معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > الأبحاث التاريخية > لَمَعات‌ الحُسين‌ عليه‌ السلام
كتاب ولاية الفقيه/ المجلد الثالث/ القسم الاول: تقسیم الناس فی العلم، دلیل ولایة الفقیه، صعوبة الاجتهاد، العلم اللازم لولی الفقیه

 

أعُوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ

بِسْـمِ اللَهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِـيـمِ

وصلَّي‌ اللَهُ عَلَی سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ

ولَعْنَةُ اللَهِ عَلَی أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَی قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ

ولاَ حَولَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ العَلِي‌ِّ العَظِيمِ

 

 كان‌ بحثنا يدور حول‌ حديث‌ كميل‌ بن‌ زياد الذي‌ نقله‌ الخاصّة‌ والعامّة‌. قال‌ كميل‌: أخذ بيدي‌ أمير المؤمنين‌ علی ‌ّ بن‌ أبي‌ طالب‌ علیه السلام‌ فأخرجني‌ إلی الجبّان‌، فلمّا أصحر تنفّس‌ الصعداء ثمّ قال‌: يَاكُمَيْلُ! إنَّ هَذِهِ القُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا؛ فَاحْفَظْ عَنِّي‌ مَا أَقُولُ لَكَ!

 ويدور كلام‌ الإمام علیه السلام‌ في‌ جميع‌ مسائل‌ هذه‌ الفقرات‌ التي‌ بيّنها لكميل‌ حول‌ العلم‌ والعالِم‌. وبيّن‌ له‌ ما للعلم‌ من‌ أهمّيّة‌ ودرجة‌ وكمال‌.

 وكان‌ كميل‌ رجلاً عظيماً، وإذا لم‌ نتمكّن‌ من‌ عدِّه‌ من‌ أصحاب‌ الدرجة‌ الاُولي‌ لامير المؤمنين‌ علیه السلام‌ أمثال‌: ميثَم‌ التَّمَّار و حُجْربن‌ عَدي‌ّ و رُشَيْد الهَجَري‌ّ و حبيب‌ بن‌ مظاهر، فينبغي‌ ـ علي‌ الاقل ّـ أن‌ نعدّه‌ من‌ خواصّه‌ وكبار شيعته‌ علیه السلام‌. وهذه‌ المطالب‌ التي‌ ذكرها له‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ جواباً عن‌ سؤاله‌: ما الحقيقة‌؟ ـ وهو حديث‌ معروف‌ـ تدلّ علی شخصيّته‌ وعظمته‌.

 يقول‌ علیه السلام‌: إنَّ هذه‌ القلوب‌ أوعية‌، وأفضلها وخيرها القلب‌ الذي‌ تكون‌ سعته‌ أكبر؛ وإنَّما تكون‌ سعة‌ القلب‌ بالعلم‌؛ ثمَّ يبيّن‌ في‌ هذا المجال‌ بعض‌ الاُمور إلی أن‌ يقول‌: أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَهِ فِي‌ أَرْضِهِ. فهؤلاء هم‌ الحجج‌ الإلهيّة‌ والعلماء الربّانيّون‌ وخلفاء الله‌ علی الارض‌ وأصحاب‌ الولاية‌، حيث‌ يحصر أمير المؤمنين‌ علیه السلام‌ الخلافة‌ فيهم‌.

جميع‌ الناس‌ علی ثلاث‌ طوائف‌

 أي‌ أنـّه‌ يريد أن‌ يقول‌: إنَّ الخلافة‌ الإلهيّة‌ علی الارض‌ إنَّما هي‌ بالعلم‌ فقط‌، وكلّما كانت‌ سعة‌ القلب‌ للعلم‌ أكبر، فحظّه‌ من‌ الولاية‌ أوفر؛ وتكون‌ الولاية‌ الكلّيّة‌ الإلهيّة‌ لصاحب‌ العلم‌ المطلق‌. وإذا تجاوزنا ذلك‌ فإنَّ الاشخاص‌ الآخرين‌ يتمتّعون‌ بدرجات‌ الولاية‌ بحسب‌ درجات‌ قلوبهم‌ وإدراكهم‌ وعلومهم‌. وكلّ مَن‌ يصل‌ إلی العلوم‌ الواقعيّة‌ والحقيقيّة‌ الإلهيّة‌، فإنَّه‌ ينال‌ من‌ مقام‌ الخلافة‌ والولاية‌ بمقدار ما له‌ من‌ تلك‌ العلوم‌.ثمّ قسّم‌ الإمام علیه السلام‌ الناس‌ إلی ثلاث‌ طوائف‌، فقال‌: النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِي‌ٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَی سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ.

 فـ النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: أي‌ أنَّ جميع‌ الناس‌ بلا استثناء لا يعدون‌ ثلاث‌ طوائف‌، إمَّا عالم‌ ربّاني‌ّ؛ أو متعلّم‌ علی سبيل‌ نجاة‌؛ أو غُثاء بلا شخصيّة‌ ولاأصالة‌، ينتشرون‌ كما ينتشر البعوض‌ والذباب‌ في‌ الفضاء، وينعقون‌ مع‌ كلّ ناعق‌، ويميلون‌ مع‌ كلّ هبّة‌ ريح‌.

 ومن‌ خلال‌ قوله‌ علیه السلام‌: النَّاسُ ثَلاَثَةٌ يُعلَم‌ أنـّه‌ من‌ ضمن‌ التقسيم‌، لانـّه‌ علیه السلام‌ واحد من‌ الناس‌.

 ثمّ يتابع‌ الإمام علیه‌ السلام‌ قوله‌ إلی أن‌ يصل‌ إلی قوله‌: العُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِي‌َ الدَّهْرُ؛ أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَأَمْثَالُهُمْ فِي‌ القُلُوبِ مَوْجُودَةٌ. ومن‌ المسلّم‌ به‌ أنَّ قوله‌ العُلَمَاءُ بَاقُونَ مَابَقِي‌َ الدَّهْرُ يشمل‌ نفسه‌ علیه السلام‌ أيضاً، لانَّ الإمام لا يريد استثناء نفسه‌ من‌ هذا المعني‌.

 ثمّ يقول‌ علیه السلام‌: هَا! إنَّ هَا هُنَا لَعِلْماً جَمَّاً لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً! بيد أنـّي‌ ـوللاسف‌ الشديد ـ لا أجد مَن‌ أُعلّمه‌ علمي‌ وأُحمّله‌ إيّاه‌، لانَّ هؤلاء العلماء الموجودين‌ بين‌ الناس‌ حاليّاً لا يتجاوزون‌ هذه‌ الاصناف‌ الاربعة‌، وجميعهم‌ لا يصلح‌ لما أُريد، وذلك‌ لانـّهم‌:

 إمَّا علماءٌ من‌ ذوي‌ الفهم‌ والإدراك‌ الجيّدين‌، ممّن‌ لا تنطلي‌ علی هم‌ الخدع‌، لكنّهم‌ لا يملكون‌ ثباتاً واستقراراً من‌ حيث‌ الإيمان‌ ليمكنني‌ الركون‌ إليهم‌، فهم‌ أُناس‌ قد جعلوا الدين‌ آلة‌ للدنيا، واستظهروا بعلومهم‌ وبنعم‌الله‌ وتجرّأوا علی أوليائه‌، ويستعلون‌ علی عباده‌.

 أو أنـّهم‌ من‌ المنقادين‌ والمطيعين‌ والمأمونين‌، لكنّهم‌ يفتقدون‌ قوّة‌ الفكر ومن‌ الممكن‌ أن‌ ينخدعوا ببساطة‌، لانـّهم‌ بسطاء وممكن‌ أن‌ ينحرفوا بقليل‌ من‌ الشكّ، فهم‌ لا يصلحون‌، لانـّهم‌ لا يمتلكون‌ القابليّة‌ والسعة‌ لتحمّل‌ العلم‌.

 أو علماءٌ لا همَّ لهم‌ إلاّ اللذّة‌ والشهوة‌، ممّن‌ أرْخَوا العنان‌ للذّاتهم‌ النفسيّة‌ وشهواتهم‌، وغرقوا في‌ أنحاء اللذّة‌ والشهوة‌، سواء المادّيّة‌ أم‌ الاعتباريّة‌ أو حبّ الجاه‌ والرئاسة‌. وممّن‌ يعشقون‌ الاسم‌ والمظاهر والمقام‌ والمرتبة‌ والجاه‌ وأمثال‌ ذلك‌.

 أو من‌ المخدوعين‌ بجمع‌ الاموال‌ الدنيويّة‌، والمأخوذين‌ بالتقاط‌ وخزن‌ الحطام‌. ومن‌ هنا فإنَّ هاتين‌ الطائفتين‌ لا تستطيعان‌ أن‌ تكونا من‌ حرّاس‌ الدين‌ المبين‌ أو حماة‌ الشريعة‌. فما أشبه‌ هؤلاء بالانعام‌! ومع‌ هذا الوضع‌ وهذه‌ الحال‌ فإنَّ العلم‌ يموت‌ بموت‌ العلماء الذين‌ يحملونه‌.

 فلا تصلح‌ أيّة‌ واحدة‌ من‌ هذه‌ الطوائف‌ الاربع‌ لحمل‌ العلم‌، ولذلك‌ جاء في‌ رواية‌ النهي‌ عن‌ تعليم‌ الحكمة‌ لغير أهلها، لانَّ من‌ يعلِّم‌ الحكمة‌ لغير أهلها كمن‌ يعلّق‌ الجواهر في‌ عنق‌ الخنزير. فلا تعلِّموا الحكمة‌ لغير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم‌.

أفراد قليلون‌، قائم‌ للّه‌ بالحجّة‌، إمّا ظاهر مشهور أو خائف‌ مغمور

 ثمّ يقول‌ علیه السلام‌: اللَهُمَّ بَلَي‌! لاَ تَخْلُو الاْرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ؛ إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، أَوْ خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلاَّ تَبْطُلَ حُجَجُ اللَهِ وَبَيِّنَاتُهُ؛ وَكَمْ ذَا، وَأَيْنَ أُولَئِكَ؟!

 أجل‌؛ هناك‌ طائفة‌ قليلة‌ جدّاً أُولئك‌ المتعلّمون‌ علی سبيل‌ نجاة‌، وهم‌ الذين‌ سيصلون‌ إلی مقام‌ العلماء الربّانيّين‌، ويصبحون‌ من‌ الكاملين‌ علی وجه‌ الارض‌ ممّن‌ يمكنني‌ تحميلهم‌ علمي‌. ولكن‌ أين‌ يجدهم‌ الإنسان‌ ياتري‌! إذ من‌ المؤسف‌ إنّهم‌ نادرون‌.

 ولقد شغل‌ هؤلاء العلماء من‌ هذه‌ الطوائف‌ الاربع‌ كلّ مكان‌، وصاروا يمثّلون‌ السواد الاعظم‌، فأين‌ سيجد الإنسان‌ أُولئك‌ الافراد النادرين‌؟ والله‌ تعالي‌ لا يدع‌ الارض‌ دون‌ حجّة‌!

 فهناك‌ أشخاص‌ يقومون‌ بالحقّ من‌ أجل‌ إنقاذ عباد الله‌، وذلك‌ من‌ خلال‌ الاعتماد علی أنفسهم‌ وعلومهم‌ وأصالتهم‌، لكنّهم‌ قليلون‌ جدّاً كَمْ ذَا، وَأَيْنَ أُولَئِكَ؟

 إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً؛ فلقد كان‌ لدينا طوال‌ زمان‌ الغيبة‌ من‌ هؤلاء الاعلام‌ المشهورين‌ من‌ أمثال‌ الشيخ‌ المُفيد، السيّد المُرتَضي‌، العلاّمة‌ الحِلّي‌ّ، ابن‌ فَهْد الحلّي‌ّ، السيّد ابن‌ طاووس‌، السيّد بحر العلوم‌ والملاّ حسين‌قلي‌ الهمداني‌ّ رضوان‌ الله‌ علی هم‌، الذين‌ قاموا بالحقّ، ودعوا الناس‌ إلی شريعة‌ الحقّ وقادوهم‌ إلی الحقّ.

 أَوْ خَائِفاً مَغْمُوراً: من‌ أمثال‌ ميثم‌ التمّار، حُجْر بن‌ عَدي‌ّ، رُشَيْد الهَجَريّ، سعيد بن‌ جُبَيْر، حبيب‌ بن‌ مظاهر، الشهيد الاوّل‌، الشهيد الثاني‌، القاضي‌ نور الله‌ الشوشتري‌ّ وأمثالهم‌، الذين‌ كانوا حججاً إلهيّة‌ حقّاً، وحماة‌ للدين‌ والمذهب‌، وحفظة‌ للشريعة‌، ولكن‌ أين‌ هم‌؟ وكم‌ هم‌؟ قد تمرّ عدّة‌ قرون‌ دون‌ أن‌ يجد الإنسان‌ أكثر من‌ شخصين‌ أو ثلاثة‌ من‌ أمثالهم‌، ولذا يقول‌ علیه السلام‌: كم‌ هم‌ قليلون‌؟

 أُولَئِكَ وَاللَهِ الاْقَلُّونَ عَدَداً، وَ الاْعْظَمُونَ قَدْراً: يحفظ‌ الله‌ حججه‌ وبيّناته‌ بواسطة‌ هؤلاء إلی أن‌ يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ. أي‌: أشباههم‌ من‌ حيث‌ القابليّة‌ والاستعداد وسعة‌ القلوب‌.

 وعليهم‌ أن‌ يحمّلوهم‌ الحجج‌ الإلهيّة‌، ويعلّموهم‌ هذه‌ الاسرار الإلهيّة‌ وَيَزْرَعُوهَا فِي‌ قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ، لانـّهم‌ أُناس‌ هَجَمَ بِهِمُ العِلْمُ عَلَی حَقِيقَةِ البَصِيرَةِ.

 هجم‌ بهم‌ العلم‌ من‌ جميع‌ النواحي‌ وأحاط‌ بهم‌ فغاصوا في‌ بحاره‌ وليس‌ذلك‌ علم‌ اعتباري‌ّ وتخيّلي‌ّ وظنّي‌ّ، بل‌ هو حقيقة‌ البصيرة‌ والإدراك‌ والعلم‌.

 فهؤلاء قد تمكّنوا من‌ حقيقة‌ معدن‌ العلم‌ ومنبعه‌، وباشروا لروح‌ اليقين‌، فكلّ ما استصعبه‌ أهل‌ الترف‌ واللذّة‌ والدلال‌ في‌ هذا العالم‌، فهو عندهم‌ سهل‌ يسير. وكلّ ما يهابه‌ الجاهلون‌، فإنّهم‌ يأنسون‌ به‌. يعاشرون‌ الناس‌ بأبدانهم‌، ولكنَّ أرواحهم‌ معلّقة‌ بالمحلّ الاعلي‌ أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَهِ فِي‌ أَرْضِهِ. وَالدُّعَاةُ إلَی دِينِهِ. آهِ، آهِ! شَوْقاً إلَی رُؤْيَتِهِمْ.

 تحرك‌ ميثم‌ التمّار من‌ الكوفة‌ قاصداً الحجّ، ولمّا وصل‌ المدينة‌ رغب‌ في‌ زيارة‌ الشهداء علیهم السلام‌ لكنَّ الإمام لم‌ يكن‌ في‌ المدينة‌، فأتي‌ إلی أُمِّ سَلِمَة‌؛ فاستقبلته‌ استقبالاً حسناً، ثمّ سألته‌ عن‌ اسمه‌؛ فقال‌: أنا ميثم‌. فقالت‌ له‌: يا ميثمُ! كان‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ علیهوآله‌ وسلّم‌ يذكرك‌ بخير في‌ الليالي‌ المظلمة‌. هذا مع‌ أنَّ النبي‌ّ صلّي‌ الله‌ علیهوآله‌ وسلّم‌ لم‌ يكن‌ قد رأي‌ ميثماً.

 فلا يتعجّب‌ الإنسان‌ من‌ قول‌ أمير المؤمنين‌ علیه السلام‌: آهِ، آهِ! شَوْقاً إلَی رُؤْيَتِهِمْ!، لانَّ النبي‌ّ مشتاق‌ إلی رؤيتهم‌ أيضاً. وكلّ من‌ كان‌ وليّاً للَّه‌ فهو في‌ عين‌ ولاية‌ الله‌، وله‌ هناك‌ معيّة‌ معهم‌، كما كان‌ لسلمان‌ معيّة‌ مع‌ أهل‌ البيت‌.

 إنَّ جملة‌: اللَهُمَّ بَلَي‌ لاَ تَخْلُو الاْرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ، إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، أَوْ خَائِفاً مَغْمُوراً مطلقة‌، لانَّ لفظ‌ الإمام المختصّ بأئمّة‌ الشيعة‌ غيرموجود في‌ هذه‌ العبارة‌ ( إذ لا يجوز في‌ مدرسة‌ الشيعة‌ أن‌ يُطلق‌ لفظ‌ الإمام علی غير المعصوم‌، ولذا يقال‌ لهم‌ «الإماميّة‌»، حيث‌ إنَّ الشيعة‌ منسوبون‌ إلی الإمام المعصوم‌ لا الإمام بمعني‌ القائد، وإلاّ فكلّ طائفة‌ وفرقة‌ إماميّة‌، لانَّ لها قائد. ومن‌ المسلّم‌ بين‌ علماء الشيعة‌ وحتّي‌ بين‌ علماء أهل‌ السنّة‌ أنَّ من‌ خصائص‌ الشيعة‌ عدم‌ استعمالهم‌ لفظ‌ « الإمام » لغير الإمام المعصوم‌. بينما يطلق‌هذا المصطلح‌ بين‌ أهل‌ السنّة‌ والعامّة‌ علی كلّ زعيم‌ وحاكم‌ وشخص‌ كبير).

 لا يوجود في‌ هذه‌ الرواية‌ لفظ‌ « الإمام » حتّي‌ نقول‌ إنَّ لها انصرافاً أو اختصاصاً بالإمام المعصوم‌، وإنَّما الإمام علیه السلام‌ يقول‌ بشكل‌ عامّ: إنَّ الارض‌ لا تخلو من‌ أشخاص‌ ممتلكين‌ لليقين‌ والعلم‌، متمكّنين‌ عن‌ العلم‌ في‌ عينه‌، وهم‌ من‌ الحجج‌ الإلهيّة‌. نعم‌؛ إمَّا مشهورون‌ والناس‌ تعرفهم‌؛ وإمَّا مغمورون‌ في‌ الحبس‌ والسجن‌، وإن‌ لم‌ يكونوا في‌ النفس‌ والسجن‌ والنفي‌، فلامن‌ مطّلع‌ علی أحوالهم‌ وعلومهم‌، لانَّ ظروفهم‌ لا تسمح‌ لهم‌ إفشاء علومهم‌.

دلالة‌ حديث‌ كميل‌ علی ولاية‌ الفقيه‌ في‌: القضاء و الإفتاء والحكومة‌

 فالرواية‌ بإطلاقها تدلّ علی أنَّ الاشخاص‌ المالكين‌ هكذا صفات‌ وخصوصيّات‌ ـالتي‌ بيّنها الإمام لكميل‌ـ فهم‌: خُلَفَاءُ اللَهِ فِي‌ أَرْضِهِ وأصحاب‌ الولاية‌.

 ويكمننا أن‌ نستفيد من‌ هذا الاءطلاق‌ الولايةَ في‌ المقامات‌ الثلاثة‌: في‌  الإفتاء والقضاء والحكومة‌، لانَّ أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَهِ فِي‌ أَرْضِهِ لها إطلاق‌ وفيها حصر. وبشكل‌ عامّ فقد جعل‌ الإمام الخلافة‌ هنا مقرونة‌ بالعلم‌ فتجري‌ الولاية‌ في‌ جميع‌ شؤونها في‌ أُولئك‌ الذين‌ في‌ شريعة‌ العلم‌ وحقيقة‌ الولاية‌، وترشح‌ منهم‌.

إشكال‌ العلاّمة‌ المجلسي‌ّ في‌ حصره‌ مفاد الحديث‌ بالإمام المعصوم‌

 يقول‌ العلاّمة‌ المجلسي‌ّ في‌ « بحار الانوار »: وَلَمَّا كانَتْ سِلْسِلَةُ العِلْمِ وَالعِرْفانِ لا تَنْقَطِعُ بِالكُلِّيَّةِ مادامَ نَوْعُ الإنسان، بَلْ لابُدَّ مِنْ إمامٍ حافِظٍ لِلدِّينِ في‌ كُلِّ زَمانٍ، اسْتَدْرَكَ أميرُ المُؤْمِنينَ عَلَیهِ  السَّلامُ كَلامَهُ هَذا بِقَوْلِهِ: اللَهُمَّ بَلَي‌! ـ وَفي‌ «النَّهْجِ» ـ: «لاَ تَخْلُو الاَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَجِهِ؛ إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، أَوْ خَائِفاً مَغْمُوراً.» ـ وَفي‌ «تُحَفِ العُقولِ» ـ: «مِنْ قَائِمٍ بِحُجَّتِهِ إمَّا ظَاهِراً مَكْشُوفاً أَوْ خَائِفاً مُفْرَداً، لِئَلاَّ تَبْطُلَ حُجَجُ اللَهِ وَبَيِّنَاتُهُ وَرُوَاةُ كِتَابِهِ».

 وَالإمامُ الظَّاهِرُ المَشْهورُ، كَأَميرِ المُؤْمِنينَ صَلَواتُ اللَهِ عَلَیهِ ؛ والخائِفُ المَغْمورُ، كَالقائِمِ في‌ زَمانِنا، وَكَباقي‌ الاَئِمَّةِ المَسْتورينَ لِلخَوْفِ وَالتَّقِيَّةِ. وَيُحْتَمَلُ أنْ يَكونَ باقي‌ الاَئِمَّةِ عَلَیهِمُ السَّلامُ داخِلينَ في‌ الظَّاهِرِ المَشْهورِ. ] لانَّ بإمكان‌ كلّ إمام‌ ( سواء كان‌ في‌ السجن‌ أم‌ في‌ التقيّة‌ ) أن‌ يلتقي‌ بالناس‌، وعليه‌ فـ «الخائف‌ المغمور» يختصّ بالقائم‌ علیه السلام‌ [.

 إلی أن‌ يقول‌: وَعَلَی الثانِي‌، يَكونُ الحافِظونَ وَالمودِعونَ، الاَئِمَّةَ علیهم السلام؛ وَعَلَی الاَوَّلِ، يُحْتَمَلُ أنْ يَكونَ المُرادُ شيعَتَهُمُ الحافِظينَ لاِدْيانِهِمْ في‌ غَيْبَتِهِمْ.[1]

 فإذا اختصّ « الظاهر المشهور » بأمير المؤمنين‌ علیه السلام‌ و « الخائف‌ المغمور » ببقيّة‌ الائمّة‌ علیهم السلام‌، فسيكون‌ أمر حفظ‌ الدين‌ عند غيابهم‌ علی أيدي‌ شيعتهم‌ الذين‌ كانوا يتولّون‌ تدبير حوائج‌ الناس‌ من‌ قِبَلهم‌.

 وإذا كان‌ « الظاهر المشهور » يشمل‌ جميع‌ الائمّة‌ علیهم السلام‌ في‌ قبال‌ إمام‌ الزمان‌، فعندها يكون‌ الائمّة‌ علیهم السلام‌ هم‌ حماة‌ الدين‌ وحفظته‌، لاشيعتهم‌.

 ففي عبارة‌المرحوم المجلسي‌ّ:وَالإمام ُالظَّاهِرُالمَشْهورُكَأَميرِالمُؤْمِنين‌ احتمالان‌:

 الاحتمال‌ الاوّل‌: أن‌ يكون‌ قد ذكر أمير المؤمنين‌ علیه السلام‌ من‌ باب‌ المثال‌، كما كان‌ يمكنه‌ أن‌ يقول‌: بهذا النحو أيضاً: مثل‌ أميرالمؤمنين‌ صلوات‌ الله‌ علیهوبحر العلوم‌ والسيّد ابن‌ طاووس‌ وأمثالهم‌. وأن‌ يقول‌ أيضاً: وَالخائِفُ المَغْمورُ كَالْقائِم‌، من‌ باب‌ المثال‌، حيث‌ إنَّه‌ لاكلام‌ في‌ هذه‌ الصورة‌.

 الاحتمال‌ الثاني‌: من‌ باب‌ الاختصاص‌، فيريد أن‌ يقول‌ إنَّ الإمام المشهور مختصّ بأمير المؤمنين‌ علیه السلام‌، والخائف‌ المغمور مختصّ بالقائم‌ علیه السلام‌. وهذا الكلام‌ محلّ إشكال‌. نعم‌؛ لا كلام‌ في‌ أنَّ الإمام الظاهر المشهور مختصّ بأمير المؤمنين‌ علیه السلام‌، ولكنَّ الكلام‌ في‌ عدم‌احتواء الرواية‌ علی لفظ‌ « الإمام »، حيث‌ يقول‌ علیه السلام‌: اللَهُمَّ بَلَي‌ لاَتَخْلُو الاَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ. فقد جاء في‌ الرواية‌ لفظ‌ «قَائِمٍ لِلَّهِ» وفيه‌ إطلاق‌ يشمل‌ الائمّة‌ وبقيّة‌ العلماء العاملين‌ الذين‌ هم‌ علماء ربّانيّون‌. ولايوجد أي‌ّ دليل‌ علی اختصاص‌ هذه‌ الرواية‌ بالائمّة‌ المعصومين‌ علیهم السلام‌.

 أقُول‌: إنَّ لزوم‌ بقاء العلم‌ والعرفان‌ في‌ نوع‌ الإنسان‌، ولزوم‌ إمام‌ حافظ‌ للدين‌ في‌ كلّ زمان‌ ممّا لا إشكالَ فيه‌، إنَّما الكلام‌ في‌ أنَّ محطّ سياق‌ هذا الخبر هل‌ هو للدلالة‌ علی لزوم‌ إمام‌ بالخصوص‌ في‌ كلّ زمان‌، وهل‌ أراد الإمام علیه السلام‌ إيصال‌ هذا المعني‌؟

 أو أراد أن‌ يُفهم‌ علی لزوم‌ طائفة‌ من‌ العلماء الربّانيّين‌ في‌ كلّ زمان‌ ومِنْهُمْ: ـ بَلْ وَعَلَی فَوْقِهِمُ ـ الإمامُ في‌ كُلِّ حينٍ؟ فما الذي‌ تدلّ علیه رواية‌ السيّد الرضي‌ّ والآخرين‌ عن‌ كميل‌؟

القرائن‌ الدالّة‌ في‌ الرواية‌ علی عدم‌ الحصر، وإطلاقها لكلّ عالم‌ ربّاني‌ّ

 لا كلام‌ في‌ وجوب‌ وجود إمام‌ معصوم‌ في‌ كلّ زمان‌؛ ولكن‌، هل‌ هذا الخبر ناظر لخصوص‌ الإمام المعصوم‌ أم‌ أنَّ له‌ إطلاق‌؟

 وكلامنا هنا، أنَّ لفظ‌ «إمام‌» وما شابَهَهُ غير موجود ـ في‌ الرواية‌ـ فلااختصاص‌ للإمام‌ المعصوم‌ هنا. وَإنَّما فيهِ: لاَ تَخْلُو الاَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ؛ إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، أَوْ خَائِفاً مَغْمُوراً؛ وهذه‌ عناوين‌ كلّيّة‌ تنطبق‌ في‌ كلّ برهة‌ وزمان‌ علی جمع‌ من‌ العلماء الربّانيّين‌ الحافظين‌ للبيّنات‌ والحجج‌ الإلهيّة‌، والمودعون‌ للعلوم‌ والاسرار الإلهيّة‌ للنظراء، والزارعون‌ للحقائق‌ والمعارف‌ الإلهيّة‌ في‌ قلوب‌ الاشباه‌. فهي‌ عناوين‌ عامّة‌، وباقية‌ علی عموميّتها. ومعلوم‌ أنَّ الإمام أعلي‌ مصداق‌ لانطباق‌ هذه‌ العناوين‌، لاأنـّها مختصّة‌ به‌.

 وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، هو: كلام‌ الإمام في‌ تقسيم‌ الناس‌ علی اختلاف‌ أصنافهم‌ وطبقاتهم‌ إلی ثلاث‌ طوائف‌. فقد قسّم‌ الإمام جميع‌ أصناف‌ الناس‌ عَلَی اخْتِلافِ أصْنافِهِمْ وَطَبَقاتِهِمْ إلَی ثَلاَثِ طَوائِف‌: عَالِمٌ رَبَّانِي‌ٌّ، مُتَعَلِّمٌ عَلَی سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ. وما فصّله‌ في‌ ذيل‌ هذه‌ الجملة‌ إنَّما هو تفسير وشرح‌ لها. الإمام علیه السلام‌ نفسه‌ داخل‌ في‌ هذا التقسيم‌. وبناء علیهفالإمام علیه السلام‌ من‌ العلماء الربّانيّين‌. وهذا دليل‌ علی أنَّ القَائِم‌ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ، المشهور منه‌ والمغمور ليس‌ خارجاً عن‌ هذا التقسيم‌، وإذا قيل‌ بأنَّ العالم‌ الربّاني‌ّ منحصر بالإمام المعصوم‌؛ فنجيب‌: أنَّ هذا الامر ليس‌صحيحاً لالغة‌ ولا اعتباراً.

 أمّا من‌ ناحية‌ اللغة‌: فلا دليل‌ علی أنَّ العالم‌ الربّاني‌ّ منحصر بالإمام المعصوم‌. وقد نقل‌ المجلسي‌ّ كلام‌ بعض‌ أئمّة‌ اللغة‌ والادب‌ في‌ هذا المجال‌؛ يقول‌: الرَّبّانِي‌ُّ: مَنْسوبٌ إلَی الرَّبِّ، بِزِيادَةِ الاَلِفِ وَالنُّونِ عَلَی خِلافِ القِياسِ، كَالرَّقَبَانِي‌ّ.

 وقالَ الجَوْهَري‌ُّ: الرَّبَّانِي‌ّ: المُتَأَلِّهُ العَارِفُ بِاللَهِ تَعَالَي‌. وَكَذا قالَ الفَيْرُوزْآبَادِي‌ُّ.

 وقالَ في‌ «الكَشَّافِ»: الرَّبَّانِي‌ُّ: هُوَ شَديدُ التَّمَسُّكِ بِدينِ اللَهِ تَعالَي‌ وَطاعَتِهِ.

 وقالَ في‌ «مَجْمَعِ البَيَانِ»: هُوَ الَّذي‌ يَرُبُّ أمْرَ النَّاسِ بِتَدْبيرِهِ وَإصْلاحِهِ إيَّاهُ.

 ربّاني‌ّ، منسوب‌ إلی الربّ و «الياء» المشدّدة‌ في‌ آخره‌ ياء النسبة‌. يعني‌ يجب‌ أن‌ نقول‌: رَبِّي‌ّ؛ غاية‌ الامر قد أُضيفت‌ هنا ألف‌ ونون‌ بين‌ «ربّ» وبين‌ «ياء» النسبة‌، مثل‌: رَقَبَة‌، حيث‌ كان‌ يجب‌ أن‌ نقول‌: رَقَبِي‌ّ؛ ولكن‌ يقال‌: رَقَباني‌ّ.

 قال‌ الجوهري‌ّ والفيروزآبادي‌ّ: إنَّ « الربّاني‌ّ هو المتألّه‌ العارف‌ بالله‌ تعالي‌. وقال‌ الزمخشري‌ّ في‌ « الكشّاف‌ »: الربّاني‌ّ: هو شديد التمسّك‌ بدين‌ الله‌ تعالي‌ وطاعته‌ »، يعني‌ الإلهي‌ّ. فـ العالم‌ الربّاني‌ّ: هو ذلك‌ العالم‌ الذي‌ علاقته‌ وشغله‌ مع‌ الله‌. فيسمّي‌ صاحب‌ العلاقة‌ الشديدة‌ بالله‌ ربّ العالمين‌ عالم‌ ربّاني‌ّ، ونحن‌ نطلق‌ علیهاصطلاحاً: الإلهي‌ّ.

 وقال‌ في‌ « مجمع‌ البيان‌ »: الربّاني‌ّ: هو الذي‌ يربّ أمر الناس‌ (الربّ من‌ مادّة‌ التربيّة‌، ويسمّي‌ الله‌ الربّ، لانـّه‌ يَرُبُّ النَّاسَ) فـ الربّاني‌ّ، هو ذلك‌ العالم‌ الذي‌ يعالج‌ مشاكل‌ الناس‌، ويدعوهم‌ إلی كمالهم‌، ويربّيهم‌.

 وهذه‌ المعاني‌ لا تنحصر بالإمام المعصوم‌ لكي‌ نقول‌: إنَّ العالم‌ الربّاني‌ّ هو الإمام المعصوم‌ فقط‌. نعم‌؛ الإمام علیه السلام‌ ربّاني‌ّ و عالم‌ ربّاني‌ّ وهو في‌ الدرجة‌ العليا من‌ ذلك‌، لكنَّ كلامنا في‌ الانحصار، واللغة‌ لاتحصر الربّاني‌ّ في‌ الإمام المعصوم‌.

 وأمّا من‌ ناحية‌ الاعتبار: هل‌ لا نتملك‌ عالماً ربّانيّاً غيرالائمّة‌ المعصومين‌ علیهم السلام‌؟ ألم‌ يكن‌ السيّد ابن‌ طاووس‌ أو بحر العلوم‌ رضوان‌الله‌ علیهما علماء ربّانيّين‌، بل‌ كانا متعلّمين‌؟! هل‌ يمكننا القول‌: لم‌يأت‌ في‌ الإسلام‌ عالم‌ ربّاني‌ّ واحد منذ زمان‌ المعصومين‌ حتّي‌ يومنا الحاضر، وإنَّ سائر الناس‌ هَمَجٌ رَعَاع‌ وكان‌ جميعهم‌ متعلّمين‌؟! كما وصفهم‌ الإمام في‌ ذلك‌! فهل‌ لا يصل‌ أُولئك‌ الاشخاص‌ المعدودين‌ من‌ العلماء الربّانيّين‌ الذين‌ قال‌ عنهم‌ علیه السلام‌ كَمْ ذَا وأَيْنَ أُولَئِكَ؟ وعلي‌ قلّتهم‌ ـففي‌ كلّ زمان‌ يصل‌ شخص‌ أو اثنان‌ أو ثلاثة‌ في‌ ناحية‌ من‌ نواحي‌ العالَم‌ الإسلامي‌ّـ إلی مقام‌ الكمال‌، واجتياز مرحلة‌ التعلّم‌ والوصول‌ إلی شريعة‌ الولاية‌؟

 ينقل‌ صاحب‌ « روضات‌ الجنّات‌ » عن‌ أبي‌ علی ‌ّ صاحب‌ « منتهي‌ المقال‌ » الذي‌ كان‌ معاصراً للمرحوم‌ السيّد بحر العلوم‌، أنـّه‌ كتب‌ حول‌ السيّد ما يلي‌: « السيّد السند، والركن‌ المعتمد، مولانا السيّد مهدي‌بن‌ السيّد مرتضي‌بن‌ السيّد محمّد الحسني‌ّ الحسيني‌ّ الطباطبائي‌ّ النجفي‌ّ أطال‌ الله‌ بقاءه‌ وأدام‌ الله‌ علوّه‌ ونعماءه‌، الإمام الذي‌ لم‌ تسمح‌ بمثله‌ الايّام‌، والهمام‌ الذي‌ عقمت‌ عن‌ إنتاج‌ شكله‌ الاعوام‌، سيّد العلماء الاعلام‌، ومولي‌ فضلاء الإسلام‌، علاّمة‌ دهره‌ وزمانه‌، ووحيد عصره‌ وأوانه‌.

 إن‌ تكلّم‌ في‌ المعقول‌، قلت‌ هذا الشيخ‌ الرئيس‌ فَمَن‌ بقراط‌ وإفلاطون‌ وأرسطاطاليس‌؟! وإن‌ باحث‌ في‌ المنقول‌، قلت‌ هذا علاّمة‌ المحقّق‌ بفنون‌ الفروع‌ والاُصول‌. لم‌ يناظر في‌ فنّ الكلام‌ أحداً إلاّ قلت‌ هذا والله‌ علم‌ الهدي‌. وإذا فسّر الكتاب‌ المجيد وأصغيت‌ إليه‌ ذهلت‌ وخلت‌ كأنـّه‌ الذي‌ أنزله‌ الله‌ علیه! ( أتدرون‌ ماذا يقول‌؟ يقول‌ عند تفسير القرآن‌ تنسي‌ أنَّ هذا القرآن‌ قد نزل‌ علی النبي‌ّ، ويحسب‌ أنَّ القرآن‌ قد نزل‌ علیه هو... ) وداره‌ الميمونة‌ الآن‌ محطّ رحال‌ العلماء، ومفزع‌ الجهابذة‌ والفضلاء. وهو بعد الاُستاذ ( العلاّمة‌ الوحيد البهبهاني‌ّ ) دام‌ عُلاهما، إمام‌ أئمّة‌ العراق‌، وسيّد الفضلاء علی الإطلاق‌، إليه‌ يفزع‌ علماؤها، ومنه‌ يأخذ عظماؤها، وهو كعبتها التي‌ تطوي‌ إليه‌ المراحل‌، وبحرها الموّاج‌ الذي‌ لا يوجد له‌ ساحل‌، مع‌ كرامات‌ باهرة‌، ومآثر وآيات‌ ظاهرة‌ ». [2]

 يذكر هذه‌ الاُمور أبو علی الذي‌ كان‌ معاصراً لبحر العلوم‌ في‌ « منتهي‌ المقال‌ »، وذلك‌ بحسب‌ نقل‌ صاحب‌ « الروضات‌ » عنه‌. فهل‌ هناك‌ مجال‌ للقول‌ بأنَّ هذا الرجل‌ لم‌ يصل‌ بعد إلی مرحلة‌ الكمال‌؟ فلاي‌ّ شي‌ء قد جاء الإسلام‌ إذن‌؟! هل‌ من‌ الصحيح‌ أن‌ نقول‌ إنَّ الإسلام‌ جاء لكي‌ يربّي‌ مَن‌ كان‌ هَمَجٌ رَعَاعٌ؟! أو أن‌ نقول‌ إنَّ جميع‌ الاشخاص‌ مُتَعَلِّمٌ عَلَی سَبِيلِ نَجَاةٍ ويجب‌ أن‌ يبقوا ناقصين‌ حتّي‌ الموت‌؟!

 لنا اعتراض‌ هنا علی العلاّمة‌ المجلسي‌ّ رحمة‌ الله‌ علیهرحمة‌ واسعة‌، مع‌ أنـّه‌ جدّنا، حيث‌ لا ينبغي‌ للإنسان‌ التجاوز في‌ التعبير عمّا خطّه‌ الائمّة‌ علیهم السلام‌ من‌ نهج‌. فإذا أردتم‌ أن‌ تبالغوا في‌ مسألة‌ ما، وكان‌ في‌ تلك‌ المبالغة‌ هدم‌ لبعض‌ أعمدة‌ الدين‌، فمن‌ المقطوع‌ به‌ أنَّ أمير المؤمنين‌ والائمّة‌ علیهم السلام‌ سوف‌ لن‌ يؤيّدونه‌.

 صحيح‌ أنَّ الإمام علی رأس‌ جميع‌ الموجودات‌، وهذا محفوظ‌ في‌ محلّه‌، لكنَّ الكلام‌ في‌: ما الذي‌ تريد هذه‌ الرواية‌ بيانه‌؟ ولماذا تسقطون‌ إطلاق‌ هذه‌ الرواية‌ وتقيّدونها؟

 لقد بيّنتُ أنـّه‌ يحتمل‌ في‌ كلامه‌ أن‌ يكون‌ قوله‌: «كَأَميرِالمُؤْمِنين‌» أو «كَالقائِمِ في‌ زَمانِنا» علی سبيل‌ التشبيه‌، مع‌ كونه‌ احتمالاً بعيداً. وقوّة‌ الاحتمال‌ الآخر ( كونه‌ من‌ باب‌ الاختصاص‌ لا التمثيل‌ ) أكبر، فكلام‌ المرحوم‌ المجلسي‌ّ إذَن‌ ليس‌ تامّاً، وللرواية‌ إطلاق‌ في‌ أنَّ العلماء بالله‌ وبأمر الله‌ في‌ كلّ زمان‌ ومكان‌، الواجدين‌ لهذه‌ الخصوصيّات‌ لهم‌ مقام‌ الخلافة‌ الإلهيّة‌ والولاية‌.

معني‌: يُوْدِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ وَيَزْرَعُوهَا فِي‌ قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ، عامّ

 ومن‌ المعلوم‌ أنـّه‌ يوجد عدولاً من‌ الفقهاء والطاهرين‌ في‌ كلّ زمان‌، يؤيّدون‌ الدين‌ المبين‌ ويشيدون‌ النهج‌ القويم‌ وينحّون‌ عنه‌ تحريف‌ الغالين‌ وبدع‌ الضالّين‌، وينطبق‌ علی هم‌ الرَّبَّاني‌ّ في‌ كلّ من‌ هذه‌ المعاني‌، حيث‌ إنَّهم‌ بتعلّق‌ قلوبهم‌ بالاسرار الإلهيّة‌ صاروا متألّهين‌، والمتمسّكين‌ بدين‌ الله‌ ومُربّي‌ الناس‌ بِتَدبيرِهِمْ وَإصْلاحِهِمْ إيّاهُمْ.

 علی أنـّه‌ صرّح‌ في‌ هذا الخبر الشريف‌ بأن‌: يَحْفَظُ اللَهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ حَتَّي‌ يُوْدِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ وَيَزْرَعُوهَا فِي‌ قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ.

 فهل‌ يودع‌ الإمام تلك‌ الاسرار الإلهيّة‌ في‌ قلوب‌ أشخاص‌ مثله‌؟ كلاّ؛ وإنَّما الحجج‌ الإلهيّة‌ والعلماء الربّانيّين‌ يضعون‌ هذه‌ الاسرار الإلهيّة‌ في‌ قلوب‌ أمثالهم‌ ويزرعونها في‌ أفئدة‌ نظرائهم‌ وأشباههم‌. فلا نظير للإمام‌ ولاشبيه‌ من‌ الاُمَّة‌ حتّي‌ يصبح‌ إيداع‌ وزرع‌ تلك‌ الحجج‌ والبيّنات‌ في‌ قلوب‌ النظير والشبيه‌. فيتّضح‌: أنَّ المراد من‌ النظراء والاشباه‌ جماعة‌ من‌ العلماء الربّانيّين‌ العاملين‌، تدارسوا وتعلّموا وتتلمذوا في‌ مكتب‌ العلماء الربّانيّين‌ تحت‌ رعايتهم‌ وحفظهم‌ وكلاءتهم‌ في‌ كلتا مرحلتي‌ العلم‌ والعمل‌ حتّي‌ صعدوا من‌ سلّم‌ العلم‌ والمعرفة‌ إلی أقصي‌ مدارجة‌ وَبَلَغوا مِنْ مَدارِجِ اليَقينِ وَالتَّفْويضِ وَالتَّسْليمِ أعْلَي‌ مَعارِجِه‌، وبلغوا من‌ منازل‌ فصاروا مثل‌ المودعين‌ والزارعين‌، علماء ربّانيّين‌، وقد صاروا مثل‌ أساتذتهم‌ وعلمائهم‌ الذين‌ درّسوهم‌ ورّبوهم‌ فأوصلوهم‌ إلی المعارف‌ الإلهيّة‌ وإلي‌ مقام‌ الولاية‌.

 بينما الإمام المعصوم‌ ليس‌ له‌ شبيه‌ ولا نظير. ومقام‌ الإمام المعصوم‌ أعلي‌ من‌ هؤلاء وأجلّ. فالمقصود من‌ العلماء الربّانيّين‌ المذكورين‌ في‌ هذه‌ الرواية‌ هم‌ أُولئك‌ العلماء الذين‌ جلسوا علی مسند التعليم‌ وأخذوا بأيديهم‌ أزمّة‌ الهداية‌ وقادوا الناس‌ إلی مصالحهم‌، باعتبارهم‌ المتولّون‌ لزمام‌ المصلحة‌ الواقعيّة‌ للناس‌ والحافظون‌ لبنيان‌ بيّنات‌ الله‌ وحججه‌ علی الارض‌. وَهَكَذا كُلُّ خَلَفٍ عَنْ سَلَف‌.

 ويؤيّده‌ أيضاً، ما ورد في‌ « تحف‌ العقول‌ »: لِئَلاَّ تَبْطُلَ حُجَجُ اللَهِ وَبَيِّنَاتُهُ وَرُوَاةُ كِتَابِهِ. فمن‌ هم‌ رُواةُ الكِتاب‌؟ وهل‌ يمكن‌ القول‌ إنَّهم‌ نفس‌ الائمّة‌؟ نعم‌؛ يمكن‌ القول‌ في‌ حُجَجُ اللَهِ وَبَيِّنَاتُهُ: إنَّ الدرجة‌ العليا في‌ ذلك‌ هي‌ للاءمام‌، لكنّه‌ ليس‌ راوٍ للكتاب‌، وكما هو معلوم‌: أنَّ رُواةُ الكتاب‌ هم‌ العلماء العاملون‌ الذين‌ قد تربّوا علی أيدي‌ الربّانيّين‌ ـ في‌ كلّ زمان‌ ومكان‌ـ. فهم‌ رواة‌ كتاب‌ الله‌ وسنّة‌ رسوله‌.

 وهذه‌ الرواية‌ صريحة‌ في‌ ولاية‌ العلماء الفقهاء. أي‌ أنـّه‌ يجب‌ أن‌ يكونوا علماء وفي‌ أرقي‌ مدارج‌ الفقه‌، حيث‌ إنَّ الإمام علیه السلام‌ قد حصر الولاية‌ فيهم‌ بِقَوْلِهِ: أُولَئِكَ أُمَنَاءُ اللَهِ فِي‌ خَلْقِهِ، وَخُلَفَاؤُهُ فِي‌ أَرْضِهِ، وَسُرُجُهُ فِي‌ بِلاَدِهِ، وَالدُّعَاةُ إلَی دِينِهِ.

 فعناوين‌: الاُمَناء، الخُلَفاء، السُّرُج‌، الدُعَاة‌ تستلزم‌ الولاية‌ والخلافة‌ الإلهيّة‌ في‌ جميع‌ الشؤون‌ العباديّة‌ والاجتماعيّة‌ والسياسيّة‌ من‌  الإفتاء والقضاء والحكومة‌، بِمَراحِلِها وأنْواعِها.

 وَلَعَمْري‌! ولعمري‌! إنَّ هذه‌ الرواية‌ العالية‌ الغالية‌ ( التي‌ نصّ المجلسي‌ّ في‌ شرحها بأنـّها كَثيرَةُ الجَدْوَي‌ للطالبين‌ ومن‌ الاجدر أن‌ يقوم‌ طلاّب‌ العلم‌ كلّ يوم‌ بمطالعتها والنظر إليها بنظر الاعتبار واليقين‌ ) مِنْ أدَلِّ الرَّواياتِ الوارِدَةِ عَلَی وِلايَةِ الفَقيهِ العَادِلِ الجَامِعِ لِلشَّرائِط‌. ولاأدري‌ لاي‌ّ جهة‌ لم‌ يُشر إليها الاعلام‌ ولم‌ يأخذوا بها في‌ باب‌ القضاء والحكومة‌ كدليل‌ من‌ أدلّة‌ ولاية‌ الفقيه‌. ولم‌ يستند إليها الشيخ‌ الانصاري‌ّ في‌ « المكاسب‌ » والنراقي‌ّ في‌ « المستند » و « عوائد الايّام‌ » ولم‌ يذكروها من‌ جملة‌ أدلّة‌ الولاية‌ مع‌ أنـّها مِنْ أدَلِّها وَأصْرَحِها وَأقْواها سَنَداً وَمَتْناً.

مَن‌ لا يتّصف‌ بمفاد هذا الحديث‌ من‌ العلماء، غاصب‌ لمقام‌ الولاية‌

 ولو أشكل‌ البعض‌ بخصوص‌ ما جاء في‌ هذه‌ الرواية‌ لمكان‌ بعض‌ الخواصّ والآثار المذكورة‌ فيها، مثل‌ قوله‌ علیه السلام‌: هَجَمَ بِهِمُ العِلْمُ عَلَی حَقِيقَةِ البَصِيرَةِ وَبَاشَرُوا رُوحَ اليَقِينِ. أو قوله‌: وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالمَحَلِّ الاَعْلَي‌. فهذه‌ المعاني‌ عالية‌ جدّاً وفي‌ ذروة‌ الرقي‌ّ والسموّ، لكنّها لا تتناسب‌ مع‌ الاشخاص‌ الذين‌ هم‌ من‌ أهل‌ التعليم‌ والتعلّم‌ والتدريس‌ والمباحثة‌. فينبغي‌ حملها علی جماعة‌ من‌ أهل‌ اليقين‌ الذين‌ ساروا في‌ طريق‌ السير والسلوك‌ والرياضات‌ الشرعيّة‌ وتهذيب‌ النفس‌ والعرفان‌ والاسرار الإلهيّة‌، لانطباق‌ هذه‌ الصفات‌ علی هم‌.

 ونجيب‌ علی ذلك‌ بـ: أنَّ هذا التوجيه‌ ليس‌ صحيحاً علی الإطلاق‌، لانَّ الإمام علیه السلام‌ في‌ هذه‌ الرواية‌ قد حصر خلافة‌ الله‌ علی الارض‌ والدعوة‌ إلی دينه‌ بهؤلاء الاشخاص‌، ويقول‌: من‌ يتمكّن‌ من‌ الدعوة‌، ويتأهّل‌ لخلافة‌ الله‌ علی أرضه‌، هو من‌ تجسّدت‌ فيه‌ الصفات‌، لاغير؛ بينما أخرج‌ الطوائف‌ الاربع‌ من‌ ذلك‌. فلا يمكننا أن‌ نحمل‌ هذه‌ الرواية‌ علی الاشخاص‌ الخارجين‌ عن‌ مجال‌ التدريس‌ والتعلّم‌ والمنشغلين‌ بالاعمال‌ الشخصيّة‌ والسير والسلوك‌. ولا مناص‌ من‌ أن‌ يكون‌ الداعي‌ الربّاني‌ّ وخليفة‌الله‌ هم‌ العلماء والفقهاء العاملين‌ بالتعليم‌ والتعلّم‌ والدرس‌ والتدريس‌، وذوي‌ العقل‌ الوافي‌ والكافي‌، وأهل‌ الخبرة‌ والبصيرة‌ في‌ السياسة‌ وإدارة‌ أُمور الناس‌ وأوضاع‌ الزمان‌، بالإضافة‌ لاتّصافهم‌ بما ذكر الإمام علیه السلام‌ من‌ صفات‌؛ وَإلاَّ لاَ يَكونُ خَليفَةَ اللَهِ. ففاقد هذه‌ الصفات‌ لايكون‌ خليفة‌ الله‌ وداعياً، بل‌ يكون‌ غاصباً لهذا المنصب‌ العظيم‌، ومطروداً من‌ زمرة‌ عباد الله‌ الصالحين‌، ومن‌ جملة‌ الاولياء المقرّبين‌.

 الفقيه‌ المنصوب‌ من‌ قبل‌ الإمام، وصاحب‌ الولاية‌ الكلّيّة‌، والقائم‌ بالاُمور، والحاكم‌ علی النفوس‌ والاموال‌ والاعراض‌، والمربّي‌ للبشر نيابة‌ عن‌ الإمام لابدّ من‌ أن‌ يكون‌ واجداً لهذه‌ الصفات‌ بالضرورة‌ والقطع‌.

 وقد وردت‌ أخبار كثيرة‌ مستفيضة‌ ومتواترة‌ حول‌ اقتران‌ العلم‌ والعمل‌، والقدر المؤيّد من‌ علم‌ الإنسان‌ ما يكون‌ به‌ عاملاً، وما سوي‌ ذلك‌ خيال‌. وقد ورد نهي‌ أكيد عن‌ تصدّي‌ غير العالم‌ الربّاني‌ّ الخارج‌ عن‌ إطاعة‌ هواه‌ والمطيع‌ لامر مولاه‌ للاُمور العامّة‌، من‌ القضاء والحكومة‌ والمرجعيّة‌. ولدينا روايات‌ كثيرة‌ جدّاً ناظرة‌ إلی هذا المعني‌، فلابدّ للذين‌ يتصدّون‌ لاُمور الناس‌ من‌ أن‌ يكونوا أُمناء الله‌ في‌ مرحلتي‌ العلم‌ والعمل‌، وعلي‌ درجة‌ عالية‌ من‌ التقوي‌، ومن‌ أصحاب‌ الاسرار والحجج‌ الإلهيّة‌، وهم‌ والحال‌ هذه‌ ممّن‌ يصدق‌ علی هم‌ قوله‌ علیه السلام‌: هَجَمَ بِهِمُ العِلْمُ عَلَی حَقِيقَةِ البَصِيرَةِ، وقوله‌: وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالمَلاَءِ الاَعْلَي‌ أو بِالمَحَلِّ الاَعْلَي‌.

 اللَهُمَّ صَلِّ عَلَی مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّد

 

أعُوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ

بِسْـمِ اللَهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِـيـمِ

وصلَّي‌ اللَهُ عَلَی سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ

ولَعْنَةُ اللَهِ عَلَی أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَی قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ

ولاَ حَولَ ولاقُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ العَلِي‌ِّ العَظِيمِ

 

 خطبة‌ سيّد الشهداء أو أمير المؤمنين‌ علیهما السلام‌

 من‌ الادلّة‌ الصريحة‌ علی ولاية‌ الفقيه‌، الرواية‌ التي‌ ينقلها الشيخ‌ الثقة‌ أبو محمّد، الحسن‌ بن‌ علی ‌ّ بن‌ الحسين‌ بن‌ شُعبة‌ الحَرَّانِي‌ّ، في‌ «تحف‌العقول‌» في‌ باب‌ الروايات‌ المنقولة‌ عن‌ الإمام‌ التقي‌ّ السِّبط‌ الشهيد أبي‌ عبدالله‌ الحسين‌ بن‌ علی ‌ّ علیهما السلام‌، ضمن‌ خطبته‌ علیه السلام‌ في‌ الامر بالمعروف‌ والنهي‌ عن‌ المنكر، حيث‌ يقول‌:

 اعْتَبِروُا أَيُّـهَا النَّاسُ بِمَا وَعَظَ اللَهُ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ سُوءِ ثَنَائِهِ عَلَی الاَحْبَارِ!

 ثمّ استمرّ علیه السلام‌ في‌ كلامه‌ إلی أن‌ يقول‌: وَأَنْتُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ مُصِيبَةً لِمَا غَلَبْتُمْ عَلَیهِ  مِنْ مَنَازِلِ العُلَمَاءِ لَوْ كُنْتُمْ تَسَعُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَجَارِي‌َ الاُمُورِ وَالاَحْكَامِ عَلَی أَيْدِي‌ العُلَماءِ بِاللَهِ، الاُمَناءِ عَلَی حَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ.[3]

 وورد في‌ « تحف‌ العقول‌ » أيضاً أنَّ هذه‌ الخطبة‌ مرويّة‌ عن‌ أميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ كذلك‌.

 أَنْتُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ مُصِيبَةً لِمَا غَلَبْتُمْ عَلَیهِ  مِنْ مَنَازِلِ العُلَماءِ.

 غَلَبَ الرَّجُلَ، وَغَلَبَ عَلَیهِ ؛ يعني‌: قَهَرَهُ وَاعْتَزَّ بِهِ. اعْتَزَّ عَلَی فُلانٍ: أَي‌ْ تَعَظَّمَ عَلَیهِ  وَغَلَبَهُ.

 لِمَا غَلَبْتُمْ عَلَیهِ : أي‌ أنـّكم‌ جعلتم‌ منازل‌ العلماء ودرجاتهم‌ ومقاماتهم‌ في‌ مكان‌ أدني‌، وترفّعتم‌ وتعظّمتم‌ علی هم‌. وهذا الطامّة‌ الكبري‌ لكم‌! فبتعظيمكم‌ أنفسـكم‌ وتفضيل‌ منزلتكم‌ في‌ مقابل‌ عظمـة‌ العلماء ومنزلتهم‌ قد ملكتم‌ أعظم‌ مصيبة‌!

 ولو كانت‌ لكم‌ القدرة‌ علی الإحاطة‌ بهذا الامر واستيعابه‌ وفهمه‌، لعلمتم‌ أنَّ محلّ ومجري‌ الاحكام‌ بيد العلماء بالله‌ الاُمناء علی حلاله‌ وحرامه‌.

 والمراد هنا من‌ مَجَارِي‌َ الاُمُورِ وَالاَحْكَامِ، هو مجاري‌ الاُمور والاحكام‌ الاجتماعيّة‌، الراجعة‌ إلی سياسة‌ المدن‌، وتربية‌ الاشخاص‌ وحفظهم‌ من‌ المفاسد والعدوّ، وإيصالهم‌ إلی السعادة‌ الكاملة‌، وإخراج‌ قابليّاتهم‌ إلی مرحلة‌ الفعليّة‌، وتحريرهم‌ من‌ أسر العوز والفقر والمرض‌ والهلاك‌ والجهل‌، ومن‌ الرحيل‌ من‌ هذه‌ الدنيا قبل‌ أوان‌ النضج‌ وقبل‌ وصول‌ قابليّاتهم‌ وقواهم‌ إلی مرحلة‌ الفعليّة‌.

 مصيبتكم‌ عظيمة‌ جدّاً، بسبب‌ هذا الترفّع‌ والتكبّر الذي‌ جعلتموه‌ في‌ أنفسكم‌ مقابل‌ منزلة‌ وقدر وقيمة‌ العلماء، فإنَّ مجاري‌ الاُمور والاحكام‌ بيد العلماء.

 وتوضيح‌ الامر: قسّم‌ العلماء الحكمة‌ إلی قسمين‌: الحكمة‌ النظريّة‌ والحكمة‌ العمليّة‌.

 الحكمة‌ النظريّة‌: هي‌ ما يلزم‌ لاجل‌ كمال‌ النفس‌ الإنسانيّة‌ من‌ ناحية‌ السير في‌ المعارف‌ وتكميل‌ القوي‌ العاقلة‌ للإنسان‌.

 الحكمة‌ العمليّة‌: ترجع‌ إلی الاعمال‌ التي‌ يقوم‌ بها الإنسان‌ لاجل‌ كماله‌، وهي‌ مقدّمة‌ لاكتمال‌ العقل‌.

 ويقسّمون‌ الحكمة‌ العمليّة‌ أيضاً إلی ثلاثة‌ أقسام‌:

 الاوّل‌: علم‌ تهذيب‌ النفس‌، الذي‌ يرتبط‌ بالاخلاق‌؛ الثاني‌: سياسة‌ المُدُن‌؛ الثالث‌: تدبير المنزل‌.

 وسياسة‌ المدن‌ ـ القسم‌ الثاني‌ من‌ الحكمة‌ العمليّة‌ـ تنقسم‌ إلی قسمين‌:

 الاوّل‌: حفظ‌ العلاقات‌ الداخليّة‌ للناس‌، وإيصال‌ ما يحتاجونه‌ إليهم‌، وإقامة‌ العدالة‌ الكاملة‌ بينهم‌، وإعطاء كلّ ذي‌ حقّ حقّه‌ علی النحو الاتمّ والاكمل‌ بشكل‌ لا يكون‌ هناك‌ أي‌ّ حيف‌ وتمييز في‌ المجتمع‌، ولايكون‌ ثمّة‌ تفضيل‌ لشخص‌ علی آخر من‌ غير سبب‌. وتلبية‌ الحاجات‌ الضروريّة‌ لكلّ أفراد المجتمع‌. وبعبارة‌ أُخري‌: تأمين‌ حاجات‌ المجتمع‌، وكلّ مجتمع‌ حسب‌ حاجاته‌.

 الثاني‌: دفع‌ العدوّ الخارجي‌ّ، حيث‌ ينبغي‌ لافراد كلّ مجتمع‌ ـللحفاظ‌ علی ثبات‌ وديمومة‌ مجتمعهم‌ـ أن‌ يكونوا مجهّزين‌ بالاجهزة‌ الدفاعيّة‌ التي‌ تمكّنهم‌ من‌ دفع‌ العدوّ الخارجي‌ّ وحماية‌ كيانهم‌. ولو كانت‌ ثقافة‌ المجتمع‌ رفيعة‌ جدّاً، ووضعه‌ المالي‌ مستقرّاً ولا يمتلك‌ القوّة‌ الدفاعيّة‌ ولايتمكّن‌ من‌ حفظ‌ كيانه‌ أمام‌ تجاوز العدوّ أيَّاً ما كان‌، فلا شكّ من‌ انهيار مجتمع‌ كهذا وزواله‌.

 ولذا، نري‌ أنَّ كلّ المجتمعات‌ ـالتي‌ اطّلعنا علی ها إلی الآن‌ في‌ التأريخ‌ـ يالإضافة‌ إلی سعيها من‌ أجل‌ حفظ‌ قواها الداخليّة‌ وتأمين‌ السعادة‌ الداخليّة‌ تعمل‌ علی امتلاك‌ قوّة‌ دفاعيّة‌ أيضاً لمواجهة‌ العدوّ الخارجي‌ّ، لتتمكّن‌ بواسطتها من‌ إبعاد العدوّ بأي‌ّ شكل‌ كان‌ ـ سواء من‌ الناحية‌ السياسيّة‌ أم‌ للحدّ من‌ نفوذه‌ في‌ منطقتها ومجتمعها ـ ولمنعه‌ من‌ التحرّك‌ وردعه‌، حتّي‌ أنَّ جهود بعض‌ المجتمعات‌ المبذولة‌ للدفاع‌ والتخلّص‌ من‌ أضرار العدوّ الخارجي‌ّ تفوق‌ ما تبذله‌ لحفظ‌ الداخل‌، وترصد لذلك‌ الميزانيّات‌، وإن‌ كانت‌ علی حساب‌ ميزانيّاتها الداخليّة‌.

 وكان‌ اهتمام‌ كبار العلماء الدائم‌ بهذا القسم‌ من‌ الحكمة‌ الإلهيّة‌ في‌ كلا الموردين‌، سواء مورد جلب‌ المنافع‌ الذي‌ يرجع‌ إلی داخل‌ المجتمع‌ والمحيط‌، أم‌ جانب‌ دفع‌ مضارّ العدوّ الخارجي‌ّ لكي‌ لا يتعرّض‌ المجتمع‌ إلی الضرر، ولو علی نحو الاحتمال‌.

 والدفاع‌ عن‌ الحدود من‌ العدوّ من‌ المسائل‌ المهمّة‌ جدّاً، وعُرِفَ بعنوان‌ حفظ‌ بيضة‌ الإسلام‌، ولحفظ‌ بيضة‌ الإسلام‌ أهمّيّة‌ كبري‌. وحفظ‌ بيضة‌ الإسلام‌، يعني‌: حفظ‌ المجتمع‌ الإسلامي‌ّ، وحكومته‌، وسياسته‌، والمحافظة‌ علی إسلاميّة‌ المجمتع‌ من‌ شرور الاعداء؛ وهو أوجب‌ من‌ كلّ شي‌ء، وألزم‌ وأهمّ. ويعبّر عن‌ ذلك‌ في‌ المجتمعات‌ غير الإسلاميّة‌ بالوطنيّة‌.

 وأشارت‌ العبارة‌ الشريفة‌ إلی أنَّ المراد من‌: مَجَارِي‌َ الاُمُورِ وَالاَحْكَامِ، هو حفظ‌ بيضة‌ الإسلام‌ بتلك‌ الاُمور والاحكام‌ من‌ شرّ العدوّ. وسيبقي‌ الإسلام‌ قويّاً إذا ما جعلت‌ جميع‌ هذه‌ الاحكام‌ والاُمور بيد العلماء بالله‌ والاُمناء علی حلاله‌ وحرامه‌. وإلاّ، فإذا كُسرت‌ بيضة‌ الإسلام‌ فيعني‌ زوال‌ وحدة‌ المسلمين‌، ومحو دينهم‌ ـ بعد أن‌ يصاب‌ بالضربات‌ ـ من‌ صفحة‌ الوجود.

قول‌ الشهيد الثاني‌ في‌ العلماء بالله‌ وبأمر الله‌

 ولتوضيح‌ هذه‌ الرواية‌ الشريفة‌، نورد كلاماً للشهيد الثاني‌ قاله‌ في‌ «منية‌ المريد » ومن‌ ثمّ نقوم‌ بشرحه‌.

 يقول‌ رحمه‌ الله‌ ـبالطبع‌ لم‌ يكن‌ ذلك‌ بمناسبة‌ شرح‌ هذه‌ الرواية‌، وإنّما في‌ مطلب‌ مستقلّ تعرّض‌ له‌ـ: إنَّ العلوم‌ كلّها ترجع‌ إلی أمرين‌: الاوّل‌: علم‌ معاملة‌، الثاني‌: علم‌ معرفة‌. ( وربّما كان‌ مراده‌ من‌ علم‌ المعاملة‌ وعلم‌ المعرفة‌ الحكمة‌ العمليّة‌ والحكمة‌ النظريّة‌ ).

 فَعِلْمُ المُعامَلَةِ هُوَ مَعْرِفَةُ الحَلالِ وَالحَرامِ وَنَظائِرِهِما مِنَ الاَحْكامِ، وَمَعْرِفَةُ أخْلاقِ النَّفْسِ المَذْمومَةِ وَالمَحْمودَةِ وَكَيْفيَّةِ عِلاجِها وَالفِرارِ مِنْهَا.

 وَعِلْمُ المَعْرِفَةِ مِثلُ العِلْمِ بِاللَهِ تَعالَي‌ وَصِفاتِهِ وَأسْمائِه‌.

 وما عداهما من‌ العلوم‌ إمَّا آلات‌ لهذه‌ العلوم‌ أو يراد بها عمل‌ من‌ الاعمال‌ في‌ الجملة‌، كما لا يخفي‌ علی من‌ تتبّعها. وظاهر أنَّ علوم‌ المعاملة‌ لاتُراد إلاّ للعمل‌.

 علم‌ المعاملة‌ هو العلم‌ الذي‌ يكون‌ لاجل‌ العمل‌، فعلم‌ الحلال‌ والحرام‌ وعلم‌ الاخلاق‌ لها فائدة‌ عمليّة‌، وإذا كان‌ الإنسان‌ حائزاً لهذه‌ العلوم‌ ولكن‌ لايعمل‌ بها فليس‌ هناك‌ أي‌ّ فائدة‌. ثمّ يقول‌:

 وحينئذٍ فنقول‌: المُحكِم‌ للعلوم‌ الشرعيّة‌ ونحوها إذا أهمل‌ تفقّد جوارحه‌ وحفظها عن‌ المعاصي‌، وإلزامها الطاعات‌، وترقّيها من‌ الفرائض‌ إلی النوافل‌، ومن‌ الواجبات‌ إلی السنن‌ اتّكالاً عَلَی اتِّصَافِهِ بِالعِلْمِ، وأنـّه‌ في‌ نفسه‌ هو المقصود، مَغْرورٌ في‌ نَفْسِهِ، مَخْدوعٌ عَنْ دينِهِ، تُلْبَسُ عَلَیهِ  عاقِبَةُ عَمَلِهِ. ( أي‌: أنَّ هذا الشخص‌ مريض‌ ومغرور بنحو غير قابل‌ للعلاج‌ ).

 ثمّ بعد أن‌ يشبّه‌ الشهيد الثاني‌ هذا العالم‌ المغرور بشخص‌ مريض‌ يورد شرحاً نافعاً للغاية‌ تتمّة‌ للمطلب‌. [4]

مفاد: مَجَارِي‌ الاُمُورِ وَالاَحْكَامِ؛ و: الامين‌ في‌ الحلال‌ والحرام‌

 وبناءً علی كلام‌ هذا العظيم‌ أقول‌: العلماء علی ثلاثة‌ أقسام‌:

 الاوّل‌: عالِمٌ بِاللَهِ؛ وَهُوَ الَّذي‌ تَشَرَّفَ بِلِقائِهِ تَعالَي‌ وَأدْرَكَ تَوْحيدَهُ الذَّاتي‌َّ وَالصِّفاتي‌َّ وَالاَفْعالي‌ّ.

 الثاني‌: عالِمٌ بِأَمْرِ اللَهِ؛ وَهُوَ الَّذي‌ تَعَلَّمَ مِنَ العُلومِ الرَّسْمِيَّةِ التَّفْكيرِيَّةِ قَدْراً يَعْلَمُ بِهِ الاَحْكامَ الجُزْئِيَّةَ في‌ العِباداتِ وَالمُعامَلاتِ وَالسِّياساتِ وَغَيْرِها.

 الثالث‌: عالِمٌ بِاللَهِ وَبِأَمْرِ اللَهِ.

 وهو العالم‌ الذي‌ تجلّي‌ في‌ قلبه‌ أنوار الملكوت‌، فخرج‌ عن‌ حبّ الدنيا في‌ حضيض‌ الناسوت‌ وانشرح‌ صدره‌ للإسلام‌، واتّسع‌ قلبه‌ للقبول‌ وتلقّي‌ النفحات‌ السبحانيّة‌ من‌ عالم‌ الجبروت‌، وصار من‌ أهل‌ التوحيد، ودخل‌ في‌ ذروة‌ اللاهوت‌.

 هذا العالم‌، الذي‌ هو عالم‌ بالله‌ وَعَرَفَ رَبَّهُ بِرَبِّه‌؛ وَعَرَفَ الخَلْقَ بِرَبِّه‌؛ فصار فانياً في‌ ذات‌ الله‌ تعالي‌، وباقياً ببقائه‌، فسار في‌ الخلق‌ بالحقّ، وتمّ له‌ الاسفار الاربعة‌، وَهُوَ العالِمُ بِاللَهِ وَبِأَمْرِاللَه‌.

 وهو الذي‌ أشار إليه‌ سيّد الشهداء حين‌ قال‌: بِأَنَّ مَجَارِي‌َ الاُمُورِ وَالاَحْكَامِ عَلَی أَيْدِي‌ العُلَمَاءِ بِاللَهِ، الاُمَنَاءِ عَلَی حَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ.

في‌ ولاية‌ الفقيه‌، يجب‌ الجمع‌ بين‌ علمي‌ الظاهر والباطن‌

 العلماء بالله‌ والاُمناء علی حلاله‌ وحرامه‌، يعني‌ الاشخاص‌ الحفظة‌ الذين‌ أكملوا أسفارهم‌ من‌ ناحية‌ عالم‌ البقاء، ونالوا العلم‌ بالاحكام‌ والسياسات‌، وحازوا مقام‌ الوحدة‌ في‌ الكثرة‌ و الكثرة‌ في‌ الوحدة‌ في‌ مرحلتي‌ العلم‌ بالله‌ والعلم‌ بأمر الله‌. وبناءً علی هذا، فالعلماء بالله‌ والعلماء بأمرالله‌ هم‌ أُولئك‌ الذين‌ اختصّوا بمزيد لطف‌ من‌ الله‌ بإدخاله‌ إيّاهم‌ في‌ حرم‌ قدسه‌، وإشرابهم‌ من‌ مصافي‌ زلال‌ علمه‌، وإفهامهم‌ العلوم‌ الاصطلاحيّة‌ بنور إلهي‌ منه‌ بِنورٍ إلَهي‌ٍّ عَنْ تَحْقيقٍ وَشُهود.

 فهم‌ لم‌ يتعلّموا العلوم‌ التفكيريّة‌ والرسميّة‌ عن‌ طريق‌ المطالعة‌ والحفظ‌ والتعلّم‌ والإلقاء فحسب‌، وإنّما تعلّموا تلك‌ العلوم‌ التفكيريّة‌ والرسميّة‌ عن‌ تحقيق‌ وشهود. يقول‌ الله‌ تعالي‌ في‌ القرآن‌ المجيد: أَفَمَن‌ شَرَحَ اللَهُ صَدْرَهُ و لِلإسْلَـ'مِ فَهُوَ عَلَی ‌' نُورٍ مِّن‌ رَّبِّهِ.[5]

 يَـ'´أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن‌ رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل‌ لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.[6]

 وشاهدنا هنا هو ذلك‌ النور الذي‌ يعطيه‌ الله‌ للإنسان‌ ويتحرّك‌ الإنسان‌ بواسطته‌.

 يَـ'´أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو´ا إِن‌ تَتَّقُوا اللَهَ يَجْعَل‌ لَّكُمْ فُرْقَانًا.[7]

 أي‌: يعطيكم‌ ملكة‌ وحالة‌ وإدراكاً حتّي‌ تلقائيّاً تشخصون‌ بالفرقان‌ أي‌ّ حقّ وباطل‌ مباشرة‌، فلا يلتبس‌ الحقّ بالباطل‌ علی كم‌ ولاتشتبهون‌، ولاتسقطون‌ في‌ الشبهات‌، فيكون‌ الحقّ واضحاً لكم‌ كالشمس‌ الساطعة‌، والباطل‌ كذلك‌ كاللجّة‌ المظلمة‌ والمكان‌ المظلم‌، ولا يختلط‌ الاثنان‌ ولايلتبسان‌ علی كم‌ أبداً.

 فهذا الفرقان‌، فرقانٌ يفصل‌ بين‌ الحقّ والباطل‌. ويمنّ الله‌ علی كم‌ به‌ إذا اتّقيتم‌! فهو من‌ لوازم‌ التقوي‌.

 فالعلماء بالله‌ وبأمر الله‌ هم‌ وحدهم‌ المأمونون‌ علی حلال‌الله‌ وحرامه‌، وهم‌ الذين‌ يقول‌ عنهم‌ الإمام‌ علیه السلام‌ هنا:

 مَجَارِي‌ الاُمُورِ وَالاَحْكَامِ عَلَی أَيْدِي‌ العُلَمَاءِ بِاللَهِ، الاُمَنَاءِ عَلَی حَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ. لا كلّ من‌ يدرس‌ أيّاماً قلائل‌ وحفظ‌ صفحات‌ من‌ الكتب‌ بلادراية‌ ورعاية‌ ولا توحيد ولا معرفة‌، ثمّ يجلس‌ علی كرسي‌ّ التدريس‌ ويفتي‌ عوامّ الناس‌ العميان‌ ويخاطبهم‌ بما ظبطه‌ وقرّره‌ في‌ ذهنه‌، لايدري‌ هو ما يقول‌، وأُولئك‌ المساكين‌ الذين‌ يتعلّمون‌ منه‌ لا يفهمون‌ إلی أين‌ ينتهي‌ بهم‌ آخر الامر فضلَّ وأضلَّ عن‌ سواء السبيل‌! ] قال‌ تعالي‌: [ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن‌ سَوَآءَ السَّبِيلِ.[8]

 «ضَلُّوا وَأَضَلُّوا» أي‌ أنـّهم‌ بأنفسهم‌ ضالّون‌، كما أنـّهم‌ يضلّون‌ كلّ من‌ تبعهم‌، فليس‌ هؤلإ هم‌ الذين‌ قال‌ عنهم‌ الإمام‌ علیه السلام‌: مَجَارِي‌ الاُمُورِ وَالاَحْكَامِ عَلَی أَيْدِي‌ العُلَمَاءَ باللَهِ. وإنّما هم‌ ليسوا بفقهاء، بل‌ متسمّون‌ بالفقه‌، إذ سمّوا أنفسهم‌ فقهاء وجلسوا علی مسند الحكم‌ وغايتهم‌ القصوي‌ هي‌ هذه‌ الدنيا، ومقصدهم‌ الاقصي‌ هو هذا التدريس‌ والرئاسة‌ والحكومة‌، والصعود علی رقاب‌ الناس‌، ونشر أسمائهم‌ وصيتهم‌ بين‌ الناس‌، فها هنا غاية‌ ما يهدفون‌ إليه‌.

 فَأَعْرِضْ عَن‌ مَّن‌ تَوَلَّي‌' عَن‌ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَو'ةَ الدُّنْيَا * ذَ ' لِكَ مَبْلَغُهُم‌ مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن‌ ضَلَّ عَن‌ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَي‌'.[9]

 يا لها من‌ آية‌! تقول‌: إنَّ غايتهم‌ ومبلغهم‌ من‌ الإدراك‌ والفهم‌ منحصر بالحياة‌ ولا يتجاوزها، فهم‌ لا يتجاوزون‌ الشهوات‌ وحبّ الجاه‌ وحبّ الرئاسة‌. و مَبْلَغ‌؛ أي‌: إلی هنا ينتهي‌ محلّ بلوغ‌ فكرهم‌، فلايستطيعون‌ تجاوز هذا المحلّ، وإنَّ ربّك‌ أعلم‌ بمن‌ ضَلَّ وانحرف‌ عن‌ سبيله‌ وبمن‌ اهتدي‌ وسلك‌ سبيله‌، أي‌ أنَّ هؤلاء أشخاص‌ ضالّون‌، وقد تاهوا عن‌ الطريق‌.

كلام‌ الاُستاذ، آية‌ الله‌ الشيخ‌حسين‌الحلّي‌ّ،حول‌الحديث‌المذكور

قالَ شَيْخُنا الاُسْتاذُ المُحَقِّقُ المُدَقِّقُ، العَلاَّمَةُ الفَهَّامَةُ، الشَّيْخُ حُسَيْنُ الحِلِّي‌ُّ، تَغَمَّدَهُ اللَهُ بِرَحْمَتِهِ في‌ مَجْلِسِ الدَّرْسِ عِنْدَ بَحْثِهِ عَنْ وِلايَةِ الفَقيه‌: قالَ بَعْضُ العُلَماء: المراد بالعلماء بالله‌ في‌ هذه‌ الرواية‌: قوم‌ من‌ أهل‌ المعرفة‌ رفضوا الدنيا عن‌ قلوبهم‌ وأمنوا من‌ وساوس‌ الشيطان‌ والنفس‌ الامّارة‌، بإخلاصهم‌ للَّه‌ عزَّ وجلَّ وتفويضهم‌ الامر إليه‌. كَما قالَ مَوْلاَنَا وَإمامُنا أميرُ المُؤْمِنينَ سَلامُ اللَهِ عَلَیهِ  في‌ خُطْبَتِهِ: وَمَا بَرِحَ لِلَّهِ عَزَّتْ آلاَؤُهُ فِي‌ البُرْهَةِ بَعْدَ البُرْهَةِ وَفِي‌ أَزْمَانِ الفَتَرَاتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي‌ فِكْرِهِمْ وَكَلَّمَهُمْ فِي‌ ذَاتِ عُقُولِهِمْ فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَةٍ فِي‌ الاَسْمَاعِ وَالاَبْصَارِ وَالاَفْئِدَةِ...[10]

 وهي‌ خطبة‌ طويلة‌ جدّاً وعجيبة‌، وقد أوردها المرحوم‌ الشيخ‌ تغمّده‌ الله‌ برحمته‌ في‌ الدرس‌ من‌ أوّلها إلی آخرها، ثمّ قال‌: فَهَؤُلاءِ هُمُ العُلَمَاءُ بِاللَهِ حَقَّاً.

 ثمّ قال‌: هذا المقام‌ منزل‌ رفيع‌ وشأن‌ جليل‌: لا تَصِلُ أيْدِينا إلَيْه‌. نَعوذُ بِاللَهِ مِنْ شُرورِ أنْفُسِنا وَنَتَمَسَّكُ بِلُطْفِهِ وَكَرَمِه‌.

 كان‌ أُستاذنا آية‌ الله‌ الشيخ‌ حسين‌ الحلّي‌ّ رجلاً عظيماً من‌ النادرين‌، وقد انفرد وتفرّد في‌ العلم‌ والتقوي‌ والزهد والإعراض‌ عن‌ الرئاسات‌ الدنيويّة‌، وكان‌ رجلاً محقّقاً يحتاج‌ جميع‌ العلماء إلی علمه‌ وفهمه‌ ودرايته‌، وكلّما سئل‌ عن‌ مسألة‌ ـ سواء في‌ وقت‌ الدرس‌ أم‌ خارجه‌، كأن‌ يُسأل‌ مثلاً عن‌ فتواه‌ ورأيه‌ في‌ بعض‌ المسائل‌ـ ينظر إلی السائل‌ ويقول‌: ما لي‌ ـ وأنا أحمق‌ـ والفتوي‌؟! إنَّ شغلنا ليس‌ أكثر من‌ مطالعة‌ الكتب‌، والحصول‌ علی بعض‌ المطالب‌، ثمّ نبحث‌ ذلك‌ مع‌ الزملاء!

 وكان‌ هذا الرجل‌ الكبير وصاحب‌ الشخصيّة‌ العظيمة‌، والذي‌ يعتبر ـ علي‌ التحقيق‌ـ أفضل‌ من‌ الحاجّ السيّد محسن‌ الحكيم‌ في‌ دقّة‌ النظر وسعة‌ الاطّلاع‌ والتبحّر في‌ الفقه‌ والاُصول‌، حتّي‌ أنَّ نفس‌ السيّد محسن‌ كان‌ يعترف‌ بهذا، وكان‌ في‌ أثناء التدريس‌ ( وبعض‌ دروسه‌ موجودة‌ عندي‌ بتقرير منّي‌ ) يأتي‌ بعض‌ عبارات‌ الحاجّ السيّد محسن‌ الحكيم‌ رحمة‌الله‌ علیه( بالطبع‌ بصيغة‌ قالَ بَعْضٌ أو قال‌ بَعْضُ مُعاصِرينا من‌ غير أن‌ يذكر « مستمسك‌ العروة‌ ») ويؤيّد حقّ المطلب‌ من‌ خلال‌ تحليله‌ لكلامه‌ وردّه‌ بشكل‌ جيّد جدّاً.

 ولكنّه‌ في‌ نفس‌ الوقت‌ كان‌ يحضر في‌ بعض‌ مجالس‌ آية‌ الله‌ الحاجّ السيّد محسن‌ الحكيم‌، وإذا ما جاء أحد ما من‌ بغداد ( كممثّل‌ أو وزير أو محافظ‌ ) وطلب‌ من‌ المرحوم‌ السيّد الحكيم‌ إذناً بالحضور أو كان‌ له‌ سؤال‌ أو استفتاء، فكان‌ الشيخ‌ الحلّي‌ّ يذهب‌ ويجلس‌ في‌ ذلك‌ المجلس‌، ويستمع‌ إلی كلامه‌، ويحلّ مسألته‌، ويجيب‌ علی ها كأي‌ّ شخص‌ عادي‌ّ جدّاً.

 وهذه‌ عبارته‌ التي‌ قالها في‌ أحد دروسه‌ قبل‌ أن‌ يصبح‌ المرحوم‌ السيّد أبوالحسن‌ الإصفهاني‌ّ مرجعاً ورئيساً، كنّا قد اتّفقنا مع‌ أصدقائنا علی أن‌ لانسمح‌ بصيرورته‌ مرجعاً، لانـّه‌ لا يليق‌ للقيادة‌ الإسلاميّة‌. ولكن‌، بعد أن‌ أصبح‌ السيّد أبو الحسن‌ رئيساً جمعتُ كلّ الاصدقاء وطلبت‌ منهم‌ التوقّف‌ عن‌ إثارة‌ الامر، لانَّ مخالفة‌ السيّد أبي‌ الحسن‌ اليوم‌ هي‌ معارضة‌ لجعفربن‌ محمّد علیهما السلام‌. وقد كان‌ ملتزماً بهذا الامر عمليّاً، وهذا يعني‌ أنـّه‌ رحمة‌الله‌ علیهكان‌ يملك‌ قلباً متواضعاً بالنسبة‌ لكلّ شخص‌ ينال‌ موقعاً ورئاسة‌ ويصبح‌ شخصاً بارزاً في‌ الإسلام‌، وكان‌ يخدمه‌ عمليّاً أيضاً، ولكن‌ قبل‌ أن‌ يصير ذلك‌ الشخص‌ رئيساً لم‌ يكن‌ الامر بهذا النحو، ولقد كان‌ والد الشيخ‌ حسين‌ يُقيم‌ صلاة‌ الجماعة‌ في‌ الصحن‌ المطهّر لاميرالمؤمنين‌ علیه السلام‌ في‌ النجف‌ الاشرف‌، وبعد وفاته‌ انتقلت‌ إقامة‌ الجماعة‌ إليه‌ رحمة‌الله‌ علی ه‌، لكنّه‌ قدّم‌ أُستاذه‌ المرحوم‌ آية‌ الله‌ النائيني‌ّ، وبعد المرحوم‌ النائيني‌ّ ومع‌ أنـّه‌ كان‌ أفضل‌ تلامذته‌، لكنّه‌ لم‌ يقبل‌ بإقامة‌ الصلاة‌ مكانه‌، فقام‌ بذلك‌ آية‌الله‌ الحاجّ السيّد محسن‌ الحكيم‌، وأبي‌ الشيخ‌ حسين‌ الحلّي‌ّ القيام‌ بهذا العمل‌، وكان‌ يقول‌ مراراً: إنَّ شغلي‌ هو التدريس‌ فقط‌، فأنا طالب‌ علم‌. فلم‌يفتي‌، ولم‌ ينشر رسالة‌ عمليّة‌، ولم‌ يتصدّ لإمامة‌ الجماعة‌. وأمّا في‌ مجال‌ الدرس‌ والتحقيقات‌ فكان‌ له‌ الباع‌ الطويل‌ في‌ ذلك‌. ومهما قلتم‌ فهو قليل‌ في‌ حقّه‌.

 لقد كان‌ يمتلك‌ مقدار صندوق‌ كامل‌ من‌ التقريرات‌ والتحقيقات‌ والكتب‌ المستقلّة‌ في‌ الفقه‌ والاُصول‌.

 لقد تحدّث‌ حول‌ الاجتهاد والدقّة‌ التي‌ تمتّع‌ بها كبار العلماء ( وإلي‌ أي‌ّ حدّ كانوا يجتنبون‌ عن‌ الفتوي‌، ولا يجعلون‌ أنفسهم‌ في‌ معرض‌  الإفتاء، وكم‌ كانوا يخافون‌ من‌ الله‌ العلي‌ّ الاعلي‌، ومع‌ كونهم‌ مجتهدين‌، إلاّ أنـّهم‌ يمتنعون‌ عن‌ الفتوي‌، وهذا من‌ متطلّبات‌ شدّة‌ تقواهم‌ ) فقال‌:

 إنَّ بعض‌ الاحتياطات‌ الموجودة‌ في‌ الرسالة‌ العمليّة‌ بنحو الاَحوَطِ الوجوبي‌ّ هي‌ في‌ الاساس‌ أحوط‌ استحبابي‌ّ؛ ولكن‌ بما أنَّ ذلك‌ المجتهد ] صاحب‌ الرسالة‌ [ يريد الامتناع‌ عن‌ إظهار الفتوي‌ ولا يريد تحمّل‌ مسؤوليّة‌ عمل‌ الناس‌، فلذا يبيّن‌ المسألة‌ بنحو الاحوط‌ الوجوبي‌ّ لكي‌ يرجع‌ الناس‌ إلی شخص‌ آخر، ويُخرِج‌ نفسه‌ بهذا عن‌ تحمّل‌ المسؤوليّة‌.

 ثمّ قال‌ أُستاذنا المرحوم‌ النائيني‌ّ قدّس‌ الله‌ نفسه‌ في‌ إحدي‌ المرّات‌ علی منبر التدريس‌: يا أيُّها الطُّلاّب‌! لقد جاء المرحوم‌ الحاجّ المُلاّ علی الكَني‌ّ إلی طهران‌ ( وهو صاحب‌ كتاب‌ « القضاء » النفيس‌، وكان‌ معاصراً للشيخ‌ الانصاري‌ّ، ومن‌ أعلام‌ الطلاّب‌، وربّما كان‌ قريناً للشيخ‌ الانصاري‌ّ، وكان‌ العالم‌ والمجتهد الاوّل‌ في‌ طهران‌. ومَن‌ أراد الاطّلاع‌ علی علميّته‌ فليلاحظ‌ كتابه‌ « القضاء »، فهو كتاب‌ معروف‌ )، وكان‌ جميع‌ علماء طهران‌ خاضعين‌ ومسلّمين‌ له‌، ومذعنين‌ بأعلميّته‌. فجاؤوا إليه‌ وطلبوا منه‌ أن‌ يتصدّي‌ لاُمور الناس‌، لكي‌ يرجع‌ إليه‌ الناس‌ في‌ أمر القضاء والمرافعات‌ ويبدي‌ نظره‌ ويقوم‌ بفصل‌ الخصومات‌.

 قال‌ الاُستاذ: فأجاب‌ المرحوم‌ الحاجّ علی الكني‌ّ قائلاً: إنّي‌ لاأقوم‌ بهذا العمل‌، لانـّي‌ أشكّ في‌ اجتهادي‌. إلی أن‌ أتاه‌ خمسون‌ شخصاً من‌ مجتهدي‌ طهران‌ والنواحي‌ الاُخري‌ ـممّن‌ يراهم‌ مجتهدين‌ـ وشهدوا باجتهاده‌، فعندها قبل‌ هذا الاقتراح‌.

 أمّا أنتم‌ أيّها الجالسون‌ والحاضرون‌ في‌ مجلس‌ الدرس‌، فلو جاءكم‌ خمسون‌ شخصاً من‌ المجتهدين‌ وشهدوا بأنـّكم‌ لستم‌ مجتهدين‌، فلن‌تقبلوا ذلك‌، وتدّعون‌ الاجتهاد رغم‌ ذلك‌.

 يجب‌ الالتفات‌ إلی مدي‌ أهمّيّة‌ المسألة‌. فهذا الرجل‌ قد نظر في‌ جميع‌ هذه‌ المسائل‌ ببصيرة‌، ولا أتمكّن‌ ـحقّاًـ القول‌ بأنَّ الشيخ‌ حسين‌ الحلّي‌ّ كان‌ أقلّ من‌ هذه‌ الناحية‌ العلميّة‌ من‌ العلاّمة‌ الحلّي‌ّ. لقد كان‌ هذا الرجل‌ دقيقاً إلی درجة‌ أنـّه‌ عندما كنّا ندرس‌ عنده‌ كتاب‌ الطهارة‌ ( لقد درست‌ عنده‌ عدا الاُصول‌ دورة‌ مكاسب‌ وقدراً من‌ كتاب‌ الطهارة‌، وكتبتُ تقريراته‌ ) جاء برواية‌ من‌ باب‌ ديات‌ « مفتاح‌ الكرامة‌ » كشاهد علی المطلب‌، وما يلفت‌ النظر هو: ما هي‌ المناسبة‌ بين‌ باب‌ ديات‌ « مفتاح‌ الكرامة‌ » وباب‌ الطهارة‌؟

 لقد كان‌ عالماً متضلّعاً، خبيراً ومنظّماً، وقام‌ بمطالعة‌ جميع‌ الكتب‌، سواء كتب‌ العامّة‌ أم‌ كتب‌ الشيعة‌، وكان‌ يفهرس‌ مطالبة‌ لنفسه‌ بعد مطالعته‌ لكلّ كتاب‌، فكان‌ له‌ مثلاً فهرس‌ لجميع‌ كتاب‌ « تاريخ‌ بغداد »، وقد خصّص‌ جزءاً من‌ مكتبته‌ ـوالتي‌ لم‌ تكن‌ كتبها كثيرة‌ جدّاًـ لفهارس‌ تلك‌ الكتب‌ التي‌ قد طالعها، وقد ضبط‌ في‌ تلك‌ الفهارس‌ نتيجة‌ تلك‌ الكتب‌، مهما كانت‌ سواء لصالح‌ الشيعة‌ أو ضدّهم‌. وإذا رجع‌ الإنسان‌ إلی هذه‌ الفهارس‌ يعرف‌ الموضع‌ الذي‌ يؤيّد الشيعة‌ من‌ هذا الكتاب‌ والموضع‌ الذي‌ يهاجمهم‌، لكي‌ يستعين‌ به‌ عند الحاجة‌ شفاهة‌ أو كتابة‌ علی تقدير تأليف‌ كتاب‌ في‌ الكلام‌ مبني‌ّ علی الاعتقادات‌ الرصينة‌ والمتينة‌ عند الشيعة‌.

 ومن‌ هنا يقول‌: فَهَؤُلاءِ، هُمُ العُلَماءُ بِاللَهِ حَقَّاً؛ وَهَذَا المَقامُ مَنْزِلٌ رَفيعٌ وَشَأْنٌ جَليلٌ لا تَصِلُ أيْدينا إلَيهِ. أنـّي‌ لنا الوصول‌ إليه‌؟!

 ونصّ عبارته‌: نَعوذُ بِاللَهِ مِنْ شُرورِ أنْفُسِنا وَنَتَمَسَّكُ بِلُطْفِهِ وَكَرَمِه‌.

 ثُمَّ قالَ: احْتَمَلَ بَعْضُ العُلَماءِ أنْ يَكونَ المُرادُ مِنَ العُلَماءِ بِاللَهِ في‌ قَوْلِهِ عَلَیهِ  السَّلامُ: «مَجَارِي‌ الاُمُورِ وَالاَحْكَامِ عَلَی أَيْدِي‌ العُلَمَاءِ بِاللَهِ» العارِفينَ بِهِ بِقَرينَةِ إضافَتِهِمْ إلَيهِ سُبْحانَهُ؛ وَالمُرادُ مِنَ المَجاري‌، مَجارِي‌ الاُمورِ التَكْوِينِيَّة‌.

 ولم‌ يناقش‌ القسم‌ الاوّل‌ ( من‌ أنَّ المقصود من‌ العلماء بالله‌ هم‌ العارفون‌ بالله‌ ) لكنّه‌ قال‌ حول‌ المطلب‌ الثاني‌ ( من‌ أنَّ المراد من‌ مجاري‌ الاُمور هو مجاري‌ الاُمور التكوينيّة‌ ): يُبَعِّدُهُ ما وَرَدَ في‌ ذَيْلِهِ: «الاُمَنَاءِ عَلَی حَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ». إذ ظاهر هذه‌ الجملة‌ هم‌ العلماء الذين‌ يحفظون‌ أُمور الناس‌ في‌ مقام‌ التشريع‌.[11]

 فيا لها من‌ رواية‌! ودلالتها أيضاً جيّدة‌ جدّاً. وحيث‌ يقول‌ الإمام‌ علیه السلام‌: «أَنْتُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ مُصِيبَةً لِمَا غَلَبْتُمْ عَلَیهِ  مِنْ مَنَازِلِ العُلَمَاءِ لَوْ كُنْتُمْ تَسَعُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَجَارِي‌ الاُمُورِ وَالاَحْكَامِ عَلَی أَيْدِي‌ العُلَمَاءِ بِاللَهِ، الاُمَنَاءِ عَلَی حَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ.»

 أي‌: دعوا أُموركم‌ وسلّموا إدارتها إلی العلماء بالله‌ والاُمناء علی حلاله‌ وحرامه‌، لقد ترفّعتم‌ وتعظّمتم‌ وعصيتم‌ حقّهم‌ بتكبّر وأجلستموهم‌ زوايا البيوت‌.

 

ارجاعات


[1] ـ «بحار الانوار» ج‌ 1، ص‌ 61 طبعة‌ الكمباني‌؛ وفي‌ طبعة‌ الآخوندي‌ الحروفيّة‌، ج‌ 1، ص‌ 193، الحديث‌ 7.

[2] ـ «روضات‌ الجنّات‌» ج‌ 2، ص‌ 38، الطبعة‌ الحجريّة‌، وفي‌ الطبعة‌ الحروفيّة‌: ج‌ 7، ص‌ 203.

[3] ـ «تُحف‌ العقول‌» ص‌ 237، طبعة‌ مكتبة‌ الصدوق‌.

[4] ـ «منية‌ المريد» ص‌ 16 و 17 من‌ الطبعة‌ الحجريّة‌، و ص‌ 150 و 151 من‌ الطبعة‌ الحروفيّة‌ من‌ منشورات‌ دفتر تبليغات‌.

[5] ـ صدر الآية‌ 22، من‌ السورة‌ 39: الزمر.

[6] ـ الآية‌ 28، من‌ السورة‌ 57: الحديد.

[7] ـ صدر الآية‌ 29، من‌ السورة‌ 8: الانفال‌.

[8] ـ ذيل‌ الآية‌ 77، من‌ السورة‌ 5: المائدة‌.

[9] ـ الآيتان‌ 29 و 30، من‌ السورة‌ 53: النجم‌.

[10] ـ «نهج‌ البلاغة‌» ج‌ 1، ص‌ 446 إلي‌ 448، الخطبة‌ 22 الطبعة‌ المصريّة‌ بتعليقة‌ الشيخ‌ محمّد عبده‌.

[11] ـ «الرسالة‌ البديعة‌» ص‌ 101 إلي‌ 105، الطبعة‌ الاُولي‌، الروايات‌ الدالّة‌ علي‌ ï ïولاية‌الفقيه‌، الرواية‌ الخامسة‌.

      
  
الفهرس
  المقدّمة
  كلام‌ سيّد الشهداء عليه‌ السلام‌ في‌ لزوم‌ معرفة‌ الله‌
  خطبته‌ عليه‌ السّلام‌ لإصلاح‌ الناس‌
  وصيّته‌ عليه‌ السّلام‌ إلي‌ محمّد بن‌ الحنفيّة‌
  الحثّ علي‌ المكارم‌
  أُسلوب‌ اجتناب‌ المعاصي‌
  مواعظ‌ سيّد الشهداء عليه‌ السلام‌
  خطبته‌ عليه‌ السلام‌ بمني‌ وتنوير الاذهان‌ في‌ زمن‌ معاوية‌
  مناشدته‌ عليه‌ السلام‌ للاصحاب‌ والتابعين‌
  خطبته‌ عليه‌ السلام‌ عند خروجه‌ من‌ مكّة‌
  أشعاره‌ عليه‌ السلام‌ في‌ جواب‌ الفرزدق‌ و محادثته‌ معه‌
  خطبة‌ الإمام‌ عليه‌ السلام‌ عند ممانعة‌ الحرّ إیّاه‌
  كلامه‌ عليه‌ السلام‌ في‌ جواب‌ تهديد الحرّ
  كلام‌ سيّد الشهداء عليه‌ السلام‌ في‌ استعداده‌ للشهادة‌
  خطبته‌ عليه‌ السلام‌ في‌ أصحابه‌ و أصحاب‌ الحرّ
  خطبة‌ الإمام‌ ليلة‌ عاشوراء في‌ أصحابه‌
  دعاؤه‌ عليه‌ السلام‌ صبيحة‌ يوم‌ عاشوراء
  خطبته‌ عليه‌ السلام‌ صبيحة‌ يوم‌ عاشوراء
  خطبة‌ الإمام‌ الغرّاء يوم‌ عاشوراء
  أشعاره‌ الرجزيّة‌ يوم‌ عاشوراء
  نداؤه‌ عليه‌ السلام‌ في‌ أتباع‌ آل‌ أبي‌ سفيان‌
  دعاؤه‌ عليه‌ السلام‌ علي‌ أهل‌ الكوفة‌ و مخاطبته‌ لهم‌
  كيفيّة‌ استشهاده‌ عليه‌ السلام‌
  أشعار في‌ تصوير حالات‌ سيّد الشهداء عليه‌ السلام‌ وحال‌ جميع‌ المخلوقات‌
  أشعار المؤلّف‌ في‌ مدح‌ سيّد الشهداء عليه‌ السلام‌
  العناوين المرتبطة بالامام الحسين عليه‌السلام في طي دورة‌ علوم‌ ومعارف‌ الإسلام‌
  بيان‌ حال‌ سيّد الشهداء عليه‌ السلام‌ في‌ الخلوة‌ بالحبيب‌
  عظمة‌ الاوج‌ العرفاني‌ّ لسيّد الشهداء عليه‌ السلام‌
  المشاعر والعواطف‌ البشريّة‌ عند الائمّة‌ علیهم‌ السلام‌
  مشاعر سيّد الشهداء علیه‌ السلام‌ وعواطفه‌ يوم‌ عاشوراء
  استشهاد الطفل‌ الرضيع‌ يوم‌ الطفّ
  فضائل‌ عليّ الاكبر علیه‌ السلام‌ واستشهاده‌
  عليّ الاكبر علیه‌ السلام‌ من‌ منظار معاوية‌
  حوار عليّ الاكبر مع‌الإمام الحسين‌ علیهما السلام‌ حول‌ الشهادة‌
  جعل‌الإمام عليّ علیه‌ السلام‌ محمّدَ ابن‌ الحنفيّة‌ درعاً للحسنين‌
  عليّ الاكبر علیه‌ السلام‌ تلميذ مدرسة‌ الحسنين‌ علیهما السلام‌
  مضامين‌ زيارة‌ سيّد الشهداء علیه‌ السّلام‌ في‌ الاول‌ من‌ رجب‌
  عفو السجّاد عن السیخ الشامیّ الذی شتم أسری آل محمد
  خطبة سیّّد الشهداء علیه السلام صبح عاشوراء
  مواعظ سیّد الشهداء علیه السلام وإنکار أهل الکوفة
  استمهال الامام الحسین القوم لیلة عاشوراء للصلاة و التلاوة و الدعاء
  وجود الإمام‌ المعصوم‌ حقيقة‌ القرآن‌
  قصّة‌ قول‌ سيّد الشهداء لحبيب‌ بن‌ مظاهر: للّه‌ درّك‌ يا حبيب‌!
  حبيب‌ بن‌ مظاهر كان‌ يختم‌ القرآن‌ كلّ ليلة‌
  نقل‌ ابن‌ أبي‌ الحديد في‌ أنّ أصحاب‌ الإمام‌ الحسين‌ كانوا كالاُسود الضارية‌
  مضامین دعاء سيّد الشهداء عليه‌ السلام‌الرفیعة فی یوم عرفة‌
  عبارات دعاء عرفة تشیر إلی الله تعالی فی جمیع الموجودات
  الملکات العرفانیة لسید الشهداء علیه السلام فی الزیارة المطلقة
  بحث‌ فقهي‌ّ في‌ جواز الطواف‌حول‌ أضرحة‌ الائمّة‌ الاطهار عليهم‌ السلام‌
  أخبار «لاَتَطُفْ بِقَبْرٍ» قويّة‌ سنداً، لكنّها خارجة‌ عن‌ المقام‌ دلالةً
  بحث‌ للعلاّمة‌ المجلسي‌ّ في‌ جواز الطواف‌ حول‌ أضرحة‌ الائمّة‌ الاطهار
  بحث‌ المحدِّث‌ النوري‌ّ في‌ «مستدرك‌ الوسائل‌» باب‌ «جواز الطواف‌ بالقبور»
  بحث‌ فقهي‌ّ في‌ جواز تقبيل‌ إطار أبواب‌ الدخول‌لقبور الائمّة‌ عليهم‌ السلام‌
  تفصيل‌ وقائع‌ عاشوراء التي‌ كانت‌ عشقاً محضاً
  قراءة‌ سماحة‌ الحدّاد أشعار «المثنوي‌ّ» في‌ غفلة‌ عامّة‌ الناس‌ عن‌ عاشوراء
  أشعار المولوي‌ّ في‌ مرثيّة‌ سيّد الشهداء عليه‌ السلام‌
  أبيات‌ عاشوراء في‌ أشعار «المثنوي‌ّ»
  ما أحسن‌ تحقيق‌ الملاّ الرومي‌ّ لقضايا عاشوراء!
  قراءة‌ سماحة‌ الحدّاد أبيات‌ عاشوراء وكأ نّها مختمرة‌ مع‌ روحه‌ ونفسه‌
  تفسير السيّد هاشم‌ لفائدة‌ حقيقة‌ اللعن‌ في‌ دعاء علقمة‌
  كلامه‌: لا يرشح‌ عن‌ أولياء الله‌ شرّ؛ ولعنهم‌ للاعداء نفع‌ يعود علی‌ الاعداء
  دعاء «الصحيفة‌ السجّاديّة‌» يشابه‌ دعاء علقمة‌ في‌ لعن‌ الكفّار
  >>خطبة‌ سيّد الشهداء علیه السلام‌
  ابیات سید الشهداء علیه السلام لیلة عاشوراء و حال زینب علیها السلام
  فهرس‌ المنابع‌ والمصادر

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی