معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
اعتقادات و كلام أخلاق حکمة عرفان العلمي و الإجتماعي التاریخ القرآن و التفسير
المكتبة > محاضرات العلامة الطهراني > كتاب أنوار الملكوت > نور ملكوت القرآن > نور ملكوت القرآن ـ المجلس الثامن: أحكام القرآن الكريم عامّة لجميع الناس في جميع الأزمان

_______________________________________________________________

هو العليم

سلسلة مباحث أنوار الملكوت
نور ملكوت القرآن

المجلس الثامن: أحكام القرآن الكريم عامّة لجميع الناس في جميع الأزمان

(مواعظ شهر رمضان المبارك من عام 1390 )

من مصنّفات العلاّمة الراحل

آية اللـه الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني قدس اللـه نفسه الزكيّة

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

بسم اللـه الرحمن الرحيم
والصلاة على محمّد وآله الطاهرين
ولعنة اللـه على أعدائهم أجمعين
من الآن إلى قيام يوم الدين

قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكيمٍ عَليم}[1]
إنّ من ضروريّات الدين الإسلاميّ أنّ هذا الدين دين خالد وثابت إلى يوم القيامة، وأنّ النبي الأكرم ـ صلّى اللـه عليه وآله ـ هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنّ القرآن المجيد هو دستور العمل لجميع الأفراد إلى قيام الساعة.

    

خلود القوانين الإسلاميّة إلى يوم القيامة

ومن أجل توضيح هذا المطلب نقول: إنّ الأوامر والقوانين قد تكون تارةً راجعة إلى بعض الأفراد المعيّنين والموضوعات المشخّصة والمحدودة، كالدواء الذي يصرفه الطبيب الفلاني للمريض الفلاني قائلاً له: عند صباح اليوم الفلاني، تناوَل مقداراً محدّداً من هذا الدواء قبل تناول الطعام! فمن الواضح أنّ هذا الدواء الخاصّ الوارد لموضوع خاصّ لا يمكن استعماله في الموارد الأخرى.
وتارةً أخرى تكون القوانين والتعليمات غير ناظرة إلى الأفراد بل إلى الأنواع والأجناس والطبائع الكلّيّة؛ وذلك مثل قول الطبيب: كل من يصاب بالصفراء ينبغي أن يشرب شراب الخلّ بالعسل، أو يقول: إنّ شرب الخلّ المخلوط بالعسل رافع للصفراء؛ ففي هذه الحالة يكون هذا الحكم حكماً كليّاً عامّاً يشمل جميع الأفراد الذين ينطبق عليهم هذا العنوان، وتمام الأفراد المبتلين بالصفراء يجب أن يستعملوا هذا الدواء بغضّ النظر عن ممّيزاتهم وخصوصيّاتهم؛ أي سواء كان الشخص ذكراً أو أنثى .. أسوداً أو أبيض .. صغيراً أو كبيراً .. حرّاً أو عبداً .. مؤمناً أو كافراً .. طويلاً أو قصيراً، فلا فرق بين ذلك كلّه، وفائدة هذا الدواء متساوية لجميع الأفراد، إذ إنّ خصوصيّات الأفراد تلك ليس لها دخل في تأثير الدواء بل الأمر المهمّ هو وجود الصفراء في مزاجهم لا غير.
إنّ أحكام القرآن مبنيّة على طبائع الإنسان وغرائزه التي فطرة اللـه عليها، وحيث أنّ هذه الأحكام هي لتكميل تلك الغرائز وترقّيها؛ فلذا صارت هذه الأحكام ثابتة وغير قابلة للتغيير إلى الأبد إلاّ إذا فقد الإنسان خصائصه الإنسانيّة، وفي هذه الحالة فإنّه سيكون شيئاً آخر غير الإنسان وهذا الفرض (أي تبدّل الماهيّة) أمرٌ مستحيل. وبالتالي فطالما بقي الإنسان إنساناً ستبقى تلك الأحكام جاريةً وساريةً بالنسبة له، لأنّ الخصوصيّات الفرديّة والمميّزات الخاصّة ليس لها أي مدخليّة في هذه الأحكام، بل كلّ حكمٍ واردٍ على موضوعٍ ما فإنّما علّة استجلابه هي وجود ذلك الموضوع الكلّي دون تدخّل الخصوصيّات الفرديّة: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنيفاً فِطْرَتَ اللـه الَّتي‏ فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللـه ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون‏ * مُنيبينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكينَ}[2]
تبيّن هذه الآية أنّ بناء الإسلام مشيّد على أساس الفطرة الإنسانيّة الثابتة التي لا تتغيّر، وحيث أنّ خلقة الإنسان وبناءه الروحيّ والنفسي والجسمي لا يقبل التغيّر والتبديل فلذا كان هذا الدين راسخاً وثابتاً. ومن المؤكّد أنّ الدين إنّما يكون ثابتاً إذا ما كانت قوانينه وأحكامه قائمة على ملاحظة الأمراض الروحيّة الكلّية وبيان طرق معالجتها وقيادة الأفراد إلى أقصى حدّ كمالهم بدون ملاحظة الخصوصيّات الشخصيّة، ولكنّ أكثر الناس غافلون عن ذلك وهم لم يفهموا عموميّة الدين، وهذه العموميّة والكليّة قائمة على الإنابة إلى اللـه والرجوع إليه وعلى التقوى وإقامة الصلاة ونفي الشرك.

    

أحكام القرآن الكريم خالدة

يُعلم من هذه المقدّمة المذكورة أنّ القرآن الذي بُنيت أحكامه على أساس الفطرة دون ملاحظة الخصوصيّات الفرديّة هو خالدٌ أبديّ وهو ـ عقلاً ـ غير قابل للنسخ والتحريف.
روى العيّاشي بإسناده عن الفضيل بن يسار، قال:
سَألتُ أبا جَعفَرٍ عَلَيه السّلامُ عَن هَذِهِ الرِّوايَة: «ما مِن القُرآنِ آيَةٌ إِلاّ ولَها ظَهرٌ وبَطنٌ، وما فيهِ حَرفٌ إِلاّ ولَهُ حَدٌّ، ولِكُلِّ حَدٍّ مَطلَعٌ [3]»؛ ما يَعنِي بِقَولِهِ: «لَها ظَهرٌ وبَطنٌ»؟ قالَ: «ظَهرُهُ تنزيله وبَطنُهُ تَأوِيلُهُ، مِنهُ ما مَضَی ومِنهُ ما لَم يَكُن بَعدُ، يَجرِي كَما تَجرِي الشَّمسُ والقَمَرُ كُلَّما جَاءَ [مِنهُ] شَيءٌ وَقَعَ، قالَ اللـه تَعالَی: {وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللـه وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم}[4] نَحنُ نَعلَمُهُ».[5]
يُستفاد من هذه الرواية أنّ معاني آيات القرآن الكريم كليّة وعامّة، وأنّ كلّ جماعةٍ أو قومٍ أو طائفةٍ كانت موجودة أو ستأتي في المستقبل فإنّ الآيات القرآنيّة تشمل حالهم أيضاً، فكما أنّ الشمس والقمر يتحرّكان في السماء ويسطعان بنورهما على جميع نقاط الأرض دون اختصاص لبقعة دون أخرى، فكذلك القرآن مثل الشمس يواجه كل فرد في زمانه الخاص ويمدّه بنوره وأحكامه، ثمّ يمضي ليواجه بنوره وأحكامه الأفراد الآخرين الذين يأتون في الأزمان اللاحقة، وهكذا.
وانطلاقاً من هذا المعنى فإنّ القصص والحكايات الواردة في القرآن الكريم وشرح أحوال أحد الأنبياء مع أمّته لا يختصّ أبداً بهم بل هو يشمل جميع الأفراد الذين جاؤوا قبل ذلك النبي وجميع الأفراد الذين جاؤوا بعده أيضاً، فحكايات بني إسرائيل مثلاً تنطبق بشكل كامل على أحوال أمّة خاتم الأنبياء والمرسلين، وكأنّ اللـه عندما بيّن أحوالهم قد بيّن أحوال كلّ واحد من أفراد هذه الأمّة، ولذلك نلاحظ أنّ اللـه سبحانه وتعالى قد خاطب في القرآن المجيد بني إسرائيل الذين عاشوا في زمان النبيّ ووبّخهم على أفعال أسلافهم وأجدادهم وكأنّهم هم مَنْ فَعَلها؛ وذلك مثل إنجائهم من الغرق في اليمّ وسقيهم الماء من الحجر وتكذيبهم بآيات اللـه تعالى وغير ذلك من أمور:
{وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}[6]، والآية 55 من نفس السورة: {وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى‏ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللـه جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُون‏}، والآية 61 : {وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى‏ لَنْ نَصْبِرَ عَلى‏ طَعامٍ واحِدٍ}، والآية 72: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فيها وَاللـه مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}، وغير ذلك من الآيات.
وعلّة ذلك أنّ بني إسرائيل الذين كانوا في زمان النبيّ هم بعينهم نفس أولئك الذين عاشوا في زمان موسى عليه السلام، فهم من نفس تلك الشجرة ويتّصفون بنفس تلك الصفات والروحيّات دون أدنى اختلاف، ومن المعلوم أنّ خطاب موسى عليه السلام لهم كان لـمَلَكَة باطنيّة فيهم، وبالتالي فأينما وُجدت تلك الملكة الباطنيّة فإنّ عين ذلك الخطاب سيكون موجوداً أيضاً، حتّى لو كان ذلك بعد وقوع صورة الخطاب الأوّل بآلاف السنين.
يروي العيّاشي عن الإمام الباقر عليه السلام الحديث التالي:
عن أبي ‌جعفر عليه السّلام، إلى أن قال:
«لَو أنّ الآيَة إذا نَزَلَت في قَومٍ ثُمَّ ماتَ أولئك القَومُ ماتَتِ الآيَة لَما بَقِيَ مِنَ القُرآنِ شَيءٌ، ولَكِنَّ القُرآنَ يَجری أوَّلُهُ عَلَی آخِرِهِ مادامَتِ السَّماواتُ والأرضُ، ولِكُلِّ قَومٍ آيَة يَتلُونَها هُم مِنها مِن خَيرٍ أو شَرٍّ».[7]

    

لا يختصّ القرآن بطائفة دون أخرى

وحقّاً فإنّ المطلب الذي بيّنه ـ سلام اللـه عليه ـ مطلب عالٍ وراقٍ! فلو كان القرآن مختصّاً بالطائفة التي نزل فيها القرآن الكريم لكان بديهيّاً أن تموت تلك الآية أو السورة النازلة بمجرّد موت تلك الطائفة، وهكذا كلّما ماتت طائفة ماتت الآيات النازلة فيهم بالتدريج حتّى يموت القرآن كلّه بموت جميع الطوائف الذين نزل فيهم، ولكن حيث أنّ القرآن حيّ لم يمت، فإنّ أسباب نزول الآيات لا يمكن أبداً أن تكون مخصّصة لمعناها الكلّي ولا تجعل المورد مخصّصاً. ولهذا فإنّ طراوة القرآن لا تنقضي أبداً؛ فالقرآن حيّ نضر عطِر وخالد إلى الأبد؛ يأتي ويذهب آلاف الآلاف من الأفراد إلى هذه الدنيا، والقرآن يعطي كلاً منهم نصيبه وحصّته، ولكن حتّى لو ماتوا جميعاً فإنّ القرآن يبقى حيّاً خالداً.
وهنا لابدّ من الإشارة إلى أمرين:
الأوّل: أنّ ما نجده في العديد من التفاسير السُنِّية من حبس الآيات القرآنيّة في موارد محدودة يُعدّ خطأً كبيراً؛ والثاني: أنّ أولئك الأفراد الذين لا يتجاوزون ظاهر القرآن ويحبسون تلك الحقائق الراقية والمطالب القيّمة في إطار الألفاظ، ثمّ يفسّرونها بمعنى محدود وضيّق سيخسرون نصيبهم من لطائف القرآن وحقائقه، فألفاظ القرآن الكريم عامّة، وقد وُضعت هذه الألفاظ للمعاني الكلّية، وروح القرآن موجودة في هذه اللطائف الكلّية؛ ولهذا نجد أنّ الوهّابيين الذين يجمدون على الظاهر، وكذلك بعض أخباريّي الشيعة الذين يُصرّون على الجمود على ظاهر القرآن الكريم ولا يأذنون أبداً بالتجاوز عن الظاهر سيظلّون صفر اليدين من حقائق القرآن.
أمّا المطلب الأهم فهو أنّ: مجموعة من العلماء المعاصرين أرادوا أن يطبّقوا الآيات القرآنيّة على العلوم الماديّة الطبيعيّة كالفلك والطبّ والطبيعيّات وغيرها ظنّاً منهم أنّهم بذلك يقدّمون خدمةً جليلةً للقرآن، وذلك بأن يبيّنوا للناس أنّ علوم القرآن الكريم تقبل الانطباق على العلوم الحديثة وأنّ العلم لا ينسخ القرآن الكريم أبداً؛ ولكنّهم غفلوا أنّ خدمتهم المزعومة تقع في الاتجاه المعاكس تماماً وأنّها تسبّب ضياع القرآن الكريم لا حفظه؛ والسرّ في ذلك أنّ علوم القرآن الكريم ليست محدودة أبداً بعلم خاصّ من العلوم، فدائرتها أوسع من ذلك بكثير، ويتبيّن بناء على ذلك أولاً: أنّ محاولة تطبيق القرآن على علم خاصّ ـ بآلاف التمحّلات التي لا تجدي نفعاً ـ ليس إلاّ تحديداً لمعاني الآيات الكريمة؛ وقد ذكرنا أنّ معاني الآيات ليس محدوداً؛ وثانياً: إنّ العلوم الطبيعيّة عرضة للتغيّر في كلّ يوم، إذ نجد في كل يوم فرضيّة تُبطل الفرضيّة التي قبلها، ومن هنا ألم يتصوّر هؤلاء العلماء الذين حاولوا تطبيق القرآن على العلوم الطبيعية أن تأتي غداً فرضيّة جديدة تُبطل الفرضيّة الحاليّة التي استندوا عليها، فتبطل معها الآيات القرآنية التي يصرّون أنّها منطبقة على هذه الفرضيّة؟!

    

آيات القرآن عامّة تشمل جميع الأمور

على كلّ حال، فلنرجع إلى المطلب الأصليّ وهو عموم آيات القرآن الكريم وأنّ القرآن الكريم يشمل جميع الأشياء والأمور؛ فلو أنّ شخصاً يأتي إلى القرآن الكريم وينظر إليه من نافذة تلك المعاني الكلّية والتأويل فإنّ جميع المسائل ستنحلّ بالنسبة له.
رَووا عَن أمِيرِ المُؤمِنينَ عَلَيه السَّلامَ أنّه سُئِل: هَل عِندَكُم مِن رَسولِ اللـه صَلَّى اللـه عَلَيهِ وآلِهِ شَيءٌ مِنَ الوَحيِ سِوَى القُرآنِ؟ قالَ: «لا والّذي فَلَقَ الحَبَّة وبَرَءَ النَّسَمَة! إلاَّ أن يُعطِيَ عَبداً فَهماً في كِتابِه».[8]
يقول سلام اللـه عليه: إنّ فهم القرآن الكريم هو حلٌّ لجميع المشكلات ورافعٌ لتمام الجهالات وله حكم النور والوحي النازل عن طريق جبرئيل عليه السلام في سائر الموارد والأمور.
وقال أمير المؤمنين عليه السّلام: «مَن فَهِمَ القُرآنَ، فَسَّرَ جُمَلَ العِلمِ».[9] ومثل هذا الشخص الذي يفهم كتاب اللـه يعلم جيّداً أن دستوراته وتعاليمه خالدة أبديّة.
عَن النُّعماني في تَفسِيرِهِ بِإسنادِهِ عَن إسماعيلَ بنِ جابِرٍ، قالَ: سَمِعتُ أبا عَبدِ اللـه جَعفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ الصّادِقَ عَلَيهما السّلامُ يَقُولُ: «إنّ اللـه تَبارَكَ وتَعالى بَعَثَ مُحَمَّدًا فَخَتَمَ بِهِ الأنبياءَ فَلا نَبيَّ بَعدَهُ، وأنزَلَ عَلَيهِ كِتابًا فَخَتَمَ بِهِ الكُتُبَ فَلا كِتابَ بَعدَهُ، أحَلَّ فيهِ حَلالاً وحَرَّمَ حَرامًا، فَحَلالُهُ حَلالٌ إلى يَومِ القيامَة وحَرامُهُ حَرامٌ إلى يَومِ القيامَة، فيهِ شَرعُكُم وخَبَرُ مَن قَبلَكُم وبَعدَكُم، وَجَعَلَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللـه عَلَيه وآلِهِ وسَلَّم عِلمًا باقِيًا في أوصِيائِه».[10]
ومن الأدلّة الأخرى على عموميّة الكتاب الأمثلة المذكورة في القرآن الكريم؛ فرغم أنّها قد صيغت بشكل مثال إلاّ أنّها تحتوي على بيان لحقيقة كلّيّة، ولهذا نجد أنه تعالى يقول بعد ذكر الأمثال: {لعلّهم يتذّكرون}، {وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ في‏ هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[11]
ومن أجل زيادة التوضيح لمسألة عموميّة القرآن الكريم وكليّة آياته، نورد هذا الحديث الشريف والقيّم جدّاً المذكور في "علل الشرايع" والذي يتحدّث عن تقسيم الجنّة والنار، ويمكن استفادة أمور عديدة من هذا الحديث، من ضمنها مسألة عموميّة المطالب والآيات والأحكام الواردة في القرآن المجيد.

    

حديث شريف في عموميّة وكلّية آيات القرآن الكريم

في «علل الشرايع» بإسناده عَنِ المُفَضَّلِ بنِ عُمَرَ، قالَ:
قُلتُ لأبي عَبدِ اللـه عليه السّلام: بِما صارَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ عَلَيه السّلامُ قَسيمَ الجَنَّة والنّارِ؟ قالَ: «لأنّ حُبَّهُ إيمانٌ وبُغضَهُ كُفرٌ، وإنَّما خُلِقَتِ الجَنَّة لأهلِ الإيمانِ وخُلِقَتِ النّارُ لأهلِ الكُفرِ، فَهُوَ عَلَيه السّلامُ قَسيمُ الجَنَّة والنّارِ لِهَذِهِ العِلَّة؛ والجَنَّة لا يَدخُلُها إلاّ أهلُ مَحَبَّتِهِ، والنّارُ لا يَدخُلُها إلاّ أهلُ بُغضِهِ».
قال المُفَضَّلُ: يا بنَ رَسُولِ اللـه! فَالأنبياءُ وَالأوصياءُ هل كانُوا يُحِبُّونَهُ وأعداؤُهُم يُبغِضُونَهُ؟ فَقالَ: «نَعَم!» قُلتُ: فَكَيفَ ذَلِكَ؟ قالَ: «أما عَلِمتَ أنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللـهُ عَلَيه وآلِهِ قالَ يَومَ خَيبَرَ: لأعطينّ الرّايَة غَدًا رَجُلاً يُحِبُّ اللـهَ ورَسُولَهُ ويُحِبُّهُ اللـهُ ورَسولُهُ، ما يَرجِعُ حتى يَفتَحَ اللـهُ عَلَی يَدَهُ؟» قُلتُ: بَلى!
قالَ: «أما عَلِمتَ أنّ رَسُولَ اللـهِ صَلَّى اللـهُ عَلَيه وآلِهِ لَمّا أُتِيَ بِالطّائِرِ المَشوِيِّ قالَ: اللهُمَّ ائتِنِي بِأحَبِّ خَلقِكَ إلَيكَ يَأكُلُ مَعي [مِن] هَذا الطَّيرِ، وعَنَی بِهِ عَلِيًّا عليه السّلام؟» قُلتُ: بَلى!
قالَ: «يَجُوزُ أن لا يُحِبَّ أنبياءُ اللـهِ ورُسُلُهُ وأوصياؤُهُم عليهم السلام رَجُلاً يُحِبُّهُ اللـهُ ورَسولُهُ ويُحِبُّ اللـهَ ورَسُولَهُ؟!» فَقُلتُ: لا! قالَ: «فَهَل يَجُوزُ أن يَكُونَ المُؤمِنُونَ مِن أممهم لا يُحِبُّونَ حَبيبَ اللـه،ِ وحَبيبَ رَسُولِهِ صلّى اللـه عليه وآله وأنبيائِهِ؟» قُلتُ: لا!
قالَ: «فَقَد ثَبَتَ أنّ جَميعَ أنبياءِ اللـهِ ورُسُلِهِ [وجَميعَ المَلائِكَة] وجَميعَ المُؤمِنينَ كانُوا لِعَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ مُحِبِّينَ، وثَبَتَ أنّ [أعداءَهُم و] المُخالِفينَ لَهُم كانُوا لَه ولِجَميعِ أهلِ مَحَبَّتِه مُبغِضينَ».
قُلتُ: نَعَم! قالَ: «فَلا يَدخُلُ الجَنَّة إلاّ مَن أحَبَّهُ مِنَ الأوَّلينَ والآخِرينَ، [ولا يَدخُلُ النّارَ إلا مَن أبغَضَهُ مِنَ الأوَّلينَ والآخِرينَ] فَهُوَ إذَن قَسيمُ الجَنَّة والنّارِ».
قالَ المُفَضَّلُ بنُ عُمَرَ: فَقُلتُ لَهُ: يا بنَ رَسُولِ اللـهِ! فَرَّجتَ عَنِّي فَرَّجَ اللـهُ عَنكَ، فَزِدنِي مِمّا عَلَّمَكَ اللـهُ تعالى! فقالَ: «سَل يا مُفَضَّلُ!» فَقُلتُ: أسألُ يا بنَ رَسُولِ اللـهِ؛ فَعَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ يُدخِلُ مُحِبَّهُ الجَنَّة ومُبغِضَهُ النّارَ أو رِضوانُ ومالِكٌ؟
فَقالَ: «يا مُفَضَّلُ! أما عَلِمتَ أنّ اللـهَ تَبارَكَ وتَعالَی بَعَثَ رَسُولَه وهُوَ رُوحٌ إلَى الأنبياءِ وهُم أرواحٌ قَبلَ خَلقِ الخَلقِ بِألفَيْ عامٍ؟» قُلتُ: بَلَى! قالَ: «أما عَلِمتَ أنَّهُ دَعاهُم إلَى تَوحيدِ اللـه وطاعَتِهِ واتِّباعِ أمرِهِ ووَعَدَهُمُ الجَنَّة عَلَى ذَلِكَ وأوعَدَ مَن خالَفَ ما أجابُوا إلَيهِ وأنكَرَهُ النّارَ؟» فقُلتُ: بَلَى! قالَ: «أوَ لَيسَ النَّبِيُّ صلى اللـه عليه وآله ضامِنًا لِما وَعَدَ وأوعَدَ عَن رَبِّهِ عَزّ وجَلَّ؟» قُلتُ: بَلَى! قالَ: «أوَ لَيسَ عَلِيُّ بنُ أبي طالبٍ عليه السّلام خَليفَتَهُ وإمامَ أمّته؟» قُلتُ: بَلَى! قالَ: «أوَ لَيسَ رِضوانُ ومالِكٌ مِن جُملَة المَلائِكَة والمُستَغفِرينَ لِشيعَتِهِ النّاجينَ بِمَحَبَّتِهِ؟» قُلتُ: بَلَى! قالَ: «فَعَلِيُّ بنُ أبي طالبٍ إذًا قَسيمُ الجَنَّة والنّارِ عَن رَسُولِ اللـه صلّى اللـه عليه وآله، ورِضوانُ ومالِكٌ صادِرانِ عَن أمرِه‏ بِأمْرِ اللـه تَبارَكَ وتَعالَى. يا مُفَضَّلُ، خُذْ هَذا! فَإنَّهُ مِن مَخزونِ العِلمِ ومَكنُونِهِ، لا تُخرِجهُ إلاّ إلَى أهلِهِ».[12]
فإذا دقّقنا في كيفية استدلال الإمام عليه السلام في هذا الحديث الشريف على عموميّة تقسيم أمير المؤمنين عليه السلام للجنّة والنار بين المحبّ والمبغض، وكيفيّة شمول ذلك حتّى للأنبياء السابقين وأممهم وأعدائهم، فإنّ مسألة عموميّة آيات القرآن وشمول آياته سيتضّح بشكل جيّد. بناء على ذلك، ينبغي على كلّ مسلم ـ لكي يطّلع على حقيقة القرآن الكريم ـ أن يصل بنفسه إلى مرحلة إدراك الكلّيات، وأن يكتسب القدرة على التوصّل إلى تأويل القرآن الكريم من خلال تهذيب الأخلاق وتطهير النفس، وألاّ يكون كأولئك الظلمة الذين يدّعون انطباق آيات القرآن على أنفسهم، فيحرّفون بذلك كتاب اللـه تحريفاً معنويّاً.
جاء في "الكافي" ج 2، ص 600، رواية عن أبي جعفر عليه السلام، قال:
«قالَ رَسولُ اللـهِ صَلَّى اللـهُ عَلَيه وآلِهِ: أنا أوَّلُ وافِدٍ عَلَى العَزيزِ الجَبّارِ يَومَ القيامَة وكِتابُهُ وأهلُ بَيتي ثُمَّ أُمتي، ثُمَّ أسألُهُم ما فَعَلتُم بِكِتابِ اللـهِ وبِأهلِ بَيتِي؟!»[13]


[1] ـ الآية 6 من سورة النمل.

[2] ـ الآيتان 30 و31 من سورة الروم

[3] ـ المطلع إمّا بتشديد الطّاء وفتح اللاّم: مكان الاطّلاع من موضعٍ عالٍ، وامّا بوزن مَصعد بفتح الميم ومعناه حينئذ هو معنى مَصعد أي يصعد إليه من معرفة علمه؛ ومحصّل معناه قريب من المعنى الأوّل وهو معنى التأويل والبطن، كما أنّ معنى الحدّ قريب من معنى الظاهر والتنزيل.

[4] ـ قسم من الآية 7 من سورة آل عمران.

[5] ـ تفسير الصافي، ج 1، ص 29، نقلاً عن تفسير العياشي، ج 1، ص 11.

[6] ـ الآية 50 من سورة البقرة

[7] ـ تفسير الصافي، ج 1، ص 24، نقلاً عن تفسير العيّاشي، ج 1، ص 10. [والعبارة الأخيرة من الرواية تعني أنّ هؤلاء القوم الذين يتلون الآية هم مصداق آخر لتلك الآية ومفادها، فهم إمّا مصاديق خير وصلاح كالأفراد الصالحين الذين كانوا مورداً لنزول الآية في زمان رسول اللـه صلّى اللـه عليه وآله وسلّم؛ أو مصاديق سوء وشرّ كأولئك الأفراد الأشرار الذين نزلت بحقّهم الآية بدون أيّ تفاوت]

[8] ـ تفسير الصافي، ج 1، ص 31.

[9] ـ تفسير الصافي، ج 1، ص 36

[10] ـ تفسير الصافي، ج 1، ص 38.

[11] ـ الآية 27 من سورة الزمر.

[12] ـ تفسير الصافي، ج 1، ص 26 إلى 28، نقلاً عن "علل الشرايع"، ج 1، ص 162.

[13] ـ الكافي، ج 2، ص 600.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی