معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1438 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي 1438 هـ - الجلسة 2: تأثير المحيط على مسير الانسان وسلوكه

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1438 هـ

المحاضرة الثانية:
تأثير المحيط على مسير الإنسان وسلوكه

الليلة الثانية من شهر رمضان المبارك 1438 هجري قمري

سماحة آية اللـه

السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه اللـه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البي دي أف تحميل ملف البي دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد وعلى أهل بيته الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين

«ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته لا لأنّك أهون الناظرين وأخفّ المطّلعين، بل لأنّك يا ربّ خير السّاترين وأحكم الحاكمين وأكرم الأكرمين»

    

أسباب التساهل في ارتكاب الذنب

يا إلهي! لو كان لديّ خوف من تعجيل العقوبة لاجتنبت ارتكاب المعصية حتمًا، ولكن عدم خوفي منك ليس لأنّك لا اطلاع لك على أحوالي، وليس لأنّك أدنى من أولئك الذين لديهم إشراف على تصرّفي وعملي، وأنّ اطلاعك عليّ اطلاع بسيط وناقص؛ بل بسبب علمي بأنّك أفضل ساتر وأفضل حاكم، ولديك أعلى مرتبة من الكرم. هذه المسائل الثلاثة هي التي جعلتني ـ مع معرفتي بالمقام الذي أنت عليه وعلمي بإشرافك عليّ ـ أتساهل في ارتكاب الذنب واقتراف الخطايا.. هذه الجهات الثلاثة؛ إحداها أنّك ساتر، والثانية أنّه لا يبلغ أحد علوّ شأنك في مقام الحاكميّة، والثالثة أنّك في الكرم تحوز أعلى مرتبة من الكرم. وإذا وفّقنا الله تعالى بحسب السعة والاستعداد والإدراك، نتحدّث عن هذه الجهات الثلاث، إذ كلّ منها يحتوي على الكثير من المعرفة في بيان المعارف الإلهيّة وارتباطها بأعمال العباد، وتأثيرها على كيفيّة إدارة الأمور الاجتماعيّة؛ إحداها أنّ الله خير الساترين، والثاني أنّه أحكم الحاكمين والثالث أنّه أكرم الأكرمين؛ إذًا ينبغي علينا أن نكون نحن أيضًا مثله سبحانه وتعالى! لا مثله في مرتبة الألوهيّة، فمرتبة الألوهيّة مختصّة به تعالى، بل لا أقلَّ علينا أن نتّصف بهذه الصفات في مرتبة العبوديّة؛ بأن نكون ساترين وكريمين، وفي مجال الحكومة علينا أن نكون أقرب ما يكون إلى الواقع.

    

خصوصية شهر رمضان المبارك

لقد ذكرنا الليلة الماضية للإخوة بعض الأمور حول خصوصيّة شهر رمضان المبارك والفضيلة التي لهذا الشهر، وأنّه علينا أن لا نفرّط بهذا الشهر، بل ينبغي علينا أن نسعى ـ بمقدار السعة والقدرة والتوفيق الإلهي ـ لندرك فضائل هذا الشهر بنحو أكمل، ولا نكتفي بالمقدار العادي والمتعارف الذي لدى سائر الناس من الاجتناب عن المفطّرات وأداء الفرائض، فبعضهم يقول أنّه «يكفينا في شهر رمضان المبارك أن نمتنع عن المفطّرات وأن نلتزم بالواجبات، ولا يريد الله منّا أكثر من ذلك في هذا الحرّ الشديد والعطش، وما نناله من الأجر والثواب من هكذا صوم يكفينا».
إنّ نصيب الأفراد من الفهم مختلف، ومقدار الشعور لديهم والإدراك لهذه التكاليف متفاوت؛ لكن علينا أن لا نتخيل أنّ إدراك الحقائق الكامنة خلف التكاليف الإلهية وفهمها والشعور بها، يحصل من خلال الدرس والتدريس واكتساب بعض المصطلحات وتحصيل هذه الدروس المتداولة؛ نعم إنّ هذه الأمور مؤثّرة في ذلك لا أنّها عديمة الأثر؛ ولكنّ المهم هنا هو إدراك القلب وبصيرته وشعوره بإشراقات الأنوار الإلهيّة التي ينزلها الله تعالى على عباده في هذا الشهر، وكلّ شخص يدرك عظمة وبركة هذا الشهر بمقدار مرتبته الوجوديّة؛ فأنّى لنا أن ندرك تلك الحقائق والواقعيّات التي أدركها العظماء والأولياء من هذا الشهر؟! فبالنسبة إلينا هذا الشهر هو شهر مبارك ومليء بالنعم، فإننا نشعر فيه بحالة من الانبساط والخفّة ونحس بالاختلاف بين هذا الشهر وغيره من الشهور ، هذا المقدار أمر مشهود، والجميع يدرك ذلك بهذا المقدار؛ فبعض الناس لا يذهب إلى المسجد إلا في ثلاث ليال من السنة؛ الليلة التاسعة عشرة والحادية والعشرين والثالثة والعشرين فقط! أو في ليالي شهر رمضان، فهو في كل أيام السنة لا يذهب إلى المسجد ولا ترى لهم فيه أثر، بل بالكاد يصلّون صلاتهم الواجبة، لكن عندما يحلّ شهر رمضان تراهم يأتون إلى المسجد، أو أنّهم يأتون في هذه الليالي الثلاث لا غير، فلا أقل هم يدركون بهذا المقدار أنّ هناك خبرًا ما، ففي النهاية هم يدركون أنّ شهر رمضان يحتوي على خصوصيّات غير موجودة في غيره من الشهور! هذا هو الإحساس الذي لديهم..

    

تأثّر حال الإنسان بحسب المحيط الذي يجعل نفسه فيه

ومن العجيب أنّ الإنسان كيف يجعل نفسه في محیط بحيث عندما يكون في ذلك المحيط ـ كما ذكرت للإخوة بالأمس ـ يتبدّل حاله شيئًا فشيئًا إلى أن يصير جزءًا من ذلك المحيط؛ وذلك بسبب أنّ نفس الإنسان بما لديها من المثال والتجرّد تمتزج بمثال وتجرّد ذاك المحيط وتأنس به وتجعله جزءًا من وجودها.
فعلى سبيل المثال إذا شاركت في مجلس ذكرٍ أو مجلس توسّل أو مجلس سيّد الشهداء، عندما تدخل إلى هذا المجلس ترى حالك قد تغيّر، وعندما تخرج ترى أنّك مختلف عن الحالة التي دخلت بها! لماذا حصل لك هذا الاختلاف؟ ماذا فعلت؟ لماذا لو كنت بقيت في منزلك لما كان حصل لك ذلك؟! كلّ ذلك بسبب أنّه بمجرّد أن يحصل للإنسان ذاك الاتصال البرزخي وذاك الاتصال الغيبي ـ البرزخ والملكوت وأمثال ذلك بحسب مراتب كلّ فرد من الأفراد وسعته الوجودية ـ يكون قد حصل له اقتران بذلك المحيط البرزخي والملكوتي بحسب الاختلاف في مراتبه، ويكون قد حصل له أنس واتحاد بذلك المحيط، وبالتالي يحصل تأثير مباشر في النفس، لذا عندما تخرج من مجلس الإمام الحسين تشعر بأنّك تستطيع أن تنفق بسهولة..فإذا كان قد طُلب منّي مساعدة لأمر معيّن أقول: سأرى إن كان بالإمكان.. أما بعد خروجي من المجلس أقول: تعال خذ! لماذا هذا الاختلاف؟ لأنّ نفسه تغيّرت، حاله تغيّر، ضعفت عنده جنبة التوجّه إلى الدنيا والتوهّمات والتخيّلات والأنس بالدنيا، وفي المقابل حلت وتجمّلت عنده جنبة الأنس بالله والمثال والبرزخ؛ لذا يمكنك أن تتخلّى عن الدنيا بسهولة في هذه الحالة، أما قبل ذلك لا يمكنك ذلك.
الارتباط بأولياء الله كذلك أيضًا، فعندما تجلس إلى وليّ الله ساعة وتخرج، ترى نفسك في حال مختلف! يقال بأنّ الذين كانوا يذهبون إلى المرحوم السيد القاضي، يُعرف من كيفيّة خروجهم من عنده بأنهم كانوا عنده.. فما الذي جرى لهم عنده؟ الله تعالى يعلم ما الذي تركته النفس القدسيّة والمطهّرة لهذا الرجل العظيم على روح ونفس وسرّ وضمير هؤلاء؛ بحيث أنّهم عندما خرجوا من عنده اختلفت حالهم بشكل ملفت.
ينقل بأنّ مجالس المرحوم الملا حسين قلّي همداني كانت كذلك! ومجالس المرحوم السيد القاضي كذلك، وفي المقابل هناك مجالس؛ اذهب وانظر ما الذي ينزل على رأس الإنسان فيها؟! فهناك مجالس من هذا القبيل أيضًا.
لماذا ذلك؟ والحال أنّهما كلاهما بشكل واحد وظاهر واحد، فبينما ذاك المجلس يرفع الإنسان إلى الملكوت، يسقطه هذا إلى قعر الناسوت، إلى ما دون بئر النفط أيضًا.. فبئر النفط يحفر بعمق بضعة كيلومترات، هذا ينزله إلى ما دون ذلك بحيث لا يمكنه أن يخرج منه. الدنيا دنيا في أي ظاهر كانت وأي لباس كانت، وفي أي شكل كانت، عندما لا يكون الله فيها فهي دنيا!
لذا يقولون بأنّ مجالسكم ينبغي أن تكون مجالس ذكر، وأن تكون مجالس توسّل وتوحيد، لماذا؟ لكي تترك ذلك الأثر! هذا الأثر يحصل شئنا أم أبينا.

    

تغيّر الحالة الروحية للإنسان تظهر على شكله الظاهري

هناك أحد الأشخاص كان المرحوم العلامة يدعوه للخطابة في مسجد القائم في شهر رمضان وفي غير شهر رمضان، وقد توفي وكان رجلًا فاضلًا وخطيبًا؛ وعلى كل حال، كان حينما يأتي في أول شهر رمضان للخطابة في المسجد، كان الناظر إليه يرى أنّه في بداية شهر رمضان يكون بشكل معيّن، وكلّما كان الوقت يمضي كان شكله يتغيّر، وجهه يتغيّر، وطريقة لبسه تختلف، وأسلوب كلامه وتصرّفاته تتبدّل، وسيماه يتغيّر، وكان حينها يبرز الحبّ والمودّة لي، وكنت في وقتها صغيرًا ـ في حدود سبعة عشر أو ثمانية عشر سنة أو تسعة عشر أو عشرين سنة تقريبًا ـ وكنّا نتحدث معًا بعد الانتهاء من الخطبة، وكان له أشغال أخرى غير الخطابة والتبليغ أيضًا ولم يكن منحصرًا في هذه الأمور.. وعندما كان ينتهي شهر رمضان، كان الإنسان يرى اختلافًا واضحًا في شكله؛ بحيث أنّه إذا أخذ له صورة الآن وقارنها مع صورته في أول الشهر لرأى اختلافًا واضحًا بينهما!
أذكر أنّ المرحوم العلامة رضوان الله عليه، وكان في ذلك الوقت ـ في زمن الشاه ـ قد صدر كتاب حديث للشيخ الأنطاكي بعنوان «لماذا اخترت مذهب الشيعة مذهب أهل البيت» وهو للقاضي الأنطاكي؛ حيث كان من العامّة ومن أهل السنّة، ثم حقّق في المسألة فاستبصر وتشيّع.. والكتاب عندي لكن لا أعلم أين هو فعلًا، فقد اشتريته منذ ذلك الوقت وقرأته، وكنت في الرابعة والعشرين، وهو كتاب عذب جدًّا، يبيّن فيه كيفيّة انتقاله من مذهب العامّة إلى التشيّع.. وينبغي أن يكون موجودًا الآن.. حيث يوجد صورة له في أول الكتاب وصورة في آخره، انظروا إليه.. يقول المرحوم العلامة: إنّ صورته هذه نفس صورة عمر! وكأنّ المرحوم العلامة قد شاهد عمر.. فيقول: صورته هذه نفس صورة عمر ..عيونه حادّة ومشتعلة ووجهه خشن ومتجهّم ـ الحقير لم ير جناب عمر لكن العظماء هكذا يقولون ـ لكن عندما تنظر إلى الصورة التي وضعها في آخر الكتاب ترى صورته حزينة ومغمومة، وعيونه خرجت عن حالة الحدّة بحيث تبدو فيها منكسرة ونورانيّة وفي حالة من المسكنة والعبودية، لماذا؟ لأنّه غيّر اعتقاده، فالاعتقاد عندما يرجع إلى أمير المؤمنين يُخرج الإنسان من هذا البلاء النازل عليه، ويغيّر كلّ شيء في الإنسان، ويجعل نفس الإنسان تنقلب رأسًا على عقب؛ لأنّه إكسير، فالإكسير عندما تضعه على النحاس يغيّر ذرّات النّحاس ويبدّلها إلى ذهب، يقلبه رأسًا على عقب، وعندما يختبره الصائغ يرى أنّه ذَهَبٌ خالص!
آنان كه خاك را بنظر كيميا كنند
(أولئك الذين بنظرة منهم يبدّلون التراب إلى كيمياء)

واقعاً ماذا تفعل مسألة الولاية بالإنسان؟ وما هي مسألة أهل البيت؟ عندما يوضع هذا الإكسير على نفس الإنسان وروحه ترفع جميع الكدورات الموجودة لديه وتغسلها وتمحوها، وبدلًا منها تأتي بالنورانية والانبساط.. كلّ ذلك لأجل الولاية ﴿أُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾>[1] فتمام سيّئاتهم تتبدّل إلى نور، وهي مسألة عجيبة، عجيبة جدًا! وحتّى من الناحية الفلسفيّة عليها دليل وبرهان، وهي أنّه كيف تحدث هذه المسألة مع أن الصفة التي يتصف بها تكون هي الظلمة والكدورة تتبدّل هي نفسها إلى نور وبهجة مع أن الشيء لا ينفكّ عن ذاته؟!
لقد كان هذا الشخص [وهو الخطيب] كذلك في آخر شهر رمضان! وفي أحد الأيام كان يتحدّث عن العلاقة بالعظماء، وكيف أنّ العلاقة بالعظماء تؤثّر بالإنسان، قال: مثلًا نفس هذا... مع أنّ المرحوم العلامة كان يؤكّد دائماً على الخطباء أن لا يذكروا اسمه على المنبر ولا يمتدحوه، وكان ينزعج حقيقة إذا ذكر أحدهم اسمه على المنبر، بل كان يؤكّد على الاقتصار على المحاضرة وذكر كلمات الإمام الباقر والإمام الصادق، ولا يُلتفت إلى أحد غيرهم.. لكن قال هذا الشخص في ذلك اليوم على المنبر وأنا أذكر ذلك جيدًا، قال: لا يعلم الإنسان عندما يكون جالسًا إلى جانب هؤلاء العظماء كيف يتغيّر حاله؛ فهو يتغيّر شاء أم أبى، سواء أراد ذلك أم أبى! ثم ضرب مثلًا على ذلك، وقال: هذا جناب السيد الطهراني ـ فطأطأ المرحوم العلامة رأسه واحمرّ لونه [ولسان حاله] يا عزيزي دعني وشأني واهتمّ بشغلك! ـ هذا السيّد لا أعلم ما هو الأثر الذي يتركه عليّ؛ بحيث إنّه كلّما أجلس إلى جانبه بعد الانتهاء من الخطبة ـ وكان يجلس ربع أو ثلث ساعة ثم يمشي ـ، قال: كلّما أجلس إلى جانبه أشعر بتأثير نفسه عليّ بوضوح! وهذا الأمر كان واضحاً فحاله في البداية يختلف عن حاله في نهاية الشهر.. لكن يا عزيزي ما دمت تشعر بهذا التأثير فعليّك أن تلزمه! فهذا هو موضع كلامنا، إذ لا يكفي مجرّد شعورك بتأثيره، فأنت الذي تقول وتعترف بأنّك تشعر بهذه المسألة، لماذا لا تأتي إليه بعد شهر رمضان؟! حتى يتماس هذا الإكسير مع وجودك... فالمسألة المهمّة هي مسألة المتابعة، فالشيء الذي يشعر به الإنسان عليه أن يتابعه، ويكون لديه همّة على المتابعة.

    

ضرورة احترام قداسة شهر رمضان المبارك

هذه المسألة موجودة، وهي أن المحيط الذي يدخل فيه الإنسان يترك أثره فيه؛ لذا ينبغي أن يستغلّ هذا الأمر، ولا يمرّ عليها مرور الكرام؛ بل عليه أن يدرك مسألة شهر رمضان جيّدًا..
من العجيب جدًّا! الآن تذكرت مسألة وهي مهمّة وتستحقّ الالتفات؛ كنت أقرأ في السابق مقالة بأنّ أحد المستشرقين الغربيين ـ وهو هنري كوربون ـ الذي كان يأتي إلى المرحوم العلامة الطباطبائي، وكان رجلًا فهيمًا وعالمًا جدًا ومن أهل الفلسفة، ولديه نفس طيّبة وضمير صاف غير معاند.. هكذا كانت خصوصيّاته، وقد قال المرحوم العلامة الطباطبائي للمرحوم العلامة ـ وكنت موجودًا ـ: باعتقادي أنّه تشيّع في أواخر عمره، يعني أنّه صار شيعيًا! وهذا ما كان يظهر من كلامه أنّه اختار التشيّع..
أتى يومًا إلى قم للقاء أحد العلماء، وقد توفّي الآن، وكان من العلماء المعروفين ـ من الأمور الموجبة للتأسّف بالنسبة إليّ، وهي من العبر لي.. ما أقوله لكم من أنّ الإنسان ينبغي أن يطلب من الله الفهم والمعرفة ـ أتى إليه وكان ذلك في شهر رمضان، والناقل ينقل هذه المسألة بصفتها منقبة لذاك العالم، كان شهر رمضان، وقد أتى لزيارته، فقام ذاك العالم بطلب الشاي والفاكهة للضيف، وعندما أتوا بالضيافة، نظر إليه [كوربون] وقال: نحن في شهر رمضان المبارك، فلماذا تطلب الشاي والفاكهة؟ فأجابه: صحيح أنّا في شهر رمضان ولكنّك ضيفنا، والضيف له حقّ، نحن صائمون لا نأكل وأما أنت فلست صائمًا، ولذلك أمرنا لكم بالضيافة.
لقد تعجّبت كثيرًا عندما قرأت هذه القصّة، فكيف لا يدرك مرجع شيعيّ عظمة شهر رمضان المبارك، وكرامة شهر رمضان المبارك، والأهميّة التي له، والحرمة التي له؟! إنّ القيمة التي ينبغي أن تكون له تفوق بمليارات الدرجات مجيء ضيف إلى المنزل، فلو لم يأكل الضيف لمدّة نصف ساعة فلن يصيبه أذى ولن يموت، ولن يسقط السقف على رأسه، فهل أنتم الآن تأكلون شيئًا حين سماعكم لكلامي، فليبق الضيف لنصف ساعة بلا طعام، فحقّ الضيف هو في الأيّام الأخرى والأشهر الأخرى، والضيف نفسه عليه أن يلتفت إلى ذلك، فلو فرضنا أنّ هناك مصيبة في المنزل ويأتي ضيف، فهل تضع أمامه المكسّرات والحلوى؟ أم أنّه يشرب الشاي والقهوة ويأكل حبّة تمر ويمشي، وهو يدرك بنفسه طبيعة الموقف، وأنّه لا ينبغي أن يكون هناك شيء آخر.
إنّ عظمة شهر رمضان المبارك، وقيمته والاحترام الذي جعله الله له، والقداسة التي له، هي في حدّ لا يحتمل أن يقارن بشيء ولا يبلغه شيء. نعم قد يكون الضيف مريضًا، فالأمر يختلف، أما الضيف الطبيعيّ فلا. ولو جاء ضيف من المدخّنين ووجدك مريضًا تتأذّى من التدخين، فهل يقوم بالتدخين حينئذ؟ لو قام بذلك فهو «حمار» إلى درجة كبيرة جدًّا!! فهو لا يفهم أنّ هذا المكان ليس للتدخين، فكيف بعظمة شهر رمضان؟!
ومع كلّ هذا تجد أنّ ذاك يأتي له بالضيافة ويقول: أنت ضيف ولا إشكال، والضيف يتعجّب ويقول: نحن في شهر رمضان..! فإنسان مسيحيّ يدرك قيمة شهر رمضان خيرًا منّا! هل التفتّم؟
كان المرحوم العلامة أينما يذهب في شهر رمضان يؤكّد على هذا الأمر، أذكر أنّا ذهبنا معه يومًا إلى المستشفى في زمان الشاه لزيارة أحد المرضى، وكان ذلك في شهر رمضان، فعندما دخلنا الغرفة وجدنا سلّة من الفواكه على المنضدة، فقال المرحوم العلامة: ضعوها في البرّاد؛ الضيوف الذين يأتون إلى هذا المكان لا يحتاجون إلى ضيافة؛ فكلّهم صائمون، وحتى لو لم يكونوا صائمين فاحترامًا لشهر رمضان علينا أن لا نضعها هنا سواء أراد أحد أن يأكل أم لم يرد. هل التفتّم؟
يجب أن نطلب من الله أن يوفقنا لإدراك هذا الأمر، ونطلب من الله أن لا نبلغ التسعين وإدراكنا لم يبلغ هذه المسائل، وقد بقي فهمنا وإدراكنا في ضمن السانتيمرات الخمس التي تحدّثنا عنها بالأمس، أن لا يبقى في هذا الحدّ ونخرج من الدنيا ونحن في هذا الحدّ.

    

ضرورة المراقبة وعدم الانشغال بأمور الدنيا ومتابعة الأخبار

من هنا يُفهم كلام الفقير للأصدقاء، أنه مادام الله قد وفقنا لهكذا فهم فلماذا نتعلق بهذا وبذاك؟ لماذا؟ لماذا لا نترقّى؟ لماذا لا نُخرج أنفسنا من هكذا محيط؟ لماذا لا ندخل في الأجواء التي بيّنها الأولياء الإلهيون وكبار الطريقة أمثال مولانا جلال الدين الرومي، حول خصوصيّات شهر رمضان المبارك، وكيفيّة المراقبة في هذا الشهر، وكيفيّة صيانة النفس عن الكثرات، وعن هجوم التخيّلات والخيالات والأوهام التي ترمي بنا إلى الحضيض، لا التي ترفعنا وتكون سببًا في ترقينا. لماذا نقصّر في الدخول في هذه الأجواء؟!
يجب على الإنسان في مراقباته في هذا الشهر المبارك ـ وكذلك في غيره من الأيام أيضًا، لا أنها تختص بهذا الشهر ـ عليه كما أوصوا أن لا يفكّر بالذنب، ولا يدع مجالًا له للورود على باله وفكره؛ فهو وإن لم يفعل الذنب إلا أن نفس التفكير بالذنب موجب لحصول الكدورة في نفسه. يعني أنّكم لا تستطيعون أن تدركوا هذه البركات بشكل واقعي مع ورود وخطور هذه الخواطر المكدّرة: التفكير بأذيّة الناس، التفكير بإزعاج الناس، التفكير بالمعاصي الأخرى، التفكير في التغلّب على الآخرين. كل هذه الأفكار تأتي واحدة تلو الأخرى مثل نقاط الماء التي تسبق هبوط المطر؛ ولكي لا يصل هذا المطر إلى مزرعتك، يجب عليك أن تحجب مزرعتك عن هذا المطر، وكلّما زاد المطر واشتدّ وكاد أن ينفذ إلى مزرعتك من خلال هذا الساتر، يجب أن تضع ساترًا آخرًا، وكلّما زاد أكثر وكاد أن ينفذ وضعت ساترًا آخرًا وهكذا.. إلى أن لا يبقى أي منفذ ومجال لأن يصل المطر إلى مزرعتك.
وهذه الأفكار والخطورات بنفس الكيفيّة أيضًا. لذلك يجب على الإنسان لكي يخرج من هذه الأجواء عليه أن لا يدع مجالًا حتى للتفكير بالذنب والمعصية، لا يتخيّل الذنب أبدًا.
عليه أن لا يدع نفسه تنشغل بأمور الدنيا التي لا تساوي شيئًا، وهذه الأمور سوف تحصل سواء أراد أم لم يرد ، هذه كلها دنيا، تمنع من صعود الإنسان ورقيّه وعروجه. الآن أنتم عندما تذهبون للنوم ليلًا، فبأي حالة تذهبون للنوم؟ بماذا تفكرون؟ هل تفكرون بلزوم الوضوء حتى تناموا على طهارة، وتنشغلوا بأذكار النوم؟ تذهبون بنفس طاهرة وخفيفة؟ أم أنكم تذهبون للفراش وذهنكم مشغول بهذا .. ـ ما اسمه؟! ـ الهاتف الجوّال (الخلويّ) والحاسوب وما إلى هناك من أجهزة، فتأخذونه معكم حتى تتابعوا الأخبار وتروا ماذا يقولون في النشرات ثم تنام، الفرق بين هاتين الحالتين كالفرق بين السماء والأرض.
إن كان لديه ذلك الحال، فسيأتيه في منامه ما يناسب ذلك الحال. يقول العلامة الطباطبائي رضوان الله عليه: في اليوم الذي تكون مراقبتي فيه أشدّ، وأحسن، وأدقّ، وأكثر إحكامًا، فإني أرى آثارها من خلال الواردات التي تحصل لي في الليل ـ سواء كانت من خلال المنام أم غيره ـ حيث تكون الواردات ألطف وأحسن وأكثر توحيديّةً.
وأمّا إن لم يكن عندي تلك المراقبة في النهار؛ كأن أنشغل بشخص يأتي أو يذهب أو أيّ شيء آخر .. وإلا فهؤلاء العظماء ليسوا من أهل هذه المسائل! بل كانوا يراقبون أنفسهم في فكرهم وخيالهم وضميرهم، لا مثل مراقبتنا التي نمتنع فيها عن الذنوب فقط، فهناك اختلاف ماهويّ بين مراقبتنا نحن ومراقبتهم، وأين نحن منهم!
فأيهما أحسن أن يقرأ تلك المسائل عندما يريد أن يذهب للنوم، أم يقرأ قبل النوم حديثاً عن الإمام الصادق عليه السلام أو صفحة من كتاب أو فقرة.. عادة لا أتمكّن من النوم ما لم أقرأ شيئًا ـ وذلك عندما كنت سالمًا قبل المرض ـ وبالقرب من سرير النوم هناك بعض الكتب؛ مثل ديوان مولانا.. فأقرأ بعض الأسطر وأفكّر فيها وأنتقل معها إلى الحال التي هي فيها، أو أقرأ في كتب المرحوم العلامة، وعادةً ما أقرأ في كتاب الرّوح المجرّد.. والله شاهد بأنّني أقرأ أحيانًا فقرة واحدة خمسين مرّة وأشعر وكأنّني أقرأها للمرّة الأولى! فليقرأ الإنسان كتب العظماء أو الصحيفة السجاديّة وأمثال ذلك، بدل أن يقرأ الهذي والهراء والترّهات المكتوبة هنا وهناك التي لا طائل منها سوى أنّها تضيف على فكر الإنسان ثقلًا إضافيًا؛ أنّ فلانًا قال هذا، وفلانًا قال ذاك، وفلانًا أجابه بكذا، وفلانًا كتب بيانًا على ذاك و... هكذا هيا الدنيا! انظروا واعرفوا هذا الأمر تدركوا حقيقتها جيّدًا.. فإنّها تأسر طلّابها؛ فهذا يجذبها من هنا وذاك يشدّ بها من هناك.. إلى متى تشدّ؟ لا تشدّ أكثر.. والحاصل أنّه عليك أن لا تأخذ يمينًا ولا شمالًا!
بل اذهب وانظر ما الذي ينفعك! فنحن لم نأت لنحمل أثقال الآخرين، إذ لدينا ما يكفينا من الأثقال، فهل يمكننا حمل أثقالنا أم لا؟ العظماء كانوا يقولون لتلاميذهم: نحن لدينا من الأثقال ما يكفينا، [إذا كانوا هم يقولون ذلك] فالويل لنا نحن! فنحن من جهة لدينا جميع هذه النقائص والغفلة والتهاون والجهل، ومع طول هذا الطريق والمليء بالانعطافات والذي ينبغي علينا أن نسلكه.. مع ذلك كلّه نشتغل بالآخرين؛ فننشغل بما سيحصل مع هذا، وبما سيؤول إليه ذاك! ما شأنك أنت بماذا سيصير بهذا أو ذاك! فليكن ما شاء أن يكون، فما علاقتي أنا بذلك!
كانوا يعترضون على العلامة الطباطبائي في النجف بأنّه عندما يمشي في الطريق كان مطأطئ الرأس دائمًا، لا ينظر إلى هنا وهناك، لا يشاهد من يأتي من بُعد مائة متر حتى يرى إن كان يريد أن يسلّم عليه أو لا يريد! فإن كان يريد السلام عليه يقبل عليه، وإن كان لا يريد أن يسلّم عليه يغيّر طريقه..
أحيانًا عندما كنت أمشي هنا في قم ـ كان هذا سابقًا أما الآن فقليلًا ما أوفّق للمشي للزيارة ـ كان بعضهم حينما يشاهدني من بعد خمسين مترًا ينتقل إلى الجانب الآخر من الشارع.. يا عزيزي امش في طريقك لا شغل لي بك! وهكذا في أماكن أخرى.. كانوا من بُعد مائة متر يرون من الذي يأتي ومن يذهب، أمّا المرحوم العلامة فكان يطأطئ رأسه، كانوا يعترضون ويقولون لماذا يفعل ذلك؟!
المرحوم العلّامة [الطّهراني]يقول: إنّ هؤلاء المساكين لا يعلمون ماذا يجول في خاطر العلامة الطباطبائي؛ فالذي يحدّث به نفسه هو: إنّ لديّ ألف عمل ينبغي عليّ أن أفعله ولم أفعله بعد، لديّ ألف نقص، وألف تعاسة .. ليس عندي مجالًا لأنظر إلى هنا وهناك؛ ماذا يجري هنا وماذا هناك؛ ما لون هذه اللعبة، بل عليّ أن أفكّر في نفسي، أفكّر في تعاستي، عليّ أن أفكّر في نقائصي، عليّ أن أفكّر في ما ينبغي عليّ أن أقوم به، وأن أركّز فكري؛ وانشغالي بالسلام على هذا وذاك سيسلبني عن نفسي، ويُشتّت تركيزي، ويُبدّد نفسي؛ ولن يُبقي لي بذلك أيّة هويّة وحقيقة؛ لأنّني سأكون قد ضيّعت كلّ ذلك، فأسلّم على هذا وعلى ذاك، وأقول للآخر: كيف أحوالك؟ لماذا لا تتفضّل بزيارتنا في المنزل؟ مع أنّني لو التقيت به لمدّة عشرة سنوات وعرضت عليه الزيارة، لما أتى عندي ولو لمرّة واحدة!
فهذه الأمور كلّها عبارة عن أثقال تُضاف الواحدة تلو الأخرى على النفس؛ فعوضًا من أن آتي وأحطّ عن نفسي تلك الأحمال والتعلّقات التي تُثقل كاهلي، والتي ثُبّتت في نفسي بواسطة تلك الأطناب المربوطة بالحبال التي غُرست في جميع أرجاء وجودي، وارتبطت في أحد أطرافها بنفسي بإحكام.. فبدلًا من أن أعمل على نزع هذه المسامير وفكّ هذه الحبال الواحدة تلو الأخرى، فإنّي أساهم في إضافتها، وإثقال نفسي بالأحمال..

    

على الإنسان أن لا يصنع لنفسه تكليفًا مزيفًا

ولا يخفى أنّ حديثنا هنا ليس عن الحالات التي يتعيّن فيها تكليف على الإنسان؛ ولكن علينا نحن أن لا نضع لنا تكليفًا من عند أنفسنا، وحينئذٍ فإنّ الله إن أراد أن يكلّفنا فإنه سيعرّفنا تكليفنا، فلا حاجة للإنسان أن يصنع لنفسه تكليفًا مزيّفًا؛ فدائمًا ما يبرّر ذلك بقوله: «أنا مكلّف بالقيام بهذا العمل!».. من أين حصلت على هذا التكليف؟!
إنّ الذي يحسّ بالتكليف ويشعر به هو نظير مالك الأشتر، فهو حينما نصّبه أمير المؤمنين على ولاية مصر، أتى عنده، وقال له: يا علي، أتُريد أن تفصلني عنك؟ فمثل هذا هو من يعرف التكليف الإلهي ويشعر به، لا ذلك الذي يُمزّق بطن الآخرين لأجل الحكم، مدّعيًا أنّه يستشعر التكليف؛ فالتكليف [الحقيقي] هو ذاك التكليف الذي كان يستشعره مالك الأشتر وأمثاله، حيث كان يصدر من المولى؛ وحينئذٍ، أينما ذهب ذلك المكلّف، فإنّه سيكون تحت تصرّف الولاية وإشرافها وإحاطتها الحقيقيّة الملكوتيّة؛ وبالتالي، فلن يفرق لديه الأمر. وأمّا بالنسبة لبقيّة التكاليف، فلا تعدو كونها أمورًا واهية.

    

تدخل الانسان فيما لا يعنيه من موانع الطريق

وقد كان المرحوم العلاّمة والعظماء يُؤكّدون على ضرورة أن يُراعي الرفقاء هذه المسألة في هذا الشهر المبارك، وهي أنّ هناك العديد من الأشياء التي لا تنفعنا، واعتادت أنفسنا عليها، فتقوم النفس باختراع تكليف يتعلّق بها لمجرّد أنّها اعتادت عليها كثيرًا؛ فترى الإنسان حينئذ يبدأ بالتطلّع إلى هنا وهناك، وحينما يُقال له: ما هو دخلك في هذا الأمر؟ لماذا تسعى لمعرفة ما يحصل في هذه الغرفة؟ يُجيب بقوله: كنت فقط أريد أن أطّلع! واعتاد الإنسان على أنّه متى ما كان هناك أحدهم يتحدّث مع آخر، فإنّه يبدأ يتطلّع برأسه حتّى يسمع ماذا يُقال.. فهذا هو حال العادة! وإنّ جميع هذه الأمور هي موانع تصدّ الإنسان، كما أنّه اعتاد أيضًا على السعيّ نحو معرفة ماذا قال فلان الذي يعيش في الناحية الأخرى من العالم.. فليقل ما يشاء، فما دخلك أنت بذلك؟! أفهل أنت قادر على فعل أيّ شيء تجاه ذلك؟! أو هل تستطيع أنت الوقوف بوجهه؟! أو هل أنت قادر على دفع أيّ ضرر؟! أو هل أنت متمكّن من جلب أيّة منفعة؟!
لكن، بما أنّ هذه النفس مأنوسة دائمًا بعالم الظاهر والحسّ والخيال والوهم والاعتبار، فإنّها لا تستطيع التخلّص من هذه الأمور، ويُشكل عليها ذلك؛ ولهذا السبب، يكون الإنسان مُلزَمًا بالمراقبة.
خذوا مثالًا لطفل ذي أربع أو خمس أو ستّ سنوات؛ فلو أنّكم أخبرتموه بوقوع زلزال في الناحية الأخرى من العالم، لما اهتمّ لذلك، بل غاية همّه هو اقتفاء أثر سيّارته الصغيرة!! ولا شغل له بمثل هذه الأمور؛ لأنّه يعيش في أجواء مغايرة. أو يُقال له مثلًا: لقد تحدّث رئيس الولايات المتّحدة الأمريكيّة عن البلد الفلاني بالكلام الكذائي، فإنّه سيُجيب قائلًا: لا علاقة لي بهذا الكلام، وغاية ما أريده منك هو قطعة شوكولاته لآكلها! لماذا؟ لأنّه لا يعيش أبدًا في أجواء كهذه؛ فلا يُمكنه فهم كلامك، والاطّلاع على حقيقة ما تذكره، وليست له نفس واقعة في أسر هذه الأجواء، بل هي متواجدة في أجواء مغايرة. وأمّا نحن، فقد صارت لنا أنفسًا، بحيث إذا كنّا تجّارًا، فإنّك تجدنا نهتمّ بهذه الأمور فقط، وإذا كنّا مهندسين، فإنّك ترانا نهتمّ بتلك المسائل فقط؛ وهكذا الأمر إذا كنّا أطبّاء، أو طلبة علوم دينيّة، أو من أهل العلم؛ فمهما كنّا ـ ولو من المجتهدين ـ فإنّك تجدنا نجول ونسير في نفس تلك الأجواء.. أجواء الدنيا والأخبار والأمور المشتِّتة، والأجواء المهيّئة لهجوم الخواطر والمسائل المختلفة، من دون أن نتمكّن من الخروج منها.
كان المرحوم العلاّمة يقول: عندما كنت في النجف ـ أو حتّى في أماكن أخرى فلا فرق في ذلك ـ كان يُقال لي: لماذا لا تحضر المجالس الفلانيّة وتُشارك فيها؟! فكنت أقول: ماذا تُريد منّي أن أفعله في مثل هذه المجالس؟ هل تُريدني أن أذهب إلى هناك، وأظلّ جالسًا ساعة أو ساعتين أو ثلاثة ساعات إلى الصباح أنظر في تلك الجرائد التي صفّوها هناك، ماذا قال فلان وعلّان، وأشرب عشرة أو خمسة عشر فنجانًا من القهوة أو الشاي، ثمّ أنهض وأنا منهك من قلّة النوم، وأذهب لصلاة الصبح بهذه الحالة؟! هل تُريدني أن أمضي ليلتي بهذا النحو؟! وهل هذه طريقة جيّدة لتمضية الوقت؟! فهل هذا أفضل، أم أن أذهب للاشتغال بأعمالي، وأهتمّ بمشاكلي ومصائبي، وأرى من أكون وكيف أكون؟!

    

كلام عجيب لبعض أكابر النجف حول تقديم المصلحة أحيانًا على رضا الله تعالى

وكان يقول لي شخصيًّا: لقد كتبت عن ذلك في بعض مؤلّفاتي، وذكرت هناك أنّني عندما ذهبت إلى النجف، كان هدفي من ذلك هو أن أفهم من أكون، وما هي حقيقتي؛ أي أن أذهب إلى بحر معارف أهل البيت لكي أعثر على نفسي وحقيقتي وهويّتي، وأكتشف حقيقة الأئمّة وكلماتهم ومعارفهم، وما الذي ينبغي عليّ فعله، وما هو الطريق الذي يجب عليّ سلوكه، وما هو المسار الذي ينبغي عليّ طيّه حتّى أصل إليهم. وأمّا الآخرون، فلم يكونوا بهذا النحو؛ ولهذا فقد ذكر هذا الأمر بكلّ صراحة، حيث قال: كنت أتحدّث مع أحد أكابر عظماء النجف، وكنت أقول له بأنّه على الإنسان دائمًا أن يُرجّح رضا الله تعالى على جميع الأشياء، فأجابني قائلًا: لا، في كثير من الحالات، قد تقتضي المصلحة والمنفعة أن يتخطّى الإنسان رضا الله تعالى.. أنعم به وأكرم!! وا ويلاه!! أتكون نتيجة مجاورة عتبة أمير المؤمنين وتعلّم كلّ هذه الدروس هي هذه، بحيث يصل الأمر بالإنسان إلى أن يقول: قد تقتضي المصلحة والمنفعة أن يتخطّى الإنسان رضا الله تعالى؟!!
لكن، لا عجب في أن يصل الإنسان إلى هذه الحالة؛ لأنّ تلك الأجواء التي تحدّثنا عنها آنفًا قد توصل الإنسان إلى هنا بكلّ يسر وسهولة.. نعم، وقد ذكرت ذلك البارحة، حيث قلت بأنّ مثل هذه الأجواء قد تبلغ بالإنسان إلى الإمساك بالإمام الصادق عليه السلام، ووضعه في السجن، بل في إصطبل السجن! وتهديده بالإعدام وقطع رأسه إذا لم يُبايع قبل الصباح؛ أي إنّ تلك الأجواء تبلغ بالإنسان إلى هذا الحدّ! والسبب في ذلك أنّه لا يتوفّر على مُربّ، ويتحرّك من تلقاء ذاته، ويُبرّر لنفسه بأنّ التكليف الإلهي يقتضي ذلك! إلى درجة أنّه يظنّ بأنّ التكليف الإلهي قد يقتضي قطع رأس الإمام الصادق!! أفهل إنّ جبرائيل هو الذي أنزل عليك هذا التكليف؟! أو حضرة إسرافيل عليه السلام؟!
أفهل يقتضي التكليف قتل الإمام الصادق عليه السلام؟! دع عنك الإمام الصادق عليه السلام، ولنأت بشخص عادي، وعبد من عباد الله المؤمنين الصالحين؛ فلو كان لا يُريد المبايعة، فهو حرّ في ذلك، ولا يحقّ لك أن تتدخّل في أفعاله! فإذا كان أمير المؤمنين لا يُريد البيعة، فبأيّ حقّ تُقيّده بالحبال، وتجرّه إلى المسجد، وتُقطّع زوجته إربًا إربًا أمام عينيه؟!
فإذا كان لا يريد أن يبايع فاتركه وشأنه، فأنت فعلتَ ما تشاء، وجمعت الناس حولك، وصنعت تلك المسرحية، فما لك ولعليّ؟! فهو لم يشهر في وجهكم سيفًا، ولم يتعرّض لأحد منكم؟!
لا، لا يمكن لنا أن نتركه، فعليّ هذا له خصوصيةٌ وميزةٌ (فهؤلاء يفهمون الأمور جيدًا)، إنّ وجود عليّ يشبه العسل [يبتسم سماحة السيّد]، فمن يتذوّق العسل يتعلّق به! ولذا لا بدّ من حلّ الأمور معه، ولا يمكننا أن نتركه وشأنه؛ فإمّا أن نرميه في السجن، أو يبايع، أو نضرب عنقه بالسيف!
ولذا تراهم شهروا السيف على أمير المؤمنين عليه السلام قائلين: إمّا أن تبايع وإمّا أن نضرب عنقك؟! ألم يفعل عمرُ ذلك؟! شهر السيف وهدّد أمير المؤمنين به.وقد فعل أولئك [بنو الحسن] نفس هذا العمل بعينه.

    

التاريخ يكرّر نفسه

والأمر دائمًا بها الشكل! هو دائمًا كذلك، فالأفراد الذين كانوا في ذلك الزمان مثل الأفراد في هذا الزمان؛ إذ أنّ صفائحهم الدموية مثل صفائحنا الدموية، وكريات الدم البيضاء والحمراء التي كانت عند الناس في الزمان السابق مثلها عند الناس في زماننا، وتركيب بدنهم مثل تركيب بدن هؤلاء، ولا فرق بينهما إلّا أنّ أولئك كانوا يعيشون قبل ألف وأربعمائة سنة، وهؤلاء يعيشون في هذا الزمان، ولكن طريقة التفكير واحدة والمنطق واحد، والنفس واحدة، والحركة واحدة والهدف والمرام واحد، فالناس هم الناس، ولو رفعنا هذه الألف وأربعمائة سنة من البين لصار هؤلاء هم نفسهم أولئك الذين ذهبوا وبايعوا، بدون أي فرق.
ولو أنّنا أتينا بأولئك الذين كانوا يعيشون قبل ألف وأربعمائة سنة إلى زماننا هذا لفعلوا نفس ما يفعل هؤلاء، وليس الفرق إلا في الزمان، والزمان ليس بيدنا، بل بيد الله تعالى، فالله خلق أولئك في ذلك الزمان، وخلقنا نحن في هذا الزمان، فلا الطريق تغيّر ولا المسير تغير، ولا الرغبات النفسانية تغيّرت ولا الميول تبدّلت، بل كلّ شيء كما هو؛ فإنْ كان أولئك يطلبون الماء والهواء، فنحن كذلك مثلهم، وإذا لم نشرب الماء نموت، وإن كانوا يصابون بالأمراض وكان بعضها قابلًا للعلاج وبعضها لا، فالأمر كذلك الآن، والأهواء عندهم وعند الناس في زماننا هي نفسها، والرغبة في الأمور الدنيوية كطلب الرئاسة كانت موجودة في ذلك الزمان، وبقيت موجودة بعدهم، والآن هي موجودة، وستظلّ موجودة في المستقبل!
كلّ هذه الأمور واحدة بدون فرق، ومن اللافت للنظر أنّ الطرق التي يسلكها الإنسان لتحقيق هذه الرغبات والأماني والأهداف هي أيضًا واحدة ونفسها التي كانت، فكأنّها عبارة عن نسخة طبق الأصل عن تلك التي كانت في ذلك الزمان، دون أدنى تفاوت، غاية الأمر أنّهم كانوا يشهرون السيف في وجه علي عليه السلام ليبايع، والآن يشهرون المسدس، ولا فرق غير ذلك، إذ لم يتغيّر إلا نوع السلاح حيث صار أسرع وأقوى تأثيرًا، وأما التصرّف فواحد لم يتغيّر.
كانوا يقولون: إمّا أن تنضمّ إلينا وتدعمنا، وإمّا أن نخلق لك المشاكل والمحاذير. والآن كذلك.
كانوا يقولون: إما أن تنضمّ إلينا وتدعمنا، وإمّا أن نلصق بك الأمور الفلانية ونتهمك بها. والآن كذلك، بدون أدنى فرق. فالألوان هي نفسها، واللباس واحد، والتفكير واحد، والخطط والمؤامرات هي نفسها، كلها هي نفسها.
في ذلك الزمان كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول [لأصحابه]: اجلسوا جانبًا وتنحّوا، وفي هذا الزمان جاء الأعاظم وقالوا لنا: امضوا في طريقكم. كلام واحدٌ، ومرامٌ واحدٌ، ومنهجٌ واحد.

    

سرّ السعادة

نعم، في بعض الأحيان والموارد الخاصة يطرأ على الإنسان تكاليف خاصّة ويتصرّف بشكل خاصّ، ولكنّ المهم هو: أين يجب أن يكون قلب الإنسان وفكره؟ فالإنسان إذا كان يقوم بعملٍ ما، فهل يجب أن يكون قلبه متعلّقًا به أيضًا أم أن القلب يجب أن يكون في مكان آخر، ومتوجهًا لأمر آخر؟
وهذا ما بيّنه الشاعر في هذا الشعر حيث قال:
سر رشته دولت ای برادر به کف آر
                             وین عمر گرامی به خسارت مسپار
>[2]
[يقول: تعال واحصل على رأس السعادة ومنبع الفلاح ... ولا تترك هذا العمر يضيع هدرًا]
فماذا يعني «رأس السعادة ومنبع الفلاح»؟ يعني سرّ الطريق، وسرّ النجاح في السير والسلوك إلى الله، فهو يقول: تعال لأبيّن لك سرّ الفلاح ولأعطيك سر النجاح في طي الطريق إلى الله، هذا هو معنى «رأس السعادة ومنبع الفلاح» في هذا الشعر.
حسنًا، فما ذلك السرّ؟ هو يبيّنه في البيت التالي:
يعنی همه جا با همه کس در همه کار ... ... ...
[يقول في هذا الشطر: يعني في كل مكان ومع كل أحد وفي كل عمل ... (تأتي تتمة البيت)]
أمّا قوله: «في كل مكان» يعني أينما كنت، سواء كنت في إيران في قم أو طهران أو همدان أو تبريز أو كنت في غير إيران في بلدان أخرى، بشرط أن يكون ذلك في بلد يرضى الله عن السكنى فيه لا في بلدان الكفر، التي لا يرضى الله عن الإقامة فيها، وتؤدّي إلى انجراف الإنسان مع أجوائها، اللهمّ إلا أن يكون ذلك مع الإذن والإجازة.
وأما قوله: «ومع كل أحد» فيعني أنّ هذا الأمر يجري في التعامل مع كل أحد، فأنت تجلس مع هذا وذاك، وتتحدّث مع شخص آخر، وتتعامل مع شخص آخر، وتتفق مع فرد آخر.
و أما قوله: «وفي كل عمل» ، فيعني أن هذا يسري في كل عمل تقوم به أو شغل تؤديه؛ فسواء كنت عالمًا أو مبلّغًا للدين، أو كنت طبيبًا، فأنت تمارس الطبّ، ولكن يجب عليك وأنت تفعل ذلك ألا يكون فكرك في طبابتك فكرًا دنيويًا. فهذا هو سرّ السعادة.
يعنی همه جا با همه کس در همه کار ... پیدا ونهفته چشم دل جانب یار
[يقول في هذا الشطر: يعني في كل مكان ومع كل أحد وفي كل عمل سواء كان ظاهرًا أو خفيًا، يجب عليك أن توجّه عين قلبك في الخفاء والعلن باتجاه الحبيب
]
هذا هو المهمّ، وهذا هو سرّ السعادة وهو أن توجّه قلبك نحو الله، فعليك أن تحافظ على قلبك، وترى بأي جهة يتعلّق، وإلاّ فالأعمال كثيرة، ولكلّ إنسانٍ عمله، فهذا مزارع، وهذا صانع أحذية، وهذا ليس بمهمٍّ، بل المهمّ هو: أين القلب؟ هذا هو المهم.
ولذا أنا أقول دائمًا للرفقاء: عندما تعمل في أمرٍ ثقافيّ، أو في أمر خيرٍ، فلا تنظر إلى الأفراد الذين ليس عندهم هذه القدرات والإمكانات نظرة استصغار أبدًا، فربّما كان ذلك الشخص اتّصاله القلبي أشدّ مني أنا صاحب الموقعية، الذي يحترمه الجميع وبيده الرتق والفتق. ربما كان اتّصال ذلك الشخص العادي أشد وارتباطه أقوى، وهذا أمرٌ لا اطّلاع لنا عليه.
بحسب الظاهر، هذا السيّد له موقعية اجتماعية واحترام، وبيده الحلّ والعقد والرتق والفتق، ولكن هذا شأن الظاهر، حيث ترى أنّ السيد فلان هو المسؤول عن الأمر الفلاني، والكلّ يحترمه ويسلّم عليه ويوقّره، والكلّ يرى ذلك، وهو نفسه ربما كان سعيدًا بهذا التبجيل وربما لم يكن سعيدًا به، فنحن لا ندري، فهذا أمر ظاهريّ. وترى شخصًا آخر مسؤولًا عن القسم الفلاني، وبيده الأمور ... وهكذا. فدعك من هذا كلّه.. دعك من الأمور التي تراها هذه العين الظاهرية، وابحث عن حقيقة المسألة ولبّها، وما يبقى في آخر الأمر، يعني عليك أن تنظر إلى عين القلب إلى أين تتّجه وبأي شيءٍ هي متعلّقة؛ فهل القلب متعلّق باحترام الناس وسلامهم؟ إن كان كذلك فواهًا لك فقد خسرت.. أم أنّ الأمر ليس كذلك، بل عين القلب تتطلّع دائمًا نحوه «هو»، وأنّ هذا العمل كم فيه من الارتباط به «هو»، كم سبّب ذلك لك من الاتصال والارتباط؟ وكم حصل لك من التجرّد بسبب هذا العمل؟ وكم حصّلت من الانشراح والخفّة والنورانية؟ فهذا هو المهمّ، وهذا هو ما يجب أن نلتفت إليه ونهتمّ به، هذا هو «سرّ السعادة».
ومن هنا، فعلينا في هذا الشهر المبارك أن نحاول الحصول على سرّ السعادة، أي ذلك الأمر الذي هو موردٌ لرضا الله تعالى.

اللهمّ صلّ على محمّدٍ وآل محمّد

 


[1] ـ سورة الفرقان، من الآية 70

[2] ـ رباعيات أبي سعيد أبي الخير، الرباعية رقم 322.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی