معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 201 إلى الأخير > شرح حديث عنوان البصري ـ الجلسة رقم 226: دستور الإمام الصادق عليه السلام للقضاء على الفرعونية

____________________________________________________

هو العليم

شرح حديث عنوان البصري المحاضرة 226

دستور الإمام الصادق عليه السلام
للقضاء على الفرعونية

ألقيت في 5 ربيع الثاني 1437 هـجري قمري

ألقاها:
سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه اللـه

 

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيِّدنا محمّد وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائِهم أجمعين

يقول الإمام الصادق عليه السلام في حديثه لعنوان البصري: "وَأَمَّا اللَوَاتِي فِي الْحِلْمِ: فَمَنْ قَالَ لَكَ: إنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْرًا فَقُلْ: إنْ قُلْتَ عَشْرًا لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً؛ وَمَنْ شَتَمَكَ فَقُلْ لَهُ: إنْ كُنْتَ صَادِقًا فِيمَا تَقُولُ فَأَسْأَلُ اللَهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي، وَإنْ كُنْتَ كَاذِبًا فِيمَا تَقُولُ فَاللَهَ أَسْأَلُ أَنْ يَغْفِرَ لَكَ‏؛ وَمَنْ وَعَدَكَ بِالخَنَى فَعِدْهُ بِالنَّصِيحَةِ والرَّعَاءِ".
ذكرت لكم في المجلس السابق بأنَّ هذه الفقرات من حديث الإمام الصادق عليه السلام والمتعلّقة بالحلم تحتوي حقاً على مضامين عجيبةٍ، فعلى الإنسان أن يضعها نُصب عينيه دائماً وأن يعمل بموجبها ويطبّقها لكي يتمكّن من جني ثمارها والاستفادة منها؛ فلو لم تكن مثل هذه المواضيع في متناول أيدينا، فكيف كنَّا سنتعامل مع ما يبدر من أفراد المجتمع الذي نعيش فيه؟ فلا شكّ أن كلّ واحدٍ منّا عنده أصدقاء و أعداء؛ فتلك قاعدةٌ تعمّ جميع الناس ابتداءً من النبي وأمير المؤمنين اللذان لا يوجد بين الناس من هو أعلى مقاماً منهما؛ ومع ذلك فقد كان لهما من الأعداء ما يفوق ما لغيرهما من الناس، هذا فضلاً عمّا كانا يعانيانه من المحسوبين على أنَّهم من أصدقائهما؛ ولكنَّنا وعندما ننظر إلى كيفيّة تعاملهما مع الآخرين، نجد بأنَّهما كانا يتعاملان معهم وفقاً لمضمون حديث الإمام الصادق عليه السلام هذا.
كما أنّ أهل البيت عليهم السلام كانوا يحثّون أصحابهم على التعامل مع بقية أفراد المجتمع بنفس هذا الأسلوب؛ فهم يريدون من أولئك الذين تربطهم بهم رابطة معينة أو من جيرانهم أو أقاربهم بل حتّى من سائر أفراد المجتمع أن يكون تعاملهم مع غيرهم على نفس هذا النحو؛ فكانوا يحثّونهم على عدم التسرّع في اتخاذ قراراتهم بشأن الآخرين وعدم الاستعجال في إظهار ردّة الفعل تجاه ما يبدر منهم من تصرّفات.

    

الكثير من المشاكل الاجتماعية سببها عدم التحقّق من صحّة المنقول

كنت قد سافرت إلى أحد البلدان يوماً، وتحدّثتُ إلى الإخوة والأصدقاء المتواجدين في ذلك المكان من خلال إقامة عدة مجالس، وكان أحد تلك المجالس مخصّصاً للإجابة عن الأسئلة المطروحة؛ فكان الحاضرون يكتبون أسئلتهم على أوراقٍ ويُسلّمونها إليَّ لكي أقوم ـ وبمقدار ما أمتلك من معلومات ـ بالإجابة عنها؛ ولمّا كان المجتمع يضمّ بطبيعته أصنافاً مختلفةً من الناس، فلقد كنت أجد الشكوك تكتنف البعض من تلك الأسئلة المطروحة، فكنت أضع مثل هذه الأوراق في الأسفل تحت مجموعة أوراق الأسئلة، ولا أُجيب عليها، فكنت أتعامل معها وكأنَّها لم تصل إلى يدي.
فتمضي مدّة ويرى صاحب السؤال بأنَّه قد تمت الإجابة على ما قُدِّم من أسئلة، إلاّ سؤاله الذي بقي من دون إجابة؛ فقام عندها بإعادة صياغة نفس السؤال باستخدام كلماتٍ أخرى وبأسلوب أدبي آخر هذه المرّة؛ فعندما نظرت إلى السؤال، قلت في نفسي: يبدو بأنَّ عبد الله [أو أمة الله] يعاني من مرضٍ معين، فوضعت الورقة أسفل الأوراق مرّة أخرى. من الجدير بالذكر هنا هو: أنَّ الحديث في ذلك المجلس كان يدور باللغة العربية... ثمّ اختتمتُ الزيارة لذلك البلد وعدتُ إلى إيران.
سمعت بعدها بأنَّ هذا الشخص قد اتّصل بالبعض في إيران وقال لهم: لقد جاء فلان إلى هنا وتكلّم عليكم وتسبّب في إيجاد الفوضى والاختلاف بين الآخرين، وما شابه ذلك من الكلام؛ هذا في الوقت الذي لم يصدر منّي حرف واحد من ذلك الكلام؛ فلقد كنت أعلم جيداً بما يُخطَّط له، فمن الطبيعي أن يحذر الإنسان في هكذا جوّ مشحون ومن الطبيعي أن يعمل على زيادة يقظته لئلّا يصدر عنه ما يمكن أن يستغلّه المقابل لخدمة أهدافه، فهذا هو أمر طبيعي ولا يحتاج الإنسان معه إلى الاستعانة بعلم الرمل والإسطرلاب لمعرفة ذلك؛ نعم، لقد أشاعوا بأنَّ فلاناً قد جاء إلى هنا وعمل كذا وكذا وتكلّم عن فلانٍ من الناس.
وعند عودتي وجدت البعض قد اتخذ منِّي موقفاً سلبياً، فقال لي:
ما الذي قلته في سفرك إلى ذلك البلد يا فلان؟
فأجبته قائلاً: لم أقل شيئاً!
بلغني بأنَّك قد ذهبت إلى المكان الفلاني وقمت بتخريب كلّ شيء وأوجدت جوّاً مشحوناً بالاضطراب هناك.
لا أدري عمّ تتحدّث! فما هو الاضطراب الذي أوجدته؟
يُقال بأنَّك كنت قد مسست بكلامك بعض أقاربك وتكلمت بكذا وكذا من الكلام.
يشهد الله بأنَّني لم أتفوّه بشيء من هذا.
ثمّ بدأ عند ذلك التساؤل عن سبب إثارة مثل هذا الأمر، و ما هي حقيقة ذلك الكلام المنقول.
ولكن الأمر الذي يُثير الاستغراب في هذا الموضوع هو ما اتّخذه البعض من مواقف بناءً على هذا النقل؛ وهذا هو الذي أريد أن أشير إليه في هذا المقام، فقد بلغتنا التوصية حول كيفية التعامل مع هكذا موقف من قبل، وقد علّمونا كيفية التعامل في مثل هذه المواقف، ولكن من الذي التزم بها وطبّقها؟! فهذا هو المهمّ في الأمر.
فقلت له: إنَّ حلَّ الإبهام الذي يحيط بهذه القضية هو أمرٌ في غاية البساطة يا أيّها السيِّد، فسأتصل بناقل الكلام ومن هذا المكان تلفونيّاً، وسأعمل على إدارة مفتاح الصوت في جهاز الهاتف لكي يتمّ بثّ الصوت بحيث يتمكّن جميع الجالسين في المكان من سماع صوت المتكلّم، وذلك لكي تتّضح حقيقة ما حصل، فسيتّضح عندها هل كنتُ قد تكلّمت بمثل ذلك الكلام، أم لم أتكلّم به! وبهذا الشكل سيتم عندها حلّ هذه القضية بكلّ بساطة.
فقال: لا، لا، لا ضرورة لذلك، ولم يسمح لي بالقيام بهذا العمل.
لقد قمت من جانبي بما يتوجّب عليَّ القيام به، فلم يكن لديّ أيّ مانعٍ من الخوض في تفاصيل الموضوع لكي يتبيّن ما الذي قد قلته؟ وفي أيّ مكان كنت قد تكلّمت بذلك الكلام؟ فإن كنت قد ارتكبت خطأً ما، فسأعمل على إصلاح ما أفسدته، وإن لم أرتكب مثل ذلك الخطأ فسأقول عندها: أسأل الله أن يغفر لك؛ فعندما لم يكن الإنسان قد ارتكب أيّ خطأ، فلا يستطيع نسبة ذلك الخطأ إلى نفسه والحال هذه؛ [فكيف ينسب لنفسه الخطأ الذي لم يرتكبه؟] فهو لم يفعله!!
فلو كان المقابل قد فكّر وتأمّل ودقّق بشكل أكبر فيما نُقل إليه من كلامٍ، ولو لم يكن قد اتّخذ موقفاً حتّى يتبيّن له صحة ذلك الكلام من سقمه.. ولو كان قد صبر حتّى يحضر من نُقل عنه الكلام ليسأله ويتحقّق من صحة الخبر بنفسه؛ أما كان ذلك أفضل من إثارة الفتنة وإيجاد جوّ مشحون بالاضطراب والفوضى وتسميم البيئة المحيطة به وتلويثها؟! ثمّ بعد ذلك يتّضح أنّ القضية لا أصل لها و لا فصل! فما الذي حصل ؟!
فأنا وعندما أقول بأنَّ هذه العبارات الواردة في هذه الفقرة الشريفة هي عبارات أساسية تعمل على إعانة السالك في طيِّه للطريق من أجل أن يتجاوز الأوهام والتخيّلات وعالم الاعتبار، فأنا لا أقول ذلك جزافاً؛ فلو كان الرجل يجلس ليفكّر قليلاً فيما يطرق مسامعه، ولا يتعجّل في ردّة فعله، بل يصبر يومًا أو يومين آخرين، فلربما سيستجدّ الكثير خلال هذه الفترة، ولربما سيسمع أموراً أخرى تناقض تلك التي كان قد سمعها من قبل، [فذلك أفضل وأقرب إلى الصواب.]
كم حصل لنا طيلة حياتنا من مثل هذه الأمور؟ وكم اتفق أن نقل لنا البعض بأنَّ أحدهم كان قد قال شيئاً ما؟ ثمّ يتّضح لنا بعد مرور مدّة من الزمن بأنَّه كان قد قال عكس ما نُقل إلينا من كلام، وأنّه لم يكن يقصد فيه الإساءة إلينا وهو لا يكنُّ لنا أيّة نيّة سوء؛ هذا في الوقت الذي نكون فيه قد تعجّلنا الحكم عليه، ونكون قد اتخذنا منه موقفاً سلبياً.
فهلاّ صبرت قليلاً يا هذا؟ وهلاّ سألتني بشكل مباشر عمّا سمعت؛ إذ هل يُعقل أن أقول عنك مثل هذا الكلام؟ إنَّ كلّ ذلك يحصل بسبب ابتعادنا عن العمل بما أُوصينا به، وعدم التزامنا بهذه المضامين الراقية، وإبقائنا لهذه المطالب محفوظةً في حدود هذه الأوراق دون أن ننقلها من صفحات هذه الكتب إلى داخل أنفسنا وقلوبنا، وبسبب اكتفائنا بمجرّد قراءتها وطرحها على الآخرين دون الالتزام بها وتطبيقها.

    

ضرورة الالتزام العملي بمضامين هذه الفقرات وعدم الاكتفاء بالاطلاع عليها

كم كنت قد أوصيت الإخوة بأن يعقدوا العزم على العمل بما يسمعونه أو يقرؤونه من تلك المواضيع التي كان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يطرحها واعتباراً من نفس تلك اللحظة التي تصلهم فيها؛ فلو كان أحدكم يطالع كتاباً أو يستمع إلى تسجيلٍ صوتيٍّ، فعليه أن يُصمّم على العمل بموجب ما يصل إليه فوراً وابتداءً من تلك اللحظة؛ وذلك لأنَّ الذي يوصينا الآن بهذه الوصايا، فهو إنَّما يوصينا بها بعد أن كان قد عمل بها.
فلو كان المرحوم العلاّمة يتعامل مع ما يصل إلى مسامعه ـ والتي سأنقل لكم بعض النماذج منها إن سمح الوقت بذلك ـ بنفس تلك الطريقة التي وصفتها لكم، لما احتلّ تلك المكانة التي أهّلته لأن يصبح "العلاّمة الطهراني"، وما كان ليصبح ذلك العارف والوليّ الإلهيّ، بل لأمسى مثل أيّ واحدٍ منَّا؛ فنحن نقوم بفتح كتاب ما ونقرأ الرواية الموجودة فيه، كما أقوم أنا الآن بقراءة رواية عنوان البصري عن كتاب الروح المجرّد الموجود أمامي، فأقول عندها: كم بيّن لنا الإمام الصادق عليه السلام في هذه الرواية من مواضيعٍ، ويا له من كلام جميلٍ هذا الكلام الذي صدر عن الإمام! نعم، صحيحٌ أنَّ الإمام قد أحسن البيان في هذه الرواية، ولكن ماذا عنِّي أنا؟! فهو إمام ، فماذا عنّي أنا؟! كيف يجب عليَّ أن أتصرّف تجاه ما يواجهني من قضايا؟!
كان المرحوم الوالد يقول مراراً: مرّت عليَّ أيّامٌ كنت أقوم فيها ومن أجل حلّ مشكلة تواجهني أو رفع إبهام لديّ، بطرق كلّ بابٍ من أجل أن يتّضح لي أمرها. ولكن عندما وفّقنا الله للقاء بالعظماء، أصبح حلّ المشاكل أسهل بكثير، وأضحى رفع الإبهام أيسر بكثير؛ والحقيقة أنَّه يريد أن يقول بكلامه هذا: اعرفوا قدر هذه النعمة التي منّ الله عليكم بها وهي أنّكم تتواجدون فيها إلى جوار هكذا رجل [يعني نفس السيد العلامة رضوان الله عليه]؛ فهو بطبيعة الحال لم يكن يستطيع التصريح بهذا الأمر إلاّ أنّنا كنّا [نفهم ذلك بأنفسنا و نستشفّه من حديثه]، كان سماحته يريد أن يقول: عليكم معرفة قدر هذا الرجل المتواجد بينكم وأن تستغلّوا هذه الفرصة من خلال تطبيق نصائحه لكي تساعدكم على تجاوز العقبات والسير في هذا الطريق، وإلاّ فمجرّد التواجد لديه والتردّد على مجالسه سوف لن يحلّ لكم أيّة مشكلة.
إنَّ المشكلة التي كان ابتلي بها الكثيرون في عهد المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه، هي تصوّرهم بأنَّهم وبمجرّد تواجدهم لدى المرحوم العلاّمة، فإنَّ ذلك يعني أنهم قد وصلوا إلى مرادهم وحصلوا على كلّ شيء وتمّ الأمر لهم، وأنّهم لن يكونوا بحاجةٍ إلى أيّ شيءٍ آخر، لم يعودوا بحاجة إلى التعلّم والفهم وكسب المعرفة. إنّ مثلهم كمثل من يذهب إلى عيادة طبيب، فيجلس في غرفة الانتظار المجاورة لغرفة الطبيب، وهو يقول: ها قد قمت بما يجب عليَّ القيام به، فها هو الطبيب متواجد الآن في الغرفة المجاورة، و هذا يكفي! يا عزيزي، إنَّ تواجدك في هذه الغرفة لن ينفعك شيئاً! بل كان يجب عليك أن تدخل إلى غرفة الطبيب وتشرح له حالتك المرضية، وإلاّ فمجرّد تواجد الطبيب في الغرفة المجاورة لا يحلّ من مشكلتك شيئاً.
وهذا هو نفس التصوّر الذي كان لدينا في عهد المرحوم العلاّمة، فكنَّا نقول: ما دام المرحوم العلاّمة موجوداً بيننا، فإنّ جميع مشاكلنا قد أخذت طريقها للحلّ، وسوف لن تبقى لنا أيّة مشكلة أخرى؛ هذا في الوقت الذي لم يكن هو يتصرّف بهذا الشكل، ولم يكن يتعامل مع أساتذته على هذا النحو، بل كان ينتظر ما الذي يخرج من فم أستاذه أو ما الذي يظهر منه من إشارات، ليقوم بالتقاطها والعمل بموجبها.

    

لا ينبغي للإنسان أن ينسحب إذا واجه أمراً مزعجاً له

حسناً.. إنّ على الإنسان أن يعمل على أن تكون جميع أعماله وتصرفاته متطابقة مع مضامين هذه العبارات الصادرة عن الإمام عليه السلام لكي يتمكّن من التقدّم إلى الأمام، فلا ينبغي عليه التهاون بشأنها وتركها؛ ولا ينبغي له الاعتزال والانسحاب إن كان الكلام [والنصيحة و الدستور] مخالفاً لهواه، فهو وبعمله هذا يكون قد تخلّى وهرب، فهذا لا يعدّ أمرًا جيداً، ولا يُحسب ميزةً وفضلاً لصاحبه. إنّ ضحك الإنسان وانشراح أساريره عندما يسمع من غيره ما يوافق طبعه ومزاجه، لا يُعدَّ منقبة له أو فضلاً، بل هو أمر طبيعي؛ فلا يُعدُّ أمراً منطقياً أن أقوم بمدحك والثناء عليك، فتتبسّم أنت لذلك، ثمّ أقول وبناءً على هذا: كم هو من رجلٍ ذي خلق عظيم؟! أو أن أقوم أنا بكيل المدح إليك، فأقول: كم هو من رجل طيّب، فتقول وبناءً على ما قلته أنا: كم هو من رجلٍ طيّبٍ هذا السيِّد الطهراني، فأردّ أنا بالمثل وأقول: يا له من رجل حسن الخلق وبشوش ورزين وحسن التعامل؛ فلا يُعدّ كلّ ذلك فضلاً لصاحبه ولا امتيازاً.
بل الصعوبة والفضل تكمن في الحالة التي تواجه فيها تصرّفاً غير مقبول ولا يتلاءم مع طبعك، فكيف ستتعامل معه عندها؟ وكيف ستكون ردّة فعلك تجاهه؟ فكيف ستتعامل مع ذلك التصرّف الذي يتقاطع مع رغباتك ومع الطريقة التي تسلكها في حياتك ومع أفكارك وذوقك؟ ففي مثل هذه الحالة يظهر فضل الإنسان وامتيازه.
وأمّا إذا انفعل الإنسان في مثل هذه الحالة وقال: (دعنا من هذا السيّد الطهراني، فهو لا يفيد، ولنجد لنا أحداً آخراً غيره، فكلامه لا يحتمل، و ليس له الحقّ أن يقول مثل ذلك، فدعنا ننسحب ونبتعد)، فلا يُعدّ ذلك من الفضل في شيء، فمن الطبيعي ألاّ يكون جميع ما يصدر من الإنسان موافقاً لرغبة الأفراد و مناسباً لطبعهم وذوقهم، بل المطالب فيها صعود ونزول وبعضها ملائم وبعضها صعب، وفيها الصواب وغيره، وهكذا هو حال الجميع.
فهل تقوم وعندما تدخل بيتك وتواجهك زوجتك بكلامٍ غير مناسبٍ ولا يتلاءم مع مزاجك، فهل تقوم بإغلاق الباب وتقرّر السفر إلى مكان آخر؟! [يقول سماحته ممازحاً:] لو كان الأمر يجري على هذا المنوال، لكنَّا الآن بأجمعنا في حال سفر، وسوف لن ندخل بيوتنا أبداً!! وكلّما صدر من الزوجة شيء لا يعجبنا، تركنا البيت قائلين: في أمان الله، أنا سأسافر!
لو فعلنا ذلك فإنّ الزوجة ستقول: ما لك يا هذا؟! لقد قلت لك شيئاً لم يعجبك، فليكن! أفلا يُفترض بك أن تتسامح بشأنه قليلاً؟ فهل من الصحيح أن تغلق الباب خلفك وتغادر؟ فارجع إلى بيتك يا رجل، وعليك الإغماض عن بعض ما يحصل.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: ينبغي أن يتم التعامل مع ثلثي أمور الحياة اليومية على أساس التغاضي والإغماض، والتعامل مع الثلث الآخر على أساس النصيحة؛ أمَّا إن أردت أن تُبقي عينيك دائماً مفتوحتين وبشكل كامل، فعليك حينئذٍ أن تعيش في سفرٍ دائم، فتكون أنت في السفر وهي في الحضر، فتديمان حياتكما على هذا النحو!!!
لماذا لا ترانا نتصرّف بهذا الشكل؟ هل يستطيع أحدكم أن يذكر لي السبب؟ إنَّ هذا أمر في غاية الأهمية، وها أنا أريد أن أجلب انتباه الإخوة إلى هذا الأمر الدقيق للغاية؛ على أنَّ الإخوة يعلمون ذلك، ولكننا نريد أن نتحدّث عنه فيما بيننا؛ فلماذا لا نقوم بإغلاق الباب ومغادرة المنزل عندما ندخل بيتنا ونُواجه بأمرٍ لا يتلاءم مع مزاجنا؟! أو لماذا لا تفعل المرأة ذلك إن سمعت من زوجها مثله؟ فعلينا ألاّ نلقي باللوم على النساء فقط، فقد نكون نحن المقصّرين أحياناً؛ على أنَّ إقدام النساء على المغادرة يكون أسرع من الرجال!
فلماذا يكون الأمر بهذا الشكل؟ إن الجواب على ذلك يكمن في أنَّنا نعتبر العلاقة العائلية هي الأمر الأساسي الذي تُبنى عليه حياتنا؛ فلا يمكن لنا أن نعتبرها أمراً فرعياً وهامشيّاً؛ بل نحن نعتبر العلاقة الزوجية والعائلية هي الأصل والأساس الذي تُبنى عليه الحياة، ونعتبرها بمثابة العمود الذي تقوم به الخيمة، و هذا الأمر صحيحٌ، فمحور الحياة العائلية يجب أن يكون على أساس تلك العلاقة بين الزوج والزوجة.
ولما كان الطرفان لا يمكن أن يكونا على مستوىً واحد من حيث السعة والثقافة ـ بل يكون لكلّ واحد منهما حاله الخاص به ـ ولمّا كان من الممكن أن يتعرّضا إلى ظروف متفاوتة خلال حياتهما اليومية، وذلك بأن يُعاني أحدهما من التعب أو من أيّ مشكلة من مشاكل الحياة اليومية الأخرى، لذا فمن الطبيعي أن يحصل بينهما شيء من الخلاف؛ غير أنَّهما يقومان بهضم تلك الخلافات التي قد تحصل بينهما بناءً على كونهما قد جعلا من هذه العلاقةِ المحورَ الذي تدور عليه حياتهما؛ فنراهما يقومان بالعفو والإغماض والتغاضي عمّا يحصل؛ وحتّى لو حصل أن عبس الزوج في وجه زوجته، فسوف لن يدع الأمر يستمر حتّى النهاية، بل نراه يقوم بتسوية الأمر لاحقاً.

    

على السالك أن يعطي سلوكه الأولوية الأولى في حياته؛ قصة حنظلة نموذجا

فما أريد أن أقوله هنا هو: هل تكون منزلة مدرستنا وطريقنا أقلّ أهميّة لدينا من حياتنا اليومية؟ فأيّهما يجب أن يكون الأهمَّ والأعلى بالنسبة إلينا؟ وأيّهما نمنح الاهتمام الأكبر؟ فهل يتوجّب علينا أن نعطي الأولوية لحياتنا اليومية أم لمدرستنا وطريقنا الذي نسلكه وديننا وشريعتنا؟
في صباح اليوم التالي لزواجه، دخل حنظلة غسيل الملائكة المدينة، فوجد بأنَّ النبي قد خرج من المدينة إلى أُحد لقتال المشركين، فلّما عزم على اللحاق به، أمسكت به زوجته وقالت له: أين تريد أن تذهب؟ فنحن لم نتزوّج إلاّ ليلة البارحة، وها نحن قد بدأنا حياتنا الزوجية للتّو، فكيف تريد أن تتركني لوحدي وتذهب؟ فقال لها: إنَّ النبي قد خرج للقتال، [ولا بدّ لي من اللحاق به] فقالت: هنالك الكثير من الصحابة قد ذهبوا مع النبي، وسيعود النبي إن شاء الله سالماً، فلماذا تريد أن تحطّم حياتنا؟ ... (طبعاً أنا أضيف إلى الحوار بعض الجمل من عندي، ولعلّ أمة الله لم تكن قد قالت الكثير منه، ولكنَّها كانت قد حاولت منعه من الذهاب)... فقال لها: وأنا أحبّك كثيراً، ولقد أخذَتْ محبتُك مكانها في قلبي، ولكن عليّ إطاعة الله ورسوله، فكيف سأتصرّف والحال هذه؟ فأي الأمور سيحظى بالأولوية عندي؟ فهل ستكون الأولوية لخروجي للجهاد، أم لعلاقتنا الزوجية؟ وأيّ مرتبة من الأولوية ستحتّلها مدرستي وديني وعلاقتي بالله؟
فمعنى هذا الكلام هو: إنَّ ربِّي ونبيِّ وديني تمثّل شرفي الذي أصونه مهما كان الأمر، فبناءّ على هذا فإنَّ علاقتي معك وحبِّي لك يجب أن يكون ضمن إطار عقيدتي ولا غير، فلولا ذلك لما كان هنالك ما يجمعني بك؛ فيجب عليَّ أن أضع النبيّ على رأس القائمة ليكون هو أصل وأساس كلّ شيء في حياتي، ثمّ أقوم بتنظيم بقيّة علاقاتي على هذا الأساس، فعليَّ أن أقوم بالتمسّك بتلك العلاقات التي تعمل على ربطي بذلك الأصل، والتخلِّي عن كلّ علاقةٍ تعمل على إبعادي عنه؛ وعليَّ أن أضع النبي والإمام وديني على رأس القائمة، وأقوم بتحديد علاقاتي مع كلّ ما سواهم بناءً على هذا الأساس.
فنحن وعندما ندخل بيوتنا ونُواجَه بكلام غير مناسبٍ من قبل الزوجة، كأن تقول لنا: هل هذا هو الوقت المناسب للعودة؟ ولماذا تأخّرت كلّ هذا الوقت؟ هيّا عُدْ من حيث أتيت! فعندما نسمع مثل هذا الكلام، فهل سنغادر فعلاً؟ كلاّ، إنَّنا لا نفعل ذلك، بل ترانا نقوم بتلطيف الجوّ، فنقول لها: السلام عليكم، أرجوا أن تكوني بصحّة جيدة، وأرجوا ألاّ تكوني مريضة أو متعبة، وأمثال ذلك من هذه الكلمات الرقيقة، وذلك لكي تعود المياه إلى مجاريها؛ فلماذا ترانا نفعل ذلك في مثل هذه المواقف؟ إنَّنا نفعل ذلك لأنَّنا لا نريد أن نهدم ذلك الأصل الذي تُبنى عليه حياتنا العائلية؛ على أنَّ هذا النوع من التصرّف هو تصرّف صائب بالطبع، بل ويجب علينا أن نتصرّف بهذا الأسلوب، وإلاّ فما هو معنى المراعاة والمداراة؟ وفي أيّ الظروف يجب أن يتم رعايتها إن لم يتم رعايتها هنا؟ فلا بدّ من التصرّف بهذا الشكل، لأنَّ المرأة قد تكون متعبة أو في حالٍ من التوتر العصبي والانزعاج بسبب تصرّف أطفالها وما إلى ذلك من المشاكل التي تعاني منها؛ فيجب علينا والحال هذه أن نتعامل معها بلطف لكي يعمل هذا التصرّف على إخراجها من ذلك الحال الانفعالي؛ أمّا إن أراد أحدنا أن يتصرّف معها بطريقة عصبية ويعمل على مقابلتها بالمثل، فسوف لن يستقرّ حجر على حجر، كما أنّ ذلك مخالفٌ لما كان العظماء يوصون به تلامذتهم، ومخالفٌ للدستور الذي يتوجّب علينا العمل بموجبه.
فبناءً على هذا، عندما ندقّق الملاحظة، سنرى أنّ علينا أن نجعل ديننا وطريقنا الذي نسير عليه وبرامجنا السلوكية وارتباطنا [بالله] هي الأهمّ من جميع العلاقات التي نقيمها مع الآخرين سواءً منها علاقاتنا العائلية أو تلك العلاقات الاجتماعية التي تربطنا مع خارج الأسرة أو أيّة علاقة محبّة ومودّة أخرى؛ فيجب أن يكون ذلك هو هدفنا الأسمى، ويجب أن تكون تلك هي النقطة التي تتسمّر إليها أبصارنا، وتكون هي محور حياتنا و لها المرتبة الأولى من الأولويّة؛ وأمّا ما سواها من أمور، فيجب أن تسير ضمن هذا المسير وتنضوي تحته وتكون متوافقة معه. هذا، وقد يواجه الإنسان عوائق جسيمة وقد يصطدم بموانع كبيرة في هذا الطريق، فعليه أن يتهيّأ لهذا الأمر، وعليه أن يتجاوز جميع تلك العقبات.
فما هو السبب الذي يجعلنا نتهاون في هذه الأمور، ويجعلنا نتخلّى عن هذا المسير لمجرّد أن يطرق مسامعنا بأنَّ أحدهم كان قد ذكرنا بسوء؟ وما الذي يعكسه هكذا نوع من التصرّف؟ إن دلّ ذلك على شيء، فإنَّما يدلّ على عدم إعطائنا الأهميّة المطلوبة لهذا الموضوع، وأنَّنا كنَّا قد أعطينا الأولوية لأمور أخرى؛ فنحن نجعل العلاقات العائلية هي الأصل، أما طريق السير والسلوك فقد جعلناه في مراتب متأخّرة عن تلك العلاقات، واعتبرناه من الأمور الفرعية، ولم نعطه ما يستحقّه من الأهميّة والأولويّة؛ فترانا نعمل على صيانة علاقتنا مع الآخرين، فإن استطعنا المحافظة عليها، فيكون قد حصل المطلوب، ثمّ تصل النوبة بعد ذلك إلى أمر الطريق والذي لا ترانا نتأثّر كثيراً بشأن استمرارنا به أو عدم الاستمرار؛ هذا في الوقت الذي يكون فيه هو الأمر الأكثر أهميّة والأمر الحيوي للغاية؛ وسيعمل إهمال هذا الموضوع والتواني والتكاسل بشأنه إلى الفقدان التدريجي لحالة الاستقامة والعزم والتصميم المبرم التي كانت لدينا، وتجعلنا من أولئك الذين يقتنعون لأنفسهم بهذا المقدار من إمرار المعاش والحياة اليومية المعتادة.
فها نحن نشاهد البعض يُعرضون عن هذا المسير الذي له من الأهمية ما يفوق أيّ أمر آخر؛ ويُشاهد غالباً بأنَّ اتخاذ هؤلاء الناس لقرار الابتعاد عن المسير يكون مبنياً على أمرٍ فارغ أو عن أمر لا صحّة له من الأساس كما شاهدنا ذلك في تلك الحكاية التي نقلتها لكم في بداية حديثي، والتي كانت قد أخذت لها أبعاداً كثيرة في الوقت الذي لم يكن لها أيّ وجود من الأساس؛ فانظروا كم هي مواضيع مهمّة تلك التي نحن بصدد الحديث عنها، وكيف يدفعنا الإمام عليه السلام للسير والتقدّم في طريق الخروج من عالم التخيلات والاعتبار.

    

عدم الالتزام بهذه الفقرات يؤدّي إلى تفاقم الأنانية وزيادة الفرعونية في نفس السالك

ولقد ذكرت لكم في المجلس السابق بأنَّ الضرر سينال في الدرجة الأولى نفس المبتلى بهذا الأمر، أي ذلك الذي لا يراعي العمل بتوصية الإمام، ثم ستنال تبعاته السلبيةُ المجتمعَ في رتبةٍ متأخّرة، وهذا ما سنتحدّث عنه لاحقاً؛ فحديثنا حالياً يدور حول المردود السلبي لهذا التصرّف علينا نحن. إنّ أهم أثرٍ سيتركه علينا هو: تفاقم الشعور بالأنانية وبروز النفس وأن ترى النفس أنّ لها مكانة في قبال الله؛ وهو أمر في غاية الخطورة، ويجب الالتفات إليه.
عندما يسمع أحدنا كلاماً قاسياً موجّهاً إليه، فسينفعل عندها وسيسعى إلى الرّد عليه بالمثل؛ لكنّ الإمام يقول هنا: فَمَنْ قَالَ لَكَ: إنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْرًا فَقُلْ: إنْ قُلْتَ عَشْرًا لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً؛ فقل إذاً ما تريد أن تقوله، وتكلّم حتّى تتعب؛ نعم، هذا ما يُوصي به الإمام، أمّا نحن، فكيف ستكون ردّة فعلنا تجاهه؟ ترانا إن تعرّضنا إلى هكذا موقف ننفعل ونقول: (أتتجرأ عليَّ وتقول لي مثل هذا الكلام؟! فسترى منِّي إذاً ما سوف تراه!!)، فنمسك بالتلفون ونبدأ بالاتصال بهذا وذاك، كما ونأخذ بإرسال الرسائل إلى هذا وذاك، ونبدأ بسبّ هذا ولعن ذاك، ونقوم بنشر الخبر في الأطراف وإيجاد حال من الاضطراب والتشويش في المدينة، فنخبر كلّ من نعرفه بما قاله لنا.
فترى مثل هذا الشخص الذي لم يلتزم بنصيحة الإمام عليه السلام يأتينا ليقول: أتدري ما الذي قاله لي فلان من الناس؟ فنجيبه قائلين: حسناً، لقد قال لك شيئاً ما، فما هي علاقتي أنا بالموضوع لكي تخبرني به؟!
لقد كان المرحوم العلاّمة يقول مراراً: إن وصل الأمر بأحدكم إلى اغتيابي، فعليه ألّا يُوصله إلى مسامعي؛ لقد قال ذلك في أحد المجالس العموميّة في طهران مرّةً، فقال: قد يبدر من أحدهم كلامٌ بشأني، فإن حصل شيء من هذا القبيل، فلا تقوموا بإيصاله لي؛ لأنَّ الإنسان إن سمع أمراً غير لائق، فسوف يترك ذلك الأمر أثراً له على نفس المستمع، شاء ذلك أم أبى، فلماذا نسمح لمثل هذا الأثر بأن يحصل؟ فلعلّ أحدهم قد أخطأ وفلتت كلمة من لسانه، فهل من الصواب أن أذهب إلى الطرف المقابل لأقول له: لقد كنت متواجداً في أحد المجالس، فتكلّم عنك فلان بكلام ما؟! فلعل الرجل قد تاب بعدها ألف مرّة وندم على ما كان قد قال، فأيّ الحالتين ستكون الأفضل: هل من الأفضل أن يكون المقابل قد تاب عن فعلته، ولا أكون قد سمعت بما تكلّم به عنِّي؟ أم الأفضل أن يصل كلامه مسامعي، ويكون هو قد تاب عن فعلته فيما بعد؟ [إن كان كلامه قد وصل مسامعي] فسأتذكّر ما قال، وسأجد في قلبي منه شيئاً كلّما رأيته؛ وسأنظر إليه نظرة سلبية كلّما وقع نظري عليه.
وبالطبع نحن لسنا في معرض الحديث عن الكلام الجيد الذي يُنقل عن أحدهم هنا، فنقل مثل هذا الكلام هو أمر مستحسن، بل نحن نتحدّث عن نقل الكلام غير المناسب عن الآخرين والذي هو عبارة عن الغيبة؛ فما هو تعريف الغيبة؟ إنَّها عبارة عن ذكرك أخاك بما يكره في غيبته؛ فإن كان الكلام المنقول صحيحاً، كان ذلك من الغيبة، وإلاّ فستكون تلك عبارة عن تهمة وبهتان؛ فلماذا يقوم الإنسان بنقل هذا الكلام؟ ولماذا يجب أن يصل كلامه إلى مسامع الآخرين؟
جاء أحد الأصدقاء إلى بيتنا يوماً، وكان ذلك قبل ما يقارب من الخمسة عشر أو الستة عشر عاماً، فقال لي: كنت في إحدى المدن، فسمعت الكثير من الكلام الذي تكلّم به الآخرون عنكم، وها قد جمعت كلّ ذلك في هذا الدفتر الذي امتلأت صفحاته بما كانوا يقولونه عنكم ـ وكان دفتراً سميكاً كثيرَ الصفحات ـ وها قد جئت لأقرأ عليكم ما كتبته فيه من الكلام الذي كان يتداوله فلان وفلان عنكم؛ فقلت له: دعه معك، فقم بتمزيقه وإلقاءه في النهر أو قم بإحراقه؛ فقال: لقد بذلت جهداً كبيراً في جمعه يا سيِّدي؛ فقلت له: لقد أهدرت وقتك بقيامك بهذا العمل، وكان بإمكانك أن تستشيرني بما كنت تنوي القيام به؛ فقال: أريد أن ... فقلت له: انصرف إلى عملك، يا عزيزي. أليس لديك ما يشغلك من أمر المعاش؟!
لقد كان هذا الشخص من طلبة العلوم الدينية، وكان يظنَّ بأنَّه وبعمله هذا يقوم بتقديم خدمة لي! ولكن ما دمت أعلم بكون ما فيه من كلام تافهًا وفارغًا ولا حقيقة له، فماذا يجعلني أجلب لنفسي ما يتسبّب في إرهاق أعصابي وتلويث دمي (كما يقول البعض!)؟ ثمّ لو علمت بالذي قاله أحدهم عنِّي، فما الذي تريدني أن أقوم به عندها؟ هل تريدني أن أمسك بيدي بسكينٍ أو مسدسٍ وأقوم بالهجوم عليه؟ أم كنت سأجلب دبابة وأقوم بتهديم داره عليه؟ أيّ كلامٍ هذا؟! وما الذي يعنيه مثل هكذا عمل؟!
ولذا قلت له: قم بتمزيق صفحاته، واعتبر وكأنّ شيء من هذا القبيل لم يكن قد حصل؛ يعني أنا لم أقم بفتح صفحات الدفتر أصلاً، بل كان الدفتر أمامه، فقلت له: لا تجلبه لي، بل خذه وقم بإتلافه، وها أنا لا أعلم بما كُتب فيه حتّى هذه اللحظة، فذهني فارغ مما جاء فيه وأنا أعيش مرتاح البال.
ومهما كان ذلك الشيء الذي قيل عنِّي فليس بأمرٍ مهمّ؛ ولعلّ الرجل الذي كان قد تكلّم عنِّي بذلك الكلام قد ندم على فعلته بعد ذلك. ولكن لو كنت قد استلمت الدفتر منه، وقمت باستنساخ نسختين منه لأقوم بوضع واحدة منها على هذا الرّف والأخرى في تلك الخزانة حتّى أكون قد احتفظت بنسخة منه إن ضاعت النسخة الأصلية، ثم أقوم بعرضها على الآخرين؛ فكيف ستكون حالتي النفسية حينئذٍ؟ فأنا ـ إذ أتكلّم معكم الآن ـ لا أعرف ما الذي كان فيه، وليس في نفسي أيّ شيء عمّا طُرح هناك من كلام، أو عن الذي صدر منه ذلك الكلام؛ فقد قلت إنَّني لم أتصفّح أوراقه، بل وحتّى لم أفتح غلاف الدفتر؛ وبالتالي فأنا لديّ الآن حسن ظنٍّ بأولئك الناس.
ولكن كيف سيكون حالي لو كنت قد اطلعت على ما قاله فلان من الناس عنِّي؟ وأيّ حالة انقباضٍ نفسيٍّ كنت سأعاني منها الآن؟ فلو كنت قد اطلعت على ما فيه، لكانت الآن جميع تلك الأحداث تمرّ من أمام عيني كما يمرّ الفلم المتحرّك؛ فإن قمت إلى الصلاة، فسيكون ذلك الكلام ملازماً لي! وإن قرأت القرآن، فستمرّ تلك الكلمات من أمام عينيّ عند القراءة، وإن اختليت بنفسي، كانت تلك الأمور ستحضر أمامي؛ إذ هل تظنّون أن مثل هذه القضايا ستترك الإنسان وحاله؟! كلاّ، بل ستلازمه ولا تتركه وحاله أبداً؛ على أنَّ الأمر يهون بعض الشيء بالنسبة لأصحاب الذاكرة الضعيفة، أمّا من تكون ذاكرته قوية، فيا لها من مصيبة إذاً، إذ يتمتع البعض بذاكرة قوية جداً؛ فها أنا أتذكر أحداثاً كانت قد حصلت عندما كنت في السنة الثانية من عمري، فأتذكر الحديث الذي كان يدور في تلك المجالس التي كان المرحوم الوالد يصطحبني إليها وأنا في سنِّ الثانية، فأتذكّر ما الذي قاله فلان، وما الذي أجاب به الآخر؛ إنَّ مثل هذه الذاكرة تُسبّب المتاعب للمرء! [يقول سماحته ممازحاً:] على أنَّ البعض منها كان جيّدًا، فقد كانوا أحياناً يصطحبونني إلى مجالس الزفاف! ، فقد كانوا يعتقدون بأنَّ الطفل في الثانية من عمره لا يفهم شيئاً، ولكنّني كنت أفهم بعض الأشياء [يضحك سماحة السيد و الحضور]... خلاصة الأمر، فالذاكرة القويّة تُسبب لصاحبها المتاعب.
فلماذا كان المرحوم العلاّمة يقول: (إذا اغتابني أحدهم فلا تخبروني)؟ إنَّه كان يقول ذلك ـ وبغض النظر عن التفاوت الموجود بين سائر الناس فيما يتعلّق بقوّة الذاكرة أو ضعفها، فلقد كانت ذاكرته قويّة جداً ـ لأنَّه كان لا يريد أن يتشوّش ذهنه، ولم يكن يريد قضاء هذه الأيام القليلة من الدنيا بذهنٍ مضطرب مشوّش، ولم يكن يريد أن يؤدِّي صلاته بذهنٍ مليءٍ بصورة هذا وذاك ومليءٍ بالخواطر، فيشغل وقته بإبعاد هذه الخواطر عن ذهنه أثناء الصلاة؛ حيث أنّ الذهن عندما يكون صافياً، فليس بحاجةٍ إلى دفع الخواطر عنه؛ فمن لم يكن يعاني من الصداع، فهو لا يقوم بشدّ رأسه بعصابة! وبالتالي فمن يكون ذهنه خالياً من هذه الأمور سوف يعيش بذهن صافٍ وسيكون مرتاح البال، وسيكون تعامله مع بقية الناس مريحاً.

    

صفاء الذهن والنفس من أهم شروط التكامل

إنَّ هذا الأمر يعتبر من أهمّ الأمور، بل يمكن القول إنّ أهمّ الأمور التي يجب رعايتها من أجل الحركة في هذا الطريق، ومن أجل تجاوز التعلّقات الدنيوية، والأوهام، وشقّ الطريق نحو التجرّد، والتوحيد، هو صفاء الذهن و النفس؛ فيجب أن يكون الذهن صافياً من جميع ما يمكن أن يكدّره، ويجب أن تكون النفس صافية؛ فالنفس الغارقة في الأوهام لا يمكنها أن تخطو خطوةً واحدةً في هذا الطريق، فلا يمكنها أن تتوجّه إلى الله، ولا يمكنها أن تصلِّي أو تصوم بالشكل الصحيح؛ وإن قام صاحب هكذا نفس بقراءة القرآن، فسوف لن تتجاوز قراءته المرور على الكلمات الظاهرية للقرآن مروراً عابراً مصحوباً برؤية ألف فيلمٍ من بداية قراءته إلى آخرها، فعندما يقرأ صفحة من القرآن، فستحضر عند قراءته جميع تلك التصوّرات والأوهام التي يمتلكها؛ فكم هو الفرق بين هذه القراءة وتلك التي ينظر فيها إلى ذهنه فيراه خالياً من كلّ شيء، ويرى نفسه خالية من كلّ ما يسبب لها التشويش والاضطراب؛ فهذه واحدة من المسائل المهمّة في هذا المجال.
ولذا فعلينا أن نعتبر هذا الأمر أحدَ البرامج السلوكية التي يجب علينا الالتزام بها اعتباراً من هذه الليلة، ألا وهو: ألاّ نسمح بأن يصل إلى مسامعنا أيّ أمرٍ خاطئ وغير مناسب؛ فلنتّخذ ذلك بعنوانه برنامجًا سلوكيًّا وبعنوانه دستوراً نلتزم به وبعنوانه أحد المباني وأحد الأصول التي علينا أن نتبنّاها. يعني بمجرّد أن يأتينا من يريد أن ينقل إلينا مثل هذا الكلام الخاطئ، فعلينا أن نقاطعه ونوقفه ولا نسمح له بإكمال ما يريد أن يقول من هذه الأمور التي لا طائل لها، ونغيّر الموضوع فنسأله عن أي موضوع آخر كارتفاع سعر البنزين أو برودة الجوّ أو أيّ أمر من هذه الأمور ... يعني علينا أن نقف بوجه استماع هذا الكلام من البداية ولا نسمح له أن يصل إلى مسامعنا ولا إلى نفسنا، و لا نقول له: أجل، هيّا أخبرني بما قاله فلان! كلاّ، بل علينا أن نمنع ذلك من أساسه. دعونا نتّخذ هذا واحداً من الأصول التي علينا التمسّك بها وقاعدة نطبّقها في حياتنا.
لماذا يتوجّب علينا أن نفعل ذلك؟ إنَّ ما يهمنا من الأمر هو ليس ما يريد أن يقوله هذا الرجل، بل ما يهمنا هو منع ذلك البلاء الذي يريد أن ينزل علينا، والمتمثّل في استماعنا لما يريد أن يقوله؛ فلا شأن لنا بناقل الخبر ولا يعنينا من يكون، بل ما يهمّنا من الأمر هو ذلك البلاء الذي يريد أن يحطّ رحله في ساحتنا والذي سنكون نحن المتضرّرين الأوائل منه، فعلينا منع حصوله؛ فبناءً على هذا يتوجّب علينا أن نقول لذلك الرجل: لا أريد أن أسمع ما تريد أن تقول! ألم يكن ذلك الرجل قد مسّني بكلامه؟ حسناً، ولكنَّني لا أريد أن أسمع ما قاله، فأنا لا أريد أن يتشوّش ذهني وتتكدّر نفسي من سماع ما قال، ولا أريد أن يرد هذا الفكر وهذا التخيّل إلى نفسي؟ فهل تريد أن تفعل ذلك عنوة؟ فأنا لا أريد أن أسمع؛ فليكن ذلك أحد الأصول التي نبني عليها حياتنا.
فإن لم نتصرّف بهذا الشكل، بل تصرّفنا بشكل مغاير، فما الذي سيحصل لنا؟ ستأخذ هذه القضية مكاناً لها في أنفسنا، وسنتمسّك بمكانتنا وعزّتنا أكثر فأكثر؛ فنقوم بالرفع من شأننا ومكانتنا وسنرى بأنَّ شخصيتنا تتعرّض الآن إلى إهانة وخدشة وتقليل الاحترام، فلا بدّ لنا من أن نقوم بردّة فعل؛ فترانا نقوم بالحركة بالاتجاه المعاكس تماماً لمسيرنا الذي يفترض بنا أن نسلكه، فبدلاً من أن يسلك الإنسان ذلك الطريق الذي يُخرجه من الجزئيّات باتّجاه الكليّات، وذلك الطريق الذي يجب أن يقضي على ما يمتلكه الإنسان من صفات رذيلة وأن يقضي على حالة التكبّر والأنانية والتفرعن الموجود في نفسه، وبدلاّ من أن يرى نفسه فقيراً، ويرى نفسه صفراً، وأن الله هو المبدأ، وأنَّ كلّ شيءٍ آخرٍ هو عبارة عن عدمٍ محضٍ وهو مندّك في وجوده، فبدلاً من كلّ ذلك، تراه يبدأ بالحركة في الاتجاه المعاكس، فتراه يرى لنفسه وجوداً مستقلاً أمام وجود الله، فيرى الله ويرى نفسه في قباله، وهو يرى الله ويرى شخصيته في الجانب الآخر، ويرى الله ويرى في نفس الوقت شخصيّته التي تعرّضت للتجاوز وهتك الحرمة.
قال رجلٌ بأنَّه كان يتحدّث في مكان ما، فذكر اسم أحد الشخصيات، وبدلاً من أن يذكر لهذه الشخصية لقباً عالياً، فقد ذكره بصفةٍ أقلّ منها؛ يقول الرجل: فبدأتُ بتلقّي المكالمات التلفونية المعترضة من كل حدبٍ وصوبٍ، ووصل الأمر إلى مسامع تلك الشخصية ـ التي رحلت عن الحياة في هذا الوقت ـ فاتصل قائلاً: كان يجب أن تذكرني بصفة أعلى مما ذكرتني؛ يقول الرجل: فاعتذرت عمّا بدر منِّي، فقالوا لي: وما الذي يجديه الاعتذار، بل عليك تصحيح ما صدر عنك؛ ولقد ازداد إصراره على هذا الموضوع، حتّى قمت بتصحيح القب التي ذكرته في مناسبة لاحقة، فقلت: دعه ينام قرير العين الآن.
لقد كان الرجل يُذكَر بلقب آية الله على سبيل المثال، فذكره على أنَّه حجة الإسلام، فأخذوا بالاعتراض عليه والطلب منه تصحيح هذا الخطأ الذي صدر عنه ـ ولا يزال الرجل على قيد الحياة ـ فقال: حسناً سأعمل على تصحيح الأمر، فاتصلوا به بعد نصف ساعة قائلين: لم نسمع لحدّ الآن عن قيامك بتصحيح خطأك، وهكذا أخذت الاعتراضات تتوالى عليه؛ فلماذا يحصل مثل هذا الشيء؟! إنَّ السبب في ذلك يعود إلى أنَّ تلك الحركة التي كان يجب أن تأخذ طريقها نحو الكليّة، قد أخذت لها طريقاً معاكساً، وها هو العمل جارٍ على دعم وتقوية الجزئية، وعلى تقوية النفس، فتسعى النفس إلى إبراز مكانتها أكثر فأكثر؛ فكيف ستجري الأمور في مثل هذه الحالة؟ إنَّ هذا التصرّف يقود النفس في الاتجاه المعاكس للسلوك، وهو مغاير للحركة في الطريق إلى الله، ومغاير لذلك المسير الذي كان يجب على السالك أن يسلكه؛ لأنَّ الإنسان يسعى للسير نحو التجرّد، والتجرّد لا ينسجم مع هذه التصرفات.
عندما يتم تصميم الطائرة، تؤخذ عدّة أمور بنظر الاعتبار في هذا التصميم، فأهمّ ما يؤخذ بنظر الاعتبار هو استعمال أخفّ خليط معدني في صنع هيكل الطائرة، مع الأخذ بنظر الاعتبار متانة المادة ومقاومتها للظروف المختلفة بالطبع؛ فأول عامل مهمّ في انتخاب الخليط المعدني المستعمل هو عامل الوزن وذلك لكي تستطيع الطائرة من التحليق في الهواء بسهولة؛ فلو قاموا بصنع طائرة ثمّ عمدوا إلى ربط دبابة إلى مؤخرتها، فسيؤدِّي ذلك إلى عدم تمكّن الطائرة من الطيران؛ إذ ستعمل أجنحتها على رفعها في الهواء من جهة، وتقوم تلك الدبابة المعلّقة بها بإعاقتها عن الطيران من الجهة الأخرى، فستبقى مقدمتها مرتفعة إلى نهاية المدرج، بينما لا تتمكّن الطائرة من الطيران؛ وذلك لأنَّهم قاموا بإضافة ثقل إليها، الأمر الذي أدّى إلى حصول خلل في تلك الظروف المساعدة لها على الطيران، فكيف ستتمكّن الطائرة من التغلّب على جاذبية الأرض والحال هذه؟ كيف ستتمكّن من تحرير نفسها من قوّة الجاذبية الأرضية وشقّ طريقها إلى الأعلى، لقد كان عليكم أن تقطعوا ذلك الحبل الذي يربط الدبابة بها، لكي تتمكّن من الطيران.
ونحن أيضاً نريد التحليق نحو التجرّد والتوحيد، ولكنَّنا نقوم في نفس الوقت بإضافة المزيد من تلك العناوين إلى أنفسنا، ونقوم بتقوّية غرورنا وشخصيتنا، وها نحن نقوم بإحاطة أنفسنا بدائرة، ونعمل على زيادة قطر هذه الدائرة باستمرار؛ وبهذا الشكل فإنّ كلامنا وادعاءاتنا ستتّخذ اتجاهاً معيناً، بينما ترى تصرفاتنا وأفعالنا تقودنا إلى الحركة بالاتجاه المعاكس له تماماً.
إنّ هذا الموضوع خطير ومهمّ، وهذا هو ذلك الضرر الذي سينالنا نحن إذا لم نلتزم بوصيّة الإمام الصادق عليه السلام؛ وذلك أنّ من ينبري للدفاع عن نفسه، فهو إنَّما يسعى لتقوية وتمكين جانب النفس، فهو يقوم بإبراز عضلاته قائلاً: أنا زيد بن عمرو.. أنا الطهراني، فأنا لي شخصيتي ولي مكانتي المرموقة في المجتمع، ويحسب لي الناس ألف حساب، فكيف سأقف صامتاً أمام ذاك الذي ينال من شخصيتي؟ فهل يمكن أن يقبل الإنسان بأمر كهذا؟ وهل يمكن أن يتحقّق شيء كهذا؟ كلاّ، بل لا بدّ لي من الدفاع عن شخصيتي ومكانتي!
فنقوم في مثل هذا الموقف بالاستدلال بألف دليلٍ ودليل على صحّة موقفنا، ونستخدم لتحقيق ذلك كلَّ شيء فنستفيد من الله والنبي والمعصومين الأربعة عشر وإمام الزمان لتحقيق هدفنا، ونقوم بربط الموضوع بالتكليف الشرعي، فندّعي أنّ تكليفنا الشرعي هو الجواب و الردّ؛ فترى أحدهم يقول: لا بدّ لي من التصدّي والجواب، فإن لم أقم بذلك، فسيُعطي الناس الحقّ للطرف الآخر؛ ثمّ يأتي دور الشيطان هنا فيقوم بإضافة المزيد من التوابل إلى هذا الطعام، فهو أكثر خبرة منّا بهذا الأمر، وهو يجلس إلى جنبنا دائماً ليقوم بتعليمنا المزيد من هذه الدروس.
كنت قد قلت لأخواتنا المؤمنات في المجلس الذي أُقيم يوم أمس بأنَّ الشيطان موجود في كلّ مكان، أفلا ترونه كيف يجلس إلى جنبي الآن وهو يقول لي: انظر كيف اجتمع هذا العدد من الناس ينتظرون خطابك، ألا تسمعون كلامه، فها أنا أسمع كلامه الآن [يضحك سماحة السيد]. إنّ الشيطان يجلس إلى جنب الإنسان منتظراً فتح أحد الأبواب، فما أن يُفتح باب بوجهه، إلاّ وتراه يرد من ذلك الباب مستدلاً بأنواع الأدلّة، فيستدلّ بالأدلّة الشرعية والعقلية والاجتماعية المقبولة ويستدلّ بما يقبله عامة الناس من الأدلّة، فيبدأ وبالتدريج بإبراز الأمر الخطأ و الباطل على أنّه أمر صحيح وواقعي، فيتّبعه الإنسان ليأخذه في الطريق الخاطئ ويصل به إلى ما لا تُحمد عقباه، وهذا ما نلاحظ أنّه يحصل في مجتمعنا باستمرار.
ترى أنّ الطرفين المتنازعين كلاهما يستدلّ على موقفه فهذا يأتي بدليل، ليأتي الآخر ويستدلّ بأمر مماثل، ففي ثورة المشروطة [1] وقف جانبان متخالفان في مقابل أحدهما الآخر، فلا يمكن والحال هذه من أن يكون كلا الجانبين على الحق؛ ولقد كانت الأصناف المختلفة من الناس تؤيد كلاً من الطرفين، فإن وجدت في هذا الطرف أناسًا عاديين و تجّاراً وأصحاب محلاّت من العاملين في الأسواق، فستجد في الطرف الآخر مثلهم، وإن وجدت في الطرف الأول أفراداً من السياسيِّين، فستجد في الطرف المقابل مثلهم، كما ويوجد في كلا الطرفين أناسٌ من أهل العلم؛ فلم يكن الأمر بحيث أنّ العلماء والوجهاء كانوا مؤيدين بأجمعهم لأحد الطرفين، بينما يتواجد اللصوص وقطّاع الطرق والأوباش وأهل المعاصي في الطرف الآخر، لم يكن الأمر كذلك، بل كان متكافئاً؛ فعندما ينظر الناس إلى أحد الطرفين فيجدون فيه فلاناً من وجهاء الناس، فسيجدون في الطرف الآخر مثله، وإن تواجد في هذا الطرف الطبيب والمهندس المعروف، فسيرى الناس وجود نظرائهم في الطرف الآخر؛ فإن رجحت كفّة أحد الطرفين على الأخرى، كان الطرف الثاني يعمل على تعزيز رصيده بما يجده من الناس القرويين وما شابه ذلك ليعمل على إعادة التعادل لكفتي الميزان؛ كما كانوا يذهبون إلى منازل العلماء ويطرقون أبوابهم ويدعونهم إلى نصرة الإسلام، فيطرقون باب أحد العلماء قائلين: أنقذوا الإسلام، فقد قاموا بكذا عمل وهم يعملون الآن على محو الإسلام، فها هم أنصار حركة المشروطة يقومون بكذا وكذا من الأعمال.
لقد كان كلا الطرفين يناديان بنصرة الإسلام والدفاع عن دين الله، فلم يكن الأمر بالشكل الذي يدعو فيه أحد الأطراف إلى شرب الخمر، بينما يدعو الآخر لتطبيق مبادئ الدين، فلو كان الأمر كذلك لأتّضح الأمر للآخرين، بل كان الطرفان كلاهما يدعوان إلى تحقيق نفس المبادئ؛ وهكذا تجري الأمور دائماً؛ فالشيطان يعمل على تزويد كلا الطرفين بالمؤن اللازمة، فهو يجلس إلى جنبهم ويمدّهم بما يحتاجون إليه؛ وإنَّه لأمر عجيب حقاً.

    

الشيطان يساعد أوليائه كما تساعد الملائكة المؤمنين

كنت قد ذكرت للإخوة كيف أن الملائكة تمدّ قلب المؤمن وفكره وروحه بما يحتاج إليه من الأمور الحقيقية عندما يكون سائراً في الطريق الصحيح؛ فكذلك الأمر في الطرف المقابل، فإن أخذ الإنسان طريق الباطل فإنّ الشياطين ستساعده وتمدّه بما يلزمه في ذلك الطريق، فبينما يكون الرجل جالساً يفكّر في كيفية الحصول على ما يريد، فإذا به يتذكّر أمراً ما، فيُصمّم على تنفيذه في الغد، فتجده يستخرج ملفاً من الأرشيف ويأخذ منه ما يحتاجه لتحقيق أغراضه، ويقول في نفسه: هذه هي الورقة الرابحة التي كنت أبحث عنها!
فمن الذي ألقى هذه الفكرة في ذهنه؟ فهي لم يكن لها أيّ وجود في ذهنه قبل هذا الوقت، فمن الذي ألقاها في ذهنه دفعة واحدة؟ أو أن يتذكّر فجأةً إمكانية الاستفادة من مساعدة فلان من الناس في هذا المجال، فمن يكون قد ذكّره بذلك؟! إنَّه صاحب السموّ الشيطان، فهو الذي يجلس الآن إلى جنبك، وهو الذي يعمل على إرشادك إلى الاستعانة بفلان من الناس، وهو الذي يقول لك: سيفيدك فلان من الناس في هذا المجال؛ فتراه يتحرّك في الغد منذ طلوع الشمس مستعجلاً، سواء كان قد صلّى صلاة الصبح أم لم يكن قد صلاّها بعد، ويكون قد تناول إفطاره أم لم يتناوله بعد، فيقوم بلبس ملابسه والذهاب إلى منزل ذلك الرجل والقيام بذلك العمل قبل أن يكون الوقت قد تأخّر، فمن الذي يقوم بذلك؟ إنَّه الشيطان! فهو الذي يقوم بإلقاء كلّ ذلك إلى النفس.
لذا نرى كيف أنَّ العظماء كانوا يُخطّئون كلا الطرفين [في مسألة المشروطة]، فلا تراهم يؤيِّدون أولئك الذين دعموا ثورة المشروطة، ولا أولئك الذين وقفوا مع الجانب الثاني؛ قال المرحوم العلاّمة: لم ينادِ أيٌّ من الطرفين باسم الإسلام، بل ترى الطرف الأول ينادي باسم المشروطة، بينما يرفع الطرف الآخر شعار الدفاع عن السلطة الحاكمة؛ ولم يتطرّق أحد إلى وجوب السير وفقاً لما أمر به الله والنبي والإسلام في هذا الوسط، فما الذي تعنيه المشروطة؟
كما أنّ أولئك الذين يمتلكون بصيرةً وعينًا باطنيّة كانوا يذكرون عبارات أكثر حدّة في هذا المجال؛ كانوا يقولون: لقد وقع البسطاء من الناس في النتيجة ضحاياً لهذا الاختلاف الذي وقع بين هاتين المجموعتين من الـ...، فكلا الطرفين يقدّمون أرواح الناس أضاحي من أجل تحقيق ميولهم وأهدافهم ونواياهم النفسية.
ولذا فعندما يقف الإنسان [المؤمن] في مفترق الطرق، ترى أنّ الله يأخذ بيده في مثل هذا الموقف فيُلقي في قلبه ما يتوجّب عليه القيام به مما فيه خيره وصلاحه.

    

ما الذي يصيب السالك الذي يلتزم بالعبادة ولا يطبّق المباني في حياته؟

ويوجد هنا أمر مهمّ يجب علينا التفكير بشأنه وهو: كيف يمكن أن يبدأ أحد السالكين حركته نحو التوحيد، ويطوي الطريق إلى الله بالاستعانة بالأذكار، وقراءة القرآن، وأداء صلاته اليومية، وإتيانه بصلاة الليل، ومطالعة مؤلفات العظماء، والاستماع إلى نصائحهم، ومع ذلك وفي نفس هذا الوقت تراه يخطو خطوات عمليّة وينتهج نهجاً يعمل على انغماره وترسيخ قدمه في عالم الوهم، والخيال، والاعتبار! كيف يمكن لذلك أن يحصل؟!
إنّ هذا هو عين ما كان المرحوم العلاّمة يقوله في حياته لتلامذته، فقد كان يقول: إنَّ مَثَلَ من يختار سلوك هذا الطريق، وهو في نفس الوقت يمضي أيّام حياته من دون رعاية البرنامج السلوكي المكلّف بالعمل بموجبه، ومن دون الاستماع إلى ما يتم التوصية به، فمثلَهُ كَمَثل البيضة التي وُضعت تحت الدجاجة مدّة من الزمن، ثم يتم إخراجها من تحت الدجاجة قبل أن تتبدّل إلى فرخٍ، فتفسد تلك البيضة وتتلف ولا يمكن الاستفادة منها؛ فيا ليته لم يضع قدمه على هذا الطريق منذ البداية!
إنّ تلك البيضة وقبل أن يتمّ وضعها تحت الدجاجة كان بالإمكان الاستفادة منها وتناولها، أمّا إن وضعت تحت الدجاجة لمدّة أربعة أيّام أو عشرة ثم اُخرجت من تحتها، فسوف تفقد هذه البيضة صلاحيتها للأكل من جانب، كما أنّها لن تتبدّل ماهيّتها لتصبح فرخ دجاجٍ من الناحية الأخرى.
وهكذا يكون حال الإنسان الذي لم يكمل مسيره، فهو وقبل اختياره للسير في هذا الطريق، يكون له نوع من الارتباط بالله وهو يعيش أجواءه الخاصّة به، فهو يؤدِّي صلاته وصيامه بشكل عاديّ، أمّا إن اختار السير وفقاً لمباني هذه المدرسة، واطّلع على ما يجري فيها، وأنِس بما وجده فيها من قضايا، ولكنَّه ظلّ ـ في نفس هذا الوقت ـ يسلك سلوكاً معاكساً في حياته، فسيؤدِّي هذا إلى أن تتشكّل نفسه و تستحكم وتقوى في الاتجاه المعاكس للطريق السليم؛ فيا ليته لم يضع قدمه في هذا الطريق منذ البداية! نعم، يا ليته لم يفعل ذلك!
ولهذا السبب نرى بعض الروايات التي تتحدّث عمّا يحصل يوم القيامة ـ سوف لن أذكر المزيد من التفاصيل ـ تذكر كيف يتم التجاوز عن سبعين ألف ذنبٍ يرتكبها رجل من عوام الناس في ذلك اليوم، في الوقت الذي لا يتمّ فيه التجاوز عن ذنبٍ واحدٍ صادر عن أحد العلماء؛ فالسبب في ذلك يعود إلى كون نفس هذا العالم قد تقولبت بذلك القالب الذي جعلها تتخذ لها موقفاً في وجه الحق؛ فيكون ذلك الرجل العامي قد ارتكب الذنب خطأً ولم تتخذ نفسه موقفاً لها تجاه الحق. أمّا هذا العالم، فتكون نفسه قد وقفت بوجه الحق واتخذت لها موقفاً راسخاً تجاهه؛ فعندما يقوم بعملٍ ما وهو على هذا الحال، فإنّ حقيقة عمله ستكون هي الاستكبار والعناد والوقوف بوجه الحقّ وقلب الحقائق وإضلال الناس عن الحقّ وحرفهم عن المسير الصحيح، فكيف سيغفر له الله مثل هذا الذنب؟! فقد يرتكب الإنسان العادي ذنوباً وأخطاءً فيتوب عنها، فيغفر الله له ذنوبه، أمّا إن قام ذلك العالم بسلب الناس عقائدهم وإيمانهم عالماً عامداً ومع سبق الإصرار، فسوف يحاسبه الله حساباً عسيراً، ولن يتساهل معه!
فذلك الذي يضع قدمه في هذا الطريق، وهو في نفس الوقت يتصرّف بخلاف مبادئ هذه المدرسة، فسيكون حاله حال ذلك العالم، فهو يعمل على تقوية نفسه يوماً بعد آخر، ثمّ يتّخذ له موقفاً مضاداً من هذه المدرسة.
لذا نرى الإمام الصادق عليه السلام يقول: عليك هنا بالقيام بهجوم احترازيّ مضادّ، فما أن يأتيك من يريد أن ينقل إليك خبراً عمّا تكلّم به أحدهم ضدّك، فتعال هنا وقل له: إن كان ما قاله الرجل صحيحاً، فأسأل الله أن يتجاوز عن خطئي، وإن كان كاذباً فيما قال، فأسأل الله أن يغفر له؛ أفرأيتم كيف سيخجل الرجل من موقفه عندما تصله ردّة الفعل هذه؛ فأنت لم تقل شيئاً مزعجاً أو يمكن الانتقاد عليه، إذ أن كلّ ما قلته هو: إنْ كُنْتَ صَادِقًا فِيمَا تَقُولُ فَأَسْأَلُ اللَهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي، وَإنْ كُنْتَ كَاذِبًا فِيمَا تَقُولُ فَاللَهَ أَسْأَلُ أَنْ يَغْفِرَ لَكَ‏!
وبهذا تكون قد نقيّت ذهنك من التشويش، ومهّدت الأرضية لنفسك لمزيد من الارتقاء و التكامل، فأنت وبعملك هذا تكون قد اكتسبت سعةً جديدة سوف تؤهلك إلى استيعاب المواقف الآتية؛ فيمضي الشهر والشهران ـ فمثل هذه المواقف لا بدَّ وأن تحصل لنا ما دمنا نعيش في هذا المجتمع، فلا يمكننا أن نعتزل الناس لنعيش في غارٍ بحيث لا نختلط بأحدٍ منهم، على أنَّه وحتّى وإن ابتعدنا عن الناس، فسوف لن نستطيع تجنّب الاختلاط بهم مع وجود جهاز التلفون وأمثاله ـ وتمضي الستة أشهر من عمل الإنسان بمضمون هذا الحديث ليجد بأنَّ نفسه قد تغيّرت كثيراً، ويجد نفسه قد أصبحت أكثر أريحية ولطافة؛ فلم يعد يبدي ردّة الفعل التي كان يبديها من قبل، ولم يعد للكلمات التي يسمعها من الآخرين ذلك الوقع الذي كان لها على نفسه؛ فتكون حدّة هذا الأمر قد خفّت لديه وأصبح وكأنَّه يسمع هذا الكلام من طفلٍ، فهل يتأثّر الإنسان من سماعه كلامًا من طفلٍ؟! فتخفّ حدّة الأمر لدى الإنسان ليرى عدم حصول ذلك الانفعال الذي كان يحصل له عندما لم يكن ملتزماً بالعمل بهذه التوصية.
كان هذا ما تضمّنه حديثنا لهذه الليلة، ولقد كان في نيّتي أن أختم الحديث بشأن هذه الفقرة، ولكنَّه يبدو بأنَّ هنالك المزيد مما يمكن الحديث عنه من الآثار التي يتركها العمل بهذه التوصية على نفس الإنسان، فلقد تكلّمت عن جزء من هذا الموضوع، وسأقوم بإكمال الحديث عنه في المجلس القادم إن شاء الله ومنحنا التوفيق للقيام بذلك.
اللهمَّ صلِّ على محمّد وآلِ محمّد


[1] ـ ثورة المشروطة، أو ما تُسمّى بالثورة الدستورية هي عبارة عن تلك الأحداث التي وقعت عام 1323 للهجرة والتي تمت المطالبة فيها بتشكيل مجلس للأمة وإقرار قانون أساسي للبلاد من أجل الحدّ من استبداد السلطة الملكية الحاكمة في إيران آنذاك. [المترجم]

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی