معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات العلامة الطهراني > سلسلة محاضرات تفسير آية النور > تفسير آية النور - المحاضرة الرابعة

_______________________________________________________________

هو العليم

تفسير آية

{ الله نور السماوات و الأرض}

المحاضرة الرابعة

 

موعظة ليلة الثلاثاء

في 15 رجب 1396 هجريّة قمريّة

 

حضرة العلامة آية الله الحاجّ السيد محمّد الحُسين الحسيني الطهراني

قدّس الله نفسه الزكيّة

_______________________________________________________________

أعوذُ بالله منَ الشيطانِ الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنةُ الله على أَعدائِهم أجمَعين

{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [1]

تقدّم الكلام في جلسة الأسبوع الماضي حول معرفة الله وبيان كيف أنّ حقيقة الله هي نور, واستعرضنا ـ إلى حد ما ـ اختلاف المدارس والمذاهب المتعدّدة البارزة والمعروفة. وقدْ اتضّحَ أنّ هناك مدرستان معروفتان تتعلّقان بمعرفة الله: الأولى مدرسة الحكمة والفلسفة, والثانية هي مدرسة العرفان.
فمدرسة الفلسفة تلتزم بأنّ على الإنسان أن يعرف ربّه عن طريق التفكّر والتعقّل وترتيب المقدّمات المعلومة والتي من خلالها يتمّ التوصّل إلى ما نجهله بالنسبة لمعرفتنا بالله.
وأمّا مدرسة العرفان فهي تلتزم بضرورة كون معرفة الله بواسطة السّر والقلب, ذلك لأنّ الله العليّ الأعلى قد جعلَ في الإنسان خاصيّةً وإمكانيّة, ووهب له عيناً غير هذه العين الخارجيّة, بل وغير العين الذهنيّة, وإنّما هي عينٌ قلبيّة سرّية أرقى وأدقّ من ذلك, يستطيع الإنسان بواسطتها أنْ يرى الله.
فالعلماء من أهل العرفان يقولون: إنّ مدرسة الفلسفة لا تنفعُ الإنسانَ أصلاً, فهي لا تسمنُ ولا تغني من جوع, وهي قاصرةٌ عن اجتياز طريق معرفة الله, فكثير من الفلاسفة يصرّحون باحترامهم وتقديرهم لمدرسة العرفان, إلاّ أنّهم يقولون: ليس بوسعنا بلوغ ذلك المقام, وأنّ ما يمكننا بلوغه هو هذا الذي نقومُ به من التفكير والتفكّر, وأمّا تلك المعاني الدقيقة والرقيقة, واللطائف والإشارات الكامنة عند أرباب الضمير وأصحاب القلوب فلا يمكننا بلوغها ونيلها.

    

طريقة الأنبياء والأئمة عليهم السلام هي الجمع بين منهجي الفلسفة والعرفان

أمّا الأئمّة والأنبياء فقد كانوا مستجمعين لكلا المدرستين؛ يعني: كانَ لديهم منطق الاستدلال, وكذلك لديهم مدرسة العرفان.
أمّا منهج الاستدلال؛ فلأنّهم كانوا يواجهون جميع الناس ويحاججون الأفراد الأعمّ من المؤمن والكافر والمشرك, ومن الطبيعي أنْ تكون الاحتجاجات التي يقابَلُ بها المشركون والمعاندون والكافرون مبنيّةً على البرهان الفلسفي والمقدّمات الصحيحة التي يرتضيها الخصم ويقبل بها الطرف المقابل, فيثبتون بذلك وجود الله وصفاته..
وأمّا سببُ امتلاكهم لمدرسة العرفان؛ فلأنّهم يريدون أن يدعوا جميع أفراد البشريّة إلى السير في طريق الله, ويريدون أنْ يوضّحوا الطريق الذي طووه همْ بأنفسهم وأنْ يبلغوا بالناس إلى معرفة الله بشكلٍ واقعيّ.
لأجل ذلك, يتضّحُ لنا أنّ جميع الأنبياء ـ وذلك حسبما ينبّئنا القرآن المجيد ـ وكذلك الأئمّة الأطهار, كانوا أصحابَ خلوةٍ بأنفسهم وذوي عبادات وحالات خاصّة بهم؛ من البكاء والتضرّع والمناجاة والتحدّث مع الله.. وكانوا يدعون خواصَّ أصحابهم بل وجميع الناس إلى هذا الطريق.
ومن جهةٍ ثانية, كانوا يمتلكون المنهج الفلسفي والحكمي بشكل قويّ ومحكم جدّاً, إلى الحدّ الذي لم يُرَ أنّ النبيّ أو أحد الأئمّة قد عجز أو ضعفَ أمامَ شخصٍ معاند, أو تلكّأ في الإجابة, أو أبرزَ عدم القدرة عن التفكّر أو الإجابة.. لذلك فإنّ كلتا الجهتين ضروريتان.
فوجود الإنسان له مبدءان ووسيلتان يمكنه من خلالهما أن يدرك الأشياء!
أحد هذين المبدأين الذهن والتفكّر, والذي يقوم بواسطته بمهام كثيرة, فيتوجّه إلى عالم الكثرة بواسطته, ويرى الأفراد.. ويعرف الأشياء ويراها من خلاله.. ويتّصل بالموجودات الكثيرة.. ويقيس الأمور إلى بعضها ويربطها ببعضها البعض, ويحصلُ من خلال ذلك على الكثير من المجهولات ويتعرّف عليها.. وذلك بواسطة القوّة الفكريّة, وهي أحد خصائص الإنسان.
والمبدأ الثاني للإدراك هو الشعور، وهو ما يتّفق لكلّ أفراد البشر, من أنّه حينما يكون في خلوةٍ مع نفسه, أو في حالات الاضطراب أو العجز والضعف, فإنّه ينشدّ إلى الإله ويبحث عنه؛ وليس هذا البحث والانشداد بواسطة القوّة المتخيّلة ولا بواسطة التفكّر! بل هو بواسطة شيءٍ آخر, وإنْ أرادَ الإنسان أنْ يلقى الله بواسطة هذا الحسّ ويتّصل به, سوف يحصلُ له حالة من الراحة والخفّة والطمأنينة.. وكأنّ قلبه قدْ ارتوى.. فأصبح ريّاناً.. وما لمْ تظهرْ هذه الحالة للإنسان فإنّه لن يستريح من الاضطرابات والقلق والتزلزل والتشويش وهجوم الخواطر عليه وازدحام الوساوس.. وسوف لنْ يرتاح أبداً.

    

الآيات والأخبار تبيّن أنه يمكن للإنسان أن يصل الى معرفة الله ولقائه

وقد افتتحَ الأنبياء والأئمّة هذه المدرسة وقالوا: يا أيّها السادة الأعزّاء!‍ أيّها الإنسان! يمكنك أنْ ترى الله.. فالذين يدعون استحالة رؤية الله كلامهم خاطئ.. بل إنّ بإمكان الإنسان أنْ يرى الله, غاية الأمر أنّه ليس بواسطة هذه العين!! لأنّ الله ليس جسماً, كما ولا يكون ذلك بواسطة العين الذهنيّة أو التفكّر.. لا, فليس الله صورة ولا معنى؛ والفكر الإنسانيّ إنّما يدرك صور الأشياء.
فالله موجودٌ غير متناهٍ ذاتاً وصفةً وفعلاً, والله العليّ الأعلى قدْ أودعَ في قلب الإنسان قوّةً غير متناهيةٍ أيضاً, وبإمكانها أنْ تدرك على نحو الإجمال تجلّياته الأسمائيّة والصفاتيّة, وحيثُ أنّ استعداد قلب الإنسان وقابليّة سرّه كبيرة وواسعة إلى حدّ يمكنه أنْ يبلغَ مرحلة الفناء, صار بإمكانه أنْ يصلَ إلى مقام الفناء في الذات الإلهيّة؛ ولن يتحقّق ذلك ما دام الإنسان موجوداً, ولا يمكنه أن يعرف الله ما دام إنساناً!! لأنّ ذات الله غير قابلة للإدراك.. ولكن بما أنّ ذات الإنسان هي التي تقبل الفناء ويمكنها أن تفنى, بحيث لا يكون في حال الفناء إلا الله فحسب, فحينئذٍ يكون الله هو الذي يعرف نفسه ويرى نفسه, وهذه هي مرحلة الذات. وأمّا في مرحلة الأسماء والصفات فإنّ الأمر مختلف, إذْ يمكن لأيّ شخصٍ أنْ يبلغَ هاتين المرحلتين إثرَ التزكية والتهذيب وتصفية الباطن.
فالآيات القرآنيّة وأخبار الأئمّة عليهم السلام فيما يتعلّق بهذه المسألة كثيرة وتفوق الإحصاء, حيثَ أفادتْ ذلك بعناوين مختلفة وطرق كثيرة, وكشفتْ لنا عن إمكانيّة هذا الطريق, وأثبتتْ أنّ بإمكان الإنسان أنْ يجتاز هذا الطريق ويبلغَ نهايته ومقصوده.
وأمّا أولئك الذين يقولون: لا يمكن للإنسان أنْ يعرفَ الله أو يدركه.. بدعوى أنّ الله منزّه.. فأنّى للإنسان أنْ يبلغَ حرمَ ربّه؟! وأنه ينبغي أن لا نطلق على الله أنّه موجودٌ لأنّه منزّه عن هذه الأوصاف.. فأين الله من الممكن؟! طريق الوصول إلى الله مسدود.. والطرق مغلقة أمام الوصول إلى الله.. ـ وقدْ بينّا بعضَ مبانيهم وأحوالهم في المجلس السابق ليلة البارحة, وذكرنا أنّهم أصحاب مسلك التنزيه الصرف ـ فقدْ أبطلَ الأئمّة عليهم السلام هذه المدرسة وقالوا: إنّ نتيجة هذا التنزيه هو التعطيل؛ يعني: إنّ الله منعزل بشكل تام, ولا ربط له بالعالم, وأنّ الارتباط بالله منقطع بالكليّة, وكلّ هذه العبادات التي يقوم بها الإنسان إنّما هي عبثٌ ولعب.. وإلاّ فليس هناك ارتباط أو اتصال ولا جذبة ولا تكلّم وما شابه ذلك.. فلا يوجد شيء من ذلك بين العبد وربّه.. وتلك المحبّة والعشق والحرقة وما شابه ذلك ممّا كان لدى الأئمّة عليهم السلام, أو ما كان لدى الأنبياء, كلّ ذلك عبادات كانوا يأتون بها لمجرّد التمرين والتدريب, كي يُفهموا الناس ويعلّموهم.. وإلاّ فهم ليسوا كذلك... وهذه المدرسة باطلة, والقول بالتعطيل يؤدّي إلى انسداد الطريق بين الله وعباده.
مضافاً إلى أنّ ذلك يوجد اليأس عند جميع الناس, لأنّ للإنسان روح, وروحه واسعة جدّاً, وما لم تصل إلى الله فإنها لن تهدأ, وكلّ ما يعوّضون به عليه لا يوجب له الهدوء والاستقرار.. وإذا قالوا للإنسان من أولّ الأمر: أنتَ لا يمكنك الوصول إلى هذا الهدف!! فسوف يكون الموت والحياة بالنسبة إليه على حدّ سواء.. ولماذا يبقى الإنسان حيّاً حينئذٍ؟ وإلى أيّ حدٍّ يمضي الإنسان أيّامه ويقضيها بالأكل والنوم والاجترار كالحيوانات وإطفاء الشهوة ليلاً ونهارا؟! وأيّة قيمة لتكرار المكرّرات بالنسبة للإنسان؟ بل هو ممّا يتعبُ الإنسان!
ما يُحيي الإنسان هو العشق والوصول إلى هذا المبدأ؛ بحيث تصبحُ جميع الأمور المزعجة والمنغصة مريحة للإنسان, بل حتّى لو خال له أنّه لن يصلَ إلى هذا الهدف, أو قيل له لا يمكنك بلوغ هذه المرحلة.. سوف لا يكون لذلك أيُّ تأثيرٍ عليه, لأنّه سيظلّ مرتبطاً به من قلبه, ويظلّ قلب الإنسان يقول: بلى.. يمكن الوصول. لذلك نرى أنّ الإنسان لا يموت حينما يقال له: إنّك لن تبلغ هذه المرحلة, لأنّ قلبه متعلّق به ومتوقّع للوصول ومؤمّل له, وإلاّ فلو كانَ مصدّقاً من كلّ قلبه بأنّه لن يبلغ هذه المرحلة, سوف يموت من حينه, وسيكون موته راحته وعرسه, إذْ ليس هناك معنىً للحياة بالنسبة للإنسان.
وعليه, فالإنسان يصلُ.. و شعوره بإمكانيّة الوصول كامن في قلبه ولوجدان الإنسان طلبٌ ومبتغى فهو يسير ويتحرّك نحو هذا المبدأ؛ والله هو الذي خلق هذا الطلب وهذه الغاية الكامنة في فطرة كلّ إنسان, وهي من القوانين الإلهيّة وسننه, وهي إحدى الغرائز التي أودعها الله العليّ الأعلى في الإنسان, وهي تدلّ وتكشفُ عن وجود شيءٍ وحقيقة وراءها, فلو لم يكن هناك شيء, ولم تكن هناك تلك الغريزة.. ولم يكن هناك هذا الشعور الفطريّ, ولم توجد هذه الخصوصيّة... لأمكننا أن نمنع من إمكانية الوصول إلى الله, ولكنْ بما أنّها موجودة واقعاً لدى الإنسان, فإنّ الوصول إلى الله أمرٌ ممكن.
هناك آيات عديدة في القرآن تصرّح بإمكانيّة لقاء الله:
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } [2]
فالذين يريدون لقاء الله, عليهم أن يعملوا الأعمال الصالحة, ويأتوا بذلك بنيّة مخلصة.
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاًأُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} [3]
((أيّها النّبي! قل للناس: هل أنبّئكم وأدلّكم على أعجز الأفراد وأذلّهم الذين هم صفر اليدين؟! هم الذين كانوا يعملون أعمالاً كبيرة في عالم الدنيا, إلاّ أنّهم كانوا يتخيّلون أنّها أعمال حسنة, هؤلاء الأفراد لم يكونوا يؤمنون بلقاء الله ويوم القيامة, فهم أخسر من جميع الناس)).
يعني: أكثر العقول خواء في الدنيا هو عقلُ من يدّعي: أنّ الوصول إلى الله مستحيل!
{مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [4]
((أي الأشخاص الذين يرجون ويأملون بلقاء الله, فليعلموا أنّهم سوف يصلون, وذلك في الزمان الذي عيّنه الله لبلوغ رجائهم ومناهم)) .
وهناك الكثير من الآيات الواردة في القرآن فيما يتعلّق بهذا المطلب.
وأمّا الفريق المخالف, فإنّهم يقولون: عزيزي! هذه الآيات ليست دالة على لقاء الله.. فالله لا يمكن لقاؤه بوجه من الوجوه, ولا تمكن رؤيته؛ لا بواسطة العين الكائنة في الرأس, ولا بواسطة العين الذهنيّة, ولا بعين القلب, ولا بعين السّر, ليس بالإمكان رؤية شيء من ذلك.. لا ذات الله, ولا صفات الله, ولا فعل الله.. لا إجمالاً, ولا تفصيلاً... فالطريق مسدود.
وجواب هؤلاء: أنّه ألمْ يردْ في القرآن شيءٌ من الآيات يدلّ على لقاء الله؟! ماذا يعني لقاء الله؟! يعني: الرؤية. فأنا حينما آتي للقائك.. لألتقي بك.. يعني سوف أراك؛ فإذاً, لماذا بيّن الله هذه المسألة وأكّدَ عليها, وعدّ المسألة من الأمور المهمّة؟! وجعلَ أولئك الذين لا يرجون لقاء الله هم الأخسرين أعمالا.. وعبّر عنهم: بالأعجز.. الأردأ.. الأخسر؟! وأنّبَهُ أن لِمَ اقترفت هذا العمل؟!

    

توضيح المراد والمقصود من لقاء الله

ما هو المراد من لقاء الله؟
أولئك يقولون: إنّ المراد من لقاء الله هو لقاء نِعم الله وجنّته؛ التفاح.. الإجاص.. حور العين.. الشجر.. هذه الأشياء التي تعطى للإنسان في الجنّة..
هل حقاً هذا هو لقاء الله؟! وهل كانَ الله عاجزاً عن استعمال هذه الألفاظ وبيانها في كتابه فاستعمل كلمة (لقاء الله)؟!
وعلاوةً على هذه الآيات المحرّكة للإنسان نحوَ لقاء الله.. فما معنى أنْ يعطى الإنسان يوم القيامة إجاصتين!! أو يعطى تفاحتين يضعهما بيده؟!
هل هذا هو معنى لقاء الله؟! أليس من الحيفِ والإجحاف أنْ ينزلَ الإنسانُ لقاء الله إلى هذا الحدّ؟! فيعبّرون عن لقاء الله بـ "تفّاحتين أو إجاصتين"؟!
بعضهم يقول: لا.. المراد هو لقاء الأئمّة, فلا يرى الإنسان ربَّه, وإنّما يمكنه رؤية الإمام, وبلوغ معرفة الإمام, ومن وصلَ إلى مقام لقاء الإمام فقد وصل إلى لقاء الله.
والجواب على ذلك: عزيزي! ألمْ يكن نفسُ الأئمّة عليهم السلام يقرؤون هذه الآيات؟! ألمْ يكونوا هم يطلبون لقاء الله لأنفسهم!! فإذاً, لا تنطبق هذه الآيات عليهم أنفسهم.. ثمّ مع قطع النظر عن أنّ معرفة الأئمّة عليهم السلام هي عين معرفة الله, وذلك بعدَ الالتفات إلى أنّهم أصبحوا وجه الله, واسم الله, فهم قد طوَوا الطريق, وتحقّقت المعرفة بالنسبة لهم, وأصبحوا أئمّة, حينئذٍ يمكننا أنْ نقول: إنّ لقاء الأئمّة هو لقاء الله.. فهم حينئذٍ غير سائر أفراد البشر, فهم بعدَ بلوغهم مقام لقاء الله أصبحوا وجه الله.. ويد الله.. وسمع الله.. وعين الله.. وصارت هذه العناوين صادقة عليهم.
إذاً, نفس دليلكم ينقضُ كلامكم ويرجع عليكم, لأنّكم أردتّم أنْ تبطلوا إمكانيّة المسألة.. فأثبتموها.. فأنتم تقرّون بشكل إجماليّ ومستبطن بأنّ الإمام يستطيع أن يصل إلى لقاء الله, وهو كافٍ بالنسبة لنا، لأنّ الإمام غير الله, ويمكنه أن يرى الله, فلتقرّوا بذلك بالنسبة للإمام ولتصرّحوا: بأنّ للإمام أنْ يرى الله, وأنّ النبيّ يمكنه ذلك.. هذا كافٍ لإتمام عمليّة الاستدلال على المطلب, ودحضِ مدّعاكم من استحالة أنْ يعرفَ اللهَ غيرُ الله من الممكنات, هل كان الإمام أو النبيّ واجبَي الوجود؟! لا، هم ممكنات, غاية الأمر أنّهم وصلوا إلى الحجاب الأقرب إثر التزكية والتهذيب, وبلغوا مرحلة كشف سبحات الجلال, وأدركوا حقيقة المطلب.
فإذا التزمنا بهذه المسألة ولو إجمالاً, يمكننا أن نعمّم هذه الحقيقة إلى جميع أفراد البشر دون استثناء؛ لأنّ الأئمّة والأنبياء والقادة الروّاد كانوا قدْ ذهبوا ووصلوا, ثمّ دعوا جميع البشريّة إلى اللحوق بهم, فقالوا: أيّها الناس! تعالوا والحقوا بنا! نحن أئمّتكم, نحن قادتكم, قد ذهبنا في طريق معيّن ووجدنا شيئاً هناك؛ تعالوا اتبعونا, ونحن نفهمكم.. نطلعكم. وإلاّ فلو كان الإمام هو الذي وصل وكان ذلك مستحيلاً على بقيّة الأفراد, فما معنى الإمامة والقيادة حينئذٍ؟! ففي أيّ شيء هو إمام؟! الإمام هو إمامٌ في السلوك.. وطيّ طريق الله.. لو كان هذا الطريق مسدوداً, فما هو معنى الإمامة؟ وما معنى القيادة؟! وعليه فآيات لقاء الله تدلّ على إمكانيّة لقاء الله بشكل صريح.
وإنْ تدّعوا أنّ الاستعمال في هذه الآيات مجازيّ, وأنّه ليس المراد من اللقاء المعنى الحقيقيّ, بل المراد هو بلوغ مرحلة الأسماء والصفات الإلهيّة فقط, كان لازم ذلك انهدام مدرسة التنزيه, لأنّهم يدّعون استحالة معرفة الأسماء والصفات الإلهيّة, فهم يقولون: لا يمكن بأيّ وجه من الوجوه الوصول إلى ذات الله أو أسمائه أو صفاته, ولا يمكن لأيّ شخصٍ أن يبلغَ هذه المرحلة أو يرد في هذه المقامات ولو بالجملة.

    

بعض العبارات الواردة في الأدعية والروايات تدل على لقاء الله

ومن جملة العبارات الواردة الدالة على لقاء الله, لفظ "نَظَر" الوارد في الكثير من الأدعية:
ولا تحرمني النظر إلى وجهك.
فكيف تفسّرون ذلك؟! النّظر هو الرؤية والمعاينة لوجه الله. إذاً، لله وجه. نعم, وجه الله ليس كوجه الإنسان, وإنّما جميعُ عالم الوجود هو وجه الله, وهو يحاكي ذاتَ الله, فلا تحرمنا من النظر إلى وجهك.
إذاً, بإمكان الإنسان أنْ ينظرَ إلى وجه الله, وإلاّ لما كانَ هناك معنى للطلب من الله: أنْ لا تحرمنا من النظر إلى وجهك!
كذلك: وأنرْ أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك.
ومعناه: >إلهي! نوّر عيون قلوبنا بذاك النّور الذي من خلاله نستطيع النظر إليك<.
على ماذا يدلّنا ذلك؟
يدلّنا على أنّ العين الظاهريّة للإنسان وكذلك الباصرة الفكريّة الذهنيّة لا يمكنهما أنْ يريا الله, إلاّ أنّ عين القلب يمكنها مشاهدة الله, غاية الأمر لا بدّ وأنْ تصبحَ هذه العين نورانيّةً لتتهيّأَ لرؤية الله.
وكذلك في دعاء ليلة السبت, حيث نقله المرحوم المجلسي ـ رضوان الله عليه ـ في كتاب ربيع الأسابيع, ضمن الصلوات على النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم ودعائه:
وارزقه النّظرَ إلى وجهكَ يومَ تحجبهُ عن المجرمين.
يعني: ((إلهي! منّ على نبيّنا النظرَ إلى وجهك حينما تسلب المجرمين إمكانيّة النظر إلى وجهك, ولا يعود بإمكان أحدٍ أنْ يراك)).
فما هو موقفنا أمام هذه الألفاظ؟ وماذا يعني النظر إلى وجه الله؟
ماذا يعني هذا الدعاء:"أنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك"؟ فهل يمكن أنْ نحمله على التفاح ونجعل المراد من "النظر إليك" هو الإجاص وحور العين وآثار هذه الأفعال!!
فقد وردَ في بعض الروايات عنوان الرؤية, ووردتْ كلمة الرؤية عن أمير المؤمنين عليه السلام عندما سأله "ذِعْلَبٌ اليماني": يا أمير المؤمنين! هل رأيت ربَّك؟!
فأجاب حضرة أمير المؤمنين: ويلك يا ذِعلب ! ما كنت أعبد ربّاً لم أره !
قال : يا أمير المؤمنين ! كيف رأيته؟
قال: ويلك يا ذِعلب ! لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.
>أي: لا تستطيعُ العيونُ إدراكَ الله بواسطة هذه المشاهدة وهذه العين, ولكن القلب هو الذي يمكنه أنْ يدرك حقيقة الإيمان<.
كذلك قوله تعالى: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [5] .
هذه الآية توضّح كيف أنّ على كلّ شخصٍ يبتغي رؤية الله, أنْ يحقّق أمرين: أنْ يكون عمله صالحاً, وأنْ يكون هذا العمل الصالح ناشئاً عن الإخلاص, أي خالصاً لله.
يعني: يا ذعلب! لا تيأس أنتْ!! بلْ تعال إلى هذا الطريق الذي سلكته أنا.. وإن شاء الله تتشرّف بلقاء الله, فهو طريق مفتوح أمام كلّ من يريد.
وقد نقلَ روايات عديدة عن أمير المؤمنين وعن الإمام الصادق عليهما السلام:
ما رأيتُ شيئاً إلاّ ورأيتُ الله قبله وبعده ومعه.
أمّا في كتاب "أسرار الصلاة" فقد وردَ ـ حسبَ الظاهر ـ عن أمير المؤمنين عليه السلام:
ما نظرتُ إلى شيء إلاّ ورأيتُ الله قبله وبعده ومعه.ولأجل توضيح هذا المطلب؛ تأمّلوا في جميع الموجودات, فهي نور الله، وظهور الله، ومتّكئة على الله، وقائمة بالله, فالذي يمتلك بصيرة باطنيّة, حينما ينظر إلى هذا الموجود, لا يراه أصلاً! وإنّما يرى الله أوّلاً, ثمّ يرى أنّ ذلك الشيء متّكئاً على الله وقائماً به.

دلى كه از معرفت نور صفا ديد    
                               ز هر چيزى كه ديد أوّل خدا ديد
[6]

أي يراه قائماً بالله, وهذا هو معنى: "ما رأيتُ شيئاً إلاّ ورأيتُ الله قبله".
فتارة, يُنظرُ إلى هذه الأشياء أولاً, ثمّ بعد ذلك تُلحظُ أنّها قائمة بالله, أي بواسطة العين القلبيّة يكون هذا الشيء الموجود قائماً بالله؛ ويرى أنّ الله هو المفيض, وهو معنى هذه الفقرة: "ما رأيتُ شيئاً إلاّ ورأيتُ الله بعده".
ومرّة أخرى, يُنظرُ إلى الله بواسطة العين القلبيّة, ويرى جميع الموجودات مع الله, وذاتَ معيّة مع الله؛ وذلك على وزان ما صرّحتْ به الآية القرآنية {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [7].
يعني: في أيّ مكان تكونون فيه فإنّ الله معكم؛ وهو معنى هذه الفقرة: "ما رأيتُ شيئاً إلاّ ورأيتُ الله معه".
وثالثةً, يُنظرُ إلى دائرةِ الموجودات أولاً, ثمّ بعدَ ذلك يُلحظُ النور الإلهيّ وتلحظُ القدرة, ويلحظُ ذاك الوجود المطلق البسيط بما هو سارٍ في جميع الموجودات, وهذا معنى: "ما رأيتُ شيئاً إلاّ ورأيتُ الله فيه"، وذلك حسبَ اختلاف الحالات التي تنكشف لأرباب أهل التوحيد.
ولكن هذه الرواية المنقولة عن حضرة الإمام الصادق أو أمير المؤمنين عليهما السلام بالنسبة للموجودات تدلّ على أنّهم كانوا يرون كلّ هذه الأنحاء بنفس النظرة الأولى, فبنظرة واحدة كانَ يرى الله أولاً, ويرى جميع الموجودات قائمة بالله, وبلحاظ المآل والرجوع إلى المبدأ فإنّه يراها جميعاً ترجع إلى الله؛ {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } [8] فهذا الموجود جاء من عند الله, فإذاً الله موجودٌ قبله, ورجوعه ومآله إلى الله, فالله موجود بعده, والله معه.
فالمعيّة متحقّقة, والقبليّة متحقّقة, والبعديّة والقرب متحقّقان, وهذا المقام رفيع جدّاً وذلك بأنْ تحصل جميع هذه الجهات لشخصٍ بنظرةٍ واحدة.
حسناً! ماذا تفعلون بهذه الرواية؟! قوله: "ما رأيتُ شيئاً إلاّ ورأيتُ الله" ماذا يعني؟ هل تعني: ما رأيتُ شيئاً إلاّ ورأيتُ حور العين والتفاح والسفرجل قبله وبعده ومعه؟!
هكذا يجب أن نقدّر على تفسيركم!! هل تقبلون بذلك؟! هل هذا هو مختاركم؟! نحن لا نفسّره بهذا, ولا ينفعنا هذا التفسير.. بل هو ينفع من يطلبُ التفاح والسفرجل.. مبروك عليهم.. ينزّلون مقام الله إلى ما يساوي التفاحة والإجاصة؟!

ميان عاشق و معشوق رمزيست
                                                         چه داند آنكه اُشتر مي چراند؟!
[9]

خَلَقَ الله للحروب رجالاً ورجالا لقصعة وثريد... هكذا بيّنوا المطلب!
على كلّ تقدير, المرحوم المجلسيّ ـ رضوان الله عليه ـ في كتاب "ربيع الأسابيع" وهو من كتبه النفيسة, ضمن الأدعية الواردة في يوم الجمعة, ينقل دعاءً عن حضرة فاطمة الزهراء سلام الله عليها, حيثُ يتضمّن هذه الجملة:
واجْعلنا ممّنْ كأنّه يراكَ إلى يوم القيامة الذي فيه يلقاك.
يعني: ((إلهي! اجعلنا من الأشخاص الذين يرونك تماماً كما يرونك يوم القيامة.. حيث أنّهم يوم القيامة سوف يرونك قطعاً.. فاجعلنا من الآن ـ وليس فقط يوم القيامة ـ نراك مثلما يرونك يوم لقائك)).
ما هو معنى هذه الرؤية؟ ما معنى لفظ الرؤية هذا؟!
قد وردَ في بعض الأخبار لفظ "زيارة", إلهي! اجعلنا من زائريك..
ومادة زارَ يزورُ.. ماذا تعني؟ تعني اللقاء والرؤية.
وفي حديث مرويّ عن أمير المؤمنين عليه السلام: "قد قامتِ الصلاة" يعني: قربَ موعد زيارة الله, فالصلاة هي المكان الذي يذهب فيه لزيارة ربّه, و"قد قامتِ الصلاة" تعني: الإعلان عن قرب موعد الزيارة وزمان لقاء الله, وزمان الرؤية.
كذلك لفظ "التجلّي" قد ورد في الكثير من الأخبار؛ التجلّي يعني: ظهرَ , فأنتَ تتجلّى أمامي, أي تظهر لي, وهو مقابل الخفاء, والشيء الذي يختفي, هو الذي أصبح مخفيّاً, والشيء الذي يتجلّى وينجلي, يعني: يصبحُ ظاهراً, فالتجلّي يعني الظاهر, وتجلّي الله يعني ظهور الله, وتجلّيات الله تعني ظهورات الله.
وفي دعاء السمات؛ والذي هو من الأدعية المهمّة جدّاً, والمؤمنون لا يهملون هذا الدعاء ولا يتركوه, وفيه الأسماء الحسنى ومنها الاسم الأعظم, وهو دعاء "شمعون" الذي كان قرب حضرة موسى, ثم بإضافة وتكملة من الأئمّة عليهم السلام نُقلَ إلينا هذا الدعاء تحت اسم دعاء "السمات", والمرحوم المجلسي في كتاب "ربيع الأسبوع" له أبحاث مفصّلة تدور حول خصوصيّاته وفوائده ومطالبه التي يحتويها..
ألسنا نقرأ في هذا الدعاء:
وبمجدك الذي تجليت به لموسى كليمك عليه السلام في طور سيناء، ولابراهيم عليه السلام خليلك من قبل في مسجد الخيف، ولاسحاق صفيِّك عليه السلام في بئر سَبْع (ولا تقرأوها "في بئر شيَع" فهو خطأ)، وليعقوب نبيّك عليه السلام في بيتِ إِيل، وبمجدك الذي ظهر لموسى بن عمران عليه السلام على قبّة الزّمان (بمجدك أنت يا رب, نقسمُ بك, بذاك المجد الذي تجلّيتَ به, وظهرتَ به على حضرة موسى كليمك تحتَ تلك القبّة الجامعة والمحيطة)، وبنور وجهك الذي تجلّيتَ به للجبل فجعلته دكّاً وخرّ موسى صعقاً (أقسم بك! بنور وجهكَ الذي ظهرتَ به على حضرة موسى؛ حيثُ أنّ الجبل لم يستطعْ أنْ يتحمّله فتفتّتَ وتناثر ذرةًّ ذرّة, وصار في غياهب العدم, فصاحَ موسى وسقط مغشياً عليه).
إلى أنْ يصلَ إلى قوله:
وبِطلعتِكَ في ساعير وظهوركَ في جبلِ فارانَ ("طلعتك" تعني: إبراز ذاتك وإظهارها, أي أظهرتَ نفسك في جبل ساعير للنبيّ الأكرم، وجبل فاران هو جبلٌ قرب مكّة, وهو المحلّ الذي كانَ النبيّ يناجي فيه).

فماذا نفعل بكلّ ذلك؟ وكيف نتعامل مع هذه الآيات؟ وكيف نقابل هذه الروايات؟ كيف نفسّرها؟ فهي ليست روايات نادرة أو قليلة.. كما وليست بضعيفة السند.. فهي أدعية كان الأئمّة يقرؤونها, والعظماء من العلماء, مثل: الشيخ الطوسي, والشيخ الكفعمي, والسيّد ابن طاووس... وقدْ دوّنها كبار أهل الحديث في كتبهم, وأثبتوها وضبطوها, وأسانيدها صحيحة وسالمة إلى أعلى الحدود, وقد أمضاها الجميع, فهل يمكننا مع إمضاء جميع علماء الأمّة وتأييدهم لهذه الأحاديث, أنْ نتخلّى عن هذه الأحاديث؟!
كذلك في المناجاة الشعبانية, حيث تشتمل على لفظ "الوصول" بشكل مباشر؛ إلهنا ! نريد أنْ نصلَ إليك..
إلهي هبْ لي كمال الانقطاع إليك و أنِرْ أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك, حتّى تخرقَ أبصارُ القلوب حُجُبَ النور فتصلَ إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك.
أي إلهنا ! نريد أنْ نتّصل بك مباشرة.
تقول الآية القرآنية: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [10] .
أي اجعلْ عملك متّصلاً بالله مباشرة وتوجّه إليه؛ وضع نفسك في هذا المسير.
اللهم أنِر أبصارنا [11] كي نقدرَ على النظر إليك, إلى أيّ حدّ؟ إلى الحدّ الذي تنوّر به أبصار قلوبنا, بحيث يكون النور شديداً جداً بحيث تتمزّق كلّ الحجب الواقعة بيننا وبينك والتي هي مثل السدّ القائم بيننا.
هلْ لاحظتم الآليات والسيارات حينما تعبر في الظلام الدامس في الصحراء؟ فضوء بعض هذه الآليّات قويّ بحيث يضيءُ مسافةً طويلةً إلى الأمام, وعند البعض الآخر أنواع من الضوء قويّة جدّاً توجب الصرَعَ.. ماذا تسمونه؟ پروجكتور !.. فحينما يشغّل هذا الضوء فإنّه يضيء ذلك الجانب من الجبل.. يضيء إلى مسافة فرسخين, أو فرسخ ونصف, فبواسطة هذا الضوء يمكن أنْ نضيء قعر البحار ونزيل كلّ العتمة والظلمات؛ فنحنُ نريد أن نعطي واحداً من هذه المصابيح لقلبنا, لا لنرى أمام أقدامنا فقط, بل لنرى كلّ الاتجاهات؛ هنا وهناك.. نحن نريد من ذلك الضوء!
حتّى تخرقَ أبصار القلوب حجبَ النور.
أي تمزّق عين القلب جميع الحجب.
ثم ماذا؟
فتصل إلى معدن العظمة.
حينئذٍ, قلوبنا تصل إلى معدن العظمة, فمعدن العظمة أين يكون؟ وهل قلوبنا تصل إليه وتبلغه؟
وتصير أرواحنا معلّقةً بعزّ قدسك.
وتتعلّق أرواحنا بمقام عزّ قدسك, حيث لا يوجد هناك إلاّ أنتَ, فيصل قلبنا إلى هناك.
إلهي وألحقني بنور عزّك الأبهج فأكون لك عارفاً وعن سواك منحرفاً ومنك خائفاً مراقباً.
إلهي! ألحقنا, أي أوصلنا, لأيّ شيء نصل؟
"بنور عزّك الأبهج" إلى نور عزّ ذاتك المضيئ والمنير إلى حدٍّ يفوق نوره كلّ الأشياء, والأكثر تلألؤاً.. فنسألك أن تبلغ بنا ذاك المحل.
لا بدّ وأنْ نلتفت إلى أنّه لمن هذا الدعاء؟! هذا دعاء أمير المؤمنين والأئمّة عليهم السلام هم الذين يقرؤونه غالباً, وهو جزءٌ من المناجاة الشعبانية في شهر شعبان, وهو ذو مضامين رفيعة جدّاً, وجميع الأعلام من العلماء مواظبون على قراءة هذه المناجاة في شهر شعبان, فهل يمكننا أنْ نتعامل معها كمجرّد ألفاظ نجريها على لساننا؟! من باب لقلقة اللسان؟! أمْ أنّها ليست كذلك.. وإنّما هي تحكي عن طلبٍ واقعي نسعى نحوه؟!
ألحقني بنور عزّك الأبهجَ، ماذا يعني؟ هل يعني: ألحقني بحور العين.. وألحقني بالتّفاح.. والسفرجل.. والبطيخ.. والرگّي.. والرمان.. والعنب.. وأمثال ذلك؟
وما معنى فتصل إلى معدن العظمة ؟ هل له معنى حقيقيّ آخر أيضاً...؟
لا عزيزي..كن مطمئنّا! وليطمئنّ الجميع! ليس لذلك معنى آخر أبداً..
فمناجاة أمير المؤمنين وحضرة السجّاد, وتلك السجدات والبكاء والعبادات.. ليست أراجيزاً.. وليست هي بالتصنّع.. بحيث يقومون بهذه الأعمال ليدرّبوا الناس.. بل إنّ ذلك هو حالهم الواقعيّ الصادق.. فحال الإمام حال المناجاة.. وحاله يقتضي الطلب ويعيشه بكلّ وجوده.. حاله حال الالتماس والرجاء..
أمير المؤمنين عليه السلام حيث كان يتعبّد في حائط بني النجّار, ويقعُ على الأرض.. ويسقط مغشياً عليه من شدّة الجذبات.. كانت تأخذه الجذبة من شدّة الانبساط والسرور.. كانَ يخلعَ بدنه دون حسّ ودون حراك مثل الخشبة اليابسة!
يقول أبو الدرداء: رأيتُ عليّاً بعد مناجاته قد خرّ على الأرض, مثل الخشبة الجافّة اليابسة, فأتيتُ لأعاينه أهو ميّت؟ فذهبتُ إلى منزل حضرة الزهراء على الفور وقرعتُ الباب, وقلت: ما بكم جالسون.. قدْ ماتَ عليّ.. قالت: ماذا؟! قلتُ: نعم! كنتُ في حائط بني النجّار, وكان عليّ مشغولاً بالصلاة والعبادة والمناجاة وكان وكان.. حتّى قاربنا على أذان الصبح فحدثَ له ما حدث, فقالت: عليّ لم يمتْ, فهذا ما يحصل له كلّ ليلة!
فما هو حقيقة ذلك؟! يعني هل هو نوعٌ من الصرع أو الإغماء؟! أيّ كلام هذا!! لا عزيزي!
ليس من حقّ أحدٍ أنْ يأتي ويلغي أسّ وأساس الدين, ويمحقَ محور الدين ويلغي هذه الحقائق لأجلِ بعض الآراء الشخصيّة والأوهام التي سيطرت على البعض وجعلتْ بينه وبين الله حجاباً.. لا يمكن لأحدٍ أنْ يأتي ويسدّ الطريق, ويغلق الباب أمام الناس, ويسدّ مسير الناس. عزيزي! أليس هناك سبيل إلى الله؟! فما هو طريق العرفان إذاً, وما الذي قام به العرفاء؟! هل كانَ كلّ ذلك لأجل الأنس والمسامرة والتحدّث حول المنقَلْ؟!

حجاب چهره جان مى شود غبار تنم                        
                                                 خوشا دمى كه از اين چهره پرده برفكنم
[12]

ما هذا الكلام؟! إنّهم يجاهدون طوال عمرهم ويبذلون كلّ حياتهم, ويدمون قلوبهم طوال فترة حياتهم.. ثمّ ليأتِ هؤلاء بواسطة النزر القليل الذي فهموه وأدركوه ـ أو أنّهم لم يفهموا شيئاً أصلاً ـ ويطرحوا هذه الادّعاءات!! ما معنى هذا الكلام؟! هو كلام فارغ لا محصّل له.. فعلم التفسير, وعلم الحديث، وعلم الفقه، وعلم الأصول، وعلم الكلام.. وجميع العلوم هي فداءٌ لهذا العلم؛ يعني فداء لعلم العرفان والمعرفة بالله؛ وكذلك علم الأخلاق وسائر العلوم.
وما ذلك إلاّ لأنّ حقيقة هذا العلم هي معرفة الله. وما بقيّة العلوم إلاّ بعنوان المقدّمة لهذا العلم ولأجل بيانه وإظهاره.

    

طريق الوصول الى الله تعالى لا يكون الا بالتزكية

حسناً, هكذا كانَ طريق الأئمّة والأنبياء, وهو صراط واضح جليّ.. فإنْ أراد الإنسانُ أنْ يصلَ إلى الله, "الله نور"؛ فالله ظاهر, ومظهِر, وهو ظاهر في حدّ نفسه, وجميع الموجودات ظاهرة به.
وحينما يريد الإنسان أنْ يصل إلى هذا الإله, فما الذي عليه أن يفعله؟ ماذا يعمل كي يصل؟ عليه أنْ يصبحَ مشابهاً:

شستشوئى كن و آنگه به خرابات خرام                    
                                                 تا نگردد ز تو اين دير خراب, آلود
[13]

فالله طاهر, والإنسان النجس لا يمكنه الدخول؛ ولا يسمح للإنسان القذر أنْ يردَ في حرمِ الطريق, ولا يجيزوا وروده على البلاط الملكي, بل لا بدّ من التزكية والتطهّر..
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [14] .
فالنبيّ بُعثَ للتطهير والتزكية, ليوجدَ سنخيّة بينهم وبين ذاك العالم, ويجعلهم مشابهين له.
فالدرجة الأولى من المشابهة هي: "التخلية". والتخلية تعني: أنْ يخلّي الإنسان نفسه من جميع صفاته السيّئة, ويترك النقص, ويبتعد عن التعلّق بالكثرات التي تبعده عن عالم النور وعالم الإطلاق..
فأولاً يترك المعصية, ويترك كلّ ما يخالف رضا المحبوب.. لأنّه يريد أنْ يذهبَ إلى منزل المعشوق ويطرقُ بابه, وحينما يقوم بالتعدّي, وبمخالفة رضاه.. فلا فائدة حينئذٍ من دقّ الباب؛ لذلك فإنّ أوّلَ الطريق هو "التخلية", ولهذا قد ورد في جميع الروايات أنّه لا يمكن للإنسان أنْ يطوي مسيره وسيره مع وجود المعصية, بل عليه أولاً أنْ يهجرَ المعصية ويتركَ كلّ ما لا يرضيه.
الدرجة الثانية يأتي دور "التحلية", يعني: صيرورته متحلّياً بصفات الكمال, فتصبح عبادته جيّدة.. ويواظب على الإتيان بالمستحبّات؛ ينفق.. يصل الرحم.. يحجّ.. كلّ عملٍ حسن يواجهه يقوم به.. حينئذٍ يكون قد أخرج نفسه من دائرة السوء, وأصبحت نفسه موسومة بالحسن ومتصّفة به ؛ وهذه هي الرتبة الأعلى.
الدرجة الثالثة "التجلية". والتجلية تعني: أنْ يصبحَ متجلّياً بصفات الله. ففي هذه المرحلة تشرع التجلّيات, ويبدأُ الله بإراءة ذاته للإنسان, فتارة بواسطة صفة القادر, وأخرى بواسطة صفة العالم, وتارة صفة الرحمان, وأخرى صفة الرحيم.. فيظهر ويتجلّى في جميع المظاهر الوجوديّة, فيشرع بالتجلّيات.. وحينما تنتهي مرحلة التجلّيات الأسمائية والصفاتية, يصل إلى آخر مرحلة من اللقاء, وهي مرتبة "الفناء".
المرتبة الرابعة مرتبة "الفناء". فمن يطوي الطريق سوف يصل إلى مرحلة يدعُ فيها كلَّ شيءٍ بعهدة الله, ويعترف ويذعن لله بأنّك: إلهي! ليس لي شيءٌ من الوجود.. ولا علمَ لي.. وليس لي أيّة قدرة.. ولا حياة.. ولا أيّ شيءٍ أصلاً... فكلّ ذلك لك وأنتَ أعطيتني.. فيعترفَ ويقرّ.. وعلاوة على الاعتراف باللسان فإنّ قلبه يصرّح بذلك أيضاً ويصبحُ مفوّضاً.. وهنا يكون قدْ وصلَ إلى مقام الفناء, وفي مقام الفناء يقعُ الصلح والتسليم لله بشكل كامل, لأنّ الله غيور, وغيرته لا تجيزُ بدخول الغير.. ليردوا إلى حرمه؛ لأجل ذلك فمن يرد أنْ يعرفَ الله, فما دام إنساناً وشخصاً متعيّناً, يصدقُ عليه اسمٌ وعنوانٌ.. وتصدق الاثنينيّة, فإنّ ذلك حاجبٌ وحائلٌ بينه وبين الوصول؛ لا يمكنه السير والترقّي, لأنّ الله لا ينزل من مقامِ عزّه إلى الأسفل!! فالله عزيز.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [15] أي منذ الزمن الأوّل إلى الزمان الذي تحقّق فيه وجود, من الزمان الذي خلقَ فيه الموجودات, لم يكن يتنازل الله عن مقام عزّه لحظة من اللحظات؛ فالله هو الله الذي لا يتنازل ولا يأتي إلى الأسفل!

    

الدرجة الكاملة من المعرفة لا تتحقق الا بعد الفناء في الله

فماذا يجب أنْ نفعل؟ يجب أنْ نعترفَ بأنّنا لسنا شيئاً مقابل وجودك, نحن عدم محض مقابل وجودك, وهذا الاعتراف إذا وصلَ إلى مرحلة التحقّق يكون هو حقيقة الفناء, وفي مرحلة الفناء لا يوجد إلاّ الله, وذات الله غير قابلة للإدراك.. لأنّه لا يمكنُ للغيرِ أنْ يدركَ ذات الله. وأمّا مرحلة الفناء, فإنّه لا يوجد تشخّصٌ لأيّ ذات غير الله لتكون هي المدركة لله, فالإنسان أصبحَ فانياً.. ولا شيء بعد.. فلا يوجد غير الله.. فالله هو العارف لذاته.. وهو مدرِكٌ لنفسه.. وهو البصير والسميع بذاته.. فلا غيرَ هناك.. وهذه المرحلة إنّما تحصلُ بعد تحقّق المعرفة التامة للإنسان والتي تمثّل وصول الإنسان إلى مقام الفناء المطلق, وإلاّ من المستحيل تحققها قبل ذلك للإنسان.
إذاً, الدرجة الكاملة من المعرفة تحصل في الفناء فقط, وذلك من حيث السير الطوليّ, يعني: السفر من الخلقِ إلى الحقّ, والذي يختلفُ عن سائر الأسفار.
ونحن نرى ضِمنَ هذه التجاذبات, والتحابب المجازي الذي نشاهده, حيثُ أنّ المحبّ ما دام يرى ذرّة من الغيريّة في داخله نحو المحبوب فإنّه لا يقبله, بل يرفضه؛ وغالباً ما يرى أنّ الزوجات والأزواج الذي يحبّون بعضهم يتخاصمون كثيراً مع بعضهم؛ لأنّه هناك توقّع وانتظار من الطرف الآخر.. فالزوج لأنه يحبّ زوجته فهو يتوقّع منها أنْ تفنى فيه.. وأنْ تطيعه إطاعة مطلقة.. لذلك فهو يعترض: لماذا عملتِ ذاك العمل..؟! ولماذا قمتِ بذاك العمل..؟! أنا لا أحبّ ذلك.. وكذلك الزوجة بالنسبة لزوجها تتّهمه وتقول له: أنا أحبّ أنْ أفنى فيك.. وأبلغَ ذروة التحابب والتجاذب المعنوي, والحال أنّ قيامك بهذا العمل وذاك العمل الفلانيّ مخالف لميولي, فيقع الخصام بينهما.. فهو يعترض.. وهي تعترض.. وتشرع الإيرادات والاعتراضات بشكل متكاثر.. كلّ ذلك لماذا؟! ولأيّ شيء؟! لا شيء أصلاً.. كلّ ذلك لأنّهما يحبّان بعضهما. وأمّا لو لم يكونا محبّان لبعضهما, فلو صدر من أحدهما ألفُ عمل قبيح, أو مخالفة.. لا يبالي أحدهما بالآخر.. ولا ربط له بكلّ ذلك.
حسناً, التفتوا ! فما دام في العاشق ذرّة واحدة من ذاته في نفسه فإنّ المعشوق يرفضه ولا يقبله, ويقول: أنتَ عاشقٌ لي!! فما هذا الإعجاب بنفسك؟! لماذا يوجدُ في ذهنك غيري؟! لماذا تتذكّر غيري؟!
وهنا يضربون مثالاً, يقولون: كان "مجنون" يتبعُ "ليلى" حيثُ كانَ يمشي خلفها, فقالت "ليلى":
لماذا أنتَ تتبعني وتلحق بي وتتبعُ أثري؟
قال: لا يوجد أجمل منك في العالم, ولا أحسن منك ولا أطيب ولا أعذب منك؛ وأنا أعشق هذا الجمال الذي فيك.
فقالت: إذاً, من هو هذا الذي يمشي خلفي ويتّبع أثري, فهو أجملُ منّي؟!
فما إنْ التفتَ "مجنون" إلى نفسه وشرعَ بالتأمّل في ذاته, حتّى أخذتْ "ليلى" بالكيلِ عليه بسيلٍ من العتاب والهجاء.. وقالت: أيّها الكاذب في العشق! أنت تقول لي: لا يوجدُ أجمل منكِ في الدنيا, ثمّ ما إنْ أتفوّه بكلمة >هو< حتّى تتحوّل إلى رؤيته وتتوجّه إليه!! هل هذا عشقٌ صادقٌ؟! فأنتَ تدّعي كذباً, وأنت تكذب, ولستَ عاشقاً صادقاً, فالعاشقُ الصادق هو الذي يفنى في المعشوق.
في معركة "أُحُد" انكسرَ أحدُ أسنان النبيّ, فانكسر ضرسُ "أُويس" وهو في "قرَنْ", لأنّهما كانا شيئاًَ واحداً روحانيّاً, ولم يكن له وجود من نفسه, وكلّ شيء كان عنده قدْ فنيَ في النبيّ, فكانَ مطيعاً إلى الحدّ الذي لم تسمحْ له أمّه بالمكوث في المدينة لفترة أطول... فأمرُ أمّه هو أمر النبي وأمر الله, فأطاع؛ ممّا تسبّبَ في أنْ لا يرى النبيّ إلى آخر عمره, والحال أنّ علاقته بالنبي وارتباطه به كانَ شديداً إلى هذا الحدّ, فهو من شدة حبّه للنبيّ كانَ يراعي قوانين النبيّ ويطبّقها.
هكذا كانَ أميرُ المؤمنين عليه السلام بالنسبة للنبيّ, أصلاً كانَ فانياً, فالنبيّ كانَ في منزله وأمير المؤمنين في منزله, وكانَ لأمير المؤمنين الاطلاع الكامل بما يقوم به النبي: من حربه.. من تهجّده.. من قراءته للقرآن.. من بكائه.. من سجدته.. وذلك بمعزلٍ عن مسألة الإمامة .. لماذا كانَ مطّلعاً؟ لأنّ روحه كانتْ عين روح النبيّ..
ألمْ نقرأ قضيّة مجنون "ليلى"؟ حيث جاء الفصّاد ليفصدَ يدَ "مجنون", فعليَ صراخه؛ فقال الفصّاد: ما بالك تُوَلْوِلْ؟! فأنتَ تذهبُ إلى البراري وتندبُ "ليلى" ومِنْ حولِكَ الحيوانات والذئاب والأسود والنمور تحيط بك ولا تخافُ منها! وها أنتَ تخافُ من مبضع؟!
فقال: لا آقا! أنا لا أخاف من المبضع, إنّما أخافُ من أنْ يدخلَ هذا المبضع في جسمي هنا ثمّ يصلّ إلى وريدِ "ليلى"؛ لأنّي أنا وليلى قد اتحدنا وصرنا واحداً, فأنت حينما تغرسه أخافُ أنْ يخرج الدمُ من عضدِ "ليلى", من ذاك الجانبِ من العالم.
والمحبّ في عشقه لله يصلُ إلى هذه المرحلة, لتزول جميع الحجب ولا يبقى منها شيء إلاّ المعشوق والحبيب.

أُعانقُها والنفسُ بعدُ مشوقةٌ                      
                             إليها وهل بَعدَ العناقِ تداني

يقول العاشق: قد احتضنتُ معشوقي ولكنْ ما زالت النفس مشتاقة إليه, فهل بعد المعانقة والاحتضان شيء؟! فهل هناك قربٌ أكثر منهما؟ لا!! ولكنْ مازالت النفسُ مشتاقة بعد, فأصبحتْ في منتهى القرب الجسميّ, واحتضنته, ولكنْ للنفس شوقٌ, فهي تحترق وتلتهب ولم تنطفئ ولم تبرد.

وألثُمُ فاها كي تزولَ حرارتي                       
                             فيزاددُ ما ألقى من الهيجان

فأقبّل فمها لعَلّي أقلّلُ من حرارة اشتياقي وأطفئ لهيبي, لكنّ ملامسة شفتي لها تشعلُ نار الاشتياق فيّ بشكلً أكبر.

كأنّ فؤادي ليس يُشفي غليلَه                           
                             سوى أنْ يرى الروحان يتّحدان

وفي هذه الحالة فإنّ السالك إلى الله, ما لمْ يعبرْ عن جميع مراتب وجود نفسه, وما لم يسلّم وجوده إلى الله سوف لن يصلَ إلى مرحلة الكمال وسوف لن يبلغَ مرحلة الاطمئنان والسكون {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [16].
نسأل الله أنْ يوفّقنا جميعاً بأنْ ينزعَ جميعَ شوائب عالم الوجود ويقلعَ النقائص التي توجبُ لنا الضلال والضياع في طريقنا إليه, وأنْ يقودنا ويرشدنا إلى مقام معرفة ذاته, ويأخذَ بأيدينا في جميع النشآت, وأنْ يوصلنا إلى مقام الفناء المطلق.

بمحمّدٍ وآله الطاهرين
وصلّ على محمّد وآله أجمعين

    

 

 


[1] ـ سورة النّور (24) صدر آية 35.

[2] ـ سورة الكهف (18) الآي 110.

[3] ـ سورة الكهف (18) الآية 103 إلى 105.

[4] ـ سورة العنكبوت (29) مقطع من الآية 5.

[5] ـ سورة الكهف (18) ذيل آية 110.

[6] ـ المعنى: القلب الذي تنوّر وصفا بمعرفة الله, فإنّه إلى أيّ شيء يرى وينظر فهو يرى الله. وذلك إشارة إلى ما قال أمير المؤمنين: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله ومعه وبعده.

[7] ـ سورة الحديد (57) قسم من الآية 4.

[8] ـ سورة البقرة (2) ذيل الآية 156.

[9] ـ المعنى: سرٌّ بين العاشق والمعشوق لا يعرفه الجمّال الراعي للجمال .

[10] ـ سورة المزّمل(73) ذيل الآية 8.

[11] ـ هذه الفقرة تفسير للدعاء السابق (إلهي هب لي كمال الانقطاع ..) وقد آثرنا إبقاء التقديم والتأخير على ما هو عليه في كلام المرحوم العلامة رضوان الله عليه "المترجم" .

[12] ـ يعني: التعلّق بالمادّة والجسم هما حجاب صورة الروح تخفيه وتمنعه من الرؤية, فيا ليتني أتمكّن يوماً من كشف روحي وسرّي وأطرح هذا الستار القابع بيني وبين روحي.

[13] ـ يعني: لا بدّ لك أولاً أن تتوضّأ وتطهّر نفسك, ثمّ بعد ذلك تذهب إلى الخرابات ـ أي عالم القدس ـ كي لا يخرب عالم القدس من نفسك الملوّثة من المادّة والمتعلّقة بالدنيا.

[14] ـ سورة الجمعة (62) صدر الآية 2.

[15] ـ سورة فاطر (35) مقطع من الآية 15.

[16] ـ سورة الرعد (13) ذيل الآية 28.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی