معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات العلامة الطهراني > سلسلة محاضرات تفسير آية النور > تفسير آية النور - المحاضرة الثانية

_______________________________________________________________

هو العليم

تفسير آية

الله نور السماوات والأرض

المحاضرة الثانية

سماحة العلامة الراحل آیة الله الحاج السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

_______________________________________________________________

 

أعوذُ بالله منَ الشيطانِ الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنةُ الله على أَعدائِهم أجمَعين

 

{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}

لقد تكلّمنا في ما هو المراد من النور في هذه الآية ليلة الثلاثاء الماضية، وتوصلنا إلى هذه النتيجة: أنّ الألفاظ موضوعة للمعنى العام، وحقيقة النور هي ذاك الشيء الظاهر في حدّ نفسه المظهر لغيره. وبناء عليه فكلّ شيء يكون ظاهراً في ذاته وغيره ظاهر بواسطته فهو نور.
فالعقل نور والحياة نور والذات المقدّسة لله تعالى نور... ليست نوراً مادياً؛ لأنّ الله تعالى ظاهر بنفسه وغير محتاج لغيره في هذا الظهور، وليس هناك أيّ موجود منح الوجود لله، وإذا كان هناك موجود قد أوجد الله فلا بدّ أن يكون ذاك الموجود هو الله، فالله موجود لا يعتمد على غيره؛ لا في ظهوره ولا في وجوده، بل جميع الموجودات معتمدة عليه، وظهورها ووجودها مرتبط به تعالى. وعليه فذاك الموجود الذي هو ظاهر بذاته ومظهر لغيره بواسطة ظهوره هو النور الحقيقي، إذاً فالله نور، وهو في حقيقته وواقعه نور.
وهذا يعني أنّ واقعه ظاهر في ذاته، والغير ـ مهما كان هذا الغير سواء كان من الموجودات الماديّة أو المعنوية، الملكيّة أو الملكوتيّة ونحوها ممّا سوى الله حتى الأسماء والصفات الإلهيّة.. ـ قائم بذاته تعالى، وهذا هو معنى النور.

  

معنى الظاهر بذاته المظهر لغيره

ثمّ وقع البحث في أنّ الله تعالى إن كان ظاهراً بذاته وغيره ظاهراً به، فكيف يمكن للإنسان أن يتعرّف على هذا الإله؟! ومن غير الصحيح أن يتعرّف الإنسان على هذا الإله من خلال الغير، لأنّ ظهور الغير ـ غير الله ـ إنما هو بواسطة الله، فالله هو الذي أعطاه الظهور حتى ظهر، وعندئذٍ كيف يمكن للإنسان ـ مع معرفته بأن ظهوره إنما هو من الله ـ أن يتعرّف على هذا الإله الذي أظهر هذا الموجود؟!
نضرب مثالاً على هذا الأمر: المصباح المشتعل في هذا المسجد هو في حدّ ذاته مشتعل وبنوره تتضح سائر الأشياء الموجودة في المسجد، لا أنها هي ظاهرة بذاتها! فهذا السجاد وهذا الكتاب وجميع الأشياء في المسجد واضحة وظاهرة، لكنها ظاهرة بنور المصباح. فنور المصباح سطعَ عليها وأضاءها وأذهب الظلمة التي كانت موجودة. فإذا أردنا أن نرى المصباح ونتعرف على ذات المصباح، يجب علينا أن ننظر إلى نفس المصباح، لا إلى النور المترشّح منه والواقع على سائر الأشياء، فإذا نظرنا هنا ونظرنا إلى نور المصباح الواقع على الأرض، لا نكون قد رأينا المصباح، لا نستطيع أن نرى المصباح بواسطة النور المترشّح منه والمنير لسائر الأشياء، بل يجب علينا أن ننظر إلى نفس المصباح كي نراه، ولا يمكن لهذا النور الساطع منه على الأشياء الظاهرة بواسطته أن تكشف لنا حقيقة المصباح وتعرّفنا عليه بالشكل المطلوب. هذه مسألة. إذن لا بدّ أن نعرف الله من خلال نفسه، ولا يمكن للإنسان أن يتعرّف عليه من خلال غيره.

وهنا مسألة أخرى تطرح نفسها للبحث وهي: كيف يمكن للإنسان أن يعرف الله من خلال ذات الله تعالى؟ خصوصاً مع وجود جميع هذه الأخبار الدالة على أنّ الإنسان لا يقدر على التعرّف على الله؛ حيث ورد: تفكّروا في آلاء الله ولا تفكّروا في ذات الله، أي: تفكّروا في صفات الله ونعمه ومخلوقاته وآياته، لكن لا تفكّروا ولا تتأملوا في ذاته تعالى؛ لأنّ الفكر لا يصل إلى ذاك المقام.
وقال تعالى:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}
[1]، فالواجب على الإنسان أن ينظر ويتفكّر في الآفاق والأنفس، والآفاق تعني الموجودات الخارجيّة:كالأرض والسماء والصخور والماء وجميع الأشياء الموجودة في عالم الكون، وعليه أن يتأمّل فيها كي يدرك الله من خلالها. وهناك آيات أخرى تعتبر أنّ جميع الموجودات مرآة لله تعالى.

  

كيفية الجمع بين ما دل على إمكانية لقاء الله و ما دل على كونه لا يرى

فالقرآن يرى أنّ جميع الموجودات آية، يعني: أنّها تشير إلى الله، إذن كلّ موجود يشير إلى الله، وعندما ينظر الإنسان إلى أيّ شيء عليه أن يعرف الله من خلاله، والقرآن يدعو إلى هذه المعرفة.
ومن جهة أخرى، لدينا ما يفيد أنّ الله لا يمكن أن يُرى بواسطة الآيات، بل يجب أن يُعرف الله بذات الله، ولدينا روايات واردة في هذا الباب تفيد أنّ الإنسان يمكنه أن يعرف الله من خلال الله، حيث سأل أحدهم أمير المؤمنين عليه السلام عندما كان يخطب فقال له: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك؟ فقال له: كيف أعبد ربّاً لم أره؟! ثم قال موضحاً: لا تراه العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن تراه القلوب بحقائق الإيمان فالله ليس جسماً كي يُرى بالعين الباصرة.
وفي القرآن أيضاً لدينا أكثر من عشرين آيةً تفيد أن الإنسان يصل إلى الله ويتشرّف بلقائه.
وقد وقع العلماء في مشكلة التوفيق بين هاتين الطائفتين من الأخبار والآيات، وأنّه كيف يمكن حلّ هذه المسألة ـ رؤية الله ـ ومن أيّ قسم هي؟
فقال بعضهم: إنّ تلك الأخبار القائلة بأنّ الإنسان لا يمكنه أن يرى الله أصلاً ولا يمكن له معرفته وإدراكه أخبار صحيحة، فليس أمام الإنسان طريق إلى هذه المعرفة بأيّ وجه من الوجوه، فأين المخلوق من الخالق؟! ومهما سعى الإنسان في سبيل ذلك لن يصل إلى نتيجة، والشاهد على ذلك الأخبار التي ذكرناها هنا.
وأمّا تلك الأخبار التي تفيد أنّ الإنسان يمكنه أنْ يرى الله أو يمكنه أن يصل إلى معرفة الله فيجب حملها على إرادة المعنى المجازيّ منها؛ ليكون معنى رؤية الله رؤية النعم الإلهية، أي مخلوقات الله العلويّة نحو: ملائكة الله، رضوان الله, ومقامات الجنّة.
وقال البعض الآخر: يمكن أن يُرى الله تعالى، وتلك الأخبار التي تفيد عدم إمكانيّة رؤية الله للإنسان تفيد أنّ الرؤية مستحيلة بالعين الباصرة، أمّا الرؤية بحقائق الإيمان فهي ممكنة للإنسان، والآيات القرآنية تصرّح بهذا المعنى حقيقة لا مجازاً، فلماذا يستعمل الله المجاز في القرآن؟! هل طريق الاستعمال الحقيقيّ مغلق أمامه حتّى يدعو إلى لقاء الله في أكثر من عشرين مورداً؟! حتماً لا، إذن يمكن لقاؤه.
وعليه فماذا نفعل بتلك الأخبار؟! تلك الأخبار يجب حملها على درجات المعرفة غير التامّة, أي: درجات المعرفة الجزئيّة التي تحصل للناس، لا معرفة الذات ومعرفة الحقيقة. فالمعرفة ليست عبارة عن أن يرى الإنسان شبحاً أو يتصوّر شيئاً ثم يحاول أن يطبق ما تخيّله على الآية القرآنية.
إن شاء الله سوف نستعرض في هذه الليلة المبنى الحق في هذه المسألة، وما هو الحقّ في هذه المسألة؟ لذا سوف أقدّم مقدّمة مختصرة وسأسعى كي تكون هذه المقدّمة بسيطة وسهلة، لكن بشرط أن تصغوا إليّ جيّداً، وبحول الله وقوّته سوف تفهموا هذه المسألة الليلة. وسوف أبسّطها كثيراً، فإنّها وإن كانت مهمّة جداً جداً وصعبة كذلك، إلا أني سأحاول أن أبسّطها إن شاء الله بالمقدار الذي يجعلها سهلة المنال.

  

المعرفة الحقيقية هي المسانخة والمجانسة في الوجود

فأقول: لا يمكن أن يتعرّف أيّ موجود على موجود آخر إلا من خلال ما يحصل من ذاك الموجود في نفس هذا الموجود العالم[2].
نرى أنّ الموجودات في هذا العالم كثيرة جداً؛ فهناك إنسان وهناك حيوان، والحيوان موجود بصور مختلفة؛ فهناك البقر والغنم والإبل والحمام.. فهي حيوانات مختلفة فيما بينها، وهناك الشجر والصخر والماء، فهذه كلّها موجودات مختلفة ومتكثّرة أيضاً. ولازم الكثرة هو الاختلاف والافتراق بينها. فالشجر يختلف عن الحيوان؛ لأنه يوجد بينهما فرق، ولولا ذلك الفرق لكانا شيئاً واحداً. وكذلك القطّة غير الغنم، والحمام غير النمل، وإذا لم يكن هناك جهة اختلاف بينها لكان الجميع شيئاً واحداً. وأيضاً زيد هو غير عمر، والأب غير الابن، وإذا كانا هما نفسهما من جميع الجهات لم يكونا اثنين.. بل كانا واحداً. هذه هي المقدمة، وهي أمر مسلّم.. صار واضحاً؟!
والآن بعد أن سلّمنا وجود الاختلاف في هذا العالم.. كيف يمكن لشيء أن يعرف شيئاً آخر أو يحصل له العلم به؟! مثلاً أن تعلم الغنم أنّ هناك بقرة، أن يعلم الجمل بأنّ الحصان حيوان ليس عدوّاً له. أن يفهم الثعلب بأنّ الأسد عدوّ له، وتعرف الغنم أنّ الذئب عدوّ لها. كما يعرف الإنسان بعض الموجودات؛ فهو يعرف الشجر ويعرف الحيوان ويعرف أفكار الإنسان الآخر، مع العلم أنّ هذه الأمور التي يعرفها منفصلة عنه، فكيف يمكن للإنسان أن يحصل له العلم والمعرفة بهذه الأشياء؟!
هناك قاعدة مسلّمة حكماً، وهي: لا يعرف شيءٌ شيئاً إلّا بما هو فيه منه.
مثلاً إذا كنتُ أعلم بوجود حيوان، أو حصل لي العلم بوجود شاة، فإلى أي حدّ يمكنني أن أعرف هذه الشاة؟ يمكنني أن أعرف هذه الشاة بمقدار ما هو موجود منها في ذاتي.. ما هو الشيء الموجود من الشاة في ذاتي؟ الموجود منها الحيوانية والجسمية وكونها آكلة ولديها قوّة نامية ومتحركة ومتنفّسة وأنّها تدرك الجزئيّات. فأنا والشاة متساويان من هذه الجهة، من هنا يمكنني أن أحصّل العلم بهذا المقدار. أمّا أن أعرف خاصّية الشاة التي بها امتازت عنّي فهو أمر محال؛ لأنّي علمت بالشاة من جميع الجهات ـ الجهات التي تشترك معي فيها والتي لا تشترك معي ـ فعندها سوف أصير أنا نفس الشاة.
توجهوا جيداً، واضح؟! كلّ موجود يحصل له العلم بموجود آخر، كأن نعلم بالشمس والقمر والأرض والنبات والماء، فعلمنا بهذه الأشياء إنما هو بالمقدار الموجود منها في ذاتنا، ونشترك معها فيه، وأمّا المقدار الذي لا نشترك معها فيه فطريق العلم إليه مسدود، وإلا فلو كان مفتوحاً لكنّا نحن عين هذه الأشياء وكانت هي عيننا. ولكانت جميع الموجودات هي جميع الموجودات. بمعنى أنّه إذا كان طريق العلم والمعرفة بجميع الجزئيات والكثرات مفتوحاً، لوجب أن تكون جميع الموجودات موجوداً واحداً؛ ولوجب أن يكون الغنم والبقر والجمل وجميع الحيوانات والطيور والحيوانات البحريّة والنباتات والجمادات والملائكة... شيئاً واحداً، إذ لا معنى حينئذٍ للاختلاف، واضح؟!

    

شرط معرفة الله هجران عالم المادة والكثرة

الآن بعد أن اتضح لنا هذا المعنى، نريد أن نعرف الله تعالى: كيف هو الله حتى نعرفه؟ أين نحن من الله تعالى؟! فنحن إحدى مخلوقاته وهو الذي أوجدنا وأعطانا جسماً وفكراً وعقلاً، وجميع هذه الظواهر هي من نعمه، والله تعالى ظاهر في ذاته ومظهر لنا، فظهورنا إنّما هو بظهوره. فإذا أردنا أن نعرف الله تعالى.. ما هو المقدار المستطاع الذي يمكننا معرفته فيه؟ يمكننا أن نعرف الله بمقدار ما هو موجود في ذاتنا.. لكن كم هو مقدار وجود الله في ذاتنا؟ وما هو مقدار وجود نور الله فينا؟
عندما نكون متوغّلين في عالم الطبيعة ويكون نظرنا منصبّاً على الكثرات وليس لدينا أيّ توجّه إلى نور ذاك الوجود وذاك النور البسيط والمطلق ومهما نظرنا لا نرى الأشياء إلا منفصلة عن بعضها، ففي هذه الحالة نحن إنّما نعرف الله تعالى بشكل سطحي جداً؛ لأنّه لا علاقة بيننا وبينه.
وعندما يكون الإنسان في درجة أرقى من ذلك: ينظر إلى عالم واسع، ويبتعد قليلاً عن الكثرات والموجودات المتفرقة والمختلفة ويقترب من جهة الإطلاق قليلاً، فإنّه يكون قد عرف الله بهذا المقدار؛ لأنّ الله العليّ الأعلى مثل الشمس الساطعة التي تنير جميع العالم. فإذا كان نظرنا مقتصراً على مستوى الأرض، فإنّنا نرى نور الشمس الذي يسطع من خلال هذه النافذة أو تلك، أو من خلال النور الذي يدخل إلى هذه الغرفة أو تلك. أمّا إذا ارتفعنا بنظرنا قليلاً عن سطح الأرض، ووصلنا إلى مستوى السحاب فسوف نرى نور الشمس بشكل أوضح؛ حيث نرى جميع الآفاق بشكل نورانيّ. وإذا ارتفعنا أكثر من ذلك وسرنا في تلك الطبقات، حتى نصل إلى أين؟ حتى نصل إلى ذات الشمس.. فكلّما اقتربنا درجةً من الشمس سوف ينكشف لنا نور الشمس وخصوصيّات الشمس بشكل أوضح.
والإنسان كذلك موجود تجلّى الله العليّ الأعلى في ظهوره، وصار الإنسان مظهراً للخالق، وهذا الظهور الإلهيّ هو ظهور تامّ، وله قابليّة الجذب والسير.. فما هو جذبه وسيره؟ هو أن يتخلّى عن هذه الموجودات المتفرّقة ويبتعد عن الكثرات.. وليس أمام الإنسان سبيل آخر – غير ذلك – يمكنه بواسطه أن يرفع رأسه من عالم الشهوة ويترفع به عن عالم الطبع والطبيعة إلى درجة أرقى، ويمنعه عن التوجّه إليها. ليصرف وجهه عن عالم المادة إلى عالم الملكوت، ويحوّل وجهة قلبه إلى تلك الجهة، ويقول:
{وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }[3]. حينئذٍ كلّما توجّه قلبه إلى تلك الوجهة كلّما اقترب من عالم القدس، الذي هو عبارة عن الأسماء والصفات الإلهية، فيقترب ويقترب.. حتى يصل إلى مرحلة يريد فيها الوصول إلى الله، واللقاء به حقيقة.
وأمّا هذه الأخبار التي تصرّح بأنّ الإنسان لا يمكنه أن يرى الله ـ ببيان أنّ الإنسان ما دام له وجود, فوجوده هذا مخلوق، والمخلوق لا يمكنه أن يحيط بالخالق ـ فهي أخبار مسلّمة. لذا لا يمكن للإنسان أن يعرف الله تعالى بفكره، أو أن يعرفه بالتأمّل أو بالتفكّر. فمهما فكّر الإنسان وأعمل قواه الفكريّة، فسوف يحصل على صورة وشكل، وستكون هذه الصورة وهذا الشكل من مخلوقاته ومبتكرات فكره، ولا يمكنه من خلال هذه الصور أن يعرف الله تعالى.

المعرفة الممكنة لله هي المعرفة الشهودية لا النظرية!

وعليه فجميع تلك الأخبار التي تصرّح بأنّ الإنسان بنفسه لا يقدر على معرفة الله، أخبار صحيحة. وتلك الأخبار التي تقول: إنّ الإنسان يمكنه أن يعرف الله، لا تفيد أنّ معرفة الله ممكنة بالفكر، بل تفيد أنّ ذلك ممكن بالوجدان، يعني بمرحلة أعلى من الفكر وأعلى من النفس وأعلى من العقل وأعلى من القلب، حيث يصل الإنسان إلى مرحلة لا يبقى معها ذرة من وجود الغير في نفسه، هناك حيث لا وجود للغير، حيث لا وجود للعقل، حيث لا وجود للنفس، حيث لا وجود للروح، حيث لا وجود للإدراك، هناك لا وجود لشيء سوى الله فقط. وعندها الله هو الذي يعرف نفسه؛ لأنّه ليس هناك أيّ موجود يمكنه أن يعرف الله، فالله بنفسه هو الذي يعرف ذاته، وحينئذٍ فعندما يعرف الإنسان الله لا يكون الإنسان إنساناً، والإنسان ليس إنساناً في ذلك الوقت، فالإنسان ليس مدركاً لوجود نفسه مقابل ذات الله تعالى. وإذا كان هناك ذرّة من الإدراك في وجود هذا الإنسان، فلن يكون هناك أثر لنور الله. وهناك الله فقط لا غير، وهذا العالم هو عالم المخلَصين الذين تخلّوا عن كلّ شيء، ولم يعد في قلوبهم أثر لشيء، أي لا وجود لهم، فهم أحياء لكن حياتهم هي حياة الله، وليس لديهم وجود، وليس لديهم أيّ شيء كي يقدّموه بين يدي الله. هناك لا يوجد إلا الله، وهؤلاء خرجوا من جميع مراتب الكثرات، وقطعوا جميع الحجب: قطعوا الحجب الظلمانية والحجب النورانية، وتخلّوا عن كثرات عالم الطبع وكثرات عالم البرزخ وكثرات عالم العقل، تخلّوا عن جميع تلك المراتب. وبما أنّ نفس الملك لها جهة كثرة لذا فقد عبروا عنها أيضاً، ووصلوا إلى مقام { قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [4]، هناك حيث لا يوجد غير الله ولا شيء سوى الله.
{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى* فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [5] و {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [6]. أنتم أيّها المشركون، ماذا تفعلون، تتّبعون اللات والعزى ومناة والأصنام؟ أمّا هو ـ الرسول محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فقد وصل، وأنتم ما زلتم في إنكاركم، فقد وصل إلى الله وتكلّم معه، حتى جبرائيل لم يستطع الذهاب إلى حيث ذهب، فهذا هو المكان الذي لا يبقى للإنسان أي ذرّة من الوجود فيه.


تا   بود  يك ذره  باقى  از  وجود                      
                            كى شود صاف از كدر جام شهود[7]


عجيب جداً! يجب أن يتخلّى الإنسان عن كل ما سوى الله حتى يصل إلى الله تعالى، مهما كان هذا الغير، أيّاً كانت شائبة الغيرية فيه فسوف يصير حجاباً، وكلّما كانت هناك فاصلة بين الإنسان وبين الله فهي حجاب أيضاً، وما دام الحجاب موجوداً لن تحصل المعرفة الكاملة، بل ستحصل معرفة جزئيّة، لماذا؟
ثمّ إنّ الإنسان أيضاً ينظر إلى هذه الآيات: الجبال والصخور والسهول، وجميع هذه الأمور توجب المعرفة، لكنّها معرفة جزئيّة وليست كليّة. وذاك المهندس وذاك العالم الرياضيّ الذي يعتبر أنّ القرآن معجزة، حيث يجري عمليّات حسابيّة على آياته، وأنّ آيات الجهاد كذا وكذا، والآيات الفلانية كذا وكذا... هذه أيضاً معرفة بالله، لكنها معرفة من وراء ألفي حاجز، فأين هي هذه المعرفة؟ هي معرفة من بعيد!
{أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [8]، هذه ليست معرفة، وإلا فبكلّ آية من آيات القرآن من آيات الله يتوجّه الإنسان إليها، سوف تدلّه هذه الآية على الله، لكن هناك فرق بين رؤية شخص بصير ورؤية شخص أعمى.
مثلاً إذا أتى شخص ومرّج بيده هنا (على ظهري)، هل أعرف أنّ شخصاً يمرّج بيده؟ نعم أعرف لكنْ لا أرى، وما لم يأت إنسان غيري وينظر ويرى بعينه أنّ هناك شخص يمرّج بيده لا يعرف ذلك؟؟ وفرق كبير بينهما، وتلك حقيقة، وهذه أيضاً حقيقة.

     

العشق والحب بوابة المعرفة الشهودية

وعليه فيجب أن يتخلّى الإنسان عن كلّ شيء هناك؛ إذ لا وجود لغير الله، ولا يمكن الجمع بين الله وبين الغير. اعرفوا هذا الأمر: أنّه لا يمكن أن يجمع الإنسان الله مع غيره، فالله عزيز لا يمكن جمعه مع غيره. وإذا وصلتَ إلى مكان لا يوجد فيه غير الله فهناك الله، وما دام للغير وجود فليس هناك الله.
وما أجمل ما قاله قيس بن ملوّح العامري بحقّ ابنة عمّه ليلى حيث قال:

تمنّيت من ليلى على البعد نظرة       ليُطفَى جوىً بين الحشا والأضالع

تمنّيت أن أرى ليلى من بعيد ولو بنظرة، لماذا؟ لكي أطفئ النار المشتعلة التي تحرق أحشائي وصدري وما بين أضلاعي.

فـقـالت نســاء الحيّ تطمع أن ترى      بعينيـك ليلــى مت بـداء المطامع

وعندما ذهبت إلى قبيلة ليلى قالت لي نساء القبيلة: ماذا تقول؟ أتريد أن ترى ليلى بعينيك هاتين؟ بهاتين العينين تريد أن ترى ليلى؟! مت بمرض طمعك، كم هو طمعك كبير! فيجب أن تموت بمرض طمعك، ولن تصل إلى أمنيتك أبداً.

وكــيف ترى ليلى بعيــن تـرى بهـــا       سـواها ومـا طهّرتـها بالمــــدامع

كيف يمكن أن ترى ليلى بهذه العين... هذه العين التي نظرتَ بها إلى غيرها؟! وبعد أن رأيت الغير عليك أن تطهّر عينك بالدموع. عجيب جداً هذا الكلام وجميل، وهذه الأشعار عبارة عن كتاب حكمة واقعاً.

وتلتذّ منـــها بــالحديث وقد جــرى       حديث سواها في خروق المسامع

فأنت تريد أن تتحدّث مع ليلى وتأنس بحديثها، مع أنّه قد وصل إلى سمعك غناء غيرها ولا يزال في أذنك، ولا زال يتردد ذاك الصوت في صماخ أذنك، وما تزال تلك النغمات تدوّي في لحمك. ومع ذلك كلّه تريد أن تلتذّ بالحديث مع ليلى؟! هيهات! من يرد أن يرى ليلى لا يمكنه أن يرى غير ليلى، ولا يمكنه أبداً أن يسمع حديث غيرها.
وللمرحوم صدر المتألهين رضوان الله عليه في باب العشق في الأسفار، كلام أثبت فيه هذه المسألة وهي: أنّ العشق لا يتعلّق بالبدن أصلاً، وكلّ عاشق يصير هو الطرف الآخر ولو كان عشقاً مجازياً! فالعشق عشق بين روحين،عشق المادّة بالمادّة محال والحاصل أنّه يأتي بشواهد عديدة من أشعار ذات مضامين عالية عن بعض العظماء حيث يقول ((وقائلهم يقول)) والظاهر أنّه يريد بعض عظماء أهل العرفان ويثبت أن المادّة لا يمكن أن تعشق المادّة، فالعاشق هو الذي يصل إلى المعشوق. وعليه فإذا جعل جلد جسده في جلد المعشوق لا تبرد حرارة العشق، ويضيف بأنه إذا اجتمع شخصان تحت اللحاف والتقى جميع أجزاء بدن أحدهما وخلاياه ببدن الآخر، فلن يهدأ عشقهما ولن يستقر. إذاً العشق ليس ارتباط مادّة بمادّة، وليس ارتباط جسم بجسم، العشق هو ما يحصل من الارتباط بين الروحين، صحيح؟!
فإذا كانت هناك علاقة عشق بين روحين ويريد العاشق أن يدرك معشوقه، يعني: يريد أن يتّحد معه، فالعاشق يريد أن يتّحد بمعشوقه، فهذا الاتحاد لن يحصل إلا إذا تخلّى هذا العاشق عن جميع الامتيازات الخاصّة به، وتخلّى أيضاً عن جميع الاختلافات، وإلا فلن تحصل الوحدة. كما أن دم العاشق لن يصير دم المعشوق ما دامت هناك جهة الذاتيّة في نفسه. وطريق وصول العاشق إلى المعشوق من جهة التجاذب والارتباط الروحيّ عبر انعدام الخصوصيّات والكثرات.
الآن نريد أن نعرف الله.. بماذا نعرفه؟! نريد أن نعرفه مع جميع هذه الكثرات الموجودة فينا! والتخيّلات وما شاء الله من الأمانيّ والآمال، فكلّ واحدة من هذه الأمور صنم حاجز منيع مقابل الله، هذه موانع . ونساء القبيلة تجيبنا وتقول لنا: مت بداء المطامع! ماذا نفعل يا إلهي؟! ما العمل؟! يقولون لنا! اذهب وطهّر عيونك.
إنّ تطهير العين يكون بالبكاء، ولذا ورد في الأخبار أنّ الله العليّ الأعلى لا يحبّ عيناً كحبّه للعين الباكية، وفي يوم القيامة كل العيون باكية إلا العين التي بكت في جوف الليل خوفاً من عذاب الله.
ماذا يعني هذا البكاء؟ يعني تطهير العين من تلك النظرات التي كانت تقع على غير الله، فالبكاء يطهّرها.
بعد أن يقطع الإنسان هذا الطريق، يتقدّم ويعلو ويرقى شيئاً فشيئاً حتى يعرف الله بالله، فهناك ذات الله لا وجود لغيره، فقد قُطعت جميع المراحل، وطهرت العين بالبكاء والدموع، فلن تعود نساء القبيلة تؤنّبه وتوبّخه، فيمكنه أن يأتي إلى ليلى، وعندها لا يكون العشق عشقاً مادّياً ولا مجازياً، فليلى ليست جسداً بل هي روح. وفي هذه الحالة إذا كانت ليلى في شرق العالم ومجنون ليلى في غربها، فسوف يكون بينهما ارتباط، وسيدرك جيداً أنّ ليلى تشكو من وجع رأسها هذا اليوم، اليوم تشكو من وجع في قلبها، ليلى نائمة الآن، ليلى مستيقظة، ليلى مريضة، ليلى سالمة...
الكثير من أصحاب الأئمّة كانوا كذلك بالنسبة إلى الأئمّة، أو أصحاب النبيّ بالنسبة إليه، حيث كانوا يدركون بوجدانهم، يدركون بوجودهم. وهذا الأمر إنّما هو بواسطة ارتباط هذه الأرواح فيما بينها.
الله العليّ الأعلى نور وظاهر, وهو الذي أظهر جميع الموجودات، فإذا أراد هذا الموجود أن يصل إليه، فهو من حيث هو مخلوق فهذا ظهور.. ومتى يصل الظهور إلى الظاهر؟! يصل عندما يتخلّى عن عنوان الظهور، ويعود هذا الشعاع إلى الشمس، يذهب إلى نفس الشمس، فهناك لا يوجد شعاع! ماذا يوجد هناك؟ يوجد شمس، لذا لا يمكن لغير الشمس أن يعرف الشمس، ومهما ذكرنا عن الشمس.. أين رأينا الشمس؟! أين أحسسنا بحرّ الشمس؟! أين اطّلعنا على عظمة الشمس ونفس الشمس وكيفيّة الشمس؟! فنحن بعيدون عن الشمس بمقدار ملايين الفراسخ، وما يصلنا إلاّ جزءً من حرارة الشمس، وحتى إذا أردنا أن ننظر إلى الشمس ننظر إليها من خلال زجاجة سوداء، هذه هي معرفتنا بالشمس.. هل هي غير ذلك؟! من الذي يعرف الشمس؟ الذي يعرف الشمس هو ذاك الذي يقترب منها ثم يقترب ويقترب حتّى يصل داخل كرة الشمس ويذوب فيها وينمحي في ذاتها ويصير جزءاً من الشمس.

مدح تعريف است وتخريق حجاب                             
                                       فــارق اسـت از مــدح وتعــريف آفتاب
مادح خورشيد مــداح خود است                              
                                       كه دو چشمم روشن ونامرمد است

يقول: إنّ المدح هو ذكر المناقب، بمعنى: أن يذكر فلاناً بأنّه كذا وكذا ورفع الستار عنه. وبواسطة ذكر الإنسان لهذه الخصائص يُدرك ذاك الموجود ويُرى، أمّا ذات الشمس فهي خارجة عن كلّ وصف ومدح، ولا يمكن لأحد أن يمدح ذات الشمس إلاّ نفس الشمس. ومادح الشمس أي ذاك الشخص الذي يمدح الشمس لا يمدح نفس الشمس، فهو لم يصل إلى الشمس.. بل هو يمدح نفسه فهو يدرك ذاته. يعني: أنّ هناك شيئاً من وجود الشمس في داخلي، لكن ما هو ذاك الشيء؟ هو إدراكي الذي له هذا المقدار من القابلية والذي يمكِّن عيني من رؤية نور الشمس، فلدي عين ولست أعمى ولا أرمد ولا أشكو من مشكلة في عيني؛ إذ لو كان الإنسان أعمى لا يمكنه أن يدرك الشمس، ومن يشكو من الرمد لا يستطيع أن يرى الشمس أيضاً. إذاً فالشخص الذي يمدح الشمس ويذكر مناقبها، لا يمدح الشمس بل يمدح ذاته، ويذكر مناقب ذاته بأنّه يملك عينين سليمتين، وبأنّه يرى الشمس بهما. هذه المعرفة معرفة إجماليّة وهي معرفة الضعفاء.. هذه المعرفة هي معرفة العجَزَة ومعرفة الضعفاء، لا معرفة الرجال.

      

على الإنسان أن لا يكتفي بالمعرفة السطحية بالله

جاء أحد الأعراب إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال له الرسول: هل عرفت ربّك؟! فقال: بلى يا رسول الله! فقال: كيف عرفته؟ قال: يا رسول الله! البعرة تدلّ على البعير وأثر الأقدام يدلّ على المسير، أفسماء ذات أبراج وأرضٌ ذات فجاج لا يدلاّن على اللطيف الخبير؟! فاستحسن النبيّ منه ذلك.
حسناً! إنّ قولـه هذا وإن كان صحيحاً، لكنّ الحاصل منه أنّه استدلّ على الإبل بوجود البعرة دون أن يرى الإبل، واستدلّ على مرور إنسان من هنا بواسطة أثر أقدامه، لكنّه لم يصل إلى الإنسان، فنحن من خلال هذه السماء نعلم أنّ هناك ربّاً خلقها، وأحسن خلقها! من ينكر ذلك؟!
وقد قالت تلك العجوز: أنا أعرف الله جيداً، كيف تعرفيه؟.. عندما أدير المغزل بيدي، يدور فيبدّل القطن إلى خيوط، وعندما أرفع يدي عن المغزل يتوقّف عن العمل، إذاً فلا شكّ أنّ وراء هذه السماء والأرض التي تدور يداً تديرها، وإذا لم يكن هناك يد لتوقّفت, ولمات الناس جميعاً وفنوا، فتلك اليد هي التي تدير الأرض وتدير الشمس، وهذه التغيّرات دليل على وجود تلك اليد المدبّرة. لذا قيل: ((عليكم بدين العجائز)). أي أقلّ ما ينبغي على الإنسان أن يحافظ عليه هو هذا المقدار من الدين، وأن يعلم أن التحوّل إنّما هو بيد مدبّر... لكن في النهاية ما هو هذا الدين؟ هذا دين هذه العجوز، ودين العجوز يختلف عن دين الرجال الذي ينبغي أن يدان به.

چه كردى فهـــم از ديــن العجـــائز           كه بر خود جهل مى دارى تو جائز؟![9]
برون آى از سراى ام هانى![10]

أخرج! فقد كان النبيّ في بيت أم هاني في ليلة المعراج، فخرج! فكم يجب أن يبقى الإنسان في بيت أم هاني؟!
هل تعلم واقعاً هذه المرأة أنّ الله موجود أو لا؟! نعم تعلم، تعرف ذلك من خلال المغزل، وقد حصل لديها اليقين بوجود الله، لكن هل هذا كاف؟!
فهناك فرق كبير بين من يجلس خارج المدينة ويعلم إجمالاً من خلال هذا الضجيج وأصوات الناس أن هناك مدينة كبيرة، وبين ذاك الشخص الذي ذهب إلى داخل المدينة وتجوّل في أنحائها، وسار في شوارعها وأسواقها وشاهد مساجدها، ودخل إليها وتعرّف على المصلين داخلها، وسمع ما قيل في تلك المساجد، واطّلع على خصوصيّات أهل تلك المدينة، وتعرّف على بعض الأصدقاء فيها وكان في ضيافتهم.
ذاك الشخص الذي بقي خارج المدينة ووراء الحواجز يعلم جيداً أنّ هناك مدينة أيضاً، لكن كم هو الفارق بينهما؟! الفارق ما بين السماء والأرض.
إذن يجب أن نترقّى أكثر من دين العجائز، ومعرفة ذاك الأعرابي لا تنفعنا أيضاً، فهذه المعارف معارف الضعفاء، وهي معرفة إجمالية. يجب أن نحصّل المعرفة التفصيليّة، ويجب أن نذهب إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وعلى كلّ شخص أن يقتدي بإمامه. فلا يعنينا عمل تلك العجوز أو ذاك الإعرابيّ، هؤلاء ليسوا إماماً لنا، علينا أن نتّبع أمير المؤمنين والنبيّ، ونرى ماذا قالوا.

ما معنى: يا من دل على ذاته بذاته؟

يقول أمير المؤمنين عليه السلام:
((يا من دلّ على ذاته بذاته)) فالله هو الذي دل على ذاته بذاته لا بواسطة الموجودات الأخرى، فالموجودات لا يمكنها أن تُعرّف ذاتك، فهي صغيرة. كما أنّ رسوم الرسّام تعتبر أثراً من آثار الرسّام، وهي لا يمكنها أن تكشف عن حقيقة الرسّام، وحتى لو رسم ألف رسمة تبقى هذه الرسوم أثراً، وهي غير تلك المَلَكة النفسيّة الحيّة في داخل الرسام. كلّ هذه الرسوم هي موجودات ميّتة، وهي آثار خارجة عن حقيقة نفس ذاك الرسام الذي لديه هذه المَلَكة. والملكة عبارة عن خصوصيّة يصعب اكتشافها بحيث يُعتبر تشخيص حقيقتها من أشكل الأمور، فمن الصعب أن يظهر للإنسان ما هي الملكة.
أمير المؤمنين عليه السلام قال: يا من دلّ على ذاته بذاته.
لكن ماذا يقول الإمام السجاد عليه السلام في دعاء أبي حمزة؟ يقول:
بك عرفتك، وأنت دللتني عليك ودعوتني إليك، ولولا أنت لم أدر ما أنت. فالذي جعلني عارفاً بك هو ذاتك، وما دون ذاتك لا يمكنه أن يعرّفني عليك. فجبرائيل لا يمكنه أن يعرّفني عليك. لأنّ جبرائيل من مخلوقاتك، جبرائيل يمكنه أن يعرّفني بذاته فقط، وهو يمكنه أن يحدّث عن ذاتك بمقدار ما هو موجود بعنوان أنّه ظهور وبروز منك في ذاته، ونحن يمكننا أن نعلم بجبرائيل ونطلع عليه بمقدار ما هو موجود من جبرائيل في ذاتنا، ولا يمكننا أن نعرف أكثر من ذلك. أمّا الله فيريد أن يعرّفنا نفسه، متى يعرّفنا نفسه؟ عندما يتخلّى الإنسان عن جميع شوائب المخلوقات والغير، ويتعرّف على الله من خلال الله.
كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟! يقول الإمام سيّد الشهداء عليه السلام في تتمّة دعاء عرفة المنسوب إليه: كيف يمكن أن يتمّ الاستدلال على وجودك بواسطة موجودات محتاجة في وجودها إليك، يعني: أنّها كانت محتاجة في أصل وجودها، ثم أعطيتها الوجود بسبب ذلك الاحتياج الذاتيّ، فهذا الوجود قد نشأ وأخذ منك، وعندئذٍ كيف يمكنها أن يوصلها إليك والحال أنّه للوهلة الأولى وصوله معتمد عليك!
كيف يُستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟! وكيف يمكن لهذه الموجودات التي هي في أصل وجودها وفي كنه حقيقتها وفي ذات ومبدأ وجودها مرتبطة بك، وتأخذ منك أصل إفاضة وجودها في كلّ لحظة... أن تدلّنا عليك؟! والحال أنّ هذه الدلالة ليست قائمة بذاتها، بل هي بدلالتها هذه معتمدة عليك. إذن فأصل الدلالة والتعرّف عليك معتمد عليك، وأنت أسرع منها وسابقاً لها.. واضح؟!
أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك؟! هل هناك ظهور لغيرك دون أن تكون أنت الذي أظهرته؟ بأن يكون ظهوراً قائماً بذاته حتى يستطيع أن يظهرك؟ إذا كان الأمر كذلك بأن كان هناك ظهور غيرك يمكنه أن يوضّحك ويظهرك، فإنّ ظهور هذا الغير إنّما هو منك.
هذه الشمس الموجودة في العالم... وهذا المصباح الموجود في أيدينا نوره من الشمس، لا أنّه يضيء بمقدار حجمه بنور غير نور الشمس، عندها هل يمكننا أن نحمل المصباح بأيدينا نريد أن نبحث عن الشمس!! حسناً، لا يمكن أن تُرى الشمس من خلال نور المصباح، لكن على الأقل نسلّي أنفسنا ونقول :إنّنا بهذا المقدار من نور المصباح نبحث عن الشمس، بل ليس أيضاً بهذا المقدار؛ لأنّ نور المصباح إنّما هو من الشمس. إذن قبل أن ينير هذا المصباح كانت الشمس منيرة وقبل أن نحمل المصباح بأيدينا ونضيئه رأينا الشمس وعرفناها، وقبل أن يكون لهذا المصباح نور كان للشمس نور.
إذن كل موجود تريد أن تنظر إليه وإلى أيّ آية تريد أن تراها: السماء, الأرض, الإنسان, الحيوان... فإنّ الله كان قبلها، وكيف تعرف الله من خلال النظر إلى هذه الأمور؟! والحال أنّ النظر إلى هذه الأمور هو نظر ومشاهدة لما هو متأخّر.. قبل هذه الأمور بحيث إنّك لو نظرت لرأيته أولاً، وإذا نظرت إلى هذه ثمّ رأيت الله بعد ذلك، فقد رأيت الله من مكان بعيد.
{أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [11]، هكذا يكون إله هؤلاء الناس.
((متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك)). إلهي متى كنت غائباً؟ ومتى غبت حتى احتجت إلى دليل، إلى مرشد يدلّنا عليك؟! فهل أنت غائب؟
مثلاً زيد الحاضر يأخذ بأيدينا ويعرّفنا بالغائب. فالشخص الذي يريد أن يأخذ شخصاً آخر ويعرّفه على آخر غائب، يجب أن يكون حاضراً. فالسيّد الفلاني ... حاضر يمكنه أن يأخذ بنا إلى شخص غائب.. السيد فلان... غائب الليلة أليس كذلك؟ نعم؟ لكن ذاك الموجود الذي يريد أن يأخذنا إلى ذاك الغائب، ليس حاضراً عنده, فحضوره إنّما يتحقّق بحضور لدى ذاك الشخص، ووجوده أصلاً يحصل بوجوده.. والحال أنّه ليس حاضراً!!
فليس هناك غيبة في عالم الوجود، متى غبت يا إلهي؟! حتّى يدلنا عليك دليل؟! ومتى كنت بعيداً حتّى تكون هذه الآثار والمخلوقات والآيات والموجودات هي التي توصلنا إليك؟! فأقرب الأشياء إلينا هو أنت، وذاتك أقرب إلينا من كلّ شيء.. عجيب! هذه الآية القرآنية عجيبة جداً:
{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [1]. يمكنني أن أقول: أنا أقرب من جميع الموجودات إلى نفسي، أليس كذلك؟! وأقول: الأقرب إليّ من السيد فلان ... هو أنا، وأنا أقرب إلى نفسي من الكتاب، هل هناك غير هذا؟! وأنا أقرب إليّ من نفسي، لكن "أنا" في قولي أنا أقرب إلى نفسي، الأقرب منّي إلى نفسي هو الله. إذاً ظهوري إنّما هو بالله، فكيف يمكنني أن أرى نفسي مع أنّ الله داخل في وجودي، وهو أوضح وأظهر وأجلى منّي، وكذا في سائر الموجودات.
وكلمات سيد الشهداء عليه السلام التي نقرأها إن شاء الله نُرزق قراءتها في عرفات، وحتّى لو لم نذهب إلى عرفات يمكننا أن نقرأها هنا أيضاً :نحو قوله: عميت عين لا تراك عليها رقيباً وخسرت صفقة عبد لم تنل من حبّك نصيباً مفادها أنّ تلك العين التي لا تراك رقيباً ولا تراك محيطاً ولا تراك مدبّراً ولا تراك الميهمن والمسيطر، تلك العين التي لا تراك هي عين عمياء. وتلك يد العبد التي تأتي إلى هذه الدنيا وتذهب، وتصرف عمرها في معاملات الدنيا، وتقضي حياتها وتضيّع صحّتها وتفني شبابها وتعطي كلّ شيء في سبيل هذه المعاملات.. وفي النهاية لا يترشّح حبّك من هذه اليد هي يد خاسرة ومحتاجة.
جعلنا الله جميعاً من الفائزين ببركة هذا الإمام، ونسأله أن لا يجعل عاقبة أعمالنا في الدنيا إلى الخسران والضياع، وينوّر عيوننا دائماً بنور جماله. ولا يعمي أبصارنا، ويعرّفنا ذاته بذاته، ولا يدلّنا على ذاته من بعيد وبواسطة آثاره وصفاته وخواصّه ومخلوقاته، ببركة أنوار مقام الولاية القاهرة، التي هي من الأسباب التكوينيّة لرقيّ الأشخاص وسير النفوس إلى عالم القدس، وأن يأخذ بأيدينا ويوصلنا إلى ذاته...


[1] ـ سورة فصلت (41) الآية 53.

[2] ـ شارة إلى القاعدة الفلسفية القائلة: لا يعرف شيء شيئاً إلّا بما هو فيه منه.

[3] ـ سورة الأنعام (6) قسم من الآية 79.

[4] ـ سورة النجم (53) مقطع من الآية 9.

[5] ـ اسورة النجم (53) الآيات 8, 9, 10.

[6] سورة النجم (53) الآيات 19 , 20.

[7] ـ ما دام هناك ذرة من الوجود، كيف يمكن أن يشاهد صفو كأس الشهود وأنّى له أن يزول عنه كدره.

[8] ـ سورة فصّلت (41) الآية 44.

[9] كيف اكتفوا بهذه المسألة على أساس فهم "دين العجائز"؟! فأنت بذلك تختار الجهل لنفسك

[10] ـ البيت هكذا:

برون آي سراى ام هانى!      بخوان مجمل حديث لن ترانى

والمعنى هو أنْ: اخرج من بيت أم هاني (العجوز) وعليك أن تقرأ حديث "لن تراني", فلا تكتفي بمقدار معرفة العجائز العاجزين عن تحصيل المراتب العليا من المعرفة, بل لا بدّ وأن ترتقي إلى أعلى مدارج المعرفة.

[11] ـ سورة فصلت (41) الآية 44.

[12] ـ سورة ق (50) من الآية 16.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی