معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري > شرح حديث عنوان البصري - من المجلس رقم 201 إلى الأخير > شرح حديث عنوان البصري ـ الجلسة 234: الأساس الإلهي للعلاقات مع الآخرين

____________________________________________________

هو العليم

شرح حديث عنوان البصري الجلسة 234:
الأساس الإلهي للعلاقات مع الآخرين

 

ألقيت في 9 شعبان العام 1438 هجري قمري

ألقاها:

سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني (حفظه اللـه)

____________________________________________________

تحميل ملف البي دي أف تحميل ملف البي دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد
اللهم صل على محمد وآل محمد
وعلى أهل بيته الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين

    

هدف الحوار رفع الإبهام لا الجدال

 

 

لقد تحدّثنا عن كلام الإمام الصادق عليه السلام بشأن كظم الغيظ وعدم الردّ على المسائل المخالفة والتافهة، وذكرنا بأنّ المسائل التي بيّنها الإمام عليه السلام في هذه الفقرات المرتبطة بالحلم والتسامح في علاقة الإنسان مع غيره، إنّما هي قائمة على أساس الأنانيات وإبراز النفس وإظهار الأنا؛ وعندما يكون المطلب بهذا الشكل، فلا مبرّر للإنسان أن يجيب على ما يُطرح عليه؛ لأنّ الجواب ينبغي أن يكون لرفع الإبهام والغموض فقط، أمّا عندما لا يكون الشخص والمخاطب في مقام رفع الإبهام، بل في مقام إثبات صحّة قوله بأيّ نحو وأيّة كيفيّة كانت، بحيث عندما تسدّ أمامه جميع السبل، يقول لك بأنّك تكذب! فهذه نتيجة ونهاية هذا النوع من السؤال والجواب الذي يقال في هذه الحالة. فعندما تجيبه بأنّ المسألة ليست كما يعتقد، فإنّه يعترض، ثمّ تجيبه، وهكذا... وحينما تنسدّ في نهاية المطاف جميع الأبواب في وجهه، يقول لك: إنّك كاذب! وتنتهي المسألة بهذا النحو.

لماذا يأتي الإنسان ويتحدّث أساسًا مع هكذا إنسان؟ ولماذا يتباحث معه؟ الإمام عليه السلام يعلّمنا هذه المسألة: وهي أنّ الإنسان دائمًا ينبغي أن يتحدّث فقط في حالة رفع الإبهام والسؤال، فإذا تجاوز البحث هذه المرتبة، فلا تتلف وقتك، ولا تهدر عمرك؛ فمن هذا الذي تحدّثه؟ فهذا ليس إنسانًا أساسًا؛ باعتبار أنّ الإنسان له خصوصيات ومزايا وصفات خاصّة، والحال أنّ هذا شخص [يشبه الإنسان بأنّه] يمشي على رجلين فقط، وأفعاله وتصرّفاته شبيهة بالإنسان لا أكثر.

الإمام يقول: إذا قال هذا الشخص لك شيئًا فلا تجبه أصلاً؛ فإن شتمك، فقل له: إن كان الحقّ معي فأرجو الله أن يسامحك، وإن كان الحقّ معك فأرجو أن يسامحني الله.

لذا، على الإنسان أن لا يشغل نفسه بهذا الكلام والنقل، ويتلف أعصابه ويكدّر نفسه، فهل المسألة تستحقّ ذلك؟ يعني: هل تستحقّ المسألة أن يتلف أعصابه التي ينبغي أن تكون هادئة، ويشوّش فكره الذي ينبغي أن يكون مرتاحًا وحرًّا، ويكدّر نفسه التي ينبغي أن تكون ساكنة ومطمئنّة؟ فالنفس المطمئنّة تقوده إلى الله؛ لأنّ الله والعالم الربوبي عالم ساكن، وهو عالم الهدوء والسكون.

 

    

عالم الملائكة عالم السكون والهدوء

 

 

هناك رواية عن النبيّ صلى الله عليه وآله كان المرحوم العلامة يكرّر نقلها للإخوة في كلامه، ويقول النبيّ فيها إنّ عالم الملائكة عالم السكون والطمأنينة الدائمة؛ فالملائكة في حالة سكون دائم، وليس لديهم نزاع وصراع، ولا ضرب وشتم، ولا يوجد لديهم أنّ هذا يضرب ذاك، وذاك يؤذي هذا.. جميعهم في حالة من السكون والهدوء، وهذا الأمر عجيب؛ يعني أنّ الإنسان يمكنه أن يشعر بذلك في نفسه شيئًا فشيئًا، فيجلس وحده ويقيّم نفسه على هذا الأساس، ويرى إلى أي حدّ هو قريب من هذه الحالة، وهل يجد في نفسه حالة تلاطم: يريد أن يعرف ماذا يحدث هناك وماذا يجري هنا، ماذا قال ذاك وماذا قال هذا، وماذا كتب فلان في الجريدة وماذا قال هذا في الراديو وماذا فعل ذلك في التلفزيون... شبيه ما نراه يجري حولنا في العالم. أو أن يجلس هكذا ويفكّر في تعاسته وتخلّفه، ويرى ماذا تفعل نفسه وإلى أيّ طرف تميل؟ هل تريد أن تفتح الراديو وتسمع ماذا يجري، أم أنّها تريد أن تنأى بنفسها عن هذه الأمور. فلنقيّم أنفسنا ونجرّب ذلك؛ لنرى في أيّ حال نحن. فإذا رأينا أنّا نريد أن نشغّل الراديو لنعرف ماذا قال فلان وماذا أجابه فلان، فلنعرف بأنّنا بعيدون عن عالم الملائكة، وأنّنا منغمسون في عالم آخر؛ لأنّ الملائكة هادؤون، وعندما يطرق سمعهم خبر يهزّون رأسهم بهدوء ويقولون: نعم نعم نعم! المسألة كذلك، فلا تراهم ينتفضون، ولا ينفعلون، ولا يتناولون الهاتف ويرسلون رسالة إلى هذا وذاك، ويقول لذاك، ويخبر هذا بأنّ فلانًا قد تكلّم بأمر!

[أمّا الأولياء] عندما يسمعون شيئًا أو يرون رسالة في هاتفهم يضحكون ويحذفونها مباشرة، ولا يفكّرون بها أصلاً. فإن كنّا نحن كذلك، فلنعلم بأنّنا قريبون من عالم الملائكة، وأما إذا كنّا بشكل آخر؛ بأن نقول: «الآن سوف نريهم من هم.. هكذا يتكلّم عنّي؟! هذا أمر أعرفه منه، فهذا هو أسلوب كلامه، وسوف يرى ما سأفعل به، بحيث لن يستطيع أن يرفع رأسه غدًا لما سيراه منّي..» إذا رأيت أنّ حالتك هي هكذا، فاذهب وانظر إلى نفسك وفكّر بها، فحالك سيّء للغاية، لماذا؟ لأنّ الملائكة ليسوا كذلك! بل هم ـ كما يقول المرحوم العلاّمة ـ في حالة من السكون والهدوء، حتى أنّ حركتهم بدون صوت، لا أنّ تحرّكهم مثير للضجيج وإثارة الانتباه والغبار، بل الحركة التي يقومون بها بدون ضجّة وبدون إحداث صوت، تتنزّل على قلوبهم الأوامر الإلهيّة بصورة إلهامات، فيشتغلون بـ ﴿والمدبّرات أمرًا﴾ بحالة من الهدوء؛ لأنّه في العالم الربوبي لا وجود للصراع والنزاع، بل يفاض عليهم الفيض من ناحية الله تعالى، ويطبّقونه في عالم الشهود؛ وعليه، فلماذا يتنازعون؟ ومع من يختلفون؟ هم يأخذون الأوامر الإلهيّة ويجرونها في هذا العالم، وتنتهي المسألة! لا أنّهم يأتون ويفترون على هذا، ويتنازعون مع ذاك، فتكون نفوسهم مثل أنفسنا مليئة بالاضطراب، بحيث عندما يريد النوم في المساء يبدأ بالتخطيط؛ بأنّه عندما أستيقظ غدًا صباحًا ماذا أفعل، وماذا عليّ أن أقوم به: ينبغي أن أسحق ذاك، وأشهّر بهذا، وأن أحضر بعض الأشخاص ليروا ماذا كُتب في الصحف، وماذا دُوّن في الكتب وماذا قالوا في الخطابات، وإذا لم يكن هذا الرجل قد قال شيئًا، فنحن نستخرج من كلامه شيئًا ونضيف عليه من أنفسنا.. كلّ ذلك على أساس التكليف الشرعي.. هنا، عليك أن تخرّج لنا هذا التكليف الشرعي!

 

    

اتّخاذ البعض التكليف الشرعي مطيّةً لارتكاب المخالفات

 

 

لقد قتلوا الإمام الحسين على أساس التكليف الشرعي! ألم يحصل ذلك؟! ألم يفتوا بذلك؟! قالوا إنّ التكليف الشرعي يقتضي أن تأتوا وتقاتلوا من خرج على الخليفة بالحقّ.. عجبًا من هذا الحقّ! فيزيد اللاعب بالقرود والكلاب والشارب للخمر والفاعل للفواحش.. أضف ما شئت من اقترافه للمنكرات.. نعم، لقد ثار ضدّ الخليفة، وهذا هو التكليف الشرعي؛ والحال أنّهم كانوا يلبسون عمامة أيضًا، وكانوا بهذه العمامة يقولون: «إنّه تكليف شرعي!» فهبّ الناس للقتال، فهذا يفتي، وذاك من جهة يعطي الذهب والفضّة، ومن جهة أخرى يقوم بالتهديد، فتنتهي المسألة؛ فبالذهب والتهديد والتزوير والتكليف الشرعي يقف الناس مقابل ابن النبيّ. لكن، إذا سلّمنا بذلك، فهل إنّ ذبح عليّ الأصغر [الرضيع] من الوريد تكليف شرعي؟! انظروا.. فالتكليف الشرعي عبارة عن وسيلة وآلة يمكن للجميع أن يستخدمها.

كذلك ينبغي أن نرى كيف كان التكليف الشرعي في زمن الحركة الدستوريّة[1]، فكان هذا يقوم على أساس التكليف الشرعي، وذاك في المقابل يقوم على أساس التكليف الشرعي.. فكلّ منهما كان لديه تكليف شرعي! ولا أعتقد وجود أمر يفوق هذا التكليف الشرعي مظلوميّةً في هذه العالم! فكل ّمنهما يتمسّك بالتكليف الشرعي، وترى كثيرًا من الناس المساكين يتبعون هذا التكليف الشرعي، وجمع آخر منهم يتبعون ذاك التكليف الشرعي! ولم يجلس أحد منهم ويفكّر من أين أتى هذا التكليف الشرعي؟ وما هو مصدره؟ فإن كنت تقول: «هذا هو التكليف شرعي» فهو يقول ذلك أيضًا! وإن كان لديك دليل على إثبات التكليف الشرعي، فذاك دليله أقوى! وإن كنت تبرز التكليف الشرعي بهذا الشكل وتلبسه هذا اللباس، فذاك يقوم بهذا العمل بشكل أفضل منك، ويقتفي نفس النهج أيضًا!

لقد هبّوا على أساس التكليف الشرعي لقتال أمير المؤمنين، وبالتكليف الشرعي هجموا على منزل عليّ عليه السلام وقتلوا ابنة النبيّ.. ألم يكن ذلك تكليفًا شرعيًا؟! فالخليفة هنا، وجميع الناس أتوا وبايعوه واعترفوا به وأقرّوا له، فلماذا لا تأتي أنت وتبايع؟ فأنت عندما لا تبايع، تُوجد الشبهة بين المسلمين؟ ومن أنتم؟ أنتم بضعة أشخاص جالسين في المنزل، وفي المقابل هناك سيل من المسلمين والمجاهدين والملازمين لرسول الله صلى الله عليه وآله؛ فمن تكونوا أنتم حتى تخالفوا وتقفوا مقابل ذلك؟!

لقد كان هذا الأمر موضع تساؤل لديّ، فلم أستطع أن أهضم المسألة كما ينبغي.. نعم، كان بإمكاني الإجابة عليها، وكنت أبيّن ذلك في زمن المرحوم العلامة وأوضّحه، لكن لم تأخذ المسألة مكانتها في النفس كما ينبغي فعلاً.. هل التفتم؟! فإذا افترضنا أنّك صرت خليفة واتّبعك الناس، ووضعوك في محراب النبيّ، وطلبوا منك أن تصلّي بهم.. حسنًا، فما شأنك بالآخرين الذين لا يقبلون بك؟ فهم لم يشهروا السيف في وجهك ويقاتلوك، بل جلسوا جانبًا وقالوا: لا نقبل بك! فهل جزاء من لم يقبل بك أن تحرق باب منزله؟ ثمّ تأتي وتقول: إنّه تكليف شرعي!

يعني: لو أنّنا عرضنا هذا الشرع على اليهودي الذي نريد منه أن يسلم، فنقول له: شرعنا يقول إنّ كلّ من لم يقبل بالبيعة والخلافة، يحقّ لنا أن نحرق داره، ونقتل زوجته وولده، ونقيّده بالحبال، ونسوقه إلى المسجد، ونضع السيف فوق رقبته: ونقول له: إمّا أن تبايع أو تضرب عنقك ـ وهذا الذي أذكره ليس من عندي بل هو مذكور في الكتب ـ؛ فإذا فرضنا أنّنا ذكرنا ذلك لليهودي، فهل سيسلم حقيقةً؟ سيقول: انظر كيف يفكّر هؤلاء، وكيف كنّا نفكّر نحن [عنهم]؟!

وإذا عرضنا هذا الشرع على نصراني، وسألَنا النصراني ما هو دينكم؟ [فنحن النصارى] هذا ديننا وهذه مبانينا وهذه قوانيننا وهذه أحكامنا، وهي أمور ذكرها لنا عيسى.. فنقول له: لا بدّ أن تقبل بشرعنا نحن، وهو أن تذهب إلى مالك بن نويرة الذي امتنع عن دفع الزكاة، وتمكر به وتحتال عليه وتجعله إمام الجماعة في الصلاة وتنتظره حتى يسجد ليأتي خالد بن الوليد ويُضرَب عنقه حالة سجوده، ثم يُزنَي بامرأته في تلك الليلة. وعندما يأتي إلى المدينة، يستقبله عظماء القوم ويقولون: لقد قام بتكليفه الشرعي، فلا ينبغي أن يتعرّض له أحد أبدًا! [فقد قيل فيه] «ما كنتُ لأشيمَ سيفًا سلّه اللهُ عليهم أبدًا..» يا للعجب! وعندما يأتي الآخر [عمر] ويقول: ينبغي أن يعدم هذا الرجل كحدّ أقلّ.. حسنًا، لا علاقة لنا بقتله لمالك؛ إذ بناء على ما قلتم من أنّه امتنع عن أداء الزكاة وارتدّ عن الدين، والمرتد يقتل، فلن نتكلّم بهذا الأمر.. لكن ماذا بالنسبة إلى فعله الآخر؟ قال: لا، بل قام بتكليفه الشرعي، وعلينا أن نضحّي عنه بخروفين أيضًا!!

فإذا أتيت، وعرضت هذا الدين على النصراني، وقلت له: هذا هو ديننا؛ من لم يدفع الزكاة، نحكم بردّته ونقتله ونزني بزوجته، فهل يسلم عندئذ؟ كلاّ! بل لو كان مسلمًا، سيعود إلى نصرانيّته! اللهمّ إلاّ أن يكون [قد عرض عليه الإسلام] من خلال النبيّ، وشاهد النبيّ نفسه، وشاهد أمير المؤمنين، وهكذا كان يحصل فعلاً! حيث كان اليهود يأتون إلى المدينة، ويسألون، فلا يجدون جوابًا، فيعترضون.. فيقال لهم: اضربوهم، فإنّهم ينطقون كفرًا! يا عزيزي! إنّهم يسألون، فلماذا تكفّرونهم وتضربونهم وتطردونهم؟ فكانوا يخبرون أمير المؤمنين بالأمر، ويقولون له: يا عليّ، هلمّ وأدرك الإسلام! فهؤلاء أتوا، وسألوا سؤالين، ولم يجدوا جوابًا، فاتّهموهم وضربوهم! فكان الإمام يجيبهم ويرؤف بهم.. وعندما كانوا يسمعون جوابه، كانوا يشهدون في ذلك الموقف بالشهادتين ويسلمون! لماذا؟ لأنّهم شاهدوا أمير المؤمنين، لا أنّهم رأوني ورأوا أمثالي، بل رأوا أمير المؤمنين وانتهى الأمر! هذا هو الحقّ. وكانوا يسلمون نتيجة ذلك؛ لأنّهم إنّما أتوا للتحقيق، لا أنّهم أتوا ليعرضوا أنفسهم وقدراتهم! أتوا ليروا ماذا هناك، أتوا ليروا الحقّ، وليعرفوا طريقهم الذي ينبغي أن يسلكونه! أتوا ليروا ماذا هناك!

 

    

دين الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم دين الفهم

 

 

يقول المرحوم العلاّمة: عندما ذهبنا إلى النجف، كان هدفنا أن نزيد من فهمنا، ونعرف ماذا هناك، ونعرف من نحن، وماذا يجب علينا أن نفعل.. ذهبنا لأجل ذلك، لكنّنا رأينا أنّ البعض أتى، وطلب منّا أن ندع فهمنا جانبًا..

ـ «ماذا يعني أن أدع فهمي جانبًا؟»

ـ «يا سيّدي، من المصلحة أن تدع فهمك جانبًا!» وأنا لا أقول ذلك من نفسي، [كانوا يقولون له] المصلحة في ذلك.

ـ «ما هي هذه المصلحة التي تكون أعلى وأفضل من فهمي؟! وأيّ صلاح هذا؟»

ـ «الصلاح هو أن لا تفهم هذا الأمر، الصلاح هو أن لا تتفوّه بكلمة هنا، والصلاح هو أن لا تحقّق بشيء هنا، الصلاح في أن تبقى هذه المسألة مستورةً!»

ما هو هذا الصلاح؟!! نعم، الصلاح هو من جملة الكلمات المظلومة التي وقع فيها الكثير من الإجحاف، نعم، أحدها التكليف الشرعي والآخر هو الصلاح، وهناك بعض الأمور أيضًا التي وقع عليها الظلم..

أيّ صلاح أفضل من المعرفة للإنسان؟! وأيّ صلاح أفضل من الفهم؟! [يقولون] الصلاح في عدم التكلّم أساسًا! هل  التفتم؟!

العظماء إنّما جعلوا فهمهم هو المعيار في الصلاح والمصلحة، لا أنّهم يحمّلون المصلحة على فهمهم! ومضوا على ذلك ووصلوا إلى مقصودهم، وصلوا من هذا الطريق.

لأنّهم كانوا شحيحين بأعمارهم، ويحملون همًّا، ولا يريدون أن يذهب عمرهم هدرًا، وأن يقضوا أوقاتهم بالقول اليوم وغدًا! ولا يريدون أن يعيشوا بأيّ نحو وبأيّة كيفية وبأيّ شكل كان؛ بأن ينتقلوا من هذا الأسبوع إلى الأسبوع القادم وهكذا! لا! بل كانوا يفكّرون بما يفعلونه في كلّ ثانية وكلّ ساعة، وكانوا يتأمّلون في كلّ حادثة تحصل لهم؛ ما سبب هذه الحادثة؟ لماذا ينبغي أن يحصل هذا الأمر؟ ولماذا قيل ذلك؟ ولماذا جرى هذا الأمر؟

واليوم، جميع العالم يسير نحو الفهم، وهذا أمر واضح! إذ يجري السؤال عن كلّ شيء؛ لماذا حصل هذا؟ ولماذا حصل ذلك؟ فلم تعد التبريرات تقنعهم.. طبعًا، لا يمكننا القول إنّ الناس قد وصلوا، فلا يزال الطريق طويلاً، لكنّهم يمشون في هذا الاتّجاه، وهذه هي الفطرة! فهم يرجعون إلى فطرتهم مجدّدًا، ويعودون لما منّ الله عليهم ولما فيه سعادتهم وصلاحهم، مع غضّ النظر عن الدين الذي يدينون به، والقوميّة التي ينتمون إليها؛ وهذا الأمر عجيب ومهمّ جدًّا؛ وهو يكشف الكثير من الأمور للإنسان.

فدين رسول الله ودين أولياء الله دين فهم ومعرفة، وهو دين يدعونا إلى الفهم، وترجيح الفهم على كلّ شيء؛ يدعونا لترجيحه على مصالحنا ومنافعنا وعلاقاتنا؛ لأنّ جميع هذه الأمور دنيويّة مؤقّتة، وما هو واقعي هو نفسك، أمّا علاقاتك، فيأتي يوم وتنتهي، ومنافعك ستنتهي، ومن هو رفيقك إلى الآن سوف يتركك غدًا لأجل أمور بسيطة لا قيمة لها، وينهي علاقته بك، وكأنّ شيئًا لم يكن في هذه السنوات الطويلة.

 

    

بناء الإنسان لعلاقته بالآخرين على أساس إلهي

 

 

كان المرحوم الشيخ الأنصاري يقرأ هذا الشعر كثيرًا، كما ينقل المرحوم العلاّمة عنه ذلك:

فصل گلم، تمام به آه وفغان گذشت
(لقد مضى فصل الورود عندي بالتأوّه والآلام)

فصل الورود الذي ينبغي أن يكون فيه الإنسان مرحًا وفرحًا مضى عليّ بالتأوّه والألم

چون بگذرد خزان، كه بهارم چنان گذشت
(فكيف سيمضي الخريف الذي يكون ربيعه كذلك؟)‏

إذا كان ربيعه كذلك، فما بالك بخريفه؟!

 

بدنامى حيات دو روزى نبود بيش آن                             هم كليم با تو بگويم چه سان گذشت
يك روز صرف دادن دل شد به اين وآن                             روز دگر به كندن دل ز اين وآن گذشت‏
(فالحياة ليست سوى يومين لا أكثر، سأخبرك يا كليم [كليم الشيرازي] كيف ينقضي هذان اليومان:
يوم ينقضي بتعليق القلب بهذا وذاك، ويوم آخر ينقضي بسلخ القلب عن هذا وذاك)

وهذا ما نراه الآن في الدنيا! فترى شخصًا يذهب نحو هذا وذاك يومًا، ويمشي خلفه حيثما ذهب؛ إلى هنا وإلى هناك؛ ولكنّه غدًا يذهب ويتركنا.. فما الذي حصل يا عزيزي؟! لقد كان ينبغي كحدّ أقلّ أن تودّعنا وترحل.. فحتّى الوداع لم يحصل منه! الظاهر أنّنا كنّا عبئًا كبيرًا عليه يا عزيزي، لا أقلّ ودّعنا وارحل!

ثم هناك مسألة مهمّة وهي إذا أراد شخص أن يرحل ويقطع هذه العلاقة فليرحل؛ فالعلاقة الشخصية ليست من أصول الدين، لكنّي دائمًا ما أقول: علينك أن لا ترحل سالكًا طريق الضلال، فهذا هو المهمّ! فالإنسان يأتي يومًا ويذهب يومًا، لكن عليه أن لا يذهب إلى سبيل الضلال.

فالله لا يسألنا يوم القيامة: لماذا لم ترتبط بفلان؟! لكنّه سيسألنا هل هذه الخطوة التي خطيتها كانت صحيحة أم لا؟ سيسألك هذا السؤال، ولا يمكنك الفرار منه أبدًا! نعم، يمكنك أن تقول: «لا أريد أن أرتبط بعلاقة رفاقة وصداقة مع هذا الشخص» نعم، يمكنك أن تقول ذلك، فليس ذلك بالأمر الضروري، وإن كان بعضهم قد يراه مهمًّا؛ لكن الأمر المهمّ هو أنّه على الإنسان أن يرى عندما يمشي في طريقه ماذا سيحصل؟

فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يقوم الإنسان لمدّة بصرف وقته وعمره في التعلّق بهذا وذاك، ويبذل من رأسماله في ذلك، ويبذل فكره بل وحياته، وكلامه ومجالسه وجميع أعماله في هذا السبيل، ثمّ يأتي زمان آخر يقطع فيه هذه العلاقة؟! ثم يقول: حسنًا، فلنذهب الآن، ولنرتبط بشخص آخر، ولنر هل سنحصل على شيء من علاقتنا به أم لا. فيقول عنه: لا، هذا أفضل من ذاك، ولا أظن بأني سأذهب وأتركه فهذا عنده شيء.. ثمّ يمضي عام وعامان وثلاثة، فتطرأ حادثة ما، فنرى أنّه ذهب وترك هذا أيضًا.. يا للعجب! لقد بقي ثلاث أو أربع سنوات هناك، وأربع أو خمس سنوات هنا، فهذه ثماني سنوات؛ فمتى تشتغل بنفسك، وتنتهي من هذه الأمور؟! فلا يمكن أن يبقى الإنسان كذلك؛ بأن يكون في حالة تغيير لعلاقاته وارتباطاته هكذا بشكل دائم وكل يوم يرتبط بشخصٍ ثم يقطع تعلّقه به ويتركه..

فماذا ينبغي أن يفعل إذًا؟ عليه أن يجعل علاقاته إلهيّة، فتلك لا تذهب أبدًا؛ لأنّ الله موجود دائمًا. فإذا كانت العلاقات على أساس إلهي، لما كان سيذهب إلى بعض أولئك الذين ذهب إليهم من الأول؛ لأنّه سيكون قد رتّب برنامجه على أساس آخر. فإن كنت تريد الانضمام لهذا الطرف، فاعلم بأنّ هنا توجد هذه الشروط وهذه القواعد وهذه الخصائص والقوانين، وإذا أردت شيئًا آخر، فاطلبه من مكان آخر.

فحقيقة المسألة أنّ ما شاهدناه في منهج المرحوم العلامة رضوان الله عليه هو كون العلاقات إلهيّة، ولم يكن في فكرهم شيء آخر، وكانوا سعداء في هذه العلاقات، وواقعًا كانوا سعداء! وكانوا يوصونا دائمًا بأن نفكّر أيضًا بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب؛ وهو كون الشخص الذي نختاره للرفاقة يتحرّك على أساس نفس هذه القاعدة وهذا القانون، ويكون قد أتى إلى هذا الرفيق بناء على هذه القوانين، ويبادله نفس الفكر بأن يكون قد أتى له بناء على نفس هذه النحو والمنوال. فعندما يكون الأمر كذلك، فسيكون الشخص مرتاح البال، سواء بقي هؤلاء الأشخاص أم لا؛ لأنّه لم يجعل علاقاته على أساس الفرد حتى يتأثّر عندما يذهب، بل جعل علاقته على أساس إلهي. فإن جاء شخص وبقي إلى آخر المطاف وإلى آخر نفسٍ وآخر خطوة، واستمرّ في علاقته على أساس إلهي، فهذا أمر موجب للسعادة. لكن أحيانًا، يأتي شخص، ولسبب من الأسباب، تحصل معه الأمور بنحو آخر، مهما كان هذا النحو! فلتحصل! فما الإشكال في ذلك؟ فلم يحصل شيء ذي بال! ولم يُصب الإنسان جرّاء ذلك أيّ ضرر؛ لأنّه كان يستفيد حتى هذه الآن من هذه العلافة، ولكن لو كانت العلاقة مبنيّة على أساس الفرد، لكان متضرّرًا، وكان ذلك خلاف المتوقّع، ولحصل له اضطراب وتوتّر عصبي.. كل ذلك بسبب شعوره أنّه صار خاليًا، وبما أنّه شعر بالخلأ والفراغ دفعة واحدة، يحصل له اضطراب، أمّا عندما تكون علاقته برفيقه علاقة إلهيّة، ثم يذهب، فإنّه سيقول: فليذهب، فلا إشكال، فقد استمرّت علاقتنا إلى هذا الحدّ! فالحمد لله، لقد مشينا واستفدنا إلى هذا الحدّ، وإلى هذا الحدّ سمعنا أمورًا، وجلسنا ونهضنا وعملنا على ذاك الأساس، فليس لدينا أيّ ندم على ذلك، وجميع الأمور لا تزال على ما هي عليه؛ إذ غدًا يأتي شخص آخر وبعد غد شخص.. وجميعهم يأتون على هذا الأساس [الإلهي].

في بعض أيّام العهد السابق، كنت أرى أنّ علاقة المرحوم العلامة رضوان الله عليه ـ وقد دوّن ذلك في كتبه ـ مع بعض أصدقائه كانت حميميّة بحقّ، وكان قريبًا منهم، بحيث لم يكن يشعر بإثنينيّة بينه وبينهم، وكنّا نرى ذلك من خلال تصرّفاته وأعماله، ونقيّم هذه الأمور بحسب ما يبلغه فكرنا، ونخرج من خلال ذلك ببعض النتائج. ولم يكن أحد ليصدّق بأنّه من الممكن أن يأتي يوم، وينتهي هذا الانسجام والتعلّق ووحدة الحال؛ يعني أنّ ذلك لم يكن ممكنًا بحسب الظاهر؛ لأنّ هذا النحو من التصرّف، وهذا النحو من المجالسة والقرب، وهذا النحو من الضحك والتكلّم، وهذا النحو من كشف الأسرار والرموز.. فهل يمكن أن يأتي يوم وتكون هذه العلاقة بغير هذه الحالة؟! لقد كان ذلك بحسب الظاهر غير ممكن، وغير محتمل؛ لكن مع جميع هذه الأمور، حينما كنّا نشاهد بعض أصدقائه يبتعدون عن أصل الولاية ويُطردون عنها يطردون عنها  ـ وما أذكره هنا لا يتعلّق بالموارد التي تكون من باب الإرشاد والتنبيه والتأديب، سواءً صدرت من الإنسان نفسه أو من الآخرين كأساتذته مثلاً؛ لأنّ الأمر في هذه الحالة مختلف، ويشمل الجميع من دون استثناء، حيث يكون تعامل الإنسان مع مثل هذه الحالات ليس على حدٍّ سواء، بل حديثنا يرتبط بحالات الطرد الحقيقي ـ كنّا نرى بأنّه كأن لم يكن شيئًا مذكورًا[2]، وكأنّ شيئًا لم يكن! بينما كنّا نشاهد بعضهم يجلس ويبدأ في التحسّر، ويقول: «وا ويلاه، لماذا صار الأمر بهذا النحو؟ ماذا علينا أن نفعل في هذه الحالة؟ هل بالإمكان فعل شيء؟»، وفي الوقت ذاته كنّا نرى بأنّ منهجه [أي المرحوم العلاّمة] في التعامل مع هذه المسألة مختلف تمامًا مع منهج الآخرين.. ما هو السبب في ذلك؟ حيث لم نكن نُشاهد منه أبدًا أيّ تزلزل أو ارتعاش، ولم يكن يتغيّر عن الحال الذي كان عليه.. لماذا؟ لأنّ علاقته كانت إلهيّة، وعندما تكون العلاقة إلهيّة، فإنّها تستمرّ مادام الاتّصال بالولاية مستمرًّا، وأمّا إذا قُطع الاتّصال بالولاية، فإنّ علاقته [بذلك الشخص] ستنقطع أيضًا، ولن يكون هناك أيّ مسوّغ لاستمرارها.. فلماذا سينزعج إذن؟! ولماذا سيتحسّر؟! وعلى ماذا سيندم؟!

هناك رواية[3] عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو أحد الأئمّة عليهم السلام، والظاهر أنّها عن أمير المؤمنين عليه السلام يقول فيها إنّ المؤمن يفرح عندما يلتحق فرد جديد بالجماعة؛ لأنّ هذا الفرد سيكون قد حظي بالهداية، وتبيّنت له الأمور، واتّضحت لديه الحقيقة، فمن الطبيعي أن يفرح الإنسان بذلك، فلماذا لا يفرح في هذه الحالة؟!

يقول الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم لأمير المؤمنين عليه السلام: «لإنْ يَهْدِي اللهُ على يَدَيْكَ نَسَمَةً خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ!»[4] فإن اهتدى بواسطتك فرد واحد، فإنّ ذلك بالنسبة لك وبالنسبة لتلك الفائدة التي تجنيها من هدايته خير لك من أن يمنحك الله تعالى كلّ الأرض شرقها وغربها! وخير لك من أن تصير حاكمًا على كلّ العالم! لماذا؟ لأنّ هذه الفائدة لا تتجاوز يومين، بينما تلك الفائدة أبديّة؛ فأنت قد وضعت إنسانًا على سبيل التوحيد، وأتيت به إلى طريق التقربّ إلى الله تعالى، ونأيت به عن عالم البهيميّة والحيوانيّة والنفس والأنانيّة، وهذا خير لك ممّا طلعت عليه الشمس.

هذا بالنسبة للمؤمنين وأهل الإيمان الذين يفرحون ويبتهجون عند انخراط فرد جديد في جماعتهم، وأمّا إذا تخلّى عنهم هذا الفرد بعد أن قضى بينهم عدّة أيّام، فإنّهم لا ينزعجون، ولا يبدؤون بالمناداة بالويل والثبور، ويقولون: «لنجلس ونشرع في البكاء، فقد نقص من جماعتنا فرد واحد، وكان عددنا خمسة عشر، فأصبح أربعة عشر! فما الذي سيحصل لو صار عددنا ثلاثة عشر؟! علينا أن نحذر حتّى لا يتناقص عددنا!» إنّ ما أذكره موجود حقيقة وواقعًا! فهذه الألاعيب تكون في الأحزاب كذلك.

وأمّا بالنسبة للمنافقين، فإنّهم يفرحون إذا انتمى إلى جماعتهم فرد جديد، ويحزنون إذا تخلّى عنهم هذا الفرد أو فرد آخر، ويقولون: «وا ويلاه، لقد نقص عدد جماعتنا واحدًا!» فهذا هو حال المنافقين؛ نعم، لا يُمكن أن ننكر أنّ حالة من الحزن قد تعتري الإنسان من انضمام فرد، ثمّ سلوكه بعد ذلك طريق الانحراف؛ ولكنّ مرادي أن ننزعج من نقصان عددنا؛ فلا معنى بالنسبة للمؤمن أن يفقد أحدهم أو أن ينقص عددهم؛ لأنّ لديه الله!

 

    

عدم اغترار الإنسان بما منّ الله تعالى عليه من الهداية

 

 

ذهب ذلك الشخص الذي كنت أقصده ـ في حديثي عن تلك الأحداث التي وقعت في تلك الأيّام ـ عند المرحوم السيّد الحدّاد، حيث ذهب به المرحوم العلاّمة إليه؛ هذا، مع أنّه علينا أن نتأمّل ونُدقّق كثيرًا في حال أولئك الأفراد الذين ذهب بهم المرحوم العلاّمة إلى هناك.. في أحد الأيّام، قلت للمرحوم العلاّمة: (لقد أطلقت على كتابكم «الروح المجرّد» اسم «قانون السلوك»)، فضحك كثيرًا، ولم ينبس بكلمة. والحقيقة، فإنّه كذلك، حيث ينبغي علينا أن نتأمّل في عباراته جملةً جملة، لنعرف السبب الذي لأجله ذكر هذا الكلام في هذه الجملة: فهل كان يحكي لنا فيه القصص؟! أفهل كان [المرحوم العلاّمة] على هذه الشاكلة؟!

نظير فلان الذي كان يقول لي: «ما هو السبب الذي دفع المرحوم العلاّمة إلى كتابة الروح المجرّد؟ فهو يحوي مجرّد مذكّراته الشخصيّة!» فقلت له: «أتعجّب من والدي، وكيف أنّه خصّص وقته لك ولأمثالك! فيا للأسف!» فما معنى أنّ هذا الكتاب لا يعدو كونه مجموعة قضايا شخصيّة؟! أفهل كان [المرحوم العلاّمة] عاطلاً عن العمل ليأتي على ذكر قضايا شخصيّة؟!

وحقيقةً، حينما كنت أشاهده يتحدّث عن قضيّة ما، ويُمجّد شخصًا أو ينتقده، فإنّني كنت أراه يقصدني أنا، وكأنّه يُريد أن يقول لي: «انتبه كثيرًا، فقد تقع أنت في نفس الموقف!! لا يأتي على بالك أنّك موجود هنا، فتفتخر بأنّك تنتمي إلى هذا الطريق، وأنّ الآخرين سلكوا طريقًا آخر! لا يا عزيزي، فمن الذي وضع قدميك على هذا الطريق؟ ومن الذي أحضرك إلى هنا؟ ومن الذي احتضنك، فأتيت إلى هنا بدل أن تذهب إلى مكان آخر؟ ولماذا ترى ذلك من نفسك؟ ولماذا تنسبه إلى ذاتك؟ اخش من ذلك اليوم الذي تتعرّض فيه لنفس الأحداث التي تعرّض لها أولئك الأفراد الذين كانوا يعتقدون بأنّ السيّد الحدّاد بيده جميع الأمور؛ لكن بعد ذلك، آل بهم الأمر إلى مصير مجهول! فقد يحصل لك ذلك أنت أيضًا، فلا تر [الهداية إلى هذا الطريق] من نفسك، بل اعتبر ذلك منّة من الله تعالى عليك؛ فالله تعالى هو الذي امتنّ عليك، وأفهمك هذه المسائل، ومنحك هذه المعرفة، وأوضح لك هذا الأمر؛ فكيف ترى ذلك من نفسك؟!»

انتبهوا أيّها الرفقاء، فهذه المسألة دقيقة جدًّا، وينبغي التفكير فيها مليًّا، حيث أشعر بأنّنا في علاقاتنا وكلامنا عندنا حالة من الاستهزاء بالذين اتّخذوا أفكارًا ومناهج أخرى؛ وإن هذا الاستهزاء يرجع إلى النفس، ولا يرجع إلى الله؛ فاقتصر على شكر الله تعالى الذي امتنّ عليك! وأمّا إذا بدأت بالاستهزاء والتهكّم، والقول: «أجل، نحن ننتمي لهذا المنهج، ولقد امتنّ الله علينا، فوضعنا هنا، وأمّا الآخرون...!!» فسيحلّ برأسك نفس ما حلّ بهم من تلك اللحظة.

فحينما كان [المرحوم العلاّمة] ينقل هذه المسائل، فإنّه كان يريد أن يُشير من خلال ذلك إلى أنّ كلّ ما يصل الإنسان إنّما يصله من الله تعالى؛ أفلا نقرأ في دعاء أبي حمزة الثمالي[5]: إلهي، إنّ كلّ خير وصلني مصدره مبدأ الخيرات، فأنا صفر، وكلّ شيء يُفاض عليّ من هناك؛ فإذا انقطع ارتباطي بذلك المبدأ، فسأعود صفرًا كما كنت في السابق، من دون أن ينضاف إلى ذلك الصفر أيّ شيء، أو يُزاد عليه أيّ عدد! فما دام  ذلك الارتباط موجودًا، فهو ليس بصفر، أمّا إذا انقطع هذا الارتباط، فسيعود ذاك الصفر في نفس تلك الثانية؛ إذًا، نحن دائما صفرٌ، إذًا، نحن دائمًا فقراء، نحن دائمًا فقرٌ.. فقرٌ محضٌ، وهذا الذي يعنيه رسول الله حينما يقول: «الفقر فخري» فخري أنّني صفرٌ، فخري أنّني لم أفتح لنفسي حسابًا خاصًّا، أي أنني بمجرّد أن أرى هذا اللطف وهذه العناية من الله تعالى، فإنّني أتباهى بذلك، وأقول: يا للعجب! أنا لديّ الآن حالة أرى فيها نفسي صفرًا.

أتى أحدهم إلى المرحوم العلاّمة بشخص كان منتميًا لأحد المواكب، وكان رجلا مسنًّا، فجلس وقال:

«الحمد لله.. لقد صارت لديّ الآن حالةٌ، بحيث لا يمكن أن تصدر منّي أيّ معصية مجدّدًا! حالةٌ أحسّها في نفسي..» فقال سماحة العلاّمة: «هذه الحالة أكبر معصيةٍ تُحيط بك وتُمسك بخناقك»؛ أفهل تنحصر المعصية في شرب الخمر فقط؟! وهل تكمن المعصية فقط في الصعود فوق الحائط [للسرقة]؟! فهل هذه هي المعاصي فقط؟؟! أم أنّها تشمل حتّى الحالة التي أحسّ فيها «أنا» بأنّني لا أفعل المعاصي؟

ـ أنا!

ـ من تكون أنت؟! (اگر نازی کند از هم فرو ريزند قالبها)[6] فجميع الأمور صادرة منه هو.

ـ «أنا» لن أقوم بالمعاصي مجدّدًا!

لكن، ما إن تواجه شخصًا يضع أصبعهُ على نقطة معيّنة، حتّى تثور دفعة واحدةً.. لماذا؟ لأنَّ لديك مشكلةً هنا؛ فهو قد وضع يده على نقطة أصاب فيها نفسك وأنانيّتك؛ فتهبّ دفعة واحدة، وتخطّ رسالة، وتُؤلّف كتابًا، وتلقي خطابًا؛ وذلك لأنّه وضع يده على تلك النقطة الحسّاسة؛ وهنا، يقول الإمام الصادق بوجوب الالتفات إلى هذه المسألة.

 

    

أهمّية شهر شعبان وإحياء ليلة النصف منه

 

 

إنّ هذا الشهر هو شهر شعبان؛ وهو شهر لديه خصائص يختصّ بها، ومن المشهود فيه تمامًا حصول الابتهاج الروحي، ونزول الإفاضات الربوبيّة على شكل بهجةٍ وانبساط نفسي؛ حيث تحتوي هذه الأمور بحدّ ذاتها على آثار ورموز تتعلّق بحقيقة وجود شهر شعبان بين شهري رجب ورمضان، غير أنّ الكلام في هذه المسألة كثير جدًّا، وقد كان لديّ قصدٌ أنْ أتحدثَ في هذا المجلس عن شهر شعبان، وكذلك عن شهر رمضان؛ غاية الأمر أنّ حالي لا يُساعد على ذلك، كما أنّ الرفقاء ملتفتون حتمًا إلى المطالب المرتبطة بهذا المجال، والتي عُرضت عليهم في السنوات السابقة.

فهناك تأكيد كبيرٌ على إحياء ليلة النصف من شعبان، حيث كان العظماء والأولياء ملتزمين بذلك، وكانوا  بدورهم يحييون هذه الليلة. وأتذكّر أنّه في ذلك الزمان الذي كنّا فيه في خدمة المرحوم العلاّمة أنّه كان يقرأ دعاء كميل بنفسه في ليلة النصف من شعبان، وكان يحيي أيضًا هذه الليلة؛ فكانت تحدث هناك بعض المسائل، فهذه الليلة هي ليلة عجيبة بحقّ، ولديها آثار كثيرة! وقد قلت [أنّني كنت أودّ الحديث عنها] لكنّ الحديث انجرّ إلى موضع آخر.

وكذلك الأمر بالنسبة لشهر رمضان المبارك، حيث تجب فيه المراقبة كثيرًا؛ فلماذا عندما يريد الله تعالى أن يمنّ على الإنسان بالنعم العالية، يكتفي الإنسان بتلك النعم الدونيّة؟! ولماذا يجول الإنسان بفكره إلى هذا الجانب وذاك الجانب؟! فصيام شهر رمضان لا يقتصر على مجرّد الإمساك عن المفطرات، بل يشمل حتّى فكر الإنسان وخيالاته.

لقد كان طريق العظماء ومنهجهم بشكل آخر، وكنت أريد من الأساس الحديث الليلة عن مسألة مهمّة جدًّا؛ أي عن منهح العظماء في المسائل والقضايا الاجتماعيّة، وبأيِّ نحو كان؛ فكثيرًا منّا نحن قد نسي هذه المسائل، وتحرّكنا في اتّجاه أمور أخرى، بينما كانوا هم [العظماء] يفكّرون بنحو آخر، ويتّبعون منهجًا آخر؛ نعم، يبقى أنَّنا أشرنا نوعًا ما إلى هذه الأمور، لكنّ البيان بقي ناقصًا، وسيبقى مجملاً إلى أنْ تسنح فرصة أخرى؛ فأنا لا أعلم هل سيتجدّد التوفيق للحضور في خدمة الرفقاء قبل حلول الشهر المبارك، أم لا، وإلاّ، نترك ذلك لما بعد شهر رمضان، أو من الممكن أنْ نتحدّث ـ فرضًا ـ حتّى في ليالي الشهر المبارك  عن هذه المسألة البالغة الأهمّية حينما يسمح المجال لذلك، ونتكلّم عن منهج الأولياء والعظماء، وأسلوب تفكيرهم، وكيفيّة تعاملهم مع المسائل، لكنّ ذلك سيكون على كلّ حال بنحو التلميح، وعلى حدّ قول الخواجة الشيرازي:

گل عزيز است غنيمت شمريدش صحبت                             که به باغ آمد از اين راه واز آن خواهد شد

(يقول: الورد عزيز ومحبوب، فاغتنم لذّة مجالسته؛ لأنّه كما حلّ بالبستان من هذا الطريق، فإنّه سيُغادره بسرعةً من الطريق الآخر).

 

    

ضرورة الاهتمام بالنفس وعدم الانشغال عنها بالمسائل المتعارفة

 

 

لقد أعطى الله فرصة للإنسان، لكنّ الناس مشغولون بمسائل أخرى، فلماذا نشغل نحن أيضًا أنفسنا بها؟ ولماذا نشغل فكرنا بمسائل من هذا القبيل؟

فالقضايا والمسائل [العاديّة والمتعارفة] ستُنجز بنفسها، ولا تحتاج إلى مزيد من التوضيح؛ فلننشغل بأنفسنا، ولننتبه إلى بساطنا حتّى لا يُصاب بالماء،[7] ولنكن منتبهين لأعمالنا وأفكارنا، فلا نجول بفكرنا في هذه الجهة وتلك الجهة، ولنستفد من هذه الفرصة المتاحة لنا، ولِنَجْنِ فائدة منها تنفعنا في هذه الأوقات وفي الأوقات اللاحقةِ، ولنعلم أنّ أخذ الذهن الى هذا الطرف وذاك الطرف لن نجني منه غير الخسارة: فتتعلّق قلوبنا يومًا بهذا، وهكذا الأمر بالنسبة لليوم الثاني؛ فيأتي عندنا واحد اليوم، ويرحل عنّا الآخر في اليوم التالي، ونبقى نسأل عمّا سيحصل غدًا، وعمّا حصل اليوم؛ وهكذا، تمضي سنة، وسنتان، وعشر سنوات، وعشرون سنة، لكن ما الذي حصل؟ هذا ذهب وذاك أتى؛ فهذه هي حصيلة الدخول في تلك المسائل التي لا تجرّ نفعًا للإنسان، سوى إتلاف الوقت، وصرف العمر في مسائل غير مفيدة .

طوبى للذين أتوا، وعرفوا كيف يستفيدوا من هذه الأجواء، ونفعوا أنفسهم، ولم يكن لهم دخل بهذا وذاك، وتركوا الدنيا لأهلها، وشغلوا فكرهم عن هذه المسائل بالمسائل الأهمّ، أي المسائل المعرفيّة، ونأوا بأنفسهم عن التكاليف المزيّفة.

هذا مجمل تلك المسائل التي كنت أودّ عرضها بين يدي الأصدقاء؛ وخلاصة القول، اغتنموا ما بقي من شهري شعبان ورمضان، وراقبوا أنفسكم مراقبةً كاملةً وتامّة، حتّى تكونون إن شاء الله تعالى مشمولين بالفيوضات الربّانية النازلة على أولئك الأولياء والعظماء الذين كانوا يعتقدون حينما يأتي شهر رمضان أنّ الله تعالى قد أعطاهم كلّ شيء، ومنحهم الجنّة، وعندما يُشارف الشهر المبارك على الانتهاء، كانوا يعقدون مأتمًا، ويدعون بالويل والثبور؛ فأولئك هم الذين أدركوا حقيقة الأمر..

نرجو من العليّ القدير أن يتفضّل علينا ـ إن شاء تعالى ـ بتلك النعم وتلك البركات والكرامات.
اللهم صلِّ على محمّد وآل محمّد

 


[1] ـ اشارة للحركة الدستورية في إيران.

[2] ـ سورة الإنسان، الآية 1: ﴿هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾. المترجم

[3] ـ عَنْ أحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أبي نَصْرٍ قال: وَقَفَ أبُو الحَسَنِ الرِّضَا عَلَيهِ السَّلَامُ في بَنِي زُرَيْقٍ فَقَالَ لِي وَ هُوَ رَافِعٌ صَوْتَهُ: يَا أحْمَدُ! قُلْتُ: لَبَّيْكَ. قَالَ: إنَّهُ لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ‏ جَهَدَ النَّاسُ في إطْفَاءِ نُورِ اللهِ فَأبَي اللهُ إلَّا أ نْ يُتِمَّ نُورَهُ بِأمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلَيهِ السَّلَامُ؛ فَلَمَّا تُوُفِّيَ أبُو الحَسَنِ عَلَيهِ السَّلَامُ جَهَدَ عَلِيّ بْنُ أبي حَمْزَةَ في إطْفَاءِ نُورِ اللهِ، فَأبَى اللهُ إلَّا أ نْ يُتِمَّ نُورَهُ. وَ إ نَّ أهْلَ الحَقِّ إذَا دَخَلَ فِيهِمْ دَاخِلٌ سَرُّوا بِهِ وَ إذَا خَرَجَ مِنْهُمْ خَارِجٌ لَمْ يَجْزَعُوا عَلَيهِ، وَ ذَلِكَ أنَّهُمْ على يَقِينٍ مِنْ أمْرِهِمْ. وَ إ نَّ أهْلَ البَاطِلِ إذَا دَخَلَ فِيهِمْ دَاخِلٌ سَرُّوا بِهِ وَ إذَا خَرَجَ مِنْهُمْ خَارِجٌ جَزَعُوا عَلَيهِ، وَ ذَلِكَ أنَّهُمْ على شَكٍّ مِنْ أمْرِهِمْ. إ نَّ اللهَ جَلَّ جَلَالُهُ يَقُولُ: «فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ». قَالَ: ثُمَّ قَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيهِ السَّلَامُ: المُسْتَقَرُّ: الثَّابِتُ، وَ المُسْتَوْدَعُ: المُعَارُ. الروح المجرد، ص: 232

[4] ـ معرفة الإمام، ج ‏10، ص 264.

[5] ـ لعلّ مراد سماحته العبارة التي يقول فيها الإمام عليه السلام: مِنْ أيْنَ لي الخَيْرُ يَا رَبِّ وَ لَا يُوجَدُ إلَّا مِنْ عِنْدِكَ؟ المترجم

[6] ـ يقول: لو أراد أن يتفاخر، لتحطّمت جميع القوالب.

[7] ـ عبارة كنائيّة عن ضرورة الاهتمام بالمسائل الشخصيّة التي يعود نفعها على نفس الإنسان. المترجم

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی