحيث يدفعهم ذلك للقيام بمثل هذا العمل؟ لا بدَّ وأنَّ شيئًا ما قد انكشف لهم، فلا يمكنهم أن يذهبوا هكذا بطريقة آليّة! فما هو ذلك الشيء الذي أدركوه؟ وما الذي حصلوا عليه في هذا الشهر؟ فلا يجب علينا أن نقول: إنّ هذا الأمر خاصّ بأولياء الله، وأين نحن منهم، ويكفينا الحصول على القليل! نعم لا يمكن لنا أن ننال ما وهبه الله لأمير المؤمنين ما دامت السماوات والأرض، ولكنَّه يمكن أن ينالنا اليسير من الفهم وإدراك الحقائق بما يتناسب مع مقدار سعتنا الوجوديّة؛ فلا يُفترض أن يدخل علينا الشهر ويخرج، ونقنع أنفسنا بأنَّا قد صمنا الشهر ونقص من وزننا بعض الشيء، بل يُفترض أن نشعر بحصول تغيِّر في أنفسنا وأن نحسّ بأنّنا أدركنا بعض المسائل، والذي سيكون ـ إن شاء الله تعالى ـ دالاًّ على الهداية والإرشاد المفاض من مقام الولاية، وعلى شمولنا بلطف الله الذي يشمل به عباده في هذا الشهر.
اللهمَّ صلِّ على محمّد وآلِ محمّد


[1] ـ إشارة إلى البيت الأوّل من الجزء الثاني من كتاب المثنوي المعنوي لمولانا جلال الدين الرومي، حيث يقول الرومي في هذا البيت: «مدتی اين مثنوی تاخير شد *** مهلتی بايست تا خون شِر شد» وترجمته: لقد حصل تأخير في إدامة نظم هذا المثنوي، إذ لا بدّ من إتاحة فرصة من الزمن للدم لكي يتحوّل إلى حليب. [المترجم]

[2] ـ الأمواج بمختلف أنواعها كالأمواج الكهرومغناطيسيّة مثلاً. [المترجم]

[3] ـ سورة الكهف (18)، الآيات 103 و 104.

[4] ـ وردت هذه القصّة في شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج 3، ص 160 بهذا النحو: دخل علي عليه السلام المسجد و قال لرجل: أمسك على بغلتي، فخلع لجامها و ذهب به، فخرج علي عليه السلام بعد ما قضى صلاته و بيده درهمان ليدفعهما إليه مكافأة له، فوجد البغلة عطلا، فدفع إلى أحد غلمانه الدرهمين ليشتري بهما لجامًا، فصادف الغلام اللجام المسروق في السوق قد باعه الرجل بدرهمين، فأخذه بالدرهمين و عاد إلى مولاه، فقال علي عليه السلام: إنّ العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر و لا يزاد على ما قدّر له. [المترجم]

[5] ـ سورة النساء (4)، الآية 10.

[6] ـ سورة البقرة (2)، جزء من الآية 24.

[7] ـ سورة المائدة (5)، جزء من الآية 32.

[8] ـ سورة البقرة (2)، الآية 7.

[9] ـ إحدى فقرات زيارة أمين الله. [المترجم]

[10] ـ تجدر الإشارة إلى أنّ القضيّة التي حصلت مع عمر لم تُؤدّ لرجم المرأة، حيث إنّهم أدركوها قبل ذلك، وأمّا المسألة التي أفضت إلى قتل المرأة، فهي التي وقعت على عهد عثمان؛ راجع: كتاب معرفة الإمام، ج11، من ص 184 ص 188. [المترجم]

[11] ـ بحار الأنوار، ج 93، ص 356. المترجم

[12] ـ ورد في الكافي، ج 4، ص 66، عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال: «مَنْ لَم يُغفَر لَه في شَهر رَمَضان، لَم يُغفَر لَهُ إلى قابِل إِلاّ أن يَشهَدَ عَرَفَةَ». المترجم

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی