معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1437 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1437 هـ ـ الجلسة 6: الله هو المحور في تعامل السالك

____________________________________________________

هو العليم

شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1437 هـ

الجلسة السادسة:
الله هو المحور في تعامل السالك

ألقيت في السادس عشر من شهر رمضان المبارك لعام 1437 هجري قمري

ألقاها:
سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه اللـه

 

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد
اللهم صل على محمد وآل محمد
وعلى أهل بيته الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين

ولو اطلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته، ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته، لا لأنّك أهون الناظرين وأخفّ المطّلعين؛ بل لأنّك يا ربِّ خير الساترين، وأحكم الحاكمين، وأكرم الأكرمين.
لو كان أحد غيرك يا ربّ يطلع عليّ عند ارتكابي الذنب لما صدر مني، ولو علمت بأنّك ستعجّل إنزال العقوبة عليّ عند اقترافي للذنب لكنت ابتعدت عنه أساساً؛ وهذا الأمر ليس لأنّني أعتبرك متساهلاً ومقصّراً في النظر والإشراف على أعمالي، ولا لأنّ اطلاعك على أحوالي اطلاع ناقص، بل لأنّني أعلم بأنّك خير الساترين، وأنّك في مقام الحكم أفضل من يحكم، وأنّك في مقام الكرامة الأكرم على الإطلاق.

    

المحور في أعمال السالك هو الله لا الإنسان

لقد ذكرنا للإخوة بالأمس بأنّ الإمام السجاد عليه السلام في هذه الفقرة يريد أن ينبّهنا إلى مطلب أساسي؛ وهو أنّه يريدنا أن نخرج من جهلنا وغفلتنا بالنسبة إلى تصرّفنا.
هنا يوجد جنبتان؛ إحداهما مرتبطة بالناس والأخرى مرتبطة بالله، ما يرتبط بالناس هو أننّا دائماً ما نقوم بأعمالنا بهدف أن ينظر الناس إلى أعمالنا، فنحن في جميع أعمالنا نهدف لجلب نظر الناس؛ في جميع أعمالنا وتصرفاتنا، فلا نلتفت إلى نفس العمل، بل نلتفت إلى الأثر الذي يتركه هذا العمل في المجتمع، وما هي المصلحة التي تعود علينا منه.. هذا هو الذي يشغل تفكيرنا، لا نفس العمل.
لقد كان هناك مؤسسة في مكان ما، وكانت تريد أن تقوم بنشاطات ثقافية ودينية، ومن جملة الأعمال التي تريد أن تقوم بها هو التحقيق في بعض الأحكام الدينية وأمثال ذلك. وفي ذلك الوقت عرف [القيّم على هذه المؤسسة] بأنّ هناك شخصاً أو مؤسسة أو أي شيء آخر ـ طبعاً لم يكن شخصاً لوحده ـ يقوم بنفس هذا العمل، وواقعاً كان عمله جيداً ومتقناً، وقد أصدر منه جزءً أو جزأين ـ وقد أرسلهما إليّ ـ فجاؤوا إليه وقالوا له لا تستمر بهذا العمل! ومنعوه من العمل، [وقالوا] إذا قمت أنت بالعمل فلا نستطيع نحن أن نعمل شيئاً في هذا المجال العلمي!
يا عزيزي إذا كان الأمر عملاً علمياً فاذهب أنت وقم بعمل آخر. أما أن تأتي وتمنع الآخرين من عملهم لأنّك تريد أن تقوم أنت به، فهل هذا العمل لله، وأين النية الخالصة لله فيه؟! هل التفتم! ليأتوا فيما بعد وينشرون الإعلانات عن هذه المؤسسة بأنها المؤسسة الدينية والعلمة الفلانية لنشر الثقافة والدين وكذا وكذا.. لكن عندما ندقّق النظر نرى أنّ هذه المسألة كلها هباء، كلها هباء!
إذا نظرنا إلى جميع أعمالنا من الجنبة الخَلقية ـ لا نقول جميع أعمالنا، بل نقول معظم أعمالنا وتصرفّاتنا ـ نرى أنّها تقوم على أساس نظرة الآخرين وحكمهم ورأيهم، بحيث لو لم تُلحظ هذه المسألة لقمنا بعمل آخر، هذا بالإضافة إلى التوضيحات التي ذكرناها بالأمس.
المسألة الثانية هي الجنبة الإلهيّة لأعمالنا، فمن الواضح أنّ الله تعالى مطّلع على جميع أحوالنا، فلا يمكننا أن نتعامل معه بهدف أن نجلب انتباهه لنا أكثر، فإن استطعنا أن نخدع الناس أو أن نخفي عليهم، فإننا لا نستطيع أن نخدع الله أو نخفي عليه شيئًا. إذاً هناك أمر آخر يبعثنا على الاحتياط في التعامل مع الله ألا وهو خوفنا من العقوبة، فلو قال الله لنا: لقد رفعت العقوبة من البين؛ فحتى لو لم تصلِّ لن أعاقبك، وإن لم تصم غداً فلن أعاقبك.. [سنقول] لماذا نقوم بهذه الأعمال؟ فالله قد رفع العقاب! فإذاً نحن نخاف من العقوبة!

    

إطاعة أكثر الناس لله بسبب الخوف من العقوبة

وبشكل عام، كلمة التكليف مشتقة من الكُلفة وهي الإلزام، بمعنى أن لا يكون لدى الإنسان رغبة في القيام بأمر معين، ثم يلزم بهذا العمل، هذا يقال له تكليف! يقال لقد كلّفناك بأن تقوم بهذا العمل! والحال أنّ الإنسان يحب الجلوس في المنزل. أو أن يقال له: قم وصلّ، انهض من نومك في الصباح وتوضّأ بالماء البارد في الشتاء.. من المعلوم أنّ المنازل في السابق لم تكن كما هي الآن، حيث الخلاء الآن داخل المنزل، وهو مجهّز بوسائل التدفئة وأمثال ذلك، بل كان الخلاء في ساحة الدار خارجاً، مع وجود نصف متر من الثلوج، وعليه في هذه الحالة أن ينهض من فراشه ويخرج إلى زاوية الدار ويتوضّأ ويعود.. هذا الفعل تكليف. فمن يتخلّى عن نومه في ذلك الوقت، خصوصاً إذا كان مكانه ناعماً ودافئاً؟! فهذا تكليف، بل هو تكليف مضاعف؛ أن ينهض ويفتح الباب ويمشي وسط الثلوج ليتوضأ في الدار ثم يعود للصلاة..
يا إلهي دعنا نأتي بهذه الصلاة قبل صلاة الظهر، وبدلاً من ركعتين نصلّي أربع ركعات، نضاعفها لك. ففي الصباح علينا أن نستيقظ من نومنا، فضلاً عن الخروج وسط الثلوج، لكن ماذا نفعل في درجة الحرارة خمسة عشر تحت الصفر.. ما هذه؟ هذه كلها خلاف رغبة النفس، فالنفس لا تحب ذلك، لكن التكليف لا بد من الإتيان به.
حسناً، التكليف الذي يلزم الإنسان على النهوض والذهاب، ما الذي يقوله في نفسه عندئذٍ، يقول: آخ! لو لم نأت بهذا العمل، فسوف نحاسب غداً ونعاقب على ذلك، لذا ينبغي أن ننهض وننهي المسألة بشكل من الأشكال. هذا هو الخوف.
بينما لو افترضنا أنّ الله تعالى قال لنا: لقد رفعت هذا التكليف في فصل الشتاء، ورفعت العقاب عليه، فالجميع سوف يبقى نائماً! واقعاً النوم في ذلك الوقت وفي تلك الحالة أمر جدير.. وكذا الحال في سائر التكاليف!
لماذا كانت الأمور كذلك؟ كلها بسبب ملاحظة جهة العقوبة! نعم يمكن أن نلحظ بعض المسائل الأخرى التي قد تؤثّر أيضاً؛ مثل الوعد بالجنة، ونعم الجنة، وهذه الأمور.
لكنّنا لا نلتفت إلى نفس العمل؛ وأنّ هاتين الركعتين اللتين نصليهما في هذا الوقت هما بمثابة الدواء الذي ينبغي تناوله في وقته.. فنحن أساساً لا نلتفت إلى هذه المسألة. والحال أنّه يجب أن تؤخذ المضادات الحيوية في وقتها، فالمريض ينبغي أن يتناول دواءه على رأس الوقت، وإلا يشتدّ مرضه ويرديه!
هذه الصلوات التي نأتي بها في الأوقات الخمسة بمثابة الدواء، حيث تبعد الإنسان عن التعلّق، وتخرج النفس عن الكثرات وتمنحها تجرّداً، ومن خلال هذا التجرّد يحصل لها التقرّب ؛ لكننا لا نلتفت أبداً إلى هذه المسألة.
الإمام السجّاد عليه السلام يريد أن يلفت نظرنا إلى هذه القضية، ويقول لنا: عليكم أن تضعوا هذين الأمرين جانباً [وهما المذكوران في الدعاء]؛ أي ينبغي ألا تعملوا من أجل الناس ولا لأجل العائلة ولا لأجل الوالدين ولا لأجل الإخوان أو الرفيق أو الأقرباء، ولا لأجل المكانة الاجتماعيّة وأمثال ذلك؛ لا تعملوا لأجل هذه الأمور.

    

تمسّك الإنسان باعتباراته الاجتماعية على حساب سلوكه

في يوم من الأيّام، أمر المرحوم العلاّمة أحد الأشخاص بأن يقوم بعمل ما، لكنّه كان يصعب عليه إنجازه، فتحدّثنا معًا لمدّة تناهز الثمان ساعات، من الثامنة ليلاً إلى الرابعة صباحًا، فكان يفرّ إلى هنا وهناك، غير أنّني أغلقت في وجهه جميع أبواب الفرار، فلمّا وجد نفسه أمام الأمر الواقع، قال: وماذا أفعل بالمنزلة التي أحتلّها في المكان الذي أنا فيه؟! لاحظوا! فقد كان عالقًا في هذه المسألة، وانتهى الأمر! فالمكانة التي أمتلكها لا تسمح لي بأن أعمل وفقًا لأوامر أستاذي! فما الذي سيستتبعه ذلك؟
تجدر الإشارة إلى أنّ مصائبنا نحن تفوق هذه الأمور؛ فنحن الذين نقوم الآن بذكر عيوب الناس، لو أتى أحدهم وباح بعيوبنا، لوجدنا أنّها أكثر بعشر مرّات، فهكذا نحن، ولا يفرق الأمر بالنسبة إلينا! لذا علينا أن نرجو من الله سبحانه وتعالى أن يُعيننا حتّى نتمكّن من طيّ هذه العقبات، وإلاّ إذا وكلنا إلى أنفسنا، فإلى أين سنصل؟!
بى عنايات حق وخاصان حق
                             گر ملك باشد سياهستش ورق
اين همه گفتيم ليك اندر بسيچ
                             بى عنايات خدا هيچيم هيچ[1]


(يقول: دون عنايات الحقّ وأولياء الحقّ، فإنّ صحيفة كلّ موجود ستكون مسودّة وإن كان ملَكًا
لقد قلنا كلّ هذا، لكنّنا عند العزم والسعي سنكون هباءً منثورًا لولا عنايات الحقّ بنا
)
فجميع الأمور ينبغي أن تأتي من عنده، لكن مع ذلك، فإنّ التذكير بهذه المسائل يسبب نحو من الالفات.
كان ذلك الشخص يقول: ماذا أفعل إذن بمنزلتي بين الناس؟! حيث كان يحظى بمكانة مميّزة ويُعطي بعض الدروس وله وضع خاصّ وأمثال ذلك! فإذا بكلّ ذلك يتغيّر فجأةً ويظهر بشكل آخر! والعجيب والمضحك في المسألة أنّنا تحدّثنا لمدّة ثمان ساعات ــ حيث كنت في تلك الفترة مفعمًا بالحيويّة، وكانت تعرض لي بعض الحالات، فلم يكن ذلك صعبًا عليّ جدًّا، وأمّا الآن، فقد فقدت تلك الحيويّة، ولم أعد أتحمّل القيام بمثل هذه الأمورــ وطيلة هذه الساعات الثمانية، كلّما فتحت طريقاً لإقناعه كان يغلقه، ومهما أقام من دليل لإثبات مدّعاه، كنت أتصدّى له وأقول: لا، ليس الأمر بهذا النحو! إلى أن لم يبق عنده أيّ شيء، وتمّ تجريده من كلّ أسلحته؛ فحينئذ قال: لكن ماذا أفعل في الأمور المرتبطة بالناس؟ قلت: لا يحتاج ذلك لجهد كبير؛ فإلى الآن كانوا يرونك بذلك الشكل، ومن الآن فصاعدًا، سوف يرونك بهذا الشكل؛ فلا مشكلة في الأمر!، فقال: لا، لا يُمكن، فنفسي لا تسمح لي بذلك أبدًا!
لاحظوا، إنّ أعمالنا هي لأجل الناس، ولجلب اهتمامهم؛ لكن مَن هم هؤلاء الناس الذين نعمل لأجلهم؟! إنّهم أولئك الناس الذين يأتون يومًا ويذهبون يومًا آخر، ويُقبلون على الإنسان يومًا ويُدبرون عنه يومًا آخر، ويُسلّمون عليه يومًا ولا يردّون عليه حتّى السلام في يوم آخر.. ألم يحصل لكم ذلك؟ لقد حصل معي أنا!
وفي هذه الحالة، يأتي الإنسان ويوقف جميع أعماله لأجل هؤلاء الناس؟! إنّ هذا لهو الخسران المبين، وهذا هو غاية الشقاء! أي أن أتخلّى عن أعمالي وعن الطريق الذي أسلكه والمنهج الذي أتّبعه بسبب الشخص الذي قد يُدبر عنّي غدًا... يا عزيزي، إنّ نفس هذا الشخص سيُشيح بوجهه عنك، فتأتي أنت وتنحرف عن الطريق بسببه، ولأجله ترفع اليد عن الأوامر المعطاة لك، ولا تُؤدّي برامجك، وتدع كلّ ما هو في صالحك!

    

لا يحق للزوجة أن تطيع زوجها في المحرمات

يريد الإمام السجّاد عليه السلام أن يلفت نظرنا إلى هذه المسألة ويقول لنا: انتبهوا جيّدًا، واعلموا بأنّه عليكم في هذه الدنيا أن تعملوا لأنفسكم ولا تعملوا لأيّ أحد؛ لا لأجل نسائكم، ولا أطفالكم، ولا جيرانكم، ولا أرحامكم، ولا أزواجكم: الزوجة بالنسبة للزوج، والزوج بالنسبة للزوجة، وإلاّ لو كنت تعمل لأجل هؤلاء، فسيأتي يوم وترى بأنّه هو من يقف في وجهك.. فيا له من خسران! ولهذا، لا يجب على الزوجة طاعة زوجها في معصية الله، بل يحرم عليها ذلك؛ فحينما يأمرها بالمعصية، لا ينبغي عليها أن تُطيعه، حيث إنّ بعض النسوة يقلن لي: يا سيّد! إذا لم أقم بالعمل الفلاني، فإنّ زوجي سينزعج.. فلينزعج! فكيف لا يكون هناك أيّ إشكال فيما إذا احترق الطعام مثلاً، بينما هنا...!! ففي نهاية الأمر، ستتصالحين معه، وتنحلّ المسألة، وتطبخين له بيضًا مقليًّا! وأمّا هنا، فتبدئين بالتذرّع بأنّ زوجك سينزعج! فلينزعج إذن! فهذا نظير خصامكما بسبب احتراق الطعام، وليست مسألة في غاية الأهمّية!
إنّ الواجب عليكِ هو أن ترين ما هو تكليفكِ! أجل، قد يكون تكليفكِ يقتضي طاعة زوجِك في مسألة غير محرّمة، لكنّها مكروهة، فهنا قد يُقال بأنّ طاعة الزوج مقدّمة وأولى، بينما إذا أمر الزوج بفعل الحرام كأن يقول: عليكِ أن تخرجي أمام ضيوفي من دون حجاب، فهل يجب عليها القيام بذلك؟! من الخطأ أن تفعل ذلك، وسيكون زوجها قد ارتكب خطأً عندما يأمرها بهذا الفعل، وتكون هي أيضًا مخطئةً عندما تطيعه في ذلك! فماذا يعني الظهور من دون حجاب؟! وماذا يعني زوجي سينزعج؟! فليذهب إلى الجحيم! لا معنى لهذا الكلام بتاتًا!
إنّ سرّ نجاح الأولياء في قطعهم لتلك المراحل والمنازل وبلوغهم لهدفهم المنشود يرجع إلى هذه المسألة، وأنّهم كانوا يهتمّون بأنفسهم فقط؛ لأنّهم اكتشفوا بأنّه لن يبقى معه إلا نفسه ولا أحد سواه.

    

عدم التفات الإنسان إلى إخلاص عمله لله يجعله هباء في الآخرة

في يوم من الأيّام، ذكر أحد الأقرباء بأنّ المرحوم العلاّمة ناداه وقال له: يا فلان، لقد رأيت البارحة منامًا، وهو أن إحدى أخواتي المتوفَّيات في المنام.. وكان هناك بعض الأمور قد حصلت بينهما بغضّ النظر عما هي.. وعلى كل حال ـ أقول [سماحة السيد محمد محسن:] الذي أريد أن أبيّنه هنا هو أنّ الحساب هناك دقيق جدًا جدًا ـ [يكمل المرحوم العلامة] رأيتُ بأنّي واقف في إحدى الصحاري الحارقة حتى أنّ البخار يتصاعد من أرضها، وليس لهذه الصحراء القفر نهاية بحدود البصر، لقد كانت تلك الصحراء خالية من العمران والنبات تماماً، وأثناء وقوفي هناك ـ وكانت شدّة الحرارة قد شقّت عليّ ـ إذا بسواد يتحرّك باتجاهي من بعيد، فظلّ يقترب منّي حتى رأيت أنّها تلك المتوفّاة، وكان لباسها قذر وممزّق، وشعرها أشعث، وظهرها منحنٍ وبيدها عكّاز، وكان وضعها غير مريح أصلًا ومثيرًا للاشمئزاز، لقد كان حالها غير مناسب أصلاً، فتأسّفت لحالها وتحسّرت عليها. وعندما وصلتْ إليّ رفعت رأسها نحوي وقالت ـ من دون أن تتكلّم ولكن حالها كان هو ذلك ـ : هل ترى حالتي؟! هل ترى حالتي؟! فقلت لها: نعم أرى حالتك، كم قلت لكِ في الدنيا أن لا تفعلي هذا العمل، ولا تقومي بالعمل الفلاني، ونهيتك عن العمل.. بغضّ النظر عما كانت تفعله.. ولكنّك لم تستجيبي لكلامي، وليس بيدي أن أفعل لكِ شيئًا الآن! ثم التفتتْ إليّ وقالت: أليس عندك شيء تعطيني إياه الآن؟ فبحثتُ في جيوبي لكنّي لم أجد فيها شيئًا، إلا حبّة حمص ـ وهذا له معانٍ لطيفة معانٍ لطيفة جدًا ـ فأخرجتها وأعطيتها إياها فنظرتْ إلى يدها وقالت [متحسرةً]: أهذا الذي استطعت أن تعطيني إياه؟! فقلتُ لها: لقد رأيتِ بنفسك لا يوجد شيء في جيبي، وليس عندي شيء حتى أعطيكي إياه، فأخذت حبة الحمص هذه ورجعت منحنية الظهر، ماسكة بعكازتها، على نفس حالتها.
ما الذي كانت تفعله في هذه الدنيا؟! [مع أنها كانت] تقيم المجالس وتدعو على ختمة الأنعام وسفرة كذا، ومجلس كذا وتبيّن الأحكام والمسائل الشرعيّة، وتقوم بالتدريس، [ولكن مع هذا كله] فقد ذهبت أعمالها هباء، [ينبغي السؤال] كيف كان باطن أعمالها؟! هل كانت لله أم كانت لالتذاذ النفس؟ لأيّ شيء كانت؟ إنّ هذه المسألة عجيبة جدًا، وهي أن يقضي الشخص عمرًا كاملًا في الذهاب والمجيء والعمل والنصيحة وقراءة العزاء، وجمع الناس، والذهاب إلى هنا وهناك للتبليغ، ثم يكون حاله في الآخرة بهذه الكيفيّة.

    

من سنن الدنيا وجود المزعجات والمضايقات

لقد كان أولئك [العظماء] ينظرون إلى أنفسهم فقط. واطمئِنّوا بأنّه من غير الممكن في هذه الدنيا أن يقوم الشخص بما يريده وبما يمليه عليه فكره، ثم لا يكون هناك أحد يزعجه ويضايقه؛ فالكل عندهم من يزعجهم، إما صديقه وإما عائلته وأسرته، وإما زوجته وأولاده. فبكل صراحة ووضوح ومن دون أن أخفي ذلك عليكم، في نهاية المطاف لا بد أن يكون هناك من يزعجك، يقول لك: لِمَ تذهب إلى اليسار؟ لمَ تذهب إلى اليمين؟ لمَ تذهب إلى هناك؟ ما هو عملك؟ ويتدخّل في برنامجك، فلا تتصوّروا أن يأتيكم يوم تقعدون فيه هادئين فارغي البال من جميع الموانع ومن جميع المزعجين.
في أحد الأيام كنّا راجعين من المسجد في زمان الشاه، فجاء أحد الرفقاء في ذلك الوقت إلى المرحوم العلّامة، وصار يقول له: إن أعمالنا وأشغالنا تمنعنا من القيام بعباداتنا وأذكارنا وأورادنا كما ينبغي، فماذا علينا أن نفعل؟ فالتفت إليه العلامة وقال: كيف لا تمنعك أشغالك عن الذهاب إلى دكّانك صباحًا، ولا تمنعك من فتح متجرك في الصباح الباكر؟ ولكن عندما يحين وقت الذكر والورد تتعلّل بالانشغالات وعدم الوقت وما شابه ذلك!! للأسف لا يوجد عمل مظلوم أكثر من هذه الأعمال، فدائمًا تكون أعمالنا الأخرى على حساب الذكر والورد، وعلى حساب أمورنا الشخصيّة التي علينا أن نهتمّ بها، ثم قال له: خذها قصيرة من طويلة، إن كنت ستقعد وتنتظر ذلك اليوم الذي لا يكون لديك شغل حتى تهتمّ بأعمالك، فلا بد لك أن تقوم بأعمالك في القبر حينئذٍ، فالدنيا ليست مكانًا للراحة وعدم الازعاج وعدم وجود المانع، فأولئك الذين وصلوا إنّما وصلوا بهذه الأمور، بل كانت حياتهم أصعب من حياتك بكثير، فموانعك ليست بشيء. أما أولئك الذين مضوا، إنما مضوا مع وجود مثل هذه الأمور من المرض، والشدّة، والاحتياج، والضّيق، والموانع الدنيويّة، مضوا على هذا النحو. انتهى كلام العلامّة.

    

لماذا صاح الإمام علي عليه السلام حين ضربه ابن ملجم فزت ورب الكعبة

عندما ضُرب أمير المؤمنين عليه السلام، قال: فزتُ! يعني: قضيت ما عليّ وانتهيت منه، فما كان ينبغي عليّ أن أصل إليه، وصلتُ إليه بضربة ابن ملجم، فلا يوجد شيء بعد الضربة، ليس بعدها إلا الشهادة والوفاة، ولكن قبل الضربة لم تكن المسألة واضحة بعدُ، هل سأصل إلى هناك أم لا؟ يعني هل سأصل إلى تلك النقطة؟ فحتى أمير المؤمنين عليه السلام له حسابه، فهو في كل يوم له عالم خاصّ به، وما يدرينا نحن عن عوالمه، ففي اليوم اللاحق ينكشف له عالم مختلف عن العالم الذي في اليوم الذي قبله، وبينهما فرق شاسع وتفاوت كبير، فتلك المرتبة والمكانة التي كان يعلم بها لن يصل إليها إلا عند الشهادة، وما دام لم يستشهد بعدُ فملفّه لم ينتهِ بعد، وبالتالي من المكن أن لا يصل إليها. فمتى يطمئن؟ عندما تُغلق جميع الطرق الأخرى التي تؤدّي إلى تراجعه، ولا يبقى أمامه إلا طريق واحد وهو طريق التقدّم؛ وذلك عندما يُضرب تلك الضربة، وعندما ضرب على رأسه علم بأنّ ملفّه انتهى وأغلق. لابد لأمير المؤمنين أن يتخطّى هذا الطريق، كان عليه أن يتخطّى حرب صفين وحرب الجمل وحرب النهروان، ويتخطّى تلك الابتلاءات التي حدثت له بعد زمان النبي، وما أدراك ما تلك الابتلاءات! ويتخطّى تلك الابتلاءات التي حصلت له في زمن النبي.
لقد دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم دار أمير المؤمنين عليه السلام بعد حرب أحد، فنظر إلى جراحات أمير المؤمنين عليه السلام وبدأ رسول الله بالبكاء، فصار أمير المؤمنين عليه السلام يضحك، ويقول: إنّ ذلك قليل في ذات الله! لماذا تبكي يا رسول الله فهذه قليلة، ومن شدّة جراحاته سقط على فراشه، وقال: إن ذلك لقليل في ذات الله. تخطّى جميع تلك الأمور حتى وصل إلى هذه النقطة؛ وهي نقطة اللانهاية، أي أنّه وصل إلى حدّ لا نهاية له. وكان ينبغي أن يحصل له هذا عند هذه النقطة.
لقد كان العظماء كلّهم كذلك حيث إنّهم كانوا يعطون هذا الدستور... آخر نصيحة نصحني بها المرحوم العلّامة وآخر جملة قالها لي هي: ما علمتَه وفهمتَه اعمل به، ولا تلتفت إلى أحد، فما تشخّصه اعمل على أساسه وعلى طبقه، ولا تلفت إلى ما يمدحك لأجله الناس أو يذمّونك عليه. بل انظر وركّز على ما فهمته أنت، وما أدركته أنت، ركز على ما فهمته. وقد كان هو كذلك أيضًا، حيث كنّا نرى سيرته وطريقته وتعامله؛ فقد كان بهذا النحو. طبعًا هذا لا يعني أنّ الإنسان معصوم وكلّ ما يفهمه صحيح، [لا] فالإنسان إنسان، ويخطئ بعض الأحيان ولا إشكال في الخطأ، ولكن المهمّ هو أن يلتفت إلى النيّة كيف تكون، أن ينظر إلى الهدف والغاية ما الذي ترمي وتهدف إليه، وأين يجب أن تكون الغاية.
وأمّا إذا ابتعدنا عن هذه المسألة؛ يعني ضممنا إلى هذه الأمور أمورًا أخرى، فلن نحصل على النتيجة المطلوبة كما ينبغي، ولن تتحقق لنا.

    

علم الله تعالى بالأشياء علم حضوري لا كعلمنا الحصولي

يقول الإمام السجاد عليه السلام: ليس سبب وعلّة صدور الخطأ مني هو عدم إشرافك وهيمنتك عليّ، لا لأنك أهون الناظرين إلي؛ يعني: لا لأنّ إشرافك إشرافٌ غير تام، ولا لأنّ إشرافك ليس كما ينبغي؛ لأن ذات الله تعالى لديها إشراف علّيٌّ [من باب العلّة] علينا، لا إشراف خارجيّ؛ فالله لا يحتاج لأن يلتفت ويتوجّه إلى أعمالنا كي يطّلع عليها، وإذا لم يلتفت إليها ويتوجّه نحوها لا يطّلع عليها، لا ليس الأمر كذلك؛ بل معرفة الله بأعمالنا معرفة حضوريّة، لا معرفة حصوليّة اكتسابية. أما معرفتنا نحن بالأمور فمعرفة حصوليّة؛ يعني: لا بدّ لنا حتى نطّلع على ذلك المعلوم ـ المسمّى بالمعلوم بالعرض ـ أن يكون أمامنا وفي مقابلنا حتى نستطيع أن نعلم به؛ فما لم أفتح عيني لا يمكنني أن أعلم بأنّ الرفقاء حاضرون هنا، فحتّى أدرك هذه المسألة أحتاج لأن أفتح عيني، وعندها ألتفت. هذا يسمّى علمٌ وإدراكٌ حصولي اكتسابي، ولا بدّ أن يكون ذلك المعلوم بالعرض أمام العالِم وعلى تماسّ معه. أمّا بالنسبة للعلم بنفسي أو حالي أو صحّتي أو مرضي أو جوعي أو شبعي أو عطشي، فهل أنا بحاجة لكي أعلم بحالتي ووضعي أن أفتح عيني وأرى؟! لا لست بحاجة، فسواء كنت فاتحًا لعيني أو مغلقًا لها فأنا أعرف بأني جائع أم شبعان، حيث إنّ هذا لا دخل له بالعين والأذن وهذه الأمور، بل يحتاج الأمر إلى مجرّد توجّه، فنفس ذلك التوجه للنفس يسمّى بالعلم الحضوري؛ يعني يكون فيه نفس المعلوم حاضراً في ذات العالم وليس بحاجة لأن يسترجعه، فهو نفسه موجود. إذًا علم الله بنا ليس علمًا اكتسابيًا، بحيث إذا أراد أن يعرف ما الذي يفعله زيد بن أرقم مثلًا فلا بد أن ينظر إلى هذه الدنيا، أو أن ينظر لتلك الزاوية من العالم في القرية أو المدينة الفلانية لكي يعرف ما الذي يقوم به الناس هناك! كلا ليس الأمر كذلك. بل جميع المخلوقات لها وجودٌ علميّ في ذات الله سبحانه، وهو نفسه وجودها الخارجي العينيىّ، يعني نفس ذلك الوجود الخارجي الذي هو الوجود العينيّ مساوٍ للوجود العلمي في ذات الباري سبحانه وتعالى؛ إذاً علم الله فينا هو نفس وجودنا في ذات الله عز وجل، وفي هذه الحالة هل من الممكن تصوّر أن يقال بأنّ هذا العالِم هو أهون الناظرين؟! يعني إشرافه إشراف متدنٍّ؟!! إنّ علمه علم حضوري لا علم حصولي حتى يكون له مراتب، أو يقال في حقّه: من المحتمل أنّه لا يرى بشكل جيّد!! حيث إنّ الإنسان في علمه الحصولي والاكتسابي يكون له مراتب من الشدّة والضعف وأمثال ذلك، فمِن الممكن أنّه يرى الشيء بشكل صحيح، وقد لا يراه كذلك. وإذا كانت المسألة بهذا الشكل، فكيف يمكننا أن لا نفكّر في الله على هذا النحو.
هناك مسائل أخرى تتعلّق بمراتب العلم نبحثها في مجلس آخر إن شاء الله وإن وفَّق لذلك، لأننا لا نريد أن نزعج الرفقاء بعدُ أكثر من هذا.
اللهمّ صلّي على محمّد وآل محمّد


[1] ـ المثنوي المعنوي، الكتاب الأوّل.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی