معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1438 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي 1438 هـ ـ الجلسة 7: معنى الذنب ومعنى كون السالك لا يذنب

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1438هـ

المحاضرة السابعة:
معنى الذنب ومعنى كون السالك لا يذنب

ألقيت في 13 شهر رمضان المبارك لعام 1438 هجري قمري

سماحة آية اللـه

السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ حفظه اللـه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البي دي أف تحميل ملف البي دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بِسْمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيِمِ
وَصَلَّى الله عَلَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا أَبِي القَاسِمِ مُحَمَّدٍ
وَعَلَى آلِهِ الطَيِّبِينَ الطَاهِرِينَ وَاللَعْنَةُ عَلَى أَعْدَائِهِم أَجمَعِينَ

    

 

معنى الذنب ومعنى كون السالك لا يذنب

«وَلَوْ خِفْتُ تَعْجِيلَ الْعُقُوبَةِ لاجْتَنَبْتُهُ، لا لِأَنَّكَ أَهْوَنُ النَّاظِرِينَ وأَخَفُّ الْمُطَّلِعِينَ، بَلْ لِأَنَّكَ يَا رَبِّ خَيْرُ السَّاتِرِينَ وأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وأَكْرَمُ الْأَكْرَمِين»
لو كنت أخاف من تعجيلك للعقوبة يا إلهي ويا ربّي، لاجتنبت المعصية حتمًا؛ لأنّ الإنسان عندما يخاف، لن يعود له أيّ مبرّر لارتكاب الذنب؛ وهذا ليس لأنّك في مرتبة ضعيفة جدًّا من الإشراف، أو لأنّه لا قيمة لاطّلاعك على أعمالنا وتصرّفاتنا وسلوكنا، بل لأنّك ساتر، ولأنّك أفضل الساترين، ولأنّك في مقام الحكم والقضاء أحسن الحاكمين، ولأنّك تحتلّ المرتبة العليا من العظمة على مستوى الكرم.

    

كيفيّة ترتيب الإمام السجّاد للمراتب الثلاث من تعامل الله مع العبد

وإنّه لعجيب كيف أنّ الإمام عليه السلام ذكر هذه المقامات الثلاثة الواحدة تلو الأخرى، ورتّب كلّ واحدة منها على الأخرى؛ ففي البداية، نجده يُخاطب الحقّ تعالى قائلاً: يا إلهي، أنت خير الساترين، ثمّ يقول: أنت في مقام القضاء أحكم الحاكمين، وبعد ذلك يقول: أنت في مقام العفو والصفح صاحب المرتبة العليا من الكرم؛ وقد جاءت هذه الأمور الثلاثة مترادفة، حيث سنتحدّث لاحقًا عن هذا الموضوع إذا وفّقنا الله تعالى لذلك.

    

معنى كون السالك لا يذنب بل يشتبه

ذكرت في الليلة السابقة للرفقاء أنّ مسألة الخطأ والتخبّط هي مسألة عاديّة تحصل للإنسان بشكل طبيعي، وقد حضرت في يوم من الأيّام عند المرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله عليه في جلسة خاصّة، حيث استدعاني بنفسه وقال: ليحضر فلان؛ لي معه شغل! فبقيت عنده لساعة من الزمان، وكان من كلامه أن قال لي: إنّ السالك لا يُذنب، مع أنّه قد يصدر منه خطأ أو اشتباه، وعندما يتراجع، فإنّ الله تعالى يتجاوز عنه. ففي تلك اللحظة، لم ألتفت كثيرًا إلى هذه المسألة والقضيّة، لكنّني عندما فكّرت فيها لاحقًا، تبيّن لي أنّها أمر عجيب جدًّا، فما معنى أنّ السالك لا يُذنب؟ وكيف نُفسّر تلك الأمور التي نرتكبها ونرى الآخرين يرتكبونها؟ وماذا نُطلق على هكذا أفعال؟ وإذا كان من المقرّر ألاّ تكون ذنوبًا، فماذا ستكون إذن؟ فأحيانًا، قد يصدر من الإنسان كذب، والكذب كذب من دون وجود أيّ فارق، وهو عمل محرّم؛ وأنت عندما تكذب تكون قد ارتكبت حرامًا مهما يكن المورد الذي كذبت فيه، بل إنّ بعض الموارد تكون حرمة الكذب فيها أشدّ؛ فلو كذب أحد المتديّنين، فهل تكون حُرمة كذبه أشدّ؟ أم كحُرمة كذب فرد لا أبالي؟ أيّهما تكون حُرمة كذبه أشدّ؟
وكذلك الشأن لو اختلفت درجات إدراك الناس لهذه المسألة؛ فإذا أخذنا كمثال شابًّا يبلغ من العمر سبعة عشرة سنة، أو ثمانية عشرة، أو ستّة عشرة، أو عشرين سنة؛ فلو جاء هذا الشابّ وتكلّم بشيء، وصدرت منه كذبة، فهل يكون هذا أخطر، أم أن يأتي رجل يبلغ من العمر خمسين أو ستّين سنة، فيكذب؟! ولا يخفى أنّ كذب الشابّ يُعدّ بدوره من المعاصي، وليس أنّه لا ينطوي على أيّ ذنب، لكن، أيّ تلك الكذبتين تفوق الأخرى من حيث درجة الكدورة؟ وأيّهما تكون أقرب من تلك الحقيقة الظلمانيّة؟ وأيّهما تنطوي أكثر على تلك الظلمة والكدورة المقارنة لهذا العمل؟

    

معنى الذنب والثواب والعقاب على العمل

إنّ حساب المعاصي يعتمد على مقدار الكدورة التي تشتمل عليها، وحينما يرتكب الإنسان معصية، تجده يحسّ بكدورة في نفسه، وتخيّم ظلمة على روحه؛ فهذه الظلمة هي الذنب ذاته؛ والمراد من الظلمة حالة الانقباض التي تحصل للنفس عند حديثه بمثل هذا الكلام [الكذب]، أو أثناء ارتكابه لمعصية ما؛ وهذا ما يُطلق عليه اسم الذنب، في مقابل الثواب الذي يُطلق على حالة الانبساط التي تحصل للإنسان. فالثواب ليس هو أن تأخذ شيئًا بعين الاعتبار أثناء أدائك لأعمال الخير، وحينما تُؤدّي هذه الأعمال بشكل صحيح، يقول لك الحقّ تعالى: حسن جدًّا!، فيفتح دفترًا، ويُسجّل فيه تلك الأعمال، ثمّ يقول لك: أنا مدين لك يوم القيامة بالأجر الكذائي الذي عُيّن لك هناك مقابل هذه الأعمال.. لا! فالثواب هو نفس الحالة التي حصلت عليها في تلك اللحظة، لا شيء آخر!
وهذه الحالة تمتدّ وتمتدّ إلى أن تصل إلى يوم القيامة، فتتحوّل إلى ذلك الأجر الذي تُشاهده هناك؛ وهكذا الأمر بالنسبة للمعصية؛ فحينما ترتكب ذنبًا ومعصية، لا يأتي الحقّ تعالى ويفتح دفترًا، ويأمر الملائكة الجالسين في الجانب الأيسر بكتابته، ثمّ يُغلق الدفتر إلى يوم القيامة، فيُحاسبك هناك! لا.. فالمعصية هي نفس حالة الانقباض والكدورة، والتي يطّلع عليها أصحاب البصائر بنظرة واحدة!

    

قصّة أمر أحد العرفاء تلامذته بالذهاب إلى جهنّم وعدم

أمر أحد العرفاء تلامذته بالذهاب إلى جهنّم، ليطّلعوا على ما أعدّه الحقّ تعالى لأهلها هناك، ثمّ يعودوا ويقصّوا عليه ما رأوه فيها؛ فكلّ من ذهب وعاد، قصّ عليه شيئًا وفقًا لمشاهداته الخاصّة، وللأشياء التي قرأ وسمع عنها، سوى أحدهم قال له: أنا لم أر هناك شيئًا، أنا لم أشاهد أيّ شيء في جهنّم، بل إنّ الله تعالى لم يخلق أيّ شيء باسم جهنّم هناك! فقيل له: «لماذا؟» قال: «نحن الذين نصطحب معنا جهنّم إلى ذاك العالم، وإلاّ، فإنّ الله تعالى لم يخلق هناك أيّ شيء!» فلا يوجد هناك واد باسم «ويل» مملوّ بالحطب وغير ذلك من الأشياء، بحيث يكون كلّ ذلك الآن في انتظار قدومنا إلى هناك، فنسمع نداء ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتقُولُ هَلْ مِنْ مَزيد﴾ (سورة ق، الآية 30).. يُقال لجهنّم: هل امتلأت؟ فتقول: هل تمزحون؟ لقد سكبتم فيّ أربعة أفراد ونصفف[1]، ثمّ أتيتم لتسألوني: هل امتلأت؟ ناولوني المزيد، فمتى بان لكم أنّني امتلأت؟!!
فكان ذلك التلميذ يقول: لقد ذهبت إلى ذاك العالم، فلم أر شيئًا، ولم يخلق الله تعالى جهنّم، بل نحن الذين نصطحب... والحقّ هو هذا؛ أي أنّ ما نصطحبه معنا إلى ذاك العالم هو جهنّم، حيث إنّ تلك الحالات التي نمتلكها تستمرّ معنا بعد أن نرحل إلى ذلك العالم، ونطوي عوالم البرزخ، إلى أن نصل إلى يوم القيامة؛ فلا تتوهّموا أنّ الإنسان يطهُر في عوالم البرزخ.. لا! بل إنّ تلك الحالة من الكدورة والظلمة والانقباض والانزعاج التي تُخيّم عليه تستمرّ معه إلى يوم القيامة.

    

علّة عدم تعيين الخليفة الثاني لأمير المؤمنين عليّ عليه السلام هو استمرار أحواله إلى حين الاحتضار والموت

لقد سلبوا من أمير المؤمنين عليه السلام الحكم غصبًا؛ فجاء الأوّل، ثمّ الثاني، ثمّ الثالث، وفعلوا بعد ذلك الأفاعيل. ويُروى أنّ الثاني لم يتراجع إلى آخر يوم من حياته، ولم يرض بالاعتراف أنّه ارتكب معصية، حيث أتوا إليه أثناء احتضاره، وقالوا له: إنّ هذه آخر لحظات حياتك، فتعال واعترف! فقال: «لا أتحمّلها حيًّا وميّتًا!»>[2] أي إنّني لا أتحمّل أن أراه على مسند الخلافة، سواء كنت حيًّا أو ميّتًا.. يا للعجب! فما الذي تريد أن تصل إليه يا هذا؟! إنّك على أعتاب الموت! فلنفرض أنّك ارتكبت كلّ هذه الأعمال طيلة هذه المدّة، لكن ما معنى هذا الإصرار وأنت مشرف على الموت؟! إذ إنّ كلّ شيء سينتهي بموتك! ومع ذلك نجده يقول: لا، أبدًا! وهذا يدلّ على مدى ما يُمكن أن تصل إليه ظلمة النفس وكدورتها.
ولقد ذكرت لكم في الليلة السابقة أنّ الإنسان قد يصل إلى حالة، بحيث يُختم على قلبه، ولا يبقى له أيّ منفذ يسمح بدخول النور إليه؛ فلنفرض مثلاً أنّك تُريد أن تكتب شيئًا على ورقة، أليس من الواجب أن تكون هذه الورقة تشتمل على موضع فارغ؟ فلو فرضنا أنّك سوّدت كلّ الورقة بالمداد من أعلاها إلى أسفلها، فهل سيبقى لك مكان لتكتب فيه؟! أين هو المكان الذي يُمكنك أن تُحرّر فيه المسائل؟ وأين يُمكنك أن تكتب بسم الله؟! فقد لوّنت كلّ الورقة بالريشة.
ولهذا، لا يُمكنه [الاعتراف]، وقد كان صادقًا حينما قال: «لا أتحمّل»؛ أي إنّني سوّدت كلّ صحيفة قلبي بالريشة؛ ومع أنّ خلافة أمير المؤمنين هي خلافة حقّ، إلاّ أنّ اعترافي بها لعليّ عليه السلام يعني أنّه لا يزال هناك موضع في قلبي لم يسودّ بعدُ، في حين أنّ ذلك غير صحيح، لأنّ السواد غمر كلّ قلبي؛ ولهذا، كان محقًّا في كلامه عندما قال: لا أستطيع أبدًا. وأمّا لو فرضنا أنّهم قالوا له: لنجعل عثمانًا، لقال لهم: أجل، أجل! بل عثمان هو الذي ينبغي أن يكون من الأساس، ولا يُمكن أن يكون غيره.. لماذا؟ لأنّهما متماثلان، ويمشيان في خطّ واحد ومسار واحد؛ وانتبهوا، فهذه مسألة مهمّة جدًّا بالنسبة إلينا! حيث ينبغي علينا أن نرى الاتّجاه الذي تنحو إليه ميولنا ورغباتنا، والجهة التي ترنو إليها قلوبنا ومحّبتنا؛ فعلينا أن نرى ما هي الشخصيّة التي أسعى للدفاع عنها والانحياز إليها في المسائل المختلفة، حيث يدلّ ذلك على وجود جهة اشتراك بيني وبينها هي التي تدفعني للقول: أنا أريده، أنا أميل إليه، أنا أرغب فيه، أنا أختار هذا الأمر، أنا أريد انتخابه.. فما هو الذي يدفعني إلى ذلك؟ وما هو العامل الذي ينتج عنه كلّ ذلك؟ وما هو السبب في ذلك؟ أفهل يكون ذلك من فراغ؟! لا! إنّ كلّ ذلك يرجع إلى هذه المسألة.

    

السبب في عدم الميل إلى أهل الحقّ هو انعدام المسانخة معهم

وهنا تحضرني تلك القصّة التي ذكرها المرحوم العلاّمة أيضًا؛ وأنّ أحد الأفراد أتى إلى النبيّ الأكرم؛ فما إن وقعت عينه عليه حتّى قال له: كم أنت جميل يا رسول الله! فقال له الرسول الأعظم: لقد صدقت؛ فذهب ذلك الرجل وجاء آخر كان في غاية الصلافة، فقال له: كم وجهك مكفهرّ! كم وجهك كريه ـ والعياذ بالله ـ! كم وجهك قبيح! فقال له صلّى الله عليه وآله وسلّم: صدقت، هو كذلك! فتعجّب الناس من تصديقه للرجلين معًا، فما هو السبب في تصديقه هذا؟ إنّ هذا التصديق يعود في الحقيقة إلى ذلك الرجل، وليس إلى كون وجهي قبيحًا؛ فأنت صادق في حكايتك عن قلبك، كما أنّ الآخر صادق أيضًا في حكايته عن قلبه؛ فمع أنّهما ينقلان خبرين متناقضين تمامًا، إلاّ أنّهما صادقان معًا.. لماذا؟ لأنّ كلّ واحد منهما يرى في تلك الأثناء صورته في المرآة.
إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يمتلك وجهًا لا شكل له، كالماء الزلال الذي لا لون له؛ أفهل رأيتم ماءً في كأس؟ فحينما تنظرون في الكأس، لا ترون فيه أيّ لون، لكن ما إن تقابلونه بوجوهكم، حتّى تنعكس صورة وجوهكم فيه؛ وحينئذ، ما هو الشيء الذي يُشير إليه هذا الكأس؟ إنّه يُشير إلى وجهي أنا، بغضّ النظر عن شكله أو لونه، وهل هو أسود أم أبيض؛ فالماء يعكس وجهي كما هو، وكذلك المرآة.
وعليه، فمع أنّ رسول الله الجالس في تلك اللحظة له وجه خاصّ وملامح معيّنة، ولوجهه حاجب وأنف وعين ولحية وشعر، لكن، باعتبار أنّ باطن الرسول هيمن على وجهه (وظاهره)، فإنّ هذا الوجه يُصبح بلا لون بواسطة هيمنة ذلك الباطن؛ وحينئذ، يصير هو الحقّ؛ لأنّ الحقّ لا لون له؛ وذلك راجع لعدم تقيّده، وخلوّه من جميع القيود. فحينما يكون الرسول خاليًا من كلّ لون، ويأتي أحدهم ليجلس بجانبه، فيلتذّ من مصاحبته له، فما الذي يعنيه ذلك؟ يعني أنّه قريب من الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأمّا إذا لم يلتذّ من مصاحبته له، وأصابه الملل، ورغب في الذهاب بسرعة، بعد أن جلس معه لدقيقتين فقط، وبدأ يقول: «لأرحل من هنا بسرعة، فأنا لا أستطيع الجلوس هنا بتاتًا، وكأنّني جالس على مسامير!» فليعلم أنّ حالته سيّئة جدًّا.. لماذا؟ لأنّه لا يستطيع القبول بتواجد الحقّ في جانبه، ولا يُمكنه السماح بحضور الحقّ في وجوده؛ فالرسول الأكرم هو مجرّد مرآة، إلاّ أنّه حينما يتحدّث، تراه يعترض ويقول: «ما الذي يقوله هذا يا عزيزي؟! هيّا، أَنْهِ كلامك وانزل!».
بينما الذي يكون قلبه في هذا الوادي، فعندما يتحدّث النبيّ نصف ساعة، تجد أنّه يقول: عجباً لـمْ يتحدّث أكثر من دقيقتين، لماذا لا يكمل؟! هذا يرى النصف ساعة دقيقتين، بينما ذاك يرى الدقيقتين ساعة! فكلام النبيّ ثقيل عليه، لا يتحمّله! فحالة النبيّ الروحيّة وحقيقته ومقام انبساط نفسه صلّى الله عليه وآله حينما تظهر وتبرز، يختلف حال كلّ من هذين الرجلين تجاهها؛ أما ذاك فيتلقّاها، وأما هذا فلا يتحمّلها، بل تنزل عليه كأنّها مطرقة! يعني أنّه يسمع الحقّ وكأنّه مطرقة، بينما الآخر يسمع الحقّ فيكون عليه كالماء الزلال الذي يهطل على الزرع والورد فيعطيها نضارة.. هو كلام النبيّ، لكنّه مطرقة على هذا، وأما على ذاك فمثل ماء المطر، كالماء الزلال الذي يصيبه العطشانُ فيرفع به عطشه. ومن هنا يظهر كيف أنّ كلاًّ منهما صادقٌ فيما يقول؛ فوجه النبيّ، وكلام النبيّ، وجلساء النبيّ، ودستور النبيّ بالنسبة إلى الأول بمثابة الرَوْح والريحان وعطر الجنان الذي لا يُرتوى منه، بينما على العكس منه الرجل الآخر الذي لديه مشكلة.
ولذا يقول: لا أتحمّله حياً ولا ميّتاً! لا أستطيع أن أرى عليّاً على رأس الخلافة سواء كنت حيًّا أم ميّتًا. وهذه الحالة تنتقل معه إلى القبر، وتنتقل إلى البرزخ وبعدها إلى القيامة، فهذه الكدورة النفسانيّة تظهر له وتبرز في يوم القيامة بصورة شعلة محرقة تحيط به، غاية الأمر، أنّه لا يشعر بهذا الاحتراق في الدنيا، بينما يشعر به يوم القيامة، وإلا لا يوجد أيّ فرق بينهما أبداً؛ فالله لا يوجِد النار يوم القيامة أبداً! لذا ورد في الآية القرآنيّة: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحيطَةٌ بِالْكافِرين‏﴾>[3].
كنّا يوماً مع المرحوم الوالد عند المرحوم الطباطبائي في منزل صهره في طهران، حيث كان منزله في منطقة شمران، وأتى أحد العلماء وسأل المرحوم العلامة الطباطبائي عن آية تشير إلى وجود جهنّم الآن، وكذا الجنّة؟ فقال: نعم، هناك آيات تدلّ على ذلك، ولا شكّ في ذلك أبداً! وبعد أن أجابه بهذا الكلام، قرأ المرحوم العلامة الطهراني هذه الآية: ﴿وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحيطَةٌ بِالْكافِرين‏﴾، فقال العلامة الطباطبائي: نعم، هذه الآية تشير إلى ذاك الأمر.

    

السبب في عدم الشعور بجهنّم رغم وجودها

إنّ جهنّم لديها إحاطة بالكافرين، فمعنى كلمة «لمحيطة» أنّ هذه الحالة التي لدى هذا الإنسان عبارة عن جهنّم بالنسبة إليه! فإن قلت: لكن لماذا لا يحترق؟! فالجواب: بلى إنّها تحرقه، لكنّه ضُرب إبرة مخدّر فلم يعد يشعر! ومهما أُنزل على رأسه من بلاء فإنّه لا يدرك ذلك، وإلاّ فلو كان يشعر بلسع النار لالتفت! فالإنسان عندما يخدّر، لا يعود يشعر بأيّ شيء، ولو أنزلوا به كل بلاء فلن يعرف شيئاً، ولكن بعد أن يفيق من المخدّر، فإنّه يعرف ما الذي فُعل به.
في بعض الأوقات يُخدّر الإنسان ويبقى في حالة إدراك، ورغم كونه واعياً لا يحسّ بالموضع الذي خدّر منه. وهذا ما جرى معي في العمليّة السابقة؛ فعندما كان يجرون العمليّة لم أكن أشعر بشيء أساسًا، إذ كان إحساسي برجلي كإحساسي بالسرير الذي كنت عليه؛ فعندما كنت أضع يدي على السرير ثم أضعها على رجلي كان إحساسي واحدًا، لا فرق بينهما، مع أنّي كنت مستيقظاً ومدركاً.
إنّ الذين يُبتلون في الدنيا بمثل هذه المصيبة يصبحون كالمخدّرين، فهم لا يعلمون ما يحلّ بهم أساساً، وذلك كحالي أثناء العمليّة؛ حيث كنت أنظر وهم يجرون العملية وكأنّ شيئًا لم يكن، والحال أنّهم كانوا يحملون المبضع ويشقّون جلدي. ولكن عندما نذهب إلى ذاك العالم يبدأ الإنسان بالخروج من تأثير المخدّر، وبعد أن يخرج من تلك الحالة، فلا يكون قد ذهب الوجع والألم، بل هو موجود لكنّ التخدير ارتفع، أما الوجع فيبقى، وهكذا الكدورة المترتّبة على الذنب موجودة، والكدورة التي رافقت النفس تبقى كما هي، وإذا كانت باقية على حالها، فسيرتفع فجأة صراخ الإنسان ويملأ المكان! وحتى هذا الصراخ موجود في هذه الدنيا، لكنّه لا يعلم به، لا أنّ الله يُوجِد له الألم في ذلك العالم، فيحصل منه الصراخ لذلك، بل نفس هذه الحالة التي كانت لديه هي التي انتقلت معه إلى ذاك الطرف. فالله لم يوجِد له شيئاً؛ لا عقربًا ولا أفعى ولا نارًا ولا حطبًا.. لم يخلق الله شيئاً منها، بل كلّ منها متولّد عن كدورةٍ وعملٍ خاصّ؛ فالعقرب من فعلٍ، والحيّة من فعلٍ آخر، والسباع من فعلٍ والإحراق من فعلٍ، وكذا ﴿سَرابيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَ تَغْشى‏ وُجُوهَهُمُ النَّار﴾>[4].. كلّها حصلت من أفعال ارتكبها، وكذا القير الذائب المحرق من فعل.. وهكذا فكلّ ذنب وكلّ كدورة توجِد شيئاً من هذه الأمور، وكلّ فعل له حسابه الخاصّ به.

    

الوقوف في وجه الله وظلم الناس يخرجان عن السلوك وسائر الزلاّت مستورة مغفورة بمحض الالتفات

ومع ثبوت هذا كله، لكنّ السيّد الحدّاد يقول: إنّ السالك لا يذنب! فما حقيقة ذلك؟ كان يقول: إنّما هذه زلّات قد تحصل من الإنسان [وليست ذنوباً]! وعليه فالمسألة واضحة، ففي الوقت الذي يقوم الإنسان بتلك الأعمال التي أشرنا إليها، فهل يمكن أن نطلق عليه اسم سالك؟!
نعم، أحياناً قد تحصل للإنسان كدورة أو أمرٌ معيّن بسبب الغفلة والجهل وأمثالها، إذ قد يحصل للإنسان ذلك، كما ذكرنا، ولكن مع حصول التوجّه والالتفات والتوبة ترتفع تلك الأمور، ويَعْبُر عنها. لكنّه في بعض الأحيان يأتي الإنسان ويقف عند هذه الذنوب التي صدرت منه؛ يعني أنّه يقوم بعملٍ لا يقاس بالخطأ والزلّة وأمثالها؛ كأكل مال اليتيم، أو ظلم شخص، أو سرقة مال الناس، أو خيانة حقوق الآخرين.. فهذه ليست زلاّت وأخطاء، فهذه لا تسمّى خطأ! فماذا هذه إذن؟ أو أن يأتي الإنسان ويقف مقابل الحقّ! فهذه الأمور ينبغي أن توضع خارج تلك الدائرة، فلا تحسب من تلك الزلات [التي يتكلم عنها السيد الحداد]، بل هذه الأفعال تعدّ ذنوباً وتسبّب الكدورة والظُلمة، وليس أمرها سهلاً؛ ولذا على الإنسان أن يفكّر في علاجٍ لها، وأن يبحث عن حلٍّ لها. أما بالنسبة إلى المسائل الأخرى والأخطاء العاديّة والذنوب الأخرى التي يقوم بها الإنسان، فهي تتعلّق بحقّ الله فقط.
هذا الكلام يعني أنّ السالك عندما يتحرّك ويصدر منه عمل بسبب الغفلة ـ لا من باب الوقوف في مقابل الله ـ يأتي الله ويستر له هذا العمل ويطهّره ويمحوه ولا يدعه يبقى في القلب؛ بحيث يوجب الكدورة والانقباض، ويوجب توقّفه في هذه المسائل.
ومن هنا كانوا يقولون: إنّ الإنسان عندما يخطئ ثم يلتفت، فالالتفات الذي يحصل له والاستغفار الذي يقوم به يُذهب آثار تلك الأخطاء.

    

السبب في غفران الله للزلاّت هو كون الذنوب ضروريّة لتحقيق ذلّ العبوديّة في النفس وزوال العجب

وحقيقة المسألة هي أنّ الله تعالى خلقنا خطّائين، وهذا هو المعنى الذي يريد الإمام عليه السلام أن يقوله في هذه الفقرات؛ يريد أن يقول: إنّكم يا عباد الله جميعكم خطّاؤون! وهذه مسألة مسلّمة، وبواسطة هذا الخطأ تتّضح لكم مسألة العبوديّة! فلو لم يكن هناك خطأ لكان قد حصل للإنسان عجب ولرأى نفسه أعلى من الآخرين.
نموذجان من الناس في تلاميذ المرحوم العلامة
كنّا نرى في حياة المرحوم العلامة رضوان الله عليه بعض الناس، و نلاحظ أنّهم كانوا يتحرّكون في جهتين:
إحداهما أنّهم كانت لديهم حالات لم تكن عند الآخرين، وهذا يجعلهم يمتازون عنهم؛ سواء كانوا يبيّنون ذلك للآخرين أم لا، وإن كنّا نلتفت إلى وجود ذلك لديهم، لكن نفس هذا الإنسان كيف كان يتحرّك في قرارة نفسه وضميره؟ في الظاهر كان يقول بأنّ هذه الأمور من الله، لكنّه في الواقع كان يعتبر لنفسه عشرة بالمائة، هذا إذا أحسنّا الظنّ به بأنّه يعتبر ما هو من الله بمقدار تسعين بالمائة، ويحتفظ لنفسه بعشرة بالمائة أو عشرين بالمائة. لكن بعضهم ـ ما شاء الله ـ يعتبرون المسألة منهم مائة بالمائة، ليس لله شيء، فالله مظلوم معهم، إذ لا يعتبرون شيئاً له في تمام العلل والأسباب لحصول هذه الحالة وهذه المسألة له، بل يعتبرونها منهم فقط. فهم من هذه الجهة يتحرّكون.
والجهة الأخرى، أنّهم يرون أنفسهم أقرب من الآخرين إلى المرحوم العلامة والعظماء بسبب هذه الأمور والحالات التي كانت لديهم، وكانوا يرون أنفسهم أقرب من الآخرين واقعاً.. ويرون بأنّهم يقتربون أكثر وأنّ مدركاتهم تزداد، ويشعرون بأنّهم أقرب إلى أفق الأستاذ بسبب زيادة هذه المدركات، وهذا الشعور بالقرب يجعلهم يعتقدون بالفرق بينهم وبين الآخرين، حيث كانوا إلى الآن مثلهم؛ يسلّمون عليهم ويجلسون معهم ويذهبون معهم، أما الآن فصاروا يتعاطون بشكل مختلف! فإذا قيل لهم: كيف حالكم مولانا؟ يقولون: الحمد لله! [بشيء من الجديّة].
لماذا تتكلّم هكذا؟! تكلّم مثل الناس! فأنت لم تكن تتكلّم هكذا من قبل! لم تكن تسلّم هكذا! ولم تكن تقول: السلام عليكم [بهذه الجدّية والرسمية]! فما هذا السلام؟! تكلّم جيداً كما كنت تتكلّم وتسلّم، واجلس كما كنت تجلس سابقاً، تصرّف كما كنت تتصرّف! ما هذا؟ هذا الإنسان يقوم بوضع حجاب بعد حجاب بينه وبين رفقائه وأصدقائه.. مسكين! فهؤلاء أقرب منك إلى العلامة! أين ذهب عقلك؟! كيف ترى نفسك أنّك قريب، والحال أنّ نظرة القرب هذه هي بُعد؛ فأن ترى نفسك قريباً هو البُعد!
هل كان لدى المرحوم العلامة هذا الشعور الذي لديك؟ أم أنّه كان يهزء من حالك هذه؟! فهو ليس في هذه الحالة، بل كان يقول تصريحاً وتلميحاً بأنّنا جميعاً في مستوى واحد كأسنان المشط.. هو يقول هذا الكلام لك أنت! وأنت تقول كم هو جميل كلام العلامة! يا تعيس الحظ، هو يبيّن لك وصفة الدواء، فأين أنت من هذا الكلام؟!
لكنّ هذه النفس تبتعد وتبتعد، فتزيد تلك المطالب في الجهة المقابلة شيئاً فشيئاً، إلى أن تصل به الأمور أن يقف في وجه الأستاذ؛ مثل ذاك الشخص الذي ذكر قصّته المرحوم العلامة في كتاب الروح المجرّد، ونحن كنّا نرى كيف كانت أوضاعه، وكان واضحاً أنّ مسيره إلى أين سينتهي! وهذا ما حصل فعلاً.
يا عزيزي كان عليك عندما بدأت تلك الحالات بالظهور أن تقطعها مباشرة، و أن تقول: إنّ هذه الحالات والكمالات ليست منّي أنا بل منه هو، وأمّا أنا فالذي يصدر منّي هو الخبط و الخطأ و الاشتباه والذنب، و ما يناسبني هو حالة العبودية كما علّمنا الإمام عليه السلام. فالإمام عليه السلام هو الذي يعلّمنا ذلك، فهو يقول لنا: هذا أنت هكذا وهذا شأنك، فلا ينبغي أن تغيّرك تلك الحالات، بل عليك أن تنسب تلك الحالات التي تحصل لك إلى أصلها كما هي حقيقة الأمر، فتصير أنت صفرًا، وحينئذٍ فإذا صرت صفراً سوف تسلّم على الناس بشكلٍ عاديّ، وتجلس وتمزح وتفعل كلّ شيء.. وعندئذٍ تصير قريباً واقعاً، وهو أيضاً يراك قريباً ويرضى بك، الآن سيقول لك: لقد صرت قريباً. وإلاّ فلا.
كان المرحوم العلامة يتحدّث عن رجل مبتلىً بشدّة بمثل هذه المسائل ـ وأذكر ذلك عندما كان يتحدّث في منزل أحد الرفقاء في طهران ـ كان يقول: هل أتيت بهذه الأحوال والحالات من نفسك، حتى تفتخر بها على الآخرين؟! من أين أتيت بها؟! ألم تحصل لك من هنا، وأشار بيده! فلماذا تفتخر على الآخرين بها؟!
هنا، على الإنسان أن ينتبه لذلك، وإذا لم ينتبه، فسوف يحصل له ابتعاد تدريجي إلى أن يصل إلى مرحلة لا يُعلم أين هو، وبماذا يُبتلى الإنسان نتيجة ذلك؟ يبتلى بالجنّ والشياطين وغيرها! يا عزيزي، لقد نُبّهتَ في ذاك الوقت حتى لا تصل إلى هذه المرحلة، لذا ينبغي أن يطلب الإنسان من الله، وأن يتوكّل على الله، وأن يسأل الله أن يجعله يلتفت، وأن يتوسّل بالله طالباً منه أن يعطيه هذا الإدراك، وأن يوفّقه للعمل به.
كم هي مهمّة للسالك هذه المسألة! وهي أن يشعر بالذنب، وإلا فمن دون ذنب لا يتحرّك السالك! بل يقع في الفخّ؛ حيث يصل الإنسان إلى مرحلة يقول فيها: الحمد لله! لم يعد يصدر منّي ذنب، ولم يعد يقع منّي خطأ والحمد لله..
وهذا الأمر تماماً خلاف ما هو مرتكز في الأذهان؛ من أنّ الإنسان [لا ينبغي أن يذنب]...

    

أهميّة الذنب في حركة السالك لا تعني أنّ عليه أن يذنب

طبعاً نحن لا نقول: يجب عليه أن يسعى إلى الذنب، ويقول: إن كان الأمر كذلك، فعلينا أن نساعد الله [فنوقع أنفسنا في الذنب!] لا يا عزيزي لا نريد أن نساعد الله ولا أن نعين الأستاذ في تربيته لنا بهذه الطريقة! بل ما ينبغي أن يحصل، سيحصل وحده في وقته المناسب! أنت عليك ألاّ تخطئ، فإذا صار وقت الخطأ هو يأتي بنفسه. يقول البعض: ما دام الأمر كذلك فلنقدّم نحن من عند أنفسنا! كلاّ، فهذا خطأ أيضاً، ومن يفعل ذلك فإنّه يقع في الخطأ من الجهة الأخرى، فلا هذا صحيح و لا ذاك! والحاصل أنّه ليس علينا أن نوقع أنفسنا في الذنوب، ولكن علينا أن نمتلك الشعور بالذنب.
فالأئمّة الأطهار دائمًا كانوا على هذا الشعور، ففي النهاية أنا لمن أقول: والله وبالله عندما يدعو الإمام السجّاد عليه السلام بهذه الأدعيّة فإنّه لا يمثّل مسرحيّة، بل هذه هي حالته، هو يقول: حالتي هي حالة العبد الخاطئ، حالتي هي حالة ذلك العبد الذي يزلّ وليس له رجاء إلا عفو الله ورحمته، هذه هي حالته.
ومن التوفيقات أنّ الله تعالى يفهم الإنسان، ويعطيه الوعي والإدراك، ويعطيه الفهم لمسألة أنّه بغير عنايته فستنقطع تلك العلقة، ولن يبقى في وجدان الإنسان لا إله ولا نبيّ ولا إمام ولا صلاة ولا شيء، لا يبقى شيء للإنسان أصلًا، لقد انقطع ذلك السلك، وعندما يشعر الإنسان بهكذا حال، فما هو التصوّر الذي يبقى عنده؟ ماذا يمكنه أن يتصوّر؟ هل يمكنه أن يقوم بشيء؟! وهل يتأتّى منه شيء؟ هل يمكنه أن يحسب لنفسه حسابًا بعد ذلك؟ علينا أن نصل إلى نقطة الصفر هذه، فنرى كلّ شيء من عنده، أن نشعر بأنّ كلّ شيء هو من ذلك المبدأ:: ﴿وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾..[5] ومن هنا تنكيريّة بمعنى كلّ، فكلّ ما يسمّى نعمة فهو من ناحية الله، وكلّ نعمة تصل هي من عند الله وهذه المسألة حياتيّة جدًّا، نعم هي حياتيّة للغاية، وكلّ من ترون عنده هذا الأمر أكثر ظهورًا فاعلموا أنّ سلوكه أكثر صفاء، وطريقه وسلوكه صافيان، وكلّ من رأيتموه على العكس من ذلك: يتكلّم كثيرًا، يثرثر ويثير الضجيج، ولديه الكثير من المسائل ولكن ليس فيه هذا الأمر، بل يريد دائمًا أن يطرح نفسه، فمثل هذا لا فائدة منه.
ولذا فإنّ الخطأ والاشتباه اللذين يقوم بهما الإنسان هما نعمة من الله تأتي الإنسان لتنبّهه، هي لليقظة التي يجب أن يكون عليها، وربّما كان لهما من الأثر ما لا يكون لسائر النعم التي تصيب الإنسان، لأنّ تلك النعم ليس لها ذاك التأثير، فتلك النعم تكسب الإنسان حالًا جيّدًا، ووضعًا غير معتاد، ونشاطًا وبهجة وسرورًا، ولكنّ تلك البهجة والسرور لا توجِد فيه ذاك الجانب، وإنما توجد فيه شيء من البهجة والسرور فقط واللذين هما من لوازم الطريق ولوازم النفس، فمن اللوازم أن يكون هناك بهجة وأمثال ذلك؛ ولكنّ هناك خطرًا وراءهما أيضًا وهو حصول الأمور المبعّدة عن التجرّد والعبوديّة والجهة الربطيّة بالله، فينبغي ألا تحصل هذه الأمور منهما.

    

تأنيب أساتذة السلوك لتلاميذهم هو لإذهاب العجب منهم

ومن هنا؛ فإنّنا عندما نجد في سير العرفاء أنّهم بين الحين والآخر يتعرّضون للتأنيب من قبل أساتذتهم أن لماذا فعلت هذا؟ لماذا تكلّمت بهذا الكلام؟ لماذا قمت بكذا؟ فهم لا يدلّلونهم ويقومون بالثناء عليهم وتمجيدهم: ما شاء الله ما هذه الحال التي عليها يا فلان! كم هي حال جيّدة! نادرًا ما يقومون بذلك، وعندما يرون في ذلك مصلحة حسب مقتضيات الأحوال، ولكن بصورة عامّة كنّا نرى أو ينقل إلينا أنّ التلميذ يتعرّض في موارد مختلفة إلى العتاب والتأنيب من قبل أستاذه، حتّى يتجاوز هذه المراتب، عندها يختلف الأمر تمامًا، فقد تمّ العبور من النفس وأهوائها. وما دام هناك نفس فهي تحتاج إلى عتاب وتأنيب، ومتى يكون ذلك؟ لا بدّ أنّه يكون عند الخطأ، فلو لم يخطئ، لقال:وماذا صنعت يا أستاذي حتّى تؤاخذني؟ لم أصنع شيئًا، ولم يكن هناك أيّ شيء.
وقد كان هذا الأمر عند جميع العظماء، عند الجميع، فحسب اطلاعي ورؤيتي كان ذلك عند الجميع، ولذا على الإنسان أن يجعل نفسه في مقام الخوف والخطأ الذي يرتكبه والاشتباه الذي يقع فيه يجعله في مقام الإصلاح، والتوبة والإنابة وأن يطلب من الله أن يعفو عنه.
وخلاصة القول وزبدته أنّ الله تعالى يحبّ العبد الذي يقول: إلهي لقد أخطأت، إنّه يحبّ هذا. وذاك العبد الذي يقول إلهي أنا قمت الليلة الماضية وصلّيت صلاة الليل، لا يحبّه الله كثيرًا، ذاك العبد الذي يقول: إلهي أنا اليوم تصدّقت بمبلغ ما للفقير، ذاك العبد الذي يقول: أنا اليوم قرأت دعاء كذا، والذي يقول: أنا اليوم قرأت ستّة أجزاء من القرآن، والذي يقول: فعلت كذا وكذا، فالله يقول له: لا بأس قرأت هذا جيّد، وأنت من نال الثواب، إن كان هناك من ثمرة فقد جنيتها، فلماذا تمنّ علينا؟!
أما لو قال عبد: إلهي اغفر لي هذا الخطأ الذي وقعت فيه، فالله يحبّ هذا ويريده، العبد الذي لا يلتفت إلا إلى الله ولا يطرح نفسه في البين. فمن أنت حتّى تطرح نفسك؟! كلّ ما ذكرناه هو من مصاديق طرح النفس وإبرازها.
وفي الوقت الذي على الإنسان أن يعمل بالأوامر والبرامج ويطبّقها بحذافيرها، عليه أن تكون حاله اتجاه الله أنّه لا يمنّ عليه ولا يرى لنفسه مكانًا أمامه.
نسأل الله أن يوفّقنا جميعًا للعمل بهذه المطالب وفهمها أكثر فأكثر.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.

 


[1] ـ كناية عن السعة الوجوديّة لجهنّم. المترجم

[2] ـ ابن عبد ربّه الأندلسي، العقد الفريد، ج4، ص 275.

[3] ـ سورة التوبة، من الآية 49.

[4] ـ سورة إبراهيم، الآية 50.

[5] ـ سورة النحل، الآية 53.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی