معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1438 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي 1438 هـ ـ الجلسة 8: نظرة المذنب إلى نفسه

_______________________________________________________________

هو العليم

شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1438هـ

المحاضرة الثامنة:
نظرة المذنب إلى نفسه

ألقيت في 12 شهر رمضان المبارك لعام 1438 هجري قمري

سماحة آية اللـه

السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ حفظه اللـه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البي دي أف تحميل ملف البي دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد
اللهم صل على محمد وآل محمد
وعلى أهله الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين

«ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته لا لأنّك أهون الناظرين وأخفّ المطّلعين، بل لأنّك يا رب خير الساترين وأحكم الحاكمين وأكرم الأكرمين‏»
يا إلهي لو كنت أخشى من العقوبة لما سعيت إلى الذنب! وعدم خوفي منك ليس لأنّك لا ترى أعمالي، أو لا تقدر على رؤيتها، أو لأنّك لا تعتني بي ولا تدري بما يجري منّي؛ كما يزعم بعضهم أن الله قد خلق الخلق وتركهم، وذهب هو لشأنه، وأنّه لا اطلاع له على أعمالنا؛ وبالتالي فلنا أن نفعل ما يحلو لنا دون أن يطّلع الله علينا! بل عدم خوفي الذي جعلني أقع في هذه الزلاّت هو بسبب أنّي أعلم بأنّك في مقام الستاريّة أنت أفضل ستّار للعيوب، ولا تفشيها. وكذلك في مقام الحكومة أنت أفضل حاكم وقاضٍ، فعندما تريد أن تقضي بين عبادك تعرف كيف تقضي وكيف تحكم بينهم. والثالث أنّك في مقام الكرامة، بعد صدور حكومتك وقضائك، فأنت في مقام الكرامة أكرم الأكرمين، فإذا فرضنا أنّ إنسانًا أراد أن يتكرّم ويتفضّل على الآخرين، فماذا يفعل؟! إنّ ما تفعله أنت يا ربّ هو في أعلى مرتبة من الكرامة.

    

ملاحظات حول كيفيّة قراءة الأدعية والقرآن وشعر العظماء

هناك أمر خطر في بالي الليلة عندما كنّا نقرأ الدعاء فقلت ينبغي أن أبيّنه للرفقاء، وهو أنّ صوت القارئ جيمل وجاذب ولطيف، لكنّه قرأ الدعاء بسرعة نوعًا ما، ما جعل حظّنا من الدعاء يصل إلى النصف، إذ نحن نرغب في أن نستفيد أكثر من هذا المقدار؛ سواء في الإصغاء إلى نفس الصوت، أم في التأمّل في مضامين الدعاء. فما إن نفكّر في الفقرة الأولى حتى يكون قد وصل إلى الفقرة السادسة، فيكون قد تجاوز عدّة فقرات..
كان المرحوم العلامة رضوان الله عليه يقول: عندما تقرأ الدعاء ينبغي أن تستقرّ مضامينه في النفس، ثم تنتقل إلى العبارة الأخرى والفقرة الأخرى. ولا فرق في ذلك بين الأدعية المأثورة عن الأئمّة وبين الآيات القرآنيّة وأمثالها، فلا ينبغي أن تقرأها مجرّد قراءة لتنتهي منها.
إنّ مضامين كلمات الأئمّة عليهم السلام ـ وكذا في مرتبة أعلى القرآن الكريم ـ أتت من العالم الربوبي، سواءً في ذلك القرآن الكريم، أو كلمات الأئمّة والأدعية والزيارات والكلمات المأثورة عنهم، فهي من باب واحد، غاية الأمر أنّ القرآن الكريم هو تنزّل من مقام الربوبيّة إلى العبوديّة، أما كلام الأئمّة عليهم السلام وأدعيتهم فهو خطاب من مقام العبوديّة إلى الربوبيّة، ولا اختلاف بينهما، فكلاهما ناشئ من منشأ واحد.
ومن هنا، فعندما يقرأ الإمام الدعاء، ويعطيه للشيعة ويأمرهم بقراءته أيضًا، فذلك يعني أنّ على الإنسان أن يقرأ هذه المضامين والعبارات وكأنّها صادرة من نفسه وتعبّر عن حاله، ولا يظنّنّ بأنّ وظيفته هي مجرّد قراءة دعاء كميل مثلاً إلى آخره وينتهي منه، أو أن يقرأ دعاء الصباح لينهيه، فيقول: لقد قرأت دعاء الصباح ونفّذت المطلوب منّي، أو يقرأ دعاء أبي حمزة بهذا الشكل كذلك أو دعاء الافتتاح.
إنّ كلّ دعاء من هذه الأدعية يشتمل على مضامين خاصّة به، وينبغي على الإنسان أن يتأمّل في هذه المضامين؛ ولذا ينبغي أن يقرأ الإنسان الدعاء وكأنّه يرى المخاطب به أمامه، وعليه أن يثبّت معناه ومفهومه في نفسه وذهنه. حينئذٍ سيكون للدعاء أثر كبير.
و ينبغي للإخوة الذين لا يفهمون العربيّة أن يكونوا قد قرأوا الترجمة مسبقًا، لا بمعنى أن ينظروا إلى الترجمة حين قراءة الدعاء، لا! فهذا غير صحيح. وقد نبّهت على هذا الأمر سابقًا، مثلاً عندما يقرأ الدعاء لا ينبغي أن يحمل الإخوة الكتاب وينظروا في ترجمته أثناء القراءة، فهذا الأمر يقلّل من تأثير الدعاء، بل عليهم أن يجلسوا ويطأطئوا رؤوسهم سواء أغمضوا أعينهم أم لم يغمضوها، وعلى كلّ حال، عليهم أن يفكّروا في هذه المضامين، ويردّدوا الدعاء مع القارئ في قلوبهم أو بصوت خافت، وهذا له تأثير كبير.
لذا ينبغي على الرفقاء أن ينتبهوا أن لا يقرأوا بسرعة، فالسرعة في قراءة الدعاء تقلّل من أثره، والملائكة لا تتعامل معنا على أنّ هذا قرأ دعاء وعلينا أن نرفع دعاءه! بل ينظرون إلى الأثر الذي تركه هذا الدعاء في قلب الداعي فيرفعونه بهذا المقدار، لا أكثر؛ إذ ليس لديهم الوقت ليزيدوا من أحمالهم، فلديهم ما يكفي من العمل! لذا يرفعون المقدار المطلوب فقط، ويُبقون الباقي للقارئ.
فإذا قرأ شخص الدعاء بسرعة، أو قرأ القرآن كذلك، فلن يحوز على النصيب المطلوب من هذه القراءة، وستطغى القراءة السريعة على تلك المضامين.
وكذا الحال في أشعار العظماء كحافظ وأمثاله، فينبغي أن تُقرأ هذه الأشعار بلحن وكيفيّة يساعدان على إيصال تلك المضامين إلى المستمع. فمن يقرأ شعر حافظ [إنّما يقرؤه لمعناه]، وإلا لماذا لا يقرأ أشعارًا أخرى؟! فهو يقرؤها لأجل مضامينها ومفاهيمها، ولأجل المعاني الموجودة فيها، وإلا فالشّعر كثير.
وعليه، فينبغي على من يقرأ الشعر أولاً: أن يقرأه بلحن يناسب هذا الشعر، وثانيًا أن يقرأه بشكل يوجب حصول هذه المضامين في الذهن. مثلاً رأينا أنّ البعض يقرأ شعر حافظ، وهمّه في هذه القراءة منصبّ على اللحن الذي يريده هو، لا أنّه يريد أن يستمدّ من الشعر ليقرأه بلحن المعنى الذي يناسبه. لذا لا يفهم المستمع شيئًا منه، بل يسمع اللحن والصوت الذي يلقي المنشد من خلاله الشعر وهو يرى أنّه جميل، والحال أنّه يصير قبيحًا في هذه الحالة! وهو يذبح المعنى بهذا النوع من اللحن الذي اختاره القارئ. الشيء الجيّد الذي يمكن أن يأتي به منشد الشعر هو أن يتمكّن ـ بواسطة اللحن الذي يختاره والصوت الذي يردّده رفعًا وانخفاضًا ـ من نقل تلك المعاني والمضامين التي يريدها الشاعر ويثبّتها في نفس المستمع، عندئذٍ يكون ذاك القارئ والمنشد جيدًا، ويكون تأثيره كبيرًا.
لكن للأسف، لم تعد المسألة الآن كذلك، بل بات الشعر يقدّم فداءً للّحن، فصار الأمر على العكس تمامًا. ولم أرَ من تعرّض لهذه المسألة. لقد صار القارئ الآن يقرأ الشعر مركّزًا على اللحن فقط، فيقابل بالمدح والثناء، و الحال أنّه لا يستحقّ مدحًا ولا ثناء؛ إذ كلّ ما قدّمه ليس إلاّ صوتًا وألحانًا ترتفع وتنخفض! وأما تلك الحقيقة التي ينبغي أن يوصلها إلى المخاطب من خلال قراءته فهي غائبة، ولا تصل بسبب الاهتمام باللحن والصوت فقط، وفي النهاية لا ينتفع المستمع بشيء! بل يخرج من المجلس كحاله الأول دون أن يكون لهذه القراءة تأثير فيه.
كنت مع المرحوم العلامة عندما كان في مستشفى القلب قبل وفاته بثلاث سنين، وكنت في خدمته في قسم العناية الفائقة وكذلك في القسم المختصّ الذي قضى فيه فترة النقاهة، وبطبيعة الحال، عندما كان في قسم العناية لم يكن يُسمح للمرافق بملازمته، لذا كنت أذهب وأعود. ولكن عندما انتقل إلى القسم الخاص رأيت أنّ من المناسب أن آخذ معي كتاب مثنوي لمولانا إلى المستشفى، إذ كان العلامة ينام أحيانًا وأبقى مستيقظًا فأقرأ فيه. وفي إحدى الليالي قال لي ما ذاك الكتاب الأزرق؟ قلت هذا كتاب مثنوي أحضرته لأقرأ فيه، فقال: جميل جميل! اقرأ فيه! فبدأت أقرأ بصوتي الذي هو أنكر الأصوات.. وكان الأصدقاء والأطبّاء يأتون أحيانًا [يريدون الدخول]، ولكن عندما كانوا يسمعون القراءة كانوا لا يدخلون حتى لا يقطعوا علينا قراءتنا، بل كانوا يقفون في الخارج.
نعم، أتى يومًا رفيقنا العزيز الدكتور خوازرمي حفظه الله، وكان في حينها مسؤول المستشفى، فقال لي: سيّد محمد محسن أنت تقرأ جيدًا! فقلت: كيف عرفت ذلك؟ قال: أمس مساء بقيت خلف الباب نصف ساعة أستمع لقراءتك، ولو دخلت الغرفة لتوقّفت عن القراءة، فبقيت خلف الباب، ثمّ ذهبت ولم أدخل! فقلت: كان ينبغي أن تدخل ونحن نستمر لا إشكال في ذلك، وإذا أتيت في المرّة القادمة فادخل فلا إشكال.
والحاصل، عندما كنت أقرأ للسيّد العلامة، كان أحيانًا يقول: اشرح هذه الأبيات! فأبدأ ببيان الشعر، والحال أنّني لا أعرف شيئًا من مثنوي، لكن كنت أقول بعض الهراء، ثم يشرع المرحوم العلامة بتصحيح ذلك وتوضيحه وتفسيره. ولم أكن أقول شيئًا، وبعد أن ينام كنت أتناول دفترًا وأدوّن فيه هذه الكلمات، ولا زال هذا الدفتر عندي.
والشاهد أنّه عندما كنت أقرأ الشعر، كان يقول: توقّف! ليس هكذا يُقرأ المثنوي، بل هكذا! وكان يقرأ بصوته، ويقول عليك أن تمدّ به، لا أن تقرأه بسرعة! عليك أن تمدّه، وهذا المدّ مؤثّر في إيصال المعنى! عجبًا لتلك الأمور التي كان يلتفت إليها! وفي المقابل تجد البعض بدلاً من ذلك يسرع بقراءة الشعر، فينتهي من هذا البيت وينتقل إلى البيت التالي بسرعة، والحال أنّ المستمع لا يزال منتظرًا للّحن والإنشاد وسياق الشعر، ومع ذلك ينتقل المنشد إلى البيت التالي تاركًا المستمع في البيت السابق، وبسبب هذه السرعة لا ينال المستمع نصيبه كاملاً من البيت الأول، كما أنّ الأبيات التالية تفوته أيضًا؛ ولهذا ينبغي للقرّاء أن يولوا هذا الأمر حقّه من الاهتمام.
وخصوصًا بالنسبة إلى القرآن، فمن القبيح جدًّا ما هو رائجٌ الآن وكذلك كان في السابق من أن يقول المستمع "الله الله" في مجالس قراءة القرآن، بل على الإنسان أن يستمع إلى الصوت الجميل، لكن ما إن ينتهي من الآية حتى يرتفع صوت الحضور بالقول الله! اذهب وقل "الله!" في منزلك، فهل الآن موضع قول "الله"؟! إنّ هذا الصياح يسبب ذهاب تمام الأثر الذي أوجده الصوت الحسن للقارئ! فاجلس ساكتًا واستمع، وبعد أن يتنهي اذهب وأبرز له إعجابك وتشجيعك! بعد أن ينتهي من القراءة لربع ساعة أو عشرين دقيقة.. تراهم يصيحون بعد كل آية: الله! أحسنت! وغيرها! بحيث يذهب ذاك الأثر المعنوي كليًّا ويتلاشى، يضيع ذاك الجوّ الروحاني والأثر الذي أوجدته قراءة القرآن بهذا الصوت الحسن، ويتبدّل المجلس إلى مسرحيّة، يعني يصير مجلس قراءة القرآن عبارة عن تمثيليّة! في التمثيليّة يصفّقون للممثّل، أما هنا فيقولون: الله، وأحسنت، وبارك الله بك! وأمثال هذه الأمور. مجلس القرآن ليس هكذا، مجلس القرآن هو أن يأتي القارئ ويقرأ بصوت حسن، ويصغي الجميع إليه بحيث يترك الصوت تأثيره على المستمع. وواقعًا لدى بعضهم صوت رائع، يعني لديهم لحن وجاذبيّة، لكن هذه التصرّفات تخرّب تمام تلك الآثار! ويصير المجلس منحصرًا بالقشور والظاهر والقراءة الظاهريّة، يعني تصير قشورًا خالية من اللبّ والأثر! وينبغي أن يلتفت المسؤولون إلى هذه المسألة. وكانت هذه المسألة موجودة في العهد السابق أيضًا، حيث كان يأتي القرّاء المصريّون ويقرؤون، لكن الآن صارت المسألة أكثر، وصارت هذه الأمور مقدّمة على القراءة. لذا ينبغي أن يكون هناك اهتمام ودقّة أكثر بهذه الأمور.
هناك أحد أصدقاء المرحوم العلامة السابقين أذكر أنّه قرأ المناجاة الشعبانيّة، وسجّلها له، وكان ذلك قبل زمان بعيد، حيث كنت في الثالثة عشر أو الثانية عشر أو الحادية عشر، بل كان عمري أقل من أحد عشر سنة، ربّما عشر سنين، ومن العجيب أنّه قد مضى على هذه المسألة خمسون سنة ولا زلت أذكر جيدًا، و أنا ما زلت حتّى الآن أستمع لهذا الدعاء في شعبان عشر مرّات أو اثنتي عشرة مرّة على الأقل، والحال أنّ سائر الإخوان [القرّاء] موجودون، نسأل الله أن يحفظهم.
لكن ما يميّز قراءته هو أنّه لم يكن همّه السرعة في القراءة، وكان صوته حسنًا ومحزونًا ومناسبًا مع الدعاء، لا بمعنى أنّه لا يوجد أفضل منه! لا، لكنّ حسن المسألة أنّه كان ينظّم صوته على أساس مطالب الدعاء، لا أنّه كان يفكّر في الانتهاء من الدعاء، كان يطوّل أكثر في القراءة ويمدّها، وهذا الأمر جعل لقراءته أثرًا باقيًا.
أحيانًا يستمع الإنسان لصوت دعاء فيرى أنّهم قرأوا الدعاء فقط! فلديهم صوت جميل وقد قرأوا الزيارة الشعبانيّة أو دعاء كميل مثلاً أو أيّ شيء آخر. لكن يرى الإنسان أنّ نفس السرعة في القراءة لا تجعل الدعاء يستقرّ في قلبه كما ينبغي؛ كأن يكون قد قرأ بسرعة قليلاً، فيقول ليته أطال قليلاً، وليته اهتمّ بهذا الأمر أكثر.
حسنًا، هذا هو الأمر الذي كنت أحبّ أن أبيّنه، وهو مرتبط بذوقنا وسليقتنا، وربّما لا يرتضي غيرنا ذلك، لكنّ سليقتنا تقتضيه.

    

كيفيّة نظرة الإنسان إلى نفسه حين ارتكاب الخطأ

يقول الإمام عليه السلام لله تعالى: ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته! وقد أشرنا الليلة الماضية إلى أنّ مسألة الخطأ والاشتباه كُتبت علينا، إذ لا يمكننا أن نبرّئ أنفسنا منها، ولا ينبغي أن ننزعج من ذلك أن لماذا نشتبه ونخطئ؟! بلى علينا أن نشعر بالندامة من الخطأ، لا أن نشتبه ونشعر بالسعادة، لا هذا غير صحيح! فالشعور بالندم يعني أن يكون لسان حال الإنسان مع الله هكذا: إلهي أنا ضعيف في باب إطاعتك والانقياد لك ولديّ ضعف، وأنت الذي ينبغي أن تساعدني وتأخذ بيدي، إذ أنا بنفسي لا يمكنني أن أصل إلى شيء! وهذا الأمر مهمّ جدًّا.
بعض الناس عندما يصدر منهم خطأ ينزعجون جدًا؛ وكأنّ مسألة قد حصلت لهم، لكنّ هؤلاء لديهم مشكلة نفسانيّة؛ بحيث يعتقدون بأنّه لا ينبغي أن يصدر منهم خطأ أصلاً.
في مرّة من المرات، قام أحد الأشخاص ـ وقد انتقل إلى رحمة الله، والإخوة يعرفونه ـ بالاعتراض عليّ في مسألة كنت قد قرأتها في كتاب ونقلتها في كتابي، وهي أنّ الإمام التقى برجل في أصفهان... فقلت له المسألة موجودة في هذا الكتاب، وقال لا بل الموجود هو أمر آخر! فأحضرنا الكتاب واتّضح أنّ ما ذكرتُه هو الموجود فيه، فاضطرب اضطرابًا كبيرًا بحيث [بدا ذلك عليه].
فقلت له ماذا هناك؟! ما المشكلة في أن تخطئ؟! هل وقعت السماء على الأرض إذا صدر خطأ منك؟! ماذا حصل؟! كنت تعتقد أنّ المسألة هكذا، وربّما خانتك الحافظة؛ فلم يحصل شيء! وكنت أسهّل عليه الأمر، فالإنسان قد يخطئ ألف خطأ، وهذه المسألة ناشئة من عقدة نفسانيّة، فالإنسان قد تحصل له عقدة في نفسه أنّي لا ينبغي أن أشتبه، لا ينبغي أن أخطئ!
لماذا لا ينبغي أن تخطئ؟! فهل أنت إمام الزمان حتى تكون معصومًا؟! أنت لست إمام الزمان، بل إنسان عاديّ، وحتّى الله لا ينتظر منّا أن لا نخطئ، ولا يتوقّع منّا أن نكون كإمام الزمان، بل ولا كتراب أقدام الإمام، فما بالك بالإمام نفسه. فالاشتباه قد يصدر منّا؛ اليوم رأيت أنّ المسألة هكذا، وغدًا في مسألة أخرى قد أكون أنا المشتبه وأنت المحقّ! ما هو الأمر الذي يجعل الإنسان يتوقّف عند هذه المسألة؛ فيضطرب إلى هذا الحدّ عندما يشتبه؟! فهذه مشكلة! هذا هو ما أريد بيانه في هذه الليالي، وهذه المسألة هي التي تكون مانعة للسالك؛ فينبغي أن يرى السالك أنّ الخطأ ليس منه.
نفس هذا الرجل كان في المسائل المختلفة ينهض للدفاع عن أفكاره، وكان يذهب في ذلك إلى أبعد الحدود! انظروا! يعني هذه العقدة التي عند الإنسان لا تدعه، بل تأتي به إلى هذه المسألة، إلى أن يصل به الأمر للوقوف في مقابل الحقّ! فلأجل أن يحافظ على موقعيّته يبدأ بالدفاع عن نفسه بدل الدفاع عن الحقّ، فهنا لا يكون في حالة دفاع عن الحقّ، بل يكون في حالة دفاع عن النفس. وأمّا لو كان قد عالج مشكلته منذ البداية، ولو أنّه حينما شعر بخطئه في تلك المسألة، اعترف بذلك، لما بلغ به الأمر إلى ما بلغ، ولما وصل به الحال إلى أن يتحصّن، ويقف في مواجهة الحقّ. لماذا؟ لأنّه لن يكون هناك حضور للنفس؛ وحينما تغيب النفس، يستطيع الإنسان أن يعبر بسهولة من هكذا مواقف، ويتجاوزها بكلّ يُسر، ولا يبقى واقفًا يتأمّل في المسألة يُقلّبها يمينًا وشمالاً؛ وهذه مسألة عجيبة جدًّا! ومن باب المثال، كثيرًا ما كان يحصل أن كنّا نذهب إلى المرحوم العلاّمة رحمة الله عليه لنحدّثه بشأن أمر ذكره أحد الأفراد، ثمّ نجد أنّ هذا الفرد بدأ بالدفاع عن نفسه؛ فكان لزامًا علينا أن ننقل هذه المسألة للمرحوم العلاّمة، وحينما كنّا نفعل ذلك، كان ينظر إلينا، ويتبسّم، وينقل الكلام إلى مسألة أخرى، من دون أن يسألنا عن الذي حصل، وعن حقيقة الأمر، وهل قمنا بالعمل الكذائي؛ وكأنّه يُريد القول بأنّ المسألة في عمقها وحقيقتها واضحة، وأنّه لا داعي لكي نُجهد أنفسنا كثيرًا بشأنها.
فهذه القضيّة من القضايا المهمّة جدًّا؛ ولعلّي أستطيع القول بأنّها تُمثّل المفتاح الأساسي للمسائل السلوكيّة؛ وهي أنّه: على الإنسان أن يرى نفسه دائمًا في معرض الخطأ والاشتباه، ثمّ يلجأ بعد ذلك للندم والتوبة من هذه الأخطاء، لا أن يرى نفسه منزّهًا، وجميع أعماله صحيحة؛ أجل، قد تكون بعض أعماله كذلك، لكن في هذه الحالة أيضًا، عليه أن يرى ذلك من الله تعالى؛ ولهذا، يوصي العظماء بأنّه عليك حينما تُريد النوم بالليل، وتقوم بمحاسبة نفسك، أن تستغفر الله تعالى من خطاياك وسيّئاتك، وأمّا بالنسبة للأعمال الحسنة التي صدرت منك، فليس عليك أن تفرح، لا، بل تشكر الله تعالى على أن وفّقك للقيام بها، وعليك أن تفكّر في أنّها لم تصدر منك أنت، وإلاّ لو كانت صدرت منك أنت، لم يكن هناك أيّ داعٍ للشكر؛ لأنّك ستكون أنت من قام بها؛ ولهذا، عليك أن تشكر الله تعالى على أن وفّقك هو لذلك؛ وحينئذ، سيكون تأثير هذا الشكر أكثر من تأثير ذلك الاستغفار؛ أي مهما كانت درجة تأثير ذلك الاستغفار في النفس، فإنّ ذلك الشكر الذي تُؤدّيه على التوفيق يكون تأثيره في النفس وفي وصول الإنسان إلى مرتبة العبوديّة أكثر.
وهنا، يقول الإمام عليه السلام: إنّ صدور هذه الأخطاء والعثرات منّي لا يرجع إلى عدم خوفي من تعجيلك للعقوبة، لا، فأنا أعلم بأنّك لو أردت أن تُعجّل لي العقوبة، لآخذتني على خطئي في نفس اللحظة، وحاسبتني مباشرةً، ولما تأنّيتَ إلى أن يأتي يوم القيامة؛ فلو أراد الله تعالى فعل ذلك، لفعله، ولو أراد الله تعالى، لوضع للإنسان حساب أعماله بين يديه في نفس تلك اللحظة.

    

قصّة أحد تلامذة المرحوم الكبودر آهنكي في تعجيل عقوبة المستهزئ

في أحد الأيّام، كان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يتحدّث عن أحد أولياء الله تعالى واسمه المرحوم الآخونذ الحاجّ الملاّ محمد جعفر كبودرآهنكيي[1] والذي كان من العظماء، وتُنقل عنه العديد من القضايا والمسائل، حيث تتلمذ عليه الكثير من المجتهدين المقطوع لهم بالاجتهاد، كما كان هو أيضًا ذا علم وافر، وله مجموعة من الكتب تتّصف بالعمق إلى حدّ ما، وقد اعوّجت شفته قليلاً بسبب إصابته بأحد الأمراض، وبقيت كذلك، فأثّر ذلك على طريقة كلامه.
وفي يوم من الأيّام، كان منهمكًا في الحديث في أحد المجالس، حيث كان له مجموعة من التلامذة، وكان بعضهم من التلامذة الأقوياء؛ فجاء أحد الناس الذين يتّصفون بالصلافة، وقعد في المجلس برفقة بعض أصدقائه؛ فما إن بدأ المرحوم الآخونذ في الكلام، حتّى شرع ذلك الرجل في تقليده ومحاكاته، ممّا أثار ضحك أصدقائه؛ والظاهر أنّ هؤلاء أتوا إلى المجلس لأجل هذه الأمور من الأساس. فلمّا انقضت مدّة يسيرة من الزمان، انتاب الغضب أحد تلامذة الشيخ، فالتفت إلى ذلك الشخص، وقال له: ابق هكذا حتّى...! فبقي ذاك الشخص على تلك الحالة [معوجّ الفم]، بل وبعشرة درجات أشدّ؛ ومجمل القول أنّه بقي هكذا على تلك الصورة العجيبة؛ وفجأة، التفت المرحوم الشيخ إلى ذلك التلميذ وقال له: ما هذه الأفعال التي تقوم بها؟! فما إن قال ذلك حتّى رجع ذلك الشخص إلى صورته الطبيعيّة الأولى.
وحينئذ، لو أنّ الله تعالى يُعجّل العقوبة للإنسان بهذا النحو، إلى ماذا ستؤول الأمور؟ سوف لن يرتكب أحد عملاً مخالفًا، اللهمّ إلاّ أن يكون أحمق، فيوفّيه الله تعالى حسابه حتّى قبل أن يخرج من المجلس؛ فكلّ من يكذب من باب المثال ينعقد لسانه عن الكلام في اللحظة ذاتها، وينتهي أمره، ونقرأ عليه سورة الفاتحة، والله وحده يعلم متى ينحلّ لسانه، أو أنّ كلّ من ينظر إلى مَحرم ـ من باب المثال ـ يعمى بصره؛ إذ المفروض أنّ الله تعالى يُعجّل العقوبة، أو أنّ كلّ من يريد أن يعتدي بيده على مظلوم من دون حقّ، فإنّ يده تتيبّس في تلك اللحظة؛ ففي هذه الحالة، لن يُقدم أيّ أحد على ارتكاب المعصية، ولن يوجد بعد ذلك أيّ كذب، ولا عمل محرّم، ولا ظلم. لن يوجد أيّ شيء من ذلك! أو أنّ كلّ من يعمد إلى سرقة الأموال، يظهر فجأةً رقمٌ على جبينه يُشير إلى أنّ: «هذا السيّد سرق الآن مائة مليون من البنك»، ويوضع أيضًا عليها اسم البنك ـ مثلاً بنك الصادرات الفرع الفلاني ـ فلا يستطيع إخفاء ذلك، وأينما ذهب، يُشيرون إليه أن: انظروا إلى هذا السارق، لقد نهب اليوم مائة مليون! وتُعيّن ساعة السرقة ودقيقتها؛ وأمّا إذا كان المبلغ المسروق هو مليار مثلاً، فإنّه يُكتب بالخطّ العريض؛ وهكذا لو وصل هذا المبلغ إلى عدّة آلاف من المليارات، فإنّ الأرقام ستملأ جبينه في هذه الحالة، ولن نعلم ما الذي سيحصل! وأظنّ بأنّ الله تعالى لن يقدر على فعل أيّ شيء بالنسبة لهذا الإنسان!! ولعلّه عندما تتجاوز المسألة حدًّا معيّنًا، فإنّ ذلك سيكون خارجًا عن قدرة الحقّ تعالى!!!!![2]
إنّ جميع هذه السرقات وهذه الأعمال الخاطئة إنما نقوم بها لأننا لا نخاف من تعجيل العقوبة؛ فإنّنا في الحقيقة قد فهمنا كلام الإمام السجاد عليه السلام بشكل جيّد، وقد رسخت هذه المسألة في نفوسنا بشكل قويّ؛ فنحن لا نخاف من عقاب الله أصلاً، والحال أنّ الإمام السجّاد يقول: أنا أخاف؛ ولكن في الجهة المقابلة أرى بأنّك خير الساترين يا رب وأحكم الحاكمين؛ وأمّا نحن فإننا لا نخاف أصلاً، فترى بعض الناس يسرق مالاً كالجبال ثم كأنّ شيئًا لم يكن! بل يضحك على الكلّ ويقول: ما سرقتُ إلا قربةً إلى الله.
هل من المعقول ذلك؟! نعم.
إنّ الله لا يعجّل العقوبة بل يصبر ثمّ يصبر ثمّ يصبر؛ ولكن فجأةً ترى بأنّ اللثام قد أميط عن المسألة بنحو ما، فالأمر لا يبقى مستورًا هكذا؛ وكشف الستر هذا ننساه نحن، فلا نرى إلا بضعة أمتار أمامنا، وأمّا ما سيحدث لاحقًا، وكيف ستكون مجريات الأمور، بحيث يُكشف الستر، وما الوقائع التي ستتعاقب بحيث يماط اللثام فلا نعرف عنها شيئًا، فنرى أنفسنا فجأةً في وسط المعمعة، وأنّ القضيّة قد انتشرت من غير أن نكون قد حسبنا لها حسابًا، بل لم نكن يخطر على ذهننا أنّ أمرًا من هذا القبيل سيحصل لنا. فسبب كلّ معاصينا تلك هو أنّ الله يؤخّر عقوبته.
وقد بيّنا سابقًا ما هي الفوائد التي تحصل جرّاء تأخير العقوبة هذا، وما هي المصالح المترتّبة عليه. إنّ الله يؤخّر العقوبة حتّى يحين الوقت، وعندما يحين يُفشيها الله ويظهرها. طبعًا هذا بالنسبة للمسائل التي يجب أن تُظهر وتُفشى [وهي المعاصي التي لها جنبة عامّة]، وأمّا الذنوب التي ليس لها جنبة عامّة بل الخطأ فيها خاص [فلها حكم آخر و تعامل مختلف] .. فالذنوب ذات البعد العام مثل الظلم، والسرقة، والتعدّي على حقوق الناس، فإنّ لها بعدًا عامًّا وكذلك تلك المسائل المتعلّقة بالناس والمجتمع، مثل القضاء على مصالح الناس العامّة، وسحق خيراتهم وأمثال ذلك فإنها ذنوب مرتبطة بعموم الناس.
أما الذنوب التي ليس لها هذا البعد العامّ بل لها بعد خاصّ، مثل الذنب الذي اُرتكب من دون أن يطّلع عليه أحد، أو أن ذنبًا اُرتكب بين اثنين ولم يطّلع عليه أحد، أو أنّ زلّة صدرت من إنسان ما ولم يطّلع عليها أحد؛ فماذا عنها؟ وكيف يتعامل الله معها؟ هذه يقول الله فيها: تُب إلى الله منها وأنا أعفو عنك.. لا تُفشها ولا تتكلّم عنها، وأنا لن أطلع أحدًا عليها إلاّ إن أتيت أنت ونشرتها؛ وأمّا أنا فلا أفضحك بها، ولا أهيّئ المقدّمات المسبّبة لكشفها، بل أغطّيها. فصحيح أنّك قد أخطأت وقد غَرّك الشيطان ولكن اذهب الآن وتب، وسترى بأن الله سيتجاوز عنك، ثم لا تعد إلى هذا الذنب ثانية.
لقد كان أمير المؤمنين جالسًا فجاءته امرأة فقالت له: يا علي طهّرني.
فقال لها: وما الذي صنعتي؟
قالت: لقد أثمت [زنيت].
فقال لها: اذهبي لشأنك، يبدوا أنك قد جننتِ أو أنك لا تعنين ما تقولين، ما الذي تتفوّهين به؟ فتعجبتْ تلك المرأة من ذلك..[3]
فهي تقول بأنني قد أخطأت ـ وهي طبعًا لا تقول ذلك إلا خوفًا من عذاب الآخرة ـ ويقول لها: ما هذا الكلام الذي تتفوّهين به، يبدو أنك لا تعنين ما تقولين!
لو كنّا نحن مكانه عليه السلام فما الذي كنّا سنفعله؟ كنّا سنقول: حسنًا إذن، اجلسي واحكي لي ما الذي فعلتيه؟ وكيف حدث الأمر؟ ونجعلها تُقرّ بالأمر مرّة واثنتان وثلاث وأربع، فنثبت عليها الحكم ثم نقيّدها ونأخذها ونقيم عليها حدّ الرجم.
إنّ أمير المؤمنين عليه السلام يعلم بأنّ ما يوجب العقوبة ليس هو نفس فعل الخطأ، وهو يعلم أيضًا بأنّ نفس حالها هذه التي هي عليها هي توبة لها، وسيسامحها الله و يتجاوز عنها.

    

إثارة فقهيّة حول تعلّق الحدّ في مقام الثبوت أم الإثبات وارتباط ذلك بصفة ستاريّة الله

هذه المسألة تستحقّ البحث أيضًا من الناحية الفقهيّة؛ فهل العقوبة التي تلزم المذنب تتعلّق به في مقام الثبوت أم في مقام الإثبات؟ فما هو معروف ومصطلح عليه بين الفقهاء هو أنّ العقوبة والحدّ يتعلّقان بمقام الثبوت، ولكن غاية الأمر أنّه لا بدّ من إثبات الذنب حتى تنفّذ العقوبة في الخارج؛ ولكن أصل الحدّ يتعلّق بمقام الثبوت لا بمقام الإثبات [حسب قول العلماء]؛ ولهذا لو أنّ إنسانًا ارتكب ذنبًا كشرب الخمر مثلاً فإنّ الحدّ يثبت عليه، غاية الأمر متى يصل إلى منصّة الظهور ويُقام عليه [فهذه مسألة أخرى]، فهو يستحقّ إقامة الحدّ عليه [حتّى وإن لم يثبت أنّه قد ارتكب الذنب]، وكذلك إن لم يُقم عليه الحدّ في هذه الدنيا فإنّه سيحاسب ويعاقب في الحياة الأخرى.
وأمّا ما توصّل إليه نظر الحقير ـ وقد كان لي مع المرحوم العلامة الطهراني مباحثات حول هذه المسألة ـ فهو أن الحدّ يتعلق بمقام الإثبات لا بمقام الثبوت، يعني لو أن إنسانًا فعل ذنبًا يستوجب الحدّ، وتاب قبل أن يتمّ إثبات الأمر في المحكمة، واقعًا تاب، فلا يترتّب عليه حدّ، وسيرة الأئمّة عليهم السلام وخصوصًا أمير المؤمنين عليه السلام في زمان خلافته تثبت ذلك، فقد كان عليه السلام يمتنع عن إجراء الحدّ ما وجد إلى ذلك سبيلاً، ولم يكن يسمح للخطأ أن يصل إلى مرحلة الإثبات، وعندما كان يصل إلى هذه المرحلة كان يقول: لا مجال بعد الآن! ولا بدّ من إجراء الحدّ! والمسائل والقضايا التي نقلت في هذا المجال عن أمير المؤمنين عليه السلام تحكي عن هذه الحقيقة، وهذه المسألة هي عين مسألة ستّاريّة الله، فهي عينها، فهذه المسألة الفقهيّة والتخصّصيّة هي عين هذه الصفة، وأنّه هل يقتضي مقام ستّاريّة الله أن يُخفى هذا لحدّ؟ أم أن يُحيا ويُقام ويُنشر خبره؟ ما نراه هو أنّها لا تقتضي هذا الأخير، بل مقام الستّاريّة يستر ولا يسمح للذنب أن يصل إلى مرحلة الإثبات، لأنّه بعد الإثبات سيترتّب الحدّ.

    

خطورة التجسّس على المؤمنين وحفظ عيوبهم

ولذا يقول الإمام: لأنّك خير الساترين. فأنا ارتكبت هذا الخطأ لأنّك خير الساترين، وصدرت منّي تلك الزلّة، وهذا معنى أنّ الله تعالى في مقام الستّاريّة لا يبحث عن عيوب الناس وإفشائها وإثباتها، فالله ستّار، وهذا الذنب الذي صدر هو عيب ونقص يرجع إلى عبد من عباده، والله لا يحبّ أن يهين عبده في أعين سائر العباد من أجل ذنب أو خطأ ارتكبه، لذا فهو يريد أن يخفيه، إلا إن كان هو نفسه يريد أن يقوم به بمرأى ومسمع من الناس، فهو قد فضح نفسه بنفسه، أمّا إن لم يكن كذلك، وكان يحبّ الستر والخفاء فهل يأتي الله ويفشي؟! إنّ مرتكب الذنب حين يرتكبه لا يحبّ أن يطّلع عليه أحد، هو نفسه حين يقوم بالمخالفة لا يحبّ أن يعثر عليه أحد، ومع ذلك يأتي عباد الله ويقومون بالاطّلاع على ذلك العيب بأنواع الوسائل والأجهزة فيضعونه في ملفّه الخاص ليقولوا له في يوم من الأيّام: لقد ارتكبت في اليوم الفلاني ذلك العمل!
ـ لم يكن أحدٌ مطّلعًا على ذلك!
ـ لا، أنت لم تكن تدري! نحن مطّلعون!
هذا الطريق هو على النقيض من طريق الله في تعامله مع خلقه، فالله يسير في اتجاه وهم يسيرون في اتجاه آخر، وهذا عملٌ مضادّ للسلوك ولله، التجسّس ضدّ السلوك، وتتبّع العيوب هو ضدّ السلوك وهو كفر، كفر بالله، ذاك توحيد وهذا كفر، ذاك نور وهذا ظلمة، ذاك إغماض وهذا إفشاء. فكم نحن بعيدون عمّا ينبغي أن نكون عليه، فنحن نقوم بعمل لا يرضاه الله بأيّ وجه من الوجوه ويذمّه، والله ينتقم أيضًا ويقول: بما أنّك قمت بإفشاء عيب عبدي فسأفشي عيبك يومًا ما، وهناك الكثير من الروايات في هذا المجالل[4] والأحاديث القدسية أن يا عبدي لا تفش عيوب عبادي كي لا أفشي عيوبك، استر عيوبهم لأستر عيوبك. فهذه كلّها برامج عمل لسلوكنا.
نسأل الله توفيق العمل بهذه المضامين وبهذه البيانات وبهذه الأوامر التي ينبغي أن نجعلها عنوانًا لحياتنا وسيرنا ولتصحيح سلوكنا وتصرّفاتنا، وإلا فالإمام السجّاد لم يكن عاطلاً عن العمل ليقرأ دعاء أبي حمزة، فكلّ واحدة من هذه المسائل هي لنا نحن، أي عليك أنت أن تكون هكذا أيضًا، كن أنت ساترًا أيضًا.
كنت أشعر أحيانًا في زمان المرحوم العلامة أنّه عندما كان يشعر في أيّة قضيّة أنّه سيحصل فيها هتك فإنّه كان يقطعها حتّى لا تتّضح، قضيّة حول مؤمن أو عبد من عباد الله أو مسألة من المسائل، أصلاً لم يكن يسمح أن تصل إلى هذا الحدّ، ويقول: لا تفكّروا في هذه المسألة وامضوا إلى غيرها، لماذا كان كذلك؟ بسبب مقام الستّاريّة، حيث يسترون ولا يتركون الأمور تعرف، وتعشعش في الأذهان وحينها تفضّل وأصلح إن كان بإمكانك! أفهل يمكن إخراجها من الأذهان بعد أن تدخل، إذا أردت أن تخرجها من الأذهان تجد أنّ سنوات مديدة قد مضت، وهذه لمّا تخرج من القلب بعد، أفليس من الأفضل أن لا تدخل من البداية؟!
يأتي رفيقك لزيارتك فيقول: لقد كنت جالسًا في مكان ورأيت فلانًا يريد أن يتحدّث عنكم...
ـ لا لا يا عزيزي لا داعي لأن تكمل، تفضّل واشرب عصير البرتقال، تفضّل وكل العنب.
أما الصورة المقابلة فما إن تقولُ له: نعم ماذا قال؟ بيّن لي أكثر! حتّى يكون قد انتهى الأمر فقد أفسد هذا المتكلّم عليك كلّ شيء وشوّش صفاء نفسك، ثمّ هو يمضي في حال سبيله، وعليك الآن أن تعيد الأمور إلى ما كانت عليه وما أنت بفاعل! فعليك من البداية أن تقطع ولا تسمح له بالوصول إلى هذا الحدّ، فلان قال عنّي كذا، قال فليقل ماذا يهمّني؟ قال شيئًا وأخطأ فلماذا عليّ أنا أن أبسط القول؟ لماذا أقوم بهذه الأمور؟ إن شاء الله وإن وفّقنا الله فإنّ بقيّة المطالب للليالي الآتية.

اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد

 


[1] ـ تقع كبودرآهنك في أطراف مدينة همدان.

[2] ـ يذكر السيّد هذا الأمر من باب المزاح، وللكناية عن المستوى العالي جدًّا الذي تبلغه بعض السرقات والجنايات. المترجم

[3] ـ انظر في هذا المجال: السرائر، ابن إدريس الحلّي، ج3، ص 454: قضية أمير المؤمنين عليه السلام في المرأة التي جاءت إليه بالكوفة ، فقالت له يا أمير المؤمنين طهرني فإني زنيت وأنا محصنة ، ثم أقرت أربع مرات في أربع دفعات ، فقال لها امضي فارضعي ولدك ، فإذا استغنى عنك فأنا أقيم الحد عليك.
وسائل الشيعة (طبعة آل البيت) ج28، ص 38 باب أن من تاب قبل أن يؤخذ سقط عنه الحد، واستحباب اختيار التوبة على الإقرار عند الإمام: ومما ورد فيه: أتى رجل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : يا أمير المؤمنين ، إني زنيت فطهرني فاعرض عنه بوجهه ، ثم قال له : اجلس ، فقال : أيعجز أحدكم إذا قارف هذه السيئة أن يستر على نفسه كما ستر الله عليه ، فقام الرجل ، فقال : يا أمير المؤمنين إني زنيت فطهرني ، فقال : وما دعاك إلى ما قلت ؟ قال : طلب الطهارة ، قال : وأي طهارة أفضل من التوبة ، ثم أقبل على أصحابه يحدثهم ، فقام الرجل فقال : يا أمير المؤمنين إني زنيت فطهرني ، فقال له : أتقرء شيئا من القرآن ؟ قال : نعم ، قال : اقرأ ، فقرأ ، فأصاب ، فقال له : أتعرف ما يلزمك من حقوق الله في صلاتك وزكاتك ؟ قال : نعم فسأله فأصاب ، فقال له : هل بك مرض يعروك أو تجد وجعا في رأسك ( أو بدنك )؟ قال : لا ، قال : اذهب حتى نسأل عنك في السر كما سألناك في العلانية ، فإن لم تعد إلينا لم نطلبك. الحديث.

[4] ـ انظر: الكافي ج2، باب من طلب عثرات المؤمنين وعوراتهم، ص 355 منه: ما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله: لا تطلبوا عثرات المؤمنين، فإن من تتبع عثرات أخيه تتبع الله عثراته، ومن تتبع الله عثراته يفضحه ولو في جوف بيته.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی