معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1438 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1438هـ ـ الجلسة 5: ستاريّة الله وأولياؤه لعيوب العباد

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1438هـ

المحاضرة الخامسة:
ستاريّة الله وأوليائه لعيوب العباد

ألقيت في 10 شهر رمضان المبارك لعام 1438 هجري قمري

سماحة آية اللـه

السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه اللـه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البي دي أف تحميل ملف البي دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين

«ولو خفتُ تعجيل العقوبة لاجتنبته، لا لأنّك أهونُ الناظرين وأخفّ المطّلعين، بل لأنّك يا ربّ خير الساترين وأحكم الحاكمين وأكرم الأكرمين...»
يُخاطب الإمام عليه السلام الحقّ تعالى في هذه المقطع، ويقول: يا إلهي، لو كنت أخاف من تعجيل العقوبة، لما أقدمت على ارتكاب المعصية، ولما سقطت في تلك الأخطاء والعثرات، بل لَكنتُ أكثر حذرًا، وانتباهًا، ولما تعلّقت بتلك الأمور، ولما سعيت نحو الأشياء التي تطمح إليها النفس وتُثير طمعها، فتصبح أسيرةً لها بعد ذلك، جرّاء ذلك الطمع؛ وليس هذا لأنّك في مرتبة ضعيفة جدًّا من الاطّلاع والإشراف عليّ، ولا لأنّ اطّلاعك على أعمالي ضعيف، بل لأنّني أعلم بأنّك خير الساترين.

    

من مظاهر ستّاريّة الله وأوليائه لعيوب العباد: التغافل عنها وعدم إعلانها

ففي البداية، عندما أريد أن أرتكب خطأً، أنت لا تُظهر هذا الخطأ، ولا تُفشيه للناس، ولا تنشره بينهم؛ وبعبارة أخرى: إنّك لم تضع في غرفتي ومكتبي من يتنصّت عليّ! فأنت ساتر، وحتّى عندما تطّلع عليّ ـ وأنت فعلاً مطّلع عليّ ـ فإنّك تتغافل عنّي، ولا تقول: انظروا الآن إلى عبدي هذا يعصيني!
ولا يخفى أنّ الإنسان قد يرتكب معصية في العلن، فيراه الجميع؛ وحينئذ، لا معنى للستر؛ كأن يقول أحدهم كلامًا سيّئًا وفاحشًا لآخر أمام الناس، فيسمعه الجميع؛ وهذا عمل له تبعاته وعواقبه الخاصّة؛ ولهذا يُقال إنّ الكلام متى ما خرج من فم المتكلّم فإنّه يُصبح خارجًا عن سيطرته، ويصبح المتكلّم هو الواقع تحت سيطرة الكلام؛ فما دام الإنسان مطبقًا فمَه، فإنّ كلامه يكون تحت سيطرته، لكن حينما يخرج الكلام من فمه، فإنّه يُصبح واقعًا تحت سيطرة الكلام، من دون أن يكون له أدنى تحكّم في مدى انتشاره، وفي العواقب التي تترتّب عليه؛ ولهذا، على الإنسان أن يحذر كثيرًا؛ فينبغي عليه أن لا يتحدّث بكلّ شيء كيفما كان، وعليه أن لا يفعل أيّ شيء مهما كان.
ولكن أحيانًا أخرى، قد يُقدم أحدهم على معصية، ويرتكب خطأ في السرّ، وتصدر منه عثرة لا يعلم بها إلاّ الله تعالى؛ ففي هكذا حالات، هل من الصواب أن يأتي الإنسان الذي اطّلع بنحوٍ ما على هذه المعصية، ويُفشيها في كلّ مكان؟ فيكتب عنها في الجرائد، ويتحدّث عنها في الإذاعة والتلفاز، ويُشيعها في المجالس والمنتديات، ويقول: يا أيّها الناس، لقد ارتكب فلان معصية! أو يُخاطب ذلك المرتكب للمعصية: كن على حذر منّي، فأنا بدوري أعلم عنك بعض الأشياء! كأن نفترض مثلاً أنّه هو الوحيد من بين جميع الناس الذي اطّلع على تلك المعصية، مهما كانت الطريقة التي استعملها في ذلك! مع أنّه لا كلام لنا هنا عن الافتراء، فذلك له حسابه الخاصّ.
فهل هذا العمل صحيح؟! وهل كان نهج الإسلام ورسولنا وأئمّتنا على هذا النحو؟! وهل هذا هو الطريق الذي كانوا يُرشدون الناس إليه؟! وهل كانوا يقولون لهم: اذهبوا، وتجسّسوا على أعمال بعضكم، وسجّلوها، واحتفظوا بها في ملفّات، إلى أن يأتي يوم تحتاجون إليها فيه؟! أفهل كان أمير المؤمنين يتصرّف بهذه الطريقة؟! وهل كان عليه السلام في تلك السنوات التي حكم فيها يحتفظ بهكذا ملفّات؟! وهل كانت له غرفة خاصّة يحتفظ فيها بملفّ كلّ واحد، وتشتمل على أعماله بالتفصيل، فيُصنّف تلك الملفّات بحسب درجة أهمّيتها، حيث يكون بعضها سرّيًا، والآخر فوق درجة السرّية، والثالث...؟! لا، على الإطلاق! فقد كانت له غرفة بيضاء نقيّة، بل لم تكن حتّى ملوّنة بالأبيض، فكانت من طين وقشّ!! فكانت غرفته خالية تمامًا، والدفتر الوحيد الذي كانت تشتمل عليه هو دفتر حساب المداخيل والنفقات؛ فلم تكن تحتوي على أيّ شيء غير ذلك!
كان الخليفة الثانية مارًّا من أحد الأماكن، فانتبه إلى ارتفاع الأصوات من أحد المنازل، حيث كان الليل قد انتصف، فرأى بأنّ المصابيح مضاءة، فأراد أن يعلم ما الذي يجري، فأتى بسلّم، وتسلّق الجدار؛ وحينئذ، قال له أصحاب المنزل:
ـ من الذي أجاز لك تسلّق الجدار؟! ومن سمح لك بالقيام بهكذا فعل؟!
ـ لقد سمعتُ بعض الأصوات!
ـ وليكن! ما شأنك؟! وما الذي دفعك للقيام بأعمال كهذه؟!
هل الله تعالى هو الذي أمرك بالتجسّس على الناس؟ وهل وضعك الحقّ عزّ وجلّ قيّمًا على هؤلاء؟ وهل جعلك وليًّا عليهم؟! فصحيح أنّك تقلّدتَ الحكم ـ ولا كلام لنا الآن عن الطريقة التي استعملتها في ذلك ـ إلاّ أنّ وظيفتك تنحصر في إدارة الأمور الظاهريّة والعاديّة للناس؛ فمن الذي رخّص لك ـ والحال هذه ـ في تجاوز هذه الوظيفة، والتجسّس على أعمال الناس؟! هذا، مع أنّه ينبغي عليك أن تكون حريصًا أكثر من بقيّة الناس على مراعاة هذه المسألة، فكيف لك أن تتغاضى عن ذلك؟! فالمفروض أنّ الناس يتعلّمون منك أنت؛ فيتعلّمون من أخلاقك أسلوب العمل، والمتوقّع أنّ الأفراد الذين لهم منزلة خاصّة ويحتلّون مكانة مرموقة هم الذين ينقلون الثقافة إلى بقيّة الناس، ويُطلعونهم على الأسس والمبادئ [الصحيحة]، وإلاّ، إذا كان مقرّرًا أن يُربّى المجتمع على ثقافة أخرى ومبادئ أخرى، فمن الواضح ما الذي ستؤول إليه الأمور!

    

إشراف الله على عباده حضوري

أجل، إنّ الله تعالى ـ بحسب عبارة الإمام السجاد عليه السلام ـ يتّصف بثلاث صفات... ولكن قبل هذه الصفات يبيّن أولاً أنّ الله ليس أهون الناظرين، فليست نظارة الله ناقصة، بل إشرافه واطلاعه على الأمور إشراف واطلاع تامّان.
إنّ إشراف الله على أعمالنا وتصرّفاتنا إشراف حضوريّ وبالعلم الحضوريّ لا بالعلم الحصوليّ، فالعلم الحصوليّ هو لنا نحن، فنحن عندما نريد أن نعرف من الذي أتى من الإخوة وحضر ومن لم يحضر منهم، علينا أن نفتح أعيننا وننظر ونرى حتّى نعرف الحاضر منهم وغيره، وأما قبل أن نفتح أعيننا فهل يمكننا أن نعرف؟! لا يمكننا أن نعرف ذلك! لأنّنا بحاجة إلى وسيلة وواسطة للعلم. هذا هو العلم الحصولي والكسبي والاكتسابي الذي يرد الذهن من خلال العلل والأسباب والوسائط التي جعلها الله؛ من قبيل النظر والسمع وأمثال ذلك. ولدينا علم آخر ذكرناه لكم أمس، وهو العلم الحضوريّ، فهذا لا يحتاج إلى فتح العين. ألا تشعر أنت الآن بوجودك هنا؟! هل عرفت ذلك من خلال العين؟ يعني هل فتحت عينك فرأيت أنّ رجلك هنا ورجلك الأخرى هنا ويدك كذلك؟! حتى تعرف بأنّك موجود! ليس الأمر كذلك! هل السمع هو الذي أوجب لك العلم؟ كلا فالسمع لا يمكنه أن يشخّص أنّ هذا موجود أم لا، وكذلك الحال في سائر الحواس. بل إنّ نفس حضورك ووجودك هو الموجب لعلمك بنفسك، وهذا أقرب إلى الإنسان من أيّ شيء آخر؛ يعني أنّ أقرب شيء إلى عالم النفس هو العلم الحضوري، وبعد ذلك تأتي العلوم الحصوليّة ـ وإن كانت تتبدّل العلوم الحصوليّة إلى علوم حضوريّة كما أثبت في الفلسفة، لكن في بدايتها تكون حصوليّة ـ فهذه العلوم الحضوريّة التي تشعر بها لم تُفَض عليك من أيّ مكان، ولم يلقّنك إياها أحد، بل نفسك فهمتها وأنت شعرت بها، لم تتعلّمها من أحد، فحتى الطفل الرضيع لديه علم حضوري، ولو لم يكن لديه علم حضوري لما طلب الحليب وما افتقد أمّه، إذن هو يشعر بنفسه ثم بعد ذلك يطلب الغذاء، فإنّ نفس إحساسه بالجوع هو علم حضوري، وشعوره بالعطش هو علم حضوري، هذا قسم من العلم الحضوري.
علم الله بنا هل هو علم حصولي أم علم حضوري؟ وبعبارة أخرى: هل الله يفتح عينيه وينظر ويرى عبده جالسًا، وعبده الآخر يقوم بذاك العمل، وعبده الثالث يصلّي، وعبده الآخر يفعل ذاك الذنب، أو أنّه يرسل الملائكة فيبحثون في المسألة، حتى لا يأتي العبد ويخفي الحقائق ويقول له المسألة هي كذا وكذا، فالملائكة الذين يخبرونه يراعون الأمانة، ويوصلون الأخبار صحيحة، ولا يُخطئون في ذلك أبدًا...؟ بل نفس الملائكة علمهم علم حضوري، فكيف الحال بالنسبة إلى علم الله تعالى؟! فبطريق أولى علمه ليس حصوليّاً، ولا نريد الآن الدخول في هذا البحث.
إنّ الله تعالى هو مبدأ الوجود وحقيقة جميع الأشياء، ووجوده منشأ تمام الوجودات والقوالب، وعليه فاطّلاعه على المخلوقات هو اطّلاعٌ على آثار ذاته، وهذا هو العلم الحضوري. يعني عندما يعلم الله بنا ويُشرف علينا ويكون مسيطرًا علينا، لا يعني أنّنا بمرأى ومنظر منه تعالى، إذ ذاك أمر آخر، بل بمعنى أنّ اطّلاع الله على عباده هو اطّلاع على نفسه، فنفسه مطّلعة على نفسه ومحيطة بها ولديها إشراف عليها، وهو عالم بأفعال عباده وتصرّفاتهم وأقوالهم وخطوراتهم وجميع ما يصدر عنهم؛ لأنّ جميع هذه الأمور مترشّحة عن ذاته، ومن الخطأ استعمال كلمة «متولّدة عنه»، بل هي ظهور وبروز لذاك الوجود، فإنّ هذا الفاعل والعلّة الأولى والمبدأ مطّلع على أفعاله وآثاره.
مثلاً الاطّلاع الذي لديك عن حركاتك الآن، أو عن خفقان قلبك.. فأنت تعرف به جيدًا، وكذلك اطّلاعك على حركات رئتيك و معدتك ويدك ورجلك.. فأنت تعلم بتمام هذه الآثار علمًا حضوريّاً، وأما مسألة إحضارك لها [كصور ذهنية] فذاك شيء آخر، لكن نفس هذا الاطلاع نطلق عليه بأنّه علم حضوري. والله تعالى علمه من هذا القبيل، فهل يمكن أن تبقى أيّ مسألة مخفيّة عن أنظاره، مهما كانت ولو بمقدار رأس إبرة أو ذرّة؟! عندما تنظر إلى نور الشمس وترى الذرّات الموجودة في الهواء، فهذه الذرّات هي من آثار وجود الله تعالى. وهذا هو معنى الآية:: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْم‏﴾>[1]، يعني أنّ الله لا يغفل عن شيء أبدًا، ولا يغفو، ولا يجهل شيئًا، ولا يُتصوّر فيه حالة عدم الالتفات والتوجّه. أمّا أنا فإذا أردت أن أتحدّث مع أحد الأصدقاء فسوف أغفل عن الصديق الآخر الذي يتحدّث في الجانب الآخر، لأن عليّ أن أوجّه وجهي إليه لأرى ماذا قال! لكنّ الله في لحظة واحدة وفي نفس الوقت وفي طرفة العين وفي نفس الثانية يكون له إشراف وإفاضة على تمام مخلوقاته ومعلولاته وعلى جميع ما في عالم الوجود؛ سواء في مراتب الغيب أم في مراتب الشهادة، وسواء في مراتب المعنى أم مراتب المادّة، في تمام مراتب الوجود. فلا تبقى أيّ مسألة من مسائل عباده مخفيّة عليه، بل يعلم بها بهذه الكيفيّة.

    

السبب في ستّارية الله على عباده كونهم أثرًا من آثاره

في مثل هذه الظروف تنشأ حقيقة الستر والستّارية من وجوده وتظهر منه، لماذا؟ لأنّ هذه كلّها آثاره هو، فهل يأتي ويفضح أثرًا من آثاره أمام أثر آخر، أليس هذا من آثاره؟! إذا فرضنا أنّ هذا الأثر قام بفضح نفسه وفعل شيئًا مشينًا في الظاهر وأمام الملأ، فهو الذي فعل ذلك، وليس الله تعالى، و ليس له الحق أن يحمّل مسؤولية ذلك لله تعالى. أما إذا فرضنا أنّ أحدًا فعل ذنبًا أو خطأً في الخلوة، فهل يأتي الله وينشر ذلك على الملأ ويقول: أيّها الناس اعلموا أنّي أنا الله المطّلع على ضمائر الناس، أخبركم بأنّ هذا الإنسان الخبيث العديم المروّة والحياء قام أمس بهذا الفعل، وقبله بهذا الفعل، وبعد نصف الليل فعل كذا، ويعدّد له أفعاله؟! أو أن يضع عدّادًا على جبهة الإنسان يعدّ ذنوبه بحيث كلّما فعل فعلاً ظهر للآخرين؛ كالسرقة والكذب والافتراء.. فتظهر كلّها في ذاك العدّاد؛ لقد كذب اليوم مائة وخمسة وأربعين كذبة، كم سرِقةً سرق؟ أوه سرق ما لا يحصى! لأنّ السرقات الآن ليست بمقدار بسيط بل سرقات كبيرة لا نهاية لها.. كم مرّة افترى؟ لا نهاية لافترائه، كم مرة أراق ماء وجه مؤمن؟ يبدو أن الأعداد في كلّ الأفعال لا نهاية لها! يعني لا يمكن أن نقول ألف مرّة أو ألفين، بل هي مستمرّة إلى ما لا نهاية!
لم يضع الله عدّادًا كهذا على وجه الإنسان، ولو كان قد وضع ذلك لما تمكّن أحد من فعل شيء أبدًا، بل كان عدّاد الجميع في حالة الصفر؛ الكذب صفر، والافتراء صفر.. وهذا لا فائدة فيه ولا يرفع الإنسان؛ فما يكون بالإكراه لا يوجب التقدّم. لذا لم يضع الله تعالى هذا العدّاد، فما الذي فعله؟ قال لنا أنا إلهكم وأنتم آثاري، فإن قمتم بفعل صحيح ـ كما ورد في عبارة الإمام السجاد ـ أظهره للملأ وأبيّنه، أما فعل الخطأ فلا.
رحم الله أستاذي في الخطّ المرحوم السيد حسين ميرخاني، والذي يمكنني أن أقول بأنّه لا يوجد مثله في الخطّ، أعرف أستاذًا واحدًا من بين أساتذة الخطّ أرجّحه عليه، وإلا فلم أجد بين المتقدّمين والمتأخّرين مثله في الخطّ، هذا برأيي أنا. عندما كنت أذهب إليه في زمن الشاه، وكان لديه مدرسة لتعليم الخط باسم «دار الكتابة» قبل شارع سعدي، وكنت أذهب إليه مرّتين أو ثلاث مرّات في الأسبوع في الساعة العاشرة، وكان يحضر إلى المدرسة في الساعة التاسعة؛ أي قبل ساعة من الدرس، ولم يكن يجلس عاطلاً بل كان يشتغل بكتابة الخطوط، عندما كنا نذهب إليه لنكتب ونتعلّم.. كنت أرى منه حالة من الشوق والشغف، ثمّ كان يتناول تلك الأوراق التي كتَب عليها ـ بحدود سبعة أو ثمانية أو عشرة أوراق ـ ويضعها أمامي، ويخاطبني: فلان انظر! هذا نتاجي في هذه الساعة، وواقعًا عندما تنظر إليه تتعجّب ممّا عمله في هذه المدّة! وكنت أرى آثار الشوق والشغف في وجهه، وكأنّه يريد أن يبيّن هذه الآثار لهذا ولذاك، وهذا أمر طبيعيّ، فهذه الأمور ظهرت من نفس هذا الفنّان، وهو يريد أن يريها للآخرين. ولم يكن يعطيها لأحد إلا بعد الإصرار؛ حيث كنا نقول له نريد أن نحتفظ بهذه وأمثال ذلك حتى يعطينا إحداها.
أما إذا لم يستطع هذا الخطّاط العظيم أن يكتب كما يريد؛ بأن لا يكون حاله مساعدًا على ذلك، وكان نفسه يقول بأنّ الخطّ بحاجة إلى استقرار حال وصبر، وبالإضافة إلى ذلك بحاجة إلى شوق ورغبة، وكان يقول بأنّي إذا لم أكن في هذه الحالة يتغيّر خطّي ويصبح رديئًا! وإذا كان كذلك فلا يبرزه لأحد، ويقول لا تنظر إلى ذاك الخطّ، بل انظر إلى هذا! فتلك كتبتها في حالة اضطراب، أو كتبتها من باب التمرين حتى تستعيد يدي مرونتها، انظر إلى هذه فقط، لماذا ذلك؟ لأنّ كلّ شخص لديه حبّ لذاته وحبّ لآثار الذات ولوازمها، يريد أن يقول تعالوا وانظروا إلى حُسني، أما ذاك الخط غير الجيد ـ وإن كنت لا أستطيع أبدًا أن أكتب مثله مع خرابه ـ فلا، لكنّه يفرح بإظهار الخطّ الذي يعكس الفنّ الداخلي فيه، والذي وصل إلى الحدّ المطلوب، لذا يقول: تعالوا وانظروا إلى هذا الخطّ، أما ذاك فلا تنظروا إليه؛ فقد كتبته في حالة اضطراب وبسرعة.
جميعنا من هذا القبيل، كلّنا نريد أن نُظهر فنّنا ونُظهر حسننا وما يكون مورد إعجاب الآخرين ومدحهم، هذا الذي نحبّ أن نظهره، لا النقص الذي صدر منّا، وكذلك الحال في جميع الأمور.
إذا قمنا لصلاة الليل في ليلة، نحاول أن نبيّن للآخرين في النهار بأنّه حصل لنا توفيق للصلاة بضع ركعات مع أنّنا مبتلين بالمرض، لكن هل حصل في الليالي التي لا نقوم فيها لصلاة الليل أن نقول للآخرين بأنّنا لم نوفّق أمس لصلاة الليل؟! لا، بل نحاول أن نخفي ذلك الأمر! فإذا سئلنا هل وفّقت أمس لصلاة الليل؟! نجيب بتبسّم: الحمد لله يحصل لنا توفيق في كثير من الليالي لصلاة الليل، فيقال لنا نسألك عن الليلة الماضية.. هنا نرى أنّنا نفرّ من الجواب الدقيق! لماذا؟ لأنّنا نرى أنّ ذلك يبرز عيبنا.. وإن كان ينبغي على الإنسان أن يتجاوز عن هذا، لكن نبيّن ذلك من باب المزاح أو الجدّ، فخذوه كما شئتم، وعلى كل حال يحصل مثل هذا الأمر.

    

ضرورة اتّصافنا بصفة الستر في علاقاتنا مع الآخرين

إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يأتي الإنسان ويبيّن أخطاء الآخرين؟ هل حصل لنا أنّنا في تعاملنا مع الرفقاء والأصدقاء ـ ولا أريد الحديث عن الآخرين والغرباء ـ إذا سمعنا خبرًا عنهم، نسعى لسماع الخبر الجيّد عنهم، لا الأخبار غير المناسبة؟ هل حصل ذلك؟ وما هو حالنا بالنسبة إلى هذه المسألة؟ إذا وصلنا إلى الحالة التي إذا أراد شخص أن ينقل شيئًا عن أحد الأصدقاء فيه جهة تنقيص له، نمنعه من الإخبار ويحصل لنا حالة من الاشمئزاز الباطني بسبب ذلك.. فعند ذلك نعرف بأنّه يوجد هناك أمر جيّد ويحصل شيء بسبب ذلك. ولا قدّر الله، لا قدّر الله لا قدّر الله! إذا كانت حالتنا بحيث إذا سمعنا شيئًا عن أحد الرفقاء نريد أن نتجسّس عليه ونتعرّف على نقطة ضعفه، فعند ذلك علينا أن نعلم بأنّه قد قُرئت علينا الفاتحة، فلا داعي لأن نشتغل بكثرة الذكر والصلاة؛ إذ لا فائدة منها. ما هو هذا الحال؟ هذا حال شيطاني، وإذا حصل لك هذا الحال، فلا شكّ أنّ هناك أملًا في أن يشملك الله بعنايته ولطفه وكرمه ورحمته، لماذا؟ لأنّه خير الساترين. فالإمام السجّاد يقول لديّ يقين بأنّك خير الساترين، فكلّ ساتر في هذه الدنيا لا يصل إلى أدنى مراتب سترك، فأنت خير الساترين، وهناك مراتب للستر ، ولا أدري إن كان الوقت يسع لذكرها أو نتركها إلى ما بعد، لنبيّن كيف أنّ الله تعالى في أيّ مسائل وأيّ فضاء يستر على ذنوب عباده.

    

مشاهد من الستر والصفح والعفو

ولدينا في هذا المجال العديد من الروايات والأخبار وآثار الأولياء؛ والتي تفيد أنّ الله تعالى ساتر إلى هذا الحدّ، فهو إلى هذا الحدّ لا يدع عيب عباده يظهر أمام الملأ! فهل نحن كذلك واقعًا؟!
أعطاني أحدهم كتابًا وطلب منّي أن أقرأه وأرى ما فيه، وكنت أشعر بأنّ في هذا الكتاب إشكالات، وعندما فتحت الكتاب، وكانت في ذهني أمور معيّنة تجعلني لا أرغب في أن يتضمّن هذا الكتاب إشكالاً؛ لأنّه كلّما كان هناك فيه إشكال أكثر، كان الأمر أكثر تعقيدًا، وهذا الكتاب منتسب إلى هذا أو ذاك، فكنت أدعو الله أثناء قراءتي له أن لا أرى فيه إشكالاً، فقرأت الصفحة الأولى والثانية، فرأيت أنّ المسألة للأسف غير ذلك، لكنّ قلبي لم يكن يرغب في أن أجد إشكالاً، بل أرغب أن أنتهي من الكتاب بأقلّ قدر من الإشكالات. في حين أنّ بعضهم يقرأ الكتاب ويبدأ بالاستشكال على عبارة بسم الله، فكيف ستكون المسألة، فيعترضون بأنّ بسم الله ملتصقة ببعضها، وينبغي أن ترتفع خطين إلى الأعلى، يعني يبدؤون بالاعتراض من بسم الله إلى آخر الكتاب ـ والحال أنّه خال من الإشكال ـ فتبلغ الإشكالات التي فيه برأيه إلى درجة يقول معها بأنّه ينبغي أن لا يكون هذا الكتاب من أساسه. فهذا الحال شيطاني، والشيطان هو صاحب حال كهذا؛ بحيث لا يبرز المحاسن ويظهرها، بل على العكس من خير الساترين تمامًا، هو خير الفاضحين وخير المظهرين للخطأ والزلل، ومهما يأتي الكاتب المسكين بمبرّرات، لا يُقبل منه! ما هذا؟ هذا يجعل نفوس هؤلاء الأشخاص مغلقة وعليها قفل.
لكنّ النفس التي لها طريق إلى الله هي النفس التي لا قفل عليها، وهي النفس التي أزيل عنها هذا القفل، فهي تريد أن ترى الحُسن من الناس، تريد أن ترى من الأصدقاء والأقارب الشيء الجميل.. ما أبيّنه لكم هو من أسرار السلوك، ولا أقوله من نفسي إن شاء الله، بل ننقل لكم ما سمعناه منهم، ما رأيناه منهم بأمّ أعيننا!

    

موقف العلامة الطهراني من رجل ينتحل اسمه

كنت مرّة في محضر المرحوم العلامة، وكان أحد الأصدقاء الأطباء حاضرًا، و نقل قضيةً لسماحته، وذلك عندما كان يعاني من مرض القلب في آخر سنة من حياته، قال: هناك طبيب متخصّص في القلب، وهو يعيش في مشهد ـ سلّمه الله إن شاء الله ـ وهو يكنّ المحبّة والاحترام للحقير، وقد حكى لنا قصّة فقال: كنت في المنزل نصف الليل ورنّ هاتف المنزل، فقيل لي: هناك رجل يدعى العلامة الطهراني أصيب بنوبة وأدخل المستشفى في حالة طوارئ، فاضطربت، وكان هذا الطبيب من أطباء القلب الذين يعالجون المرحوم العلامة، وكان إلى آخر حياة المرحوم العلامة يبرز له المحبّة، وكان يهتمّ به، ولا زال إلى الآن عندما يراني يترحّم عليه ويذكره بالخير، ولديه العديد من القصص المعبّرة مع المرحوم العلامة، منها هذه القصّة. يقول اضطربت للخبر، ولبست ثيابي وخرجت مسرعًا إلى المستشفى، وأنا أحدّث نفسي بأنه قد أصيب العلامة بعارض...! والحاصل أنّي ذهبت ورأيت أنّ الذي أدخل المستشفى شيخ وليس سيدًا! واكتشفت أنّهم قالوا بأنّه العلامة الطهراني لكي آتي و أعالجه، فتأثّر هذا الطبيب كثيرًا من ذلك! لكنّه طبعًا قام بوظيفته الطبيّة وعالجه بالشكل المطلوب، لكنّه انزعج من سوء استغلال العنوان، هذا ما حصل بصراحة، وقال للمرحوم العلامة: لماذا ينبغي أن يحصل ذلك؟ ولو أخبروني بذلك، لمّا قصّرت بحقّه، فلو أنّهم أخبروني بحقيقة الأمر، لكنت أتيت لعلاجه، وما كنت لأمتنع من علاجه، فهو أحد عباد الله في النتيجة؛ فهل كان من الضروريّ أن يستعمل هذا الأسلوب لأتحرّك لمعالجته؟! كلاّ، بل كان يكفي أن يقال: إنّ الشيخ الفلاني قد أُدخل إلى قسم الطوارئ، فنرجو أن تأتي لعلاجه، ولو فعلوا ذلك، لذهبت لعلاجه، فما الداعي لمثل هذا الأسلوب؟!
أتذكّر جيّدًا أنّ السيّد العلاّمة رضوان الله عليه عندما سمع ما ذكره لنا صديقنا الطبيب، وما جرى في هذه الموضوع، أخذ يضحك بشدّة! فتعجّبنا وسألناه: سيّدنا، لماذا تضحك؟!
فقال: يا عزيزي، ما الإشكال في ما حصل؟! لقد جاء أحد عباد الله واستعمل عنواني واسمي من أجل علاج مرضه، فأيّ مشكلة في ذلك؟! لقد فعل ما فعل، فلماذا تنفعل أنت وتنزعج من ذلك؟! (ثمّ قال هذه العبارة الملفتة:) الحمد لله الذي جعل اسمي ولقبي وسيلةً لعلاج أحد الأفراد وسلامته، فنشكر الله تعالى على أنّه منحنا مثل هذا العنوان والاسم، وجعله وسيلة لقضاء حاجة هذا الإنسان.
إنّ السيّد العلامة لم يكن يتظاهر بهذا، بل كانت هذه حقيقة حاله ووجوده، لقد تبدّل وجوده إلى رحمةٍ صرفة. أمّا لو كنّا نحن مكانه، لغضبنا، وانفعلنا قائلين: (من هو هذا الشيخ؟ وما اسمه، حتّى أحاسبه على ما فعل، وأوّل شيءٍ سأفعله هو أنّني سأصعد المنبر وأذكر أنّ فلانًا قد استعمل اسمي أو اسم والدي بالطريقة الفلانية)، بل إنّنا نحوّل هذا إلى تكليفٍ واجبٍ علينا، حيث نقول: إنّ تكليفنا هو أن نفعل هذا [أن نشهّر بهذا الشخص وننتقده]؛ حتّى يكون ذلك رادعًا لغيره عن ارتكاب مثل هذا الخطأ، وبالتالي فهذا داخل تحت وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... وهكذا نصنع من الحبّة قبّة، ونستعمل لذلك الفقه والدين ونلصق به التكليف الشرعي، ثمّ نشرع بالتشهير بهذا الرجل وإهدار كرامته.
حسنًا، أيّ واحد من هذين الطريقين والأسلوبين هو طريق أولياء الله؟ وأيّهما هو المنهج الذي يرضى الله عنه؟ وأيّهما هو الذي ينطبق مع «خير الساترين وأرحم الراحمين»؟ أيّهما؟!
إنّني عندما أقول: يجب علينا أن نسلك طريق أولياء الله؛ إنّما لهذا السبب أقول ذلك. إنّ هاذين الطريقين والمنهجين قد تبيّنا لنا؛ فأنت بإمكانك أن تشهّر بالرجل وتهدر ماء وجهه، ثمّ تلصق به اسم «التكليف الشرعي»، [كما يمكنك أن تعفوا عنه]، وهذا يشبه كثيرًا ما حصل مع أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين، عندما فعل ذلك الرجل فعلته القبيحةة[2]، حيث إنّ أمير المؤمنين كان أمام خيارين: أن يضربه بالسيف ويقطّعه إربًا، وأن يعرض بوجهه عنه، ويقول: إن كرمي وعزّتي ومقام الرأفة والرحمة التي جعلني الله تعالى مظهرًا لها تأبى أن أفعل ذلك، فهو وإن كان عدوّي، ولكنه في النهاية رفع يده مستسلمًا وفعل ما فعل في ذلك الوضع، فهل يليق بي أن آتي وأقتله؟ هذان طريقان، يمكن للإنسان أن يختار هذا الطريق أو ذاك؛ فأي الطريقين سنختار نحن؟

    

تعامل الإمام الحسين عليه السلام مع جيش الحرّ

لقد بيّنوا لنا كلا الطريقين، فأمير المؤمنين عليه السلام قد بيّن لنا طريقه ومنهجه، والآخرون بيّنوا لنا أسلوبهم ومنهجهم، والإمام الحسين عليه السلام قد بيّن لنا طريقه أيضًا، وذلك عندما لاقى الحرّ وجيشه أوّل مرّة وكانوا قد أشرفوا على الموت من شدّة العطش، ورأى الإمام عليه السلام أنه لو تركهم ساعةً واحدةً فإنّهم سيموتون من العطش والجوع، وأنهم موشكون على الهلاك، حتّى أن حالة بعضهم كانت صعبة إلى درجة أنّه لم يكن قادرًا على شرب الماء لضعفه، بحيث أنّ الإمام عليه السلام كان يضع الماء في فم الواحد منهم، ويقول:: «أنخ الراوية»>[3]، هذا والإمام عليه السلام كان يعلم أنّه إذا أعطاهم الماء اليوم فإنّهم سيقفون غدًا في وجهه ويتحدّونه بكل وقاحة!
حسنًا، لو كنّا نحن مكانه، فماذا كنّا سنفعل؟ كنّا سنقول: إنّ هذا عدوّنا، وهو على الباطل بينما نحن على الحقّ، وهذه أفضل فرصةٍ للقضاء عليه، ثمّ نأتي لذلك بتكليف شرعي، ونتمسّك بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونقول: إنّ دفع العدوّ واجبٌ، والقضاء على الباطل من أوجب الواجبات، وهؤلاء قد جاؤوا ووقفوا بوجهنا وقطعوا الطريق علينا، وما أسعدنا بهذه الفرصة التي أتيحت لنا؛ فلا ينبغي أن نضيّعها أبدًا، ونأتي على ذلك بدليل شرعيّ، لا أننا نقول الكلام هكذا بدون دليل.
لكنّ الإمام الحسين عليه السلام يقول لنا: إنّني أعرف دليلكم الشرعي هذا، بل أعرف ألف درجة أعلى من ذلك، ولكنّ مقام الكرامة والرأفة والرحمة الذي تبلور في وجودي يغسل ألف دليلٍ من أدلّتكم الشرعيّة ويكنسها ويضعها جانبًا، فالآن هناك عبدٌ من عباد الله جاء جائعًا عطشانًا، وهو حتّى الآن لم يشهر بوجهي سيفًا ولا حاربني، فأنا أنظر إلى وضعه الفعلي، [وأتعامل معه على هذا الأساس].
وأمّا وضعه في يوم عاشوراء فهو خاصٌّ بيوم عاشوراء؛ فهناك سأحمل السيف بيدي، وعندما يصل دوري في القتال بعد شهادة جميع أصحابي وأهل بيتي، فسوف أقاتل وأحارب وأؤدّي وظيفتي طالما أنّ عندي القدرة والاستطاعة؛ لأنّ هذا الرجل الآن قد تصدّى لمواجهتي وقتالي، وعندما أضعف عن القتال بسبب رمي السهام وضرب السيوف فإنني سوف أسقط على الأرض.
ولكن ماذا عن الآن؟ ما هي وظيفتي الآن؟ ههنا يقول جناب العارف الجليل مولانا:
صوفی ابن الوقت باشد ای رفیق
                             نیست فردا گفتن از شرط طریقق[4]

[يقول: الصوفيّ ابن الوقت يا رفیق *** وقول «غدًا» لیس من شرط الطريق]
إنّ هذا هو معنى «ابن الوقت»، فالآن في هذه الحالة وفي هذا الوضع، جميع هؤلاء من عباد الله، ويجب أن نسقيهم الماء ونرويهم، وأمّا ما يحصل غدًا فما أدراني به ولا علاقة لي به، فليحصل ما يحصل، وأمّا أنّه سيكتسب غدًا القدرة ويحاربني بها، فهذا لا يعنيني الآن، [فإن قلت لسيّد الشهداء:] هذا الرجل سيصبح قويًا غدًا وسيشهر سيفه في وجهك؛ هذا السيف الذي تراه الآن مغمدًا سوف يشهره في يوم عاشوراء ويقاتلك به!
[سيقول لك:] فليشهره، ما يحصل في عاشوراء خاصّ بيوم عاشوراء، والآن هو الآن، والآن ليس يوم عاشوراء، بل يفصلنا عن يوم عاشوراء خمسة عشر يومًا أو اثنا عشر يومًا، فعليّ أن أنظر ماذا ينبغي أن أفعل الآن؟
هذا هو طريق سيّد الشهداء عليه السلام، وهو يريد أن يعلّمنا نحن ذلك.
وهكذا، تجد أنّ نفس الحرّ هذا يأتي في يوم عاشوراء قائلًا: أنا تائب! فماذا يقول له الإمام وكيف يتصرّف معه؟ يتعامل معه على أساس «ابن الوقت»، ويقول له: إنْ كنت تراجعت وتبت، فتعال، وأمّا الماضي فقد مضى وانتهى، ولم يعد مهمًّا، بل المهمّ هو من أنت الآن؟ وما أنت الآن؟ وما هي حالتك الفعليّة الآن؟ هذا هو المهمّ عندي!
هل اتّضح الأمر؟ هذا المقام هو مقام العبوديّة؛ فهو لا يملك شيئًا، ولذا تراه لا ينظر إلى ماضي نفسه؛ لأنه لا يرى نفسه، ولا يلتفت إلى المستقبل لأنّ المستقبل ليس في يده، بل ينظر إلى الآن.. ينظر إلى هذه اللحظة الفعليّة ليرى ما الذي يريده الله منه الآن.

    

عفو النبيّ صلّى الله عليه وآله عن أبي سفيان

هكذا كان أمير المؤمنين عليه السلام أيضًا، وهكذا كان الإمام الحسن عليه السلام، وهكذا كان النبيّ صلّى الله عليه وآله ايضًا؛ فماذا فعلوا بالنبيّ؟! وما أعظم المصائب التي صبّوها على رأسه! أوه! ما أكثر الأذى الذي لحق به كالحصار في شعب أبي طالب وغيره، وكلّ ذلك كان وراءه أبو سفيان، ولكن عندما فتح النبيّ صلّى الله عليه وآله مكّة ماذا فعل به؟! لو كنّا نحن مكانه لقتلناه فورًا ولشققْناه إلى نصفين؛ لأنه من الواضح أنّ هذا الإنسان لن يصبح مثل سلمان! ولذا فمن الأفضل أن نقضي عليه من الآن؛ حتّى لا يأتي في المستقبل ويختلق الحيل والألاعيب.
ولكنّ النبيّ لم يفعل ذلك؛ لأنّ النبي «ابن الوقت»، فهو ينظر إلى الآن، فالآن ماذا يجب أن يفعل؟ الآن عندما فتح النبي مكّة ودخلها طبّق قاعدة: «الإسلام يجبّ ما قبله!»»[5]، يعني الإسلام يزيل ما قبله وينفيه ويستره، فمهما كان فعل هذا الرجل، أخرجني من مكّة، وحاصرني في شعب أبي طالب، وهناك فقدت عمّي أبا طالب، كما فقدت زوجتي السيّدة خديجة عليها السلام، ورماني بالحجارة وآذاني بألف نوع من الأذيّة... نعم، لقد صدر كلّ هذا منه، ولكنّ النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم يتعامل معه على قاعدة «يجبّ ما قبله» ، فيتناسى ذلك ويضعه جانبًا، ويقول له: أنت الآن جئت تقول: أنا أسلمت، ونحن نقبل إسلامك، بل ونعطيك ميزة إضافية بأن نجعل دارك مأمنًا لمن يدخلها من المشركين، وسنعلن بأنّه: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.»»[6]
أنا أتصوّر أنّا لو كنّا بدلًا من أبي سفيان لكان علينا أن نذوب من الخجل وندخل تحت التراب، فكم يتطلّب موقفه من الوقاحة! وكم هو غليظ الجلد! فلو كان تمساحًا لذاب جلده من الخجل، فهذا النبيّ بعد أن وصل إلى السلطة والسيطرة وبلغ مقام أهون الناظرين، فصار ناظرًا ومسيطرًا، وحصل على الولاية وأمسك بالحكومة، ويمكنه أن يفعل ما يشاء، وأن يأتي بسرعة ويقول تعالوا [لأقطع أعناقكم] كما تفعل سائر الجيوش، من المغول وغير المغول؛ فماذا فعل هؤلاء؟! ولكنّه بدلًا من أن يصفّهم أمامه ويضرب رقابهم، يأتي وماذا يصنع مع هذا الرجل؟ مع أبي الفساد لهذه القرية وللإسلام، ثمّ ما قام به من فساد وأحداث، فقد جاء ابنه معاوية ثمّ يزيد وصنعوا ما صنعوا ممّا لا يمكن تصوّره، لكنّ النبيّ يأتي وفي مثل تلك الظروف ويقوم بهذا العمل [من العفو]، فهو يريد أن يقول لنا: اصنعوا ذلك أنتم أيضًا، فإن كنتم أتباعًا لي فعليكم أن تقوموا بذلك، وإن كنتم أتباع أبي سفيان ـ فأبو سفيان مسلم ـ فعليكم أن تتّبعوا إسلام أبي سفيان، ذلك الإسلام الذي يأتي منه معاوية والإسلام الذي يأتي منه يزيد، ويأتي منه هشام بن عبد الملك، ذلك الإسلام يأتي منه هارون والمأمون! فهذا أيضًا نوع من الإسلام. فهم كانوا يصلّون أيضًا، ويخطبون على المنبر، ويصومون، أمّا الإسلام الذي أبيّنه فهو إسلام أجعل فيه بيت أبي سفيان مأمنًا، وأعفو عن الجميع. أقول مهما كان الماضي فعليك أن تفتح صفحة جديدة وتقرّر كيف تريد أن تكون؟ لقد كان هؤلاء يعرفون النبيّ جيّدًا، كانوا يعرفونه جيّدًا ويعرفون من يقف في مواجهتهم. لو لم يكونوا يعرفون النبيّ لما بلغوا في الجرأة عليه إلى هذا الحدّ، لقد رأَوا من هو النبيّ، فقالوا: لا بأس فلنجترئ عليه ولنقم بما نشاء فهو النبيّ.

    

قصّة العفو عن وحشي قاتل حمزة

كانوا يأتون إلى النبيّ ـ نعم هم الذين ارتكبوا معه آلاف الأخطاء ـ فلمّا كانوا يأتون إليه كان يطأطئ رأسه خجلًا حتّى لا تقع عينه على أعينهم، فكان يطأطئ رأسه، ثمّ يعفو عنهم. وفي التاريخ الكثير من هذه الأحداث؛ ففي يوم من الأيّام كنت أطالع في مخطوطات المرحوم الوالد حيث ينقل عن العلامة الطباطبائي أنّ النبيّ قد أهدر دم وحشيّ، أي أنّ كلّ من يراه فهو مجاز في أن يقتله. والعجيب أنّه ـ وواقعًا حين نقول أنّهم كانوا يعرفون النبيّ، كلّهم كانوا يعرفون النبيّ، ويعرفون أمير المؤمنين، يعرفون الأصحاب الذين كانوا على ارتباط معه، ففي النهاية الأواني المترابطة يؤثّر بعضها في بعض... ـ في النهاية ضاقت الدنيا في وجه وحشي، فجاء متخفيًّا إلى أمير المؤمنين، والعجيب أنّ أمير المؤمنين كان عليه أن يقتله على الفور؛ ألم يهدر النبيّ دمه؟! ولكنّه لم يفعل ذلك، لأنّ النبيّ لم يقل أنّ قتله واجب بمجرّد رؤيته، بل هو يقول: يمكن أن يقتله. ثمّ أمير المؤمنين هو مثل النبيّ وهو نفس النبيّ، فيأتي إليه: يا عليّ ماذا أصنع؟ لقد أمر النبيّ أمره، ولم أقدر إلا على الوصول إليك!
ففي النهاية هؤلاء الأنجاس كانوا على علم بالأوضاع ويعرفون أين يذهبون، فلو أنّهم جاؤوا إلى عمر لحمل السكّين على الفور وضرب بها أمّ رأسه لينفجر ستة شُعَب، ولكنّه يأتي إلى أمير المؤمنين ويقول: إنّه كالنبيّ، فالذي أمر ذاك الأمر أمر به عن علم ودراية، وهذا مثله ويعلم حقيقة الأمر، ويعرف واقع الحال. ثمّ يقول: يا عليّ أنت أملي! فيقول الإمام: لا بأس ما دمت وصلت إلى هنا فأنا أدلّك على طريق، فاذهب وأخف نفسك حيث يتردّد النبيّ واقرأ له هذه الآية: ﴿قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئينَ﴾﴾[7] ومضمونها أنّ الله جعلك اليوم متغلّبًا علينا وجعلنا تحت سلطتك وتحت اختيارك.
يقول أمير المؤمنين أنّه كان من عادة النبيّ أنّه إذا قرأ أحد عليه آية فإنّه يقرأ الآية التالية لها، وهي هنا: ﴿قالَ لا تَثْريبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ﴾﴾[8] فقد غفر الله ذنبك وليس عليك من بأس، فما إن يقرأ النبيّ هذه الآية فستكون قراءته بمثابة الحكم بالعفو. فقرأ وحشي الآية الأولى، وقرأ النبيّ الثانية وقضي الأمر، ونسخ الحكم السابق.
ففي الواقع نحن لدينا في الإسلام أنّ مقام الرأفة ومقام الرحمة غالب على مقام الحكومة ومقام الغضب ومقام القهر ومقام الانتقام، وإن كان ذلك الانتقام حقًّا وحقيقيًّا. فقد قتل حمزة عمّ النبيّ وبتلك الحالة وبتلك الكيفيّة، ولكن أنتم ترون أنّ النبيّ رحمة للعالمين، وهذه الرحمة تأتي وتتغلّب على جانب الانتقام والقصاص.
وكنت أودّ في تتمّة الحديث أن نتحدّث عن بعض المسائل التي يمكن أن تكون مقبولة من ناحيّة علميّة وفقهيّة، ولكن لم يبق وقت، وإن شاء الله إذا وفّقنا الله نترك ذلك إلى فرصة أخرى.
نسأل الله أن يوفّقنا في هذا الشهر المبارك لإدراك هذه الحقائق وفهمها والعمل بها، فإنّها طريق الأولياء العظام ونهجهم، وسائر الطرق تنتهي إلى الباطل، ولا تصل بالإنسان إلى مكان، أو على الأقلّ تؤدّي إلى توقّف الإنسان، فلو لم تؤدّ في أحسن الأحوال إلى المعاصي والانحرافات وأمثال ذلك، فإنّها على الأقلّ تسبّب وقوفه وعدم تكامله وعدم حركته.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.

 


[1] ـ سورة البقرة، من الآية 255.

[2] ـ إشارة إلى ما فعله عمرو بن العاص عندما كشف عورته لينجو من قتل أمير المؤمنين عليه السلام له. (المترجم)

[3] ـ قال الشيخ المفيد في الإرشاد ج2، ص 78: وجاء القوم زهاء ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين عليه السلام في حر الظهيرة ، والحسين وأصحابه معتمون متقلدوا أسيافهم ، فقال الحسين عليه السلام لفتيانه : " اسقوا القوم وأرووهم من الماء ، ورشفوا الخيل ترشيفًا " ففعلوا وأقبلوا يملؤون القصاع والطساس من الماء ثم يدنونها من الفرس ، فإذا عبّ فيها ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا عزلت عنه وسقوا آخر ، حتى سقوها كلها . فقال علي بن الطعان المحاربي : كنت مع الحر يومئذ فجئت في آخر من جاء من أصحابه ، فلما رأى الحسين عليه السلام ما بي وبفرسي من العطش قال : " أنخ الراوية " والراوية عندي السقاء ، ثم قال : " يا ابن أخي أنخ الجمل " فأنخته فقال : " اشرب " فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء ، فقال الحسين عليه السلام : " اخنث السقاء " أي اعطفه ، فلم أدر كيف أفعل ، فقام فخنثه فشربت وسقيت فرسي.
يقصد الراوي أنّ الإمام طلب منه أن يُجلس الجمل فقال له أنخ الراوية فلم يفهم مراده، لأنّ معنى الراوية عند الكوفيين آلة للسقاء، ولا معنى لإناختها، وعند الحجازيين الراوية هي الناقة التي يستسقى عليها، فأعاد عليه الإمام حتّى فهم ما يريد. وأعانه في تناول السقاء وعطفه حتّى شرب. (م)

[4] ـ جلال الدین الرومي، مثنوي معنوي، الدفتر الأول، ص 7.

[5] ـ الخلاف للشيخ الطوسي، ج 5، ص 469

[6] ـ تاريخ الطبري، ج2ص 331

[7] ـ سورة يوسف، الآية 91.

[8] ـ سورة يوسف، الآية 92.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی